وآخرون ٢السفاح أول خلفاء بني العباسالسفاح أول خلفاء بني العباس أبو العباس عبد اللّه بن محمد بن علي ابن عبد اللّه بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم. ولد سنة ثمان ومائة وقيل: سنة أربع بالحميمة من ناحية البلقاء ونشأ بها وبويع بالكوفة وأمه ريطة الحارثية. حدث عن أخيه إبراهيم بن محمد الإمام وروى عنه عمه عيسى بن علي وكان أصغر من أخيه المنصور. أخرج أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري " أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن يقال له السفاح فيكون إعطاؤه المال حثياً " . وقال عبيد اللّه العيشي قال أبي: سمعت الأشياخ يقولون: واللّه لقد أفضت الخلافة إلى بني العباس وما في الأرض أحد أكثر قارئاً للقرآن ولا أفضل عابداً ولا ناسكاً منهم. قال ابن جرير الطبري: كان بدء أمر بني العباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعلم العباس عمه أن الخلافة تؤول إلى ولده فلم يزل ولده يتوقعون ذلك. وعن رشدين بن كريب أن أبا هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية خرج إلى الشام فلقي محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس فقال يا ابن عم إن عندي علماً أريد أن أنبذه إليك فلا تطلعن عليه أحداً إن هذا الأمر الذي ترتجيه الناس فيكم قال: قد علمته فلا يسمعنه منك أحد. وروى المدائني عن جماعة أن الإمام محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس قال لنا ثلاثة أوقات: موت يزيد بن معاوية ورأس المائة وفتق بإفريقية فعند ذلك تدعو لنا دعاة ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية ونقضت البربر بعث محمد الإمام رجلا إلى خراسان وأمره أن يدعو إلى الرضى من آل محمد صلى اللّه عليه وسلم ولا يسمى أحداً ثم وجه أبا مسلم الخراساني وغيره وكتب إلى النقباء فقبلوا كتبه ثم لم ينشب أن مات محمد فعهد إلى أبنه إبراهيم فبلغ خبره مروان فسجنه ثم قتله فعهد إلى أخيه عبد اللّه وهو السفاح فاجتمع إليه شيعتهم وبويع بالخلافة بالكوفة في ثالث ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة وصلى بالناس الجمعة وقال في الخطبة الحمد للّه الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا وأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به والذابين عنه ثم ذكر قرابتهم في آيات القرآن إلى أن قال فلما قبض اللّه نبيه قام بالأمر أصحابه إلى أن وثب بنو حرب ومروان فجاروا واستأثروا فأملى اللّه لهم حيناً حتى آسفوه فانتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض وختم بنا كما افتتح بنا وما توفيقنا أهل البيت إلا باللّه يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا لم تفتروا عن ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا وقد زدت في أعطياتكم مائة مائة فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والتأثر المبير. وكان عيسى بن علي إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة يقول: إن أربعة عشر رجلا خرجوا من دارهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم شديدة قلوبهم. ولما بلغ مروان مبايعة السفاح خرج لقتاله فانكسر كما تقدم ثم قتل وقتل في مبايعة السفاح من بني أمية وجندهم ما لا يحصى من الخلائق وتوطدت له الممالك إلى أقصى المغرب. قال الذهبي بدولته تفرقت الجماعة وخرج عن الطاعة ما بين تاهرت وطبنة إلى بلاد السودان وجميع مملكة الأندلس وخرج بهذه البلاد من تغلب عليها واستمر ذلك. مات السفاح بالجدري في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة وكان قد عهد إلى أخيه أبي جعفر وكان في سنة أربع وثلاثين قد انتقل إلا الأنبار وصيرها دار الخلافة. ومن أخبار السفاح قال الصولي: من كلامه إذا عظمت القدرة قلت الشهوة وقل تبرع إلا معه حق مضاع و قال: إن من أدنياء الناس ووضعائهم من عد البخل حزماً والحلم ذلا وقال إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة والصبر حسن إلا على ما أوقع الدين وأوهن السلطان والأناة محمودة إلا عند إمكان الفرصة. قال الصولي: وكان السفاح أسخى الناس ما وعد عدة فأخرها عن وقتها ولا قام من مجلسه حتى يقضيه وقال له عبد اللّه بن حسن مرة سمعت بألف ألف درهم وما رأيتها قط فأمر بها فأحضرت وأمر بحملها معه إلى منزله. قال: وكان نقش خاتمه اللّه ثقة عبد اللّه وبه يؤمن وقل ما يروى له من الشعر. وقال سعيد بن مسلم الباهلي: دخل عبد اللّه بن حسن على السفاح مرة والمجلس غاص ببني هاشم والشيعة ووجوه الناس ومعه مصحف فقال يا أمير المؤمنين أعطنا حقنا الذي جعله اللّه لنا في هذا المصحف قال له إن علياً جدك كان خيراً مني وأعدل ولي هذا الأمر أفأعطي جديك الحسن والحسين وكانا خيراً منك شيئاً وكان الواجب أن أعطيك مثله فإن كنت فعلت فقد أنصفتك وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك فانصرف ولم يحر جواباً وعجب الناس من جواب السفاح. قال المؤرخون: في دولة بني العباس افترقت كلمة الإسلام وسقط اسم العرب من الديوان وأدخل الأتراك في الديوان واستولت الديلم ثم الأتراك وصارت لهم دولة عظيمة وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام وصار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف ويملكهم بالقهر. وكان السفاح سريعاً إلى سفك الدماء فأتبعه في ذلك عماله بالمشرق والمغرب وكان مع ذلك جواداً بالمال. مات في أيامه من الأعلام: زيد بن أسلم وعبد اللّه بن أبي بكر بن حزم وربيعة الرأي فقيه أهل المدينة وعبد الملك بن عمير ويحيى بن أبي إسحاق الحضرمي وعبد الحميد الكاتب المشهور قتل بيوصير مع مروان ومنصور ابن المعتمر وهمام بن منبه. المنصور أبو جعفر عبد اللّهالمنصور أبو جعفر عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس وأمه سلامة البربرية أم ولد ولد سنة خمس وتسعين وأدرك جده ولم يرو عنه وروى عن أبيه وعن عطاء بن يسار وعنه ولده المهدي وبويع بالخلافة بعهد من أخيه وكان فحل بني العباس هيبة وشجاعة وحزماً ورأياً وجبروتاً جماعاً للمال تاركاً اللّهو واللعب كامل العقل جيد المشاركة في العلم والأدب فقيه النفس قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه وهو الذي ضرب أبا حنيفة رحمه اللّه على القضاء ثم سجنه فمات بعد أيام وقيل إنه قتله بالسم لكونه أفتى بالخروج عليه وكان فصيحاً بليغاً مفوهاً خليقاً للإمارة وكان غاية في الحرص والبخل فلقب أبا الدوانيق لمحاسبته العمال والصناع على الدوانيق والحبات. أخرج الخطيب عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال منا السفاح ومنا المنصور ومنا المهدي. قال الذهبي: منكر منقطع. وأخرج الخطيب وابن عساكر وغيرهما من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: منا السفاح ومنا المنصور ومنا المهدي. قال الذهبي: إسناده صالح. وأخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن محمد بن جابر عن الأعمش عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنهم قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول منا القائم ومنا المنصور ومنا السفاح ومنا المهدي فأما القائم فتأتيه الخلافة ولم يهرق فيها محجمة من دم وأما المنصور فلا ترد له راية وأما السفاح فهو يسفح المال والدم وأما المهدي فيملؤها عدلا كما ملئت ظلماً. وعن المنصور قال رأيت كأني في الحرم وكأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الكعبة وبابها مفتوح فنادى مناد أين عبد اللّه فقام أخي أبو العباس حتى صار على الدرجة فأدخل فما لبث أن خرج ومعه قناة عليها لواء أسود قدر أربعة أذرع ثم نودي أين عبد اللّه فقمت على الدرجة فأصعدت وإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر وبلال فعقد لي وأوصاني بأمته وعمني بعمامة فكان كورها ثلاثة وعشرين وقال خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة. تولى المنصور الخلافة في أول سنة سبع وثلاثين ومائة فأول ما فعل أن قتل أبا مسلم الخراساني صاحب دعوتهم وممهد مملكتهم. وفي سنة ثمان وثلاثين ومائة كان دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك بن مروان الأموي إلى الأندلس واستولى عليها وامتدت أيامه وبقيت الأندلس في يد أولاده إلى بعد الأربعمائة وكان عبد الرحمن هذا من أهل العلم والعدل وأمه بربرية. قال أبو المظفر الأبيوردي: فكانوا يقولون: ملك الدنيا ابنا بربريتين: المنصور وعبد الرحمن بن معاوية. وفي سنة أربعين شرع في بناء مدينة بغداد. وفي سنة إحدى وأربعين كان ظهور الراوندية القائلين بالتناسخ قتلهم المنصور وفيها فتحت طبرستان. قال الذهبي في سنة ثلاث وأربعين شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريج بمكة ومالك الموطأ بالمدينة والأوزاعي بالشام وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة ومعمر باليمن وسفيان الثوري بالكوفة وصنف ابن إسحاق المغازي وصنف أبو حنيفة رحمه اللّه الفقه والرأي ثم بعد يسير صنف هشيم والليث وابن لهيعة ثم ابن المبارك وأبو يوسف وابن وهب وكثر تدوين العلم وتبويبه ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة. وفي سنة خمس وأربعين كان خروج الأخوين محمد وإبراهيم ابني عبد اللّه ابن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فظفر بهما المنصور فقتلهما وجماعة كثيرة من آل البيت فإنا للّه وإنا إليه راجعون. وكان المنصور أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين وكانوا قبل شيئاً واحداً وآذى المنصور خلقاً من العلماء ممن خرج معهما أو أمر بالخروج قتلا وضرباً وغير ذلك منهم أبو حنيفة وعبد الحميد بن جعفر وابن عجلان وممن أفتى بجواز الخروج مع محمد على المنصور مالك بن أنس رحمه اللّه وقيل له: إن في أعناقنا بيعة للمنصور ف قال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين. وفي سنة ست وأربعين كانت غزوة قبرس. وفي سنة سبع وأربعين خلع المنصور عمه عيسى بن موسى من ولاية العهد وكان السفاح عهد إليه من بعد المنصور وكان عيسى هو الذي حارب له الأخوين فظفر بهما فكافأه بأن خلعه مكرهاً وعهد إلى ولده المهدي. وفي سنة ثمان وأربعين توطدت الممالك كلها للمنصور وعظمت هيبته في النفوس ودانت له الأمصار ولم يبق خارجاً عنه سوى جزيرة الأندلس فقط فإنها غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية الأموي المرواني لكنه لم يتلقب بأمير المؤمنين بل بالأمير فقط وكذلك بنوه. وفي سنة تسع وأربعين فرغ من بناء بغداد. وفي سنة خمسين خرجت الجيوش الخراسانية عن الطاعة مع الأمير أستاذ سيس واستولى على أكثر مدن خراسان وعظم الخطب واستفحل الشر واشتد على المنصور الأمر وبلغ ضريبة الجيش الخراساني ثلاثمائة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل فعمل معهم أجشم المروزي مصافاً فقتل أجشم واستبيح عسكره فتجهز لحربهم خازم بن خزيمة في جيش عرمرم يسد الفضاء فالتقى الجمعان وصبر الفريقان وكانت وقعة مشهورة ي قال: قتل فيها سبعون ألفاً وانهزم أستاذ سيس فالتجأ إلى جبل وأمر الأمير خازم في العام الآتي بالأسرى فضربت أعناقهم وكانوا أربعة عشر ألفاً ثم حاصروا أستاذ سيس مدة ثم سلم نفسه فقيدوه وأطلقوا أجناده وكان عددهم ثلاثين ألفاً انتهى. وفي سنة إحدى وخمسين بني الرصافة وشيدها. وفي سنة ثلاث وخمسين ألزم المنصور رعيته بلبس القلانس الطوال فكانوا يعلمونها بالقصب والورق ويلبسونها السواد فقال أبو دلامة: وكنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس وفي سنة ثمان وخمسين أمر المنصور نائب مكة بحبس سفيان الثوري وعباد بن كثير فحبسا وتخوف الناس أن يقتلهما المنصور إذا ورد الحج فلم يوصله اللّه مكة سالماً بل قدم مريضاً ومات وكفاهما اللّه شره وكانت وفاته بالبطن في ذي الحجة ودفن بين الحجون وبين بئر ميمون وقال سلم الخاسر: قفل الحجيج وخلفوا ابن محمد ... رهناً بمكة في الضريح الملحد شهدوا المناسك كلها وإمامهم ... تحت الصفائح محرماً لم يشهد ومن أخبار المنصور أخرج ابن عساكر بسنده أن أبا جعفر المنصور كان يرحل في طلب العلم قبل الخلافة فبينما هو يدخل منزلا من المنازل قبض عليه صاحب الرصد ف قال: زن درهمين قبل أن تدخل قال: خل عني فإني رجل من بني هاشم قال: زن درهمين ف قال: خل عني فإني من بني عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: زن درهمين قال: خل عني فإني رجل قارئ لكتاب اللّه قال: زن درهمين قال: خل عني فإني رجل عالم بالفقه والفرائض قال: زن درهمين فلما أعياه أمره وزن الدرهمين فرجع ولزم جمع المال والتدنق فيه حتى لقب بأبي الدوانيق. وأخرج عن الربيع بن يونس الحاجب قال: سمعت المنصور يقول الخلفاء أربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والملوك أربعة: معاوية وعبد الملك وهشام وأنا. وأخرج عن مالك بن أنس قال: دخلت على أبي جعفر المنصور فقال من أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قلت: أبو بكر وعمر قال: أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين. وأخرج عن إسماعيل الفهري قال: سمعت المنصور في يوم عرفة على منبر عرفة يقول في خطبته: أيها الناس إنما أنا سلطان اللّه في أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه وقد جعلني اللّه عليه قفلا إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني فارغبوا إلى اللّه أيها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم في كتابه إذ يقول: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " " المائدة: 3 " أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم ويفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل فإنه سميع مجيب. و أخرجه الصولي وزاد في أوله أن سبب هذه الخطبة أن الناس بخلوه وزاد في آخره: فقال بعض الناس أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه. وأخرج عن الأصمعي وغيره أن المنصور صعد المنبر ف قال: الحمد للّه أحمده واستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له فقام إليه رجل ف قال: يا أمير المؤمنين أذكر من أنت في ذكره ف قال: مرحباً مرحباً لقد ذكرت جليلا وخوفت عظيماً وأعوذ باللّه أن أكون ممن إذا قيل له اتق اللّه أخذته العزة بالإثم والموعظة منا بدت ومن عندنا خرجت وأنت يا قائلها فأحلف باللّه ما اللّه أردت بها وإنما أردت أن ي قال: قام فقال فعوقب فصبر فاهون بها من قائلها واهتبلها من اللّه ويلك إني قد غفرتها وإياكم معشر الناس وأمثالها وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فعاد إلى خطبته فكأنما يقرؤها من قرطاس. وأخرج من طرق أن المنصور قال لابنه المهدي: يا أبا عبد اللّه الخليفة لا يصلحه إلا التقوى والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة والرعية لا يصلحها إلا العدل وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. و قال: لا تبر من أمراً حتى تفكر فيه فإن فكرة العاقل مرآته تريه قبيحه وحسنه. و قال: أي بني استدم النعمة بالشكر والمقدرة بالعفو والطاعة بالتألف والنصر بالتواضع والرحمة للناس. وأخرج عن مبارك بن فضالة قال: كنا عند المنصور فدعا برجل ودعا بالسيف فقال المبارك يا أمير المؤمنين سمعت الحسن يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان يوم القيامة قام مناد من عند اللّه ينادي ليقم الذين أجرهم على اللّه فلا يقوم إلا من عفا فقال المنصور خلوا سبيله. وأخرج عن الأصمعي قال: أتى المنصور برجل يعاقبه فقال يا أمير المؤمنين الانتقام عدل والتجاوز فضل ونحن نعيذ أمير المؤمنين باللّه أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين فعفا عنه. وأخرج عن الأصمعي قال: لقى المنصور أعرابياً بالشام ف قال: أحمد اللّه يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت قال: إن اللّه لا يجمع علينا حشفاً وسوء كيل ولايتكم والطاعون. وأخرج عن محمد بن منصور البغدادي قال: قام بعض الزهاد بين يدي المنصور فقال إن اللّه أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده فأفحم المنصور وأمر له بمال فقال لو احتجت إلى مالك ما وعظتك. وأخرج عن عبد السلام بن حرب أن المنصور بعث إلى عمرو بن عبيد فجاءه فأمر له بمال فأبى أن يقبله فقال المنصور: واللّه لتقبلنه ف قال: واللّه لا أقبله فقال له المهدي: قد حلف أمير المؤمنين فقال أمير المؤمنين أقوى على كفارة اليمين من عمك فقال له المنصور: سل حاجتك؟ قال: أسألك أن لا تدعوني حتى آتيك ولا تعطيني حتى أسألك ف قال: علمت أني جعلت هذا ولي عهدي ف قال: يأتيه الأمر يوم يأتيه وأنت مشغول. وأخرج عن عبد اللّه بن صالح قال: كتب المنصور إلى سوار بن عبد اللّه قاضي البصرة انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر فادفعها إلى القائد فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر فلست أخرجها من يده إلا ببينة فكتب إليه المنصور: واللّه الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد فكتب إليه سوار واللّه الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق فلما جاءه الكتاب قال ملأتها واللّه عدلا وصار قضاتي تردني إلى الحق. وأخرج من وجه آخر أن المنصور وشيء إليه بسوار فاستقدمه فعطس المنصور فلم يشمته سوار فقال ما يمنعك من التشميت؟ قال: لأنك لم تحمد اللّه ف قال: قد حمدت اللّه في نفسي قال شمتك في نفسي قال: ارجع إلى عملك فإنك إذ لم تحابيني لم تحاب غيري. وأخرج عن نمير المدني قال: قدم المنصور المدينة ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه وأنا كاتبه فاستعدى الجمالون على المنصور في شيء فأمرني أن أكتب إليه بالحضور وإنصافهم فاستعفيت فلم يعفني فكتبت الكتاب ثم ختمته وقال واللّه لا يمضي به غيرك فمضيت به إلى الربيع فدخل عليه ثم خرج فقال للناس: إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد دعيت إلى مجلس الحكم فلا يقومن معي أحد ثم جاء هو والربيع فلم يقم له القاضي بل حل رداءه واحتبى به ثم دعا بالخصوم فادعوا فقضى لهم على الخليفة فلما فرغ قال له المنصور جزاك اللّه عن دينك أحسن الجزاء قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار. وأخرج عن محمد بن حفص العجلي قال: ولد لأبي دلامة ابنة فغدا على المنصور فأخبره وأنشد: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قول لقيل اقعدوا يا آل عباس ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس ثم أخرج أبو دلامة خريطة فقال المنصور ما هذه قال: اجعل فيها ما تأمر لي به فقال أملؤها له دراهم فوسعت ألفي درهم. وأخرج عن محمد بن سلام الجمحي قال: قيل للمنصور: هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله قال: بقيت خصلة أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث يقول المستملي من ذكرت رحمك اللّه قال فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر فقال لستم بهم إنما هم الدنسة ثيابهم المشققة أرجلهم الطويلة شعورهم برد الآفاق ونقله الحديث. وأخرج عن عبد الصمد بن علي أنه قال للمنصور: لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو قال لأن بني مروان لم تبل رممهم وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ونحن بين قوم قد رأونا أمس سوقة واليوم خلفاء فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة. وأخرج عن يونس بن حبيب قال: كتب زياد بن عبد اللّه الحارثي إلى المنصور يسأله الزيادة في عطائه وأرزاقه وأبلغ في كتابه فوقع المنصور في القصة إن الغني والبلاغة إذا اجتمعنا في رجل أبطرتاه وأمير المؤمنين يشفق عليك من ذلك فاكتف بالبلاغة. وأخرج عن محمد بن سلام قال: رأت جارية المنصور قميصه مرقوعاً فقالت: خليفة وقميصه مرقوع فقال ويحك أما سمعت قول ابن هرمة: قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع وقال العسكري في الأوائل: كان المنصور في ولد العباس كعبد الملك في بني أمية في بخله رأى بعضهم عليه قميصاً مرقوعاً ف قال: سبحان من ابتلى أبا جعفر بالفقر في ملكه وحدا به سلم الحادي فطرب حتى كاد يسقط من الراحلة فأجازه بنصف درهم فقال لقد حدوت بهشام فأجازني بعشرة آلاف فقال ما كان له أن يعطيك ذلك من بيت المال يا ربيع وكل به من يقبضها منه فما زالوا به حتى تركه على أن يحدو به ذهاباً وإياباً بغير شيء. وفي كتاب الأوائل للعسكري: كان ابن هرمة شديد الرغبة في الخمر فدخل على المنصور فأنشده: له لحظات من خفا في سريرة ... إذا كرها فيها عقاب ونائل فأم الذي أمنت آمنة الردى ... وأم الذي حاولت بالثكل ثاكل فأعجب به المنصور وقال ما حاجتك؟ قال: تكتب إلى عاملك بالمدينة أن لا يحدني إذا وجدني سكران ف قال: لا أعطل حداً من حدود اللّه قال: تحتال لي فكتب إلى عامله من أتاك بابن هرمة سكران فأجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين. فكان العون إذا مر به وهو سكران يقول: من يشتري مائة بثمانين؟ ويتركه ويمضي. قال: وأعطاه المنصور في هذه المرة عشرة آلاف درهم وقال له: يا إبراهيم احتفظ بها فليس لك عندنا مثلها ف قال: إني ألقاك على الصراط بها بختمة الجهبذ. ومن شعر المنصور وشعره قليل: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا ولا تمهل الأعداء يوماً بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا وقال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي: كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور قبل الخلافة فأدخلني منزله فقدم إلي طعاماً لا لحم فيه ثم قال: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا قال: ولا التمر؟ قالت لا فاستلقى وقرأ " عسى ربكم أن يهلك عدوكم " الآية فلما ولي الخلافة وفدت إليه ف قال: كيف سلطاني من سلطان بني أمية؟ قلت: ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئاً إلا رأيته في سلطانك فقال إنا لا نجد الأعوان قلت: قال عمر بن عبد العزيز: إن السلطان بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها فإن كان براً أتوه ببرهم وإن كان فاجراً أتوه بفجورهم فأطرق. ومن كلام المنصور: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة خلال: إفشاء السر والتعرض للحرم والقدح في الملك أسنده الصولي. و قال: إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك وإلا فقبلها أسنده أيضاً. وأخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال: مما يؤثر من ذكاء المنصور أنه دخل المدينة فقال للربيع: أطلب لي رجلا يعرفني دور الناس فجاءه رجل فجعل يعرفه الدور إلا أنه لا يبتدئ به حتى يسأله المنصور فلما فارقه أمر له بألف درهم فطالب الرجل الربيع بها ف قال: ما قال لي شيئاً وسيركب فذكره فركب مرة أخرى فجعل يعرفه ولا يرى موضعاً للكلام فلما أراد أن يفارقه قال الرجل مبتدئاً وهذه يا أمير المؤمنين دار عاتكة التي يقول فيها الأخوص: يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى بك الفؤاد موكل فأنكر المنصور ابتداءه فأمر القصيدة على قلبه فإذا فيها: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل فضحك وقال ويلك يا ربيع أعطه ألف درهم. وأسند الصولي عن إسحاق الموصلي قال: لم يكن المنصور يظهر لندمائه بشرب ولا غناء بل يجلس وبينه وبين الندماء ستارة وبينهم وبينها عشرون ذراعاً وبينهما وبينه كذلك وأول من ظهر للندماء من خلفاء بني العباس المهدي. وأخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال: قال المنصور لقثم بن العباس ابن عبد اللّه بن العباس وكان عامله على اليمامة والبحرين: ما القثم؟ ومن أي شيء أخذ فقال لا أدري فقال اسمك اسم هاشمي لا تعرفه أنت واللّه جاهل قال: فإن رأي أمير المؤمنين أن يفيدنيه قال: القثم الذي ينزل بعد الأكل ويقثم الأشياء: يأخذها ويثلمها. روي أن المنصور ألح عليه ذباب فطلب مقاتل بن سليمان فسأله لم خلق اللّه الذباب قال ليذل به الجبارين. وقال محمد بن علي الخراساني: المنصور أول خليفة قرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم وأول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية بالعربية ككتاب كليلة ودمنة وإقليدس وهو أول من استعمل مواليه على الأعمال وقدمهم على العرب وكثر ذلك بعده حتى زالت رئاسة العرب وقيادتها وهو أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد علي وكان قبل ذلك أمرهم واحداً. أحاديث من رواية المنصور: قال الصولي: كان المنصور أعلم الناس بالحديث والأنساب مشهوراً بطلبه قال ابن عساكر في تاريخ دمشق حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي حدثنا أبو محمد الجوهري حدثنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن الشخير حدثنا أحمد بن إسحاق أبو بكر الملحمي حدثنا أبو عقيل أنس بن سلم الأنطرطوشي حدثني محمد بن إبراهيم السلمي عن المأمون عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم " كان يتختم في يمينه " وقال الصولي: حدثنا محمد بن زكريا اللؤلؤي حدثنا جهم بن السباق الرياحي حدثني بشر بن المفضل سمعت الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول سمعت المنصور يقول حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تأخر عنها هلك " وقال الصولي: حدثنا محمد بن موسى حدثنا سليمان بن أبي شيخ حدثنا أبو سفيان الحميري سمعت المهدي يقول حدثني أبي عن أبيه عن علي بن عبد اللّه بن عباس عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " إذا أمرنا أميراً وفرضنا له فرضاً فما أصاب من شيء فهو غلول " وقال الصولي: حدثنا جبلة بن محمد حدثنا أبي عن يحيى بن حمزة الحضرمي عن أبيه قال ولأني المهدي القضاء ف قال: اصلب في الحكم فإن أبي حدثني عن أبيه عن علي بن عبد اللّه بن عباس عن أبيه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " يقول اللّه وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً يقدر أن ينصره فلم يفعل " وقال الصولي: حدثنا محمد بن العباس ابن الفرج حدثني أبي عن الأصمعي حدثني جعفر بن سليمان عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال " كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي " وقال الصولي: حدثنا أبو إسحاق محمد بن هارون بن عيسى حدثنا الحسن بن عبيد اللّه الحصبي حدثنا إبراهيم ابن سعيد حدثني المأمون عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: لا تسافروا في محاق الشهر ولا إذا كان القمر في العقرب. مات في أيام المنصور من الأعلام: ابن المقفع وسهيل بن أبي صالح والعلاء ابن عبد الرحمن وخالد بن يزيد المصري الفقيه وداود بن أبي هند وأبو حازم سلمة بن دينار الأعرج وعطاء بن أبي مسلم الخراساني ويونس بن عبيد وسليمان الأحول وموسى بن عقبة صاحب المغازي وعمرو بن عبيد المعتزلي ويحيى بن سعيد الأنصاري والكلبي وأبو إسحاق وجعفر بن محمد الصادق والأعمش شبل بن عباد مقرئ مكة ومحمد بن عجلان المعدني الفقيه ومحمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى وابن جريج وأبو حنيفة وحجاج بن أرطأة وحماد الراوية ورؤبة الشاعر والجريري وسليمان التميمي وعاصم الأحول وابن شبرمة الضبي ومقاتل بن حبان ومقاتل بن سليمان وهاشم بن عروة وأبو عمرو بن العلاء وأشعب الطماع وحمزة بن حبيب الزيات والأوزاعي وخلائق آخرون. المهدي أبو عبد اللّه محمد بن المنصورالمهدي: أبو عبد اللّه محمد بن المنصور ولد بأيذج سنة سبع وعشرين ومائة وقيل: سنة ست وعشرين وأمه أم موسى بنت منصور الحميرية. وكان جواداً ممدحاً مليح الشكل محبباً إلى الرعية حسن الاعتقاد تتبع الزنادقة وأفنى منهم خلقاً كثيراً وهو أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة والملحدين روي الحديث عن أبيه وعن مبارك بن فضالة حدث عنه يحيى بن حمزة وجعفر بن سليمان الضبعي ومحمد بن عبد اللّه الرقاشي وأبو سفيان سعيد بن يحيى الحميري قال الذهبي وما علمت قيل فيه جرحاً ولا تعديلا. وأخرج ابن عدي من حديث عثمان مرفوعاً " المهدي من ولد العباس عمي " تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم وكان يضع الحديث وأورد الذهبي هنا حديث ابن مسعود مرفوعاً " المهدي بواطئ أسمه واسمي واسم أبيه اسم أبي " أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. ولما شب المهدي أمره أبوه على طبرستان وما والاها وتأدب وجالس العلماء وتميز ثم إن أباه عهد إليه فلما مات بويع بالخلافة ووصل الخبر إليه ببغداد فخطب الناس ف قال: إن أمير المؤمنين عبد دعي فأجاب وأمر فأطاع واغرورقت عيناه فقال قد بكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند فراق الأحبة ولقد فارقت عظيماً وقلدت جسيماً فعند اللّه أحتسب أمير المؤمنين وبه أستعين على خلافة المسلمين أيها الناس أسروا مثل ما تعلنون من طاعتنا نهبكم العافية وتحمدوا العاقبة واخفضوا جناح الطاعة لمن نشر معدلته فيكم وطوى الإصر عنكم وأهال عليكم السلامة من حيث رآه اللّه مقدما ذلك واللّه لأفننين عمري بين عقوبتكم والإحسان إليكم. قال نفطويه: لما حصلت الخزائن في يد المهدي أخذ في رد المظالم فأخرج أكثر الذخائر ففرقها وبر أهله ومواليه. وقال غيره: أول من هنأ المهدي بالخلافة وعزاه بأبيه أبو دلامة ف قال: عيناي واحدة ترى مسرورة ... بأميرها جذلى وأخرى تذرف تبكي وتضحك تارة ويسوؤها ... ما أنكرت ويسرها ما تعرف فيسوءها موت الخليفة محرماً ... ويسرها أن قام هذا الأرأف ما إن رأيت كما رأيت ولا أرى ... شعراً أسرحه وآخر ينتف هلك الخليفة يا لدين محمد ... وأتاكم من بعد من يخلف أهدى لهذا اللّه فضل خلافة ... ولذاك جنات النعيم تزخرف وفي سنة تسع وخمسين بايع المهدي بولاية العهد لموسى الهادي ثم من بعده لهارون الرشيد ولديه. وفي سنة ستين فتحت أربد من الهند عنوة وفيها حج المهدي فأنهى إليه حجبة الكعبة أنهم يخافون هدمها لكثرة ما عليها من الأستار فأمر بها فجردت واقتصر على كسوة المهدي وحمل إلى المهدي الثلج إلى مكة قال الذهبي لم يتهيأ ذلك لملك قط. وفي سنة إحدى وستين أمر المهدي بعمارة طريق مكة وبنى بها قصوراً وعمل البرك وأمر بترك المقاصير التي في جوامع الإسلام وقصر المنابر وصيرها على مقدار منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وفي سنة ثلاث وستين وما بعدها كثرت الفتوح بالروم. وفي سنة ست وستين تحول المهدي إلى قصره المسمى بعيساباذ وأمر فأقيم له البريد من المدينة النبوية ومن اليمن ومكة إلى الحضرة بغالا وإبلا قال الذهبي: وهو أول من عمل البريد من الحجاز إلى العراق. وفيها وفيما بعدها جد المهدي في تتبع الزنادقة وإبادتهم والبحث عنهم في الآفاق والقتل على التهمة. وفي سنة سبع وستين أمر بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام وأدخل في ذلك دوراً كثيرة. وفي سنة تسع وستين مات المهدي ساق خلف صيد فاقتحم الصيد خربة وتبعه الفرس فدق ظهره في بابها فمات لوقته وذلك لثمان بقين من المحرم وقيل إنه مات مسموماً وقال سلم الخاسر يرثيه: وباكية على المهدي عبرى ... كأن بها وما جنت جنونا وقد خمشت محاسنها وأبدت ... غدائرها وأظهرت القرونا لئن بلى الخليفة بعد عز ... لقد أبقى مساعي ما بلينا سلام اللّه عدة كل يوم ... على المهدي حين ثوى رهينا تركنا الدين والدنيا جميعاً ... بحيث ثوى أمير المؤمنينا ومن أخبار المهدي قال الصولي لما عقد المهدي العهد لولده موسى قال مروان بن أبي حفصة: عقدت لموسى بالرصافة بيعة ... شد الإله بها عرى الإسلام موسى الذي عرفت قريش فضله ... ولها فضيلتها على الأقوام بمحمد بعد النبي محمد ... حيي الحلال ومات كل حرام مهدي أمته الذي أمست به ... للذل آمنه وللإعدام موسى ولي عهد الخلافة بعده ... جفت بذاك مواقع الأقلام وقال آخر: يا بن الخليفة إن أمة أحمد ... تاقت إليك بطاعة أهواؤها ولتملأن الأرض عدلا كالذي ... كانت تحدث أمة علماؤها حتى تمنى لو ترى أمواتها ... من عدل حكمك ما ترى أحياؤها فعلى أبيك اليوم بهجة ملكها ... وغدا عليك إزارها ورداؤها وأسند الصولي أن امرأة اعترضت المهدي فقال يا عصبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انظر في حاجتي فقال المهدي: ما سمعتها من أحد قط أقضوا حاجتها وأعطوها عشرة آلاف درهم. وقال قريش الختلي: رفع صالح بن عبد القدوس البصري إلى المهدي في الزندقة فأراد قتله فقال أتوب إلى اللّه وأنشده لنفسه: ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يواري في ثرى رمسه فصرفه فلما قرب من الخروج رده ف قال: ألم تقل والشيخ لا يترك أخلاقه قال: بلى قال فكذلك أنت لا تدع أخلاقك حتى تموت ثم أمر بقتله. وقال زهير قدم على المهدي بعشرة محدثين: منهم فرج بن فضالة وغياث ابن إبراهيم وكان المهدي يحب الحمام فلما أدخل غياث قيل له حدث أمير المؤمنين فحدثه عن فلان عن أبي هريرة مرفوعاً لا سبق إلا في حافر أو نصل وزاد فيه أو جناح فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم فلما قام قال أشهد أن قفاك قفا كذاب وإنما استجلبت ذلك ثم أمر بالحمام فذبحت. وروي أن شريكاً دخل على المهدي فقال له لا بد من ثلاث إما أن تلي القضاء أو تؤدب ولدي وتحدثهم أو تأكل عندي أكلة ففكر ساعة ثم قال الأكلة أخف علي فأمر المهدي بعمل ألوان من المخ المعقود بالسكر وغير ذلك فأكل فقال الطباخ لا يفلح بعدها قال حدثهم بعد ذلك وعلمهم العلم وولى القضاء لهم. وأخرج البغوي في الجعديات عن حمدان الأصبهاني قال كنت عند شريك فأتاه ابن المهدي فاستند وسأل عن حديث فلم يلتفت شريك ثم أعاد فعاد فقال كأنك تستخف بأولاد الخلفاء قال لا ولكن العلم أزيد عند أهله من أن يضيعوه فجثا على ركبتيه ثم سأله فقال شريك هكذا يطلب العلم ومن شعر المهدي ما أنشده الصولي: ما يكف الناس عنا ... ما يمل الناس منا إنما همتهم أن ... ينبشوا ما قد دفنا لو سكنا بطن أرض ... فلكانوا حيث كنا وهم إن كاشفونا ... في الهوى يوماً مجنا وأسند الصولي عن محمد بن عمارة قال: كان للمهدي جارية شغف بها وهي كذلك إلا أنها تتحاماه كثيراً فدس إليها من عرف ما في نفسها فقالت أخاف أن يملني ويدعني فأموت فقال المهدي في ذلك: ظفرت بالقلب مني ... غادة مثل الهلال كلما صح لها ود ... ي جاءت باعتلال لا لحب الهجر مني ... والتنائي عن وصال بل لإبقاء على حب ... ي لها خوف الملال وله في نديمه عمر بن بزيع: رب تمم لي نعيمي ... بأبى حفص نديمي إنما لذة عيشي ... في غناء وكروم وجوار عطرات ... وسماع ونعيم قلت: شعر المهدي أرق وألطف من شعر أبيه وأولاده بكثير. وأسند الصولي عن ابن أبي كريمة قال: دخل المهدي إلى حجرة جارية على غفلة فوجدها وقد نزعت ثيابها وأرادت لبس غيرها فلما رأته غطت بيدها فقصرت كفها عنه فضحك و قال: نظرت في القصر عيني ... نظرة وافق حيني ثم خرج فرأى بشاراً فأخبره وقال أجز فقال بشار: سترته إذ رأتني ... دونه بالراحتين فبدا لي منه فضل ... تحت طي العكنتين وأسند عن إسحاق الموصلي قال: كان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء تشبيهاً بالمنصور نحواً من سنة ثم ظهر لهم فأشير عليه أن يحتجب فقال إنما اللذة مع مشاهدتهم. وأسند عن مهدي بن سابق قال: صاح رجل بالمهدي وهو في موكبه: قل للخليفة: حاتم لك خائن ... فخف الإله وأعفنا من حاتم إن العفيف إذا استعان بخائن ... كان العفيف شريكه في المأتم فقال المهدي: يعزل كل عامل لنا يدعى حاتماً. وأسند عن أبي عبيدة قال كان المهدي يصلي بنا الصلوات الخمس في المسجد الجامع بالبصرة لما قدمها فأقيمت الصلاة يوماً فقال أعرابي لست على طهر وقد رغبت في الصلاة خلفك فأمر هؤلاء بانتظاري ف قال: انتظروه ودخل المحراب فوقف إلى أن قبل قد جاء الرجل فكبر فعجب الناس من سماحة أخلاقه. وأسند عن إبراهيم بن نافع أن قوماً من أهل البصرة تنازعوا إليه في نهر من أنهار البصرة ف قال: إن الأرض للّه في أيدينا للمسلمين فما لم يقع له ابتياع منها يعود ثمنه على كافتهم وفي مصلحتهم فلا سبيل لأحد عليه فقال القوم: هذا النهر لنا بحكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنه قال: " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " وهذه موات فوثب المهدي عند ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى ألصق خده بالتراب و قال: سمعت لما قال وأطعت ثم عاد وقال بقي أن تكون هذه الأرض مواتاً حتى لا أعرض فيها وكيف تكون مواتاً والماء المحيط بها من جوانبها فإن أقاموا البينة على هذا سلمت. وأسند عن الأصمعي قال: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول إن اللّه أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال " إن اللّه وملائكته يصلون على النبي " الآية " الأحزاب 56 " آثره بها من بين الرسل إذ خصكم بها من بين الأمم. قلت: وهو أول من قال ذلك في الخطبة وقد استسنها الخطباء إلى اليوم. ولما مات قال أبو العتاهية وقد علقت المسوح على قباب حرمه: رحن في الموشي وأصبحن ... عليهم المسوح كل نطاح من الدهر ... له يوم نطوح لست بالباقي ولو عم ... رت ما عمر نوح نح على نفسك يا م ... سكين إن كنت تنوح ذكر أحاديث من رواية المهدي: قال الصولي: حدثني احمد بن محمد ابن صالح التمار حدثنا يحيى بن محمد القرشي حدثنا أحمد بن هشام حدثنا أحمد ابن عبد الرحمن بن مسلم المدائني وهو ثقة صدوق قال سمعت المهدي يخطب ف قال: حدثنا شعبة عن علي بن زيد عن أبي النضرة عن أبي سعيد الخدري قال خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خطبة من العصر إلى مغيربان الشمس حفظها من حفظها ونسيها من نسيها فقال " إلا إن الدنيا حلوة خضرة " الحديث بطوله. وقال الصولي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم القزاز حدثنا إسحاق بن إبراهيم ابن حبيب بن الشهيد حدثني أبو يعقوب بن حفص الخطابي سمعت المهدي يقول حدثني أبي عن أبيه عن علي بن عبد اللّه بن عباس عن أبيه أن وفداً من العجم قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد أحفوا لحاهم وأعفوا شواربهم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم " خالفوهم أعفوا لحاكم وأحفوا شواربكم " وإحفاء الشارب أخذ ما سقط على الشفة منه ووضع المهدي يده على أعلى شفته. وقال منصور بن مزاحم ومحمد بن يحيى بن حمزة عن يحيى بن حمزة قال: صلى بنا المهدي المغرب فجهر بسم اللّه الرحمن الرحيم ف قلت: يا أمير المؤمنين ما هذا قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن إسحاق أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جهر بسم اللّه الرحمن الرحيم فقلت للمهدي: نأثره عنك؟ قال: نعم قال الذهبي: هذا إسناد متصل لكن ما علمت أحدا احتج بالمهدي ولا بأبيه في الأحكام تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم وقال ابن عدي: كان يضع الحديث. قلت: لم ينفرد به بل وجدت له متابعاً مات في أيام المهدي من الأعلام شعبة وابن أبي ذئب وسفيان الثوري وإبراهيم بن ادهم الزاهد وداود الطائي الزاهد وبشار بن برد أول شعراء المحدثين وحماد بن سلمة وإبراهيم بن طهمان والخليل بن أحمد صاحب العروض. الهادي أبو محمد موسى بن المهديالهادي أبو محمد موسى بن المهدي بن المنصور وأمه أم ولد بربرية اسمها الخيزران ولد بالري سنة سبع وأربعين ومائة وبويع بالخلافة بعد أبيه بعهد منه قال الخطيب: ولم يل الخلافة قبله أحد في سنة فأقام فيها سنة وأشهراً وكان أبوه أوصاه بقتل الزنادقة فجد في أمرهم وقتل منهم خلقاً كثيراً وكان يسمى موسى أطبق لأن شفته العليا كانت تقلص فكان أبوه وكل به في صغره خادماً كلما رآه مفتوح الفم قال موسى: أطبق فيفيق على نفسه ويضم شفتيه فشهر بذلك. قال الذهبي: وكان يتناول المسكر ويلعب ويركب حماراً فارهاً ولا يقيم أبهة الخلافة وكان مع ذلك فصيحاً قادراً على الكلام أديباً تعلوه هيبة وله سطوة وشهامة. وقال غيره: كان جباراً وهو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة والأعمدة والقسي الموترة فاتبعه عماله به في ذلك وكثر السلاح في عصره. مات في ربيع الآخر سنة سبعين ومائة واختلف في سبب موته فقيل إنه دفع نديماً له من جرف على أصول قصب قد قطع فتعلق النديم به فوقع فدخلت قصبة في منخره فماتا جميعاً وقيل أصابته قرحة في جوفه وقيل سمته أمه الخيزران لما عزم على قتل الرشيد ليعهد إلى ولده وقيل كانت أمه حاكمة مستبدة بالأمور الكبار وكانت المواكب تغدو إلى بابها فزجرهم عن ذلك وكلمها بكلام وقح و قال: لئن وقف ببابك أمير لأضربن عنقه أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو سبحة فقامت ما تعقل من الغضب فقيل إنه بعث إليها بطعام مسموم فأطعمت منه كلباً فانتثر فعملت على قتله لما وعك بأن غموا وجهه ببساط جلسوا على جوانبه وخلف سبعة بنين. ومن شعر الهادي في أخيه هارون لما امتنع من خلع نفسه: نصحت لهارون فرد نصيحتي ... وكل امرئ لا يقبل النصح نادم وأدعوه للأمر المؤلف بيننا ... فيبعد عنه وهو في ذاك ظالم ولولا انتظاري منه يوماً إلى غد ... لعاد إلى ما قلته وهو راغم ومن أخبار الهادي أخرج الخطيب عن الفضل قال: غضب الهادي على رجل فكلم فيه فرضى فذهب يعتذر فقال له الهادي إن الرضا قد كفاك مؤنة الاعتذار وأخرج عن عبد اللّه بن مصعب قال: دخل مروان بن أبي حفصة على الهادي فأنشده مديحاً له حتى إذا بلغ قوله: تشابه يوماً بأسه ونواله ... فما أحد يدري لأيهما الفضل فقال له الهادي: أيما أحب إليك ثلاثون ألف معجلة أو مائة ألف تدور في الديوان؟ قال: تعجل الثلاثون ألفاً وتدور المائة ألف قال: بل تعجلان لك جميعاً فحمل له ذلك. وقال الصولي: لا تعرف امرأة ولدت خليفتين إلا الخيزران أم الهادي والرشيد وولادة بنت العباس العبسية زوج عبد الملك بن مروان ولدت الوليد وسليمان وشاهفرند بنت فيروز بن يزدجرد بن كسرى ولدت للوليد بن عبد الملك يزيد الناقص وإبراهيم وولياً الخلافة. قلت: يزاد على ذلك بأي خاتون سرية المتوكل الأخير ولدت العباس وحمزة وولياً الخلافة وكزل سريته أيضاً ولدت داود وسليمان وولياها. ثم قال الصولي: لا يعرف خليفة ركب البريد إلا الهادي من جرجان إلى بغداد قال: وكان نقش خاتمه اللّه ثقة موسى وبه يؤمن. قال الصولي: ولسلم الخاسر في الهادي يمدحه موسى المطر ... غيث بكر ثم انهمر ... ألوى المرر كم اعتسر ... وكم قدر ثم غفر ... عدل السير باقي الأثر ... خير وشر نفع وضر ... خير البشر فرع مضر ... بدر بدر لمن نظر ... هو الوزر لمن حضر والمف ... تخر لمن غبر قال: وهذا على جزء جزء مستفعلن مستفعلن وهو أول من عمله ولم نسمع لمن قبله شعراً على جزء جزء. وأسند الصولي: عن سعيد بن سلم قال: إني لأرجو أن يغفر اللّه للّهادي بشيء رأيته منه حضرته يوماً وأبو الخطاب السعدي ينشده قصيدة في مدحه إلى أن قال: يا خير من عقدت كفاه حجزته ... وخير من قلدته أمرها مضر فقال له الهادي: إلا من ويلك قال سعيد: ولم يكن استثنى في شعره ف قلت: يا أمير المؤمنين إنما يعني من أهل هذا الزمان ففكر الشاعر ف قال: إلا النبي رسول اللّه إن له ... فضلا وأنت بذاك الفضل تفتخر ف قال: الآن أصبت وأحسنت وأمر له بخمسين ألف درهم. وقال المدائني: عزى الهادي رجلاً في ابن له ف قال: سرك وهو فتنة وبلية ويحزنك وهو ثواب ورحمة. وقال الصولي: قال سلم الخاسر في الهادي جامعاً بين العزاء والهناء: لقد قام موسى بالخلافة والهدى ... ومات أمير المؤمنين محمد فمات الذي غم البرية فقده ... وقام الذي يكفيك من يتفقد وقال مروان بن أبي حفصة كذلك: لقد أصبحت تختال في كل بلدة ... بقبر أمير المؤمنين المقابر ولو لم تسكن بابنه بعد موته ... لما برحت تبكي عليه المنابر ولو لم يقم موسى عليها لرجعت ... حنيناً كما حن الصفايا العشائر حديث من رواية الهادي: قال الصولي: حدثني محمد بن زكريا هو الغلابي حدثني محمد بن عبد الرحمن المكي حدثنا قسورة بن السكن الفهري حدثنا المطلب بن عكاشة المري قال قدمنا على الهادي شهوداً على رجل شتم قريشاً وتخطى إلى ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم فجلس لنا مجلساً احضر فيه فقهاء زمانه واحضر الرجل فشهدنا عليه فتغير وجه الهادي ثم نكس رأسه ثم رفعه فقال سمعت أبي المهدي يحدث عن أبيه المنصور عن أبيه محمد عن أبيه على عن أبيه عبد اللّه بن عباس قال: من أراد هوان قريش أهانه اللّه وأنت يا عدو اللّه لم ترض بأن أردت ذلك من قريش حتى تخطيت إلى ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم اضربوا عنقه أخرجه الخطيب من طريق الصولي والحديث هكذا في هذه الرواية موقوف وقد ورد مرفوعاً من وجه آخر. مات في أيام الهادي من الأعلام نافع قارئ أهل المدينة وغيره. الرشيد هارون أبو جعفرالرشيد هارون أبو جعفر بن المهدي محمد بن المنصور عبد اللّه بن محمد بن علي ابن عبد اللّه بن العباس استخلف بعهد من أبيه عند موت أخيه الهادي ليلة السبت لأربع عشرة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة قال الصولي: هذه الليلة ولد له فيها عبد اللّه المأمون ولم يكن في سائر الزمان ليلة مات فيها خليفة وقام خليفة وولد خليفة إلا هذه الليلة وكان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر حدث عن أبيه وعن جده ومبارك بن فضالة وروى عنه ابنه المأمون وغيره وكان من أمير الخلفاء واجل ملوك الدنيا وكان كثير الغزو والحج كما قال فيه أبو المعالي الكلابي: فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور ففي أرض العدو على طمر ... وفي ارض الترفه فوق كور مولده بالري حين كان أبوه أميراً عليها وعلى خراسان في سنة ثمان وأربعين ومائة وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهى أم الهادي وفيها يقول مروان ابن أبي حفصة : يا خيزران هناك ثم هناك ... أمسى يسوس العالمين ابناك وكان أبيض طويلاً جميلا مليحاً فصيحاً له نظر في العلم والأدب. وكان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات لا يتركها إلا لعلة ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم. وكان يحب العلم وأهله ويعظم حرمات الإسلام ويبغض المراء في الدين والكلام في معارضة النص. وبلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن ف قال: لئن ظفرت به لأضربن عنقه وكان يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه سيما إذا وعظ وكان يحب المديح ويجيز عليه الأموال الجزيلة وله شعر. دخل عليه مرة ابن السماك الواعظ فبالغ باحترامه فقال له ابن السماك: تواضعك في شرفك أشرف من شرفك ثم وعظه فأبكاه. وكان يأتي بنفسه إلى بيت الفضيل بن عياض. قال عبد الرزاق: كنت مع الفضيل بمكة فمر هارون فقال فضيل: الناس يكرهون هذا وما في الأرض أعز علي منه لو مات لرأيت أموراً عظاماً. قال أبو معاوية الضرير: ما ذكرت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بين يدي الرشيد إلا قال صلى اللّه على سيدي وحدثه بحديثه صلى اللّه عليه وآله وسلم " ووددت أني أقاتل في سبيل اللّه فأقتل ثم أحي فأقتل " فبكى حتى انتحب. وحدثته يوماً حديثاً احتج آدم وموسى وعنده رجل من وجوه قريش فقال القرشي: فأين لقيه فغضب الرشيد وقال النطع والسيف زنديق يطعن في حديث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. قال أبو معاوية: فما زلت اسكنه وأقول يا أمير المؤمنين كانت منه نادرة حتى سكن. وعن أبي معاوية أيضاً قال أكلت مع الرشيد يوماً ثم صب على يدي رجل لا أعرفه ثم قال الرشيد تدري من يصب عليك قلت لا قال أنا إجلالا للعلم وقال منصور بن عمار: ما رأيت اغزر دمعاً عند الذكر من ثلاثة الفضيل بن عياض والرشيد وآخر. وقال عبيد اللّه القواريري: لما لقي الرشيد الفضيل قال له: يا حسن الوجه أنت المسؤول عن هذه الأمة حدثنا ليث عن مجاهد " وتقطعت بهم الأسباب " " البقرة: 166 " قال الوصلة التي كانت بينهم في الدنيا فجعل هارون يبكي ويشهق. ومن محاسنه انه لما بلغه موت ابن المبارك جلس للعزاء وأمر الأعيان أن يعزوه في ابن المبارك. قال نفطويه: كان الرشيد يقتفي آثار جده أبي جعفر إلا في الحرص فإنه لم ير خليفة قبله أعطى منه أعطى مرة سفيان بن عيينة مائة ألف وأجاز إسحاق الموصلي مرة بمائتي ألف وأجاز مروان بن أبي حفصة مرة على قصيدة خمسة آلاف دينار وخلعة وفرساً من مراكبه وعشرة من رقيق الروم. وقال الأصمعي قال لي الرشيد: يا أصمعي ما أغفلك عنا وأجفاك لنا قلت: يا أمير المؤمنين ما لاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك فسكت فلما تفرق الناس قال ما لاقتني قلت: كفاك كف ما تليق درهماً ... جوداً وأخرى تعطي بالسيف الدما ف قال: أحسنت وهكذا فكن وقرنا في الملا وعلمنا في الخلا وأمر لي بخمسة آلاف دينار وفي مروج المسعودي قال رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما فقال له يحيى بن خالد البرمكي كان يختطف الروم الناس من المسجد الحرام وتدخل مراكبهم إلى الحجاز فتركه. وقال الجاحظ: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره وزراؤه البرامكة وقاضيه أبو يوسف رحمه اللّه وشاعره مروان بن أبي حفصة ونديمه العباس بن محمد عم أبيه وحاجبه الفضل بن الربيع أنبه الناس وأعظمهم ومغنيه إبراهيم الموصلي وزوجته زبيدة. وقال غيره: كانت أيام الرشيد كلها خير كأنها من حسنها أعراس. وقال الذهبي: أخبار الرشيد يطول شرحها ومحاسنه جمة وله أخبار في اللّهو واللذات المحظورة والغناء سامحه اللّه. مات في أيامه من الأعلام مالك بن أنس والليث بن سعد وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة والقاسم بن معن ومسلم بن خالد الزنجي ونوح الجامع والحافظ أبو عوانة اليشكري وإبراهيم بن سعد الزهري وأبو إسحاق الفزاري وإبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي وأسد الكوفي من كبار أصحاب أبي حنيفة وإسماعيل بن عياش وبشر بن المفضل وجرير ابن عبد الحميد وزياد البكائي وسليم المقرئ صاحب حمزة وسيبويه إمام العربية وضيغم الزاهد وعبد اللّه العمري الزاهد وعبد اللّه بن المبارك وعبد اللّه بن إدريس الكوفي وعبد العزيز بن أبي حازم والدراوردي والكسائي شيخ القراء والنحاة ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كلاهما في يوم وعلي بن مسهر وغنجار وعيسى بن يونس السبيعي والفضيل ابن عياض وابن السماك الواعظ ومروان بن أبي حفصة الشاعر والمعافي ابن عمران الموصلي ومعتمر بن سليمان والمفضل بن فضالة قاضي مصر وموسى بن ربيعة أبو الحكم المصري أحد الأولياء والنعمان بن عبد السلام الأصبهاني وهشيم ويحيى بن أبي زائدة ويزيد بن زريع ويونس ابن حبيب النحوي ويعقوب بن عبد الرحمن قارئ المدينة وصعصعة ابن سلام عالم الأندلس أحد أصحاب مالك وعبد الرحمن بن القاسم اكبر أصحاب مالك والعباس بن الحنف الشاعر المشهور وأبو بكر ابن عياش المقرئ ويوسف بن الماجشون وخلائق آخرون كبار. ومن الحوادث في أيامه في سنة خمس وسبعين افترى عبد اللّه بن مصعب الزبيري على يحيى بن عبد اللّه بن حسن العلوي انه طلب إليه أن يخرج معه على الرشيد فباهله يحيى بحضرة الرشيد وشبك يده في يده و قال: قل اللّهم إن كنت تعلم أن يحيى لم يدعني إلى الخلاف والخروج على أمير المؤمنين هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك آمين رب العالمين فتلجلج الزبير وقالها ثم قال يحيى مثل ذلك وقاما فمات الزبيري ليومه. وفي سنة ست وسبعين فتحت مدينة دبسة على يد الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح العباسي. وفي سنة تسع وسبعين اعتمر الرشيد في رمضان ودام على إحرامه إلى أن حج ومشى من مكة إلى عرفات. وفي سنة ثمانين كانت الزلزلة العظمى وسقط منها رأس منارة الإسكندرية. وفي سنة إحدى وثمانين فتح حصن الصفصاف عنوة وهو الفاتح له. وفي سنة ثلاث وثمانين خرج الخزر على أرمينية فأوقعوا بأهل الإسلام وسفكوا وسبوا أزيد من مائة ألف نسمة وجرى على الإسلام أمر عظيم لم يسمع قبله مثله. وفي سنة سبع وثمانين أتاه كتاب من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم. وصورة الكتاب من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيذق فحملت إليك من أموالها أحمالا وذلك لضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضباً حتى تمكن أحد أن ينظر إلى وجهه دون أن يخاطبه وتفرق جلساؤه من الخوف واستعجم الرأي على الوزير فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتابه بسم اللّه الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه ثم سار ليومه فلم يزل حتى نازل مدينة هرقل وكانت غزوة مشهورة وفتحاً مبيناً فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة فأجيب فلما رجع الرشيد إلى الرقة نقض الكلب العهد لإياسه من كرة الرشيد في البرد فلم يجترئ أحد أن يبلغ الرشيد نقضه بل قال عبد اللّه بن يوسف التيمي: نقض الذي أعطيته نقفور ... فعليه دائرة البوار تدور أبشر أمير المؤمنين فإنه ... غنم أتاك به الإله كبير وقال أبو العتاهية أبياتاً وعرضت على الرشيد ف قال: أوقد فعلها فكر راجعاً في مشقة شديدة حتى أناخ بفنائه فلم يبرح حتى بلغ مراده وحاز جهاده. وفي ذلك يقول أبو العتاهية: ألا نادت هرقل بالخراب ... من الملك الموفق للصواب غداً هارون يرعد بالمنايا ... ويبرق بالمذكرة القضاب ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب وفي سنة تسع وثمانين فادى الروم حتى لم يبق بممالكهم في الأسر مسلم. وفي سنة تسعين فتح هرقل وبث جيوشه بأرض الروم فافتتح شراحيل ابن معن بن زائدة حصن الصقالبة وافتتح يزيد بن مخلد ملقونية وسار حميد ابن معيوف إلى قبرس فهدم وحرق وسبى من أهلها ستة عشر ألفاً. وفي سنة اثنتين وتسعين توجه الرشيد نحو خراسان فذكر محمد بن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد إلى النهروان فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قال: يا صباح لا أحسبك تراني بعدها ف قلت: بل يردك اللّه سالماً ثم قال: ولا أحسبك تدري ما أجد ف قلت: لا واللّه ف قال: تعال حتى أريك وانحرف عن الطريق وأومأ إلى الخواص فتنحوا ثم قال: أمانة اللّه يا صباح أن تكتم علي وكشف عن بطنه فإذا عصابة حرير حوالي بطنه ف قال: هذه علة أكتمها الناس كلهم ولكل واحد من ولدي علي رقيب فمسرور رقيب المأمون وجبريل بن يختيشوع رقيب الأمين ونسيت الثالث ما منهم أحد إلا ويحصي أنفاسي ويعد أيامي ويستطيل دهري فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو ببرذون فيجيئون به أعجف ليزيد في علتي ثم دعا ببرذون فجاءوا به كما وصف فنظر إلى ثم ركبه وودعني وسار إلى جرجان ثم رحل منها في صفر سنة ثلاث وتسعين وهو عليل إلى طوس فلم يزل بها إلى أن مات. وكان الرشيد بايع بولاية العهد لابنه محمد في سنة خمس وسبعين ولقبه الأمين وله يومئذ خمس سنين لحرص أمه زبيدة على ذلك قال الذهبي: فكان هذا أول وهن جرى في دولة الإسلام من حيث الإمامة ثم بايع لابنه عبد اللّه من بعد الأمين في سنة اثنتين وثمانين ولقبه المأمون وولاه ممالك خراسان بأسرها ثم بايع لابنه القاسم من بعد الأخوين في سنة ست وثمانين ولقبه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور وهو صبي فلما قسم الدنيا بين هؤلاء الثلاثة قال بعض العقلاء: لقد ألقى بأسهم بينهم وغائلة ذلك تضر بالرعية وقالت الشعراء في البيعة المدائح ثم إنه علق نسخة البيعة في البيت العتيق وفى ذلك يقول إبراهيم الموصلي: خير الأمور مغبة ... وأحق أمر بالتمام أمر قضى أحكامه ال ... رحمن في البيت الحرام وقال عبد الملك بن صالح في ذلك: حب الخليفة حب لا يدين له ... عاصي الإله وشار يلقح الفتنا اللّه قلد هاروناً سياسته ... لما اصطفاه فأحيا الدين والسننا وقلد الأرض هارون لرأفته ... بن أميناً ومأموناً ومؤتمنا قال بعضهم: وقد زوى الرشيد الخلافة عن ولده المعتصم لكونه أمياً فساقها اللّه إليه وجعل الخلفاء بعده كلهم من ذريته ولم يجعل من نسل غيره من أولاد الرشيد خليفة وقال سلم الخاسر في العهد للأمين: قل للمنازل بالكثيب الأعفر ... أسقيت غادية السحاب الممطر قد بايع الثقلان مهدي الهدى ... لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر قد وفق اللّه الخليفة إذ بنى ... بيت الخلافة للّهجان الأزهر فهو الخليفة عن أبيه وجده ... شهدا عليه بمنظر وبمخبر فحشت زبيده فاه جوهراً باعه بعشرين ألف دينار. فصل في نبذ من أخبار الرشيد عفا اللّه عنه أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك قال: لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي فراودها عن نفسها فقالت: لا أصلح لك إن أباك قد طاف بي فشغف بها فأرسل إلى أبي يوسف فسأله أعندك في هذا شيء فقال يا أمير المؤمنين أو كلما ادعت أمة شيئاً ينبغي أن تصدق لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة قال ابن المبارك: لم أدر ممن أعجب من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها قال اهتك حرمة أبيك وقض شهوتك وصيره في رقبتي. واخرج أيضاً عن عبد اللّه بن يوسف قال: قال الرشيد لأبي يوسف: إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء فهل عندك حيلة قال نعم تهبها لبعض ولدك ثم تتزوجها. وأخرج عن إسحاق بن راهوية قال: دعا الرشيد أبا يوسف ليلا فأفتاه بأمر له بمائة ألف درهم فقال أبو يوسف إن رأى أمير المؤمنين أمر بتعجيلها قبل الصبح ف قال: عجلوها فقال بعض من عنده إن الخازن في بيته والأبواب مغلقة فقال أبو يوسف: فقد كانت الأبواب مغلقة حين دعاني ففتحت. وأسند الصولي: عن يعقوب بن جعفر قال خرج الرشيد في السنة التي ولى الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالا كثيراً وكان رأى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في النوم فقال له: إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين ففعل هذا كله. واسند عن معاوية بن صالح عن أبيه قال: أول شعر قاله الرشيد انه حج سنة ولي الخلافة فدخل داراً فإذا في صدر بيت منها بيت شعر قد كتب على حائط: ألا يا أمير المؤمنين أما ترى ... فديتك هجران الحبيب كبيرا فدعا بدواة وكتب تحته بخطه: بلى والهدايا المشعرات وما مشى ... بمكة مرفوع الأظل حسيرا واخرج عن سعيد بن مسلم قال: كان فهم الرشيد فهم العلماء أنشده العماني في صفة فرس: كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلماً محرفا فقال الرشيد: دع كأن وقل تخال إذنيه حتى يستوي الشعر. وأخرج عن عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الربيع قال: حلف الرشيد أن لا يدخل إلى جارية له أياماً وكان يحبها فمضت الأيام ولم تسترضيه ف قال: صد عني إذ رآني مفتتن ... وأطال الصبر لما أن فطن كان مملوكي فأضحى مالكي ... إن هذا من أعاجيب الزمن ثم أحضر أبا العتاهية فقال أجزهما ف قال: عزة الحب أرته ذلتي ... في هواه وله وجه حسن فلهذا صرت مملوكاً له ... ولهذا شاع ما بي وعلن واخرج ابن عساكر عن ابن علية قال: اخذ هارون الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي قال له أريح العباد منك قال فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به قال فأين أنت يا عدو اللّه من أبي إسحاق الفزاري وعبد اللّه بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفاً حرفاً.؟ وأخرج الصولي عن إسحاق الهاشمي قال كنا عند الرشيد ف قال: بلغني أن العامة يظنون في بغض علي بن أبي طالب وواللّه ما أحب أحداً حبي له ولكن هؤلاء أشد الناس بغضاً لنا وطعناً علينا وسعياً في فساد ملكنا بعد أخذنا بثأرهم ومساهمتنا إياهم ما حويناه حتى إنهم لأميل إلى بني أمية منهم إلينا فأما ولده لصلبه فهم سادة الأهل والسابقون إلى الفضل ولقد حدثني أبي المهدي عن أبيه المنصور عن محمد بن علي عن أبيه عن ابن عباس أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول في الحسن والحسين " من احبهما فقد احبني ومن أبغضهما فقد ابغضني " وسمعه يقول " فاطمة سيدة نساء العالمين غير مريم ابنة عمران وآسية بنة مزاحم " . روي أن ابن السماك دخل على الرشيد يوماً فاستسقى فأتى بكوز فلما أخذه قال على رسلك يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها قال بنصف ملكي قال اشرب هنأك اللّه تعالى فلما شربها قال: أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتري خروجها قال: بجميع ملكي قال إن ملكاً قيمته شربة ماء وبوله لجدير أن لا ينافس فيه فبكى هارون الرشيد بكاء شديداً. وقال ابن الجوزي: قال الرشيد لشيبان: غطني قال: لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف فقال الرشيد فسر لي هذا قال: من يقول لك: أنت مسؤول عن الرعية فاتق اللّه أنصح لك ممن يقول أنتم أهل بيت مغفور لكم وأنتم قرابة نبيكم صلى اللّه عليه وسلم فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله. وفي كتاب الأوراق للصولي بسنده لما ولي الرشيد الخلافة استوزر يحيى ابن خالد قال إبراهيم الموصلي: ألم تر أن الشمس كانت مريضة ... فلما أتى هارون أشرق نورها تلبست الدنيا جمالا بملكه ... فهارون واليها ويحيى وزيرها فأعطاه مائة ألف درهم وأعطاه يحيى خمسين ألفاً. ولداود بن رزين الواسطي فيه: بهارون لاح النور في كل بلدة ... وقام به في عدل سيرته النهج إمام بذات اللّه أصبح شغله ... فأكثر ما يعنى به الغزو والحج تضيق عيون الخلق عن نور وجهه ... إذا ما بدا للناس منظره البلج تفسحت الآمال في جود كفه ... فأعطى الذي يرجوه فوق الذي يرجو وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله: ما أعلم أن الملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد فإنه رجل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه اللّه قال وكان أصل الموطأ بسماع الرشيد في خزانة المصريين قال ثم رحل لسماعه السلطان صلاح الدين بن أيوب إلى الإسكندرية فسمعه على ابن طاهر ابن عوف ولا أعلم لهما ثالثاً. ولمنصور النمري فيه: جعل القرآن إمامه ودليله ... لما تخيره القرآن ذماما وله فيه قصيدة: إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك اللّه منها حيث تجتمع وي قال: إنه أجازه عليها بمائة ألف. وقال الحسين بن فهم: كان الرشيد يقول: من أحب ما مدحت به إلي: أبو أمين ومأمون ومؤتمن ... أكرم به والداً براً وما ولدا وقال إسحاق الموصلي دخلت على الرشيد فأنشدته: وآمره بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلا له في العالمين خليل وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال شيئاً أن يكون ينيل عطائي عطاء المكثرين تكرماً ... ومالي كما تعلمين قليل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأى أمير المؤمنين جميل ف قال: لا كيف إن شاء اللّه يا فضل أعطه مائة ألف درهم للّه در أبيات يأتينا بها ما أجود أصولها وأحسن فصولها ف قلت: يا أمير المؤمنين كلامك أحسن من شعري ف قال: يا فضل أعطه مائة ألف أخرى. وفي الطيوريات بسنده إلى إسحاق الموصلي قال: قال أبو العتاهية لأبى النواس البيت الذي مدحت به الرشيد لوددت أني كنت سبقتك به إليه: قد كنت خفتك ثم أمنني ... من أن أخافك خوفك اللّه وقال محمد بن على الخرساني: الرشيد أول خليفة لعب بالصوالجة والكرة ورمى النشاب في البرجاس وأول خليفة لعب بالشطرنج من بني العباس. وقال الصولي هو أول من جعل للمغنين مراتب وطبقات. ومن شعر الرشيد يرثى جاريته هيلانة أورده الصولي: قاسيت أوجاعاً وأحزانا ... لما استخص الموت هيلانا فارقت عيشي حين فارقتها ... فما أبالي كيف ما كانا كانت هي الدنيا فلما ثوت ... في قبرها فارقت دنيانا قد كثر الناس ولكنني ... لست أرى بعدك إنسانا واللّه لا أنساك ما حركت ... ريح بأعلى نجد أغصانا وله أيضاً أنشده الصولي: يا ربة المنزل بالفرك ... وربة السلطان والملك ترفقي باللّه في قتلنا ... لسنا من الدليم والترك مات الرشيد في الغزو بطوس من خراسان ودفن بها في ثالث من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة وله خمس وأربعون سنة وصلى عليه ابنه صالح. قال الصولي: خلف الرشيد مائة ألف ألف دينار ومن الأثاث والجواهر والورق والدواب ما قيمته ألف ألف دينار وخمسة وعشرون ألف دينار. وقال غيره: غلط جبريل بن بختيشوع على الرشيد في علته في علاج عالجه به كان سبب منيته فهم أن يفصل أعضاءه فقال أنظرني إلى غد فإنك تصبح في عافية فمات ذلك اليوم وقيل إن الرشيد رأى مناماً أنه يموت بطوس فبكى وقال احفروا لي قبراً فحفر له ثم حمل في قبة على جمل وسيق به حتى نظر إلى القبر فقال يا ابن آدم تصير إلى هذا وأمر قوماً فنزلوا فختموا فيه ختمة وهو في محفة على شفير القبر ولما مات بويع لولده الأمين في العسكر وهو حينئذ ببغداد فأتاه الخبر فصلى الناس الجمعة وخطب ونعى الرشيد إلى الناس وبايعوه وأخذ رجاء الخادم البرد والقضيب والخاتم وسار على البريد في اثني عشر يوماً من مرو حتى قدم بغداد في نصف جمادى الآخرة فدفع ذلك إلى الأمين ولأبي الشيص يرثي الرشيد: غربت في الشرق شمس ... فلها عيني تدمع ما رأينا قط شمساً ... غربت من حيث تطلع وقال أبو النواس جامع بين العزاء والهناء: جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في مأتم وفي عرس القلب يبكي والعين ضاحكة ... فنحن في وحشة وفي أنس يضحكنا القائم الأمين ويب ... كينا وفاة الإمام بالأمس بدران بدر أضحى ببغداد في ال ... خلد وبدر بطوس في الرمس ومما رواه الرشيد من الحديث قال الصولي: حدثنا عبد الرحمن بن خلف حدثني جدي الحصين بن سليمان الضبي سمعت الرشيد يخطب فقال في خطبته حدثني مبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " اتقوا اللّه ولو بشق تمرة " حدثني محمد بن علي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم " نظفوا أفواهكم فإنها طريق القرآن " . الأمين محمد أبو عبد اللّهالأمين محمد أبو عبد اللّه بن الرشيد كان ولي عهد أبيه فولي الخلافة بعده وكان من أحسن الشباب صورة أبيض طويلا جميلا ذا قوة مفرطة وبطش وشجاعة ومعرفة يقال إنه قتل مرة أسداً بيده وله فصاحة وبلاغة وأدب وفضيلة لكن كان سيئ التدبير كثير التبذير ضعيف الرأي أرعن لا يصلح للإمارة فأول ما بويع بالخلافة أمر ثاني يوم ببناء ميدان جوار قصر المنصور للعب بالكرة ثم في سنة أربع وتسعين عزل أخاه القاسم عما كان الرشيد ولاه ووقعت الوحشة بينه وبين أخية المأمون وقيل إن الفضل بن الربيع علم أن الخلافة إذا أفضت إلى المأمون لم يبق عليه فأغرى الأمين به وحثه على خلعه وأن يولي العهد لابنه موسى ولما بلغ المأمون عزل أخيه القاسم قطع البريد عن الأمين وأسقط اسمه من الطرز والضرب ثم إن الأمين أرسل إليه يطلب منه أن يقدم موسى على نفسه ويذكر أنه قد سماه الناطق بالحق فرد المأمون ذلك وأباه وخامر الرسول معه وبايعه بالخلافة سراً ثم كان يكتب إليه بالأخبار ويناصحه من العراق ولما رجع وأخبر الأمين بامتناع المأمون أسقط اسمه من ولاية العهد وطلب الكتاب الذي كتبه الرشيد وجعله بالكعبة فأحضره ومزقه وقويت الوحشة ونصح الأمين أولو الرأي وقال له خزيمة بن حازم يا أمير المؤمنين لن ينصحك من كذبك ولن يغشك من صدقك ولا تجزئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا ببيعتك وعهدك فإن الغادر مغلول والناكث مخذول فلم ينتصح وأخذ يستميل القواد بالعطاء وبايع بولاية العهد لابنه موسى ولقبه الناطق بالحق وهو إذ ذاك طفل رضيع فقال بعض الشعراء في ذلك: أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الأمير وجهل المشير لواط الخليفة أعجوبة ... وأعجب منه حلاق الوزير فهذا يدوس وهذا يداس ... كذاك لعمري خلاف الأمور فلو يستعفان هذا بذاك ... لكانا بعرضة أمر ستير وأعجب من ذا وذا أننا ... نبايع للطفل فينا الصغير ومن ليس يحسن غسل استه ... ولم يخل من بوله حجر ظير وما ذاك إلا بفضل وبكر ... يريدان طمس الكتاب المنير وما ذان لولا انقلاب الزما ... ن في العير هذان أو في النفير ولما تيقن المأمون خلعه وتسمى بإمام المؤمنين وكوتب بذلك وولى الأمين علي بن عيسى بن ماهان بلاد الجبال همذان ونهاوند وقم وأصبهان في سنة خمس وتسعين فخرج علي بن عيسى من بغداد في نصف جمادى الآخرة ومعه الجيش لقتال المأمون في أربعين ألفاً في هيئة لم ير مثلها وأخذ معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه فأرسل المأمون لقتاله طاهر بن الحسين في أقل من أربعة آلاف فكانت الغلبة له وذبح علي وهزم جيشه وحملت رأسه إلى المأمون فطيف بها في خراسان وسلم على المأمون بالخلافة وجاء الخبر الأمين وهو يتصيد السمك فقال للذي أخبره ويلك دعني فإن كوثراً صاد سمكتين وأنا ما صدت شيئاً بعد وقال عبد اللّه بن صالح الجرمي: لما قتل علي أرجف الناس ببغداد إرجافاً شديداً وندم الأمين على خلعه أخاه وطمع الأمراء فيه وشغبوا جندهم لطلب الأرزاق من الأمين واستمر القتال بينه وبين أخيه وبقي أمر الأمين كل يوم في الأدبار لانهماكه في اللعب والجهل وأمر المأمون في ازدياد إلى أن بايعه أهل الحرمين وأكثر البلاد بالعراق وفسد الحال على الأمين جداً وتلف أمر العسكر ونفذت خزائنه وساءت حال الناس بسبب ذلك وعظم الشر وكثر الخراب والهدم من القتال ورمي المجانيق والنفط حتى درست محاسن بغداد وعملت فيها المراثي ومن جملة ما قيل في بغداد: بكيت دماً على بغداد لما ... فقدت غضارة العيش الأنيق أصابتها من الحساد عين ... فأفنت أهلها بالمنجنيق ودام حصار بغداد خمسة عشر شهراً ولحق غالب العباسيين وأركان الدولة بجند المأمون ولم يبق مع الأمين يقاتل عنه إلا غوغاء بغداد والحراشفة إلى أن استهلت سنة ثمان وتسعين فدخل طاهر بن الحسين بغداد بالسيف قسراً فخرج الأمين وأهله من القصر إلى مدينة المنصور وتفرق عامة جنده وغلمانه وقل عليهم القوت والماء. قال محمد بن راشد أخبرني إبراهيم بن المهدي أنه كان الأمين بمدينة المنصور قال فطلبني ليلة فأتيت فقال ما ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر وضوءه في الماء فهل لك في الشراب قلت شأنك فشربنا ثم دعا بجارية اسمها ضعف فتطيرت من اسمها فأمرها أن تغني فغنت بشعر النابغة الجعدي: كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر ذنباً منك ضرج بالدم فتطير بذلك و قال: غني غير هذا فغنت: أبكى فراقهم عيني فأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء فاليوم أبكيهم جهدي وأندبهم ... حتى أؤوب وما في مقلتي ماء فقال لها لعنك اللّه ما تعرفين غير هذا فقالت: ظننت أنك تحب هذا ثم غنت: أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك إلا لنقل السلطان عن ملك ... قد زال سلطانه إلى ملك وملك ذي العرش دائم أبداً ... ليس بفان ولا بمشترك فقال لها: قومي لعنك اللّه فقامت فعثرت في قدح بلور له قيمة فكسرته ف قال: ويحك يا إبراهيم أما ترى واللّه ما أظن أمري إلا قرب فقلت بل يطيل اللّه عمرك ويعز ملكك فسمعت صوتاً من دجلة " قضي الأمر الذي فيه تستفيان " " يوسف: 41 " فوثب محمد مغتماً وقتل بعد ليلتين أخذ وحبس في موضع ثم أدخل عليه قوم من العجم ليلا فضربوه بالسيف ثم ذبحوه من قفاه وذهبوا برأسه إلى طاهر فنصبها على حائط بستان ونودي هذا رأس المخلوع محمد وجرت جثته بحبل ثم بعث طاهر بالرأس والبرد والقضيب والمصلى وهو من سعف مبطن إلى المأمون واشتد على المأمون قتل أخيه وكان يحب أن يرسل إليه حياً ليرى فيه رأيه فحقد بذلك على طاهر بن الحسين وأهمله نسياً منسياً إلى أن مات طريداً بعيداً وصدق قول الأمين فإنه كان كتب بخطه رقعة إلى الطاهر بن الحسين لما انتدب لحربه فيها يا طاهر ما قام لنا منذ قمنا قائم بحقنا فكان جزاؤه عندنا إلا السيف فانظر لنفسك أودع يلوح بأبي مسلم وأمثاله الذين بذلوا نفوسهم في النصح لهم فكان مآلهم القتل منهم ولإبراهيم بن المهدي في قتل الأمين: عوجا بمغنى طلل داثر ... بالخلد ذات الصخر والآجر والمرمر المسنون يطلى به ... والباب باب الذهب الناضر وأبلغا عني مقالا إلى المو ... لى عن المأمور والآمر قولا له يا ابن ولي الهدى ... طهر بلاد اللّه من طاهر لم يكفه أن حز أوداجه ... ذبح الهدايا بمدى الجازر حتى أتى يسحب أوصاله ... في شطن هذا مدى السائر قد برد الموت على جفنه ... فطرفه منكسر الناظر ومما قيل فيه: لم نبكيك؟ لماذا للطرب ... يا أبا موسى وترويج اللعب ولترك الخمس في أوقاتها ... حرصاً منك على ماء العنب وشنيف أنا لا أبكي له ... وعلى كوثر لا أخشى العطب لم تكن تصلح للملك ولم ... تعطك الطاعة بالملك العرب لم نبكيك لما عرضتنا ... للمناجيق وطوراً للسلب ولخزيمة بن الحسن على لسان زبيدة قصيدة يقول فيها: أتى طاهر لا طهر اللّه طاهراً ... فما طاهر فيما أتى بمطهر فأخرجني مكشوفة الوجه حاسراً ... وأنهب أموالي وأخرب أدؤري يعز على هارون ما قد لقيته ... وما مر بي من ناقص الخلق أعور تذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمة متذكر قال ابن جرير: لما ملك الأمين ابتاع الخصيان وغالى بهم وصيرهم لخلوته ورفض النساء والجواري وقال غيره لما ملك وجه إلى البلدان في طلب الملهين وأجرى لهم الأرزاق واقتنى الوحوش والسباع والطيور واحتجب عن أهل بيته وامرأته واستخف بهم ومحق ما في بيوت الأموال وضيع الجواهر والنفائس وبنى عدة قصور للّهو في أماكن وأجاز مرة من غنى له: هجرتك حتى قلت لا يعرف القلى ... وزرتك حتى قلت ليس له صبر بملء زورقه ذهباً وعمل خمس حراقات جمع حراقة بالفتح والتشديد ضرب من السفن فيها مرامي نيران يرمي بها العدو على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس وأنفق في عملها أموالا فقال أبو النواس: سخر اللّه للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب فإذا ما ركابه سرن براً ... سار في الماء راكباً ليث غاب أسداً باسطاً ذراعه يهوي ... أهرت الشدق كالح الأنياب قال الصولي: حدثنا أبو العيناء حدثنا محمد بن عمرو الرومي قال خرج كوثر خادم الأمين ليرى الحرب فأصابته رجمة في وجهه فجعل الأمين يمسح الدم عن وجهه ثم قال: ضربوا قرة عيني ... ومن آجلي ضربوه أخذ اللّه لقلبي ... من أناس أحرقوه ولم يقدر على زيادة فأحضر عبد اللّه بن التيمي الشاعر فقال له قل عليهما ف قال: ما لمن أهوى شبيه ... فبه الدنيا تتيه وصله حلو ولكن ... هجره مر كريه من رأى الناس له الفض ... ل عليهم حسدوه مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه فأوقر له ثلاث بغال دراهم فلما قتل الأمين جاء التيمي إلى المأمون وامتدحه فلم يأذن له فالتجأ إلى الفضل بن سهل فأوصله إلى المأمون فلما سلم عليه قال: هيه يا تيمي: مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه فقال التيمي: نصر المأمون عبد اللّه ... لما ظلموه نقض العهد الذي قد ... كان قدماً أكدوه لم يعامله أخوه ... بالذي أوصى أبوه فعفا عنه وأمر له بعشرة آلاف درهم. وقيل إن سليمان بن منصور رفع إلى الأمين أن أبا النواس هجاه فقال يا عم أقتله بعد قوله: أهدى الثناء إلى الأمين محمد ... ما بعده بتجارة متربص صدق الثناء على الأمين محمد ... ومن الثناء تكذب وتخرص قد ينقص البدر المنير إذا استوى ... وبهاء نور محمد ما ينقص وإذا بنور المنصور عد خصالهم ... فمحمد ياقوتها المتخلص قال أحمد بن حنبل: إني لأرجو أن يرحم اللّه الأمين بإنكاره على إسماعيل بن علية فإنه أدخل عليه فقال له يا ابن الفاعلة أنت الذي تقول كلام اللّه مخلوق؟ قال المسعودي: ما ولي الخلافة إلى وقتنا هذا هاشمي ابن هاشمية سوى على ابن أبي طالب وابنه الحسن والأمين فإن أمه زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور واسمها أمة العزيزة وزبيدة لقب لها. وقال إسحاق الموصلي: اجتمعت في الأمين خصائل لم تكن في غيره كان أحسن الناس وجهاً وأسخاهم وأشرف الخلفاء أباً وأماً حسن الأدب عالماً بالشعر لكن غلب عليه الهوى واللعب وكان مع سخائه بالمال بخيلا بالطعام جداً. وقال أبو الحسن الأحمر: كنت ربما أنسيت البيت الذي يستشهد به في النحو فينشدنيه الأمين وما رأيت في أولاد الملوك أذكى منه ومن المأمون وكان قتله في المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة وله سبع وعشرون سنة. مات في أيامه من الأعلام إسماعيل بن علية وغندر وشقيق البلخي الزاهد وأبو معاوية الضرير ومؤرج السدوسي وعبد اللّه بن كثير المقرئ وأبو نواس الشاعر وعبد اللّه بن وهب صاحب الملك وورش المقرئ ووكيع وآخرون. وقال علي بن محمد النوفلي وغيره لم يدع للسفاح ولا للمنصور ولا للمهدي ولا للّهادي ولا للرشيد على المنابر بأوصافهم ولا كتبت في كتبهم حتى ولي الأمين فدعى له بالأمين على المنابر وكتب عنه من عبد اللّه محمد الأمين أمير المؤمنين وكذا قال العسكري في الأوائل أول من دعى له بلقبه على المنابر الأمين. ومن شعره الأمين يخاطب أخاه المأمون ويعيره بأمه لما بلغه عنه أنه يعدد مثالبه ويفضل نفسه عليه أنشده الصولي: لا تفخرن عليك بعد بقية ... والفخر يكمل للفتى المتكامل وإذا تطاولت الرجال بفضلها ... فأربع فإنك لست المتطاول أعطاك ربك ما هويت وإنما ... تلقى خلاف هواك عند مراجل تعلو المنابر كل يوم أملا ... ما لست من بعدي إليه بواصل فتعيب من يعلو عليك بفضله ... وتعيد في حقي مقال الباطل قلت: هذا نظم عال فإن كان له فهو أحسن من نظم أخيه وأبيه. قال الصولي: ومما رواه جماعة له في خادمه كوثر وقد سقاه وهو على بساط نرجس والبدر قد طلع وقد رواه بعضهم للحسين بن الضحاك الخليع وكان نديمه لا يفارقه: وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني أراه لست أراكا وإذا ما تنفس النرجس الغ ... ض توهمته نسيم ثناكا خدع للمنى تعللني في ... ك بإشراق ذا ونكهة ذاكا لأقيمن ما حييت على الشك ... ر لهذا وذاك إذ حكياكا وله في خادمه أيضاً: ما يريد الناس من ص ... ب بمن يهوى كثيب كوثر ديني ودنيا ... ي وسقمي وطبيبي أعجز الناس الذي يلح ... ى محباً في حبيب وله لما يئس من الملك وعلا عليه طاهر: يا نفس قد حق الحذر ... أين المفر من القدر كل امرئ مما يخا ... ف ويرتجيه على خطر من يرتشف صفو الزما ... ن يغص يوماً بالكدر وأسند الصولي أن الأمين قال لكاتبه: اكتب من عبد اللّه محمد أمير المؤمنين إلى طاهر بن الحسن سلام عليك أما بعد فإن الأمر قد خرج بيني وبين أخي إلى هتك الستور وكشف الحرم ولست آمن أن يطمع في هذا الأمر السحيق البعيد لشتات ألفتنا واختلاف كلمتنا وقد رضيت أن تكتب لي أماناً لأخرج إلى أخي فإن تفضل علي فأهل لذلك وإن قتلني فمروة كسرت مروة وصمصامة قطعت صمصامة ولن يفترسني السبع أحب إلي من أن ينبحني الكلب فأبى طاهر عليه. وأسند عن إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي قال كان أبي يكلم الأمين والمأمون بكلام يتفصحان به ويقول كان أولاد الخلفاء من بني أمية يخرج بهم إلى البدو حتى يتفصحوا وأنتم أولى بالفصاحة منهم. قال الصولي: ولا نعرف للأمين رواية في الحديث إلا هذا الحديث الواحد حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال رأيت عند الحسين بن الضحاك جماعة من بني هاشم فيهم بعض أولاد المتوكل فسألوه عن الأمين وأدبه فوصف الحسين أدباً كثيراً قيل: فالفقه قال: كان المأمون أفقه منه قيل فالحديث قال ما سمعت منه حديثاً إلا مرة فإنه نعي إليه غلام له مات بمكة ف قال: حدثني أبي عن أبيه عن المنصور عن أبيه عن علي بن عبد اللّه عن ابن عباس عن أبيه سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول " من مات محرماً حشر ملبياً " . قال الثعالبي في لطائف المعارف: كان أبو العيناء يقول لو نشرت زبيدة ضفائرها ما تعلقت إلا بخليفة أو ولي عهد فإن المنصور جدها والسفاح أخو جدها والمهدي عمها والرشيد زوجها والأمين ابنها والمأمون والمعتصم ابنا زوجها والواثق والمتوكل ابنا ابن زوجها وأما ولاة العهود فكثيرة. ونظيرتها من بني أمية عاتكة بنت يزيد بن معاوية يزيد أبوها ومعاوية جدها ومعاوية بن يزيد أخوها ومروان بن الحكم حموها وعبد الملك زوجها ويزيد ابنها والوليد بن يزيد ابن ابنها والوليد وهشام وسليمان بنو زوجها ويزيد وإبراهيم ابنا الوليد عبد الملك ابنا ابن زوجها. المأمون عبد اللّه أبو العباسالمأمون: عبد اللّه أبو العباس بن الرشيد ولد سنة سبعين ومائة في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول وهي الليلة التي مات فيها الهادي واستخلف أبوه وأمه أم ولد اسمها مراجل ماتت في نفاسها به وقرأ العلم في صغره. سمع الحديث من أبيه وهشيم وعباد بن العوام ويوسف بن عطية وأبي معاوية الضرير وإسماعيل بن علية وحجاج الأعور وطبقتهم. وأدبه اليزيدي وجمع الفقهاء من الآفاق وبرع في الفقه والعربية وأيام الناس ولما كبر عني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهر فيها فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن. روى عنه: ولده الفضل ويحيى بن أكثم وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي والأمير عبد اللّه بن طاهر وأحمد بن الحارث الشيعي ودعبل الخزاعي وآخرون. وكان أفضل رجال بني العباس حزماً وعزماً وحلماً وعلماً ورأياً ودهاء وهيبة وشجاعة وسوددا وسماحة وله محاسن وسيرة طويلة لولا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن ولم يل الخلافة من بني العباس أعلم منه وكان فصيحاً مفوهاً وكان يقول معاوية بعمره وعبد الملك بحجاجه وأنا بنفسي وكان ي قال: لبني عباس فاتحة وواسطة وخاتمة الفاتحة السفاح والواسطة المأمون والخاتمة المعتضد وقيل إنه ختم في بعض الرمضانات ثلاثاً وثلاثين ختمة وكان معروفاً بالتشيع وقد حمله ذلك على خلع أخيه المؤتمن والعهد بالخلافة إلى علي الرضى كما سنذكره. قال أبو معشر المنجم: كان المأمون أماراً بالعدل فقيه النفس يعد من كبار العلماء. وعن الرشيد قال إني لأعرف في عبد اللّه حزم المنصور ونسك المهدي وعزة الهادي ولو أشاء أن أنسبه إلى الرابع يعني نفسه لنسبته وقد قدمت محمداً عليه وإني لأعلم أنه منقاد إلى هواه مبذر لما حوته يده يشاركه في رأيه الإماء والنساء ولولا أم جعفر وميل بني هاشم لقدمت عبد اللّه عليه. استقل المأمون بالأمر بعد قتل أخيه سنة ثمان وتسعين وهو بخرسان واكتنى بأبي جعفر. قال الصولي: وكانوا يحبون هذه الكنية لأنها كنية المنصور وكان لها في نفوسهم جلالة وتفاؤل بطول عمر من كني بها كالمنصور والرشيد. وفي سنة إحدى ومائتين خلع أخاه المؤتمن من العهد وجعل ولي العهد من بعده علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق حمله على ذلك إفراطه في التشيع حتى قيل: إنه هم أن يخلع نفسه ويفوض الأمر إليه وهو الذي لقبه الرضى وضرب الدراهم باسمه وزوجه ابنته وكتب إلى الآفاق بذلك وأمر بترك السواد ولبس الخضرة فاشتد ذلك على بني العباس جداً وخرجوا عليه وبايعوا إبراهيم بن المهدي ولقب المبارك فجهز المأمون لقتاله وجرت أمور وحروب وسار المأمون إلى نحو العراق فلم ينشب على الرضى أن مات في سنة ثلاث فكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم أنهم ما نقموا عليه إلا ببيعته لعلي وقد مات فردوا جوابه أغلظ جواب فسار المأمون وبلغ إبراهيم بن المهدي تسلل الناس من عهده فاختفى في ذي الحجة فكانت أيامه سنتين إلا أياماً وبقي في اختفائه مدة ثمان سنين. ووصل المأمون بغداد في صفر سنة أربع فكلمه العباسيون وغيرهم في العود إلى لبس السواد وترك الخضرة فتوقف ثم أجاب إلى ذلك. وأسند الصولي أن بعض آل بيته قالت: إنك على بر أولاد علي بن أبي طالب والأمر فيك أقدر منك على برهم والأمر فيهم فقال إنما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولي ولم يول أحداً من بني هاشم شيئاً ثم عمر ثم عثمان كذلك ثم ولي علي فولى عبد اللّه بن عباس البصرة وعبيد اللّه اليمن ومعبدا مكة وقثم البحرين وما ترك أحداً منهم حتى ولاه شيئاً فكانت هذه منة في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت. وفي سنة عشر تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل وبلغ جهازها ألوفاً كثيرة وقام أبوها بخلع القواد وكلفتهم مدة سبعة عشر يوماً وكتب رقاعاً فيها أسماء ضياع له ونثرها على القواد والعباسيين فمن وقعت يده رقعة باسم ضيعة تسلمها ونثر صينية ملئت جوهراً بين يدي المأمون عند ما زفت إليه. وفي سنة إحدى عشرة أمر المأمون بأن ينادي برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير وأن أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب. وفي سنة اثنتي عشرة أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافاً إلى تفضيل علي على أبي بكر وعمر فاشمأزت النفوس منه وكاد البلد يفتتن ولم يلتئم له من ذلك ما أراد فكف عنه إلى سنة ثمان عشرة. وفي سنة خمس عشرة سار المأمون إلى غزو الروم ففتح حصن قرة عنوة وحصن ماجدة ثم سار إلى دمشق ثم عاد في سنة ست عشرة إلى الروم وافتتح عدة حصون ثم عاد إلى دمشق ثم توجه إلى مصر ودخولها فهو أول من دخلها من الخلفاء العباسيين ثم عاد في سنة سبع عشرة إلى دمشق والروم. وفي سنة ثمان عشر امتحن الناس بالقول في خلق القرآن فكتب إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسن في امتحان العلماء كتاباً يقول فيه وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشوة الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه أهل جهالة باللّه وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وقصور أن يقدروا اللّه حق قدره ويعرفوه كنه معرفته ويفرقوا بينه وبين خلقه وذلك أنهم ساووا بين اللّه وبين ما أنزل من القرآن فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه اللّه ويخترعه وقد قال اللّه تعالى " إنا جعلناه قرآناً عربياً " " الزخرف: 3 " فكل ما جعله اللّه فقد خلقه كما قال اللّه تعالى " وجعل الظلمات والنور " " الأنعام: 1 " وقال " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق " " طه: 99 " فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وقال " أحكمت آياته ثم فصلت " " هود: 1 " واللّه محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه ثم انتسبوا إلى السنة وأظهروا أنهم أهل الحق والجماعة وأن من سواهم أهل الباطل والكفر فاستطالوا بذلك وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير اللّه إلى موافقتهم فتركوا الحق إلى باطلهم واتخذوا دون اللّه وليجة إلى ضلالهم إلى أن قال فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة المنقوصون من التوحيد حظاً وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه والهائل على أعدائه من أهل دين اللّه وأحق من يتهم في صدقه وتطرح شهادته ولا يوثق به من عمي عن رشده وحظه من الإيمان باللّه وبالتوحيد وكان عما سوى ذلك أعمى وأضل سبيلا ولعمر أمير المؤمنين إن أكذب الناس من كذب على اللّه ووحيه وتخرص الباطل ولم يعرف اللّه حق معرفته فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا وامتحنهم فيما يقولون واكشفهم عما يعتقدون في خلقه وإحداثه وأعلمهم أني غير مستعين في عملي ولا واثق بمن لا يوثق بدينه فإذا أقروا بذلك ووافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك. وكتب المأمون إليه أيضاً في أشخاص سبعة أنفس وهم محمد بن سعد كاتب الواقدي ويحيى بن معين وأبو خيثمة وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون وإسماعيل بن داود وإسماعيل بن أبي مسعود وأحمد بن إبراهيم الدورقي فأشخصوا إليه فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه فردهم من الرقة إلى بغداد وسبب طلبهم أنهم توقفوا أولا ثم أجابوه تقية. وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة ففعل ذلك فأجابه طائفة وامتنع آخرون فكان يحيى بن معين وغيره يقولون أجبنا خوفاً من السيف. ثم كتب المأمون كتاباً آخر من جنس الأول إلى إسحاق وأمره بإحضار من امتنع فأحضر جماعة منهم أحمد بن حنبل وبشر بن الوليد الكندي وأبو حسان الزيادي وعلي بن أبي مقاتل والفضل بن غانم وعبيد اللّه بن عمرو القواريري وعلي بن الجعد وسجادة والذيال بن الهيثم وقتيبة بن سعيد وسعدوية الواسطي وإسحاق بن أبي إسرائيل وابن الهرس وابن علية الأكبر ومحمد بن نوح العجلي ويحيى بن عبد الرحمن العمري وأبو نصر التمار وأبو معمر القطيعي ومحمد بن حاتم بن ميمون وغيرهم وعرض عليهم كتاب المأمون فعرضوا ووروا ولم يجيبوا ولم ينكروا فقال لبشر بن الوليد ما تقول قال قد عرفت أمير المؤمنين غير مرة قال والآن فقد تجدد من أمير المؤمنين كتاب قال أقول كلام اللّه قال لم أسألك عن هذا أمخلوق هو قال ما أحسن غير ما قلت لك وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلم فيه ثم قال لعلي بن أبي مقاتل ما تقول قال القرآن كلام اللّه وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا وأجاب أبو حسان الزيادي بنحو من ذلك ثم قال لأحمد بن حنبل ما تقول قال كلام اللّه قال أمخلوق هو قال هو كلام اللّه لا أزيد على هذا ثم امتحن الباقين وكتب بجواباتهم قال ابن البكاء الأكبر أقول القرآن مجعول ومحدث لورود النص بذلك فقال له إسحاق بن إبراهيم والمجعول مخلوق قال نعم قال فالقرآن مخلوق قال لا أقول مخلوق ثم وجه بجواباتهم إلى المأمون فورد عليه كتاب المأمون بلغنا ما أجاب به متصنعة أهل القبلة وملتمسو الرئاسة فيما ليسوا له بأهل فمن لم يجب أنه مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية ويقول الكتاب: فأما ما قال بشر فقد كذب لم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه عهد أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص والقول بأن القرآن مخلوق فادع به إليك فإن تاب فأشهر أمره وإن أصر على شركه ودفع أن يكون القرآن مخلوقاً بكفره وإلحاده فاضرب عنقه وابعث إلينا برأسه وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه فإن أجاب وإلا فاضرب عنقه وأما علي بن أبي مقاتل فقل له ألست القائل لأمير المؤمنين إنك تحلل وتحرم وأما الذيال فأعلمه أنه كان في الطعام الذي يسرقه من الأنبار ما يشغله وأما احمد بن يزيد أبو العوام وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن فأعلمه أنه صبي في عقله لا في سنه جاهل يحسن الجواب إذا أدب ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك وأما أحمد بن حنبل فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى مقالته واستدل على جهله وأفنه بها وأما الفضل بن غانم فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان فيه بمصر وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة يعني ولاية القضاء وأما الزيادي فأعلمه أنه كان منتحلا ولاء أول دعى فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد ابن أبيه وذكر أنه وإنما قيل له الزيادي لأمر من الأمور قال وأما أبو نصر التمار فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره وأما ابن نوح والمعروف بأبي معمر وابن حاتم فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد وإن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في اللّه إلا لإربائهم وما نزل به كتاب اللّه في أمثالهم لاستحل ذلك فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركاً وصاروا للنصارى شبهاً وأما ابن شجاع فأعلمه أنك صاحبه بالأمس والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام وأما سعدويه الواسطي فقل له قبح اللّه رجلا بلغ به التصنع للحديث والحرص على الرئاسة فيه أن يتمنى وقت المحنة وأما المعروف بسجادة وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس العلماء القول بأن القرآن مخلوق فأعلمه أن في شغله بإعداد النوى وحكه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وأما القواريري ففيما تكشف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه وأما يحيى العمري فإن كان من ولد عمر بن الخطاب فجوابه معروف وأما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم فإنه لو كان مقتدياً بمن مضى من سلفه لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه وإنه بعد صبي محتاج إلى أن يعلم وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن فجمجم عنها وتلجلج فيها حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف فأقر ذميماً فانصصه عن إقراره فإن كان مقيماً عليه فأشهر ذلك وأظهره ومن لم يرجع عن شركه ممن سميت بعد بشر وابن المهدي فاحملهم موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم فإن لم يرجعوا فاحملهم على السيف قال فأجابوا كلهم عند ذلك إلا أحمد بن حنبل وسجادة ومحمد ابن نوح والقواريري فأمر بهم إسحاق فقيدوا ثم سألهم من الغد وهم في القيود فأجاب سجادة ثم عاودهم ثالثاً فأجاب القواريري ووجه بأحمد ابن حنبل ومحمد بن نوح إلى الروم.وأظهره ومن لم يرجع عن شركه ممن سميت بعد بشر وابن المهدي فاحملهم موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم فإن لم يرجعوا فاحملهم على السيف قال فأجابوا كلهم عند ذلك إلا أحمد بن حنبل وسجادة ومحمد ابن نوح والقواريري فأمر بهم إسحاق فقيدوا ثم سألهم من الغد وهم في القيود فأجاب سجادة ثم عاودهم ثالثاً فأجاب القواريري ووجه بأحمد ابن حنبل ومحمد بن نوح إلى الروم. ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين فغضب وأمر بإحضارهم إليه فحملوا إليه فبلغتهم وفاة المأمون قبل وصولهم إليه ولطف اللّه بهم وفرج عنهم. وأما المأمون فمرض بالروم فلما اشتد مرضه طلب ابنه العباس ليقدم عليه وهو يظن أنه لا يدركه فأتاه وهو مجهود وقد نفذت الكتب إلى البلدان فيها من عبد اللّه المأمون وأخيه أبي إسحاق الخليفة من بعده بهذا النص فقيل إن ذلك وقع بأمر المأمون وقيل بل كتبوا ذلك وقت غشي أصابه. ومات المأمون يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة بالبدندون من أقصى الروم ونقل إلى طرطوس فدفن بها. قال المسعودي: كان نزل على عين البدندون فأعجبه برد مائها وصفاؤه وطيب حسن الموضع وكثرة الخضرة فرأى فيها سمكة كأنها سبيكة فضة فأعجبته فلم يقدر أحد يسبح في العين لشدة بردها فجعل لمن يخرجها سيفاً فنزل فراش فاصطادها وطلع فاضطربت وفرت إلى الماء فتنضح صدر المأمون ونحره وابتل ثوبه ثم نزل الفراش ثانية فأخذها فقال المأمون تقلى الساعة ثم أخذته رعدة فغطى باللحف وهو يرتعد ويصيح فأوقدت حوله نار فأتى بالسمكة فما ذاقها لشغله بحاله ثم أفاق المأمون من غمرته سأل عن تفسير المكان بالعربي؟ فقيل مد رجليك فتطير به ثم سأل عن اسم البقعة فقيل الرقة وكان فيما عمل من مولده أنه يموت بالرقة فكان يتجنب نزول الرقة فرقاً من الموت فلما سمع هذا من الروم عرف وأيس وقال يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه ولما وردت وفاته بغداد قال أبو سعيد المخزومي: هل رأيت النجوم أغنت عن المأ ... مون أو عن ملكه المأسوس خلفوه بعرصتي طرسوس ... مثل ما خلفوا أباه بطوس قال الثعالبي: لا يعرف أب وابن من الخلفاء أبعد قبراً من الرشيد والمأمون. قال: وكذلك خمسة من أولاد العباس تباعدت قبورهم أشد تباعد ولم ير الناس مثلهم فقبر عبد اللّه بالطائف وعبيد اللّه بالمدينة والفضل بالشام وقثم بسمرقند ومعبد بإفريقية. فصل في نبذ من أخبار المأمون قال نفطويه: حدثنا حامد بن العباس بن الوزير قال كنا بين يدي المأمون فعطس فلم نشمته فقال لم لا تشمتونني قلنا أجللناك يا أمير المؤمنين قال لست من الملوك التي تتجال عن الدعاء. وأخرج ابن عساكر عن أبي محمد اليزيدي قال كنت أؤدب المأمون فأتيته يوماً وهو داخل فوجهت إليه بعض الخدم يعلمه بمكاني فأبطأ ثم وجهت إليه آخر فأبطأ فقلت إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة فقيل أجل ومع هذا إنه إذا فارقك تعرم على خدمه ولقوا منه أذى شديداً فقومه بالأدب فلما خرج أمرت بحمله فضربته سبع درر قال فإنه ليدلك عينيه من البكاء إذ قيل هذا جعفر بن يحيى قد أقبل فأخذ منه منديلا فمسح عينيه من البكاء وجمع ثيابه وقام إلى فرشه فقعد متربعاً ثم قال ليدخل فدخل فقمت عن المجلس وخفت أن يشكوني إليه فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه ثم خرج فجئت فقلت لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر فقال لي يا أبا محمد ما كنت أطلع الرشيد على هذه فكيف بجعفر إني احتاج إلى أدب. وأخرج عن عبد اللّه بن محمد التيمي قال أراد الرشيد سفراً فأمر الناس أن يتأهبوا لذلك وأعلمهم أنه خارج بعد الأسبوع فمضى الأسبوع ولم يخرج فاجتمعوا إلى المأمون فسألوه أن يستعلم ذلك ولم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر فكتب إليه المأمون: يا خير من دبت المطي به ... ومن تقدى بسرجه فرس هل غاية في المسير نعرفها ... أم أمرنا في المسير ملتبس ما علم هذا إلا إلى ملك ... من نوره في الظلام نقتبس إن سرت سار الرشاد متبعاً ... وإن تقف فالرشاد محتبس فقرأها الرشيد فسر بها ووقع فيها يا بني ما أنت والشعر إنما الشعر أرفع حالات الدنى وأقل حالات السرى. تقدى أي استمر. وأخرج عن الأصمعي قال: كان نقش خاتم المأمون عبد اللّه ابن عبد اللّه. وأخرج عن محمد بن عبد اللّه قال لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان بن عفان والمأمون. قلت وقد رددت هذا الحصر فيما تقدم. وأخرج عن ابن عيينة قال جمع المأمون العلماء وجلس للناس فجاءت امرأة فقالت يا أمير المؤمنين مات أخي وخلف ستمائة دينار أعطوني ديناراً وقالوا هذا نصيبك قال فحسب المأمون ثم كسر الفريضة ثم قال لها هذا نصيبك فقال له العلماء كيف علمت يا أمير المؤمنين فقال هذا الرجل خلف ابنتين قالت نعم قال فلهن الثلثان أربعمائة وخلف والدة فلها السدس مائة وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون وباللّه ألك اثنا عشر أخاً قالت نعم قال أصابهم ديناران ديناران وأصابك دينار. وأخرج عن محمد بن حفص الأنماطي قال تغدينا مع المأمون في يوم عيد فوضع على مائدته أكثر من ثلاثمائة لون قال فكلما وضع لون نظر المأمون إليه فقال هذا نافع لكذا ضار لكذا فمن كان منكم صاحب بلغم فليجتنب هذا ومن كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا ومنقصد قلة الغذاء فليقتصر على هذا فقال له يحيى بن أكثم يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته أو في النجوم كنت هرمس في حسابه أو في الفقه كنت علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في علمه أو ذكر السخاء كنت حاتم طيئ في صفته أو صدق الحديث كنت أبا ذر في لهجته أو الكرم فأنت كعب بن أمامة في فعاله أو الوفاء فأنت السموأل بن عاديا في وفائه فسر بهذا الكلام وقال إن الإنسان إنما فضل بعقله ولولا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحم ولا دم أطيب من دم. وأخرج عن يحيى بن أكثم قال ما رأيت أكمل من المأمون بت عنده ليلى فانتبه فقال يا يحيى انظر إيش عند رجلي فنظرت فلم أر شيئاً فقال شمعة فتبادر الفراشون فقال انظروا فنظروا فإذا تحت فراشه حية بطوله فقتلوها فقلت قد انضاف إلي كمال أمير المؤمنين علم الغيب فقال معاذ اللّه ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم ف قال: يا راقد الليل انتبه ... إن الخطوب لها سرى ثقة الفتى بزمانه ... ثقة محللة العرى فانتبهت فعلمت أن قد حدث أمر إما قريب وإما بعيد فتألمت ما قرب فكان ما رأيت. أخرج عن عمارة بن عقيل قال: قال لي ابن أبي حفصة الشاعر أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر فقلت من ذا يكون أفرس منه واللّه إنا للنشد أول البيت فيسبق إلى آخره من غير أن يكون سمعه قال إني أنشدته بيتا أجدت فيه لم أراه تحرك له وهو هذا: أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدين والناس في الدنيا مشاغيل فقلت له: ما زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها في يدها سبحة فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولا عنها وهو المطوق لها ألا قلت كما قال عمك في الوليد: فلا هو في الدنيا يضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله قال ابن عساكر أخبرنا أبو العز بن كادش حدثنا محمد بن الحسن حدثنا المعافى بن زكريا حدثنا محمد بن محمود بن أبي الأزهر الخزاعي حدثنا الزبير بن بكار حدثني النضر بن شميل قال دخلت على المأمون بمرو وعلي أطمار فقال لي يا نضر أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب فقلت يا أمير المؤمنين إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق قال لا ولكنك تتقشف فتجارينا الحديث فقال المأمون حدثني هشيم بن بشير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز " قلت صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم حدثني عوف الأعرابي عن الحسن أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد بالكسر من عوز " وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال السداد لحن يا نضر قلت نعم هاهنا وإنما لحن هشيم وكان لحاناً فقال ما الفرق بينهما قلت السداد بالفتح القصد في السبيل والسداد بالكسر البلغة وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد قال أفتعرف العرب ذلك قلت نعم هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان يقول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فأطرق المأمون ملياً ثم قال قبح اللّه من لا أدب له ثم قال أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب قلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان: تقول لي العيون هاجعة ... أقيم علينا يوما فلم أقم أي الوجوه انتجعت قلت لها ... لأي وجه إلا إلى الحكم متى يقل حاجباً سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم قد كنت أسلمت فيك مقتبلا ... هيهات ادخل فأعطني سلمي أسلمت: أسلفت مقتبلا آخذاً قبيلا أي كفيلا قال أنشدني أنصف بيت قالته العرب قلت قول ابن أبي عروبة المديني: إني وإن كان ابن عمي عاتبا ... لمزاحم من خلفه وورائه ومفيده نصري وإن كان امرأ ... متزحزحاً في أرضه وسمائه وأكون والي سره وأصونه ... حتى يحن إلي وقت أدائه وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه وإذا دعا باسمي ليركب مركبا ... صعبا قعدت له على سيسائه وإذا أتى من وجهه بطريقة ... لم أطلع فيما وراء خبائه وإذا ارتدى ثوباً جميلا لم أقل ... يا ليت أن علي حسن ردائه قال أنشدني أقنع بيت للعرب فأنشدته قول ابن عبدل: إني امرؤ لم أزل وذاك من ... اللّه أديباً أعلم الأدبا أقيم بالدار ما اطمأن بي الدا ... ر وإن كنت نازحاً طربا لا أحتوي خلة الصديق ولا ... أتبع نفسي شيئاً إذا ذهبا أطلب ما يطلب الكريم من ال ... رزق بنفسي وأجمل الطلبا إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعه رغبا والعبد لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن شيئاً إلا إذا ضربا ولم أجد عروة العلائق إلا ال ... دين لما اختبرت والحسبا وقد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعيس رحلا ولا قتبا ويحرم الرزق ذو المطية والرح ... ل ومن لا يزال مغتربا قال: أحسنت يا نضر وأخذ القرطاس فكتب شيئاً لا أدري ما هو ثم قال: كيف تقول افعل من التراب قلت أترب قال ومن الطين قلت طن قال فالكتاب ماذا قلت مترب مطين قال هذه أحسن من الأولى فكتب لي بخمسين ألف درهم ثم أمر الخادم أن يوصلني إلى الفضل بن سهل فمضيت معه فلما قرأ الكتاب قال يا نضر لحنت أمير المؤمنين قلت كلا ولكن هشيم لحانه فتبع أمير المؤمنين لفظه فأمر لي من عنده بثلاثين ألفاً فخرجت إلى منزلي بثمانين ألفاً. وأخرج الخطيب عن محمد بن زياد الأعرابي قال بعث إلى المأمون فصرت إليه وهو في بستان يمشي مع يحيى بن أكثم فرأيتهما موليين فجلست فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة فسمعته يقول ليحيى يا أبا محمد ما أحسن أدبه رآنا موليين فجلس ثم رآنا مقبلين فقام ثم رد علي السلام فقال أخبرني عن قول هند بنت عتبة: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق مشي قطا الهمارق من طارق هذا فنظرت في نسبها فلم أجده فقلت يا أمير المؤمنين ما أعرفه في نسبها فقال إنما أرادت النجم وانتسبت إليه لحسنها من قول اللّه تعالى " والسماء والطارق " " الطارق: 1 " فقلت فأيده أمير المؤمنين فقال أنا بؤبؤ هذا الأمر وابن بؤبؤه ثم رمى إلي بعنبرة كان يقلبها في يده بعتها بخمسة آلاف درهم. وأخرج عن أبي عبادة قال: كان المأمون أحد ملوك الأرض وكان يجب له هذا الاسم على الحقيقة. وأخرج عن ابن أبي دؤاد قال دخل رجل من الخوارج على المأمون فقال له المأمون ما حملك على خلافنا قال آية في كتاب اللّه قال وما هي قال قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون " " المائدة: 44 " قال ألك علم بأنها منزلة قال نعم قال وما دليلك قال إجماع الأمة قال فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل فارض بإجماعهم في التأويل قال صدقت السلام عليك يا أمير المؤمنين. وأخرج ابن عساكر عن محمد بن منصور قال: قال المأمون من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من هو دونه. وأخرج عن سعيد بن مسلم قال: قال المأمون لوددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو ليذهب عنهم الخوف ويخلص السرور إلى قلوبهم. وأخرج عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال وقف رجل بين يدي المأمون قد جنى جناية فقال له واللّه لأقتلنك فقال يا أمير المؤمنين تأن علي فإن الرفق نصف العفو قال وكيف وقد حلفت لأقتلنك فقال لأن تلقى اللّه حانثاً خير من أن تلقاه قاتلا فخلى سبيله. وأخرج الخطيب عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح قال بت عند المأمون ليلة فنام القيم الذي كان يصلح السراج فقام المأمون وأصلحه وسمعته يقول ربما أكون في المتوضأ فيشتمني الخدام ويفترون علي ولا يدرون أنه أسمع فأعفو عنهم وأخرج الصولي عن عبد اللّه بن البواب قال كان المأمون يحلم حتى يغيظنا وجلس مرة يستاك على دجلة من وراء ستر ونحن قيام بين يديه فمر ملاح وهو يقول أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه قال فواللّه ما زاد على أن تبسم وقال لنا ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل. وأخرج الخطيب عن يحيى بن أكثم قال ما رأيت أكرم من المأمون بت عنده ليلة فأخذه سعال فرأيته يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه. وكان يقول أول العدل أن يعدل الرجل في بطانته ثم الذين يلونهم حتى يبلغ إلى الطبقة السفلى. وأخرج ابن عساكر عن يحيى بن خالد البرمكي قال: قال لي المأمون يا يحيى اغتنم قضاء حوائج الناس فإن الفلك أدور والدهر أجور من أن يترك لأحد حالا أو يبقى لأحد نعمة. وأخرج عن عبد اللّه بن محمد الزهري قال: قال المأمون غلبة الحجة احب إلي من غلبة القدرة لأن غلبة القدرة تزول بزوالها وغلبة الحجة لا يزيلها شيء. واخرج عن العتبي قال سمعت المأمون يقول من لم يحمدك على حسن النية لم يشكر على جميل الفعل. وأخرج عن أبي العالية قال سمعت المأمون يقول ما أقبح اللجاجة بالسلطان وأقبح من ذلك الضجر من القضاة قبل التفهم وأقبح منه سخافة الفقهاء بالدين وأقبح منه البخل بالأغنياء والمزاح بالشيوخ والكسل بالشباب والجبن بالمقاتل. وأخرج عن علي بن عبد الرحيم المروزي قال قال المأمون أظلم الناس لنفسه من يتقرب إلى من يبعده ويتواضع لمن لا يكرمه ويقبل مدح من لا يعرفه. وأخرج عن مخارق قال أنشدت المأمون قول أبي العتاهية: وإني لمحتاج إلى ظل صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه فقال لي أعد فأعدت سبع مرات فقال لي يا مخارق خذ منى الخلافة وأعطني هذا الصاحب. وأخرج عن هدبة بن خالد قال حضرت غداء المأمون فلما رفعت المائدة جعلت ألتقط ما في الأرض فنظر إلي المأمون فقال أما شبعت؟ قلت بلى ولكن حدثني حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول " من أكل ما تحت مائدة أمن من الفقر " فأمر لي بألف دينار. وأخرج عن الحسن بن عبدوس الصفار قال لما تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل أهدى الناس إلى الحسن فأهدى له رجل فقير مزودين في أحدهما ملح وفي الآخر أشنان وكتب إليه جعلت فداك خفة البضاعة قصرت ببعد الهمة وكرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا ذكر لي فيها فوجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته وبالمختوم به لطيبه ونظافته فأخذ الحسن المزودين ودخل بهما على المأمون فاستحسن ذلك وأمر بهما ففرغا وملئا دنانير. وأخرج الصولي عن محمد بن القاسم قال: سمعت المأمون يقول أنا واللّه ألذ العفو حتى أخاف أن لا أوجر عليه ولو علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب. وأخرج الخطيب عن المنصور البرمكي قال للرشيد جارية وكان المأمون يهواها فبينما هي تصب على الرشيد من إبريق معها والمأمون خلفه إذ أشار إليها بقبلة فزجرته بحاجبها وأبطأت عن الصب فنظر إليها هارون الرشيد فقال ما هذا؟ فتلكأت عليه فقال إن لم تخبريني لأقتلنك فقالت أشار إلي عبد اللّه بقبلة فالتفت إليه وإذا هو قد نزل به من الحياء والرعب ما رحمه منه فاعتنقه وقال أتحبها؟ قال نعم قال: قم فادخل بها في تلك القبة فقام فلما خرج قال له قل في هذا شعراً ف قال: ظبي كنيت بطرفي ... عن الضمير إليه قبلته من بعيد ... فاعتل من شفتيه ورد أحسن رد ... بالكسر من حاجبيه فما برحت مكاني ... حتى قدرت عليه وأخرج ابن عساكر عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: سمعت بعض النخاسين يقول عرضت على المأمون جارية شاعرة فصيحة متأدبة شطرنجية فساومته في ثمنها بألفي دينار فقال المأمون إن هي أجازت بيتاً أقوله ببيت من عندها اشتريتها بما تقول وزدتك فأنشد المأمون: ماذا تقولين فيمن شفه أرق ... من جهد حبك حتى صار حيرانا؟ فأجازته: إذا وجدنا محباً قد أضر به ... داء الصبابة أوليناه إحسانا وأخرج الصولي عن الحسين الخليع قال لما غضب على المأمون ومنعني رزقاً لي عملت قصيدة أمتدحه بها ودفعتها إلى من أوصلها إليه وأولها: أجرني فإني قد ظمئت إلى الوعد ... متى تنجز الوعد المؤكد بالعهد أعيذك من خلف الملوك وقد ترى ... تقطيع أنفاسي عليك من الوجد أيبخل فرد الحسن عني بنائل ... قليل وقد أفردته بهوى فرد إلى أن قال: رأى اللّه عبد اللّه خير عباده ... فملكه واللّه أعلم بالعبد ألا إنما المأمون للناس عصمة ... مفرقة بين الضلالة والرشد فقال المأمون: قد أحسن إلا أنه القائل: أعيناي جودا وابكيا لي محمداً ... ولا تذخرا دمعاً عليه وأسعدا فلا تمت الأشياء بعد محمد ... ولا زال شمل الملك فيه مبددا ولا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال في الدنيا طريداً مشردا فهذا بذاك ولا شيء له عندنا فقال له الحاجب فأين عادة أمير المؤمنين في العفو فقال أما هذا فنعم فأمر له بجائزة ورد رزقه عليه. وأخرج عن علية عن حماد بن إسحاق قال قدم المأمون بغداد جلس للمظالم كل يوم أحد إلى الظهر. وأخرج عن محمد بن العباس قال كان المأمون يحب لعب الشطرنج شديداً ويقول هذا يشحذ الذهن واقترح فيها أشياء وكان يقول لا أسمعن أحداً يقول تعال حتى نلعب ولكن يقول نتداول أو نتناقل ولم يكن حاذقاً بها. وكان يقول: أنا أدبر الدنيا فأتسع لذلك وأضيق عن تدبير شبرين في شبرين. وأخرج عن ابن أبي سعيد قال هجا دعبل المأمون ف قال: إني من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرفتك بمقعد شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد فلما سمع المأمون لم يزد على أن قال ما أقل حياء دعبل متى كنت خاملا وقد نشأت في حجر الخلفاء ولم يعاقبه. وأخرج من طرق عدة أن المأمون كان يشرب النبيذ. وأخرج عن الجاحظ قال: كان أصحاب المأمون يزعمون أن لون وجهه وجسده لون واحد سوى ساقيه فإنهما صفراوان كأنهما طليتا بالزعفران. وأخرج عن إسحاق الموصلي قال: قال المأمون ألذ الغناء ما طرب له السامع خطأ كان أو صواباً. وأخرج عن علي بن الحسين قال كان محمد بن حامد واقفاً على رأس المأمون وهو يشرب فاندفعت عريب فغنت بشعر النابغة الجعدي: كحاشية البرد اليماني المسهم فأنكر المأمون أن لا تكون ابتدأت بشيء فأمسك القوم فقال نفيت من الرشيد لئن لم أصدق عن هذا لأقررن بالضرب الوجيع عليه ثم لأعاقبن عليه أشد العقوبة ولئن صدقت لأبلغن الصادق أمله فقال محمد ابن حامد أنا يا سيدي أومأت إليها بقبلة فقال الآن جاء الحق صدقت أتحب أن أزوجك بها قال نعم فقال المأمون الحمد اللّه رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله الطيبين لقد زوجت محمد بن حامد عريب مولاتي ومهرتها عنه أربعمائة درهم وعلى بركة اللّه وسنة نبيه صلى اللّه عليه وسلم خذ بيدها فقامت معه فصار المعتصم إلى الدهليز فقال له الدلالة قال لك ذاك قال دلالتي أن تغنيني الليلة فلم تزل تغنيه إلى السحر وابن حامد على الباب ثم خرجت فأخذت بيده ومضت عليه. وأخرج عن ابن أبي دؤاد قال أهدى ملك الروم إلى المأمون هدية فيها مائتا رطل مسك ومائتا جلد سمور فقال أضعفوها له ليعلم عز الإسلام. وأخرج عن إبراهيم بن الحسن قال قال المدائني للمأمون إن معاوية قال: بنو هاشم أسود وأجداء ونحن أكثر سيداً فقال المأمون إنه قد أقر وادعى فهو في ادعائه خصم وفي إقراره مخصوم. وأخرج عن أبي أمامة قال حدثني بعض أصحابنا أن أحمد بن أبى خالد قرأ القصص يوماً على المأمون فقال فلان الثريدي وهو اليزيدي فضحك المأمون وقال يا غلام هات الطعام لأبي العباس فإنه أصبح جائعاً فاستحيى وقال ما أنا بجائع ولكن صاحب القصة أحمق نقط الياء بنقط الثاء فقال على ذلك فجاءه بطعام فأكل حتى انتهى ثم عاد فمر في قصة فلان الحمصي فقال الخبيصي فضحك المأمون وقال يا غلام جامة فيها خبيص فقال إن صاحب القصة كان أحمق فتح الميم فصارت كأنها سنتان فضحك وقال لولا حمقهما لبقيت جائعاً. وأخرج عن أبي عباد قال: ما أظن اللّه خلق نفساً هي أنبل من نفس المأمون ولا أكرم. وكان قد عرف شره أحمد بن أبي خالد فكان إذا وجهه في حاجة غداه قبل أن يرسله. ورفع إليه في قصة إن رأى أمير المؤمنين أن يجري على ابن أبى خالد نزلا فإنه يعين الظالم بأكله فأجرى عليه المأمون ألف درهم كل يوم لمائدته. وكان مع هذا يشره إلى طعام الناس فقال دعبل الشاعر: شكرنا الخليفة إجراءه ... على ابن أبي خالد نزله فكف أذاه عن المسلمين ... وصير في بيته شغله وأخرج عن ابن أبي دؤاد قال سمعت المأمون يقول لرجل إنما هو غدر أو يمن قد وهبتهما لك ولا تزال تسيئ وأحسن وتذنب وأغفر حتى يكون العفو هو الذي يصلحك. وأخرج عن الجاحظ قال قال ثمامة بن أشرس ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيي البرمكي والمأمون. وأخرج السلفي في الطيوريات عن حفص المدايني قال أتى المأمون بأسود قد ادعى النبوة وقال أنا موسى بن عمران فقال له المأمون إن موسى بن عمران أخرج يده من جيبه بيضاء فأخرج يدك بيضاء حتى أومن بك فقال الأسود إنما جعل ذلك لموسى لما قال له فرعون أنا ربكم الأعلى فقل أنت كما قال فرعون حتى أخرج يدي بيضاء وإلا لم تبيض. وأخرج أيضاً أن المأمون قال ما انفتق علي فتق إلا وجدت سببه جور العمال. وأخرج ابن عساكر عن يحيى بن أكثم قال كان المأمون يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء فجاء رجل عليه ثياب قد شمرها ونعله في يده فوقف على طرف البساط وقال السلام عليكم فرد عليه المأمون فقال أخبرني عن هذا المجلس الذي أنت فيه جلسته باجتماع الأمة أم بالمغالبة والقهر قال لا بهذا ولا بهذا بل كان يتولى أمر المسلمين من عقد لي ولأخي فلما صار الأمر إلي علمت أني محتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في المشرق والمغرب على الرضا بي رأيت أني متى خليت الأمر اضطرب حبل الإسلام ومرج أمرهم وتنازعوا وبطل الجهاد والحج وانقطعت السبل فقمت حياطة للمسلمين إلى أن يجمعوا على رجل يرضون به فأسلم إليه الأمر فمتى اتفقوا على رجل خرجت له من الأمر فقال السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته وذهب. وأخرج عن محمد بن المنذر الكندي قال حج الرشيد فدخل الكوفة فطلب المحدثين فلم يتخلف إلا عبد اللّه بن إدريس وعيسى بن يونس فبعث إليهما الأمين والمأمون فحدثهما ابن إدريس بمائة حديث فقال المأمون يا عم أتأذني لي أن أعيدها من حفظي قال نعم افعل فأعادها فعجب من حفظه. وقال بعضهم استخرج المأمون كتب الفلاسفة واليونان من جزيرة قبرس هكذا ذكره الذهبي مختصراً. وقال الفاكهي أول من كسا الكعبة الديباج الأبيض المأمون واستمر ذلك بعده إلى أيام الخليفة الناصر إلا أن محمود بن سبكتين كساها في خلال هذه المدة ديباجاً أصفر. ومن كلام المأمون لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال وقال أعيت الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يدبر وإذا أدبر أن يقبل وقال أحسن المجالس ما نظر فيه إلى الناس وقال الناس ثلاثة فمنهم مثل الغذاء لا بد منه على كل حال ومنهم كالدواء يحتاج إليه في حال المرض ومنهم كالداء مكروه على كل حال. وقال ما أعياني جواب أحد مثل ما أعياني جواب رجل من أهل الكوفة قدمه أهلها فشكا عاملهم فقلت كذبت بل هو رجل عادل فقال صدق أمير المؤمنين وكذبت أنا قد خصصتنا به في هذه البلدة دون باقي البلاد خذه واستعمله على بلد آخر يشملهم من عدله وإنصافه مثل الذي شملنا فقلت قم في غير حفظ اللّه عزلته عنكم. ومن شعر المأمون: لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي نموم لسري مذيع فلولا دموعي كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم يكن لي دموع وله في الشطرنج: أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين إلفين معروفين بالكرم تذاكرا الحرب فاحتلالها حيلا ... من غير أن يأثما فيها بسفك دم هذا يغير على هذا وذاك على ... هذا يغير وعين الحزم لم تنم فانظر إلى فطن جالت بمعرفة ... في عسكرين بلا طبل ولا علم وأخرج الصولي عن محمد بن عمرو قال دخل أصرم بن حميد على المأمون وعنده المعتصم فقال يا أصرم صفني وأخي ولا تفضل واحداً منا على صاحبه فأنشد بعد قليل: رأيت سفينة تجرى ببحر ... إلى بحرين دونهما البحور إلى ملكين ضوؤهما جميعاً ... سواء حار دونهما البصير كلا الملكين يشبه ذاك هذا ... وذا هذا وذاك وذا أمير فإن يك ذا وذاك هذا ... فلي في ذا وذاك معاً سرور رواق المجد ممدود على ذا ... وهذا وجهه بدر منير ذكر أحاديث من رواية المأمون: قال البهيقي سمعت الإمام أبا عبد اللّه الحاكم قال سمعت أبا أحمد الصيرفي وسمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسي يقول صليت العصر في الرصافة خلف المأمون في المقصورة يوم عرفة فلما سلم كبر الناس فرأيت المأمون خلف الدرابزين وهو يقول لا يا غوغاء لا يا غوغاء غدا سنة أبي القاسم صلى اللّه عليه وسلم فلما كان يوم الأضحى حضرت إلى الصلاة فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال اللّه أكبر كبيراً والحمد للّه كثيراً وسبحان اللّه بكرة وأصيلا حدثنا هشيم بن بشير وحدثنا ابن شبرمة عن الشعبي عن البراء بن عازب عن أبي بردة بن دينار قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه ومن ذبح بعد أن يصلي فقد أصاب السنة " اللّه أكبر كبيراً والحمد للّه كثيراً وسبحان اللّه بكرة وأصيلا اللّهم أصلحني واستصلحني وأصلح على يدي قال الحاكم هذا حديث لم نكتبه إلا عن أبي أحمد وهو عندنا ثقة مأمون ولم يزل في القلب منه شيء حتى ذاكرت به أبا الحسن الدارقطني فقال هذه الرواية عندنا صحيحة عن جعفر فقلت هل من متابع فيه لشيخنا أبي أحمد فقال نعم ثم قال حدثني الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات حدثني أبو الحسين محمد بن عبد الرحمن الروز باذي حدثنا محمد بن عبد الملك التاريخي قال الدارقطني وما فيهم إلا ثقة مأمون حدثنا جعفر الطيالسي حدثنا يحيى بن معين قال سمعت المأمون فذكر الخطبة والحديث. وقال الصولي: حدثنا جعفر الطيالسي حدثنا يحيى بن معين قال خطبنا المأمون ببغداد يوم الجمعة ووافق يوم عرفة فلما سلم كبر الناس فأنكر التكبير ثم وثب حتى أخذ بخشب المقصورة وقال يا غوغاء ما هذه التكبير في غير أيامه حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة والتكبير في غد ظهراً عند انقضاء التلبية إن شاء اللّه تعالى. وقال الصولي: حدثنا أبو القاسم البغوي حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال كنا عند المأمون فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " الخلق عيال اللّه فأحب عباد اللّه إلى اللّه عز وجل أنفعهم لعياله " فصاح المأمون وقال اسكت أنا أعلم بالحديث منك حدثنيه يوسف بن عطية الصفار عن ثابت عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال " الخلق عيال اللّه فأحب عباد اللّه أنفعهم لعياله " أخرجه من هذا الطريق ابن عساكر و أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده غيره من طرق عن يوسف بن عطية. وقال الصولي حدثنا المسيح بن حاتم العكلي حدثنا عبد الجبار بن عبد اللّه قال سمعت المأمون يخطب فذكر في خطبته الحياء فوصفه ومدحه ثم قال حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن عن أبي بكرة وعمران بن حصين قالا قال رسول صلى اللّه عليه وسلم " الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاءة من الجفاء والجفاء في النار " أخرجه ابن عساكر من طريق يحيى بن أكثم عن المأمون. وقال الحاكم حدثنا الحسين بن تميم حدثنا الحسين بن فهم حدثنا يحيى بن أكثم القاضي قال: قال لي المأمون يوماً يا يحيى إني أريد أن أحدث فقلت ومن أولى بهذا من أمير المؤمنين فقال ضعوا لي منبراً فصعد وحدث فأول حديث حدثنا به عن هشيم عن أبي الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال " امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار " ثم حدث بنحو من ثلاثين حديثاً ثم نزل فقال لي يا يحيى كيف رأيت مجلسنا قلت أجل مجلس يا أمير المؤمنين تفقه الخاصة والعامة فقال لا وحياتك ما رأيت لكم حلاوة وإنما المجلس لأصحاب الخلقان والمحابر. وقال الخطيب حدثنا أبو الحسن علي بن القاسم الشاهد حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن عثمان حدثنا الحسين بن عبيد اللّه الأبزاري حدثنا إبراهيم ابن سعيد الجوهري قال لما فتح المأمون مصر قال له قائل الحمد اللّه يا أمير المؤمنين الذي كفاك أمر عدوك وأدان لك العراقين والشامات ومصر وأنت ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت له ويحك إلا أنه بقيت لي خلة وهو أن أجلس في مجلس ويستملي يحيى فيقول لي من ذكرت رضى اللّه عنك قأقول حدثنا الحمادان حماد بن سلمة وحماد بن زيد قالا حدثنا ثابت البناني عن أنس ابن مالك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال " من عال ابنتين أو ثلاثاً أو أختين أو ثلاثاً حتى يمتن أو يموت عنهن كان معي كهاتين في الجنة " وأشار بالمسبحة والوسطى. قال الخطيب في هذا الخبر غلط فاحش ويشبه أن يكون المأمون رواه عن رجل عن الحمادين وذلك أن مولد المأمون سنة سبعين ومات حماد بن سلمة في سنة سبع وستين قبل مولده بثلاث سنين وأما حماد بن زيد فمات في تسع وسبعين. وقال الحاكم حدثنا بن يعقوب بن إسماعيل الحافظ حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال وقف المأمون يوماً للأذان ونحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه رجل غريب بيده محبرة فقال يا أمير المؤمنين صاحب حديث منقطع به فقال له المأمون إيش تحفظ في باب كذا فلم يذكر فيه شيئاً فما زال المأمون يقول حدثنا هشيم وحدثنا الحجاج وحدثنا فلان حتى ذكر الباب ثم سأله عن باب ثان فلم يذكر فيه شيئاً فذكره المأمون ثم نظر إلى أصحابه فقال يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول أنا من أصحاب الحديث أعطوه ثلاثة دراهم. وقال ابن عساكر: حدثنا محمد بن إبراهيم الغزي حدثنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن السري التفليسي وحدثنا أبو عبد الرحمن السلمي أخبرني عبيد اللّه ابن محمد الزاهد العكبري حدثنا عبد اللّه بن محمد بن مسيح حدثنا محمد بن المغلس حدثنا محمد بن السري القنطري حدثنا علي بن عبد اللّه قال قال يحيى بن أكثم بت ليلة عند المأمون فانتبهت في جوف الليل وأنا عطشان فتقلبت فقال يا يحيى ما شأنك قلت عطشان فوثب من مرقده فجاءني بكوز من ماء فقلت يا أمير المؤمنين ألا دعوت بخادم ألا دعوت بغلام قال لا حدثني أبي عن أبيه عن جده عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " سيد القوم خادمهم " . وقال الخطيب حدثنا الحسن بن عثمان الواعظ حدثنا جعفر بن محمد بن الحاكم الواسطي حدثني أحمد بن الحسن الكسائي حدثنا سليمان بن الفضل النهرواني حدثني يحيى بن أكثم فذكر نحوه إلا أنه قال حدثني الرشيد حدثني المهدي حدثني المنصور عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس حدثني حرير ابن عبد اللّه سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول " سيد القوم خادمهم " . وقال ابن عساكر حدثنا أبو الحسن على ابن أحمد حدثنا القاضي أبو المظفر هناد بن إبراهيم النسفي حدثنا محمد بن أحمد ابن محمد بن سليمان الغنجار حدثنا أبو أحمد علي بن محمد بن عبد اللّه المروزي حدثنا أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى بن عبد الرحمن الكاتب حدثني محمد بن قدامة بن إسماعيل صاحب النضر بن شميل حدثنا أبو حذيفة البخاري قال: سمعت المأمون أمير المؤمنين يحدث عن أبيه عن جده عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال " مولى القوم منهم " قال محمد بن قدامة فبلغ المأمون أن أبا حذيفة حدث بهذا عنه فأمر له بعشرة آلاف درهم. وفي أيام المأمون أحصيت أولاد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين ذكر وأنثى وذلك في سنة مائتين. وفي أيامه مات من الأعلام: سفيان بن عيينة والإمام الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ويونس بن بكير راوي المغازي وأبو مطيع البلخي صاحب أبي حنيفة رحمه اللّه ومعروف الكرخي الزاهد وإسحاق بن بشر صاحب كتاب المبتدأ وإسحاق بن الفرات قاضي مصر من أجله أصحاب مالك وأبو عمرو الشيباني اللغوي وأشهب صاحب مالك والحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب أبى حنيفة وحماد بن أسامة الحافظ وروح بن عبادة وزيد بن الحباب وأبو داود الطيالسي والغازي ابن قيس من أصحاب مالك وأبو سليمان الداراني الزاهد المشهور وعلي الرضى ابن موسى الكاظم والفراء إمام العربية وقتيبة بن مهران صاحب الإمالة وقطرب النحوي والواقدي وأبو عبيدة معمر بن المثنى والنضر بن شميل والسيدة نفيسة وهشام أحد النحاة الكوفيين واليزيدي ويزيد بن هارون ويعقوب بن إسحاق الحضرمي قارئ البصرة وعبد الرزاق وأبو العتاهية الشاعر وأسد السنة وأبو عاصم النبيل والفريابي وعبد الملك بن الماجشون وعبد اللّه بن الحكم وأبو زيد الأنصاري صاحب العربية والأصمعي وخلائق آخرون. المعتصم باللّه أبو إسحاق محمد بن الرشيدالمعتصم باللّه أبو إسحاق محمد بن الرشيد ولد سنة ثمانين ومائة كذا قال الذهبي وقال الصولي: في شعبان سنة ثمان وسبعين. وأمه أم ولد من مولدات الكوفة اسمها ماردة وكانت أحظى الناس عند الرشيد. روى عن أبيه وأخيه المأمون وروى عنه إسحاق الموصلي وحمدون ابن إسماعيل وآخرون. وكان ذا شجاعة وقوة وهمة وكان عرياً من العلم. فروى الصولي عن محمد بن سعيد عن إبراهيم بن محمد الهاشمي قال كان مع المعتصم غلام في الكتاب يتعلم معه فمات الغلام فقال له الرشيد أبوه يا محمد مات غلامك قال نعم سيدي واستراح من الكتاب ف قال: وإن الكتاب ليبلغ منك هذا دعوه لا تعلموه قال فكان يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة. وقال الذهبي: كان المعتصم من أعظم الخلفاء وأهيبهم لولا ما شان سؤدده بامتحان العلماء بخلق القرآن. وقال نفطويه والصولي للمعتصم مناقب وكان يقال له المثمن لأنه ثامن الخلفاء من بني العباس والثامن من ولد العباس وثامن أولاد الرشيد وملك سنة ثمان عشرة وملك ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام ومولده سنة ثمان وسبعين وعاش ثمانياً وأربعين سنة وطالعه العقرب وهو ثامن برج وفتح ثمانية فتوح وقتل ثمانية أعداء وخلف ثمانية أولاد ومن الإناث كذلك ومات لثمان بقين من ربيع الأول. وله محاسن وكلمات فصيحة وشعر لا بأس به غير أنه إذا غضب لا يبالي من قتل. وقال ابن أبي دؤاد كان المعتصم يخرج ساعده إلي ويقول يا أبا عبد اللّه عض ساعدي بأكثر قوتك فأمتنع فيقول إنه لا يضرني فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلا عن الأسنان. وقال نفطويه: وكان من أشد الناس بطشاً كان يجعل زند الرجل بين إصبعيه فيكسره. وقال غيره هو أول خليفة أدخل الأتراك الديوان. وكان يتشبه بملوك الأعاجم ويمشي مشيهم وبلغت غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً. وقال ابن يونس: هجا دعبل المعتصم ثم نذر به فخاف وهرب حتى قدم مصر ثم خرج إلى المغرب والأبيات التي هجاه بها هذه: ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... ولم يأتنا في ثامن منهم الكتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... غداة ثووا فيها وثامنهم كلب وإني لأزهى كلبهم عنك رغبة ... لأنك ذو ذنب وليس له ذنب لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم ... وصيف وأشناس وقد عظم الخطب وإني لأرجو أن ترى من مغيبها ... مطالع الشمس قد يغص بها الشرب وهمك تركي عليه مهانة ... فأنت له أم وأنت له أب بويع له بالخلافة بعد المأمون وفي شهر رجب سنة ثمان عشرة ومائتين فسلك ما كان المأمون عليه وختم به عمره من امتحان الناس بخلق القرآن فكتب إلى البلاد بذلك وأمر المعلمين أن يعلموا الصبيان ذلك وقاسى الناس منه مشقة في ذلك وقتل عليه خلقاً من العلماء وضرب الإمام أحمد بن حنبل وكان ضربه في سنة عشرين. وفيها تحول المعتصم من بغداد وبني سر من رأى وذلك أنه اعتنى باقتناء الترك فبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم وبذل فيهم الأموال وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب فكانوا يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس وضاقت بهم البلد فاجتمع إليه أهل بغداد وقالوا إن لم تخرج عنا بجندك حاربناك قال وكيف تحاربونني قالوا بسهام الأسحار قال لا طاقة لي بذلك فكان سبب بنائه سر من رأى وتحوله إليها. وفي سنة ثلاث وعشرين غزا المعتصم الروم فأنكاهم نكاية عظيمة لم يسمع بمثلها الخليفة وشتت جموعهم وخرب ديارهم وفتح عمورية بالسيف وقتل منها ثلاثين ألفاً وسبى مثلهم وكان لما تجهز لغزوها حكم المنجمون أن ذلك طالع نحس وأنه يكسر فكان من نصره وظفره ما لم يخف فقال في ذلك أبو تمام قصيدته المشهورة وهي هذه: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب أين الرواية أم أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب تخرصاً وأحاديثاً ملفقة ... ليست بعجم إذا عدت ولا عرب مات المعتصم يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين وكان قد ذلل العدو بالنواحي ويقال إنه قال في مرض موته " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " " الأنعام: 44 " ولما احتضر جعل يقول: ذهبت الحيلة فليس حيلة وقيل جعل يقول أوخذ من بين هذا الخلق وقيل إنه قال اللّهم إنك تعلم أني أخافك من قبلي ولا أخافك من قبلك وأرجوك من قبلك ولا أرجوك من قبلي ومن شعره: قرب النحام واعجل يا غلام ... واطرح السرج عليه واللجام أعلم الأتراك أني خائض ... لجة الموت فمن شاء أقام وكان قد عزم على المسير إلى أقصى الغرب ليملك البلاد التي لم تدخل في ملك بني العباس لاستيلاء الأموي عليها فروى الصولي عن أحمد بن الخصيب قال: قال لي المعتصم إن بني أمية ملكوا وما لأحد منا ملك وملكنا نحن ولهم بالأندلس هذا الأموي فقدر ما يحتاج إليه لمحاربته وشرع في ذلك فاشتدت علته ومات. وقال الصولي سمعت المغيرة بن محمد يقول يقال إنه لم يجتمع الملوك باب أحد قط اجتماعها بباب المعتصم ولا ظفر ملك قط كظفره أسر ملك أذربيجان وملك طبرستان وملك استيسان وملك الشياصح وملك فرغانة وملك طخارستان وملك الصفة وملك كابل. وقال الصولي: وكان نقش خاتمه الحمد اللّه الذي ليس كمثله شيء. ومن أخبار المعتصم: أخرج الصولي عن أحمد اليزيدي قال لما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان وجلس فيه دخل عليه الناس فعمل إسحاق الموصلي قصيدة فيه ما سمع أحد بمثلها في حسنها إلا أنه افتتحها بقوله: يا دار غيرك البلى ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك فتطير المعتصم وتطير الناس وتغامزوا وتعجبوا كيف ذهب هذا على إسحاق مع فهمه وعلمه وطول خدمته للملوك وخرب المعتصم القصر بعد ذلك. وأخرج عن إبراهيم بن العباس قال: كان المعتصم إذا تكلم بلغ ما أراد وزاد عليه. وكان أول من ثرد الطعام وكثره حتى بلغ ألف دينار في اليوم. وأخرج عن أبي العيناء قال: سمعت المعتصم يقول إذا نصر الهوى بطل الرأي. وأخرج عن إسحاق قال: كان المعتصم يقول من طلب الحق بما له وعليه أدركه. وأخرج عن محمد بن عمر الرومي قال: كان للمعتصم غلام يقال له عجيب لم ير الناس مثله قط وكان مشغوفاً به فعمل فيه أبياتاً ثم دعاني و قال: قد علمت أني دون أخوتي في الأدب لحب أمير المؤمنين لي وميلي إلى اللعب وأنا حدث فلم أنل ما نالوا وقد عملت في عجيب أبياتاً فإن كانت حسنة وإلا فاصدقني حتى أكتمها ثم أنشد شعراً: لقد رأيت عجيبا ... يحكي الغزال الربيبا الوجه منه كبدر ... والقد يحكي القضيبا وإن تناول سيفاً ... رأيت ليثاً حريبا وإن رمى بسهام ... كان المجيد المصيبا طبيب ما بي من الحب ... فلا عدمت الطبيبا إني هويت عجيباً ... هوى أراه عجيبا فحلفت له بأيمان البيعة أنه شعر مليح من أشعار الخلفاء الذين ليسوا بشعراء فطابت نفسه وأمر لي بخمسين ألف درهم. وقال الصولي: حدثنا عبد الواحد بن العباس الرياشي قال: كتب ملك الروم إلى المعتصم كتاباً يهدد فيه فلما قرئ عليه قال للكاتب اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم أما بعد فقد قرأت كتابك وسمعت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار. وأخرج الصولي عن الفضل اليزيدي قال وجه المعتصم إلى الشعراء ببابه من منكم يحسن أن يقول فينا كما قال منصور النمري في الرشيد: إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك اللّه منها حيث تجتمع من لم يكن بأمين اللّه معتصما ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع إن أخلف القطر لم تخلف فواضله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع فقال أبو وهيب فينا من يقول خيراً منه فيك و قال: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر تحكي أفاعيله في كل نائبة ... الليث والغيث والصمصامة الذكر ولما مات رثاه وزيره محمد بن عبد الملك جامعاً بين العزاء والهناء ف قال: قد قلت إذ غيبوك واصطفقت ... عليك أيد بالتراب والطين اذهب فنعم الحفيظ كنت على ال ... دنيا ونعم الظهير للدين ما يجبر اللّه أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون حديث رواه المعتصم قال الصولي: حدثنا العلائي حدثنا عبد الملك الضحاك حدثني هاشم بن محمد حدثني المعتصم قال حدثني أبي الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن أبيه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نظر إلى قوم من بني فلان يتبخترون في مشيهم فعرف الغضب في وجهه ثم قرأ " والشجرة الملعونة في القرآن " " الإسراء: 60 " فقيل له أي شجرة هي يا رسول اللّه حتى نجتثها فقال ليست بشجرة نبات إنما هم بنو أمية إذا ملكوا جاروا وإذا أؤتمنوا خانوا وضرب بيده على ظهر عمه العباس ف قال: يخرج اللّه من ظهرك يا عم رجلا يكون هلاكهم على يده " . قلت: الحديث موضوع وآفته العلائي. وقال ابن عساكر: أنبأنا أبو القاسم على بن إبراهيم حدثنا عبد العزيز ابن أحمد حدثني علي بن الحسين الحافظ حدثنا أبو القاسم عبد اللّه بن أحمد ابن طالب البغدادي حدثنا ابن خلاد حدثنا أحمد بن محمد بن نصر الضبيعي حدثنا إسحاق بن يحيى بن معاذ قال كنت عند المعتصم أعوده فقلت أنت في عافية فقال كيف وقد سمعت الرشيد يحدث عن أبيه المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس مرفوعاً " من احتجم في يوم الخميس فمرض فيه مات فيه " . قال ابن عساكر: سقط منه رجلان بين ابن الضبيعي وإسحاق ثم أخرجه من طريق أخرى عن الضبيعي عن أحمد بن محمد الليث عن منصور بن النضر عن إسحاق. وممن مات في أيام المعتصم من الأعلام الحميدي شيخ البخاري وأبو نعيم الفضل بن دكين وأبو غسان المهدي وقالوا المقرئ وخلاد المقرئ وآدم ابن أبي إياس وعفان والقعنبي وعبدان المروزي وعبد اللّه بن صالح كاتب الليث وإبراهيم بن المهدي وسليمان بن حرب وعلي بن محمد المدائني وأبو عبيد القاسم بن سلام وقرة بن حبيب وعارم ومحمد بن عيسى الطباع الحافظ وأصبغ بن الفرج الفقيه المالكي وسعدويه الواسطي وأبو عمر الجرمي النحوي ومحمد بن سلام البيكندي وسنيد وسعيد بن كثير ابن عفير ويحيى بن يحيى التميمي وآخرون. الواثق باللّه هارونالواثق باللّه هارون أبو جعفر وقيل أبو القاسم بن المعتصم بن الرشيد. أمه أم ولد رومية اسمها قراطيس ولد لعشر بقين من شعبان سنة ست وتسعين ومائة وولي الخلافة بعهد من أبيه بويع له في تاسع عشر ربيع الأول سنة سبع وعشرين وفي سنة ثمان وعشرين استخلف على السلطنة أشناس التركي وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجاً مجوهراً وأظن أنه أول خليفة استخلف سلطاناً فإن الترك إنما كثروا في أيام أبيه. وفي سنة إحدى وثلاثين ورد كتابه إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن وكان قد تبع أباه في ذلك ثم رجع في آخر أمره. وفي هذه السنة قتل أحمد بن نصر الخزاعي وكان من أهل الحديث قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحضره من بغداد إلى سامرا مقيداً وسأله عن القرآن فقال ليس بمخلوق وعن الرؤية في القيامة ف قال: كذا جاءت الرواية وروى له الحديث فقال الواثق له تكذب فقال للواثق بل تكذب أنت فقال ويحك يرى كما يرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ويحصره الناظر إنما كفرت برب صفته ما تقولون فيه فقال جماعة من الفقهاء المعتزلة الذين حوله هو حلال الضرب فدعا بالسيف وقال إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد فمشى إليه فضرب عنقه وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فصلب بها وصلبت جثته في سر من رأى واستمر ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل فأنزله ودفنه ولما صلب كتب ورقة وعلقت في أذنه فيها هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد اللّه الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة فجعله اللّه إلى ناره ووكل بالرأس من يحفظه ويصرفه عن القبلة برمح فذكر المتوكل به أنه رآه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه فيقرأ سورة يس بلسان طلق ورويت هذه الحكاية من غير وجه. وفي هذه السنة استفك من الروم ألفاً وستمائة أسير مسلم فقال ابن أبي دؤاد قبحه اللّه من قال من الأسارى القرآن مخلوق خلصوه وأعطوه دينارين ومن امتنع دعوه في الأسر. قال الخطيب: كان أحمد بن أبي دؤاد قد استولى على الواثق وحمله على التشدد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن ويقال إنه رجع عنه قبل موته. وقال غيره حمل إليه رجل فيمن حمل مكبل بالحديد من بلاده فلما دخل وابن أبى دؤاد حاضر قال المقيد أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه أعلمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يدع الناس إليه أم شيء لم يعلمه قال ابن دؤاد بل علمه قال فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم قال فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضاً على فمه ودخل بيتاً ومد رجليه وهو يقول وسع النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يسكت عنه ولا يسعنا فأمر له أن يعطي ثلاثمائة دينار وأن يرد إلى بلده ولم يمتحن أحداً بعدها ومقت ابن أبي داؤد من يومئذ. والرجل المذكور هو أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن محمد الأذرمي شيخ أبي داود والنسائي. قال ابن أبي الدنيا كان الواثق أبيض وتعلوه صفرة حسن اللحية في عينيه نكتة. قال يحيى بن أكثم ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق ما مات وفيهم فقير. وقال غيره كان الواثق وافر الأدب مليح الشعر وكان يحب خادماً أهدي له من مصر فأغضبه الواثق يوماً ثم إنه سمعه يقول لبعض الخدم واللّه إنه ليروم أن أكلمه من أمس فما أفعل فقال الواثق: يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخراً ... ما أنت إلا مليك جار إذ قدرا لولا الهوى لتجارينا على قدر ... وإن أفق منه يوماً ما فسوف ترى ومن شعر الواثق في خادمه: مهج يملك المهج ... بسجي اللحظ والدعج حسن القدر مخطف ... ذو دلال وذو غنج ليس للعين إن بدا ... عنه باللحظ منعرج وقال الصولي: كان الواثق يسمى المأمون الأصغر لأدبه وفضله وكان المأمون يعظمه ويقدمه على ولده وكان الواثق أعلم الناس بكل شيء وكان شاعراً وكان أعلم الخلفاء بالغناء. وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت وكان حاذقاً بضرب العود راوية للأشعار والأخبار. وقال الفضل اليزيدي لم يكن في خلفاء بني العباس أكثر رواية للشعر من الواثق فقيل له كان أروى من المأمون فقال نعم كان المأمون قد مزج بعلم العرب علم الأوائل من النجوم والطب والمنطق وكان الواثق لا يخلط بعلم العرب شيئاً. وقال يزيد المهلبي كان الواثق كثير الأكل جداً. وقال ابن فهم كان للواثق خوان من ذهب مؤلف من أربع قطع يحمل كل قطعة عشرون رجلا وكل ما على الخوان من غضارة وصحفة وسكرجة من ذهب فسأله ابن أبي دؤاد أن لا يأكل عليه للنهي عنه فأمر أن يكسر ذلك ويضرب ويحمل إلى بيت المال. وقال الحسين بن يحيى: رأى الواثق في النوم كأنه يسأل اللّه الجنة وأن قائلا يقول له لا يهلك على اللّه إلا من قلبه مرت فأصبح فسأل الجلساء عن ذلك فلم يعرفوا معناه فوجه إلى أبي محلم وأحضره فسأله عن الرؤيا والمرت فقال أبو المحلم المرت القفر الذي لا ينبت شيئاً فالمعنى على هذا لا يهلك على اللّه إلا من قلبه خال من الإيمان خلو المرت من النبات فقال له الواثق أريد شاهداً من الشعر في المرت فبادر بعض من حضر فأنشد بيتاً لبني أسد: ومرت مروتاة يحار بها القطا ... ويصبح ذو علم بها وهو جاهل فضحك أبو محلم و قال: واللّه لا أبرح حتى أنشدك فأنشده للعرب مائة قافيه معروفة لمائة شاعر معروف في كل بيت ذكر المرت فأمر له الواثق بمائة ألف دينار. وقال حمدون بن إسماعيل: ما كان في الخلفاء أحد أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى ولا خلاف منه. وقال أحمد بن حمدون: دخل هارون بن زياد مؤدب الواثق إليه فأكرمه إلى الغاية فقيل له من هذا يا أمير المؤمنين الذي فعلت به هذا الفعل فقال هذا أول من فتق لساني بذكر اللّه وأدناني من رحمة اللّه. ومن مديح علي بن الجهم فيه: وثقت بالملك ال ... واثق باللّه النفوس ملك يشقى به الما ... ل ولا يشقى الجليس أسد يضحك عن شد ... اته الحرب العبوس أنس السيف به واس ... توحش الطلق النفيس يا بني العباس يأبى الل ... ه إلا أن تروسوا مات الواثق بسر من رأى يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة مائتين واثنتين وثلاثين ولما احتضر جعل يردد هذين البيتين: الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا ملك ما ضر أهل قليل في تفارقهم ... وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا وحكي أنه لما مات ترك وحده واشتغل الناس بالبيعة للمتوكل فجاء جرذون فاستل عينه فأكلها. مات في أيامه من الأعلام مسدد وخلف بن هشام البزاز المقرئ وإسماعيل بن سعيد الشالخي شيخ أهل طبرستان ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وأبو تمام الطائي الشاعر ومحمد بن زياد ابن الأعرابي اللغوي والبويطي صاحب الشافعي مسجوناً مقيداً في المحنة وعلي بن المغيرة الأثرم اللغوي وآخرون. ومن أخبار الواثق أسند الصولي عن جعفر بن الرشيد قال كنا بين يدي الواثق وقد اصطبح فناوله خادمه مهج ورداً ونرجساً فأنشد في ذلك بعد يوم لنفسه: حياك بالنرجس والورد ... معتدل القامة والقد فألهبت عيناه نار الهوى ... وزاد في اللوعة والوجد أملت بالملك له قربه ... فصار ملكي سبب البعد ورنحته سكرات الهوى ... فمال بالوصل إلى الصد إن سئل البذل ثنى عطفه ... وأسبل الدمع على الخد غر بما تجنيه ألحاظه ... لا يعرف الإنجاز للوعد مولى تشكى الظلم من عبده ... فأنصفوا المولى من العبد قال: فأجمعوا أنه ليس لأحد من الخلفاء مثل هذه الأبيات: وقال الصولي: حدثني عبد اللّه بن المعتز قال أنشدني بعض أهلنا للواثق وكان يهوى خادمين لهذا يوم يخدمه فيه ولهذا يوم يخدمه فيه: قلبي قسيم بين نفسين ... فمن رأى روحاً بجسمين يغضب ذا إن جاد ذا بالرضا ... فالقلب مشغول بشجوين وأخرج عن الحزنبل قال: غني في مجلس الواثق بشعر الأخطل: وشادن مريح بالكاس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار ف قال: أسوار أو سار؟ فوجه إلى ابن الأعرابي يسأل عن ذلك فقال سوار وثاب ويقول لا يثب على ندمائه وسار مفضل في الكأس سؤراً وقد رويا جميعاً فأمر الواثق لابن الأعرابي بعشرين ألف درهم. وقال حدثني ميمون بن إبراهيم حدثني أحمد بن الحسين بن هشام قال تلاحى الحسين بن الضحاك ومخارق يوماً في مجلس الواثق في أبي نواس وأبي العتاهية أيهما أشعر فقال الواثق اجعلا بينكما خطراً فجعلا بينهما مائتي دينار فقال الواثق من هاهنا من العلماء فقيل أبو محلم فأحضره فسئل عن ذلك فقال أبو النواس أشعر واذهب في فنون العرب وأكثر افتناناً من أفانين الشعر فأمر الواثق بدفع الخطر إلى الحسين. المتوكل على اللّه جعفرالمتوكل على اللّه جعفر أبو الفضل بن المعتصم بن الرشيد أمه أم ولد اسمها شجاع ولد سنة خمس وقيل سبع ومائتين وبويع له في ذي الحجة سنة اثنين وثلاثين ومائتين بعد الواثق فأظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق وذلك في سنة أربع وثلاثين واستقدم المحدثين إلى سامرا وأجزل عطاياهم وأكرمهم وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور فاجتمع إليه أيضاً نحو من ثلاثين ألف نفس وتوفر دعاء الخلق للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له حتى قال قائلهم الخلفاء ثلاثة أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه في قتل أهل الردة وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم وقال أبو بكر بن الخبازة في ذلك: وبعد فإن السنة اليوم أصبحت ... معززة حتى كأن لم تذلل تصول وتسطو إذ أقيم منارها ... وحط منار الإفك والزور من عل وولى أخو الإبداع في الدين هاربا ... إلى النار يهوي مدبراً غير مقبل شفى اللّه منهم بالخليفة جعفر ... خليفته ذي السنة المتوكل خليفة ربي وابن عم نبيه ... وخير بني العباس من منهم ولي وجامع شمل الدين بعد تشتت ... وفاري رؤوس المارقين بمنصل أطال لنا رب العباد بقاءه ... سليماً من الأهوال غير مبدل وبوأه بالنصر للدين جنة ... يجاور في روضاته خير مرسل وفي هذه السنة أصاب ابن أبي داود فالج صيره حجراً ملقى فلا آجره اللّه. ومن عجائب هذه السنة أنه هبت ريح بالعراق شديدة السموم ولم يعد مثلها أحرقت زرع الكوفة والبصرة وبغداد وقتلت المسافرين ودامت خمسين يوماً واتصلت بهمذان وأحرقت الزرع والمواشي واتصلت بالموصل وسنجار ومنعت الناس من المعاش في الأسواق ومن المشي بالطرقات وأهلكت خلقاً عظيماً. وفي السنة التي قبلها جاءت زلزلة مهولة بدمشق وسقطت منها دور وهلك تحتها خلق وامتدت إلى إنطاكية فهدمتها وإلى الجزيرة فأحرقتها وإلى الموصل فيقال هلك من أهلها خمسون ألفاً. وفي سنة خمس وثلاثين ألزم المتوكل النصارى بلبس الغل. وفي سنة ست وثلاثين أمر بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدور وأن يعمل مزارع ومنع الناس من زيارته وخرب وبقي صحراء وكان المتوكل معروفاً بالتعصب فتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاء الشعراء فما قيل في ذلك: باللّه إن كانت أمية قد أتت ... قتل ابن بنت نبيها مظلوماً فلقد أتاه بنو أبيه بمثله ... هذا لعمري قبره مهدوما أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا ... في قتله فتتبعوه رميما وفي سنة سبع وثلاثين بعث إلى نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر: أبي بكر محمد بن أبي الليث وأن يضربه ويطوف به على حمار ففعل ونعم ما فعل فإنه كان ظالماً من رؤوس الجهمية وولي القضاء بدله الحارث ابن سكين من أصحاب مالك بعد تمنع وأهان القاضي المعزول بضربه كل يوم عشرين سوطاً ليرد الظلامات إلى أهلها. وفي هذه السنة ظهرت نار بعسقلان أحرقت البيوت والبيادر ولم تزل تحرق إلى ثلث الليل ثم كفت. وفي سنة ثمان وثلاثين كبست الروم دمياط ونهبوا وأحرقوا وسبوا منها ستمائة امرأة وولوا مسرعين في البحر. وفي سنة أربعين سمع أهل خلاط صيحة عظيمة من جو السماء فمات منها خلق كثير ووقع برد بالعراق كبيض الدجاج وخسف بثلاث عشرة قرية بالمغرب. وفي سنة إحدى وأربعين ماجت النجوم في السماء وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل وكان أمراً مزعجاً لم يعهد. وفي سنة اثنتين وأربعين زلزلت الأرض زلزلة عظيمة بتونس وأعمالها والري وخراسان ونيسابور وطبرستان وأصبهان وتقطعت الجبال وتشققت الأرض بقدر ما يدخل الرجل في الشق ورجمت قرية السويداء بناحية مصر من السماء ووزن حجر من الحجارة فكان عشرة أرطال وسار جبل باليمن عليه مزارع لأهله حتى أتى مزارع آخرين ووقع بحلب طائر أبيض دون الرخمة في رمضان فصاح يا معشر الناس اتقو اللّه اللّه اللّه وصاح أربعين صوتاً ثم طار وجاء من الغد ففعل كذلك وكتب البريد بذلك وأشهد عليه خمسمائة إنسان سمعوه. وفيها حج من البصرة إبراهيم بن مطهر الكاتب على عجلة تجرها الإبل وتعجب الناس من ذلك. وفي سنة ثلاث وأربعين قدم المتوكل دمشق فأعجبته وبنى له قصر بداريا وعزم على سكناها فقال يزيد بن محمد المهلبي: أظن الشام تشمت بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق فإن تدع العراق وساكنيه ... فقد تبلى المليحة بالطلاق فبدا له ورجع بعد شهرين أو ثلاثة. وفي سنة أربع وأربعين قتل المتوكل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية فإنه ندبه إلى تعليم أولاده فنظر المتوكل يوماً إلى ولديه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت من أحب إليك هما أو الحسن والحسين فقال قنبر يعني مولى علي خير منهما فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات وقيل أمر بسل لسانه فمات وأرسل إلى ابنه بديته وكان المتوكل رافضياً. وفي سنة خمس وأربعين عمت الزلازل الدنيا فأخرجت المدن والقلاع والقناطر وسقط من إنطاكية جبل في البحر وسمع من السماء أصوات هائلة وزلزلت مصر وسمع أهل بلبيس من ناحية مصر صيحة هائلة فمات خلق من أهل بلبيس وغارت عيون مكة فأرسل المتوكل مائة ألف ديناراً لإجراء الماء من عرفات إليها وكان المتوكل جواداً ممدحاً يقال ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكل وفيه يقول مروان بن أبي الجنوب: فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا ف قال: لا أمسك حتى يغرقك جودي وكان أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفاً. ودخل عليه علي بن الجهم يوماً وبيديه درتان يقلبهما فأنشده قصيدة له فرمى إليه بدرة فقلبها فقال تستنقص بها وهي واللّه خير من مائة ألف فقال لا ولكني فكرت في أبيات أعملها آخذ بها الأخرى فقال قل ف قال: بسر من را إمام عدل ... تغرف من بحره البحار الملك فيه وفي نبيه ... ما اختلف الليل والنهار يرجى ويخشى لكل خطب ... كأنه جنة ونار يداه في الجود ضرتان ... عليه كلتاهما تغار لم تأت منه اليمين شيئاً ... ألا أتت مثلها اليسار فرمى إليه بالدرة الأخرى. قال بعضهم سلم على المتوكل بالخلافة ثمانية كل واحد منهم أبوه خليفة منصور بن المهدي والعباس بن الهادي وأبو أحمد بن الرشيد وعبد اللّه بن الأمين وموسى بن المأمون وأحمد بن المعتصم ومحمد بن الواثق وابنه المنتصر. وقال المسعودي لا يعلم أحد متقدم في جد ولا هزل إلا وقد حظي في دولته ووصل إليه نصيب وافر من المال وكان منهمكاً في اللذات والشراب وكان له أربعة آلاف سرية ووطئ الجميع. وقال علي بن الجهم كان المتوكل مشغوفاً بقبيحة أم ولده المعتز لا يصبر عنها فوقفت له يوماً وقد كتبت على خديها بالغالية جعفراً فتأملها وأنشأ يقول: وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا ... بنفسي محط المسك من حيث أثرا لئن أودعت سطراً من المسك خدها ... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا وفي كتاب المحن للسلمي أن ذا النون أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية فأنكر عليه عبد اللّه بن عبد الحكم وكان رئيس مصر ومن جلة أصحاب مالك وأنه أحدث علماً لم يتكلم فيه السلف ورماه بالزندقة فدعاه أمير مصر وسأله عن اعتقاده فتكلم فرضي أمره وكتب به إلى المتوكل فأمر بإحضاره فحمل على البريد فلما سمع كلامه أولع به وأحبه وأكرمه حتى كان يقول إذا ذكر الصالحون فحيهلا بذي النون. كان المتوكل بايع بولاية العهد لابنه المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد ثم إنه أراد تقديم المعتز لمحبته لأمه فسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى فكان يحضره مجلس العامة ويحط منزلته ويتهدده ويشتمه ويتوعده واتفق أن الترك انحرفوا عن المتوكل لأمور فاتفق الأتراك مع المنتصر على قتل أبيه فدخل عليه خمسة وهو في جوف الليل في مجلس لهوه فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان وذلك في خامس شوال سنة سبع وأربعين ومائتين. ورئي في النوم فقيل له ما فعل اللّه بك قال غفر لي بقليل من السنة أحييتها ولما قتل رثته الشعراء ومن ذلك قول يزيد المهلبي: جاءت منيته والعين هاجعة ... هلا أتته المنايا والقنا قصد خليفة لم ينل ما ناله أحد ... ولم يضع مثله روح ولا جسد وكان من حظاياه وصيفة تسمى محبوبة شاعرة عالمة بصنوف العلم عوادة فلما قتل ضمت إلى بغا الكبير فأمر بها يوماً للمنادمة فجلست منكسة فقال غني فاعتلت فأقسم عليها وأمر بالعود فوضع في حجرها فغنت ارتجالا: أي عيش يلذ لي ... لا أرى فيه جعفرا ملك قد رأيته ... في نجيع معفرا كل من كان ذا هيا ... م وسقم فقد برا غير محبوبة التي ... لو ترى الموت يشترى لا تشتريه بما حوت ... ه يداها لتقبرا إن الموت الحزين أط ... يب من أن يعمرا فغضب بغا أمر بها فسجنت فكان آخر العهد بها. ومن الغرائب أن المتوكل قال للبحتري قل في شعراً وفي الفتح بن خاقان فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني فقل في هذا المعنى ف قال: يا سيدي كيف أخلفت وعدي ... وتثاقلت عن وفاء بعهدي لا أرتني الأيام فقدك يا فت ... ح ولا عرفتك ما عشت فقدي أعظم الرزء أن تقدم قبلي ... ومن الرزء أن تؤخر بعدي حذراً أن تكون إلفاً لغيري ... إذ تفردت بالهوى فيك وحدي فقتلا معاً كما تقدم. ومن أخبار المتوكل أخرج ابن عساكر أن المتوكل رأى في النوم كأن سكراً سليماً نيئاً سقط عليه من السماء مكتوباً عليه جعفر المتوكل على اللّه فلما بويع خاض الناس في تسميته فقال بعضهم نسميه المنتصر فحدث المتوكل أحمد بن أبي دؤاد بما رأى في منامه فوجده موافقاً فأمضى وكتب به إلى الآفاق. وأخرج عن هشام بن عمار قال سمعت المتوكل يقول واحسرتا على محمد ابن إدريس الشافعي كنت أحب أن أكون في أيامه فأراه وأشاهده وأتعلم منه فإني رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المنام وهو يقول يا أيها الناس إن محمد بن إدريس المطلبي قد صار إلى رحمة اللّه وخلف فيكم علماً حسناً فاتبعوه تهدوا ثم قال اللّهم ارحم محمد بن إدريس رحمة واسعة وسهل على حفظ مذهبه وانفعني بذلك. قلت استفدنا من هذا أن المتوكل كان متمذهباً بمذهب الشافعي وهو أول من تمذهب له من الخلفاء. وأخرج عن أحمد بن علي البصري قال وجه المتوكل إلى أحمد بن المعدل وغيره من العلماء فجمعهم في داره ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم له غير أحمد ابن المعدل فقال المتوكل لعبيد اللّه إن هذا لا يرى بيعتنا فقال له: بلى يا أمير المؤمنين ولكن في بصره سوءاً فقال أحمد بن المعدل يا أمير المؤمنين ما في بصري سوء ولكن نزهتك من عذاب اللّه قال النبي صلى اللّه عليه وسلم " من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار " فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه. وأخرج عن يزيد المهلبي قال: قال لي المتوكل: يا مهلبي إن الخلفاء كانت تتصعب على الرعية لتطيعها وأنا ألين لهم ليحبوني ويطيعوني. وأخرج عن عبد الأعلى بن حماد النرسي قال دخلت على المتوكل فقال يا أبا يحيى ما أبطأك عنا منذ ثلاث لم نرك كنا هممنا لك بشيء فصرفناه إلى غيرك فقلت يا أمير المؤمنين جزاك اللّه عن هذا الهم خيراً ألا أنشدك بهذا المعنى بيتين قال بلى فأنشدته: لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إذا لم يمضه قدر ... فالرزق بالقدر المحتوم مصروف فأمر لي بألف دينار. وأخرج عن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قال دخلت على المتوكل لما توفيت أمه ف قال: يا جعفر ربما قلت البيت الواحد فإذا جاوزته خلطت وقد قلت: وأخرج عن الفتح بن خاقان قال: دخلت يوماً على المتوكل فرأيته مطرقاً متفكراً فقلت يا أمير المؤمنين ما هذا الفكر فواللّه ما على ظهر الأرض أطيب منك عيشاً ولا أنعم منك بالا فقال يا فتح أطيب عيشاً مني رجل له دار واسعة وزوجة صالحة ومعيشة حاضرة لا يعرفنا فنؤذيه ولا يحتاج إلينا فنزدريه. وأخرج عن أبي العيناء قال: أهديت إلى المتوكل جارية شاعرة اسمها فضل فقال لها: أشاعرة أنت قالت هكذا زعم من باعني واشتراني ف قال: أنشدينا شيئاً من شعرك فأنشدته: استقبل الملك إمام الهدى ... عام ثلاث وثلاثينا خلافة أفضت إلى جعفر ... وهو ابن سبع بعد عشرينا إنا لنرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الملك ثمانينا لا قدس اللّه امرأ لم يقل ... عند دعائي لك آمينا وأخرج عن علي بن الجهم قال أهدي إلى المتوكل جارية يقال لها محبوبة وقد نشأت بالطائف وتعلمت الأدب وروت الأشعار فأغري المتوكل بها ثم إنه غضب عليها ومنع جواري القصر من كلامها فدخلت عليه يوماً فقال لي قد رأيت محبوبة في منامي كأني قد صالحتها وصالحتني فقلت خيراً يا أمير المؤمنين فقال قم بنا لننظر ما هي عليه فقمنا حتى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب على العود وتقول: أدور في القصر لا أرى أحداً ... أشكو إليه ولا يكلمني حتى كأني أتيت معصية ... ليست له توبة تخلصني فهل شفيع لنا إلى ملك ... قد زارني في الكرى وصالحني حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمني فصاح المتوكل فخرجت فأكبت على رجليه تقبلهما فقالت يا سيدي رأيتك في ليلتي هذه كأنك قد صالحتني قال وأنا واللّه قد رأيتك فردها إلى مرتبتها فلما قتل المتوكل صارت إلى بغا وذكر الأبيات السابقة. وأخرج عن علي أن البحتري قال يمدح المتوكل فيما رفع من المحنة ويهجو ابن أبي دؤاد بقوله: أمير المؤمنين لقد شكرنا ... إلى آبائك الغر الحسان رددت الدين فذاً بعد أن قد ... أراه فرقتين تخاصمان قصمت الظالمين بكل أرض ... فأضحى الظلم مجهول المكان وفي سنة رمت متجبريهم ... على قدر بداهية عيان فما أبقت من ابن أبي دؤاد ... سوى حسد يخاطب بالمعاني تحير فيه سابور بن سهل ... فطاوله ومناه الأماني إذا أصحابه اصطحبوا بليل ... أطالوا الخوض في خلق القرآن وأخرج عن أحمد بن حنبل قال سهرت ليلة ثم نمت فرأيت في نومي كأن رجلا يعرج بي إلى السماء وقائلا يقول: ملك يقاد إلى مليك عادل ... متفضل في العفو ليس بجائر ثم أصبحنا فجاء نعي المتوكل من سر من رأى إلى بغداد. وأخرج عن عمرو بن شيبان الجهني قال رأيت في الليلة التي قتل فيها المتوكل في المنام قائلا يقول: يا نائم العين في أوطان جسمان ... أفض دموعك يا عمرو بن شيبان أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا ... بالهاشمي وبالفتح بن خاقان وافى إلى اللّه مظلوماً تضج له ... أهل السماوات من مثنى ووحدان وسوف يأتيكم أخرى مسومة ... توقعوها لها شأن من الشان فابكوا على جعفر وارثوا خليفتكم ... فقد بكاه جميع الإنس والجان ثم رأيت المتوكل في النوم بعد أشهر فقلت ما فعل اللّه بك قال غفر لي بقليل من السنة أحييتها قلت فما تصنع هاهنا؟ قال: أنتظر محمداً ابني أخاصمه إلى اللّه. أحاديث من رواية المتوكل قال الخطيب: أخبرنا أبو الحسين الأهوازي حدثنا محمد بن إسحاق ابن إبراهيم القاضي حدثنا محمد بن هارون الهاشمي حدثنا محمد بن شجاع الأحمر قال سمعت المتوكل يحدث عن يحيى بن أكثم عن محمد بن عبد المطلب عن سفيان عن الأعمش عن موسى بن عبد اللّه بن يزيد عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير بن عبد اللّه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال " من حرم الرفق حرم الخير " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير من وجه آخر عن جرير. وقال ابن عساكر: أخبرنا نصر بن أحمد بن مقاتل السوسي حدثني جدي أبو محمد حدثنا أبو علي الحسين بن علي الأهوازي حدثنا أبو محمد عبد اللّه ابن عبد الرحمن بن محمد الأزدي حدثنا أبو الطيب محمد بن جعفر بن داران غندر حدثنا هارون بن عبد العزيز بن أحمد العباسي حدثنا أحمد بن الحسن المقرئ البزار حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن عيسى الكسائي وأحمد بن زهير وإسحاق بن إبراهيم بن إسحاق فقالوا حدثنا علي بن الجهم قال كنت عند المتوكل فتذاكروا عنده الجمال فقال أن حسن الشعر لمن الجمال ثم قال حدثني المعتصم حدثني المأمون حدثنا الرشيد حدثنا المهدي حدثنا المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس قال كانت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جمة إلى شحمة أذنيه كأنها نظام اللؤلؤ وكان من أجمل الناس وكان أسمر رقيق اللون لا بالطويل ولا بالقصير وكان لعبد المطلب جمة إلى شحمة أذنيه وكان لهاشم جمة إلى شحمة أذنيه قال علي بن الجهم: وكان للمتوكل جمة إلى شحمة أذنيه وقال لنا المتوكل كان للمعتصم جمة وكذلك للمأمون والرشيد والمهدي والمنصور ولأبيه محمد ولجده علي ولأبيه عبد اللّه بن عباس قلت: هذا الحديث مسلسل من ثلاثة أوجه بذكر الجمة والآباء وبالخلفاء ففي إسناده ست خلفاء. مات في أيام خلافة المتوكل من الأعلام أبو ثور والإمام أحمد بن حنبل وإبراهيم بن المنذر الخزامي وإسحاق بن راهوية النديم وروح المقرئ وزهير بن حرب وسحنون وسليمان الشاذكوني وأبو مسعود العسكري وأبو جعفر النفيلي وأبو بكر بن أبي شيبة وأخوه وديك الجن الشاعر وعبد الملك بن حبيب إمام المالكية وعبد العزيز بن يحيى الغول أحد أصحاب الشافعي وعبيد اللّه بن عمر القواريري وعلي بن المديني ومحمد بن عبد اللّه بن نمير ويحيى بن معين ويحيى ابن بكير ويحيى بن يحيى ويوسف الأزرق المقرئ وبشر بن الوليد الكندي المالكي وابن أبي دؤاد ذاك الكلب لا رحمه اللّه وأبو بكر الهذلي العلاف شيخ الاعتزال ورأس أهل الضلال وجعفر بن حرب من كبار المعتزلة وابن كلاب المتكلم والقاضي يحيى بن أكثم والحارث المحاسبي وحرملة صاحب الشافعي وابن السكيت وأحمد بن منيع وذي النون المصري الزاهد وأبو تراب النخشبي وأبو عمر الدوري المقرئ ودعبل الشاعر وأبو عثمان المازني النحوي وخلائق آخرون. المنتصر باللّه محمد أبو جعفرالمنتصر باللّه محمد أبو جعفر وقيل أبو عبد اللّه بن المتوكل بن المعتصم ابن الرشيد أمه أم ولد رومية اسمها حبشية وكان مليح الوجه أسمر أعين أقنى ربعة جسيماً بطيناً مليحاً مهيباً وافر العقل راغباً في الخير قليل الظلم محسناً إلى العلويين وصولا لهم أزل عن آل أبي طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين ورد على آل الحسين فدك فقال يزيد المهلبي في ذلك: ولقد بررت الطالبية بعدما ... ذموا زماناً بعدها وزمانا ورددت ألفة هاشم فرأيتهم ... بعد العداوة بينهم إخوانا بويع له بعد مقتل أبيه في شوال سنة سبع وأربعين ومائتين فخلع أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد الذي عقده لهما المتوكل بعده وأظهر العدل والإنصاف في الرعية فمالت إليه القلوب مع شدة هيبتهم له وكان كريماً حليماً. ومن كلامه: لذة العفو أعذب من لذة التشفي وأقبح أفعال المقتدر الانتقام. ولما ولي صار يسب الأتراك ويقول: هؤلاء قتلة الخلفاء فعملوا عليه وهموا به فعجزوا عنه لأنه كان مهيباً شجاعاً فطناً متحرزاً فتحيلوا إلى أن دسوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار في مرضه فأشار بفصده ثم فصده بريشة مسموة فمات ويقال إن ابن طيفور نسي ذلك ومرض فأمر غلامه ففصده بتلك الريشة فمات أيضاً وقيل بل سم في كمثراه وقيل مات بالخوانيق ولما احتضر قال يا أماه ذهبت مني الدنيا والآخرة عاجلت أبي فعوجلت. مات في خامس ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين عن ست وعشرين سنة أو دونها فلم يمتع بالخلافة إلا أشهراً معدودة دون ستة أشهر وقيل إنه جلس في بعض الأيام للّهو وقد استخرج من خزائن أبيه فرشاً فأمر بفرشها في المجلس فرأى في بعض البسط دائرة فيها فارس وعليه تاج وحوله كتابة فارسية فطلب من يقرأ ذلك فأحضر رجل فنظره فقطب ف قال: ما هذه؟ قال لا معنى لها فألح عليه فقال أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز قتلت أبي فلم أتمتع بالملك إلا ستة أشهر فتغير وجه المنتصر وأمر بإحراق البساط وكان منسوجاً بالذهب. وفي لطائف المعرف للثعالبي: أعرق الخلفاء في الخلافة المنتصر فإنه هو وآباؤه الخمسة خلفاء وكذلك أخواه المعتز والمعتمد. قلت: أعرق منه المستعصم الذي قتله التتار فإن آباءه الثمانية خلفاء. قال الثعالبي: ومن العجائب أن أعرق الأكاسرة في الملك وهو شيرويه قتل أباه فلم يعش بعده إلا ستة أشهر وأعرق الخلفاء في الخلافة وهو المنتصر قتل أباه فلم يمتع بعده سوى ستة أشهر. المستعين باللّه أبو العباسالمستعين باللّه: أبو العباس أحمد بن المعتصم بن الرشيد وهو أخو المتوكل ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين وأمه أم ولد اسمها مخارق وكان مليحاً أبيض بوجهه أثر الجدري ألثغ ولما مات المنتصر اجتمع القواد وتشاوروا وقالوا: متى وليتم أحداً من أولاد المتوكل لا يبقى منا باقية فقالوا مالها إلا أحمد بن المعتصم ولد أستاذنا فبايعوه وله ثمان وعشرون سنة واستمر إلى أول سنة إحدى وخمسين فتنكر له الأتراك لما قتل وصيفاً وبغا ونفى باغر التركي الذي فتك بالمتوكل ولم يكن للمستعين مع وصيف وبغا أمر حتى قيل في ذلك: خليفة في قفص ... بين وصيف وبغا يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا ولما تمكر له الأتراك خاف وانحدر من سامرا إلى بغداد فأرسلوا إليه يعتذرون ويخضعون له ويسألونه الرجوع فامتنع فقصدوا الحبس وأخرجوا المعتز باللّه وبايعوه وخلعوا المستعين ثم جهز المعتز جيشاً كثيفاً لمحاربة المستعين واستعد أهل بغداد للقتال مع المستعين فوقعت بينهما وقعات ودام القتال أشهراً وكثر القتل وغلت الأسعار وعظم البلاء وانحل أمر المستعين فسعوا في الصلح على خلع المستعين وقام في ذلك إسماعيل القاضي وغيره بشروط مؤكدة فخلع المستعين نفسه في أول سنة اثنتين وخمسين وأشهد عليه القضاة وغيرهم فأحدر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوساً موكلا به أمين ثم رد إلى سامراء وأرسل المعتز إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله فقال واللّه لا أقتل أولاد الخلفاء فندب له سعيد الحاجب فذبحه في ثالث شوال من السنة وله إحدى وثلاثون سنة وكان خيراً فاضلا بليغاً أديباً وهو أول من أحدث لبس الأكمام الواسعة فجعل عرضها نحو ثلاثة أشبار وصغر القلانس وكانت قبله طوالا. مات في أيامه من الأعلام عبد بن حميد وأبو الطاهر بن السرح والحارث بن مسكين والبزي المقرئ وأبو حاتم السجستاني والجاحظ وآخرون. المعتز باللّه محمدالمعتز باللّه: محمد وقيل الزبير أبو عبد اللّه بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وأمه أم ولد رومية تسمى قبيحة وبويع له عند خلع المستعين في سنة اثنتين وخمسين وله تسع عشرة سنة ولم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه وكان بديع الحسن قال علي بن حرب أحد شيوخ ابن المعتز في الحديث: ما رأيت خليفة أحسن منه وهو أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب وكان الخلفاء قبل يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة. وأول سنة تولى مات أشناس الذي كان الواثق استخلفه على السلطنة وخلف خمسمائة ألف دينار فأخذها المعتز وخلع خلعة الملك على محمد بن عبد اللّه بن طاهر وقلده سيفين ثم عزله وخلع خلعة الملك على أخيه أعني أخا المعتز أبا أحمد وتوجه بتاج من ذهب وقلنسوة مجوهرة ووشاحين مجوهرين وقلده سيفين ثم عزله من عامه ونفاه إلى واسط وخلع على بغا الشرابي وألبسه تاج الملك فخرج على المعتز بعد سنة فقتل وجيء إليه برأسه. وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه المؤيد من العهد وضربه وقيده فمات بعد أيام فخشي المعتز أن يتحدث عنه أنه قتله أو احتال عليه فأحضر القضاة حتى شاهدوه وليس به أثر وكان المعتز مستضعفاً مع الأتراك فاتفق أن جماعة من كبارهم أتوه وقالوا: يا أمير المؤمنين أعطنا أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف وكان المعتز يخاف منه فطلب من أمه مالا لينفقه فيهم فأبت عليه وشحت نفسها ولم يكن بقى في بيت المال شيء فاجتمع الأتراك على خلعه ووافقهم صالح بن وصيف ومحمد بن بغا فلبسوا السلاح وجاءوا إلى دار الخلافة فبعثوا إلى المعتز أن أخرج إلينا فبعث يقول قد شربت دواء وأنا ضعيف فهجم عليه جماعة وجروا برجله وضربوه بالدبابيس وأقاموه في الشمس في يوم صائف وهم يلطمون وجهه ويقولون أخلع نفسك ثم أحضروا القاضي ابن أبي الشوارب والشهود وخلعوه ثم أحضورا من بغداد إلى دار الخلافة وهي يومئذ سامرا محمد بن الواثق وكان المعتبر قد أبعده إلى بغداد فسلم المعتز إليه الخلافة وبايعه ثم إن الملأ أخذوا المعتز بعد خمس ليال من خلعه فأدخلوه الحمام فلما اغتسل عطش فمنعوه الماء ثم أخرج وهو أول ميت مات عطشاً فسقوه ماء بثلج فشربه وسقط ميتاً وذلك في شهر شعبان المعظم سنة خمس وخمسين ومائتين واختفت أمه قبيحة ثم ظهرت في رمضان وأعطت صالح ابن وصيف مالا عظيماً من ذلك ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار وسفط فيه مكوك زمرد وسفط فيه لؤلؤ حب كبار وكيلجة ياقوت أحمر وغير ذلك فقومت السفاط بألفي دينار فلما رأى ابن وصيف ذلك قال قبحها اللّه عرضت ابنها للقتل لأجل خمسين ألف دينار وعندها هذا فأخذ الجميع ونفاها إلى مكة فبقيت بها إلى أن تولى المعتمد فردها إلى سامراء وماتت سنة أربع وستين. مات في أيام المعتز من الأعلام: سري السقطي الزاهد وهارون بن سعيد الأيلي والدرامي صاحب المسند والعتبى صاحب المسائل العتبية في مذهب مالك وآخرون رحمهم اللّه تعالى. المهتدي باللّهالمهتدي باللّه الخليفة الصالح: محمد أبو إسحاق وقيل أبو عبد اللّه بن الواثق ابن المعتصم بن الرشيد وأمه أم ولد تسمى وردة ولد في خلافة جده سنة بضع عشرة ومائتين وبويع بالخلافة لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين وما قبل بيعته أحد حتى أتى بالمعتز فقام المهتدي له وسلم عليه بالخلافة وجلس بين يديه فجيء بالشهود فشهدوا على المعتز أنه عاجز عن الخلافة فاعترف بذلك ومد يده فبايع المهتدي فارتفع حينئذ المهتدي إلى صدر المجلس. وكان المهتدي أسمر رقيقاً مليح الوجه ورعاً متعبداً عادلا قوياً في أمر اللّه بطلا شجاعاً لكنه لم يجد ناصراً ولا معيناً. قال الخطيب: لم يزل صائماً منذ ولي إلى أن قتل وقال هاشم بن القاسم: كنت بحضرة المهتدي عشية في رمضان فوثبت لأنصرف فقال لي أجلس فجلست وتقدم فصلى بنا ثم دعا بالطعام فأحضر طبق خلاف وعليه رغيف من الخبز النقي وفيه آنية فيه ملح وخل وزيت فدعاني إلى الأكل فابتدأت آكل ظاناً أنه سيؤتى بطعام فنظر إلي وقال ألم تك صائماً قلت بلى قال أفلست عازماً على الصوم فقلت كيف لا وهو رمضان ف قال: كل واستوف فليس هاهنا من الطعام غير ما ترى فعجبت ثم قلت ولم يا أمير المؤمنين وقد أسبغ اللّه نعمته عليك فقال إن الأمر ما وصفت ولكني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز وكان من التقلل والتقشف على ما بلغك فغرت على بني هاشم فأخذت نفسي بما رأيت. وقال جعفر بن عبد الواحد: ذاكرت المهتدي بشيء فقلت له كان أحمد ابن حنبل يقول به ولكنه كان يخالف أشير إلى ما مضى من آبائه فقال رحم اللّه أحمد ابن حنبل واللّه لو جاز لي أن أتبرأ من أبي لتبرأت منه ثم قال لي: تكلم بالحق وقل به فإن الرجل ليتكلم بالحق فينبل في عيني. وقال نفطويه: حدثني بعض الهاشميين أنه وجد للمهتدي سفط فيه جبة صوف وكساء كان يلبسه بالليل ويصلي فيه وكان قد أطرح الملاهي وحرم الغناء وحسم أصحاب السلطان عن الظلم وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين يجلس بنفسه ويجلس الكتاب بين يديه فيعملون الحساب وكان لا يخل بالجلوس الاثنين والخميس وضرب جماعة من الرؤوساء ونفى جعفر بن محمود إلى بغداد وكره مكانه لأنه نسب عنده إلى الرفض. وقدم موسى بن بغا من الري يريد سامرا لقتل صالح بن وصيف بدم المعتز وأخذ أموال أمه ومعه جيشه فصاحت العامة على ابن وصيف: يا فرعون قد جاءك موسى فطلب موسى بن بغا الإذن على المهتدي فلم يأذن له فهجم بمن معه عليه وهو جالس في دار العدل فأقاموه وحملوه على فرس ضعيفة وانتهبوا القصر وادخلوا المهتدي إلى دار ناجود وهو يقول يا موسى اتق اللّه ويحك ما تريد قال واللّه ما نريد إلا خيراً فاحلف لنا أن لا تملئ صالح بن وصيف فحلف لهم فبايعوه حينئذ ثم طلبوا صالحاً ليناظروه على أفعاله فاختفى وندبهم المهتدي إلى الصالح فاتهموه أنه يدري مكانه فجرى في ذلك كلام ثم تكلموا في خلعه فخرج إليهم المهتدي من الغد متقلداً بسيفه فقال قد بلغني شأنكم ولست كمن تقدمني مثل المستعين والمعتز واللّه ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت وهذا سيفي واللّه لأضربن به ما استمسكت قائمته بيدي أما دين أما حياء أما دعة لم يكون الخلاف على الخلفاء والجرأة على اللّه ثم قال ما أعلم علم صالح فرضوا وانفضوا ونادى موسى بن بغا: من جاء بصالح فله عشرة آلاف دينار فلم يظفر به أحد واتفق أن بعض الغلمان دخل زقاقاً وقت الحر فرأى باباً مفتوحاً فدخل فمشى في دهليز مظلم فرأى صالحاً نائماً فعرفه وليس عنده أحد فجاء إلى موسى فأخبره فبعث جماعة فأخذوه وقطعت رأسه وطيف به وتألم المهتدي لذلك في الباطن ثم رحل موسى ومعه بكيال إلى السن في طلب مساور فكتب المهتدي إلى بكيال أن يقتل موسى ومفلحاً أحد أمراء الأتراك أيضاً أو يمسكهما ويكون هو الأمير على الأتراك كلهم فأوقف بكيال موسى على كتابه وقال إني لست أفرح بهذا وإنما هذا يعمل علينا كلنا فأجمعوا على قتل المهتدي وساروا إليه فقاتل عن المهتدي المغاربة والفراغنة والأسروسنية وقتل من الأتراك في يوم أربعة آلاف ودام القتال إلى أن هزم جيش الخليفة وأمسك هو فعصر على خصيتيه فمات وذلك في رجب سنة ست وخمسين فكانت خلافته سنة إلا خمسة عشر يوماً وكان لما قامت الأتراك عليه ثار العوام وكتبوا رقاعاً وألقوها في المساجد يا معشر المسلمين ادعوا اللّه لخليفتكم العدل الرضا المضاهي لعمر بن عبد العزيز أن ينصره اللّه على عدوه. المعتمد على اللّه أبو العباسالمعتمد على اللّه أبو العباس وقيل أبو جعفر احمد بن المتوكل بن المعتصم ابن الرشيد ولد سنة تسع وعشرين ومائتين وأمه رومية اسمها فتيان ولما قتل المهتدي كان المعتمد محبوساً بالجوسق فأخرجوه وبايعوه ثم أنه استعمل أخاه الموفق طلحة على المشرق وصير ابنه جعفراً ولي عهده وولاه مصر والمغرب ولقبه المفوض إلى اللّه وانهمك المعتمد في اللّهو واللذات واشتغل عن الرعية فكرهه الناس وأحبوا أخاه طلحة. وفي أيامه دخلت الزنج البصرة وأعمالها وأخربوها وبذلوا السيف وأحرقوا وخربوا وسبوا وجرى بينهم وبين عسكره عدة وقعات وأمير عسكره في أكثرها الموفق أخوه وأعقب ذلك الوباء الذي لا يكاد يتخلف عن الملاحم بالعراق فمات خلق لا يحصون ثم أعقبه هدات وزلازل فمات تحت الردم ألوف من الناس واستمر القتال مع الزنج من حين تولى المعتمد سنة ست وخمسين إلى سنة سبعين فقتل فيها رأس الزنج لعنه اللّه واسمه بهبوذ وكان ادعى أنه أرسل إلى الخلق فرد الرسالة وأنه مطلع على المغيبات. وذكر الصولي أنه قتل من المسلمين ألف ألف وخمسمائة ألف آدمي وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف وكان له منبر في مدينة يصعد عليه ويسب عثمان وعلياً ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة رضي اللّه عنهم. وكان ينادي على المرأة العلوية في عسكره بدرهمين وثلاثة وكان عند الواحد من الزنج العشر من العلويات يطؤهن ويستخدمهن. ولما قتل هذا الخبيث دخل برأسه بغداد على رمح وعملت قباب الزينة وضج الناس بالدعاء للموفق ومدحه الشعراء وكان يوماً مشهوداً وأمن الناس وتراجعوا إلى المدن التي أخذها وهي كثيرة كواسط ورامهرمز. وفي سنة ستين من أيامه وقع غلاء مفرط بالحجاز والعراق وبلغ كر الحنطة في بغداد مائة وخمسين ديناراً وفيها أخذت الروم بلد لؤلؤة. وفي سنة إحدى وستين بايع المعتمد بولاية العهد بعده لابنه المفوض إلى اللّه جعفر ثم من بعده لأخيه الموفق طلحة وولى ولده المغرب والشام والجزيرة وأرمينية وولي أخاه المشرق والعراق وبغداد والحجاز واليمن وفارس وأصبهان والري وخراسان وطبرستان وسجستان والسند وعقد لكل منهما لواءين أبيض وأسود وشرط إن حدث به حدث أن الأمر لأخيه إن لم يكن ابنه جعفر قد بلغ وكتب العهد وأنفذه مع قاضي القضاه ابن أبي الشوارب ليعلقه في الكعبة. وفي سنة ست وستين وصلت عساكر الروم إلى ديار بكر ففتكوا وهرب أهل الجزيرة والموصل وفيها وثب الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها. وفي سنة سبع وستين استولى أحمد بن عبد اللّه الحجابي على خراسان وكرمان وسجستان وعزم على قصد العراق وضرب السكة باسمه وعلى الوجه الآخر اسم المعتمد وهذا محل الغرابة ثم إنه في آخر السنة قتله غلمانه فكفى اللّه شره. وفي سنة تسع وستين اشتد تخيل المعتمد من أخيه الموفق فإنه كان خرج عليه في سنة أربع وستين ثم اصطلحا فلما اشتد تخيله منه هذا العام كاتب المعتمد ابن طولون نائبه بمصر واتفقا على أمر فخرج ابن طولون حتى قدم دمشق وخرج المعتمد من سامرا على وجهه التنزه وقصده دمشق فلما بلغ ذلك الموفق كتب إلى إسحاق بن كنداج ليرده فركب ابن كنداج من نصيبين إلى المعتمد فلقيه بين الموصل والحديثة فقال يا أمير المؤمنين أخوك في وجه العدو وأنت تخرج عن مستقرك ودار ملكك ومتى صح هذا عنده رجع عن مقاومة الخارجي فيغلب عدوك على ديار آبائك وفي كلمات أخر ثم وكل بالمعتمد جماعة ورسم على طائفة من خواصه ثم بعث إلى المعتمد يقول ما هذا بمقام فارجع فقال المعتمد: فاحلف لي أنك تنحدر معي ولا تسلمني فحلف له وانحدر من سامرا فتلقاه صاعد بن مخلد كاتب الموفق فسلمه إسحاق إليه فأنزله في دار احمد بن الخصيب ومنعه من نزول دار الخلافة ووكل به خمسمائة رجل يمنعون من الدخول إليه ولما بلغ الموفق ذلك بعث إلى إسحاق بخلع وأموال وأقطعه ضياع القواد الذين كانوا مع المعتمد ولقبه ذا السندين ولقب صاعداً ذا الوزارتين وأقام صاعد في خدمة المعتمد ولكن ليس للمعتمد حل ولا ربط وقال المعتمد في ذلك: أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعاً عليه وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شيء في يديه إليه تحمل الأموال طراً ... ويمنع بعض ما يجبى إليه وهو أول خليفة قهر وحجر عليه ووكل به ثم أدخل المعتمد واسط ولما بلغ ابن طولون ذلك جمع الفقهاء والقضاة والأعيان وقال قد نكث الموفق بأمير المؤمنين فاخلعوه من العهد فخلعوه إلا القاضي بكار بن قتيبة فإنه قال أنت أوردت على المعتمد كتاباً بولايته العهد فأورد على كتاباً آخر منه بخلعه فقال إنه محجور عليه ومقهور فقال لا أدري فقال ابن طولون غرك الناس بقولهم ما في الدنيا مثل بكار أنت شيخ قد خرفت وحبسه وقيده وأخذ منه جميع عطاياه من سنين فكانت عشرة آلاف دينار فقيل إنها وجدت في بيت بكار يختمها وبلغ الموفق ذلك فأمر بلعن ابن طولون على المنابر. ثم في شعبان من سنة سبعين أعيد المعتمد إلى سامرا ودخل بغداد ومحمد بن طاهر بين يديه بالحربة والجيش في خدمته كأنه لم يحجر عليه ومات ابن طولون في هذه السنة فولى الموفق ابنه أبا العباس أعماله وجهزه إلى مصر في جنود العراق وكان خمارويه بن أحمد بن طولون أقام على ولايات أبيه بعده فوقع بينه وبين أبي العباس ابن الموفق وقعه عظيمة بحيث جرت الأرض من الدماء وكان النصر للمصريين. وفي هذه السنة انبثق ببغداد في نهر عيسى بثق فجاء الماء إلى الكرخ فهدم سبعة آلاف دار. وفيها نازلت الروم طرسوس في مائة ألف فكانت النصرة للمسلمين وغنموا ما لا يحصى وكان فتحاً عظيماً عديم المثل. وفيها ظهرت دعوة المهدي عبيد اللّه بن عبيد جد بني عبيد خلفاء المصريين الروافض في اليمن وأقام على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين فحج تلك السنة واجتمع بقبيلة من كتامة فأعجبهم حاله فصحبهم إلى مصر ورأى منهم طاعة وقوة فصحهم إلى المغرب فكان ذلك أول شأن المهدي. وفي سنة إحدى وسبعين قال الصولي: ولي هارون بن إبراهيم الهاشمي الحسبة فأمر أهل بغداد أن يتعاملوا بالفلوس فتعاملوا بها على كره ثم تركوها. وفي سنة ثمان وسبعين غار نيل مصر فلم يبق منه شيء وغلت الأسعار وفيها مات الموفق واستراح منه المعتمد. وفيها ظهرت القرامطة بالكوفة وهم نوع من الملاحدة يدعون أنه لا غسل من الجنابة وأن الخمر حلال ويزيدون في آذانهم وأن محمد بن الحنفية رسول اللّه وأن الصوم في السنة يومان يوم النيروز ويوم المهرجان وأن الحج والقبلة إلى بيت المقدس وأشياء أخرى ونفق قولهم على الجهال وأهل البر وتعب الناس بهم. وفي سنة تسع وسبعين ضعف أمر المعتمد جداً لتمكن أبي العباس بن الموفق من الأمور وطاعة الجيس له فجلس المعتمد مجلساً عاماً وأشهد فيه على نفسه أنه خلع ولده المفوض من ولاية العهد وبايع لأبي العباس ولقبه المعتضد وأمر المعتضد في هذه السنة أن لا يقعد في الطريق منجم ولا قصاص واستحلف الوراقين أن لا يبيعوا كتب الفلاسفة والجدل. ومات المعتمد بعد أشهر من هذه السنة فجأه فقيل إنه سم وقيل بل نام فغم في بساط وذلك ليلة الاثنين لإحدى عشرة بقيت من رجب وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة إلا أنه كان مقهوراً مع أخيه الموفق لاستيلائه على الأمور ومات وهو كالمحجور عليه من بعض الوجوه من جهة المعتضد أيضاً. وممن مات في أيامه من الأعلام البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والربيع الجيزي والربيع المرادي والمزني ويونس بن عبد الأعلى والزبير بن بكار وأبو الفضل الرياشي ومحمد بن يحيى الذهلي وحجاج بن يوسف الشاعر والعجلي الحافظ وقاضي القضاة ابن أبي الشوارب والسوسي المقرئ وعمر بن شبة وأبو زرعة الزازي ومحمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم والقاضي بكار وداود الظاهري وابن دارة وبقي بن مخلد وابن قتيبة وأبو حاتم الرازي وآخرون. ومن قول عبد اللّه بن المعتز في المعتمد يمدحه: يا خير من تزجى المطي له ... ويمر حبل العهد موثقه أضحى عنان الملك مقتسراً ... بيديك تحبسه وتطلقه فاحكم لك الدنيا وساكنها ... ما طاش سهم أنت موفقه ومن شعر المعتمد لما حجر عليه: أصبحت لا أملك دفعاً لما ... أسام من خسف ومن ذلة تمضي أمور الناس دوني ولا ... يشعرني في ذكرها قلتي إذا اشتهيت الشيء ولوا به ... عني وقالوا: هاهنا علتي قال الصولي: كان له وراق يكتب شعره بماء الذهب. ورثاه أبو سعيد الحسن بن سعيد النيسابوري بقوله: لقد قر طرف الزمان النكد ... وكان سخيناً كليلا رمد وبلغت الحادثات المنى ... بموت إمام الهدى المعتمد ولم يبق لي حذر بعده ... فدون المصائب فلتجتهد المعتضد باللّه أحمدالمعتضد باللّه أحمد أبو العباس ابن ولي العهد الموفق طلحة بن المتوكل ابن المعتصم بن الرشيد ولد في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين ومائتين وقال الصولي: في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين ومائتين وأمه أم ولد أسمها صواب وقيل: حرز وقيل ضرار وبويع له في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين بعد عمه المعتضد وكان ملكاً شجاعاً مهيباً ظاهر الجبروت وافر العقل شديد الوطأة من أفراد خلفاء بني العباس وكان يقدم على الأسد وحده لشجاعته وكان قليل الرحمة إذا غضب على قائد أمر بأن يلقى في حفيرة ويطم عليه وكان ذا سياسة عظيمة. قال عبد اللّه بن حمدون خرج المعتضد يتصيد فنزل إلى جانب مقثأة وأنا معه فصاح الناطور فقال علي به فأحضر فسأله فقال ثلاثة غلمان نزلوا المقثأة فأخربوها فجيء بهم فضربت أعناقهم من الغد في المقثأة ثم كلمني بعد مدة فقال أصدقني فيما ينكر على الناس قلت الدماء قال واللّه ما سفكت دماً حراماً منذ وليت قلت فلم قتلت أحمد بن الطيب قال دعاني إلى الإلحاد قلت فالثلاثة الذين نزلوا المقثأة قال واللّه ما قتلتهم وإنما قتلت لصوصاً قد قتلوا وأوهمت أنهم هم. وقال إسماعيل القاضي دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحدث صباح الوجوه روم فنظرت إليهم فلما أردت القيام قال لي: أيها القاضي واللّه ما حللت سراويلي على حرام قط. ودخلت مرة فدفع إلي كتاباً فنظرت فيه فإذا هو قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء ف قلت: مصنف هذا زنديق فقال أمختلق؟ قلت: لا ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء وما من عالم إلا وله زلة ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه فأمر بالكتاب فأحرق. وكان المعتضد شهماً جلداً موصوفاً بالرجلة قد لقي الحروب وعرف فضله فقام بالأمر أحسن قيام وهابه الناس ورهبوه أحسن رهبة وسكنت الفتن في أيامه لفرط هيبته. وكانت أيامه طيبه كثيرة الأمن والرخاء. وكان قد أسقط المكوس ونشر العدل ورفع الظلم عن الرعية. وكان يسمى السفاح الثاني لأنه جدد ملك بني العباس وكان قد خلق وضعف وكاد يزول وكان في اضطراب من وقت قتل المتوكل وفي ذلك يقول ابن الرومي يمدحه: هنيئاً بني العباس إن إمامكم ... إمام الهدى والبأس والجود أحمد كما بأبي العباس أنشئ ملككم ... كذا بأبي العباس أيضاً يجدد إمام يظل الأمس يعمل نحوه ... تلهف ملهوف ويشتاقه الغد وقال في ذلك ابن المعتز أيضاً: أما ترى ملك بني هاشم ... عاد عزيزاً بعد ما ذللا يا طالباً للملك كن مثله ... تستوجب الملك وإلا فلا وفي أول سنة استخلف فيها منع الوراقين من بيع كتب الفلاسفة وما شاكلها ومنع القصاص والمنجمين من القعود في الطريق وصلى بالناس صلاة الأضحى فكبر في الأولى ستاً وفي الثانية واحدة ولم تسمع منه الخطبة. وفي سنة ثمانين دخل داعي المهدي إلى القيروان وفشا أمره ووقع القتال بينه وبين صاحب إفريقية وصار أمره في زيادة. وفيها ورد كتاب من الدبيل أن القمر كسف في شوال وأن الدنيا أصبحت مظلمة إلى العصر فهبت ريح سوداء فدامت إلى ثلث الليل وأعقبها زلزلة عظيمة أذهبت عامة المدينة فكان عدة من أخرج من تحت الردم مائة ألف وخمسين ألفاً. وفي سنة إحدى وثمانين فتحت مكورية في بلاد الروم. وفيها غارت مياه الري وطبرستان حتى بيع الماء ثلاثة أرطال بدرهم وقحط الناس وأكلوا الجيف. وفيها هدم المعتضد دار الندوة بمكة وصيرها مسجداً إلى جانب المسجد الحرام. وفي سنة اثنتين وثمانين أبطل ما يفعل في النيروز: من وقيد النيران وصب الماء على الناس وأزال سنة المجوس. وفيها زفت إليه قطر الندى بنت خماروية بن أحمد بن طولون فدخل عليها في ربيع الأول وكان في جهازها أربعة آلاف تكة مجوهرة وعشرة صناديق جوهر. وفي سنة ثلاث وثمانين كتب إلى الآفاق بأن يورث ذوو الأرحام وأن يبطل ديوان المواريث وكثر الدعاء للمعتضد. وفي سنة أربع وثمانين ظهره بمصر حمرة عظيمة حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الرجل فيراه أحمر وكذا الحيطان فتضرع الناس بالدعاء إلى اللّه تعالى وكانت من العصر إلى الليل. قال ابن جرير: وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر فخوفه عبيد اللّه الوزير اضطراب العامة فلم يلتفت وكتب كتاباً في ذلك ذكر فيه كثيراً من مناقب علي ومثالب معاوية فقال له القاضي يوسف يا أمير المؤمنين أخاف الفتنة عند سماعه فقال إن تحركت العامة وضعت السيف فيها قال فما تصنع بالعلويين الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك؟ وإذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت كانوا إليهم أميل فأمسك المعتضد عن ذلك. وفي سنة خمس وثمانين هبت ريح صفراء بالبصرة ثم صارت خضراء ثم صارت سوداء وامتدت في الأمصار ووقع عقبها برد وزنة البردة مائة وخمسون درهماً وقلعت الريح نحو خمسمائة نخلة ومطرت قرية حجارة سوداً وبيضاً. وفي سنة ست وثمانين ظهر بالبحرين أبو سعيد القرمطي وقويت شوكته وهو أبو أبي طاهر سليمان الذي يأتي أنه قلع الحجر الأسود ووقع القتال بينه وبين عسكر الخليفة وأغار على البصرة ونواحيها وهزم جيش الخليفة مرات. ومن أخبار المعتضد ما أخرجه الخطيب وابن عساكر عن أبي الحسين الخصيبي قال: وجه المعتضد إلى القاضي أبي حازم يقول إن لي على فلان مالا وقد بلغني أن غرماءه أثبتوا عندك وقد قسطت لهم من ماله فاجعلنا كأحدهم فقال أبو حازم: قل له أمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه ذاكر لما قال لي وقت قلدني إنه قد أخرج الأمر من عنقه وجعله في عنقي ولا يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة فرجع إليه فأخبره فقال قل له فلان وفلان يشهدان يعني رجلين جليلين فقال يشهدان عندي وأسأل عنهما فإن زكيا قبلت شهادتهما وإلا أمضيت ما قد ثبت عندي فامتنع أولئك من الشهادة فزعاً ولم يدفع إلى المعتضد شيئاً. قال ابن حمدون النديم: غرم المعتضد على عمارة البحيرة ستين ألف دينار وكان يخلو فيها مع جواريه وفيهن محبوبته دريرة فقال ابن بسام: ترك الناس بحيره ... وتخلى في البحيرة قاعداً يضرب بالطب ... ل على حر دريره فبلغ ذلك المعتضد فلم يظهر أنه بلغه ثم أمر بتخريب تلك العمارات ثم ماتت دريرة في أيام المعتضد فجزع عليها جزعاً شديداً وقال يرثيها: يا حبيباً لم يكن يع ... دله عندي حبيب أنت عن عيني بعيد ... ومن القلب قريب ليس لي بعدك في ش ... يء من اللّهو نصيب لك من قلبي على قل ... بي وإن بنت رقيب وخيال منك مذ غب ... ت خيال لا يغيب لو تراني كيف لي بعد ... ك عول ونحيب وفؤادي حشوه من ... حرق الحزن لهيب لتيقنت بأني ... فيك محزون كئيب ما أرى نفس وإن سل ... يتها عنك تطيب لي دمع ليس يعصي ... ني وصبر ما يجيب وقال بعضهم يمدح المعتضد وهي على جزء جزء: طيف ألم ... بذي سلم بين الخيم ... يطوي الأكم جاد نعم ... يشفي السقم ممن لثم ... وملتزم فيه هضم ... إذا يضم داوى الألم ... ثم انصرم فلم أنم ... شوقاً وهم اللوم ذم ... كم ثم كم لوم الأصم؟ ... أحمد لم كل الثلم ... مما أنهدم هو العلم ... والمعتصم خير النسم ... خالا وعم حوى الهمم ... وما احتلم طود أشم ... سمح الشيم جلا الظلم ... كالبدر تم رعى الذمم ... حمى الحرم فلم يؤم ... خص وعم بما قسم ... له النعم مع النقم ... والخير جم إذا ابتسم ... والماء دم إذا انتقم اعتل المعتضد في ربيع الآخر سنة تسع وثمانين علة صعبة وكان مزاجه تغير من كثرة إفراطه في الجماع ثم تماسك فقال ابن المعتز: طار قلبي بجناح الوجيب ... جزعاً من حادثات الخطوب وحذاراً أن يشاك بسوء ... أسد الملك وسيف الحروب ثم انتكس ومات يوم الاثنين لثمان بقين منه. وحكى المسعودي قال شكوا في موت المعتضد فتقدم إليه الطبيب وحبس نبضه ففتح عينيه ورفس الطبيب برجله فتدحاه أذرعاً فمات الطبيب ثم مات المعتضد من ساعته ولما احتضر أنشد: تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا ولا تأمنن الدهر إني أمنته ... فلم يبق لي حالا ولم يرع لي حقا قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدواً ولم أمهل على ظنه خلقا وأخليت دور الملك من كل بازل ... وشتتهم غرباً ومزقتهم شرقا فلما بلغت النجم عزاً ورفعة ... ودانت رقاب الخلق أجمع لي رقا رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ملقى فأفسدت دنياي وديني سفاهة ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى ... إلى نعمة للّه أم ناره ألقى ومن شعر المعتضد: يا لا حظي بالفتور والدعج ... وقاتلي بالدلال والغنج أشكو إليك الذي لقيت من ال ... وجد فهل لي إليك من فرج حللت بالطرف والجمال من الن ... اس محل العيون والمهج وله أنشده الصولي: لم يلق من حر الفراق ... أحد كما أنا منه لاق يا سائلي عن طعمه ... ألفيته مر المذاق جسمي يذوب ومقلتي ... عبرى وقلبي ذو احتراق ما لي أليف بعدكم ... إلى اكتئابي واشتياقي فاللّه يحفظكم جميع ... اً في مقام وانطلاق ولابن المعتز يرثيه: يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحداً ... وأنت والد سوء تأكل الولدا أستغفر اللّه بل ذا كله قدر ... رضيت باللّه رباً واحداً صمدا يا ساكن القبر في غبراء مظلمة ... بالظاهرية مقصى الدار منفردا أين الجيوش التي قد كنت تنجبها؟ ... أين الكنوز التي أحصيتها عددا أين السرير الذي قد كنت تملؤه ... مهابة من رأته عينه ارتعدا أين الأعادي الأولى ذللت مصعبهم ... أين الليوث التي صيرتها بددا أين الجياد التي حجلتها بدم ... وكن يحملن منك الضيغم الأسدا أين الرماح التي غديتها مهجا ... مذ مت ما وردت قلباً ولا كبدا أين الجنان التي تجري جداولها ... وتستجيب إليها الطائر الغردا أين الوصائف كالغزلان راتعة ... يسحبن من حلل موشية حددا أين الملاهي وأين الراح تحسها ... ياقوتة كسبت من فضة زردا أين الوثوب إلى الأعداء مبتغيا ... صلاح ملك بني العباس إذ فسدا ما زلت تفسر منهم كل قسورة ... وتحطم العالي الجبار معتمدا ثم انقضيت فلا عين ولا أثر ... حتى كأنك يوماً لم تكن أحدا مات في أيام المعتضد من الأعلام ابن المواز المالكي وابن أبي الدنيا وإسماعيل القاضي والحارث بن أبي أسامة وأبو العيناء والمبرد وأبو سعيد الخراز شيخ الصوفية والبحتري الشاعر وخلائق آخرون. وخلف المعتضد من الأولاد أربعة ذكور ومن الإناث إحدى عشرة. المكتفي باللّه أبو محمدالمكتفي باللّه أبو محمد علي بن المعتضد ولد في غرة ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين وأمه تركية اسمها جيجك وكان يضرب بحسنها المثل حتى قال بعضهم: قايست بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي واللّه لا كلمتها ولو أنها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي وعهد إليه أبوه فبويع في مرضه يوم الجمعة بعد العصر لإحدى عشرة بقيت من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين. قال الصولي: وليس من الخلفاء من اسمه على إلا هو وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ولا من يكنى أبا محمد سوى الحسن بن علي والهادي والمكتفي. ولما بويع له عند موت أبيه كان غائباً بالرقة فنهض بأعباء البيعة الوزير أبو الحسن القاسم بن عبيد اللّه وكتب له فوافى بغداد في سابع من جمادى الأولى ومر بدجلة في سمارية وكان يوماً عظيماً وسقط أبو عمر القاضي من الزحمة في الجسر وأخرج سالماً ولما نزل المكتفي بدار الخلافة وقالت الشعراء وخلع على القاسم الوزير سبع خلع وهدم المطامير التي اتخذها أبوه وصيرها مساجد وأمر برد البساتين والحوانيت التي أخذها أبوه من الناس ليعملها قصراً إلى أهلها وسار سيرة جميلة فأحبه الناس ودعوا له. وفي هذه السنة زلزلت بغداد زلزلة عظيمة دامت أياماً وفيها هبت ريح عظيمة بالبصرة قلعت عامة نخلها ولم يسمع بمثل ذلك. وفيها خرج يحيى بن زكرويه القرمطي فاستمر القتال بينه وبين عسكر الخليفة إلى أن قتل في سنة تسعين فقام عوضه أخوه الحسين وأظهر شامة في وجهه وزعم أنها آيته وجاءه ابن عمه عيسى بن مهرويه وزعم أن لقبه المدثر وأنه المعني في السورة ولقب غلاماً له المطوق بالنور وظهر على الشام وعاث وأفسد وتسمى بأمير المؤمنين المهدي ودعي له على المنابر ثم قتل الثلاثة في سنة إحدى وتسعين. وفي هذه السنة فتحت أنطالية باللام من بلاد الروم عنوة وغنم منها ما لا يحصى من الأموال وفي سنة اثنتين زادت دجلة زيادة لم ير مثلها حتى خرجت بغداد وبلغت الزيادة أحداً وعشرين ذراعاً. ومن شعر الصولي يمدح المكتفي ويذكر القرمطي: قد كفى المكتفي الخلي ... فة ما كان قد حذر إلى أن قال: آل عباس أنتم ... سادة الناس والغرر حكم اللّه أنكم ... حكماء على البشر وأولو الأمر منكم ... صفوة اللّه والخير من رأى أن مؤمنا ... من عصاكم فقد كفر أنزل اللّه ذاكم ... قبل في محكم السور قال الصولي: سمعت المكتفي يقول في علته واللّه ما آسى إلا على سبعمائة ألف دينار صرفتها من مال المسلمين في أبنية ما احتجت إليها وكنت مستغنياً عنها أخاف أن أسأل عنها وإني أستغفر اللّه منها. مات المكتفي شاباً في ليلة الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخلف ثمانية أولاد ذكور وثمان بنات. وممن مات في أيامه من الأعلام عبد اللّه بن أحمد بن حنبل وثعلب إمام العربية وقنبل المقرئ وأبو عبد اللّه البوشنجي الفقيه والبزار صاحب المسند وأبو مسلم الكجي والقاضي أبو حازم وصالح جزرة ومحمد بن نصر المروزي الإمام وأبو الحسن النوري شيخ الصوفية وأبو جعفر الترمذي شيخ الشافعية بالعراق. ورأيت في تاريخ نيسابور لعبد الغافر عن أبي الدنيا قال: لما أفضت الخلافة إلى المكتفي كتبت إليه بيتين: إن الحق التأديب حق الأبوه ... عند أهل الحجى وأهل المروه وأحق الرجال أن يحفظوا ذا ... ك ويرعوه أهل بيت النبوه قال: فحمل إلى عشرة آلاف درهم وهذا يدل على تأخر ابن أبي الدنيا إلى أيام المكتفي. المقتدر باللّه أبو الفضلالمقتدر باللّه: أبو الفضل جعفر بن المعتضد ولد في رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين وأمه رومية وقيل: تركية اسمها غريب وقيل: شغب ولما اشتدت علة أخيه المكتفي سأل عنه فصح عنده أنه احتلم فعهد إليه ولم يل الخلافة قبله أصغر منه فإنه وليها وله ثلاث عشرة سنة فاستصباه الوزير العباس بن الحسن فعمل على خلعه ووافقه جماعة على أن يولوا عبد اللّه بن المعتز فأجاب ابن المعتز بشرط أن لا يكون فيها دم فبلغ المقتدر ذلك فأصلح حال العباس ودفع إليه أموالا أرضته فرجع عن ذلك وأما الباقون فإنهم ركبوا عليه في العشرين من ربيع الأول سنة ست والمقتدر يلعب الأكرة فهرب ودخل وأغلقت الأبواب وقتل الوزير وجماعة وأرسل إلى ابن المعتز فجاء وحضر القواد والقضاة والأعيان وبايعوه بالخلافة ولقبوه الغالب باللّه فاستوزر محمد بن داود بن الجراح واستقصى أبا المثنى أحمد بن يعقوب ونفذت الكتب بخلافة ابن المعتز. قال المعافى بن زكريا الجريري: لما خلع المقتدر وبويع ابن المعتز دخلوا على شيخنا محمد بن جرير الطبري فقال ما الخبر قيل بويع ابن المعتز قال: فمن رشح للوزارة؟ قيل محمد بن داود قال: فمن ذكر للقضاء قيل أبو المثنى فأطرق ثم قال هذا الأمر لا يتم قيل له وكيف؟ قال كل واحد ممن سميتهم متقدم في معناه عالي الرتبة والزمان مدبر والدنيا مولية وما أرى هذا إلا إلى اضمحلال وما أرى لمدته طولا. وبعث ابن المعتز إلى المقتدر يأمره بالانصراف إلى دار محمد بن طاهر لكي ينقل ابن المعتز إلى دار الخلافة فأجاب ولم يكن بقي معه إلا طائفة يسيرة فقالوا يا قوم نسلم هذا الأمر ولا نجرب نفوسنا في دفع ما نزل بنا فلبسوا السلاح وقصدوا المخرم وبه ابن المعتز فلما رآهم من حوله ألقى اللّه في قلوبهم الرعب فانصرفوا منهزمين بلا قتال وهرب ابن المعتز ووزيره وقاضيه ووقع النهب والقتل في بغداد وقبض المقتدر على الفقهاء والأمراء الذين خلعوه وسلموا إلى يونس الخازن فقتلهم إلا أربعة منهم القاضي أبو عمر سلموا من القتل وحبس ابن المعتز ثم أخرج فيما بعد ميتاً واستقام الأمر للمقتدر فاستوزر أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات فسار أحسن سير وكشف المظالم وحض المقتدر على العدل ففوض إليه الأمور لصغره واشتغل باللعب واللّهو وأتلف الخزائن. وفي هذه السنة أمر المقتدر أن لا يستخدم اليهود والنصارى وأن يركبوا بالأكف. وفيها غلب أمر المهدي بالمغرب وسلم عليه بالإمامة ودعى له بالخلافة وبسط في الناس العدل والإحسان فانحرفوا إليه وتمهدت له المغرب وعظم ملكه وبنى المهدي وهرب أمير إفريقية زياد اللّه بن الأغلب إلى مصر ثم أتى العراق وخرجت المغرب على أمر بني العباس من هذا التاريخ فكانت مدة ملكهم جميع الممالك الإسلامية مائة وبضعاً وستين سنة ومن هنا دخل النقص عليهم. قال الذهبي: اختل النظام كثيراً في أيام المقتدر لصغره. وفي سنة ثلاثمائة ساخ جبل بالدينور في الأرض وخرج من تحته ماء كثير أغرق القرى. وفيها ولدت بغلة فلواً فسبحان القادر على ما يشاء. وفي سنة إحدى وثلاثمائة ولي الوزير علي بن عيسى فسار بعفة وعدل وتقوى وأبطل الخمور وأبطل من المكوس ما ارتفاعه في العام خمسمائة ألف دينار. وفيها أعيد القاضي أبو عمر إلى القضاء وركب المقتدر إلى من داره إلى الشماسية وهي أول ركبة ركبها وظهر فيها للعامة. وفيها أدخل الحسين الحلاج مشهوراً على جمل إلى بغداد فصلب حياً ونودي عليه هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ثم حبس إلى أن قتل في سنة تسع وأشيع عنه أنه ادعى الإلهية وأنه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف ويكتب إلى أصحابه من النور الشعشعاني ونوظر فلم يوجد عنده شيء من القرآن ولا الحديث ولا الفقه. وفيها سار المهدي الفاطمي يريد مصر في أربعين ألفاً من البربر فحال النيل بينه وبينها فرجع إلى الإسكندرية وأفسد فيها وقتل ثم رجع فسار إليه جيش المقتدر إلى برقة وجرت لهم الحروب ثم ملك الفاطمي الإسكندرية والفيوم من هذا العام. وفي سنة اثنتين ختن المقتدر خمسة من أولاده فغرم على ختانهم ستمائة ألف دينار وختن معهم طائفة من الأيتام وأحسن إليهم. وفيها صلى العيد في جامع مصر ولم يكن يصلى فيه العيد قبل ذلك فخطب بالناس علي ابن أبي شيخة من الكتاب نظراً وكان من غلطه أن قال اتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مشركون. وفيه أسلم الديلم على يد الحسن بن علي العلوي الأطروش وكان مجوسياً. وفي سنة أربع وقع الخوف ببغداد من حيوان يقال له الزيزب ذكر الناس أنهم يرونه بالليل على الأسطحة وأنه يأكل الأطفال ويقطع ثدي المرأة فكانوا يتحارسون ويضربون بالطاسات ليهرب واتخذ الناس لأطفالهم مكاب ودام عدة ليال. وفي سنة خمس قدمت رسل ملك الروم بهدايا وطلبت عقد هدنة فعمل المقتدر موكباً عظيماً فأقام العسكر وصفهم بالسلاح وهم مائة وستون ألفاً من باب الشماسية إلى دار الخلافة وبعدهم الخدام وهم سبة آلاف خادم ويليهم الحجاب وهم سبعمائة حاجب وكانت الستور التي نصبت على حيطان دار الخلافة ثمانية وثلاثين ألف ستر من الديباج والبسط اثنين وعشرين ألفاً وفي الحضرة مائة سبع في السلاسل إلى غير ذلك. وفي هذه السنة وردت هدايا صاحب عمان وفيها طير أسود يتكلم بالفارسية والهندية أفصح من الببغا. وفي سنة ست فتح مارستان أم المقتدر وكان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار. وفيها صار الأمر والنهي لحرم الخليفة ولنسائه لركاكته وآل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر بمثل القهرمانة أن تجلس للمظالم وتنظر في رقاع الناس كل جمعة فكانت تجلس وتحضر القضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطها. وفيها عاد القائم محمد بن المهدي الفاطمي إلى مصر فأخذ أكثر الصعيد. [ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ] وفي سنة ثمان غلت الأسعار ببغداد وسغبت العامة لكون حامد بن العباس ضمن السواد وجدد المظالم ووقع النهب وركب الجند فيها وشتتهم العامة ودام القتال أياماً وأحرق العامة الحبس وفتحوا السجون ونهبوا الناس ورجموا الوزير واختلفت أحوال الدولة العباسية جداً. وفيها ملكت جيوش القائم الجزيرة من الفسطاط واشتد قلق أهل مصر وتأهبوا للحروب وجرت أمور وحروب يطول شرحها. وفي سنة تسع قتل الحلاج بإفتاء القاضي أبي عمر والفقهاء والعلماء أنه حلال الدم وله في أحواله السنية أخبار أفردها الناس بالتصنيف. وفي سنة إحدى عشرة أمر المقتدر برد المواريث إلى ما صيرها المعتضد من توريث ذوي الأرحام. وفي سنة اثنتي عشرة فتحت فرغانة على يد والي خرسان. وفي سنة أربع عشرة دخلت الروم ملطية بالسيف. وفيها جمدت دجلة بالموصل وعبرت عليها الدواب وهذا لم يعهد. وفي سنة خمس عشرة دخلت الروم دمياط وأخذوا من فيها وما فيها وضربوا الناقوس في جامعها. وفيها ظهرت الديلم على الري والجبال فقتل خلق وذبحت الأطفال. وفي سنة ست عشرة بنى القرمطي داراً سماها دار الهجرة وكان في هذه السنين قد كثر فساده وأخذه البلاد وفتكه بالمسلمين واشتد الخطب به وتمكنت هيبته في القلوب وكثر أتباعه وبث السرايا وتزلزل له الخليفة وهزم جيش المقتدر غير مرة وانقطع الحج في هذه السنين خوفاً من القرامطة ونزح أهل مكة عنها وقصدت الروم ناحية خلاط وأخرجوا المنبر من جامعها وجعلوا الصليب مكانه. وفي سنة سبع عشرة خرج مؤنس الخادم الملقب بالمظفر على المقتدر لكونه بلغه أنه يريد أن يولي إمرة الأمراء هارون بن غريب مكان المؤنس وركب معه سائر جيش الأمراء والجنود وجاءوا إلى دار الخلافة فهربت خواص المقتدر وأخرج المقتدر بعد العشاء وذلك في ليلة رابع عشر المحرم من داره وأمه وخالته وحرمه ونهب لأمه ستمائة ألف دينار وأشهد عليه بالخلع واحضر محمد بن المعتضد وبايعه مؤنس والأمراء ولقبوه القاهر باللّه وفوضت الوزارة إلى أبي علي بن مقلة وذلك يوم السبت وجلس القاهر باللّه يوم الأحد وكتب الوزير عنه إلى البلاد وعمل الموكب يوم الاثنين فجاء العسكر يطلبون رزق البيعة ورزق السنة ولم يكن مؤنس حاضراً فارتفعت الأصوات فقتلوا الحاجب ومالوا إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر ليردوه إلى الخلافة فحملوه على أعناقهم من دار مؤنس إلى قصر الخلافة وأخذ القاهر فجيء به وهو يبكي ويقول اللّه اللّه في نفسي فاستدناه وقبله وقال له يا أخي أنت واللّه لا ذنب لك واللّه لا جرى عليك مني سوء أبداً إلى لأقاليم بعود الخلافة إلى خلافته وبذل المقتدر الأموال في الجند. وفي هذه السنة سير المقتدر ركب الحاج مع منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين فوافاهم يوم التروية عدو اللّه أبو طاهر القرمطي فقتل الحجيج في المسجد الحرام قتلا ذريعاً وطرح القتلى في بئر زمزم وضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره ثم اقتلعه وأقام بها أحد عشر يوماً ثم رحلوا وبقى الحجر الأسود عندهم أكثر من عشرين سنة ودفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع. وقيل إنهم لما أخذوه هلك تحته أربعون جملا من مكة إلى هجر فلما أعيد حمل على قعود هزيل فسمن. قال محمد بن الربيع بن سليمان كنت بمكة سنة القرامطة فصعد رجل لقلع الميزاب وأنا أراه فعيل صبري وقلت يا رب ما أحلمك فسقط الرجل على دماغه فمات وصعد القرمطي على باب الكعبة وهو يقول: أنا باللّه وباللّه أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا ولم يفلح أبو طاهر القرمطي بعدها وتقطع جسده بالجدري. وفي هذه السنة هاجت فتنة كبرى ببغداد بسبب قوله تعالى " وعسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً " " الإسراء: 79 " فقالت الحنابلة معناها يقعده اللّه على عرشه وقال غيرهم بل هي الشفاعة ودام الخصام واقتتلوا جماعة كثيرة. وفي سنة تسع عشرة نزل القرمطي الكوفة وخاف أهل بغداد من دخوله إليها فاستغاثوا ورفعوا أصواتهم والمصاحف وسبوا المقتدر. وفيها دخلت الديلم الدينور فسبوا وقتلوا. وفي سنة عشرين ركب مؤنس على المقتدر فكان معظم جند مؤنس من البربر فلما التقى الجمعان رمى بربري المقتدر بحربة سقط منها على الأرض ثم ذبحه بالسيف وشيل رأسه على رمح وسلب ما عليه وبقي مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش ثم حفر له بالموضع ودفن وذلك يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال. وقيل إن وزيره أخذ له ذلك اليوم طالعاً فقال له المقتدر أي وقت هو قال وقت الزوال فتطير وهم بالرجوع فأشرفت خيل المؤنس ونشبت الحرب وأما البربري الذي قتله فإن الناس صاحوا عليه فسار نحو دار الخلافة ليخرج القاهر فصادفه حمل شوك فزحمه إلى دكان لحام فعلقه كلاب وخرج الفرس من مشواره من تحته فمات فحطه الناس وأحرقوه بالحمل الشوك. وكان المقتدر جيد العقل صحيح الرأي لكنه كان مؤثر للشهوات والشراب مبذراً وكان النساء غلبن عليه فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة ونفائسها وأعطى بعض حظاياه الدرة اليتيمة ووزنها ثلاثة مثاقيل وأعطى زيدان القهرمان سبحة جوهر لم ير مثلها وأتلف أموالا كثيرة وكان في داره أحد عشر ألف غلام خصيان غير الصقالبة والروم والسود وخلف اثني عشر ولداً ذكراً وولي الخلافة من أولاده ثلاثة الراضي والمتقي والمطيع وكذلك اتفق للمتوكل والرشيد وأما عبد الملك فولي الأمر من أولاده أربعة ولا نظير لذلك إلا في الملوك وكذا قال الذهبي. قلت في زماننا ولي الخلافة من أولاد المتوكل خمسة: المستعين العباس والمعتضد داود والمستكفي سليمان والقائم حمزة والمستنجد يوسف ولا نظير لذلك. وفي لطائف المعارف للثعالبي نادرة لم يل الخلافة من اسمه جعفر إلا المتوكل والمقتدر فقتلا جميعاً المتوكل ليلة الأربعاء والمقتدر يوم الأربعاء. ومن محاسن المقتدر ما حكاه ابن شاهين أن وزيره علي بن عيسى أراد أن يصلح بين ابن صاعد وبين أبي بكر بن أبي داود السجستاني فقال الوزير يا أبا بكر أبو محمد أكبر منك فلو قمت إليه قال لا أفعل فقال الوزير أنت شيخ زيف فقال ابن أبي داود الشيخ الزيف الكذاب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال من فقال هذا ثم قام ابن أبي داود وقال تتوهم أني أذل لك لأجل أن رزقي يصل إلي على يدك واللّه لا أخذت من يدك شيئاً أبداً فبلغ المقتدر ذلك فصار يزن رزقه بيده ويبعث به في طبق على يد الخادم. مات في أيام المقتدر من الأعلام محمد بن أبي داود الظاهري ويوسف ابن يعقوب القاضي وابن شريح شيخ الشافعية والجنيد شيخ الصوفية وأبو عثمان الحيري الزاهد وأبو بكر البرديجي وجعفر الفريابي وابن بسام الشاعر والنسائي صاحب السنن والجبائي شيخ المعتزلة وابن المواز النحوي وابن الجلاء شيخ الصوفية وأبو يعلى الموصلي صاحب المسند والأشناني المقرئ وابن سيف من كبار قراء مصر وأبو بكر الروياني صاحب المسند وابن المنذر الإمام وابن جرير الطبري والزجاج النحوي وابن خزيمة وابن زكريا الطبيب والأخفش الصغير وبنان الجمال وأبو بكر بن أبي داود السجستاني وابن السراج النحوي وأبو عوانة صاحب الصحيح وأبو القاسم البغوي المسند وأبو عبيد بن حربويه والكعبي شيخ المعتزلة وأبو عمر القاضي وقدامة الكاتب وخلائق آخرون. |