Geri

   

 

 

İleri

 

وآخرون  ٣ 

القاهر باللّه أبو المنصور

القاهر باللّه: أبو منصور محمد بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل.

أمه أم ولد فتنة لما قتل المقتدر أحضر هو ومحمد بن المكتفي فسألوا ابن المكتفي أن يتولى فقال لا حاجة لي في ذلك وعمي هذا أحق به فكلم القاهر فأجاب فبويع ولقب القاهر باللّه كما لقب به في سنة سبع عشرة فأول ما فعل أن صادر آل المقتدر وعذبهم وضرب أم المقتدر حتى ماتت في العذاب.

وفي سنة إحدى وعشرين شغب عليه الجند واتفق مؤنس وابن مقلة وآخرون على خلعه بابن المكتفي فتحيل القاهر عليهم إلى أن أمسكهم وذبحهم وطين على ابن المكتفي بين حيطتين.

وأما ابن مقلة فاختفى فأحرقت داره ونهبت دور المخالفين ثم أطلق أرزاق الجند فسكنوا واستقام الأمر للقاهر وعظم في القلوب وزيد في ألقابه المنتقم من أعداء دين اللّه ونقش ذلك على السكة. وفي هذه السنة أمر بتحريم القيان والخمر وقبض على المغنين ونفى المخانيث وكسر آلات اللّهو وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سواذج وكان مع ذلك لا يصحو من السكر ولا يفتر عن سماع الغناء.

وفي سنة اثنتين وعشرين ظهرت الديلم وذلك لأن أصحاب مرداويج دخلوا أصبهان وكان من قواده علي بن بويه فاقتطع مالا جليلا فانفرد عن مخدومه ثم التقى هو ومحمد بن ياقوت نائب الخليفة فهزم محمد واستولى ابن بويه على فارس وكان بويه فقيراً صعلوكاً يصيد السمك رأى كأنه بال فخرج من ذكره عمود نار ثم تشعب العمود حتى ملأ الدنيا فعبرت بأن أولاده يملكون الدنيا ويبلغ سلطانهم على قدر ما احتوت عليه النار فمضت السنون وآل الأمر على هذا إلى أن صار قائداً لمرداويج ابن زياد الديلمي فأرسله يستخرج له مالا من الكرخ فاستخرج خمسمائة ألف درهم وأتى همذان ليملكها فغلق أهلها في وجهه الأبواب فقتلهم وفتحها عنوة وقيل صلحاً ثم صار إلى شيراز.

ثم إنه قل عنده من مال فنام على ظهره فخرجت حية من سقف المجلس فأمر بنقضه فخرجت صناديق ملأى ذهباً فأنفقها في جنده.

وطلب خياطاً يخيط له شيئاً وكان أطروشاً فظن أنه قد سعى به فقال واللّه ما عندي سوى اثني عشر صندوقاً لا أعلم ما فيها فأحضرت فوجد فيها مالا عظيماً.

وركب يوماً فساخت قوائم فرسه فحفروه فوجدوا فيه كنزاً واستولى على البلاد وخرجت خراسان وفارس عن حكم الخلافة.

وفي هذه السنة قتل القاهر إسحاق بن إسماعيل النوبختي الذي قد كان أشار بخلافة القاهر ألقاه على رأسه في بئر وطمت وذنبه أنه زايد القاهر قبل الخلافة في جارية واشتراها فحقد عليه. وفيها تحرك الجند عليه لأن ابن مقلة في اختفائه كان يوحشهم منه ويقول لهم: إنه بنى لكم المطامير ليحبسكم وغير ذلك فأجمعوا على الفتك به فدخلوا عليه بالسيوف فهرب فأدركوه وقبضوا عليه في سادس من جمادى الآخرة وبايعوا أبا العباس محمد بن المقتدر ولقبوه الراضي باللّه ثم أرسلوا إلى القاهر الوزير والقضاة أبا الحسين بن القاضي أبي عمر والحسن بن عبد اللّه بن أبي الشوارب وأبا طالب بن البهلول فجاءه فقيل له ما تقول قال أنا أبو منصور محمد بن المعتضد لي في أعناقكم بيعة وفي أعناق الناس ولست أبرئكم ولا أحللكم منها فقوموا فقاموا فقال الوزير يخلع ولا نفكر فيه أفعاله مشهورة وقال القاضي أبو الحسين فدخلت على الراضي وأعدت عليه ما جرى وأعلمته أني أرى إمامته فرضاً ف

قال: انصرف ودعني وإياه فأشار سيماء مقدم الحجرية على الراضي بسلمه فكحله بمسمار محمى.

قال محمود الأصبهاني: كان سبب خلع القاهر سوء سيرته وسفكه الدماء فامتنع من الخلع فسملوا عينيه حتى سالتا على خديه.

وقال الصولي: كان أهوج سفاكاً للدماء قبيح السيرة كثير التلون والاستحالة مدمن الخمر ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل.

وكان قد صنع حربة يحميها فلا يطرحها حتى يقتل بها إنساناً.

قال علي بن محمد الخراساني: أحضرني القاهر يوماً والحربة بين يديه فقال أسألك عن خلفاء بنى العباس عن أخلاقهم وشيم

قلت: أما السفاح فكان مسرعاً إلى سفك الدماء واتبعه عماله على مثل ذلك وكان مع ذلك سمحاً وصولا بالمال قال فالمنصور؟

قلت: كان أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد أبي طالب وكانوا قبلها متفقين وهو أول خليفة قرب المنجمين وأول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية وكتاب كليلة ودمنة وكتاب إقليدس وكتب اليونان فنظر الناس فيها وتعلقوا بها فلما رأى ذلك محمد بن إسحاق جمع المغازي والسير والمنصور أول من استعمل مواليه وقدمهم على العرب قال فالمهدي قلت كان جواداً عادلا منصفاً رد ما أخذ أبوه من الناس غصباً وبالغ في إتلاف الزنادقة وبنى المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى قال فالهادي قلت كان جباراً متكبراً فسلك عماله طريقه على قصر أيامه قال فالرشيد قلت كان مواظباً على الغزو والحج وعمر القصور والبرك بطريق مكة وبنى الثغور كأذنة وطرسوس والمصيصة ومرعش وعم الناس إحسانه وكان في أيامه البرامكة وما اشتهر من كرمهم وهو أول خليفة لعب بالصولجة ورمى النشاب في البرجاس ولعب بالشطرنج من بني العباس قال فالأمين قلت كان جواداً إلا أنه انهمك في لذاته ففسدت الأمور قال فالمأمون قلت غلب عليه النجوم والفلسفة وكان حليماً جواداً

قال: فالمعتصم قلت سلك طريقه وغلب عليه حب الفروسية والتشبه بملوك الأعاجم واشتغل بالغزو والفتوح قال فالواثق قلت سلك طريقة أبيه قال فالمتوكل قلت خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقادات ونهى عن الجدال والمناظرات والأهواء وعاقب عليها وأمر بقراءة الحديث وسماعه ونهى عن القول بخلق القرآن فأحبه الناس ثم سأل عن باقي الخلفاء وأنا أجيبه بما فيهم فقال لي سمعت كلامك وكأني أشاهد القوم ثم قام.

وقال المسعودي: أخذ القاهر مؤنس وأصحابه مالا عظيماً فلما خلع وسمل طولب بها فأنكر فعذب بأنواع العذاب فلم يقر بشيء فأخذه الراضي باللّه فقر به وأدناه وقال له قد ترى مطالبة الجند بالمال وليس عندي شيء والذي عندك فليس بنافع لك فاعترف به فقال أما إذ فعلت هذا فالمال مدفون في البستان وكان قد أنشأ بستاناً فيه أصناف الشجر حملت إليه من البلاد وزخرفته وعمل فيه قصراً وكان الراضي مغرماً بالبستان والقصر ف

قال: وفي أي مكان المال منه فقال أنا مكفوف ولا أهتدي إلى مكان فاحفر البستان تجده فحفر الراضي البستان وأساسات القصر وقلع الشجر فلم يجد شيئاً فقال له وأين المال فقال وهل عندي مال وإنما كان حسرتي في جلوسك في البستان وتنعمك فأردت أن أفجعك فيه فندم الراضي وحبسه فأقام إلى سنة ثلاث وثلاثين ثم أطلقوه وأهملوه فوقف يوماً بجامع المنصور بين الصفوف وعليه مبطنة بيضاء وقال تصدقوا علي فأنا من قد عرفتم وذلك في أيام المستكفي ليشنع عليه فمنع من الخروج إلى أن مات سنة تسع وثلاثين في جمادى الأولى عن ثلاث وخمسين سنة.

وكان له من الولد: عبد الصمد وأبو القاسم وأبو الفضل وعبد العزيز.

ومات في أيامه من الأعلام الطحاوي شيخ الحنفية وابن دريد وأبو هاشم الجبائي وآخرون.

الراضي باللّه أبو العباس

الراضي باللّه: أبو العباس محمد بن المقتدر بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل.

ولد سنة سبع وتسعين ومائتين وأمه أم ولد رومية اسمها ظلوم وبويع له يوم خلع القاهر فأمر ابن مقلة أن يكتب كتاباً فيه مثالب القاهر ويقرأ على الناس.

وفي هذا العام أي عام اثنتين وعشرين وثلاثمائة من خلافته مات مرداويج مقدم الديلم بأصبهان وكان قد عظم أمره وتحدثوا أنه يريد قصد بغداد وأنه مسالم لصاحب المجوس وكان يقول أنا أرد دولة العجم وأمحق دولة العرب.

وفيها بعث علي بن بويه إلى الراضي يقاطعه على البلاد التي استولى عليها بثمان مائة ألف ألف درهم كل سنة فبعث له لواء وخلعاً ثم أخذ ابن بويه يماطل بحمل المال.

وفيها مات المهدي صاحب المغرب وكانت أيامه خمساً وعشرين سنة وهو جد خلفاء المصريين الذين يسمونهم الجهلة الفاطميين فإن المهدي هذا ادعى أنه علوي وإنما جده مجوسي قال القاضي أبو بكر الباقلاني جد عبيد اللّه الملقب بالمهدي مجوسي دخل عبيد اللّه المغرب وادعى أنه علوي ولم يعرفه أحد من العلماء النسب وكان باطنياً خبيثاً حريصاً على إزالة ملة الإسلام أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق وجاء أولاده على أسلوبه: أباحوا الخمور والفروج وأشاعوا الرفض وقام بالأمر بعد موت هذا ابنه القائم بأمر اللّه أبو القاسم محمد.

وفي هذه السنة ظهر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي القراقر وقد شاع عنه أنه يدعي الإلهية وأنه يحيي الموتى فقتل وصلب وقتل معه جماعة من أصحابه.

وفيها توفى أبو جعفر السجزي أحد الحجاب قيل بلغ من العمر مائة وأربعين سنة وحواسه جيدة.

وفيها انقطع الحج من بغداد إلى سنة سبع وعشرين.

وفي سنة ثلاث وعشرين تمكن الراضي باللّه وقلد ابنيه أبا الفضل وأبا جعفر المشرق والمغرب.

وفيها كانت واقعة ابن شنبوذ المشهورة واستتابته عن القراءة بالشاذ والمحضر الذي كتب عليه وذلك بحضرة الوزير أبي علي بن مقلة.

وفيها في جمادى الأولى هبت ريح عظيمة ببغداد واسودت الدنيا وأظلمت من العصر إلى المغرب.

وفيها في ذي القعدة انقضت النجوم سائر الليل انقضاضاً عظيماً ما رئي مثله.

وفي سنة أربع وعشرين تغلب محمد بن رائق أمير واسط ونواحيها وحكم على البلاد وبطل أمر الوزارة والدواوين وتولى هو الجميع وكتابه وصارت الأموال تحمل إليه وبطلت بيوت المال وبقي الراضي معه صورة وليس من الخلافة إلا الاسم.

وفي سنة خمس وعشرين اختل الأمر جداً وصارت البلاد بين خارجي قد تغلب عليها أو عامل لا يحمل مالا وصاروا مثل ملوك الطوائف ولم يبق بيد الراضي غير بغداد والسواد مع كون يد ابن رائق عليه ولما ضعف أمر الخلافة في هذه الأزمان ووهت أركان الدولة العباسية وتغلبت القرامطة والمبتدعة على الأقاليم قويت همة صاح الأندلس الأمير عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني وقال أنا أولى الناس بالخلافة وتسمى بأمير المؤمنين الناصر لدين اللّه واستولى على أكثر الأندلس وكانت له الهيبة الزائدة والجهاد والغزو والسيرة المحمودة استأصل المتغلبين وفتح سبعين حصناً فصار المسمون بأمير المؤمنين في الدنيا ثلاثة العباسي ببغداد وهذا بالأندلس والمهدي بالقيروان.

وفي سنة ست وعشرين خرج يحكم على ابن رائق فظهر عليه واختفى ابن رائق فدخل بحكم بغداد فأكرمه الراضي ورفع منزلته ولقبه أمير الأمراء وقلده إمارة بغداد وخراسان.

وفي سنة سبع وعشرين كتب أبو علي عمر بن يحيى العلوي إلى القرمطي وكان يحبه أن يطلق طريق الحاج ويعطيه عن كل جمل خمسة دنانير فأذن وحج الناس وهي أول سنة أخذ فيها المكس من الحجاج.

وفي سنة ثمان وعشرين غرقت بغداد غرقاً عظيماً حتى بلغت زيادة الماء تسعة عشر ذراعاً وغرق الناس والبهائم وانهدمت الدور.

وفي سنة تسع وعشرين اعتل الراضي ومات في شهر ربيع الآخر وله إحدى وثلاثون سنة ونصف وكان سمحاً كريماً أديباً شاعراً فصيحاً محباً للعلماء وله شعر مدون وسمع الحديث من البغوي وغيره.

قال الخطيب للراضي فضائل: منها أنه آخر خليفة له شعر مدون وآخر خليفة خطب يوم الجمعة وآخر خليفة سافر بزي القدماء ومن شعره:

كل صفو إلى كدر ... كل أمر إلى حذر

ومصير الشباب لل ... موت فيه أو الكدر

در در المشيب من ... واعظ ينذر البشر

أيها الآمل الذي ... تاه في لجة الغرر

رب فاغفر خطيئتي ... أنت يا خير من غفر

ذكر أبو الحسن بن رزقويه عن إسماعيل الخطبي

قال: وجه إلى الراضي ليلة الفطر فجئت إليه فقال يا إسماعيل قد عزمت في غد على الصلاة بالناس فما الذي أقول إذا انتهيت إلى الدعاء لنفسي فأطرقت ساعة ثم قلت قل يا أمير المؤمنين " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي " " النمل: 19 " الآية فقال لي حسبك ثم تبعني خادم فأعطاني أربعمائة دينار.

مات في أيامه من الأعلام نفطويه وابن مجاهد المقرئ وابن كاس الحنفي وابن أبي حاتم ومبرمان وابن عبد ربه صاحب العقد والإصطخري شيخ الشافعية وابن شنبوذ وأبو بكر الأنباري.

المتقي للّه أبو إسحاق

المتقي للّه: أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل.

بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الراضي وهو ابن أربع وثلاثين سنة وأمه أمة اسمها خلوب وقيل زهرة ولم يغير شيئاً قط ولا تسرى على جاريته التي كانت له وكان كثير الصوم والتعبد ولم يشرب نبيذاً قط وكان يقول لا أريد نديماً غير المصحف ولم يكن له سوى الاسم والتدبير لأبي عبد اللّه أحمد بن علي الكوفي كاتب بجكم.

وفي هذه السنة من ولايته سقطت القبة الخضراء بمدينة المنصورة وكانت تاج بغداد ومأثرة بني العباس وهى من بناء المنصور ارتفاعها ثمانون ذراعاً وتحتها إيوان طوله عشرون ذراعاً في عشرين ذراعاً وعليها تمثال فارس بيده رمح فإذا استقبل بوجهه جهة علم أن خارجياً يظهر من تلك الجهة فسقط رأس هذه القبة في ليلة ذات مطر ورعد.

وفي هذه السنة قتل بجكم التركي فولى إمرة الأمراء مكانه كورتكين الديلمي وأخذ المتقي حواصل بجكم التي كانت ببغداد وهي زيادة على ألف ألف دينار.

ثم في هذا العام ظهر ابن رائق فقاتل كورتكين ببغداد فهزم كورتكين واختفى وولي ابن رائق إمرة الأمراء مكانه.

وفي سنة ثلاثين كان الغلاء ببغداد فبلغ كر الحنطة ثلاثمائة وستة عشر ديناراً واشتد القحط وأكلوا الميتات وكان قحطاً لم ير ببغداد مثله أبداً.

وفيها خرج أبو الحسين علي بن محمد اليزيدي فخرج لقتاله الخليفة وابن رائق فهزما وهربا إلى الموصل ونهبت بغداد ودار الخلافة فلما وصل الخليفة إلى تكريت وجد هناك سيف الدولة أبا الحسن علي بن عبد اللّه بن حمدان وأخاه الحسن وقتل ابن رائق غيلة فولى الخليفة مكانه الحسن بن حمدان ولقبه ناصر الدولة وخلع على أخيه ولقبه سيف الدولة وعاد إلى بغداد وهما معه فهرب اليزيدي إلى واسط ثم ورد الخبر في ذي القعدة أن اليزيدي يريد بغداد فاضطرب الناس وهرب وجوه أهل بغداد وخرج الخليفة ليكون مع ناصر الدولة وسار سيف الدولة لقتال اليزيدي فكانت بينهما وقعة هائلة بقرب المدائن وهزم اليزيدي فعاد بالويل إلى واسط فساق سيف الدولة إلى واسط فانهزم اليزيدي إلى البصرة.

وفي سنة إحدى وثلاثين وصلت الروم إلى أرزن وميافارقين ونصيبين فقتلوا وسبوا ثم طلبوا منديلا في كنيسة الرها يزعمون أن المسيح مسح به وجهه فارتسمت صورته فيه على أنهم يطلقون جميع من سبوا فأرسل إليهم وأطلقوا الأسرى.

وفيها هاج الأمراء بواسط على سيف الدولة فهرب في البريد يريد بغداد ثم سار إلى الموصل أخوه ناصر الدولة خائفاً لهرب أخيه وسار من واسط تورون فقصد بغداد وقد هرب منه سيف الدولة إلى الموصل فدخل تورون بغداد في رمضان فخلع عليه المتقي وولاه أمير الأمراء ثم وقعت الوحشة بين المتقي وتورون فأرسل تورون أبا جعفر بن شيرزاد من واسط إلى بغداد فحكم عليها وأمر ونهى فكاتب المتقي ابن حمدان بالقدوم عليه فقدم في جيش عظيم واستتر ابن شيرزاد فسار المتقي بأهله إلى تكريت وخرج ناصر الدولة بجيش كثير من الأعراب والأكراد إلى قتال تورون فالتقيا بعكبرا فانهزم ابن حمدان والمتقي إلى الموصل ثم تلاقوا مرة أخرى فانهزم ابن حمدان والخليفة إلى نصيبين فكتب الخليفة إلى الأخشيد صاحب مصر أن يحضر إليه ثم بان له من بني حمدان الملل والضجر فراسل الخليفة تورون في الصلح فأجاب وبالغ في الإيمان ثم حضر الأخشيد إلى المتقي وهو بالرقة وقد بلغه مصالحة تورون فقال يا أمير المؤمنين أنا عبدك وابن عبدك وقد عرفت الأتراك وفجورهم وغدرهم فاللّه اللّه في نفسك سر معي إلى مصر فهي لك وتأمن على نفسك فلم يقبل فرجع الأخشيد إلى بلاده وخرج المتقي من الرقة إلى بغداد في رابع من المحرم سنة ثلاث وثلاثين وخرج للقائه تورون فالتقيا بين الأنبار وهيت فترجل تورون وقبل الأرض فأمر المتقي بالركوب فلم يفعل ومشى بين يديه إلى المخيم الذي ضربه له فلما نزل قبض عليه وعلى ابن مقلة ومن معه ثم كحل الخليفة وأدخل بغداد مسمول العينين وقد أخذ منه الخاتم والبردة والقضيب وأحضر تورون عبد اللّه بن المكتفي وبايعة بالخلافة ولقب المستكفي باللّه ثم بايعه المتقي المسمول وأشهد على نفسه بالخلع مع ذلك لعشر بقين من المحرم وقيل من صفر ولما كحل قال القاهر:

صرت وإبراهيم شيخي عمى ... لا بد للشيخين من مصدر

ما دام تورون له إمرة ... مطاعة فالميل في المجمر

ولم يحل الحول على تورون حتى مات وأما المتقي فإنه أخرج إلى جزيرة مقابلة للسندية فسجن بها فأقام بالسجن خمس وعشرين سنة إلى أن مات في شعبان سنة سبع وخمسين.

وفي أيام المتقي كان ابن حمدي اللص ضمنه ابن شيرزاد لما تغلب على بغداد اللصوصية بها بخمسة وعشرين ألف دينار في الشهر فكان يكبس بيوت الناس بالمشعل والشمع ويأخذ الأموال وكان اسكورج الديلمي قد ولي شرطة بغداد فأخذه ووسطه وذلك سنة اثنتين وثلاثين.

مات في أيام المتقى من الأعلام: أبو يعقوب النهرجوري أحد أصحاب الجنيد والقاضي أبو عبيد اللّه المحاملي وأبو بكر الفرغاني الصوفي والحافظ أبو العباس بن عقدة وابن ولاد النحوي وآخرون.

ولما بلغ القاهر أنه سمل

قال: صرنا اثنين نحتاج إلى ثالث فكان كذلك سمل المستكفي.

المستكفي باللّه أبو القاسم

المستكفي باللّه: أبو القاسم عبد اللّه بن المكتفي بن المعتضد أمه أم ولد اسمها أملح الناس بويع له بالخلافة عند خلع المتقي في صفر سنة ثلاث وثلاثين وعمره إحدى وأربعون سنة ومات تورون في أيامه ومعه كاتبه أبو جعفر بن شيرزاد فطمع في المملكة وحلف العساكر لنفسه فخلع عليه الخليفة ثم دخل أحمد بن بويه بغداد فاختفى شيرزاد ودخل ابن بويه دار الخلافة فوقف بين يدي الخليفة فخلع عليه ولقبه معز الدولة ولقب أخاه علياً عماد الدولة وأخاهما الحسن ركن الدولة وضرب ألقابهم على السكة ولقب المستكفي نفسه إمام الحق وضرب ذلك على السكة ثم إن معز الدولة قوي أمره وحجر على الخليفة وقدر له كل يوم برسم النفقة خمسة آلاف درهم فقط وهو أول من ملك العراق من الديلم وأول من أظهر السعاة ببغداد وأغرى المصارعين والسباحين فانهمك شباب بغداد في تعلم المصارعة والسباحة حتى صار السابح يسبح وعلى يده كانون وفوقه قدرة فيسبح حتى ينضج اللحم.

ثم إن معز الدولة تخيل من المستكفي فدخل عليه في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين فوقف والناس وقوف على مراتبهم فتقدم اثنان من الديلم إلى الخليفة فمد يديه إليهما ظناً أنهما يريدان تقبيلهما فجذباه من السرير حتى طرحاه إلى الأرض وجراه بعمامته وهجم الديلم دار الخلافة إلى الحرم ونهبوها فلم يبق فيها شيء ومضى معز الدولة إلى منزله وساقوا المستكفي ماشياً إليه وخلع وسملت عيناه يومئذ وكانت خلافته سنة وأربعة أشهر وأحضروا الفضل بن المقتدر وبايعوه ثم قدموا ابن عمه المستكفي فسلم عليه بالخلافة وأشهد على نفسه بالخلع ثم سجن إلى أن مات سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وله ست وأربعون سنة وشهران وكان يتظاهر بالتشيع.

المطيع للّه أبو القاسم

المطيع للّه: أبو القاسم الفضل بن المقتدر بن المعتضد أمه أم ولد اسمها شغله ولد سنة إحدى وثلاثمائة وبويع له بالخلافة عند خلع المستكفي في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وقرر له معز الدولة كل يوم نفقة مائة دينار فقط.

وفي هذه السنة من خلافته اشتد الغلاء ببغداد حتى أكلوا الجيف والروث وماتوا على الطرق وأكلت الكلاب لحومهم وبيع العقار بالرغفان ووجد الصغار مشوية مع المساكين واشترى لمعز الدولة كر دقيق بعشرين ألف درهم والكر سبعة عشر قنطاراً بالدمشقي.

وفيها وقع بين معز الدولة وبين ناصر الدولة بن حمدان فخرج لقتاله ومعه المطيع ثم رجع والمطيع معه كالأسير.

وفيها مات الأخشيد صاحب مصر وهو محمد بن طغج الفرغاني والأخشيد ملك الملوك وهو لقب لكل من ملك فرغانة كما أن الأصبهذ لقب ملك طبرستان وصول ملك جرجان وخاقان ملك الترك والأفشين ملك أشروسنة وسامان ملك سمرقند وكان الأخشيد شجاعاً مهيباً ولي مصر من قبل القاهر وكان له ثمانية آلاف مملوك وهو أستاذ كافور.

وفيها مات القائم العبيدي صاحب المغرب وقام بعده ولي عهده ابنه المنصور باللّه إسماعيل وكان القائم شراً من أبيه زنديقاً ملعوناً أظهر سب الأنبياء وكان مناديه ينادي العنوا الغار وما حوى وقتل خلقاً من العلماء.

وفي سنة خمس وثلاثين جدد معز الدولة الإيمان بينه وبين المطيع وأزال عنه التوكيل وأعاده إلى دار الخلافة.

وفي سنة ثمان وثلاثين سأل معز الدولة أن يشرك معه في الأمر أخاه على ابن بويه عماد الدولة ويكون من بعده فأجابه المطيع ثم لم ينشب أن مات عماد الدولة من عامه فأقام المطيع أخاه ركن الدولة والد عضد الدولة.

وفي سنة تسع وثلاثين أعيد الحجر الأسود إلى موضعه وجعل له طوق فضة يشد به وزنه ثلاثة آلاف وسبعمائة وستون درهماً ونصف.

وقال محمد بن نافع الخزاعي: تأملت الحجر الأسود وهو مقلوع فإذا السواد في رأسه فقط وسائره أبيض وطوله قدر عظم الذراع.

وفي سنة إحدى وأربعين ظهر قوم من التناسخية فيهم شاب يزعم أن روح علي انتقلت إليه وامرأته تزعم أن روح فاطمة انتقلت إليها وآخر يدعى أنه جبريل فضربوا فتعززوا بالإنتماء إلى أهل البيت فأمر معز الدولة بإطلاقهم لميله إلى أهل البيت فكان هذا من أفعاله الملعونة. وفيها مات المنصور العبيدي صاحب المغرب بالمنصورية التي مصرها وقام بالأمر ولي عهده ابنه معد ولقب بالمعز لدين اللّه وهو الذي بنى القاهرة وكان المنصور حسن السيرة بعد أبيه وأبطل المظالم فأحبه الناس وأحسن أيضاً ابنه السيرة وصفت له المغرب.

وفي سنة ثلاث وأربعين خطب صاحب خراسان للمطيع ولم يكن خطب له قبل ذلك فبعث إليه المطيع اللواء والخلع.

وفي سنة أربع وأربعين زلزلت مصر زلزلة صعبة هدمت البيوت ودامت ثلاث ساعات وفزع الناس إلى اللّه بالدعاء.

وفي سنة ست وأربعين نقص البحر ثمانين ذراعاً وظهر فيه جبال والجزائر وأشياء لم تعهد وكان بالري ونواحيها زلازل عظيمة وخسف ببلد الطالقان ولم يفلت من أهلها إلا نحو ثلاثين رجلا وخسف بمائة وخمسين قرية من قرى الري واتصل الأمر إلى حلوان فخسف بأكثرها وقذفت الأرض عظام الموتى وتفجرت منها المياه وتقطع بالري جبل وعلقت قرية بين السماء والأرض بمن فيها نصف النهار ثم خسف بها وانخرقت الأرض خروقاً عظيمة وخرج منها مياه منتنة ودخان عظيم هكذا نقل ابن الجوزي.

وفي سنة سبع وأربعين عادت الزلازل بقم وحلوان والجبال فأتلفت خلقاً عظيماً وجاء جراد طبق الدنيا فأتى على جميع الغلات والأشجار.

وفي سنة خمسين بنى معز الدولة ببغداد داراً هائلة عظيمة أساسها في الأرض ستة وثلاثون ذراعاً.

وفيها قلد القضاء أبا العباس عبد اللّه بن الحسن بن أبي الشوارب وركب بالخلع من دار معز الدولة وبين يديه الدبادب والبوقات وفي خدمته الجيش وشرط على نفسه أن يحمل في كل سنة إلى خزانة معز الدولة مائتي ألف درهم وكتب عليه بذلك سجلا وامتنع المطيع من تقلده ومن دخوله عليه وأمر أن لا يمكن من الدخول إليه أبداً.

وفيها ضمن معز الدولة الحسبة ببغداد والشرطة وكل ذلك عقب ضعفة ضعفها وعوفي منها فلا كان اللّه عافاه.

وفيها أخذت الروم جزيرة أقريطش من المسلمين وكانت فتحت في حدود الثلاثين والمائتين. وفيها توفي صاحب الأندلس الناصر لدين اللّه وقام بعده ابنه الحاكم.

وفي سنة إحدى وخمسين كتبت الشيعة ببغداد على أبواب المساجد لعنة معاوية ولعنة من غصب فاطمة حقها من فدك ومن منع الحسن أن يدفن مع جده ولعنة من نفى أبا ذر ثم إن ذلك محي في الليل فأراد معز الدولة أن يعيده فأشار عليه الوزير المهلبي أن يكتب مكان ما محي لعن اللّه الظالمين لآل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصرحوا بلعنة معاوية فقط.

وفي سنة اثنتين وخمسين يوم عاشوراء الزم معز الدولة الناس بغلق الأسواق ومنع الطباخين من الطبيخ ونصبوا القباب في الأسواق وعلقوا عليها المسوح وأخرجوا نساء منتشرات الشعور يلطمن في الشوارع ويقمن المأتم على الحسين وهذا أول يوم نيح عليه فيه ببغداد واستمرت هذه البدعة سنين.

وفي ثاني عشر ذي الحجة منها عمل عيد غدير خم وضربت الدبادب.

وفي هذه السنة بعث بعض بطارقة الأرمن إلى ناصر الدولة بن حمدان رجلين ملتصقين عمرهما خمس وعشرون سنة والالتصاق في الجنب ولهما بطنان وسرتان ومعدتان ويختلف أوقات جوعهما وعطشهما وبولهما ولكل واحد كفان وذراعان ويدان وفخذان وساقان وإحليلان وكان أحدهما يميل إلى النساء والآخر يميل إلى المرد ومات أحدهما وبقي أياماً وأخوه حي فأنتن وجمع ناصر الدولة الأطباء على أن يقدروا على فصل الميت من الحي فلم يقدروا ثم مرض الحي من رائحة الميت ومات.

وفي سنة ثلاث وخمسين عمل لسيف الدولة خيمة عظيمة ارتفاع عمودها خمسون ذراعاً.

وفي سنة أربع وخمسين ماتت أخت معز الدولة فنزل المطيع في طيارة إلى دار معز الدولة يعزيه فخرج إليه معز الدولة ولم يكلفه الصعود من الطيارة وقبل الأرض مرات ورجع الخليفة إلى داره.

وفيها بنى يعقوب ملك الروم قيسارية قريباً من بلاد المسلمين وسكنها ليغير كل وقت.

وفي سنة ست وخمسين مات معز الدولة فأقيم ابنه بختيار مكانه في السلطنة ولقبه المطيع عز الدولة.

وفي سنة سبع ملك القرامطة دمشق ولم يحج أحد فيها لا من الشام ولا من مصر وعزموا على قصد مصر ليملكوها فجاء العبيديون فأخذوها وقامت دولة الرفض في الأقاليم: المغرب ومصر والعراق وذلك أن كافوراً الأخشيدي صاحب مصر لما مات اختل النظام وقلت الأموال على الجند فكتب جماعة إلى المعز يطلبون منه عسكراً ليسلموا إليه مصر فأرسل مولاه جوهراً القائد في مائة ألف فارس فملكها ونزل موضع القاهرة اليوم واختطها وبنى دار الإمارة للمعز وهي المعروفة الآن بالقصرين وقطع خطبة بني العباس ولبس السواد وألبس الخطباء البياض وأمر أن يقال في الخطبة اللّهم صلي على محمد المصطفى وعلى على المرتضى وعلى فاطمة البتول وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول وصل على الأئمة آباء أمير المؤمنين المعز باللّه وذلك كله في شهر شعبان سنة ثمان وخمسين.

ثم في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين أذنوا في مصر بحي على خير العمل وشرعوا في بناء الجامع الأزهر ففرغ في رمضان سنة إحدى وستين.

وفي سنة تسع وخمسين انقض بالعراق كوكب عظيم أضاءت منه الدنيا حتى صار كأنه شعاع الشمس وسمع بعد انقضاضه صوت كالرعد الشديد.

وفي سنة ستين أعلن المؤذنون بدمشق في الأذان بحي على خير العمل بأمر جعفر بن فلاح نائب دمشق للمعز باللّه ولم يجسر أحد على مخالفته.

وفي سنة اثنتين وستين صادر السلطان بختيار المطيع فقال المطيع: أنا ليس لي غير الخطبة فإن أحببتم اعتزلت فشدد عليه حتى باع قماشه وحمل أربعمائة ألف درهم وشاع في الألسنة أن الخليفة صودر.

وفيها قتل رجل من أعوان الموالي ببغداد فبعث الوزير أبو الفضل الشيرازي من طرح النار من النحاسين إلى السماكين فاحترق حريق عظيم لم ير مثله واحترقت أموال وأناس كثيرون في الدور والحمامات وهلك الوزير من عامه لا رحمه اللّه.

وفي رمضان من هذه السنة دخل المعز إلى مصر ومعه توابيت آبائه.

وفي سنة ثلاث وستين قلد المطيع القضاء أبا الحسن محمد بن أم شيبان الهاشمي بعد تمنع وشرط لنفسه شروطاً منها أن لا يرتزق على القضاء ولا يخلع عليه ولا يشفع إليه فيما يخالف الشرع وقرر لكاتبه في كل شهر ثلاثمائة درهم ولحاجبه مائة وخمسين وللفارض على بابه مائة ولخازن ديوان الحكم والأعوان ستمائة وكتب له عهد صورته هذا ما عهد به عبد اللّه الفضل المطيع للّه أمير المؤمنين إلى محمد بن صالح الهاشمي حين دعاه إلى ما يتولاه من القضاء بين أهل مدينة السلام مدينة المنصورة والمدينة الشرقية من الجانب الشرقي والجانب الغربي والكوفة وسقي الفرات وواسط وكرخي وطريق الفرات ودجلة وطريق خراسان وحلوان وقرميسين وديار مضر وديار ربيعة وديار بكر والموصل والحرمين واليمن ودمشق وحمص وجند قنسرين والعواصم ومصر والإسكندرية وجند فلسطين والأردن وأعمال ذلك كلها ومن يجري من ذلك من الأشراف على من يختاره من العباسيين بالكوفة وسقي الفرات وأعمال ذلك وما قلده إياه من قضاء القضاة وتصفح أحوال الحكام والاستشراف على ما يجري عليه أمر الأحكام من سائر النواحي والأمصار التي تشتمل عليه المملكة وتنتهي إليها الدعوة وإقرار من يحمد هديه وطريقه والاستبدال بمن يذم شيمته وسجيته احتياطاً للخاصة والعامة وجنوا على الملة والذمة عن علم بأنه المقدم في بيته وشرفه المبرز في عفافته الزكي في دينه وأمانته الموصوف في ورعه ونزاهته المشار إليه بالعلم والحجى المجمع عليه في الحلم والنهي البعيد من الأدناس اللابس من التقى أجمل اللباس النقي الحبيب المحبو بصفاء الغيب العالم بصالح الدنيا العارف بما يفسد سلامة العقبى أمره بتقوى اللّه فإنها الجنة الواقية وليجعل كتاب اللّه في كل ما يعمل فيه رويته ويرتب عليه حكمه وقضيته إمامه الذي يفزع إليه وان يتخذ سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مناراً يقصده ومثالا يتبعه وان يراعي الإجماع وان يقتدي بالأئمة الراشدين وان يعمل اجتهاده فيما لا يوجد فيه كتاب ولا سنة ولا إجماع وأن يحضر مجلسه من يستظهر بعلمه ورأيه وأن يسوي بين الخصمين إذا تقدما إليه في لحظه ولفظه ويوفي كلاً منهما من إنصافه وعدله حتى يأمن الضعيف حيفه وييأس القوي من ميله وأمره أن يشرف على أعوامه وأصحابه ومن يعتمد عليه من أمنائه وأسبابه إشرافاً يمنع من التخطي إلى السيرة المحظورة ويدفع عن الإسفاف إلى المكاسب المحجورة.

وذكر من هذا الجنس كلاماً طويلاً.

قلت: كان الخلفاء يولون القاضي المقيم ببلدهم القضاء بجميع الأقاليم والبلاد التي تحت ملكهم ثم يستنيب القاضي من تحت أمره من شاء في كل إقليم وفي كل بلد ولهذا كان يلقب قاضي القضاة ولا يلقب به إلا من هو بهذه الصفة ومن عداه بالقاضي فقط أو قاضي بلد كذا وأما الآن فصار في البلد الواحد أربعة مشتركون كل منهم يلقب قاضي القضاة ولعل آحاد نواب أولئك كان في حكمه أضعاف ما كان في حكم الواحد من قضاة القضاة الآن ولقد كان قاضي القضاة إذ ذاك أوسع حكماً من سلاطين هذا الزمان.

وفي هذه السنة أعني سنة ثلاث وستين حصل للمطيع فالج وثقل لسانه فدعاه حاجب عز الدولة الحاجب سبكتكين إلى خلع نفسه وتسليم الأمر إلى ولده الطائع للّه ففعل وعقد له الأمر في يوم الأربعاء ثالث عشري ذي القعدة فكانت مدة خلافة المطيع تسعاً وعشرين سنة وأشهراً وأثبت خلعه على القاضي ابن أم شيبان وصار بعد خلعه يسمى الشيخ الفاضل.

قال الذهبي: وكان المطيع وابنه مستضعفين مع بني بويه ولم يزل أمر الخلفاء في ضعف إلى أن استخلف المقتفي للّه فانصلح أمر الخلافة قليلا وكان دست الخلافة لبني عبيد الرافضة بمصر أميز وكلمتهم أنفذ ومملكتهم تناطح مملكة العباسيين في وقتهم وخرج المطيع إلى واسط مع ولده فمات في المحرم سنة أربع وستين.

قال ابن شاهين: خلع نفسه غير مكره فيما صح عندي.

قال الخطيب: حدثني محمد بن يوسف القطان سمعت أبا الفضل التميمي سمعت المطيع للّه سمعت شيخي ابن منيع سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا مات أصدقاء الرجل ذل.

وممن مات في أيام المطيع من الأعلام: الخرقي شيخ الحنابلة وأبو بكر الشلبي الصوفي وابن القاص إمام الشافعية وأبو رجاء الأسواني وأبو بكر الصولي والهيثم بن كليب الشاشي وأبو الطيب الصعلوكي وأبو جعفر النحاس النحوي وأبو نصر الفارابي وأبو إسحاق المروزي إمام الشافعية وأبو القاسم الزجاجي النحوي والكرخي شيخ الحنفية والدينوري صاحب المجالسة وأبو بكر الضبعي والقاضي أبو القاسم التنوخي وابن الحداد صاحب الفروع وأبو علي ابن أبي هريرة من كبار الشافعية وأبو عمر الزاهد والمسعودي صاحب مروج الذهب وابن درستويه وأبو علي الطبري أول من جرد الخلاف والفاكهي صاحب تاريخ مكة والمتنبي الشاعر وابن حبان صاحب الصحيح وابن شعبان من أئمة المالكية وأبو علي القالي وأبو الفرج صاحب الأغاني.

الطائع للّه أبو بكر

الطائع للّه: أبو بكر عبد الكريم بن المطيع أمه أم ولد اسمها هزار، نزل له أبوه عن الخلافة وعمره ثلاث وأربعون سنة فركب وعليه البردة ومعه الجيش وبين يديه سبكتكين وخلع من الغد على سبكتكين خلع السلطنة وعقد له اللواء ولقبه نصر الدولة ثم وقع بين عز الدولة وسبكتكين فدعا سبكتكين الأتراك لنفسه فأجابوه وجرى بينه وبين عز الدولة حروب.

وفي ذي الحجة من هذه السنة أي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة أقيمت الخطبة والدعوة بالحرمين للمعز العبيدي.

وفي سنة أربع وستين قدم عضد الدولة بغداد لنصرة عز الدولة على سبكتكين فأعجبته بغداد وملكها فعمل عليها واستمال الجند فشغبوا على عز الدولة فأغلق بابه وكتب عضد الدولة عن الطائع إلى الآفاق باستقرار الأمر العضد الدولة فوقع بين الطائع وبين عضد الدولة فقطعت الخطبة للطائع بسبب ذلك ببغداد وغيرها من يوم العشرين من جمادى الأولى إلى أن أعيدت في عاشر رجب.

وفي هذه السنة وبعدها غلا الرفض وفار بمصر والشام والمشرق والمغرب ونودي بقطع صلاة التراويح من جهة العبيدي وفي سنة خمسة وستين نزل ركن الدولة بن بويه عما بيده من الممالك لأولاده فجعل لعضد الدولة فارس وكرمان ولمؤيد الدولة الري وأصبهان ولفخر الدولة همذان والدينور.

وفي رجب منها عمل مجلس الحكم في دار السلطان عز الدولة وجلس قاضي القضاة ابن معروف وحكم لأن عز الدولة التمس ذلك ليشاهد مجلس حكمه كيف هو.

وفيها كانت وقعة بين عز الدولة وعضد الدولة وأسر فيها غلام تركي لعز الدولة فجن عليه واشتد حزنه وامتنع من الأكل وأخذ في البكاء واحتجب عن الناس وحرم على نفسه الجلوس في الدست وكتب إلى عضد الدولة يسأله أن يرد الغلام إليه ويتذلل فصار ضحكة بين الناس وعوتب فما ارعوى لذلك وبذل في فداء الغلام جاريتين عوديتين كان قد بذل له في الواحدة مائة ألف دينار وقال للرسول: إن توقف عليك في رده فزد ما رأيت ولا تفكر فقد رضيت أن آخذه واذهب إلى أقصى الأرض فرده عضد الدولة عليه.

وفيها أسقط الخطبة من الكوفة لعز الدولة وأقيمت لعضد الدولة.

وفيها مات المعز لدين اللّه العبيدي صاحب مصر وأول من ملكها من العبيديين وقام بالأمر بعده ابنه نزاز ولقب العزيز.

وفي سنة ست وستين مات المنتصر باللّه الحكم بن الناصر لدين اللّه الأموي صاحب الأندلس وقام بعده ابنه المؤيد باللّه هشام.

وفي سنة سبع وستين التقى عز الدولة وعضد الدولة فظفر عضد الدولة وأخذ عز الدولة أسيراً وقتله بعد ذلك وخلع الطائع على عضد الدولة خلع السلطنة وتوجه بتاج مجوهر وطوقه وسوره وقلده سيفاً وعقد له لواءين بيده: أحدهما مفضض على رسم الأمراء والآخر مذهب على رسم ولاة العهود ولم يعقد اللواء الثاني لغيره قبله وكتب له عهداً وقرىء بحضرته ولم يبق أحد إلا تعجب ولم تجر العادة بذلك إنما كان يدفع العهد إلى الولاة بحضرة أمير المؤمنين فإذا أخذه قال أمير المؤمنين: هذا مهدى إليك فاعمل به.

وفي سنة ثمان وستين أمر الطائع بأن تضرب الدبادب على باب عضد الدولة في وقت الصبح والمغرب والعشاء وان يخطب له على منابر الحضرة.

قال ابن الجوزي: وهذان أمران لم يكونا من قبله ولا أطلقا لولاة العهود وقد كان معز الدولة أحب أن تضرب له الدبادب بمدينة السلام فسأل المطيع في ذلك فلم يأذن له وما حظي عضد الدولة بذلك إلا لضعف أمر الخلافة.

وفي سنة تسع وستين ورد رسول العزيز صاحب مصر إلى بغداد وسأل عضد الدولة الطائع أن يزيد في ألقابه تاج الملة ويجدد الخلع عليه ويلبسه التاج فأجابه وجلس الطائع على السرير وحوله مائة بالسيوف والزينة وبين يديه مصحف عثمان وعلى كتفه البردة وبيده القضيب وهو متقلد بسيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وضربت ستارة بعثها عضد الدولة وسأل أن تكون حجاباً للطائع حتى لا يقع عليه عين أحد من الجند قبله ودخل الأتراك والديلم وليس مع أحد منهم حديد ووقف الأشراف وأصحاب المراتب من الجانبين ثم أذن لعضد الدولة فدخل ثم رفعت الستارة وقبل عضد الدولة الأرض فارتاع زياد القائد لذلك وقال لعضد الدولة: ما هذا أيها الملك أهذا هو اللّه فالتفت إليه وقال هذا خليفة اللّه في الأرض ثم استمر يمشي ويقبل الأرض سبع مرات فالتفت الطائع إلى خالص الخادم و

قال: استدنه فصعد عضد الدولة فقبل الأرض مرتين فقال له: ادن إلي فدنا وقبل رجله وثنى الطائع يمينه عليه وأمره فجلس على الكرسي بعد أن كرر عليه اجلس وهو يستعفي فقال له: أقسمت عليك لتجلسن فقبل الكرسي وجلس فقال له الطائع: قد رأيت أن أفوض إليك ما وكل اللّه إلى من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي وأسبابي فتول ذلك فقال يعينني اللّه على طاعة مولانا أمير المؤمنين وخدمته ثم أفاض عليه الخلع وانصرف.

قلت: انظر إلى هذا الأمر وهو الخليفة المستضعف الذي لم تضعف الخلافة في زمن أحد ما ضعفت في زمنه ولا قوي أمر سلطان ما قوي أمر عضد الدولة.

وقد صار الأمر في زماننا إلى أن الخليفة يأتي السلطان يهنئه برأس الشهر فأكثر ما يقع من السلطان في حقه أن ينزل عن مرتبته ويجلسا معاً خارج المرتبة ثم يقوم الخليفة يذهب كأحد الناس ويجلس السلطان في دست مملكته.

ولقد حدثت أن السلطان الأشرف برسباي لما سافر إلى آمد لقتال العدو وصحب الخليفة معه كان الخليفة راكباً أمامه يحجبه والهيبة والعظمة للسلطان والخليفة كآحاد الأمراء الذين في خدمة السلطان.

وفي سنة سبعين خرج من همذان عضد الدولة وقدم بغداد فتلقاه الطائع ولم تجر عادة بخروج الخلفاء لتلقي أحد.

فلما توفيت بنت معز الدولة ركب المطيع إليه فغزاه فقبل الأرض وجاء رسول عضد الدولة يطلب من الطائع أن يتلقاه فما وسعه التأخر.

وفي سنة اثنتين وسبعين مات عضد الدولة فولى الطائع مكانه في السلطنة ابنه صمصام الدولة ولقبه شمس الملة وخلع عليه سبع خلع وتوجه وعقد له لواءين.

ثم في سنة ثلاث وسبعين مات مؤيد الدولة أخو عضد الدولة.

وفي سنة خمس وسبعين هم صمصام الدولة أن يجعل المكس على ثياب الحرير والقطن مما ينسج ببغداد ونواحيها ووقع له في ضمان ذلك ألف ألف درهم في السنة فاجتمع الناس في جامع المنصور وعزموا على المنع من صلاة الجمعة وكاد البلد يفتن فأعفاهم من ضمان ذلك. وفي سنة ست وسبعين قصد شرف الدولة أخاه صمصام الدولة فانتصر عليه وكحله ومال العسكر إلى شرف الدولة وقدم بغداد وركب الطائع إليه يهنئه بالبلاد وعهد إليه بالسلطنة وتوجه وقرئ عهده والطائع يسمع.

وفي سنة ثمان وسبعين أمر شرف الدولة برصد الكواكب السبعة في سيرها كما فعل المأمون. وفيها اشتد الغلاء ببغداد جداً وظهر الموت بها ولحق الناس بالبصرة حر وسموم تساقط منه. وجاءت ريح عظيمة بفح الصلح حرقت دجلة حتى ذكر أنه بانت أرضها وأغرقت كثيراً من السفن واحتملت زورقاً منحدراً وفيه دواب فطرحت ذلك في أرض جوخى فشوهد بعد أيام.

وفي سنة تسع وسبعين مات شرف الدولة وعهد إلى أخيه أبي نصر فجاءه الطائع إلى دار المملكة يعزيه فقبل الأرض غير مرة ثم ركب أبو نصر إلى الطائع وحضر الأعيان فخلع الطائع على أبي نصر سبع خلع أعلاها سوداء وعمامة سوداء وفي عنقه طوق كبير وفي يده سواران ومشى الحجاب بين يديه بالسيوف ثم قبل الأرض بين يدي الطائع وجلس على كرسي وقرئ عهده ولقبه الطائع بهاء الدولة وضياء الملة.

وفي سنة إحدى وثمانين قبض على الطائع وسببه: أنه حبس رجلا من خواص بهاء الدولة فجاء بهاء الدولة وقد جلس الطائع في الرواق متقلداً سيفاً فلما قرب بهاء الدولة قبل الأرض وجلس على الكرسي وتقدم أصحاب بهاء الدولة فجذبوا الطائع من سريره وتكاثر الديلم فلفوه في كساء وأصعد إلى دار السلطنة وارتج البلد ورجع بهاء الدولة وكتب على الطائع أيماناً بخلع نفسه وأنه سلم الأمر إلى القادر باللّه وشهد عليه الأكابر والأشراف وذلك في تاسع عشر شهر شعبان ونفذ إلى القادر باللّه ليحضر وهو بالبطيحة.

واستمر الطائع في دار القادر باللّه مكرماً محترماً في أحسن حال حتى إنه حمل إليه ليلة شمعة قد أوقد نصفها فأنكر ذلك فحملوا إليه غيرها إلى أن مات ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وتسعين. وصلى عليه القادر باللّه في داره وشيعه الأكابر والخدم ورثاه الشريف الرضي بقصيدة.

وكان شديد الانحراف على آل أبي طالب وسقطت الهيبة في أيامه جداً حتى هجاه الشعراء.

مات في أيام الطائع من الأعلام ابن السني الحافظ وابن عدي والقفال الكبير والسيرافي النحوي وأبو سهل الصعلوكي وأبو بكر الرازي الحنفي وابن خالوية والأزهري إمام اللغة وأبو إبراهيم الفارابي صاحب ديوان الأدب والرفاء الشاعر وأبو زيد المروزي الشافعي والداركي وأبو بكر الأبهري شيخ المالكية وأبو الليث السمرقندي إمام الحنفية وأبو علي الفارسي النحوي وابن الجلاب المالكي.

القادر باللّه أبو العباس

القادر باللّه: أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر.

ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وأمه أمة واسمها تمنى

وقيل: دمنة.

بويع له بالخلافة بعد خلع الطائع وكان غائباً فقدم في عاشر رمضان وجلس من الغد جلوساً عاماً وهنئ.

وأنشد بين يديه الشعراء من ذلك قول الشريف الرضي:

شرف الخلافة يا بني العباس ... اليوم جدده أبو العباس

ذا الطود أبقاه الزمان ذخيرة ... من ذلك الجبل العظيم الراسي

قال الخطيب: وكان القادر من الستر والديانة والسيادة وإدامة التهجد بالليل وكثرة البر والصدقات وحسن الطريقة على صفة اشتهرت عنه وعرف بها كل أحد مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد تفقه على العلامة أبي بشر الهروي الشافعي وقد صنف كتاباً في الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز وإكفار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن وكان ذلك الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي وبحضرة الناس ترجمة ابن الصلاح في طبقات الشافعية.

وقال الذهبي: في شوال من سنة ولايته عقد مجلس عظيم وحلف القادر وبهاء الدولة كل منهما لصاحبه بالوفاء وقلده القادر ما وراء بابه مما تقام فيه الدعوة.

وفيها دعا صاحب مكة أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي إلى نفسه وتلقب بالراشد باللّه وسلم عليه بالخلافة فانزعج صاحب مصر ثم ضعف أمر أبي الفتوح وعاد إلى طاعة العزيز العبيدي.

وفي سنة اثنتين وثمانين ابتاع الوزير أبو نصر سابور ازدشير داراً بالكرخ وعمرها وسماها دار العلم ووقفها على العلماء ووقف بها كتباً كثيرة.

وفي سنة أربع وثمانين عاد الحاج العراقي من الطريق اعتراضهم الأصيفر الأعرابي ومنعهم الجواز إلا برسمه فعادوا ولم يحجوا ولا حج أيضاً أهل الشام ولا اليمن إنما حج أهل مصر. وفي سنة سبع وثمانين مات السلطان فخر الدولة وأقيم ابنه رستم مقامه في السلطنة بالري وأعمالها وهو ابن أربع سنين ولقبه القادر مجد الدولة.

قال الذهبي: ومن الأعجوبات هلاك تسعة ملوك على نسق في سنتي سبع وثمانين وثمان وثمانين: منصور بن نوح ملك ما وراء النهر وفخر الدولة ملك الري والجبال والعزيز العبيدي صاحب مصر وفيهم يقول أبو منصور عبد الملك الثعالبي:

ألم تر مذ عامين أملاك عصرنا ... يصيح بهم للموت والقتل صائح

فنوح بن منصور طوته يد الردى ... على حسرات ضمنتها الجوانح

ويا بؤس منصور ففي يوم سرخس ... تمزق عنه ملكه وهو طائح

وفرق عنه الشمل بالسمل واغتدى ... أميراً ضريراً تعتريه الجوائح

وصاحب مصر قد مضى بسبيله ... ووالي الجبال غيبته الضرائح

وصاحب جرجانية في ندامة ... ترصده طرف من الحين طامح

وخوارزم شاه شاه وجهه نعيمه ... وعن له يوم من النحس طالح

وكان علا في الأرض يخطبها أبو ... علي إلى أن طوحته الطوئح

وصاحب بست ذلك الضيغم الذي ... براثنه للمشرقين مفاتح

أناخ به من صدمه الدهر كلكل ... فلم تغن عنه والمقدر سانح

جيوش إذا أربت على عدد الحصى ... تغص بها قيعانها والصحاصح

ودارت على صمصام دولة بويه ... دوائر سوء سلبهن فوادح

وقد جاز والي الجوزجان قناطر الح ... ياة فوافته المنايا الطوامح

وذكر الذهبي أن العزيز صاحب مصر مات سنة ست وثمانين وفتحت له زيادة على آبائه: حمص حماة وحلب وخطب له بالموصل وباليمن وضرب اسمه فيها على السكة والأعلام وقام بالأمر بعده ابنه منصور ولقب الحاكم بأمر اللّه.

وفي سنة تسعين ظهر بسجستان معدن ذهب فكانوا يصفون من التراب الذهب الأحمر.

وفي سنة ثلاث وتسعين أمر نائب دمشق الأسود الحاكمي بمغربي فطيف به على حمار ونودي عليه هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر ثم ضرب عنقه رحمه اللّه ولا رحم قاتله ولا أستاذه الحاكم.

وفي سنة أربع وتسعين قلد بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي قضاء القضاة والحج والمظالم ونقابة الطالبيين وكتب له من شيراز العهد فلم ينظر في القضاء لامتناع القادر من الإذن له.

وفي سنة خمس وتسعين قتل الحاكم بمصر جماعة من الأعيان صبراً وأمر بكتب سب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع وأمر العمال بالسب.

وفيها أمر بقتل الكلاب وأبطل الفقاع والملوخيا ونهى عن السمك الذي لا قشر له وقتل جماعة ممن باع ذلك بعد نهيه.

وفي سنة ست وتسعين أمر الناس بمصر والحرمين إذا ذكر الحاكم أن يقوموا ويسجدوا في السوق وفي مواضع الاجتماع.

وفي سنة ثمان وتسعين وقعت فتنة بين الشيعة وأهل السنة في بغداد وكاد الشيخ أبو حامد الإسفرايني يقتل فيها وصاح الرافضة ببغداد يا حاكم يا منصور فأحفظ القادر من ذلك وانفذ الفرسان الذين على بابه لمعاونة أهل السنة فانكسر الروافض.

وفيها هدم الحاكم بيعة قمامة التي بالمقدس وأمر بهدم جميع الكنائس التي بمصر وأمر النصارى بأن تحمل في أعناقهم الصلبان طول الصليب ذراع ووزنه خمسة أرطال بالمصري واليهود أن يحملوا في أعناقهم قرم الخشب في زنة الصلبان وأن يلبسوا العمائم السود فأسلم طائفة منهم ثم بعد ذلك أذن في إعادة البيع والكنائس وأذن لمن أسلم أن يعود إلى دينه لكونه مكرهاً.

وفي سنة تسع وتسعين عزل أبو عمرو قاضي البصرة وولي القضاء أبو الحسن ابن أبي الشوارب فقال العصفري الشاعر:

عندي حديث طريف ... بمثله يتغنى

عن قاضيين: يعزى ... هذا وهذا يهنى

وذا يقول جبرنا ... وذا يقول استرحنا

ويكذبان جميعاً ... ومن يصدق منا

وفيها وهى سلطان بني أمية بالأندلس وانخرم نظامهم.

وفي سنة أربعمائة نقصت دجلة نقصاناً لم يعهد واكتريت لأجل جزائر ظهرت ولم يكن قبل ذلك قط.

وفي سنة اثنتين نهى الحاكم عن بيع الرطب وحرقه وعن بيع العنب وأباد كثيراً من الكروم. وفي سنة أربع منع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلا ونهاراً واستمر ذلك إلى أن مات.

وفي سنة إحدى عشرة قتل الحاكم لعنه اللّه بحلوان قرية بمصر وقام بعده ابنه علي ولقب بالظاهر لإعزاز دين اللّه وتضعضعت دولتهم في أيامه فخرجت عنهم حلب وأكثر الشام.

وفي سنة اثنتين وعشرين توفي القادر باللّه ليلة الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة عن سبع وثمانين سنة ومدة خلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة اشهر.

وممن مات في أيامه من الأعلام أبو أحمد العسكري الأديب والرماني النحوي وأبو الحسن الماسرجسي شيخ الشافعية وأبو عبيد اللّه المرزباني والصاحب بن عباد وهو وزير مؤيد الدولة وهو أول من سمى بالصاحب من الوزراء والدارقطني الحافظ المشهور وابن شاهين وأبو بكر الأودني إمام الشافعية ويوسف بن السيرافي وابن زولاق المصري وابن أبي زيد المالكي شيخ المالكية وأبو طالب المكي صاحب قوت القلوب وابن بطة الحنبلي وابن سمعون الواعظ والخطابي والحاتمي اللغوي والأدفوي أبو بكر وزاهر السرخسي شيخ الشافعية وابن غلبون المقرئ والكشميهني راوي الصحيح والمعافى بن زكريا النهرواني وابن خويز منداد وابن جني والجوهري صاحب الصحاح وابن فارس صاحب المجمل وابن منده الحافظ والإسماعيلي شيخ الشافعية واصبغ بن الفرج شيخ المالكية وبديع الزمان أول من عمل المقامات وابن لال وابن أبي زمنين وأبو حيان التوحيدي والوأواء الشاعر والهروي صاحب الغريبين وأبو الفتح البستي الشاعر والحليمي شيخ الشافعية وابن الفارض وأبو الحسن القابسي والقاضي أبو بكر الباقلاني وأبو الطيب الصعلوكي وابن الأكفاني وابن نباته صاحب الخطب والصيمري شيخ الشافعية والحاكم صاحب المستدرك وابن كج والشيخ أبو حامد الإسفرايني وابن فورك والشريف الرضي وأبو بكر الرازي صاحب الألقاب والحافظ عبد الغني بن سعيد وابن مردويه وهبة اللّه بن سلامة الضرير المفسر وأبو عبد الرحمن السلمي شيخ الصوفية وابن البواب صاحب الخط وعبد الجبار المعتزلي والمحاملي إمام الشافعية وأبو بكر القفال شيخ الشافعية والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني واللالكائي وابن الفخار عالم الأندلس وعلي بن عيسى الربعي النحوي وخلائق آخرون.

قال الذهبي: كان في هذا العصر رأس الأشعرية أبو إسحاق الإسفرايني ورأس المعتزلة القاضي عبد الجبار ورأس الرافضة الشيخ المقتدر ورأس الكرامية محمد بن الهيصم ورأس القراء أبو الحسن الحمامي ورأس المحدثين الحافظ عبد الغني بن سعيد ورأس الصوفية أبو عبد الرحمن السلمي ورأس الشعراء أبو عمر بن دراج ورأس المجودين ابن البواب ورأس الملوك السلطان محمود بن سبكتكين.

قلت: ويضم إلى هذا رأس الزنادقة الحاكم بأمر اللّه ورأس اللغويين الجوهري ورأي النحاة ابن جني ورأس البلغاء البديع ورأس الخطباء ابن نباتة ورأس المفسرين أبو القاسم بن حبيب النيسابوري ورأس الخلفاء القادر باللّه فإنه من أعلامهم تفقه وصنف وناهيك بأن الشيخ تقي الدين ابن الصلاح عده من الفقهاء الشافعية وأورده في طبقاتهم ومدته في الخلافة من أطول المدد.

القائم بأمر اللّه أبو جعفر

القائم بأمر اللّه: أبو جعفر عبد اللّه بن القادر ولد في نصف ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وأمه أم ولد أرمنية اسمها بدر الدجى

وقيل: قطر الندى.

ولي الخلافة عند موت أبيه في يوم الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وكان ولي عهده في الحياة وهو الذي لقبه بالقائم بأمر اللّه.

قال ابن الأثير: كان جميلا مليح الوجه أبيض مشرباً حمرة حسن الجسم ورعاً ديناً زاهداً عالماً قوي اليقين باللّه تعالى كثير الصدقة والصبر له عناية بالأدب ومعرفة حسنة بالكتابة مؤثراً للعدل والإحسان وقضاء الحوائج لا يرى المنع من شيء طلب منه.

قال الخطيب: ولم يزل أمر القائم بأمر باللّه مستقيماً إلى أن قبض عليه في سنة خمسين وأربعمائة.

وكان السبب في ذلك أن ارسلان التركي المعروف بالبساسيري كان قد عظم أمره واستفحل شأنه لعدم نظرائه وانتشر ذكره وتهيبته أمراء العرب والعجم ودعى له على المنابر وجبي الأموال وخرب القرى ولم يكن القائم يقطع أمراً دونه ثم صح عنده سوء عقيدته وبلغه أنه عزم على نهب دار الخلافة والقبض على الخليفة فكاتب الخليفة أبا طالب محمد ابن مكيال سلطان الغز المعروف بطغرلبك وهو بالري يستنهضه في القدوم ثم أحرقت دار البساسيري.

وقدم طغرلبك في سنة سبع وأربعين فذهب البساسيري إلى الرحبة وتلاحق به خلق من الأتراك وكاتب صاحب مصر فأمده بالأموال وكاتب تبال أخا طغرلبك وأطمعه بمنصب أخيه فخرج تبال واشتغل به طغرلبك.

ثم قدم البساسيري بغداد في سنة خمسين ومعه الرايات المصرية ووقع القتال بينه وبين الخليفة ودعي لصاحب مصر المستنصر بجامع المنصور وزيد في الأذان حي على خير العمل ثم خطب له في كل الجوامع إلا جامع الخليفة ودام القتال شهراً.

ثم قبض البساسيري على الخليفة في ذي الحجة وسيره إلى غابة وحبسه بها وأما طغرلبك فظفر بأخيه وقتله ثم كاتب متولي غابة في رد الخليفة إلى داره مكرماً فحصل الخليفة في مقر عزة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين ودخل بأبهة عظيمة والأمراء والحجاب بين يديه.

وجهز طغرلبك جيشاً فحاربوا البساسيري فظفروا به فقتل وحمل رأسه إلى بغداد ولما رجع الخليفة إلى داره لم ينم بعدها إلا على فراش مصلاه ولزم الصيام والقيام وعفا عن كل من آذاه ولم يسترد شيئاً مما نهب من قصره إلا بالثمن و

قال: هذه أشياء احتسبناها عند اللّه ولم يضع رأسه بعدها على مخدة.

ولما نهب قصره لم يوجد فيه شيء من آلات الملاهي.

وروي أنه لما سجنه البساسيري كتب قصته وأنفذها إلى مكة فعلقت في الكعبة فيها: إلى اللّه العظيم من المسكين عبده اللّهم إنك العالم بالسرائر المطلع على الضمائر اللّهم إنك غني بعلمك وإطلاعك على خلقك عن إعلامي هذا عبد قد كفر نعمك وما شكرها وألغى العواقب وما ذكرها أضغاه حلمك حتى تعدى علينا بغياً وأساء إلينا عتواً وعدواً اللّهم قل الناصر واعتز الظالم وأنت المطلع العالم المنصف الحاكم بك نعتز عليه وإليك نهرب من بين يديه فقد تعزز علينا بالمخلوقين ونحن نعتز بك وقد حاكمناه إليك وتوكلنا في أنصافنا منه عليك ورفعنا ظلامتنا هذه إلى حرمك ووثقنا في كشفها بكرمك فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين.

وفي سنة ثمان وعشرين مات الظاهر العبيدي صاحب مصر وأقيم ابنه المستنصر بعده وهو ابن سبع سنين فأقام في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر.

قال الذهبي: ولا أعلم أحداً في الإسلام لا خليفة ولا سلطاناً أقام هذه المدة وفي أيامه كان الغلاء بمصر الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف فأقام سبع سنين حتى أكل الناس بعضهم بعضاً وحتى قيل: أنه بيع رغيف بخمسين ديناراً.

وفي سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة قطع المعز بن باديس الخطبة للعبيدي بالمغرب وخطب لبني العباس.

وفي سنة إحدى وخمسين كان عقد الصلح بين السلطان إبراهيم بن مسعود ابن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وبين السلطان جغري بك بن سلجوق أخي طغرلبك صاحب خراسان بعد حروب كثيرة ثم مات جغري بك في السنة وأقيم مكانه ابنه ألب ارسلان.

وفي سنة أربع وخمسين زوج الخليفة ابنته لطغرلبك بعد أن دافع بكل ممكن وانزعج واستعفى ثم لان لذلك برغم منه وهذا أمر لم ينله أحد من ملوك بني بويه مع قهرهم الخلفاء وتحكمهم فيهم.

قلت: والآن زوج خليفة عصرنا ابنته من واحد من مماليك السلطان فضلاً عن السلطان فإنا للّه وإنا إليه راجعون.

ثم قدم طغرلبك في سنة خمس وخمسين فدخل بابنة الخليفة وأعاد المواريث والمكوس وضمن بغداد بمائة وخمسين ألف دينار ثم رجع إلى الري فمات بها في رمضان فلا عفا اللّه عنه، وأقيم في السلطنة بعده ابن أخيه عضد الدولة ألب أرسلان صاحب خراسان وبعث إليه القائم بالخلع والتقليد.

قال الذهبي: وهو أول من ذكر بالسلطان على منابر بغداد وبلغ ما لم يبلغه أحد من الملوك وافتتح بلاداً كثيرة من بلاد النصارى واستوزر نظام الملك فأبطل ما كان عليه الوزير قبله عميد الملك من سب الأشعرية وانتصر للشافعية وأكرم إمام الحرمين وأبا القاسم القشيري وبني النظامية قيل: وهي أول مدرسة بنيت للفقهاء.

وفي سنة ثمان وخمسين ولدت بباب الأزج صغيرة لها رأسان ووجهان ورقبتان على بدن واحد.

وفيها ظهر كوكب كأنه دارة القمر ليلة تمامه بشعاع عظيم وهال الناس ذلك وأقام عشر ليال ثم تناقص ضوءه وغاب.

وفي سنة تسع وخمسين فرغت المدرسة النظامية ببغداد وقرر لتدريسها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فاجتمع الناس فلم يحضر واختفى فدرس ابن الصباغ صاحب الشامل ثم تلطفوا بالشيخ أبي إسحاق حتى أجاب ودرس.

وفي سنة ستين كانت بالرملة الزلزلة الهائلة التي خربتها حتى طلع الماء من رؤوس الآبار وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألفاً وأبعد البحر عن ساحله مسيرة يوم فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون السمك فرجع الماء عليهم فأهلكهم.

وفي سنة إحدى وستين احترق جامع دمشق وزالت محاسنه وتشوه منظره وذهبت سقوفه المذهبة.

وفي سنة اثنتين وستين ورد رسول أمير مكة على السلطان ألب ارسلان بأنه أقام الخطبة العباسية وقطع خطبة المستنصر المصري وترك الأذان بحي على خير العمل فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وخلعاً.

وسبب ذلك ذلة المصريين بالقحط المفرط سنين متوالية حتى أكل الناس الناس وبلغ الإردب مائة دينار وبيع الكلب بخمسة دنانير والهر بثلاث دنانير.

وحكى صاحب المرآة أن امرأة خرجت من القاهرة ومعها مد جوهر فقالت: من يأخذه بمد بر؟ فلم يلتفت إليها أحد.

وقال بعضهم يهنئ القائم:

وقد علم المصري أن جنوده ... سنو يوسف فيها وطاعون عمواس

أقامت به حتى استراب بنفسه ... وأوجس منها خيفة أي إيجاس

وفي سنة ثلاث وستين خطب بحلب للقائم للسلطان ألب ارسلان لما رأوا قوة دولتهما وإدبار دولة المستنصر.

وفيها كانت وقعة عظيمة بين الإسلام والروم ونصر المسلمون وللّه الحمد ومقدمه السلطان ألب أرسلان وأسر ملك الروم ثم أطلقه بمال جزيل وهادنه خمسين سنة.

ولما أطلق قال السلطان: أين جهة الخليفة؟ فأشار له فكشف رأسه وأومأ إلى الجهة بالخدمة. وفي سنة أربع وستين كان الوباء في الغنم إلى الغاية.

وفي سنة خمس وستين قتل السلطان ألب أرسلان وقام في الملك بعده ولده ملكشاه ولقب جلال الدولة ورد تدبير الملك إلى نظام الملك ولقبه الأتابك وهو أول من لقبه ومعناه الأمير الوالد. وفيها اشتد الغلاء بمصر حتى أكلت امرأة رغيفاً بألف دينار وكثر الوباء إلى الغاية.

وفي سنة ست وستين كان الغرق العظيم ببغداد وزادت دجلة ثلاثين ذراعاً ولم يقع مثل ذلك قط وهلكت الأموال والأنفس والدواب وركبت الناس في السفن وأقيمت الجمعة في الطيار على وجه الماء مرتين وقام الخليفة يتضرع إلى اللّه وصارت بغداد ملقة واحدة وانهدم مائة ألف دار أو أكثر.

وفي سنة سبع وستين مات الخليفة القائم بأمر اللّه ليلة الخميس الثالث عشر من شعبان وذلك أنه افتصد ونام فانحل موضع الفصد وخرج منه دم كثير فاستيقظ وقد انحلت قوته فطلب حفيده ولي العهد عبد اللّه بن محمد ووصاه ثم توفي ومدة خلافته خمس وأربعون سنة.

مات في أيامه من الأعلام: أبو بكر البرقاني وأبو الفضل الفلكي والثعلبي المفسر والقدوري شيخ الحنفية وابن سينا شيخ الفلاسفة ومهيار الشاعر وأبو نعيم صاحب الحلية وأبو زيد الدبوسي والبرادعي المالكي صاحب التهذيب وأبو الحسين البصري المعتزلي ومكي صاحب الإعراب والشيخ أبو محمد الجويني والمهدوي صاحب التفسير والإفليلي والثمانيني وأبو عمرو الداني والخليل صاحب الإرشاد وسليم الرازي وأبو العلاء المعري وأبو عثمان الصابوني وابن بطال شارح البخاري والقاضي أبو الطيب الطبري وابن شيطا المقرئ والماوردي الشافعي وابن باب شاذ والقضاعي صاحب الشهاب وابن برهان النحوي وابن حزم الظاهري والبيهقي وابن سيده صاحب المحكم وأبو يعلى بن الفراء شيخ الحنابله والحضرمي من الشافعية والهذلي صاحب الكامل في القراءات والفريابي والخطيب والبغدادي وابن رشيق صاحب العمدة وابن عبد البر.

المقتدي بأمر اللّه أبو القاسم

المقتدي بأمر اللّه: أبو القاسم عبد اللّه بن محمد بن القائم بأمر اللّه.

مات أبوه في حياة القائم وهو حمل فولد بعد وفاة أبيه بستة أشهر وأمه أم ولد اسمها أرجوان. وبويع له بالخلافة عند موت جده وله تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وكانت البيعة بحضرة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والدامغاني وظهر في أيامه خيرات كثيرة وآثار حسنة في البلدان.

وكانت قواعد الخلافة في أيامه باهرة وافرة الحرمة بخلاف من تقدمه.

ومن محاسنه أنه نفى المغنيات والخواطي ببغداد وأمر أن لا يدخل أحد الحمام إلا بمئزر وخرب أبراج الحمام صيانة لحرم الناس.

وكان ديناً خيراً قوي النفس عالي الهمة من نجباء بني العباس.

وفي هذه السنة من خلافته أعيدت الخطبة للعبيدي بمكة وفيها جمع نظام الملك المنجمين وجعلوا النيروز أول نقطة من الحمل وكان قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت وصار ما فعله النظام مبدأ التقاويم.

وفي سنة ثمان وستين خطب للمقتدي بدمشق وأبطل الأذان بحي على خير العمل وفرح الناس بذلك.

وفي سنة تسع وستين قدم بغداد أبو نصر بن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجاً فوعظ بالنظامية وجرى له فتنة كبيرة مع الحنابلة لأنه تكلم على مذهب الأشعري وحط عليهم وكثر أتباعه والمتعصبون له فهاجت فتن وقتلت جماعة.

وعزل فخر الدولة بن جهير من وزارة المقتدي لكونه شذ عن الحنابلة.

وفي سنة خمس وسبعين بعث الخليفة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رسولا إلى السلطان يتضمن الشكوى من العميد أبي الفتح بن أبي الليث عميد العراق.

وفي سنة سبع وسبعين رخصت الأسعار بسائر البلاد وارتفع الغلاء.

وفيها ولى الخليفة أبا الشجاع محمد بن الحسين الوزارة ولقبه ظهير الدين وأظن ذلك أول حدوث التلقيب بالإضافة إلى الدين.

وفي سنة سبع وسبعين سار سليمان بن قتلمش السلجوقي صاحب قونية وأقصراء بجيوشه إلى الشام فأخذ إنطاكية وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وأرسل إلى السلطان ملكشاه يبشره قال الذهبي: وآل سلجوق هم ملوك بلاد الروم وقد امتدت أيامهم وبقي منهم بقية إلى زمن الملك الظاهر بيبرس.

وفي سنة ثمان وسبعين جاءت ريح سوداء ببغداد بعد العشاء واشتد الرعد والبرق وسقط الرمل وتراب كالمطر ووقعت عدة صواعق في كثير من البلاد فظن الناس أنها القيامة وبقيت ثلاث ساعات بعد العصر وقد شاهد هذه الكائنة الإمام أبو بكر الطرطوشي وأوردها في أماليه.

وفي سنة تسع وسبعين أرسل يوسف بن تاشفين صاحب سبتة ومراكش إلى المقتدي يطلب أن يسلطنه وأن يقلده ما بيده من البلاد فبعث إليه الخلع والأعلام والتقليد ولقبه بأمير المسلمين ففرح بذلك وسر به فقهاء المغرب وهو الذي أنشأ مدينة مراكش.

وفيها دخل السلطان ملكشاه بغداد في ذي الحجة وهو أول من دخوله إليها فنزل بدار المملكة ولعب بالكرة وقد تقاوم الخليفة ثم رجع إلى أصبهان.

وفيها قطعت خطبة العبيدي بالحرمين وخطب للمقتدي.

وفي سنة إحدى وثمانين مات ملك غزنة المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتين وقام مقامه ابنه جلال الدين مسعود.

وفي سنة ثلاث وثمانين عملت ببغداد مدرسة لتاج الملك مستوفي الدولة بباب أبرز ودرس بها أبو بكر الشاشي.

وفي سنة أربع وثمانين استولت الفرنج على جميع جزيرة صقلية وهي أول ما فتحها المسلمون بعد المائتين وحكم عليها آل الأغلب دهراً إلى أن استولى العبيدي المهدي على المغرب.

وفيها قدم السلطان ملكشاه بغداد وأمر بعمل جامع كبير بها وعمل الأمراء حوله دوراً ينزلونها ثم رجع إلى أصبهان وعاد إلى بغداد في سنة خمس وثمانين عازماً على الشر وأرسل إلى الخليفة يقول: لا بد أن تترك لي بغداد وتذهب إلى أي بلد شئت فانزعج الخليفة و

قال: أمهلني ولو شهراً

قال: ولا ساعة واحدة فأرسل الخليفة إلى وزير السلطان يطلب المهلة إلى عشرة أيام فاتفق مرض السلطان وموته وعد ذلك كرامة للخليفة

وقيل: إن الخليفة جعل يصوم فإذا أفطر جلس على الرماد ودعا على ملكشاه فاستجاب اللّه دعاءه وذهب إلى حيث ألقت ولما مات كتمت زوجته تركان خاتون موته وأرسلت إلى الأمراء سراً فاستحلفتهم لولده محمود وهو ابن خمس سنين فحلفوا له وأرسلت إلى المقتدي في أن يسلطنه فأجاب ولقبه ناصر الدنيا والدين ثم خرج عليه أخوه بركياروق بن ملكشاه فقلده الخليفة ولقبه ركن الدين وذلك في المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة وعلم الخليفة على تقليده ثم مات الخليفة من الغد فجأة فقيل: إن جاريته شمس النهار سمته وبويع لولده المستظهر.

وممن مات في أيام المقتدى من الأعلام: عبد القادر الجرجاني وأبو الوليد الباجي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والأعلم النحوي وابن الصباغ صاحب الشامل والمتولي وإمام الحرمين والدامغاني الحنفي وابن فضالة المجاشعي والبزدوي شيخ الحنفية.

المستظهر باللّه أبو العباس

المستظهر باللّه: أبو العباس أحمد بن المقتدي باللّه.

ولد في شوال سنة سبعين وأربعمائة وبويع له عند موت أبيه وله ست عشرة سنة وشهران.

قال ابن الأثير: كان لين الجانب كريم الأخلاق يحب اصطناع الناس ويفعل الخير ويسارع في أعمال البر حسن الخط جيد التوقعات ولا يقاربه فيها أحد ويدل على فضل غزير وعلم واسع سمحاً جواداً محباً للعلماء والصلحاء ولم تصف له الخلافة بل كانت أيامه مضطربة كثيرة الحروب.

وفي هذه السنة من أيامه مات المستنصر العبيدي صاحب مصر وقام بعده ابنه المستعلي أحمد. وفيها أخذت الروم بلنسية.

وفي سنة ثمان وثمانين قتل أحمد خان صاحب سمرقند لأنه ظهر منه الزندقة فقبض عليه الأمراء وأحضروا الفقهاء فأفتوا بقتله فقتل لا رحمه اللّه وملكوا ابن عمه.

وفي سنة تسع وثمانين اجتمعت الكواكب السبعة سوى زحل في برج الحوت فحكم المنجمون بطوفان يقارب طوفان نوح فاتفق أن الحجاج نزلوا في دار المناقب فأتاهم السيل غرق أكثرهم.

وفي سنة تسعين قتل السلطان أرسلان أرغون بن ألب أرسلان السلجوقي صاحب خراسان فتملكها السلطان بركياروق ودانت له البلاد والعباد.

وفيها خطب للعبيدي بحلب وإنطاكية والمعرة وشيزر شهراً ثم أعيدت الخطبة العباسية.

وفيها جاءت الفرنج فأخذوا نيقية وهو أول بلد أخذوه ووصلوا إلى كفر طاب واستباحوا تلك النواحي فكان هذا أول مظهر الفرنج بالشام قدموا في بحر القسطنطينية في جمع عظيم وانزعجت الملوك والرعية وعظم الخطب فقيل: إن صاحب مصر لما رأى قوة السلجوقية واستيلاءهم على الشام كاتب الفرنج يدعوهم إلى المجيء إلى الشام ليملكوها وكثر النفير على الفرنج من كل جهة.

وفي سنة اثنتين وتسعين انتشرت دعوة الباطنية بأصبهان.

وفيها أخذت الفرنج بيت المقدس بعد حصار شهر ونصف وقتلوا به أكثر من سبعين ألفاً منهم جماعة من العلماء والعباد والزهاد وهدموا المشاهد وجمعوا اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم وورد المستنفرون إلى بغداد فأوردوا كلاماً أبكى العيون واختلفت السلاطين فتمكنت الفرنج من الشام والأبيوردي في ذلك:

مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرصة للمراحم

وشر سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

فإيهاً بني الإسلام إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرى بالمناسم

أنائمة في ظل أمن وغبطة ... وعيش كنوار الخميلة ناعم

وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هبوات أيقظت كل نائم

وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم

تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم

فكم من دماء قد أبيحت؟ ومن دمى ... تواري حياء حسنها بالمعاصم

بحيث السيوف البيض محمرة الظبا ... وسمر العوالي داميات اللّهازم

يكاد لهن المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم

أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى ... رماحهم والدين واهي الدعائم

ويجتنبون النار خوفاً من الردى ... ولا يحسبون العار ضربة لازم

أترضى صناديد الأعراب بالأذى ... وتغضي على ذل كماة الأعاجم

فليتهم إذا لم يذودوا حمية ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم

وفيها خرج محمد بن ملكشاه على أخيه السلطان بركياروق فانتصر عليه فقلده الخليفة ولقبه غياث الدنيا والدين وخطب له ببغداد ثم جرت بينهما عدة وقعات.

وفيها نقل المصحف العثماني من طبرية إلى دمشق خوفاً عليه وخرج الناس لتلقيه فآووه في خزانة بمقصورة الجامع.

وفي سنة أربع وتسعين كثر أمر الباطنية بالعراق وقتلهم الناس واشتد الخطب بهم حتى كانت الأمراء يلبسون الدروع تحت ثيابهم وقتلوا الخلائق منهم الروياني صاحب البحر.

وفيها أخذ الفرنج بلد سروج وحيفا وأرسوف وقيسارية.

وفي سنة خمس وتسعين مات المستعلي صاحب مصر وأقيم بعده الآمر بأحكام اللّه منصور وهو طفل له خمس سنين.

وفي سنة ست وتسعين جرت فتن للسلطان فترك الخطباء الدعوة للسلطان واقتصروا على الدعوة للخليفة لا غير.

وفي سنة سبع وتسعين وقع الصلح بين السلطانين: محمد وبركياروق وسببه أن الحروب لما تطاولت بينهما وعم الفساد وصارت الأموال منهوبة والدماء مسفوكة والبلاد مخربة والسلطنة مطموعاً فيها وأصبح الملوك مقهورين بعد أن كانوا قاهرين دخل العقلاء بينهما في الصلح وكتبت العهود والأيمان والمواثيق وأرسل الخليفة خلع السلطنة إلى بركياروق وأقيمت له الخطبة ببغداد.

وفي سنة ثمان وتسعين مات السلطان بركياروق فأقام الأمراء بعده ولده جلال الدولة ملكشاه وقلده الخليفة وخطب له ببغداد وله دون خمس سنين فخرج عليه عمه محمد واجتمعت الكلمة عليه فقلده الخليفة وعاد إلى أصبهان سلطاناً متمكناً مهيباً كثير الجيوش.

وفيها كان ببغداد جدري مفرط مات فيه خلق من الصبيان لا يحصون وتبعه وباء عظيم.

وفي سنة تسع وتسعين ظهر رجل بنواحي نهاوند فادعى النبوة وتبعه خلق فأخذ وقتل.

وفي سنة خمسمائة أخذت قلعة أصبهان التي ملكها الباطنية وهدمت وقتلوا وسلخ كبيرهم وحشي جلده تبناً فعل ذلك السلطان محمد بعد حصار شديد فللّه الحمد.

وفي سنة إحدى وخمسمائة رفع السلطان الضرائب والمكوس ببغداد وكثر الدعاء له وزاد في العدل وحسن السيرة.

وفي سنة اثنتين عادت الباطنية فدخلوا شيرز على حين غفلة من أهلها فملكوها وملكوا القلعة وأغلقوا الأبواب وكان صاحبها خرج يتنزه فعاد وأبادهم في الحال وقتل فيها شيخ الشافعية الروياني صاحب البحر قتله الباطنية في بغداد كما تقدم.

وفي سنة ثلاث أخذت الفرنج طرابلس بعد حصار سنين.

وفي سنة أربع عظم بلاء المسلمين بالفرنج وتيقنوا استيلاءهم على أكثر الشام وطلب المسلمون الهدنة فامتنعت الفرنج وصالحوهم بألوف دنانير كثيرة فهادنوا ثم غدروا لعنهم اللّه.

وفيها هبت بمصر ريح سوداء مظلمة أخذت بالأنفاس حتى لا يبصر الرجل يده ونزل على الناس رمل وأيقنوا بالهلاك ثم تجلى قليلاً وعاد إلى الصفرة وكان ذلك من العصر إلى ما بعد المغرب.

وفيها كانت ملحمة كبيرة بين الفرنج وبين ابن تاشفين صاحب الأندلس نصر فيها المسلمون وقتلوا وأسروا وغنموا ما لا يعبر عنه وبادت شجعان الفرنج.

وفي سنة سبع جاء مودود صاحب الموصل بعسكر ليقاتل ملك الفرنج الذي بالقدس فوقع بينهم معركة هائلة ثم رجع مودود إلى دمشق فصلى الجمعة يوماً في الجامع وإذا بباطني وثب عليه فجرحه فمات من يومه فكتب ملك الفرنج إلى صاحب دمشق كتاباً فيه: وإن أمه قتلت عميدها في يوم عيد في بيت معبودها لحقيق على اللّه أن يبيدها.

وفي سنة إحدى عشرة جاء سيل عرم غرق سنجار وسورها وهلك خلق كثير حتى إن السيل أخذ باب المدينة فذهب به عدة فراسخ واختفى تحت التراب الذي جره السيل وظهر بعد سنين وسلم طفل في سرير له حمله السيل فتعلق السرير بزيتونة وعاش وكبر.

وفيها مات السلطان محمد وأقيم بعده ابنه محمود وله أربع عشرة سنة.

وفي سنة اثنتي عشرة مات الخليفة المستظهر باللّه في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من ربيع الأول فكانت مدته خمساً وعشرين سنة وغسله ابن عقيل شيخ الحنابلة وصلى عليه ابنه المسترشد وماتت بعده بقليل جدته أرجوان والدة المقتدي.

قال الذهبي: ولا يعرف خليفة عاشت جدته بعده إلا هذا رأت ابنها خليفة ثم ابن ابنها ثم ابن ابن ابنها ومن شعر المستظهر:

أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا ... لما مددت إلى رسم الوداع يداً

وكيف أسلك نهج اصطبار وقد ... أرى طرائق في مهوى الهوى قددا

إن كنت أنقض عهد الحب يا سكني ... من بعد هذا فلا عاينتكم أبداً

وللصارم البطائحي مدحاً:

أصبحت بالمستظهر بن المقتدي ... باللّه ابن القائم بن القادر

مستعصماً أرجو نوال أكفه ... وبأن يكون على العشيرة ناصري

فيقر مع كبري قراري عنده ... ويفوز من مدحي بشعر سائر

فوقع المستظهر بجائزتين: بخير بين الصلة والانحدار والمقام والإدرار وقال السلفي: قال لي أبو الخطاب بن الجراح صليت بالمستظهر في رمضان فقرأت: " إن ابنك سرق " " يوسف: 81 " رواية رويناها عن الكسائي فبما سلمت

قال: هذه قراءة حسنة فيها تنزيه أولاد الأنبياء عن الكذب.

مات في أيامه من الأعلام: أبو المظفر السمعاني ونصر المقدسي وأبو الفرج وشيذلة والروياني والخطيب التبريزي والكيا الهراسي والغزالي والشاشي الذي صنف له كتاب الحلية وسماه المستظهري والأبيوردي اللغوي.

المسترشد باللّه أبو المنصور

المسترشد باللّه: أبو منصور الفضل بن المستظهر باللّه ولد في ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة وأمه أم ولد وبويع له بالخلافة عند موت أبيه في ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وكان ذا همة عالية وشهامة زائدة وإقدام ورأي وهيبة شديدة ضبط أمور الخلافة ورتبها أحسن ترتيب وأحيا رسم الخلافة ونشر عظامها وشيد أركان الشريعة وطرز أكمامها وباشر الحروب بنفسه وخرج عدة نوب إلى الحلة والموصل وطريق خراسان إلى أن خرج النوبة الأخيرة وكسر جيشه بقرب همذان وأخذ أسيراً إلى أذربيجان وقد سمع الحديث من أبي القاسم بن بيان وعبد الوهاب بن هبة اللّه السبتي وروى عنه محمد بن عمر بن مكي الأهوازي ووزيره علي بن طراد وإسماعيل بن طاهر الموصلي ذكر ذلك ابن السمعاني وذكره ابن الصلاح في طبقات الشافعية ناهيك بذلك ف

قال: هو الذي صنف له أبو بكر الشاشي كتابة العمدة في الفقه وبلقبه اشتهر الكتاب فإنه كان حينئذ يلقب عمدة الدنيا والدين وذكره ابن السبكي في طبقات الشافعية و

قال: كان في أول أمره تنسك ولبس الصوف وانفرد في بيت للعبادة وكان مولده في يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان سنة ست وثمانين وأربعمائة وخطب له أبوه بولاية العهد ونقش اسمه على السكة في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وكان مليح الخط وما كتب أحد من الخلفاء قبله مثله يستدرك على كتابه ويصلح أغاليط في كتبهم وأما شهامته وهيبته وشجاعته وإقدامه فأمر أشهر من الشمس ولم تزل أيامه مكدرة بكثرة التشويش والمخالفين وكان يخرج بنفسه لدفع ذلك إلى أن خرج الخرجة الأخيرة إلى العراق وانكسر وأخذ ورزق الشهادة.

وقال الذهبي: مات السلطان محمود بن محمد ملكشاه سنة خمس وعشرين فأقيم ابنه داود مكانه فخرج عليه عمه مسعود بن محمد فاقتتلا ثم اصطلحا على الاشتراك بينهما ولكل مملكة وخطب لمسعود بالسلطنة ببغداد ومن بعده لداود وخلع عليهما ثم وقعت الوحشة بين الخليفة ومسعود فخرج لقتاله فالتقى الجمعان وغدر بالخليفة أكثر عسكره فظفر مسعود وأسر الخليفة وخواصه فحبسهم بقلعة بقرب همذان فبلغ أهل بغداد ذلك فحثوا في الأسواق التراب على رؤوسهم وبكوا وضجوا وخرج النساء حاسرات يندبن الخليفة ومنعوا الصلوات والخطبة.

قال ابن الجوزي: وزلزلت بغداد مراراً كثيرة ودامت كل يوم خمس مرات أو ستاً والناس يستغيثون فأرسل السلطان سنجر إلى ابن أخيه مسعود يقول: ساعة وقوف الولد غياث الدنيا والدين على هذا المكتوب يدخل على أمير المؤمنين ويقبل الأرض بين يديه ويسأله العفو والصفح ويتنصل غاية التنصل فقد ظهر عندنا من الآيات السماوية والأرضية ما لا طاقة لنا بسماع مثلها فضلاً عن المشاهدة من العواصف والبروق والزلازل ودام ذلك عشرين يوماً وتشويش العساكر وانقلاب البلدان ولقد خفت على نفسي من جانب اللّه وظهور آياته وامتناع الناس من الصلاة في الجوامع ومنع الخطباء ما لا طاقة لي بحمله فاللّه اللّه تتلافى أمرك وتعيد أمير المؤمنين إلى مقر عزه وتحمل الغاشية بين يديه كما جرت عاداتنا وعادة آبائنا ففعل مسعود جميع ما أمره به وقبل الأرض بين يدي الخليفة ووقف يسأل العفو.

ثم أرسل سنجر رسولاً آخر ومعه العسكر يستحث مسعوداً على إعادة الخليفة إلى مقر عزه فجاء في العسكر سبعة عشر من الباطنية فذكر أن مسعوداً ما علم بهم وقيل بل علم بهم وقيل بل هو الذي دسهم فهجموا على الخليفة في خيمته ففتكوا به وقتلوا جماعة من أصحابه فما شعر بهم العسكر إلا وقد فرغوا من شغلهم فأخذوهم وقتلوهم إلى لعنة اللّه وجلس السلطان للعزاء واظهر المساءة بذلك ووقع النحيب والبكاء وجاء الخبر إلى بغداد فاشتد ذلك على الناس وخرجوا حفاة مخرقين الثياب والنساء ناشرات الشعور يلطمن ويقلن المراثي لأن المسترشد كان محبباً فيهم ببره ولما فيه من الشجاعة والعدل والرفق بهم.

وكان قتل المسترشد رحمه اللّه بمراغة يوم الخميس سادس عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين ومن شعره:

أنا الأشقر المدعو بي في الملاحم ... من يملك الدنيا بغير مزاحم

ستبلغ أرض الروم خيلي وتنتضى ... بأقصى بلاد الصين بيض صوارمي

ومن شعره لما أسر:

ولا عجبا للأسد إن ظفرت بها ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم

فحربة وحشي سقت حمزة الردى ... وموت علي من حسام ابن ملجم

وله لما كسر وأشير عليه بالهزيمة فلم يفعل وثبت حتى أسر:

قالوا تقيم وقد أحا ... ط بك العدو ولا تفر

فأجبتهم المرء ما ... لم يتعظ بالوعظ غر

لا نلت خيراً ما حيي ... ت ولا عداني الدهر شر

إن كنت أعلم أن غي ... ر اللّه ينفع أو يضر

قال الذهبي: وقد خطب بالناس يوم عيد أضحى ف

قال: اللّه أكبر ما سبحت الأنواء وأشرق الضياء وطلعت ذكاء وعلت على الأرض السماء اللّه أكبر ما همى سحاب ولمع سراب وأنجح طلاب وسر قادماً إياب وذكر خطبة بليغة ثم جلس ثم قام فخطب و

قال: اللّهم أصلحني في ذريتي وأعني على ما وليتني وأوزعني شكر نعمتك ووفقني وانصرني فلما أنهاها وتهيأ للنزول بدره أبو المظفر الهاشمي فأنشده:

عليك سلام اللّه يا خير من علا ... على منبر قد حف أعلامه النصر

وأفضل من أم الأنام وعمهم ... بسريته الحسنى وكان له الأمر

وأفضل أهل الأرض شرقاً ومغرباً ... ومن جده من أجله نزل القطر

لقد شنفت أسماعنا منك خطبة ... وموعظة فصل يلين لها الصخر

ملأت بها كل القلوب مهابة ... فقد رجفت من خوف تخويفها مصر

وزدت بها عدنان مجداً مؤثلا ... فأضحى بها بين الأنام لك الفخر

وسدت بني العباس حتى لقد غدا ... يباهي بك السجاد والعالم البحر

فللّه عصر أنت فيه إمامنا ... وللّه دين أنت فيه لنا الصدر

بقيت على الأيام والملك كلما ... تقادم عصر أنت فيه أتى عصر

وأصبحت بالعيد السعيد مهنأ ... تشرفنا فيه صلاتك والنحر

وقال وزيرة جلال الدين الحسن بن علي بن صدقة يمدحه:

وجدت الورى كالماء طعماً ورقة ... وأن أمير المؤمنين زلالة

وصورت معنى العقل شخصاً مصوراً ... وأن أمير المؤمنين مثاله

ولولا مكان الدين والشرع والتقى ... لقلت من الإعظام جل جلاله

وفي سنة أربع وعشرين من أيامه ارتفع سحاب أمطر بلد الموصل ناراً أحرقت من البلد مواضع ودوراً كثيرة.

وفيها قتل صاحب مصر الآمر بأحكام اللّه منصور عن غير عقب وقام بعده ابن عمه الحافظ عبد المجيد بن محمد بن المنتصر.

وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة لها شوكتان وخاف الناس منها وقد قتلت جماعة أطفال.

وممن مات في أيام المسترشد من الأعلام شمس الأئمة أبو الفضل إمام الحنفية وأبو الوفاء بن عقيل الحنبلي وقاضي القضاة أبو الحسن الدامغاني وابن بليمة المقرئ والطغرائي صاحب لامية العجم وأبو علي الصدفي الحافظ وأبو نصر القشيري وابن القطاع اللغوي ومحيي السنة البغوي وابن الفحام المقرئ والحريري صاحب المقامات والميداني صاحب الأمثال وأبو الوليد بن رشد المالكي والإمام أبو بكر الطرطوشي وأبو الحجاج السرقسطي وابن السيد البطليوسي وأبو علي الفارقي من الشافعية وابن الطراوة النحوي وابن الباذش وظافر الحداد الشاعر وعبد الغفار الفارسي وخلائق آخرون.

الراشد باللّه أبو جعفر

الراشد باللّه: أبو جعفر منصور بن المسترشد.

ولد في سنة اثنتين وخمسمائة وأمه أم ولد وي

قال: إنه ولد مسدوداً فأحضروا الأطباء فأشاروا بأن يفتح له مخرج بآلة من ذهب ففعل به ذلك فنفع.

وخطب له أبوه بولاية العهد سنة ثلاث عشرة وبويع له بالخلافة عند قتل أبيه في ذي القعدة سنة تسع وعشرين.

وكان فصيحاً أديباً شاعراً شجاعاً سمحاً جواداً حسن السيرة يؤثر العدل ويكره الشر.

ولما عاد السلطان مسعود إلى بغداد خرج هو إلى الموصل فأحضروا القضاة والأعيان والعلماء وكتبوا محضراً فيه شهادة طائفة بما جرى من الراشد من الظلم وأخذ الأموال وسفك الدماء وشرب الخمر واستفتوا الفقهاء فيمن فعل ذلك هل تصح إمامته وهل إذا ثبت فسقه يجوز لسلطان الوقت أن يخلعه ويستبدل خيراً منه؟ فأفتوا بجواز خلعه وحكم بخلعه أبو طاهر بن الكرخي قاضي البلد وبايعوا عمه محمد بن المستظهر ولقب المقتفي لأمر اللّه وذلك في سادس عشر من ذي القعدة سنة ثلاثين.

وبلغ الراشد الخلع فخرج من الموصل إلى بلاد أذربيجان وكان معه جماعة فقسطوا على مراغة مالا وعاثوا هناك ومضوا إلى همدان وأفسدوا بها وقتلوا جماعة وصلبوا آخرين وحلقوا لحى جماعة من العلماء ثم مضوا إلى أصبهان فحاصروها ونهبوا القرى.

ومرض الراشد بظاهر أصبهان مرضاً شديداً فدخل عليه جماعة من العجم كانوا فراشين معه فقتلوه بالسكاكين ثم قتلوا كلهم وذلك في سادس عشر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وجاء الخبر إلى بغداد فقعدوا للعزاء يوماً واحداً.

قال العماد الكاتب: كان للراشد الحسن اليوسفي والكرم الحاتمي.

قال ابن الجوزي: وقد ذكر الصولي أن الناس يقولون إن كل سادس يقوم للناس يخلع فتأملت هذا فرأيته عجباً.

قلت: وقد سقت بقية كلامه في الخطبة ولم تؤخذ البردة والقضيب من الراشد حتى قتل فأحضرا بعد قتله إلى المقتفي.

المقتفي لأمر اللّه أبو عبيد اللّه

المقتفي لأمر اللّه: أبو عبد اللّه محمد بن المستظهر باللّه.

ولد في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة وأمه حبشية وبويع له بالخلافة عند خلع ابن أخيه وعمره أربعون سنه وسبب تلقيبه بالمقتفي أنه رأى في منامه قبل أن يستخلف بستة أيام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول له سيصل هذا الأمر إليك فاقتف لأمر اللّه فلقب المقتفي لأمر اللّه وبعث السلطان مسعود بعد أن أظهر العدل ومهد بغداد فأخذ جميع ما في دار الخلافة من دواب وأثاث وذهب وستور وسرادق ولم يترك في إصطبل الخلافة سوى أربعة أفراس وثمانية أبغال برسم الماء في

قال: إنهم بايعوا المقتفي على أن لا يكون عنده خيل ولا آلة سفر.

ثم في سنة إحدى وثلاثين أخذ السلطان مسعود جميع تعلق الخليفة ولم يترك له إلا العقار الخاص وأرسل وزيره يطلب من الخليفة مائة ألف دينار فقال المقتفي ما رأينا أعجب من أمرك أنت تعلم أن المسترشد سار إليك بأمواله فجرى ما جرى وأن الراشد ولي ففعل ما فعل ورحل وأخذ ما تبقى ولم يبق إلا الأثاث فأخذته كله وتصرفت في دار الضرب وأخذت التركات والجوالي فمن أي وجه نقيم لك هذا المال وما بقي إلا أن نخرج من الدار ونسلمها فإني عاهدت اللّه أن لا آخذ من المسلمين حبة ظلماً فترك السلطان الأخذ من الخليفة وعاد إلى جباية الأملاك من الناس وصادر التجار فلقي الناس من ذلك شدة ثم في جمادى الأولى أعيدت بلاد الخليفة معاملاته والتركات إليه.

وفي هذه السنة رقب الهلال ليلة الثلاثين من شهر رمضان فلم ير فأصبح أهل بغداد صائمين لتمام العدة فلما أمسوا رقبوا الهلال فما رأوه أيضاً وكانت السماء جليلة صاحية ومثل هذا لم يسمع بمثله في التواريخ.

وفي سنة ثلاث وثلاثين كان ببحترة زلزلة عظيمة عشرة فراسخ في مثلها فأهلكت خلائق ثم خسف ببحترة وصار مكان البلد ماء أسود.

وفيها استولى الأمراء على مغلات البلاد وعجز السلطان مسعود ولم يبق له إلا الاسم وتضعضع أيضاً أمر السلطان سنجر فسبحان مذل الجبابرة وتمكن الخليفة المفتفي وزادت حرمته وعلت كلمته وكان ذلك مبدأ صلاح الدولة العباسية فللّه الحمد.

وفي سنة إحدى وأربعين قدم السلطان مسعود بغداد وعمل دار ضرب فقبض الخليفة على الضراب الذي تسبب في إقامة دار الضرب فقبض مسعود على حاجب الخليفة فغضب الخليفة وغلق الجامع والمساجد ثلاثة أيام ثم أطلق الحاجب فأطلق الضراب وسكن الأمر.

وفيها جلس أبن العبادي الواعظ فحضر السلطان مسعود وتعرض بذكر مكس البيع وما جرى على الناس ثم قال يا سلطان العالم أنت تهب في ليلة لمطرب بقدر هذا الذي يؤخذ من المسلمين فاحسبني ذلك المطرب وهبه لي واجعله شكراً للّه بما أنعم عليك فأجاب ونودي في البلد بإسقاطه وطيف بالألواح التي نقش عليها ترك المكوس وبين يديه الدباب والبوقات وسمرت ولم تزل إلى أن أمر الناصر لدين اللّه بقلع الألواح وقال ما لنا حاجة بآثار الأعاجم.

وفي سنة ثلاث وأربعين حاصرت الفرنج دمشق فوصل إليها نور الدين محمود بن زنكي وهو صاحب حلب يومئذ وأخوه غازي صاحب الموصل فنصر المسلون واللّه الحمد وهزم الفرنج واستمر نور الدين في قتال الفرنج وأخذ ما استولوا عليه من بلاد المسلمين.

وفي سنة أربع وأربعين مات صاحب مصر الحافظ لدين اللّه وأقيم ابنه الظافر إسماعيل.

وفيها جاءت زلزلة عظيمة وماجت بغداد نحو عشر مرات وتقطع منه جبل بحلوان.

وفي سنة خمس وأربعين جاء باليمن بمطر كله دم وصارت الأرض مرشوشة بالدم وبقي أثره في ثياب الناس.

وفي سنة سبع وأربعين مات السلطان مسعود.

قال ابن هبيرة وهو وزير المقتفي لما تطاول على المقتفي أصحاب مسعود وأساءوا الأدب ولم يمكن المجاهرة بالمحاربة اتفق الرأي على الدعاء عليه شهراً كما دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم على رعل وذكوان شهراً فابتدأ هو والخليفة سراً كل واحد في موضعه يدعو سحراً من ليلة تسع وعشرين من جمادى الأولى واستمر الأمر كل ليلة فلما تكامل الشهر مات مسعود على سريره ولم يزد على الشهر يوماً ولا نقص يوماً.

واتفق العسكر على سلطنة ملكشاة وقام بأمره خاصبك ثم أن خاصبك قبض على ملكشاة وطلب أخاه محمداً من خوزستان فجاءه فسلم إليه السلطنة وأمر الخليفة حينئذ ونهى ونفذت كلمته وعزل من كان السلطان ولاه مدرساً بالنظامية وبلغه أن في نواحي واسط تخبطاً فسار بعسكره ومهد البلاد ودخل الحلة والكوفة ثم عاد إلى بغداد مؤيداً منصوراً وزينت بغداد.

وفي سنة ثمان وأربعون خرجت الغز على السلطان سنجر وأسروه وأذاقوه الذل وملكوا بلاده وبقوا الخطبة باسمه وبقي معهم صورة بلا معنى وصار يبكي على نفسه وله اسم السلطنة وراتبه في قدر راتب سائس من ساسته.

وفي سنة تسع وأربعين قتل بمصر صاحبها الظافر باللّه العبيدي وأقاموا ابنه الفائز عيسى صبياً صغيراً ووهى أمر المصريين فكتب المقتفي عهداً لنور الدين محمود بن زنكي وولاه مصر وأمره بالمسير إليها وكان مشغولا بحرب الفرنج وهو لا يفتر من الجهاد وكان تملك دمشق في صفر من هذا العام وملك عدة قلاع وحصون بالسيف وبالأمان من بلاد الروم وعظمت ممالكه وبعد صيته فبعث إليه المقتفي تقليداً وأمره بالمسير إلى مصر ولقبه بالملك العادل وعظم سلطان المقتفي واشتدت شوكته واستظهر على المخالفين وأجمع على قصد الجهات المخالفة لأمره ولم يزل أمره في تزايد وعلوا إلى أن مات ليلة الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة.

قال الذهبي: كان المقتفي من سروات الخلفاء عالماً أديباً شجاعاً حليماً دمث الأخلاق كامل السؤدد خليقاً للإمامة قليل المثل في الأئمة لا يجري في دولته أمر وإن صغر إلا بتوقيعه وكتب في خلافته ثلاث ربعات وسمع الحديث من مؤدبه أبي البركات بن أبي الفرج بن السني.

قال ابن السمعاني: وسمع جزء ابن عرفة مع أخيه المسترشد من أبي القاسم بن بيان روى عنه أبو منصور الجواليقي اللغوي إمامه والوزير ابن هبيرة وزيره وغيرهما وقد جدد المقتفي باباً للكعبة واتخذ من العقيق تابوتاً لدفنه وكان محمود السيرة مشكور الدولة يرجع إلى دين وعقل وفضل ورأي وسياسة جدد معالم الإمامة ومهد رسوم الخلافة وباشر الأمور بنفسه وغزا غير مرة وامتدت أيامه.

وقال أبو طالب عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع الهاشمي في كتاب المناقب العباسية: كانت أيام المقتفي نضرة بالعدل زاهرة بفعل الخيرات وكان على قدم من العبادة قبل إفضاء الأمر إليه وكان في أول أمره متشاغلا بالدين ونسخ العلوم وقراءة القرآن ولم ير مع سماحته ولين جانبه ورأفته بعد المعتصم خليفة في شهامته وصرامته وشجاعته مع ما خص به من زهده وورعه وعبادته ولم تزل جيوشه منصورة حيث يممت.

وقال ابن الجوزي: من أيام المقتفي عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء ولم يبق له منازع وقبل ذلك من دولة المقتدر إلى وقته كان الحكم للمتغلبين من الملوك وليس للخليفة معهم إلا اسم الخلافة ومن سلاطين دولته السلطان سنجر صاحب خرسان والسلطان نور الدين محمود صاحب الشام وكان جواداً كريماً محباً للحديث وسماعه معتنياً بالعلم مكرماً لأهله.

قال ابن السمعاني: حدثنا أبو منصور الجواليقي حدثنا المقتفي لأمر اللّه أمير المؤمنين حدثنا أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب حدثنا أبو محمد الصيرفيني حدثنا المخلص حدثنا إسماعيل الوراق حدثنا حفص بن عمرو الربالي حدثنا أبو سحيم حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس

قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " لا يزداد الأمراء إلا شدة ولا الناس إلا شحاً ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس " .

ولما عاد المقتفي الإمام أبا منصور الجواليقي النحوي ليجعله إماماً يصلى به دخل عليه فما زاد على أن قال السلام على أمير المؤمنين ورحمة اللّه وكان ابن التلميذ النصراني الطبيب قائماً فقال ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ فلم يلتفت إليه ابن الجواليقي وقال يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية وروى الحديث ثم قال يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانياً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه لما لزمته كفارة لأن اللّه ختم على قلوبهم ولن يفك ختم اللّه إلا الإيمان فقال المقتفي صدقت وأحسنت وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع غزارة أدبه.

وممن مات في أيام المقتفي من الأعلام ابن الأبرش النحوي ويونس بن غيث وجمال الإسلام بن المسلم الشافعي وأبو القاسم الأصفهاني صاحب الترغيب وابن برجان والمازري المالكي صاحب كتاب المعلم بفوائد مسلم والزمخشري والرشاطي صاحب الأنساب والجواليقي وهو إمامه وابن عطيه صاحب التفسير وأبو السعادات ابن الشجري والإمام أبو بكر ابن العربي وناصح الدين الأرجاني الشاعر والقاضي عياض والحافظ أبو الوليد بن الدباغ وأبو الأسعد هبة الرحمن القشيري وابن علام الفرس المقرئ والرفاء الشاعر والشهرستاني صاحب الملل والنحل والقيسراني الشاعر ومحمد بن يحيى تلميذ الغزالي وأبو الفضل بن ناصر الحافظ وأبو الكرم الشهرزوري المقرئ والوأواء الشاعر وابن الجلاء إمام الشافعية وخلائق آخرون.

المستنجد باللّه أبو المظفر

المستنجد باللّه: أبو المظفر يوسف بن المقتفي.

ولد سنة ثمان عشرة وخمسمائة وأمه أم ولد كرجية اسمها طاوس خطب له أبوه بولاية العهد سنة سبع وأربعين.

وبويع له يوم موت أبيه وكان موصوفاً بالعدل والرفق أطلق من المكوس شيئاً كثيراً بحيث لم يترك بالعراق مكساً وكان شديداً على المفسدين سجن رجلا كان يسعى بالناس مدة فحضره رجل وبذل في عشرة آلاف دينار فقال أنا أعطيك عشرة آلاف دينار ودلني على آخر مثله لأحبسه وأكف شره عن الناس.

قال ابن الجوزي: وكان المستنجد موصوفاً بالفهم الثاقب والرأي الصائب والذكاء الغالب والفضل الباهر له نظم بديع ونثر بليغ ومعرفة بعمل آلات الفلك والإسطرلاب وغير ذلك.

ومن شعره:

عيرتني بالشيب وهو وقار ... ليتها عيرت بما هو عار

إن تكن شابت الذوائب مني ... فالليالي تزينها الأقمار

وله في بخيل:

وباخل أشعل في بيته ... تكرمه منه لنا شمعة

فما جرت من عينها دمعة ... حتى جرت من عينه دمعة

وله في وزيره ابن هبيرة وقد رأى منه ما يعجبه من تدبير مصالح المسلمين:

صفت نعمتان خصتاك وعمتا ... بذكرهما حتى القيامة تذكر

وجودك والدنيا إليك فقيرة ... وجودك والمعروف في الناس منكر

فلو رام يحيى مكانك جعفر ... ويحيى لكفا عنه يحيى وجعفر

ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا ال ... مظفر إلا كنت أنت المظفر

مات في ثمان ربيع الآخر سنة ست وستين.

وكان في أول سنة من خلافته مات الفائز صاحب مصر وقام بعده العاضد لدين اللّه آخر خلفاء بني عبيد.

وفي سنة اثنتين وستين جهز السلطان نور الدين الأمير أسد الدين شيركوه في ألفي فارس إلى مصر فنزل بالجيزة وحاصر مصر نحو شهرين فاستنجد صاحبها بالفرنج فدخلوا من دمياط لنجدته فرحل أسد الدين إلى الصعيد ثم وقعت بينه وبين المصريين حرب انتصر فيها على قلة عسكره وكثرة عدوه وقتل من الفرنج ألوفاً ثم جبى أسد الدين خراج الصعيد وقصد الفرنج الإسكندرية وقد أخذها صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو ابن أخ أسد الدين فحاصروها أربعة أشهر فتوجه أسد الدين إليهم فرحلوا عنها فرجع إلى الشام.

وفي سنة أربع وستين قصدت الفرنج الديار المصرية في جيش عظيم فملكوا بلبيس وحاصروا القاهرة فأحرقها صاحبها خوفاً منهم ثم كاتب السلطان نور الدين يستنجد به فجاء أسد الدين بجيوشه فرحل الفرنج عن القاهرة لما سمعوا بوصوله ودخل أسد الدين فولاه العاضد صاحب مصر الوزارة وخلع عليه فلم يلبث أسد الدين أن مات بعد خمسة وستين يوماً فولى العاضد مكانه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وقلده الأمور ولقبه الملك الناصر فقام بالسلطنة أتم قيام.

ومن أخبار المستنجد قال الذهبي: ما زالت الحمرة الكثيرة تعرض في السماء منذ مرض وكان يرى ضوءها على الحيطان.

وممن مات في أيامه من الأعلام الديلمي صاحب مسند الفردوس والعمراني صاحب البيان من الشافعية وابن البرزي شافعي أهل الجزيرة والوزير ابن هبيرة والشيخ عبد القادر الجيلي والإمام أبو سعيد السمعاني وأبو النجيب السهروردي وأبو الحسن بن هذيل المقرئ وآخرون.

المستضيء بأمر اللّه الحسن

المستضيء بأمر اللّه الحسن أبو محمد بن المستنجد باللّه ولد سنة ست وثلاثين وخمسمائة وأمه أم ولد أرمنية اسمها غضة بويع له بالخلافة يوم موت أبيه.

قال ابن الجوزي: فنادى برفع المنكوس ورد المظالم وأظهر من العدل والكرم ما لم نره في أعمارنا وفاق مالا عظيماً على الهاشمين والعلويين والعلماء والمدارس والربط وكان دائم البذل للمال وليس له عنده وقع ذا حلم وأناه ورأفة ولما استخلف خلع على أرباب الدولة وغيرهم فحكى خياط المخزن أنه فصل ألفاً وثلاثمائة قباء إبريسم وخطب له على منابر بغداد ونثرت الدنانير كما جرت العادة وولى روح بن الحديثي القضاء وأمر سبعة عشر مملوكاً وللحيص بيص فيه:

يا أمام الهدى علوت على الجو ... د بمال وفضة ونضار

فوهبت الأعمار والأمن والبل ... دان في ساعة مضت من نهار

فماذا يثني عليك وقد جا ... وزت فضل البحور والأمطار

إنما أنت معجز مستقل ... خارق للعقول والأفكار

جمعت نفسك الشريفة بالبأ ... س وبالجود بين ماء ونار

قال ابن الجوزي: واحتجب المستضيء عن أكثر الناس فلم يركب إلا مع الخدم ولا يدخل عليه غيرهم.

وفي خلافته انقضت دولة بني عبيد وخطب له بمصر وضربت السكة باسمه وجاء البشير بذلك فعلقت الأسواق ببغداد وعملت القباب وصنفت كتاباً سميته النصر على مصر هذا كلام ابن الجوزي.

وقال الذهبي: في أيامه ضعف الرفض ببغداد ووهى وأمن الناس ورزق سعادة عظيمة في خلافته وخطب له باليمن وبرقة وتوزر ومصر إلى أسوان ودانت الملوك بطاعته وذلك سنة سبع وستين.

وقال العماد الكاتب: استفتح السلطان صلاح الدين بن أيوب سنة سبع بجامع مصر كل طاعة وسمع وهو إقامة الخطبة في الجمعة الأولى منها بمصر لبني العباس وعفت البدعة وصفت الشرعة وأقيمت الخطبة العباسية في الجمعة الثانية بالقاهرة وأعقب ذلك موت العاضد في يوم عاشوراء وتسلم صلاح الدين القصر بما فيه من الذخائر والنفائس بحيث استمر البيع فيه عشر سنين غير ما اصطفاه صلاح الدين لنفسه وسير السلطان نور الدين بهذه البشارة شهاب الدين المطهر ابن العلامة شرف الدين ابن أبي عصرون إلى بغداد وأمرني بإنشاء بشارة عامة تقرأ في سائر بلاد الإسلام فأنشأت بشارة أولها: الحمد اللّه معلي الحق ومعلنه وموهي الباطل وموهنه ومنها ولم يبق بتلك البلاد منبر إلا وقد أقيمت عليه الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بأمر اللّه أمير المؤمنين وتمهدت جوامع الجمع وتهدمت صوامع البدع إلى أن قال وطالما مرت عليها الحقب الخوالي وبقيت مائتين وثمان سنين ممنوة بدعوة المبطلين مملوءة بحزب الشياطين فملكنا اللّه تلك البلاد ومكن لنا في الأرض وأقدرنا على ما كنا نؤمله من إزالة الإلحاد والرفض وتقدمنا إلى من استنبناه أن يقيم الدعوة العباسية هنالك ويورد الأدعياء ودعاة الإلحاد بها المهالك.

وللعماد قصيدة في ذلك منها:

قد خطبنا للمستضيء بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر

وخذلنا لنصره العضد العا ... ضد والقاصر الذي بالقصر

وتركنا الدعي يدعو ثبوراً ... وهو بالذل تحت حجر وحصر

وأرسل الخليفة في جواب البشارة الخلع والتشريفات لنور الدين وصلاح الدين وأعلامنا وبنوداً للخطباء بمصر وسير للعماد الكاتب خلعة ومائة دينار فعمل قصيدة أخرى منها:

أدالت بمصر لداعي الهدا ... ة وانتقمت من دعي اليهود

وقال ابن الأثير: السبب في إقامة الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبت قدمه وضعف أمر العاضد كتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بذلك فاعتذر بالخوف من وثوب المصريين فلم يصغ إلى قوله وأرسل يلزمه بذلك واتفق أن العاضد مرض فاستشار صلاح الدين أمراءه فمنهم من وافق ومنهم من خاف وكان قد دخل مصر أعجمي يعرف بالأمير العالم فلما رأى ما هم فيه من الإحجام قال أنا أبتدئ بها فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيء فلم ينكر ذلك أحد فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بقطع خطبة العاضد ففعل ذلك ولم ينتطح فيها عنزان والعضد شديد المرض فتوفي في يوم عاشوراء.

وفي سنة تسع وستين أرسل نور الدين إلى الخليفة بتقادم وتحف منها حمار مخطط وثوب عتابي وخرج الخلق للفرجة عليه وكان فيهم رجل عتابي كثير الدعاوي وهو بليد ناقص الفضيلة فقال رجل إن كان قد بعث إلينا حمار عتابي فنحن عندنا عتابي حمار.

وفيها وقع برد بالسواد كالنارنج هدم الدور وقتل جماعة وكثيراً من المواشي وزادت دجلة زيادة عظيمة بحيث غرقت بغداد وصليت الجمعة خارج السور وزادت الفرات أيضاً وأهلكت قرى ومزارع وابتهل الخلق إلى اللّه تعالى ومن العجائب أن هذا الماء عل هذه الصفة ودجيل قد هلكت مزارع بالعطش.

وفيها مات السلطان نور الدين وكان صاحب دمشق وابنه الملك الصالح إسماعيل وهو صبي فتحركت الفرنج بالسواحل فصولحوا بمال وهودنوا.

وفيها أراد جماعة من شيعة العبيديين ومحبيهم إقامة الدعوة وردها إلى آل العاضد ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين فاطلع صلاح الدين على ذلك فصلبهم بين القصرين.

وفي سنة اثنتين وسبعين أمر صلاح الدين ببناء السور الأعظم المحيط بمصر والقاهرة وجعل على بنائه الأمير بهاء الدين قراقوش.

قال ابن الأثير: دوره تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع بالهاشمي.

وفيها أمر بإنشاء قلعة بجبل المقطم وهي التي صارت دار السلطنة ولم تتم إلا في أيام السلطان الملك الكامل بن أخي صلاح الدين وهو أول من سكنها.

وفيها بنى صلاح الدين تربة الإمام الشافعي.

وفي سنة أربع وسبعين هبت ببغداد ريح شديدة نصف الليل وظهرت أعمدة مثل النار في أطراف السماء واستغاث الناس استغاثة شديدة وبقي الأمر على ذلك إلى السحر.

وفي سنة خمسة وسبعين مات الخليفة المستضيء في سلخ شوال وعهد إلى ابنه أحمد.

وممن مات في أيام المستضيء من الأعلام ابن الخشاب النحوي وملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافي والحافظ أبو العلاء الهمذاني وناصح الدين بن الدهان النحوي والحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر من حفدة الشافعي والحيص بيص الشاعر والحافظ أبو بكر بن خير وآخرون.

الناصر لدين اللّه أحمد

الناصر لدين اللّه. أحمد أبو العباس بن المستضيء بأمر اللّه ولد يوم الاثنين عاشر رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وأمه أم ولد تركية اسمها زمرد وبويع له عند موت أبيه في مستهل ذي القعدة سنة خمس وسبعين وأجاز له جماعة: منهم أبو الحسن عبد الحق اليوسفي وأبو الحسن علي بن عساكر البطايحي وشهدة وأجازه هو لجماعة فكانوا يحدثون عنه في حياته ويتنافسون في ذلك رغبة في الفخر لا في الاسناد.

وقال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد أطول مدة منه فإنه أقام فيها سبعة وأربعين سنة ولم تزل مدة حياته في عز وجلالة وقمع الأعداء واستظهار على الملوك ولم يجد ضيماً ولا خرج عليه خارجي إلا قمعه ولا مخالف إلا دفعه وكل من أضمر له سوءاً رماه اللّه بالخذلان وكان مع سعادة جده شديد الاهتمام بمصالح الملك لا يخفى عليه شيء من أحوال رعيته كبارهم وصغارهم وأصحاب أخباره في أقطار البلاد يوصلون إليه أحوال الملوك الظاهرة والباطنة وكانت له حيل لطيفة ومكائد غامضة وخدع لا يفطن لها أحد يوقع الصداقة بين ملوك متعادين وهم لا يشعرون ويوقع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون ولما دخل رسول صاحب مازندران بغداد كانت تأتيه ورقة كل صباح بما عمل في الليل فصار يبالغ في التكتم والورقة تأتيه بذلك فاختلى ليلة بامرأة دخلت من باب السر فصبحته الورقة بذلك وفيها كان عليكم دواج فيه صورة الفيل فتحير وخرج من بغداد وهو لا يشك أن الخليفة يعلم الغيب لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في بطن الحامل وما وراء الجدار وأتى رسول خوارزم شاه برسالة مخفية وكتاب مختوم فقيل له ارجع فقد عرفنا ما جئت به فرجع وهو يظن أنهم يعلمون الغيب.

قال الذهبي: قيل إن الناصر كان مخدوماً من الجن.

ولما ظهر خوارزم شاه بخراسان وما وراء النهر وتجبر وطغى واستعبد الملوك الكبار وأباد أمماً كثيرة وقطع خطبة بني العباس من بلاده وقصد بغداد فوصل إلى همذان فوقع عليهم ثلج عظيم عشرين يوماً فغطاهم في غير أوانه فقال له بعض خواصه إن ذلك غضب من اللّه حيث قصدت بيت الخلافة.

وبلغه أن أمم الترك قد تألبوا عليه وطمعوا في البلاد لبعده عنها فكان ذلك سبب رجوعه وكفي الناصر شره بلا قتال.

وكان الناصر إذا أطعم أشبع وإذا ضرب أوجع وله مواطن يعطي فيها عطاء من لا يخاف الفقر.

ووصل إليه رجل معه ببغاء تقرأ " قل هو اللّه أحد " تحفة للخليفة من الهند فأصبحت ميتة وأصبح حيران فجاءه فراش يطلب منه الببغاء فبكى وقال الليلة ماتت فقال قد عرفنا هاتها ميتة وقال كم كان ظنك أن يعطيك الخليفة قال خمسمائة دينار قال هذه خمسمائة دينار خذها فقد أرسلها إليك الخليفة فإنه أعلم بحالك منذ خرجت من الهند.

وكان صدرجهان قد صار إلى بغداد ومعه جماعة من الفقهاء وواحد منهم لما خرج من داره من سمرقند على فرس جميلة فقال له أهله: لو تركتها عندنا لئلا تؤخذ منك في بغداد فقال الخليفة لا يقدر أن يأخذها مني فأمر بعض القوادين انه حين يدخل بغداد يضربه ويأخذها منه ويهرب في الزحمة ففعل فجاء الفقيه يستغيث فلا يغاث فلما رجعوا من الحج خلع على صدرجهان وأصحابه وخلع على ذلك الفقيه وقدمت له فرسه وعليها سرج من ذهب وطوق وقيل له لم يأخذ فرسك الخليفة إنما أخذها أتوني فخر مغشياً عليه وأسجل بكرامتهم.

وقال المرفق عبد اللطيف كان الناصر قد ملأ القلوب هيبة وخيفة فكان يرهبه أهل الهند ومصر كما يرهبه أهل بغداد فأحيا بهيبته الخلافة وكانت قد ماتت بموت المعتصم ثم ماتت بموته.

وكان الملوك والأكابر بمصر والشام إذا جرى ذكره في خلواتهم خفضوا أصواتهم هيبة وإجلالا وورد بغداد تاجر ومعه قناع دمياط المذهب فسألوه عنه فأنكر فأعطى علامات فيه: من عدده وألوانه وأصنافه فازداد إنكاره فقيل له: من العلامات أنك نقمت على مملوكك التركي فلان فأخذته إلى سيف بحر دمياط في خلوة وقتلته ودفنته هناك ولم يشعر بذلك أحد.

قال ابن النجار: دانت السلاطين للناصر ودخل في طاعته من كان من المخالفين وذلت له العتاة والطغاة وانقهرت بسيفه الجبابرة واندحض أعداؤه وكثر أنصاره وفتح البلاد العديدة وملك من الممالك ما لم يملكه أحد ممن تقدمه من الخلفاء والملوك وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين وكان أشد بني العباس تنصدع لهيبته الجبال وكان حسن الخلق لطيف الخلق كامل الظرف فصيح اللسان بليغ البيان له التوقيعات المسددة والكلمات المؤيدة وكانت أيامه غرة في وجه الدهر وردة في تاج الفخر.

وقال ابن واصل: كان الناصر شهماً شجاعاً ذا فكرة صائبة وعقل رصين ومكر ودهاء وله أصحاب أخبار في العراق وسائر الأطراف يطالعونه بجزيئات الأمور حتى ذكر أن رجلا ببغداد عمل دعوة وغسل يده قبل أضيافه فطالع صاحب الخبر الناصر بذلك فكتب في جواب ذلك سوء أدب من صاحب الدار وفضول من كاتب المطالعة قال وكان مع ذلك رديء السيرة في الرعية مائلا إلى الظلم والعسف ففارق أهل البلاد بلادهم وأخذ أموالهم وأملاكهم وكان يفعل أفعالا متضادة وكان يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية بخلاف آبائه حتى إن ابن الجوزي سئل بحضرته من أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أفضلهم بعده من كانت ابنته تحته ولم يقدر أن يصرح بتفضيل أبي بكر.

وقال ابن الأثير: كان الناصر يسيئ السيرة خربت في أيامه العراق مما أحدثه من الرسوم وأخذ أموالهم وأملاكهم وكان يفعل الشيء وضده وكان يرمي بالبندق ويغوي الحمام.

وقال الموفق عبد اللطيف: وفي وسط ولايته اشتغل برواية الحديث واستناب نواباً في الإجازة عنه والتسميع وأجرى عليهم جرايات وكتب للملوك والعلماء إجازات وجمع كتاباً سبعين حديثاً ووصل إلى حلب وسمعه الناس.

قال الذهبي: أجاز الناصر لجماعة من الأعيان فحدثوا عنه: منهم ابن سكينة وابن الأخضر وابن النجار وابن الدامغاني وآخرون.

قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي وغيره: قل بصر الناصر في آخر عمره وقيل ذهب كله ولم يشعر بذلك أحد من الرعية حتى الوزير وأهل الدار وكان له جارية قد علمها الخط بنفسه فكانت تكتب مثل خطه فتكتب على التواقيع.

وقال شمس الدين الجزري: كان الماء يشربه الناصر تأتي به الدواب من فوق بغداد بسبعة فراسخ ويغلي سبع غلوات كل يوم غلوة ثم يحبس في الأوعية سبعة أيام ثم يشرب منه ومع هذا ما مات حتى سقي المرقد مرات وشق ذكره وأخرج منه الحصى ومات منه يوم الأحد سلخ من رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

ومن لطائفه أن خادماً اسمه يمن كتب إليه ورقة فيها عتب فوقع فيها سيفه ماءها فرجل الأسماء الكاذبة الراكبة على المنابر وأعز بتأييد إبراهيمي فكسر الأصنام الباطنة بسيفه الطاهر.

ومن الحوادث في أيامه منشورة في سنة سبع وسبعين وخمسمائة أرسل الملك الناصر يعاتب السلطان صلاح الدين في تسميه بالملك الناصر مع علمه أن الخليفة اختار هذه التسمية لنفسه. وفي سنة ثمانين جعل الخليفة مشهد موسى الكاظم أمناً لمن لاذ به فالتجأ إليه خلق وحصل بذلك مفاسد.

وفي سنة إحدى وثمانين ولد بالعلث ولد طول جبهته شبر وأربع أصابع وله أذن واحدة.

وفيها وردت الأخبار بأنه خطب للناصر بمعظم بلاد المغرب.

وفي سنة اثنتين وثمانين اجتمع الكواكب الستة في الميزان فحكم المنجمون بخراب العالم في جميع البلاد بطوفان الريح فشرع الناس في حفر مغارات في التخوم وتوثيقها وسد منافسها على الريح ونقلوا إليها الماء والزاد وانتقلوا إليها وانتظروا الليلة التي وعدوا فيها بريح كريح عاد وهي الليلة التاسعة من جمادى الآخرة فلم يأت فيها شيء ولا هب فيها نسيم بحيث أوقدت الشموع فلم يتحرك فيها ريح تطفئها وعملت الشعراء في ذلك فمما قيل فيه قول أبي الغنائم محمد بن المعلم:

قال لأبي الفضل قول معترف ... مضى جمادى وجاءنا رجب

وما جرت زعزع كما حكموا ... ولا بدا كوكب له ذنب

كلا ولا أظلمت ذكاء ولا ... بدت إذن في قرونها الشهب

يقضي عليها من ليس يعلم ما ... يقضي عليه هذا هو العجب

قد بان كذب المنجمين وفي ... أي مقال قالوا فما كذبوا

وفي سنة ثلاث وثمانين اتفق أن أول يوم في السنة كان أول أيام الأسبوع وأول السنة الشمسية وأول سني الفرس والشمس والقمر في أول البروج وكان ذلك من الإتفاقات العجيبة.

وفيها كانت الفتوحات الكثيرة أخذ السلطان صلاح الدين كثيراً من البلاد الشامية التي كانت بيد الفرنج وأعظم ذلك بيت المقدس وكان بقاؤه في يد الفرنج إحدى وتسعين سنة وأزال السلطان ما أحدثه الفرنج من الآثار وهدم ما أحدثوا من الكنائس وبنى موضع الكنيسة منها مدرسة للشافعية فجزاه اللّه عن الإسلام خيراً ولم يهدم القمامة اقتداء بعمر رضي اللّه عنه حيث لم يهدمهما لما فتح بيت المقدس وقال في ذلك محمد بن أبي أسعد النسابة:

أترى مناماً ما بعيني أبصر ... القدس يفتح والنصارى تكسر

وقمامة قمت من الرجس الذي ... بزواله وزوالها يتطهر

ومليكهم في القيد مصفود ولم ... ير قبل ذاك لهم مليك يؤسر

قد جاء نصر اللّه والفتح الذي ... وعد الرسول فسبحوا واستغفروا

يا يوسف الصديق أنت لفتحها ... فاروقها عمر الإمام الأطهر

ومن الغرائب أن ابن برجان ذكر في تفسير " ألم غلبت الروم " " الروم: 1 - 2 " أن بيت المقدس يبقى في يد الروم إلى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ثم يغلبون ويفتح ويصير دار إسلام إلى آخر الأبد أخذاً من حساب الآية فكان كذلك.

قال أبو شامة: وهذا الذي ذكره ابن برجان من عجائب ما اتفق وقد مات ابن برجان قبل ذلك بدهر فإن وفاته سنة ست وثلاثين وخمسمائة.

وفي سنة تسع وثمانين مات السلطان صلاح الدين رحمه اللّه فوصل إلى بغداد الرسول وفي صحبته لأمة الحرب التي لصلاح الدين وفرسه ودينار واحد وستة وثلاثون درهماً لم يخلف من المال سواها واستقرت مصر لابنه عماد الدين عثمان الملك العزيز ودمشق لابنه الملك الأفضل نور الدين علي وحلب لابنه الملك الظاهر غياث الدين غازي.

وفي سنة تسعين مات السلطان طغرلبك شاه بن أرسلان بن طغرلبك بن محمد بن ملك شاه وهو آخر ملوك السلجوقية.

قال الذهبي: وكان عددهم نيفاً وعشرين ملكاً أولهم طغرلبك الذي أعاد القائم إلى بغداد ومدة دولتهم مائة وستون سنة.

وفي سنة خمسمائة واثنتين وتسعين هبت ريح سوداء بمكة عمت الدنيا ووقع على الناس رمل أحمر ووقع من الركن اليماني قطعة.

وفيها عسكر خوارزم شاه فعدا جيحون في خمسين ألفاً وبعث إلى الخليفة يطلب السلطنة وإعادة دار السلطنة إلى ما كانت وأن يجيء إلى بغداد ويكون الخليفة من تحت يده كما كانت الملوك السلجوقية فهدم الخليفة دار السلطنة ورد رسوله بلا جواب ثم كفي شره كما تقدم.

وفي سنة ثلاث وتسعين أنقض كوكب عظيم سمع لانقضاضه صوت هائل واهتزت الدور والأماكن فاستغاث الناس وأعلنوا بالدعاء وظنوا ذلك من إمارات القيامة.

وفي سنة خمس وتسعين مات الملك العزيز بمصر وأقيم ابنه المنصور بدله فوثب الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب وتملكها ثم أقام بها ابنه الملك الكامل.

وفي سنة ست وتسعين توقف النيل بمصر بحيث كسرها ولم يكمل ثلاثة عشر ذراعاً وكان الغلاء المفرط بحيث أكلوا الجيف والآدميين وفشا أكل بني آدم واشتهر ورئي من ذلك العجب العجاب وتعدوا إلى حفر القبور وأكل الموتى وتمزق أهل مصر كل ممزق وكثر الموت من الجوع بحيث كان الماشي لا يقع قدمه أو بصره إلا على ميت أو من هو في السياق وهلك أهل القرى قاطبة بحيث إن المسافر يمر بالقرية فلا يرى فيها نافخ نار ويجد البيوت مفتحة وأهلها موتى.

وقد حكى الذهبي: في ذلك حكايات يقشعر الجلد من سماعها قال وصارت الطرق مزرعة بالموتى وصارت لحومها للطير ولا سباع وبيعت الأحرار والأولاد بالدراهم اليسيرة واستمر ذلك إلى أثناء سنة ثمان وتسعين.

وفي سنة سبع وتسعين جاءت زلزلة كبرى بمصر والشام والجزيرة فأخرجت أماكن كثيرة وقلاعاً وخسفت قرية من أعمال بصرى.

وفي سنة تسع وتسعين في سلخ المحرم ماجت النجوم وتطايرت تطاير الجراد ودام ذلك إلى الفجر وانزعج الخلق وضجوا إلى اللّه تعالى ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور رسول صلى اللّه عليه وسلم.

وفي سنة ستمائة هجم الفرنج على النيل من رشيد ودخلوا بلد فوة فنهبوها واستباحوا ورجعوا. وفي سنة إحدى وستمائة تغلبت الفرنج على القسطنطينية وأخرجوا الروم منها وكانت بأيدي الروم من قبل الإسلام واستمرت بيد الفرنج إلى سنة ستين وستمائة فاستطلقها منهم الروم.

وفي سنة ست وستمائة كان ابتداء أمر التتار وسيأتي شرح حالهم.

وفي سنة خمس عشرة أخذت الفرنج من دمياط برج السلسلة.

قال أبو شامة: وهذا البرج كان قفل الديار المصرية وهو برج عال في وسط النيل ودمياط بحذائه من شرقية والجزيرة بحذائه من غربيه وفي ناحيته سلسلتان تمتد إحداهما على النيل إلى دمياط والأخرى على النيل إلى الجزيرة تمنعان عبور المراكب من البحر المالح.

وفي سنة ست عشر أخذت الفرنج دمياط بعد حروب ومحاصرات وضعف الملك الكامل عن مقاومتهم فبدعوا فيها وجعلوا الجامع كنيسة فابتنى الملك الكامل عن مدينة عند مفرق البحرين سموها المنصورة وبنى عليها سوراً ونزلها بجيشه.

وفي هذه السنة كاتبه قاضي القضاة ركن الدين الظاهر وكان الملك المعظم صاحب دمشق في نفسه منه فأرسل له بقجة فيها قباء وكلوته وأمره بلبسها بين الناس في مجلس حكمه فلم يمكنه الامتناع ثم قام ودخل داره ولزم بيته ومات بعد أشهر قهراً ورمى قطعاً من كبده وتأسف الناس لذلك واتفق أن الملك المعظم أرسل في عقب ذلك إلى الشرف بن عنين حين تزهد خمراً وبرداً و

قال: سبح بهذا فكتب إليه يقول:

يا أيها الملك المعظم سنة ... أحدثتها تبقي على الآباد

تجري الملوك على طريقك بعدها ... خلع القضاة وتحفة الزهاد

وفي سنة ثمان عشرة استردت دمياط من الفرنج فللّه الحمد.

وفي سنة إحدى وعشرين بنيت دار الحديث الكاملية بالقاهرة بين القصرين وجعل شيخها أبا الخطاب بن دحية وكانت الكعبة تكسي الديباج الأبيض من أيام المأمون إلى الآن فكساها الناصر ديباجاً أخضر ثم كساها ديباجاً أسود فاستمر إلى الآن.

وممن مات في أيام الناصر من الأعلام الحافظ أبو طاهر السلفي وأبو الحسن بن القصار اللغوي والكمال أبو البركات بن الأنباري والشيخ أحمد بن الرفاعي الزاهد وابن بشكوال ويونس والد يونس الشافعي وأبو بكر بن طاهر الأحدب النحوي وأبو الفضل والد الرافعي وابن ملكون النحوي وعبد الحق الإشبيلي صاحب الأحكام وأبو زيد السهيلي صاحب الروض الأنف والحافظ أبو موسى المديني وابن بري اللغوي والحافظ والعتابي والحافظ أبو بكر الحازمي والشرف ابن أبي عصرون وأبو القاسم البخاري والعتابي صاحب الجامع الكبير من كبار الحنفية والنجم الحبوشاني المشهور بالصلاح وأبو القاسم بن فيرة الشاطبي صاحب القصيدة وفخر الدين أبو شجاع محمد بن علي بن شعيب بن الدهان الفرضي أول من وضع الفرائض على شكل المنبر والبرهان المرغيناني صاحب الهداية من الحنفية وقاضي خان صاحب الفتاوى منهم وعبد الرحيم بن حجون الزاهد بالصعيد وأبو الوليد ابن رشد صاحب العلوم الفلسفية وأبو بكر بن زهر الطبيب والجمال بن فضلان من الشافعية والقاضي الفاضل صاحب الإنشاء والترسل والشهاب الطوسي وأبو الفرج بن الجوزي والعماد الكاتب وابن عظيمة المقري والحافظ عبد الغني المقدسي صاحب العمدة والبركي الطاوسي صاحب الخلاف وتميم الحلي وأبو ذر الخشني النحوي والإمام فخر الدين الرازي وأبو السعادات ابن الأثير صاحب جامع الأصول ونهاية الغريب والعماد بن يونس صاحب شرح الوجيز والشرف صاحب التنبيه والحافظ أبو الحسن بن المفضل وأبو محمد بن حوط اللّه وأخوه أبو سليمان والحافظ عبد القادر الرهاوي والزاهد أبو الحسن بن الصباغ بقنا والوجيه ابن الدهان النحوي وتقي الدين بن المقترح وأبو اليمن الكندي النحوي والمعين الحاجري صاحب الكفاية من الشافعية والركن العميدي صاحب الطريقة في الخلاف وأبو البقاء العكبرى صاحب الإعراب وابن أبي أصيبعة الطبيب وعبد الرحيم بن السمعاني ونجم الدين الكبري وابن أبي الصيف اليمني وموفق الدين بن قدامة الحنبلي وفخر الدين بن عساكر وخلائق آخرون.

الظاهر بأمر اللّه أبو نصر

الظاهر بأمر اللّه أبو نصر محمد بن الناصر لدين اللّه.

ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وبايع له أبوه بولاية العهد واستخلف عند الموت والده وهو ابن اثنين وخمسون سنة فقيل له ألا تتفسح؟

قال: لقد يبس الزرع فقيل يبارك اللّه في عمرك

قال: من فتح دكاناً بعد العصر إيش يكسب؟.

ثم إنه أحسن إلى الرعية وأبطل المكوس وأزال المظالم وفرق الأموال ذكر ذلك أبو شامة.

وقال ابن الأثير في الكامل: لما ولي الظاهر الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين فلو قيل إنه ما ولي الخلافة بعد عمر ابن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً فإنه أعاد الأموال المغصوبة والأملاك المأخوذة في أيام أبيه وقبلها شيئاً كثيراً وأبطل المكوس في البلاد جميعها وأمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق وبإسقاط جميع ما جدده أبوه وكان ذلك كثيراً لا يحصى.

فمن ذلك أن قرية بعقوبا كان يحصل منها قديماً عشرة آلاف دينار فلما استخلف الناصر كان يؤخذ منها في السنة ثمانون ألف دينار فاستغاث أهلها فأعادها الظاهر إلى الخراج الأول.

ولما أعاد الخراج الأصلي على البلاد حضر خلق وذكروا أن أملاكهم قد يبست أكثر أشجارها وخربت فأمر أن لا يؤخذ إلا من كل شجرة سالمة.

ومن عدله أن صنجة الخزانة كانت راجحة نصف قيراط في المثقال يقبضون بها ويعطون بصنجة البلد فخرج خطه إلى الوزير وأوله " ويل للمطففين " " المطففين: 1 " الآيات وفيه: قد بلغنا أن الأمر كذا وكذا فتعاد صنجة الخزانة إلى ما يتعامل به الناس فكتبوا إليه أن هذا فيه تفاوتاً كثيراً وقد حسبنا في العام الماضي فكان خمسة وثلاثين ألف دينار فأعاد الجواب ينكر على القائل ويقول يبطل ولو أنه ثلاثمائة ألف وخمسون ألف دينار.

ومن عدله أن صاحب الديوان قدم من واسط ومعه أزيد من مائة ألف دينار من ظلم فردها على أربابها وأخرج أهل الحبوس وأرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار ليوفيها عمن أعسر وفرق ليلة عيد النحر على العلماء والصلحاء مائة ألف دينار وقيل له هذا الذي تخرجه من الأموال لا تسمح نفس ببعضه فقال أنا فتحت الدكان بعد العصر فاتركوني أفعل الخير فكم بقيت أعيش؟.

ووجد في بيت من داره ألوف رقاع كلها مختومة فقيل له لم لا تفتحها قال لا حاجة لنا فيها كلها سعايات وهذا كله كلام ابن الأثير.

وقال سبط ابن الجوزي: لما دخل إلى الخزائن قال له خادم: كانت في أيام آبائك تمتلئ فقال ما جعلت الخزائن لتمتلئ بل تفرغ وتنفق في سبيل اللّه فإن الجمع شغل التجار؟.

وقال ابن واصل: أظهر العدل وأزال المكس وظهر للناس وكان أبوه لا يظهر إلا نادراً.

توفي رحمه اللّه في ثالث عشر رجب سنة ثلاث وعشرين فكانت خلافته تسعة أشهر وأياماً.

وقد روي الحديث عن والده بالإجازة وروي عنه أبو صالح نصر ابن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي.

ولما توفي اتفق خسوف القمر مرتين في السنة فجاء ابن الأثير نصر اللّه رسولا من صاحب الموصل برسالة في التعزية أولها ما لليل والنهار لا يعتذران وقد عظم حدثها وما للشمس والقمر لا ينكسفان وقد فقد ثالثهما:

فيا وحشة الدنيا وكانت أنيسة ... ووحدة من فيها لمصرع واحد

وهو سيدنا ومولانا الإمام الظاهر أمير المؤمنين الذي جعلت ولايته رحمه للعالمين إلى آخر الرسالة.

المستنصر باللّه أبو جعفر

المستنصر باللّه: أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر اللّه.

ولد في صفر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وأمه جارية تركية.

قال ابن النجار: وبويع بعد موت أبيه في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة فنشر العدل في الرعايا وبذل الإنصاف في القضايا وقرب أهل العلم والدين وبني المساجد والربط والمدارس والمارستانات وقام منار الدين وقمع المتمردة ونشر السنن وكف الفتن وحمل الناس على أقوم سنن وقام بأمر الجهاد أحسن قيام وجمع الجيوش لنصرة الإسلام وحفظ الثغور وافتتح الحصون.

وقال الموفق عبد اللطيف: بويع أبو جعفر فسار السيرة الجميلة وعمر طرق المعروف الدائرة وأقام شعار الدين ومنار الإسلام واجتمعت القلوب على محبته والألسن على مدحه ولم يجد أحد من المتعنتة فيه معاباً.

وكان جده الناصر يقربه ويسميه القاضي لهداه وعقله وإنكار ما يجده من المنكر.

وقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري: كان المستنصر راغباً في فعل الخير مجتهداً في تكثير البر وله في ذلك آثار جميلة وأنشأ المدرسة المستنصرية ورتب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم.

وقال ابن واصل: بنى المستنصر على دجلة من الجانب الشرقي مدرسة ما بنى على وجه الأرض أحسن منها ولا أكثر منها وقوفاً وهي بأربعة مدرسين على المذاهب الأربعة وعمل فيها مارستاناً ورتب فيها مطبخاً للفقهاء ومزملة للماء البارد ورتب لبيوت الفقهاء الحصر والبسط والزيت والورق والحبر وغير ذلك وللفقيه بعد ذلك في الشهر ديناراً ورتب لهم حماماً وهو أمر لم يسبق إلى مثله واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه ولا جده وكان ذا همة عالية وشجاعة وإقدام عظيم وقصدت التتار البلد فلقيهم عسكره فهزموا التتار هزيمة عظيمة وكان له أخ يقال له الخفاجي فيه شهامة زائدة وكان يقول لئن وليت لأعبرن بالعسكر نهر جيحون وآخذ البلاد من أيدي التتار واستأصلهم فلما مات المستنصر لم يرد الدويدار ولا الشرابي تقليد الخفاجي خوفاً منه وأقاما ابنه أبا أحمد للينه وضعف رأيه ليكون لهما الأمر ليقضي اللّه أمراً كان مفعولا من هلاك المسلمين في مدته وتغلب التتار فإنا للّه وإنا إليه راجعون.

قال الذهبي وقد بلغ ارتفاع وقوف المستنصرية في العام نيفاً وسبعين ألف مثقال وكان ابتداء عمارتها في سنة خمس وعشرين وتمت في سنة إحدى وثلاثين ونقل إليها الكتب وهي مائة وستون حملا من الكتب النفيسة وعدد فقهائها مائتان وثمانية أربعون فقيهاً من المذاهب الأربعة وأربعة مدرسون وشيخ حديث وشيخ نحو وشيخ طب وشيج فرائض ورتب فيها الخبز والطبيخ والحلاوة والفاكهة وجعل فيها ثلاثين يتيماً ووقف عليها ما لا يعبر عنه كثرة ثم سرد الذهبي القرى والرباع الموقوفة عليها و

قال: وفتحت يوم الخميس في رجب وحضر القضاة والمدرسون والأعيان وسائر الدولة وكان يوماً مشهوداً.

ومن الحوادث في أيام المستنصر في سنة ثمان وعشرين أمر الملك الأشرف صاحب دمشق ببناء دار الحديث الأشرفية وفرغت في سنة ثلاثين.

وفي سنة اثنتين وثلاثين أمر المستنصر بضرب الدراهم الفضية ليتعامل بها بدلا عن قراضة الذهب فجلس الوزير وأحضر الولاة والتجار والصيارفة وفرشت الأنطاع وأفرغ عليها الدراهم وقال الوزير: قد رسم مولانا أمير المؤمنين لمعاملتكم بهذا الدراهم عوضاً عن قراضة الذهب رفقاً بكم وإنقاذاً لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوي فأعلنوا بالدعاء ثم أديرت بالعراق وسعرت كل عشرة بدينار فقال الموفق أبو المعالي القاسم بن أبي الحديد:

لا عدمنا جميل رأيك فينا ... أنت باعدتنا عن التطفيف

ورسمت اللجين حتى ألفنا ... ه وما كان قبل بالمألوف

ليس للجمع كان منعك للصر ... ف ولكن للعدل والتعريف

وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة ولي قضاء دمشق شمس الدين أحمد الجوني وهو أول قاض رتب مراكز الشهود بالبلد وكان قبل ذلك يذهب الناس إلى بيوت العدول يشهدونهم.

وفيها مات الإخوان السلطان الأشرف صاحب دمشق والكامل صاحب دمشق والكامل صاحب مصر بعده بشهرين وتسلطن بمصر ولد الكامل قلامة ولقب العادل ثم خلع وتملك أخوه الصالح أيوب نجم الدين.

وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة ولي خطابة دمشق الشيخ عز الدين بن عبد السلام فخطب خطبة عرية من البدع وأزال الأعلام المذهبة وأقام هو عوضها سوداً بأبيض ولم يؤذن قدامه سوى مؤذن واحد.

وفيها قدم رسول الأمين الذي تملك اليمن نور الدين عمر بن علي بن رسول التركماني إلى الخليفة يطلب تقليد السلطنة باليمن بعد موت الملك المسعود ابن الملك الكامل وبقي الملك في بيته إلى سنة خمس وستين وثمانمائة.

وفي سنة تسع وثلاثين وستمائة بنى الصالح صاحب مصر المدرسة التي بين القصرين والقلعة التي بالروضة ثم أخرب غلمانه القلعة المذكورة سنة إحدى وخمسين وستمائة.

وفي سنة أربعين وستمائة توفي المستنصر يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة ورثاه الشعراء فمن ذلك قول صفي الدين عبد اللّه بن جميل.

ومن مناقب المستنصر أن الوجيه القيرواني مدحه بقصيدة يقول فيها:

لو كنت في يوم السقيفة حاضراً ... كنت المقدم والإمام الأورعا

فقال له قائل بحضرته: أخطأت قد كان حاضرا العباس جد أمير المؤمنين ولم يكن المقدم إلا أبو بكر فأقر ذلك المستنصر وخلع على قائل ذلك خلعة وأمر بنفي الوجيه فخرج إلى مصر حكاها الذهبي.

وممن مات في أيام المستنصر من الأعلام: الإمام أبو القاسم الرافعي والجمال المصري وابن معزوز النحوي وياقوت الحموي والسكاكي صاحب المفتاح والحافظ أبو الحسن بن القطان ويحيى بن معطي صاحب الألفية في النحو والموفق عبد اللطيف البغدادي والحافظ أبو بكر بن نقطة والحافظ عز الدين علي بن الأثير صاحب التاريخ والأنساب وأسد الغابة وابن عتبي الشاعر والسيف الآمدي وابن فضلان وعمر بن الفارض صاحب التائية والشهاب السهرودي صاحب عوارف المعارف والبهاء بن شداد وأبو العباس العوفي صاحب المولد النبوي والعلامة أبو الخطاب بن دحية وأخوه أبو عمرو والحافظ أبو الربيع بن سالم صاحب الإكتفاء في المغازي وابن الشواء الشاعر والحافظ زكي الدين البرزالي والجمال الحصري شيخ الحنفية والشمس الجوبي والحراني وأبو عبد اللّه الزيني وأبو البركات بن المستوفي والضياء بن الأثير صاحب المثل السائر وابن عربي صاحب الفصوص والكمال ابن يونس شارح التنبيه وخلائق آخرون.

المستعصم باللّه أبو أحمد

المستعصم باللّه: أبو أحمد عبد اللّه بن المستنصر باللّه آخر الخلفاء العراقيين.

ولد سنة تسع وستمائة وأمه أم ولد اسمها هاجر وبويع له بالخلافة عند موت أبيه وأجاز له على يد ابن النجار المؤيد الطوسي وأبو روح الهروي وجماعة وروى عنه بالإجازة جماعة: منهم النجم البادرائي والشرف الدمياطي وخرج له الدمياطي أربعين حديثاً رأيتها بخطة وكان كريماً حليماً سليم الباطن حسن الديانة.

قال الشيخ قطب الدين: كان متديناً متمسكاً بالسنة كأبيه وجده ولكنه لم يكن مثلهما في التيقظ والحزم وعلو الهمة وكان للمستنصر أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشجاعة والشهامة وكان يقول: إن ملكني اللّه الأمر لأعبرن بالجيوش نهر جيحون وأنتزع البلاد من التتار وأستأصلهم فلما توفي المستنصر لم ير الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمر وخافوا منه وآثروا المستعصم للينه والقيادة ليكون لهم الأمر فأقاموه ثم ركن المستعصم إلى زيره مؤيد الدين العلقمي الرافضي فأهلك الحرث والنسل ولعب بالخليفة كيف أراد وباطن التتار وناصحهم وأطعمهم في المجيء إلى العراق وأخذ بغداد وقطع الدولة العباسية ليقيم خليفة من آل علي وصار إذا جاء خبر منهم كتمه عن الخليفة ويطالع بأخبار الخليفة التتار إلى أن حصل ما حصل.

وفي سنة سبع وأربعين من أيامه أخذت الفرنج دمياط والسلطان الملك الصالح مريض فمات ليلة نصف شعبان فأخفت جاريته أم خليل المسماة شجرة الدر موته وأرسلت إلى ولده توران شاه الملك المعظم فحضر ثم لم يلبث أن قتل في المحرم سنة ثمان وأربعين وستمائة وثب عليه غلمان أبيه فقتلوه وأمروا عليهم جارية أبيهم شجرة الدر وحلف لها الأتراك ولنائبها عز الدين أيبك التركماني فشرعت شجرة الدر في الخلع للأمراء والأعطيات.

ثم استقل عز الدين بالسلطنة في ربيع الآخر ولقب الملك المعز ثم تنصل منها وحلف العسكر للملك الأشرف بن صلاح الدين يوسف بن المسعود بن الكامل وله ثمان سنين وبقي عز الدين أتابكه وخطب لهما وضربت السكة باسمهما.

وفي هذه السنة أعني سنة ثمان استردت دمياط من الفرنج.

وفي سنة اثنتين وخمسين وستمائة ظهرت نار في أرض عدن وكان يطير شررها في الليل إلى البحر ويصعد منها دخان عظيم في النهار.

وفيها أبطل المعز اسم الملك الأشرف واستقل بالسلطنة.

وفي سنة أربع وخمسين ظهرت النار بالمدينة النبوية.

قال أبو شامة: جاءنا كتب من المدينة فيها لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة ظهر بالمدينة دوي عظيم ثم زلزلة عظيمة فكانت ساعة بعد ساعة إلى خامس الشهر فظهرت نار عظيمة في الحرة قريباً من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا وسالت أودية منها إلى وادي شطا سيل الماء وطلعنا نبصرها فإذا الجبال تسيل ناراً وسارت هكذا وهكذا بين نارين كأنها الجبال وطار منها شرر كالقصر إلى أن أبصر ضوءها من مكة ومن الفلاة جميعهما واجتمع الناس كلهم إلى قبر الشريف مستغفرين تائبين واستمرت هكذا أكثر من شهر.

قال الذهبي: أمر هذه النار متواتر وهي مما أخبر به المصطفى صلى اللّه عليه وسلم حيث

قال: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى " وقد حكى غير واحد ممن كان ببصرى في الليل ورأى أعناق الإبل في ضوئها.

وفي سنة خمس وخمسين وستمائة مات المعز أيبك سلطان مصر قتلته زوجته شجرة الدر وسلطنوا بعده ولده الملك المنصور على هذا والتتار جائلون في البلاد وشرهم متزايد ونارهم تستعرة والخليفة والناس في غفلة عما يراد بهم والوزير العلقمي حريص على إزالة الدولة العباسية ونقلها إلى العلوية والرسل في السر بينه وبين التتار والمستعصم تائه في لذاته لا يطلع على الأمور ولا له غرض في المصلحة.

وكان أبوه المستنصر قد استكثر من الجند جداً وكان مع ذلك يصانع التتار ويهادنهم ويرضيهم فلما استخلف المستعصم كان خلياً من الرأي والتدبير فأشار عليه الوزير بقطع أكثر الجند وأن مصانعة التتار وإكرامهم يحصل به المقصود ففعل ذلك.

ثم إن الوزير كاتب التتار وأطعمهم في البلاد وسهل عليهم ذلك وطلب أن يكون نائبهم فوعدوه بذلك وتأهبوا لقصد بغداد.

شرح حال التتار ملخصاً

قال الموفق عبد اللطيف في خبر التتار: هو حديث يأكل الأحاديث وخبر يطوي الأخبار وتاريخ ينسي التواريخ ونازلة تصغر كل نازلة وفادحة تطبق الأرض وتملؤها ما بين الطول والعرض وهذه الأمة لغتهم مشوبة بلغة الهند لأنهم في جوارهم وبينهم وبين مكة أربعة أشهر وهم بالنسبة إلى الترك عراض الوجوه واسعو الصدور خفاف الأعجاز صغار الأطراف سمر الألوان وسريعو الحركة في الجسم والرأي تصل إليهم أخبار الأمم ولا تصل أخبارهم إلى الأمم وقلما يقدر جاسوس أن يتمكن منهم لأن الغريب لا يتشبه بهم وإذا أرادوا جهة كتموا أمرهم ونهضوا دفعة واحدة فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه ولا عسكر حتى يخالطوه فلهذا تفسد على الناس وجوه الحيل وتضيق طرق الهرب ونساؤهم يقاتلن كرجالهم والغالب على سلاحهم النشاب وأكلهم أي لحم وجد وليس في قتلهم استثناء ولا إبقاء ويقاتلون الرجال والنساء والأطفال وكان قصدهم إفناء النوع وإبادة العالم لا قصد الملك والمال.

وقال غيره: أرض التتار بأطراف بلاد الصين وهم سكان براري ومشهورون بالشر والغدر. وسبب ظهورهم أن إقليم الصين متسع دوره ستة أشهر وهو ست ممالك ولهم ملك حاكم على الممالك الست وهو القان الأكبر المقيم بطمغاج وهو كالخليفة للمسلمين.

وكان سلطان إحدى الممالك الست وهو دوش خان قد تزوج بعمة جنكزخان فحضر زائراً لعمته وقد مات زوجها وكان قد حضر مع جنكزخان كشلوخان فأعلمتهما أن الملك لم يخلف ولداً وأشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه فقام وانضم إليه خلق المغول ثم سير التقادم إلى القان الأكبر فاستشاط غيظاً وأمر بقطع أذناب الخيل التي أهديت وطردها وقتل الرسل لكون التتار لم يتقدم لهم سابقة بتملك إنما هم بادية الصين فلما سمع جنكزخان وصاحبه كشلوخان تحالفا على التعاضد وأظهرا الخلاف للقان وأتتهما أمم كثيرة من التتار وعلم القان قوتهم وشرهم فأرسل يؤانسهم ويظهر مع ذلك أنه ينذرهم ويهددهم فلم يغن ذلك شيئاً ثم قصدهم وقصدوه فوقع بينهم ملحمة عظيمة فكسروا القان الأعظم وملكوا بلاده واستفحل شرهم واستمر الملك بين جنكزخان وكشلوخان على المشاركة.

ثم سار إلى بلاد شاقون من نواحي الصين فملكاها فمات كشلوخان فقام مقامه ولده فاستضعفه جنكزخان فوثب عليه وظفر به واستقل جنكزخان ودانت له التتار وانقادت له واعتقدوا فيه الإلهية وبالغوا في طاعته.

ثم كان أول خروجهم في سنة ست وستمائة من بلادهم إلى نواحي الترك وفرغانة فأرسل خوارزم شاه محمد بن تكش صاحب خراسان الذي أباد الملوك وأخذ الممالك وعزم على قصد الخليفة فلم يتهيأ له كما تقدم فأمر أهل فرغانة والشاش وكاسان وتلك البلاد النزهة العامرة بالجلاء والجفلى إلى سمرقند وغيرها ثم خربها جميعاً خوفاً من التتار أن يملكوها لعلمه أنه لا طاقة له بهم.

ثم صارت التتار يتخطفون ويتنقلون إلى سنة خمس عشرة فأرسل فيها جنكزخان إلى السلطان خوارزم شاه رسلا وهدايا وقال الرسول: إن القان الأعظم يسلم عليك ويقول لك ليس يخفى علي عظم شأنك وما بلغت من سلطانك ونفوذ حكمك على الأقاليم وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات وأنت عندي مثل أعز أولادي وغير خاف عنك أنني تملكت الصين وأنت أخبر الناس ببلادي وأنها مثارات العساكر والخيول ومعادن الذهب والفضة وفيها كفاية عن غيرها فإن رأيت أن تعقد بيننا المودة وتأمر التجار بالسفر لتعلم المصلحتين فعلت فأجابه خوارزم شاه إلى ملتمسه وبشر جنكزخان بذلك واستمر الحال على المهادنة إلى أن وصل من بلاده تجار.

وكان خال خوارزم شاه ينوب على بلاد ما وراء النهر ومعه عشرون ألف فارس فشرهت نفسه إلى أموال التجار وكاتب السلطان يقول إن هؤلاء القوم قد جاءوا بزي التجار وما قصدهم إلا التجسس فإن أذنت لي فيهم فأذن له بالاحتياط عليهم فقبض عليهم وأخذ أموالهم فوردت رسل جنكزخان إلى خوارزم شاه تقول إنك أعطيت أمانك التجار فغدرت والغدر قبيح وهو من سلطان الإسلام أقبح فإن زعمت أن الذي فعله خالك بغير أمرك فسلمه إلينا وإلا سوف تشاهد مني ما تعرفني به فحصل عند خوارزم شاه من الرعب ما خامر عقله فتجلد وأمر بقتل الرسل فقتلوا.

فيا لها من حركة لما أهدرت من دماء المسلمين وأجرت بكل نقطة سيلا من الدم.

ثم سار جنكزخان إليه فانجفل خوارزم شاه عن جيحون إلى نيسابور ثم ساق إلى برج همذان رعباً من التتار فأحدق به العدو فقتلوا كل من معه ونجا هو بنفسه فخاض الماء إلى جزيرة ولحقته علة ذات الجنب فمات بها وحيداً فريداً وكفن في شاش فراش كان معه وذلك في سنة سبع عشرة وملكوا جميع مملكة خوارزم شاه.

قال سبط ابن الجوزي: كان أول ظهور التتار بما وراء النهر سنة خمس عشرة فأخذوا بخارى وسمرقند وقتلوا أهلها وحاصروا خوارزم شاه ثم بعد ذلك عبروا النهر وكان خوارزم شاه قد أباد الملوك من مدن خراسان فلم تجد التتار أحداً في وجههم فطاروا في البلاد قتلا وسبياً وساقوا إلى أن وصلوا همذان وقزوين في هذه السنة.

وقال ابن الأثير في كامله: حادثة التتار من الحوادث العظمى والمصائب الكبرى التي عقمت الدهور عن مثلها وعمت الخلائق وخصت المسلمين فلو قال قائل إن العالم منذ خلقه اللّه تعالى إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها.

ومن أعظم ما يذكرون فعل بختنصر ببني إسرائيل بالبيت المقدس وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من مدن الإسلام وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى ما قتلوا؟.

فهذه الحادثة التي استطار شرها وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاد شاغرق ثم منها إلى بخارى وسمرقند فيملكونها ويبيدون أهلها ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها هلكاً وتخريباً وقتلا وإبادة وإلى الري وهمذان إلى حد العراق ثم يقصدون أذربيجان ونواحيها ويخربونها ويستبيحونها في أقل من سنة أمر لم يسمع بمثله ثم ساروا من أذربيجان إلى دربند شروان فملكوا مدنها وعبروا من عندها إلى بلاد اللان واللكز فقتلوا وأسروا ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم أكثر من الترك عدداً فقتلوا من وقف وهرب الباقون واستولى التتار عليها.

ومضت طائفة أخرى غير هؤلاء إلى غزة وأعمالها وسجستان وكرمان ففعلوا مثل هؤلاء بل أشد.

هذا لم يطرق الأسماع مثله فإن الإسكندر الذي ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة وإنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحداً وإنما رضي بالطاعة وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأعمره في نحو سنة ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقها إلا وهو خائف يترقب وصولهم إليه.

ثم إنهم لم يحتاجوا إلى ميرة ومددهم يأتيهم فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل يأكلون لحومها ولا غير.

وأما خيلهم فإنها تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات ولا تعرف الشعير.

وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرمون شيئاً ويأكلون جميع الدواب وبني آدم ولا يعرفون نكاحاً بل المرأة يأتيها غير واحد.

ولما دخلت سنة ست وخمسين وصل التتار إلى بغداد وهم مائتا ألف ويقدمهم هلاكو فخرج إليهم عسكر الخليفة فهزم العسكر.

ودخلوا بغداد يوم عاشوراء فأشار الوزير لعنه اللّه على المستعصم بمصانعتهم و

قال: أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح فخرج وتوثق بنفسه منهم وورد إلى الخليفة و

قال: إن الملك قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته ولا يريد إلا أن تكون الطاعة كما كان أجدادك مع سلاطين السلجوقية وينصرف عنك بجيوشه فليجيب مولانا إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد والرأي أن تخرج إليه فخرج إليه في جمع من الأعيان فأنزل في خيمة.

ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد فخرجوا من بغداد فضربت أعناقهم وصار كذلك تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم حتى قتل جميع من هناك من العلماء والأمراء والحجاب والكبار.

ثم مد الجسر وبذل السيف في بغداد واستمر القتال فيها نحو أربعين يوماً فبلغ القتلى أكثر من ألف ألف نسمة ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة وقتل الخليفة رفساً.

قال الذهبي: وما أظنه دفن وقتل معه جماعة من أولاده وأعمامه وأسر بعضهم وكانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها ولم يتم للوزير ما أراد وذاق من التتار الذل والهوان ولم تطل أيامه بعد ذلك وعملت الشعراء قصائد في مراثي بغداد وأهلها وتمثل بقول سبط التعاويذي:

بادت وأهلوها معاً فبيوتهم ... ببقاء مولانا الوزير خراب

وقال بعضهم:

يا عصبة الإسلام نوحي واندبي ... حزناً على ما تم للمستعصم

دست الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي

وكان آخر خطبة ببغداد قال الخطيب في أولها: الحمد للّه الذي هدم بالموت مشيد الأعمار وحكم بالفناء على أهل هذه الدار هذا والسيف قائم بها.

ولتقي الدين بن أبى اليسر قصيدة مشهورة في بغداد وهي هذه:

لسائل الدمع عن بغداد أخبار ... فما وقوفك والأحباب قد ساروا

يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا ... فما بذاك الحمى والدار ديار

تاج الخلافة والربع الذي شرفت ... به المعالم قد عفاه إقفار

أضحى لعصف البلى في ربعه أثر ... وللدموع على الآثار آثار

يا نار قلبي من نار لحرب وغى ... شبت عليه ووافى الربع إعصار

علا الصليب على أعلى منابرها ... وقام بالأمر من يحويه زنار

وكم حريم سبته الترك غاصبة ... وكان من دون ذاك الستر أستار

وكم بدور على البدرية انخسفت ... ولم يعد لبدور منه إبدار

وكم ذخائر أضحت وهي شائعة ... من النهاب وقد حازته كفار

وكم حدود أقيمت من سيوفهم ... على الرقاب وحطت فيه أوزار

ناديت والسبي مهتوك تجربهم ... إلى السفاح من الأعداد دعار

ولما فرغ هلاكو من قتل الخليفة وأهل بغداد وأقام على العراق نوابه وكان ابن العلقمي حسن لهم أن يقيموا خليفة علوياً فلم يوافقوه واطرحوه وصار معهم في صورة بعض الغلمان ومات كمداً لا رحمه اللّه ولا عفا عنه.

ثم أرسل هلاكو إلى الناصر صاحب دمشق كتاباً صورته يعلم السلطان الملك الناصر طال بقاؤه أنه لما توجهنا إلى العراق وخرج إلينا جنودهم فقتلناهم بسيف اللّه ثم خرج إلينا رؤوساء البلد ومقدموها فكان قصارى كلامهم سبباً لهلاك نفوس تستحق الإهلاك وأما ما كان من صاحب البلدة فإنه خرج إلى خدمتنا ودخل تحت عبوديتنا فسألناه عن أشياء كذبنا فيها فاستحق الإعدام وكان كذبه ظاهراً ووجدوا ما عملوا حاضراً أجب ملك البسيطة ولا تقولن: قلاعي المانعات ورجالي المقاتلات وقد بلغنا أن شذرة من العسكر التجأت إليك هاربة وإلى جنابك لائذة:

أين المفر ولا مفر لهارب ... ولنا البسيطان الثرى والماء

فساعة وقوفك على كتابنا تجعل قلاع الشام سماءها أرضاً وطولها عرضاً والسلام.

ثم أرسل له كتاباً ثانياً يقول فيه خدمة ملك ناصر طال عمره أما بعد فإنا فتحنا بغداد واستأصلنا ملكها وملكها وكان قد ظن وقد فتن الأموال ولم ينافس الرجال أن ملكه يبقى على ذلك الحال وقد علا ذكره ونمى قدره فخسف في الكمال بدره:

إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالا إذا قيل تم

ونحن في طلب الازدياد على ممر الآباد فلا تكن كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم وأبد ما في نفسك: إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أجب دعوة ملك البسيطة تأمن شره وتنل بره واسع إليه بأموالك ورجالك ولا تعوق رسلنا والسلام.

ثم أرسل إليه كتاباً ثالثاً يقول فيه أما بعد فنحن جنود اللّه بنا ينتقم ممن عتا وتجبر وطغى وتكبر وبأمر اللّه ما ائتمر وإن عوتب تنمر وإن روجع استمر ونحن قد أهلكنا البلاد وأبدنا العباد وقتلنا النسوان والأولاد فيا أيها الباقون أنتم بمن مضى لاحقون ويا أيها الغافلون أنتم إليهم تساقون ونحن جيوش الهلكة لا جيوش الملكة مقصودنا الانتقام وملكنا لا يرام ونزيلنا لا يضام وعدلنا في ملكنا قد اشتهر ومن سيوفنا أين المفر:

أين المفر ولا مفر لهارب ... ولنا البسيطان الثرى والماء

ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت ... في قبضتي الأمراء والخلفاء

ونحن إليكم صائرون ولكم الهرب وعلينا الطلب:

ستعلم ليلى أي دين تداينت؟ ... وأي غريم بالتقاضي غريمها؟

دمرنا البلاد وأيتمنا الأولاد وأهلكنا العباد وأذقناهم العذاب وجعلنا عظيمهم صغيراً وأميرهم أسيراً وتحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون وعن قليل سوف تعلمون على ما تقدمون وقد أعذر من أنذر.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين والدنيا بلا خليفة.

وفيها نزل التتار على آمد وكان صاحب مصر المنصور علي بن المعز صبياً وأتابكه الأمير سيف الدين قطز المعزي مملوك أبيه وقدم الصاحب كمال الدين ابن العديم إليهم رسولا يطلب النجدة على التتار فجمع قطز الأمراء والأعيان فحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام وكان المشار إليه في الكلام فقال الشيخ عز الدين إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص والآلات ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتتساووا في ذلك أنتم والعامة وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا ثم بعد أيام يسيرة قبض قطز على ابن أستاذه المنصور وقال هذا صبي والوقت صعب ولا بد من أن يقوم رجل شجاع ينتصب للجهاد وتسلطن قطز ولقب بالملك المظفر.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين والوقت أيضاً بلا خليفة.

وفيها قطع التتار الفرات ووصلوا إلى حلب وبذلوا السيف فيها ثم وصلوا إلى دمشق وخرج المصريون في شعبان متوجهين إلى الشام لقتال التتار فأقبل المظفر بالجيوش وشاليشه ركن الدين بيبرس البندقداري فالتقوا هم والتتار عند عين جالوت ووقع المصاف وذلك يوم الجمعة خامس عشر رمضان فهزم التتار شر هزيمة وانتصر المسلمون وللّه الحمد وقتل من التتار مقتلة عظيمة وولوا الأدبار وطمع الناس فيهم يتخطفونهم وينهبونهم وجاء كتاب المظفر إلى دمشق بالنصر فطار الناس فرحاً ثم دخل المظفر إلى دمشق مؤيداً منصوراً وأحبه الخلق غاية المحبة وساق بيبرس وراء التتار إلى بلاد حلب وطردهم عن البلاد ووعده السلطان بحلب ثم رجع عن ذلك فتأثر بيبرس من ذلك وكان ذلك مبدأ الوحشة وكان المظفر عزم على التوجه إلى حلب لينظف آثار البلاد من التتار فبلغه أن بيبرس تنكر له وعمل عليه فصرف وجهه عن ذلك ورجع إلى مصر وقد أضمر الشر لبيبرس وأسر ذلك إلى بعض خواصه فأطلع على ذلك بيبرس فساروا إلى مصر وكل منهما محترس من صاحبه فاتفق بيبرس وجماعة من الأمراء على قتل المظفر فقتلوه في الطريق في ثالث عشر شهر ذي القعدة وتسلطن بيبرس ولقب بملك القاهرة ودخل مصر وأزال عن أهلها ما كان المظفر قد أحدثه عليهم من المظالم وأشار عليه الوزير زين الملة والدين ابن الزبير بأن يغير هذا اللقب وقال ما لقب به أحد فأفلح: لقب به القاهر بن المعتضد فخلع بعد قليل وسمل ولقب به القاهر ابن صاحب الموصل فسم فأبطل السلطان هذا اللقب وتلقب بالملك الظاهر.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين والوقت أيضاً بلا خليفة إلى رجب فأقيمت بمصر الخلافة وبويع المستنصر كما سنذكره وكان مدة انقطاع الخلافة ثلاث سنين ونصف.

وممن مات في أيام المستعصم من الأعلام: الحافظ تقي الدين الصريفيني والحافظ أبو القاسم بن الطيلسان وشمس الأئمة الكردي من كبار الحنفية والشيخ تقي الدين ابن الصلاح والعلم السخاوي والحافظ محب الدين بن النجار مؤرخ بغداد ومنتخب الدين شارح المفصل وابن يعيش النحوي وأبو الحجاب الأقصري الزاهد وأبو علي الشلوبيني النحوي وابن البيطار صاحب المفردات والعلامة جمال الدين بن الحاجب إمام المالكية وأبو الحسن بن الديباج النحوي والقفطي صاحب تاريخ النحاة وأفضل الدين الخونجي صاحب المنطق والأزدي والحافظ يوسف بن خليل والبهاء ابن بنت الحميري والجمال بن عمرون النحوي والرضي الصغاني اللغوي صاحب العباب وغيره والكمال عبد الواحد الزملكاني صاحب المعاني والبيان وإعجاز القرآن والشمس الخسرو شاهي والمجد ابن تيمية ويوسف سبط ابن الجوزي صاحب مرآة الزمان وابن باطيش من كبار الشافعية والنجم البادرائي وابن أبي الفضل المرسي صاحب التفسير وخلائق آخرون.

فصل:

ومات في مدة انقطاع الخلافة من الأعلام: الزكي عبد العظيم المنذري والشيخ أبو الحسن الشاذلي شيخ الطائفة الشاذلية وشعبة المقرئ والفاسي شارح الشاطبية وسعد الدين بن العزي الشاعر والصرصري الشاعر وابن الأبار مؤرخ الأندلس وآخرون.

المستنصر باللّه أحمد

المستنصر باللّه: أحمد أبو القاسم بن الظاهر بأمر اللّه أبي نصر محمد بن الناصر لدين اللّه أحمد.

قال الشيخ قطب الدين: كان محبوساً ببغداد فلما أخذت التتار بغداد أطلق فهرب وصار إلى عرب العراق فلما تسلطن الملك الظاهر بيبرس وفد عليه في رجب ومعه عشرة من بني مهارش فركب السلطان للقائه ومعه القضاة والدولة فشق القاهرة ثم أثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز ثم بويع له بالخلافة فأول من بايعه السلطان ثم قاضي القضاة تاج الدين ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الكبار على مراتبهم وذلك في الثالث عشر رجب ونقش اسمه على السكة وخطب له ولقب بلقب أخيه وفرح الناس وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة وصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس ودعا فيها للسلطان والمسلمين ثم صلى بالناس ثم رسم بعمل خلعة خليفة السلطان وبكتابة تقليد له ثم نصب خيمة بظاهر القاهرة وركب المستنصر باللّه والسلطان يوم الاثنين رابع شعبان إلى الخيمة وحضر القضاة والأمراء والوزير فألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وطوقه ونصب منبر فصعد عليه فخر الدين ابن لقمان فقرأ التقليد ثم ركب السلطان بالخلعة ودخل من باب النصر وزينت القاهرة وحمل الصاحب التقليد على رأسه راكباً والأمراء مشاة.

ورتب السلطان للخليفة أتابكاً واستاداراً وشرابياً وخازنداراً وحاجباً وكاتباً وعين له خزانة وجملة مماليك ومائة فرس وثلاثين بغلاً وعشرة قطارات جمال إلى أمثال ذلك.

قال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد بعد ابن أخيه إلا هذا والمقتفي.

وأما صاحب حلب الأمير شمس الدين أقوش فأنه أقام بحلب خليفة ولقبه الحاكم بأمر اللّه وخطب له ونقش اسمه على الدراهم.

ثم إن المستنصر هذا عزم على التوجه إلى العراق فخرج معه السلطان يشيعه إلى أن دخلوا دمشق ثم جهز السلطان الخليفة وأولاد صاحب الموصل وغرم عليه وعليهم من الذهب ألف ألف دينار وستين ألف درهم فسار الخليفة ومعه ملوك الشرق وصاحب سنجار فاجتمع به الخليفة الحلبي الحاكم ودان له ودخل تحت طاعته ثم سار ففتح الحديثة ثم هيت فجاءه عسكر من التتار فتصافوا له فقتل من المسلمين جماعة وعدم الخليفة المستنصر فقيل: قتل وهو والظاهر

وقيل: سلم وهرب فأضمرته البلاد وذلك في الثالث من المحرم سنة ستين فكانت خلافته دون ستة أشهر وتولى بعد بسنة الحاكم الذي كان بويع بحلب في حياته.