Geri

   

 

 

İleri

 

الجزء الثاني

حديث تزويج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

خديجة رضي اللّه عنها

سنه صلى اللّه عليه وسلم حين زواجه

قال ابن هشام : فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، تزوج خديجة بنتَ خويلد بن أسد ابن عبد العُزَّى بن قصي بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤَي بن غالب ، فيما حدثني غيرُ واحد من أَهل العلم عن أبى عَمرو المدني.

خروجه صلى اللّه عليه وسلم إلى التجارة بمال خديجة

قال ابن إسحاق : وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ، ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه ، بشيء تجعله لهم ، وكانت قريش قوماً تِجاراً، فلما بلغها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما بلغها: من صدق حديثه ، وعظمِ أمانته ، وكرم أخلاقه ، بعثت إليه ، فعرضت عليه أن يخرجَ في مال لها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضَلَ ما كانت تُعطي غيرَه من التجار، مع غلام لها يقال له : مَيْسَرة، فقبله رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم منها وخرج في مالها ذلك ، وخرج معه غلامُها ميسرة، حتى قدم الشام.

حديثه - صلى اللّه عليه وسلم مع الراهب

فنزل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم في ظلِّ شجرةٍ قريباً من صومعة راهب من الرهبان ، فاطَّلع الراهبُ إلى ميسرة،

فقال له : مَنْ هذا الرجل الذي نزل تحتَ هذه الشجرة؟ قال له ميسرة : هذا رجل من قريش من أهل الحرم ، فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة قطُّ إلا نبيٌّ.

ثم باع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم سلعتَه التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتريَ ، ثم أقبل قافلا إلى مكةَ، ومعه ميسرةُ، فكان ميسرةُ - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة، واشتد الحرُّ، يرَى ملكين يظلَّانه من الشمس - وهو يسير على بعيره ، فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به ، فأضعف أو قريباً. وحدَّثها ميسرة عن قول الراهب ، وعما كان يرى من إظلالِ الملكين إياه.

خديجة ترغب في الزواج منه - صلى اللّه عليه وسلم

وكانت خديجةُ امرأةً حازمةً شريفة لبيبة، مع ما أراد اللّه بها من كرامته ، فلما أخبرها ميسرة مما أخبرها به ، بعثت إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم فقالت له فيما يزعمون : يا ابنَ عمّ ، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسِطَتِكَ في قومِك

وأمانتك ، وحسنِ خُلقك ، وصدق حديثك ، ثم عرضتْ عليه نفسَها، وكانت خديجةُ يومئذ أوسطَ نساء قريش نسباً، وأعظمهنَّ شرفاً، وأكثرهن مالا، كُلُّ قومِها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدُرُ عليه.

 نسب خديجة رضي اللّه عنها

وهى خديجة بنت خُوَيْلد بن أسَد بن عبد العُزَّى بن قصَي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَي ابن غالب بن فِهْر.

وأمها: فاطمةُ بنتُ زائدةَ بنِ الأصمِّ بن رواحة بن حَجَر بن عبد ابن مَعِيص بن عامر بن لُؤَي بن غالب بن فهر.

وأمُّ فاطمة : هالةُ بنتُ عبد مناف بن الحارث بن عَمرو بن مُنْقِذ ابن عَمرو بن مَعيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فِهْر.

وأم هالة : قِلابةُ بنتُ سُعَيْد بن سَعْد بن سَهْم بن عَمرو بن هُصَيْص ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر.

الرسول - صلى اللّه عليه وسلم يتزوج من خديجة بعد استشارة أعمامه

فلما قالت ذلك لرسولِ اللّه - صلى اللّه عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامِه ، فخرج معه عمه حمزةُ بنُ عبد المطلب - رحمه اللّه - حتى دخل على خُوَيْلد ابن أسَد فخطبها إليه ، فتزوجها.

صداق خديجة

قال ابن هشام : وأصدقها رسولُ اللّه – صلى اللّه عليه وسلم عشرين بَكْرة، وكانت أولَ امرأة تزوجها رسول اللّه – صلى اللّه عليه وسلم ولم يتزوجْ عليها غيرَها حتى ماتت ، رضى اللّه عنها.

أولاده - صلى اللّه عليه وسلم من خديجة

قال ابنُ إسحاق : فولدت لرسولِ اللّه- صلى اللّه عليه وسلم ولدَه كُلَّهم إلا إبراهيم : القاسمَ ، وبه كان يُكْنَى - صلى اللّه عليه وسلم ، والطاهرَ والطيب ، وزينبَ ورقيةَ، وأمَ كلثوم ، وفاطمةَ، عليهم السلام.

ترتيب ولادتهم

قال ابن هشام : أكبر بنيه : القاسمُ ، ثم الطيبُ ، ثم الطاهرُ، وأكبر بناته : رقيةُ، ثم زينبُ ، ثم أمُّ كلثوم ، ثم فاطمةُ.

 قال ابن إسحاق : فأما القاسم ، والطيب ، والطاهر فهلكوا في الجاهلية.

وأما بناتُه : فكلُّهنَّ أدركْنَ الإسلامَ ، فأسلمن وهاجرنَ معه صلى اللّه عليه وسلم.

 إبراهيم وأمه

قال ابن هشام :

وأما إبراهيمُ فأمه : ماريةُ القبطيةُ. حدثنا عبد اللّه بنُ وهب عن ابن لَهِيعة،

قال : أمّ إبراهيم : مارية سرية النبي - صلى اللّه عليه وسلم التي أهداها إليه المقوقس من حَفْن من كورة أنْصِنَا.

ورقة يتنبأ له - صلى اللّه عليه وسلم بالنبوة :

قال ابن إسحاق : وكانت خديجة بنت خويلد قد. ذكرت لورقة بنِ نَوْفل بن أسَد بن عبد العُزَّى - وكان ابنَ عمها، وكان نصرانيّاً قد تتبع الكتبَ ، وعَلِمَ من عِلْمِ الناس - ما ذكر لها غلامُها ميسرة من قول الراهب ، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه ، فقال ورقة : لئن كان هذا حقاً يا خديجة، إن محمداً لنبى هذه الأمة، وقد عرفتُ أنه كائنٌ لهذه الأمة نبي يُنتظر، هذا زمانُه ، أو كما قال.

شعر لورقة : فجعل ورقة يستبطيء الأمرَ ويقول : حتى متى؟ فقال ورقة في ذلك :

لَجِجْتُ وكنتُ في الذكرى لَجوجا   لِهَمّ طالما بعثَ النَّشيجَا

ووصفٍ من خديجةَ بعدَ وصف   فقد طال انتظاري يا خديجَا

ببطنِ المَكَّتَيْنِ على رجائي   حديثك أن أرى منه خُروجَا
بما خَبَّرْتنا من قول قس  من الرُهبان أكره أن يعوجا

بأن محمداً سيسود فينا  ويخصِمُ من يكونُ له حجيجا

ويظهرُ في البلادِ ضياءُ نورٍ  يُقيمُ به البريةَ أن تموجا

فيلْقَى من يحاربُه خَساراً   ويلقى من يسالمه فُلوجَا

فيا ليتي إذا ما كان ذَاكمْ  شَهِدْتُ فكنتُ أوَّلَهم وُلوجَا

وُلوجا في الذي كرهتْ قريشٌ   ولو عجَّت بمكتِها عجيجَا

أرَجِّى بالذي كرِهوا جميعاً  بمن يختار مَنْ سَمَكَ لبروجَا

وهل أمرُ السَّفالةِ غيرُ كُفر   إلى ذي العرشَ إن سفلواعُروجَا

فإن يبقوا وَأبقَ تكنْ أمورٌ   يَضُجُّ الكافرون لها ضَجيجَا

وإن أهلكْ فكلُّ فتى سَيَلْقَى  من الأقدارِ مَتْلَفةً حَرُوجَا

حديث بينان الكعبة وحكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

بين قريش في وضع الحجر

سبب هذا البنيان

قال ابن إسحاق : فلما بلغ رسولُ اللّه - صلى اللّه عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهمُّون بذلك ، ليسقفوها ويهابون هدمَها، وإنما كانت رَضْماً فوق القامة، فأرادوا رفعَها وتسقيفَها، وذلك أن نفراً سرقوا كنزاً للكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وُجد عنده الكنز دُوَيْكاً مولى لبنى مُلَيْح بن عمرو من خزاعة.

قال ابن هشام : فقطعت قريش يده.

وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دُوَيْك ، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جُدَّة لرجل من تجار الروم ، فتحطمت ، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعضُ ما يُصلحها، وكانت حَيَّةٌ تخرجُ من بئر الكعبة التي كان يُطرَح فيها ما يُهدَى لها كل يوم ، فتتشرق على جدار الكعبة، وكانت مما يَهابون ، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احْزَألَّتْ وَكَشَّتْ ، وفتحت فاها، وكانوا يهابونها، فبينا هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة، كما كانت تصنع ، بعث اللّه إليها طائراً فاختطفها، فذهب بها، فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون اللّه قد رضَى ما أردنا، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب ، وقد كفانا اللّه الحيةَ.

أبو وهب - خال أبي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وما حدث له عند بناء الكعبة: فلمّا أجمعوا أمرَهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بنُ عَمرو ابن عائذ بن عَبْد بن عمران بن مخزوم.

قال ابن هشام : عائذ بن عمران بن مخزوم ، فتناول من الكعبة حجراً، فوثب من يده ، حتى رجع إلى موضعه ،

فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنائها من كَسْبِكم إلا طَيِّباً، لا يدخل فيها مَهر بَغِي ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس ، والناس ينحلون هذا الكلام الوليدَ بنَ المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم.

قال ابن إسحاق : وقد حدثني عبد اللّه بن أبي نجيح المكي أنه حُدِّث عن عبد اللّه بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حُذافة ابن جُمَح بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي أنه رأى ابنا لجَعْدة بن هُبَيْرة بن أبى وهب بن عَمرو يطوف بالبيت ، فسُئل عنه ، فقيل : هذا ابن لجَعْدة بن هُبَيْرة، فقال عبد اللّه بن صفوان عند ذلك : جَدُّ هذا، يعنى: أبا وهب الذي أخذ حجراً من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها، فوثب من يده ، حتى رجع إلى موضعه ، فقال عند ذلك : يا معشر قريش ، لا تُدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا لا تدخلوا فيها مهرَ بغى ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.

 شعر في أبي وهب

قال ابن إسحاق : وأبو وهب : خال أبي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم وكان شريفا، وله يقول شاعر من العرب :

ولو بأبي وِهبٍ أنختُ مَطيِتي  غَدَتْ من نَدَاه رحلُها غيرَ خائبِ

بأبيضَ من فرْعَىْ لؤيِّ بن غالب   إذا حُصِّلت أنسابُها في الذوائبِ

أبَىٍّ لأخذ الضيم يرتاحُ للنَّدَى  توسَّطَ جَدَّاه فروعَ الأطايبِ

عظيم رَمادِ القِدْرِ يملأ جفانَه  من الخبزِ يعلوهنَّ مثلُ السبائبِ

نصيب قبائل قريش في تجزئة الكعبة

ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شِقُّ الباب لبنى عبد مناف وزُهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم ، وقبائل من قريش انضموا إليهم ، وكان ظهر الكعبة لبنى جُمح وسَهْم ، ابنيْ عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي ، وكان شِقُّ الحِجْر لبني عبد الدار بن قُصَي ، ولبني أسد بن عبد العُزَّى بن قُصى، ولبني عَدِي بن كعب بن لُؤَي وهو الحَطيم.

الوليد بن المغيرة يبدأ بهدم الكعبة : ثم إن الناس هابوا هدمها وفَرِقُوا منه. فقال الوليدُ بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المِعْوَلَ ، ثم قام عليها، وهو يقول : اللّهم لم ترَعْ -

قال ابن هشام :

ويقال : لم نزغ – اللّهم إنا لا نريدُ إلا الخيرَ، ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناسُ تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء، فقد رضى اللّه صنعَنا، فهدمنا !! فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله ، فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس ، أساسِ إبراهيِم عليه السلام ، أفضوا إلى حجارةٍ خُضْر كأسْنمةٍ آخذٍ بعضُها بعضاَ.

امتناع قريش عن هدم الأساس وسببه

قال ابن إسحاق : فحدثني بعض من يروي الحديثَ : أن رجلا من قريش، ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حَجرين منها ليقلعَ بها أحدَهما، فلما تحرك الحجرُ تنقَّضت مكةُ بأسْرِها، فانتهوا عن ذلك الأساس.

الكتاب الذي وُجد في الركن

قال ابن إسحاق : وحُدثت أن قريشاً وجدوا في الركن كتاباً بالسريانية، فلم يدروا ما هو، حتى قرأه لهم رجلٌ من يهودَ، فإذا هو: " أنا اللّه ذو بكةَ، خلقتها يومَ خلقتُ السمواتِ والأرضَ ، وصورتُ الشمسَ والقمرَ، وحففتها بسبعةِ أملاكٍ حُنفاء، لا تزول حتى يزولَ أخشباها، مُبَارك لأهلها في الماءِ و اللبن ".

قال ابن هشام : أخشباها: جبلاها.

الكتاب الذي وجد في المقام

قال ابن إسحاق : وحُدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه : " مكةُ بيت اللّه الحرام يأتيها رزقُها من ثلاثةِ سُبلٍ ، لا يحلُّها أولُ مِنْ أهلِها".

حجر الكعبة المكتوب عليه العظة

قال ابن إسحاق : وزعم ليث بن أبي سُلَيْم أنهم وجدوا حجراً في الكعبة قبل مَبْعثِ النبي صلى اللّه عليه وسلم بأربعين سنةً - إن كان ما ذُكر حقّاً - مكتوباً فيه : "من يزرع خيراً، يحصد غبطةً، ومن يزرع شرّاً، يحصد ندامة، تعملون السيئاتِ ، وتُجزَوْن الحسنات ؟! أجل ، كما لا يُجتنى من الشوك العنب ".

 الاختلاف بين قريش في وضع الحجر

قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حِدَةٍ ، ثم بَنَوْها، حتى بلغ البنيانُ موضعَ الركن ، فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعَه إلى موضعِه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتحالفوا؛ وأعدُّوا للقتال.

لعقَة الدم : فقرَّبتْ بنو عبد الدار جَفْنة مملوءة دماً ؛ ثم تعاقدوا هم وبنو عَدي بن كعب بن لُؤَي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجَفْنة، فسُمُّوا: لَعَقَةَ الدم ، فمكثت قريش على ذلك أربعَ ليالٍ أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجدِ، وتشاوروا وتناصفوا.

أبو أمية بن المغيرة يجد حلا: فزعم بعضُ أهل الرواية : إن أبا أميَّة بن المغيرة بن عبد اللّه بن عُمر بن مخزوم ، وكان عَامئذٍ أسنَّ قريش كلِّها،

قال : يا معشر قريش، اجعلوا بينكم - فيما تختلفون فيه - أولَ من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم فيه ففعلوا.

 الرسول - صلى اللّه عليه وسلم يضع الحجر

فكان أولَ داخل عليهم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما رَأوْه قالوا : هذا الأمين ، رَضِينا، هذا محمدٌ ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبرَ قال - صلى اللّه عليه وسلم : هَلُمّ إليَّ ثوبا، فأتى به ، فأخذ الركنَ فوضعه فيه بيده ،

ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوْب ، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده ، ثم بنى عليه.

وكانت قريش تُسمِّى رسولَ اللّه - صلى اللّه عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين.

شعر الزبير في الحية التي كانت تمنع قريش من بنيان الكعبة

 فلما فرغوا من البنيان ، وبَنَوْها على ما أرادوا، قال الزبيرُ ابن عبد المطلب ، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيانَ الكعبة لها:

عَجِبْتُ لِمَا تصَوَّبتِ العقاب  إلى الثعبانِ وهْىَ لها اضطرابُ

وقد كانت يكون لها كشيش  وأحياناً يكونُ لها وِثابُ

إذا قُمنا إلى التأسيسِ شدت  تُهيِّبنا البناءَ وقد تُهابُ

فلما أن خَشينا الرِّجزَ جاءت  عقابُ تَتْلَئِبُّ لها انصبابُ

فضمَّتها إليها ثم خلت  لنا البنيانَ ليس له حجابُ

فقمنا حاشدين إلى بناء  لنا منه القواعدُ والترابُ

غَداةَ نُرَفِّع التأسيسَ منه  وليس على مُسَوِّينا ثيابُ

أعزَّ به المليكُ بني لؤى  فليس لأصلِه منهم ذهابُ

وقد حَشَدَتْ هناك بنو  عدى ومُرة قد تقدَّمها كلابُ

فَبَوَّأنا المليكُ بذاكَ عزاً  وعندَ اللّه يُلتَمس الثوابُ

قال ابن هشام : ويروى :

وليس على مَساوِينا ثياب

ارتفاع الكعبة وكسوتها: وكانت الكعبةُ على عهد رسول اللّه – صلى اللّه عليه وسلم ثماني عَشرةَ ذِراعاً، وكانت تُكْسى القِباطىَّ، ثم كُسيت البرودَ، وأولُ من كساها الديباج : الحجاجُ بن يوسف

حديث الحُمس

قريش تبتدع الحُمس

قال ابن إسحاق : وقد كانت قريش - لا أدري أقبل الفيل أم بعده - ابتدعت رأي الْحُمْس رأيا رأوه وأداروه

فقالوا: نحن بنو إبراهيم ، وأهل الحُرمة، ووُلاة البيت ، وقُطَّان مكة وساكنُها، فليس لأحد من العرب مثلُ حقِّنا، ولا مثلُ منزلتنا، ولا تعرفُ له العرب مثلَ ما تعرِفُ لنا، فلا تعظِّموا شيئاً من الحِلِّ كما تُعظمون الحرمَ ، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفَّت العربُ بحُرمتِكم ، وقالوا: قد عظموا من الحلَ مثل ما عظموا من الحرم ، فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم - صلى اللّه عليه وسلم ويَرَوْن لسائر العرب أن يفيضوا منها، إلا أنهم

قالوا: نحن أهلُ الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرجَ من الحرمة، ولا نعظم غيرَها، كما نعظمها نحن الحُمْس ، والحمس : أهل الحرم ، ثم جعلوا لمن وُلدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم ، بولادتهم إياهم ، يحل لهم ما يحل لهم ، ويَحرُم عليهم ما يَحرُم عليهم.

 القبائل التي آمنت مع قريش بالْحُمْس : وكانت كِنانة وخُزَاعة قد دخلوا معهم في ذلك.

قال ابن هشام : وحدثني أبو عُبَيْدة النحوي : أن بني عامر بن صعصَعة ابن معاوية بن بكر بن هَوازن دخلوا معهم في ذلك ، وأنشدني لعَمْرو ابن مَعْدِ يكَرِب :

أعباسُ لو كَانتْ شِيَاراً جيادُنا  بتثليثِ ما ناصَيْتَ بعدي الأحامِسا

قال ابن هشام : تثليث : موضع من بلادهم. والشِّيَار: الحسان. يعني بالأحامس : بني عامر بن صَعْصَعة. وبعباس : عباس بن مِرْداس السُّلَميّ، وكان أغار على بنى زُبَيْد بتثليث. وهذا البيت في قصيدة لعمرو. وأنشدني للَقِيط بن زُرارة الدَّارَمِي في يوم جَبَلة:

أجْذِمْ إليك إنها بنو عَبْس المعْشَرُ الحِلَّةُ في القَوْمِ الحُمْس

لأن بنى عَبْس كانوا يوم جَبَلة حلفاء في بنى عامر بن صصَعة. يوم جبلة: ويومُ جَبَلة: يوم كان بين بنى حَنْظلة بن مالك بن زَيد مناة بن تميم ، وبين بنى عامر بن صصَعة، فكان الظَّفَر فيه لبني عامر بن صعصعة على بني حَنْظلة، وقُتل يومئذ لَقِيطُ بن زُرارة بن عُدُس ، وأسر حاجبُ بن زُرارة بن عُدُس ، وانهزم عَمرو بن عمرو ابن عُدُس بن زيد بن عبد اللّه بن دارم بن مالك بن حنظلة. ففيه يقول جرير للفرزدق :

كأنك لم تشهدْ لَقيطاً وحاجباً وعَمرو بنَ عَمروٍ إذا دَعَوْا: يا لَدَارِمِ
وهذا البيت في قصيدة له.

يوم ذي نَجَب : ثم التَقوا يومَ ذي نَجَب فكان الظَّفر لحنظلة على بنى عامر، وقُتل يومئذٍ حسانُ بن معاوية الكِنْديُّ وهو أبو كَبْشة. وأسر يزيد بن الصَّعِق الكلابي وانهزم الطُّفيْل بن مالك بن جعفر بن كلاب ، أبو عامر بن الطفَيْل. ففيه يقول الفرزدق :

ومنهنَّ إذ نجَّى طُفَيل بن مالك على قُرْزُل رَجْلا ركوضَ الهزائم
ونحن ضربنا هامةَ ابنِ خُوَيْلدٍ   نزيدُ على أم الفِراخ الجواثم

وهذان البيتان في قصيدة له.

فقال جرير:

ونحن خَضَبْنا لابنِ كبشةَ تاجَه ولاقى امرأً في ضَمةِ الخيلِ مِصقَعَا
وهذا البيت في قصيدة له.

وحديث يوم جَبَلة، ويوم ذي نَجَب أطولُ مما ذكرنا. وإنما منعنى من استقصائه ما ذكرت في حديث يومِ الفِجَار.

ما زادته قريش في الحُمْس

قال ابن إسحاق : ثم ابتدعوا في ذلك أموراً لم تكن لهم ، حتى

قالوا: لا ينبغى للحُمْس أن يأتَقِطوا الأقِط ، ولا يَسْلَئُوا السمنَ وهم حُرم ، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا - إن استظلوا - إلا في بيوت الأدَم ما كانوا حُرُماً، ثم رفعوا في ذلك ،

فقالوا: لا ينبغي لأهل الحِلِّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحِلِّ إلى الحَرم إذا جاءوا حُجاجاً أو عُمَّاراً، ولا يطوفون بالبيت إذا قَدِموا أولَ طوافهمِ إلا في ثياب الحُمْس. فإن لم يجدوا منها شيئاً طافوا بالبيت عُراةَ.

اللَّقىَ عند الحمس : فإن تكرَّمنهم متُكرِّم من رجل أو امرأة، ولم يجدوا ثياب الحمس ؛ فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحِل ، ألقاها إذا فرغِ من طوافه ، ثم لم ينتفعْ بها، ولم يَمَسَّها هو، ولا أحدٌ غيرُه أبداَ.

وكانت العرب تُسمى تلك الثياب : اللَّقَى، فحملوا على ذلك العربَ.

فدانت به ، ووقفوا على عرفات ، وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عُراةً، أما الرجال فيطوفون عراة،

وأما النساء فتضع إحْدَاهن ثيابَها كلَّها إلا درعا مُفَرَّجا عليها، ثم تطوف فيه ، فقالت امرأة من العرب ، وهى كذلك تطوف بالبيت :

اليومَ يَبْدو بَعْضُهُ ، أو  كله وما بدا منه فلا أحِلُّه
ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحل ألقاها؛ فلم ينتفع بها هو ولا غيره.فقال قائل من العرب يذكر شيئا تركه من ثيابه ، فلا يقربه – وهو يحبه:

كفى حَزَناً كَرِّي عليها كأنها لقى بين أيدي الطائفين حَريمُ
يقول : لا تمس.

الإسلام يُعطل عادات الحُمْس : فكانوا تعالى محمداً – صلى اللّه عليه وسلم فأنزل عليه حين أحكم له حجه ،: (ثم أفيضوا من حيثُ أفَاض التاسُ غفور رحيم ) يعني قريشاً، والناس : العرب ، إلى عرفات ، والوقوف عليها والإِفاضة منها.

الإسلام يبطل عادات الحمس: فكانوا كذلك حتى بعث اللّه تعالى محمداً صلى اللّه عليه وسلم فأنزل عليه حين أحكم له دينه، وشرع له سنن حجه: { ثم أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}  [البقرة:١٩٩] يعنى قريشاً والناس : العرب، فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها.

وأنزل اللّه عليه فيما كانوا حرَّموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت ، حين طافوا عُراةً، وحرَّموا ما جاءوا به من الحل من الطعام : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأعراف:٣١،٣٢] ، فوضع اللّه تعالى أمر الحُمْس ، وما كانت قريش ابتدعت منه - عن الناس بالإسلام ، حين بعث اللّه به رسولَه صلى اللّه عليه وسلم.

الرسول صلى اللّه عليه وسلم يخالف الحمْس قبل الرسالة

قال ابن إسحاق : حدثني عبداللّه بن أبى بكر بن محمد بن عَمرو بن احَزْم ، عن عثمان ابن أبي سليمان بن جُبَيْر بن مُطْعِم ، عن عمه نافع بن جبير عن أبيه جُبير بن مُطْعم.

قال : لقد رأيتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي، وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفعَ معهم منها توفيقا من اللّه له ، صلى اللّه عليه وسلم تسليماً كثيراً.

إخبار الكها ن من العرب ، والأحبار من يهود والرهبان من النصارى ببعثته صلى اللّه عليه وسلم

الكهان والأحبار والرهبان يتحدثون بمبعثه

قال ابن إسحاق : وكانت الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب ، قد تحدثوا بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبلَ مبعثه ، لما تقاربَ من زمانه. أما الأحبارُ من يهودَ، والرهبان من النصارى، فعمَّا وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه ، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.

وأما الكهانُ من العرب : فأتتهم به الشياطين من الجنِّ فيما تسترق من السمع إذ كانت هى لا تُحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم ، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكرُ بعضِ أمورِه ، لا تلقى العرب لذلك فيه بالاً، حتى بعثه اللّه تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون؛ فعرفوها.

قذف الجن بالشُّهُب دلالةً على مبعثه صلى اللّه عليه وسلم

فلما تقارب أمرُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحضر مبعثُه ، حُجبت الشياطين عن السمع ، وحيل بينَها وبين المقاعد التي كانت تقْعدُ لاستراقِ السمع فيها فرُموا بالنجوم ، فعرفت الجنُّ أن ذلك لأمر حدث من أمر اللّه في العباد ي

قول اللّه تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم حين بعثه ، وهو يقص عليه خبرَ الجنِّ إذ حُجبوا عن السمع ، فعَرفوا ما عَرَفوا، وما أنكروا من ذلك حين رَأوْا ما رَأوْا: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللّه شَطَطًا (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللّه كَذِبًا (٥) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:١ـ٦] إلى قوله : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (٩) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠) } [الجن:٩،١٠] فلما سمعت الجنُّ القرآنَ عَرفتْ أنها إنما مُنعت من السمع قبل ذلك ، لئلا يُشْكل الوحيُ بشيء من خبر السماء، فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من اللّه فيه ، لوقوع الحجَّة، وقطْع الشُّبْهة. فآمنوا وصدقوا، ثم : { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف٢٩،٣٠]٠٠ الآيات.

وكان قولُ الجن : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: ٦ ] أنه كان الرجل من العرب من قريش وغيرهم إذا سافر فنزل فيَ وادٍ من الأرض ليبيتَ فيه ،

قال : إنى أعوذُ بعزيزِ هذا الوادي من الجنِّ الليلةَ من شرِّ ما فيه.

قال ابن هشام : الرَّهَق : الطغيان والسَّفَه. قال رُؤبة بن العَجَّاج :

إذ تَسْتَبى الهيَّامة المُرَهَّقَا

وهذا البيت في أرجوزة له. والرَّهق أيضاً: طلبك الشيء حتى تدنوَ منه ، أو لا تأخذه. قال رُوُبة بن العَجَّاج يصف حمير وحش:

بَصْبَصْنَ واقْشَعرَرْنَ من خَوف الرَّهَقْ

وهذا البيت في أرجوزة له. والرَّهق أيضاً: مصدرٌ لقول الرجل : رَهِقْتُ الإِثم أو العُسْر الذي أرهقتنى رهقا شديدا؛ أي : حملتُ الإِثم أو العُسر الذي حملنى حملا شديدا، وفي كتاب اللّه تعالى : { فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: ٨٠] وقوله : { وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:٧٣]

ثقيف أول من فَزعت برمي الجن

قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدِّث أن أولَ العرب فَزِع للرمى بالنجوم - حين رُمى بها، هذا الحى من ثقيف ، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له : عَمرو بن أمية أحد بنى عِلاَج -

قال : وكان أدهى العرب وأنكرها رأياً - فقالوا له : يا عَمرو، ألم ترَ ما حدث في السماءِ من القذف بهذه النجوم.

قال : بَلَى، فانظروا، فإن كانت معالم النجوم التي يُهْتَدى بها في البرِّ والبحر، وتعرَف بها الأنواءُ من الصيف والشتاء لما يُصلح الناسَ في معايشهم ، هى التي يُرْمَى بها، فهو واللّه طيُّ الدنيا، وهلاكُ هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوماً غيرَها، وهى ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد اللّه به هذا الخلق ، فما هو؟

الرسول يسأل الأنصار عن قولهم في رجم الجن بالشهب وتوضيحه للأمر

قال ابن إسحاق : وذكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن على بن الحُسين بن علي بن أبى طالب ، عن عبداللّه بن العباس ، عن نفر من الأنصار: أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال لهم : " ماذا كنتم تقولون في هذا النَّجْم الذي يُرْمَى به

قالوا: يا نبي اللّه كنا نقول حين رأيناها يُرْمَى بها: مات مَلِكٌ ، مُلّك مَلِك ، وُلد مولود، مات مولود، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ليس ذلك كذلك ، ولكن اللّه تبارك وتعالى كان إذا قَضى في خلقِه أمراً سَمِعه حملة العرش ، فسبَّحوا، فسبَّح مَنْ تَحتَهم ، فسبح لتسبيحِهم مَن تحتَ ذلك ، فلا يزال التسبيح يهبطُ حتى ينتهىَ إلى السماء الدنيا، فيسبحوا، ثم يقول بعضُهم لبعض : مِمَّ سبحتم ؟ فيقولون : سَبَّحَ مَن فوقنا فسبحنا لتسبيحهم ، فيقولون : ألا تسألون مَنْ فوقَكم : مِمَّ سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك ، حتى ينتهوا إلى حملةِ العرشِ ، فيُقال لهم : مِمَّ سبحتم ؟ فيقولون : قضى اللّه في خلقه كذا وكذا، للأمرِ الذي كان ، فيهبط به الخبرُ من سماءٍ إلى سماء حتى ينتهى إلى السماءِ الدنيا، فيتحدثوا به ، فتسترقه الشياطينُ بالسمع ، على توهّم واختلاف ، ثم يأتوا به الكهان من أهلِ الأرض فيحدثوهم به.. فيخطئون ويصيبون ، فيتحدث به الكهان فيصيبون بعضاً ويخطئون بعضاً. ثم إن اللّه عز وجل حجب الشياطين بهذه النجوم التي يُقْذَفون بها، فانقطعت الكهانةُ اليومَ فلا كهانةَ".

قال ابن إسحاق : وحدثني عَمرو بن أبي جعفر، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبى لَبيبة، عن علي بن الحُسين بن علي رضى اللّه عنهم ، بمثل حديث ابن شهاب عنه.

الغيطَلة وصاحبها

قال ابن إسحاق : وحدثني بعضُ أهل العلم : أن امرأةً من بنى سَهْم يقال لها الغَيْطَلة كانت كاهنة في الجاهلية، فلما جاءها صاحبُها فِي ليلة من الليالى، فأنْقَض تحتها،

ثم قال : أدْرِ ما أدْرِ. يوم عَقْر ونحْر، فقالت قريش حين بلغها ذلك : ما يريد؟ ثم جاءها ليلةً أخرى، فأنْقَض تحتها،

ثم قال : شُعوب ، ما شُعوب؛ تُصْرَع فيه كَعْب لجُنوب. فلما بلغ ذلك قريشا،

قالوا: ماذا يريد؟ إن هذا لأمر هو كائن ، فانظروا ما هو؟ فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشِّعْب ، فعرفوا أنه الذي كان جاء به إلى صاحبته.

 نسب الغيطلة

قال ابن هشام : الغَيْطلة من بني مُرة بن عبد مُناة بن كنانة، إخوة مُدْلج بن مُرة وهي أم الغياطل الذين ذكر أبو طالب في قوله :

لقد سَفُهَت أحلامُ قوم تبدَّلوا  بنى خَلَفٍ قَيْضاً بنا والغياطل

فقيل لولدها: وهم من بنى سهم بن عمرو بن هُصَيْص. وهذا البيت في قصيدة له ، سأذكرها في موضعها - إن شاء اللّه تعالى.

كاهن جَنْب يذكر خبر الرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : وحدثني على بن نافع الجُرَشِىُّ : أن جَنْبا بطناً من اليمن ، كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذُكر أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانتشر في العرب ، قالت له جَنْب :انظر لنا في أمر هذا الرجل ، واجتمعوا له في أسفل جبله فنزل عليهم حين طلعت الشمس ، فوقف لهم قائماً متكئاً على قوس له ، فرفع رأسه إلى السماء طويلا، ثم جعل ينزو،

ثم قال أيها الناس ، إن اللّه أكرم محمداً واصطفاه ، وطهَّر قلبَه وحشاه ، ومُكثه فيكم أيها الناس قليل ، ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء.

سواد بن قارب يحدث عمر بن الخطاب عن صاحبه من الجن

قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم عن عبداللّه بن كعب ، مولى عثمانَ بن عفان ، أنه حُدِّث : أن عمر بن الخطاب ، بينا هو جالس في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إذ أقبل رجل من العرب داخلا المسجد، يريد عمرَ بنَ الخطاب ، فلما نظر إليه عمر رضي اللّه عنه ،

قال : إن هذا الرجل لعلَى شِركه ما فارقه بعدُ، ولقد كان كاهناً في الجاهلية. فسلَّم عليه الرجل ، ثم جلس ، فقال له عمر رضي اللّه عنه : هل أسلمتً ؟

قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال له : فهل كُنتَ كاهنا في الجاهلية؟ فقال الرجل : سبحان اللّه يا أمير المؤمنين ! لقد خِلْتَ في، واستقبلتني بأمر ما أراك قلتَه لأحد من رعيتك منذ وليتَ ما وليتَ ، فقال عمر: اللّهمَّ غُفراً، قد كنا في الجاهلية على شَرٍّ من هذا، نعبد الأصنامَ ، ونعتنق الأوثانَ ، حتى أكرمنا اللّه برسوله وبالإِسلام ،

قال : نعم ، واللّه يا أمير المؤمنين ، لقد كنتُ كاهناً في الجاهلية،

قال : فأخبرْنى ما جاءك به صاحبُك ،

قال : جاءنى قبل الإِسلام بشهر أو شَيْعه ،

فقال : ألم تر إلى الجن وإبلاسها، وأياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وأحلامها.

قال ابن هشام : هذا الكلام سجع ، وليس بشعر.

قال عبداللّه بن كعب : فقال عمر بن الخطاب عند ذلك يحدث الناس : واللّه إنى لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش، قد ذَبح له رجلٌ من العرب عجلاً، فنحن ننتظر قَسْمَه ليقْسِم لنا منه ، إذ سمعتُ من جوف العجل صوتاً ما سمعتُ صوتاً قطُّ أنفذ منه ، وذلك قُبَيْل الإِسلام بشهر أو شَيْعه ، يقول : يا ذَريح ، أمرٌ نجيح ، رجلٌ يصيح ، يقول : لا إله إلا اللّه.

قال بن هشام :

ويقال : رجل يصيح ، بلسان فصيح يقول: لا إله إلا اللّه. وأنشدنى بعضُ أهل العلم بالشعر:

عجبت للجن وإبلاسها  وشدها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكة تبغى الهدى   ما مؤمنو الجن كأنجاسها

قال بن إسحاق: فهذا ما بلغنا من الكهان العرب

إنذار يهود برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

اليهود - لعنهم اللّه - يعرفونه ويكفرون به

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه ،

قالوا: إن مما دعانا إلى الإِسلام ، مع رحمة اللّه تعالى وهُداه ، لما كنا نسمع من رجال يهود، كُنا أهلَ شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل كتاب ، عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نِلْنا منهم بعض ما يكرهون ، قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبى يُبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وِإرَم ، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم.

فلما بعث اللّه رسولَه صلى اللّه عليه وسلم أجبناه ، حين دعانا إلى اللّه تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه ، فآمنا به ، وكفروا به ، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩].

قال ابن هشام : يستفتحون : يستنصرون ، ويستفتحون أيضاً: يتحاكمون ، وفي كتاب اللّه تعالى : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:٨٩]

سلَمة يذكر حديثَ اليهودي الذي أنذر بالرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : وحدثني صالحُ بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عَوْف ، عن محمود بن لَبيد أخى بنى عبد الأشْهل عن سَلَمة بن سلامة بن وقش - وكان سَلَمة من أصحاب بدر -

قال : كان لنا جار من يهود في بنى عبد الأشْهل ،

قال : فخرج علينا يوماً من بيته ، حتى وقف على بنى عبد الأشهل - قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيه سنّاً، علىَّ بُردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي - فذكر القيامةَ والبعث والحسابَ والميزان والجنةَ والنار،

قال : فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان ، لا يرَوْن أن بعثاً كائن بعد الموت ، فقالوا له : ويحكَ يا فلان !! أوَترى هذا كائناً، أن الناس يُبْعثون بعدَ موتِهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم ؟

قال : نعم ، والذي يحلَف به ، ولَوَدَّ أن له بحظِّه من تلك النار أعظمَ تَنور في الدار، يحمونه ثم يُدخلونه إياه فيطينونه عليه ، بأن ينجوَ من تلك النار غداً، فقالوا له : ويحك يا فلان ! فما آيةُ ذلك ؟

قال : نبى مبعوث من نحو هذه البلاد - وأشار بيده إلى مكة واليمن.

فقالوا: ومتى تراه ؟

قال : فنظر إليَّ ، وأنا من أحدثهم سناً،

فقال : إن يَسْتنفدْ هذا الغلام عمرَه يدركْه قال سلمة : فواللّه ما ذهب الليل والنهار حتى بعث اللّه محمداً رسوله صلى اللّه عليه وسلم وهو حَىٌّ بين أظهرنا، فآمنا به ، وكفر به بغياً وحسداً.

قال : فقلنا له. وَيْحك يا فلانُ !! ألستَ الذي قلتَ لنا فيه ما قلتَ ؟

قال : بلى ولكن ليس به.

ابن الهيبان اليهودي يتسبب في إسلام ثعلبة وأسيد ابني سعية وأسد بن عبيد

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عُمر ابن قتادة عن شيخ من بنى قريظة

قال : قال لي : هل تدري عمَّ كان إسلام ثعلبة بن سَعْية وأسِيد بن سَعْية وأسد بن عبيد نفر من بنى هَدْل ، إخوة بنى قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا ساداتهم في الإسلام ،

قال : قلت : لا،

قال : فإن رجلاً من يهود من أهل الشام ، يقال له : ابن الهيَبان ، قَدِم علينا قُبَيْل الإسلام بسنين ، فَحَلَّ بينَ أظهرنا، لا واللّه ما رأينا رجلا قط لا يصلى الخمس أفضلَ منه ، فأقام عندنا فكنا إذا قحَط عنا المطر قلنا له : اخرج يا ابن الهيِّبان فاستسق لنا، فيقول : لا واللّه ، حتى تُقدِّموا بين يدَيْ مخرجِكم صدقةً، فنقول له : كم ؟ فيقول : صاعا من تمر، أو مُدَّيْن من شعير.

قال : فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حَرَّتنا، فيستسقي اللّه لنا، فواللّه ما يبرح مجلسه ، حتى تمرَّ السحابةُ ونُسْقَى، قد فعل ذلك غيرَ مرة ولا مرتين ولا ثلاث.

قال : ثم حضرته الوفاةُ عندَنا، فلما عَرَف أنه ميِّت ،

قال : أيا معشر يهود، ما ترونَه أخرجني من أرضِ الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟

قال : قلنا: إنك أعلم ،

قال : فإنى إنما قدمت هذه البلدة أتوكَّف خروج نبى قد أظلَّ زمانه. وهذه البلدة مُهاجَرُه ، فكنتُ أرجو أن يُبْعث ، فأتبعه ، وقد أظلكم زمانه ، فلا تُسْبَقُنَّ إليه يا معشر يهود، فإنه يُبعث بسفك الدماء، وسبى الذراري والنساء ممن خالفه ، فلا يمنعكم ذلك منه.

فلما بُعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحاصر بنى قُرَيْظة، قال هؤلاء الفتية، وكانوا شباباً أحداثاً: يا بنى قريظة، واللّه إنه للنبى الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيِّبان ،

قالوا: ليس به ،

قالوا: بلى واللّه ، إنه لهو بصفته ، فنزلوا وأسلموا، وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم.

قال ابن إسحاق : فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود.

حديث إسلام سلمان رضي اللّه عنه

سلمان - رضي اللّه عنه - يتشوَّف إلى النصرانية بعد المجوسية

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عُمر بن قَتادة الأنصاري ، عن محمود بن لَبيد، عن عبداللّه بن عباس ،

قال : حدثني سَلْمان الفارسي من فِيه

قال : كنتُ رجلاً فارسيّاً من أهل إصبهان من أهل قرية يقال لها: جَىّ، وكان أبى دِهْقَان قريته ، وكنتُ أحبَّ خلق اللّه إليه ، لم يزل به حبه إياي حتى حبسنى في بيته كما تُحبس الجارية. واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطْنَ النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.

قال : وكانت لأبى ضَيْعة عظيمة،

قال : فشُغل في بنيان له يوما، فقال لي : يا بُنى، إنى قد شُغلت في بنيانى هذا اليوم عن ضَيْعتي فأذهب إليها، فاطَّلِعْها - وأمرني فيها ببعض ما يريد -

ثم قال لي : ولا تحتبسْ عني ؟ فإنك إن احتبست عنى كنتَ أهمَّ إليَّ من ضَيْعتي ، وشغلْتنى عن كل شيء من أمري.

قال : فخرجت أريد ضَيْعتَه التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كناش النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس ، لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعتُ أصواتَهم دخلت عليهم ، أنظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم ، أعجبتني صلاتهم ، ورغبت في أمرهم ،

وقلت : هذا واللّه خير من الدين الذي نحن عليه ، فواللّه ما بَرِحْتُهم حتى غَرَبت الشمس ، وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟

قالوا: بالشام. فرجعت إلى أبى، وقد بعث في طلبي ، وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته

قال : أي بنى أين كنت ؟ أوَلَمْ أكن عهدتُ إليك ما عهدت ؟

قال : قلت له : يا أبت ، مررتُ بأناس يصلون في كنيسة لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فواللّه ما زلت عندهم حتى غَرَبت الشمس ،

قال : أي بنى، ليس في ذلك الدين خيرٌ ، دينك ودين آبائك خير منه ،

قال : قلت له : كلاَّ واللّه ، إنه لخير من ديننا.

قال : فخافنى، فجعل في رجلىَّ قَيدا ؛ ثم حبسني في بيته.

سلمان يهرب إلى الشام :

قال : وبعثت إلى النصارى فقلت لهم : إذا قَدِم عليكم ركب من الشام فأخبرونى بهم.

قال : فقدم عليهم ركب من الشام تجارٌ من النصارى، فأخبروني بهم فقلتُ لهم : إذا قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرجعةَ إلى بلادِهم ، فآذِنونى بهم :

قال : فلما أرادوا الرجعةَ إلى بلادهم ، أخبروني بهم ، فألقيت الحديد من رجلىَّ، ثم خرجت معهم ، حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت : من أفضل أهل هذا الدين علما؟

قالوا: الأسْقُفُّ في الكنيسة.

سلمان مع أسقف النصارى السيئ

قال : فجئته ، فقلت له : إني قد رغبت في هذا الدين ، فأحببت أن أكون معك ، وأخدمك في كنيستك ، فأتعلم منك ، وأصلى معك ،

قال : ادخل ، فدخلت معه.

قال : وكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ، ولم يعْطه المساكين ، حتى جمع سبعَ قِلال من ذهب ووَرِق.

قال : فأبغضته بُغضاً شديداً، لما رأيته يصنع ، ثم مات ، فاجتمعت إليه النصارى، ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا كان رجلَ سوءٍ ، يأمركم بالصدقة، ويرغِّبكمٍ فيها، فإذا جئتموه بها، اكتنزها لنفسه ، ولم يعطِ المساكين منها شيئا.

قال : فقالوا لي : وما عِلْمُك بذلك ؟

قال : فقلت لهم : أنا أدلكم على كنزه ،

قالوا: فدُلنا عليه

قال : فأريتهم موضعَه ، فاستخرجوا سبعَ قِلال مملوءة ذهباً ووَرِقاً.

قال : فلما رأوها

قالوا: واللّه لا ندفنه أبداً.

قال : فصلبوه ، ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر، فجعلوه مكانه.

سلمان مع أسقف النصارى الصالح

قال : يقول سلمانُ : فما رأيتُ رجلاً لا يصلي الخمسَ ، أرى أنه كان أفضلَ منه ، وأزهدَ في الدنيا، ولا أرغبَ في الآخرة، ولا أدأبَ ليلا ولا نهاراً منه.

قال : فأحببتُه حبا لم أحبه شيئا قبله مثله.

قال : فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاةُ،

فقلتُ له : يا فلان ، إنى قد كنت معك ، وأحببتك حبّاً لم أحبه شيئاً قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر اللّه تعالى، فإلى من تُوصى بي ؟ وبم تأمرنى ؟

قال : أي بنى، واللّه ما أعلم اليوم أحداً على ما كنت عليه ، فقد هلك الناسُ ، وبدَّلوا وتركوا أكثرَ ما كانوا عليه ، إلا رجلاً بالمَوْصِل ، وهو على ما كنتُ عليه فالحق به.

سلمان يلحق بأسقف الموصل

فلما مات وغُيب لحقتُ بصاحب المَوْصل ، فقلت له يا فلان ، إن فلانا أوصانى عند موته أن ألحق بك ، وأخبرنى أنك على أمره ،

قال : فقال لي : أقم عندي ، فأقمت عنده : فوجدته خير رجل على أمرِ صاحبه ، فلم يلبثْ أن مات ، فلما حضرته الوفاة، قلت له يا فلان : إن فلاناً أوصى بي إليك ، وأمرنى باللحوق بك ، وقد حضرك من أمر اللّه ما ترى ، فإلى من تُوصى بي ؟ وبم تأمرنى؟

قال : يا بنى، واللّه ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه ، إلا رجلا بنَصِيبين ، وهو فلان فالحق به.

سلمان يلحق بأسقف نصيبين : فلما مات وغُيب لحقت بصاحب نصيبين ، فأخبرته خبري ، وما أمرنى به صاحباي ،

فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه ، فأقمت مع خير رجل ، فواللّه ما لبث أن نزل به الموت. فلما حُضر، قلت له : يا فلان ! إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بى فلان إليك ، فإلى من تُوصى بى؟ وبم تأمرنى؟

قال : يا بنى، واللّه ما أعلمه بَقىَ أحدٌ على أمرِنا أمرك أن تأتيَه إلا رجلاً بعَمّورِية من أرض الروم ، فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأته ، فإنه على أمرنا.

سلمان يلحق بصاحب عمورية

فلما مات وغُيِّب لحقتُ بصاحب عَمُّورِية، فأخبرته خبري ،

فقال : أقم عندي ، فأقمت عند خير رجل ، على هَدْي أصحابه وأمرِهم ،

قال : واكتسبتُ حتى كان لي بقرات وغُنَيْمة.

قال : ثم نزل به أمرُ اللّه ، فلما حُضِر، قلت له : يا فلانُ ، إنى كنت مع فلان ، فأوصى بى إلى فلان ، ثم أوصى بى فلان إلى فلان ، ثم أوصى بى فلان إليك ، فإلى من تُوصي بي ؟ وبم تأمرني ؟

قال : أي بني ، واللّه ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مِثل ما كنا عليه من الناس أمرك به أن تأتيَه ، ولكنه قد أظل زمانُ نبىٍّ ، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام ، يخرج بأرض العرب ، مُهَاجَرُه إلى أرض بين حَرَّتَيْن ، بينهما نخل به علامات لا تخفي، يأكل الهديةَ، ولا يأكل الصدقةَ، وبين كتفيه خاتَمُ النبوة، فإن استطعتَ أن تلحقَ تجلك البلاد فافعلْ.

سلمان يذهب إلى وادي القرى

 

قال : ثم مات وغُيِّب ، ومكثت بَعَمُّورِية ما شاء اللّه أن أمكث ، ثم مر بي نفر من كَلب تجار، فقلتُ لهم : احملونى إلى أرض العربِ ، وأعطيكم بقراتي هذه وغُنَيْمتى هذه ،

قالوا: نعم فأعطَيْتُهُموها، وحملوني معهم ، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلمونى، فباعوني من رجل يهودي عبداً، فكنت عنده ، ورأيت النخلَ ، فرجوْتُ أن يكون البلدَ الذي وَصف لي صاحبى، ولم يحق في نفسى.

سلمان يذهب إلى المدينة : فبينا أنا عندَه ، إذ قدم عليه ابنُ عم له من بنى قُرَيْظة من المدينة، فابتاعني منه ، فاحتملني إلى المدينة، فواللّه ما هو إلا أن رأيتُها، فعرفتها بصفةِ صاحبى، فأقمت بها، وبُعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام ، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرقِّ ، ثم هاجر إلى المدينة.

سلمان يسمع بهجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة

فواللّه إنى لفي رأس عذْق لسيدي أعمل له فيه. بعض العمل وسيدي جالس تحتي ، إذ أقبل ابن عم له ، حتى وقف عليه ،

فقال : يا فلانُ ، قاتل اللّه بنى قَيْلة، واللّه إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم ، يزعمون أنه نبي.

نسب قيلة

قال ابن هشام: قَيْلة : بنت كاهل بن عُذْرَة بن سعد ابن زيد بن ليث بن سَوْد بن اسْلم بن الْحاف بن قُضاعة، أم الأوْس والخزرج.

قال النعمان بن بشير الأنصارى يمدح الأوس والخزرج :

بهاليلُ من أولادِ قَيْلة لم يَجِدْ  عليهم خليط في مُخالطةٍ عُتْبا
مساميحُ أبطال يُرَاحُون للندَى   يَرَوْنَ عليهم فِعلَ آبائهم نحبا

 وهذان البيتان في قصيدة له.

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة الأنصارى، عن محمود بن لَبيد، عن عبداللّه بن عباس ، قال سَلْمان : فلما سمعتها أخذنى العُرَوْراء.

قال ابن هشام : العُرَوْراء: الرعدة من البرد والانتفاض ، فإن كان مع ذلك عرق فهي الرُّحَضاء، وكلاهما ممدود - حتى ظننت أني سأسقط على سيدي ، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك : ماذا تقول ؟ فغضب سيدي ، فلكمنى لكمة شديدة،

ثم قال : ما لك ولهذا؟ أقبلْ على عملك ،

قال : قلت : لا شئ ، إنما أردت أن أستثبته عما قال.

سلمان يستوثق من رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم

قال : وقد كان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ، ثم ذهبت به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بقُبَاء، فدخلت عليه ، فقلت له : إنه قد بلغنى أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحقَّ به من غيرِكم ،

قال : فقرَّبته إليه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه : كلوا، وأمسك يده ، فلم يأكل.

قال : فقلت في نفسي : هذه واحدة.

قال : ثم انصرفتُ عنه ، فجمعت شيئا، وتحول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئتُه به ، فقلت له : إني قد رأيتُك لا تأكل الصدقة، فهذه هديةٌ أكرمتُك بها.

قال : فأكل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منها، وأمر أصحابه ، فأكلوا معه. قال فقلت في نفسى: هاتان ثنتان ،

قال : ثم جئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ببقيع الغَرْقَد، قد تبع جنازة رجل من أصحابه ، علىَّ شملتان لي ، وهو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره ، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلما رآنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استدبرته ، عَرَف أنى أستثبت في شيء وُصف لي، فألقى رداءه عن ظهره. فنظرت إلى الخاتم فعرَفته ، فأكببتُ عليه أقبله ، وأبكي ، فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : تحول ، فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثى، كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله وسلم أن يسمع ذلك أصحابُه. ثم شَغل سلمانَ الرقُّ حتى فاته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدر وأحد.

سلمان يفتكُّ نفسه من الرق بأمر رسول اللّه ومساعدته صلى اللّه عليه وسلم

قال سلمان :

ثم قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كاتبْ يا سلمان ، فكاتبت صاحبى على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفَقِير، وأربعين أوقية. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه : أعينوا أخاكم ، فأعانوني بالنخل ، الرجل بثلاثين وَدِيَّة، والرجل بعشرين وَدِيَّة. والرجل بخمس عشرة وَدِيَّة، والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلثمائة وَدِيَّة، فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقرْ لها، فإذا فرغت فأتنى، أكن أنا أضعها بيدي. قال ففقَّرْت ، وأعاننى أصحابي ، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته ، فخرج رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم معى إليها، فجعلنا نقرب إليه الوَدِيَّ ، ويضعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده حتى فرغنا. فوالذي نفس سلمان بيده ، ما ماتت منها وَدِيَّة واحدة.

قال : فأديت النخل ، وبقي عليَّ المال ، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن ،

فقال : ما فعل الفارسي المكاتَب ؟

قال : فدُعيت له ،

فقال : خذ هذه ، فأدِّها مما عليك يا سلمان.

قال : قلت : وأين تقع هذه يا رسول اللّه مما علي ؟

فقال : خذْها، فإن اللّه سيؤدى بها عنك.

قال : فأخذتها، فوزَنْت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقَّهم منها، وعُتق سلمان. فشهدتُ مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليه وآله وسلم الخندقَ حُرّاً، ثم لم يفتني معه مشهد.

 قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن رجل من عبد القيس عن سلمان : أنه

قال : لما قلتُ : وأين تقع هذه من الذي علىَّ يا رسول اللّه ؟ أخذها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلبها على لسانِه ،

ثم قال : خذها فأوفهمْ منها، فأخذتها، فأوفيتُهم منها حقَّهم كله ، أربعين أوقية.

حديث سلمان مع الرجل الذي بعمورية

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة،

قال : حدثني من لا أتهم عن عمر ابن عبد العزيز بن مروان ،

قال : حُدثت عن سلمانَ الفارسِّي : أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أخبره خبره : إن صاحب عمورية قال له : أئت كذا وكذا من أرضِ الشام ، فإن بها رجلاً بين غَيْضتين ، يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزاً، يعترضه ذوو الأسقام ، فلا يدعو لأحد منهم إلا شُفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي ، فهو يخبرك عنه ، قال سلْمانُ : فخرجت حتى أتيتُ حيثُ وُصف لي ، فوجدت الناسَ قد اجتمعوا بمرضاهم هنالك ، حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزاً من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم ، لا يدعو لمريض إلا شُفِىَ، وغلبونى عليه ، فلم أخْلُص إليه حتى دخل الغَيْضةَ التي يريد أن يدخل ، إلا منكبه.

قال : فتناولته.

فقال : من هذا؟ والتفت إلىَّ،

فقلتُ : يرحمك اللّه ، أخبرني عن الحَنِيفيَّة دين إبراهيم.

قال : إنك لتسألنى عن شيء ما يسأل عنه الناسُ اليومَ ، قد أظلَّك زمانُ نبي يُبعث بهذا الدين من أهل الحرم ، فَأتِهِ فهو يحملك عليه.

قال : ثم دخل.

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسلمان : لئن كنت صدقتني يا سلمان ، لقد لقيت عيسى ابن مريم.. على نبينا وعليه السلام.

ذكر ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى وعُبَيْد بن جحش وعثمان بن الحُوَيْرث

وزَيْد بن عمرو بن نُفَيْل

تشككهم في الوثنية  

قال ابن إسحاق : واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ، ويعكفون عنده ، ويُديرون به ، وكان ذلك عيداً لهم في كل سنة يوماً، فخلَص منهم أربعة نفرنَجِيّاً،

ثم قال بعضهم لبعض : تصادقوا، وليكتم بعضُكم على بعض ،

قالوا: أجل ، وهم :

وَرَقةُ بن نَوْفل بن أسَد بن عبد العُزَّى بن قُصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.

وعُبَيْد اللّه بن جحش بن رِئاب بن يَعْمر بن صبْرة بن مُرة بن كبير بن غَنْم بن دودان بن أسد بن خُزيمة، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب. وعثمان بن الحوَيْرث بن أسد بن عبد العزى بن قصى. وزيد بن عَمرو بن نُفَيْل بن عبد العزى بن عبداللّه بن قُرْط بن رِياح بن رَزاح ابن عدي بن كعب بن لؤي. فقال بعضهم لبعض : تعلَّموا واللّه ما قومكم على شيء! لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم ، ما حجر نطيف به ، لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع ؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم ، فإنكم واللّه ما أنتم على شيء ، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية، دين إبراهيم.

تنصر ورقة وابن جحش

فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية، واتبع الكتبَ من أهلها، حتى علم علما من أهل الكتاب.

وأما عُبَيد اللّه بن جحش ، فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان مسلمة، فلما قدمها تنصَّر، وفارق الإِسلام ، حتى هلك هنالك نصرانيا.

ابن جحش يغري مهاجري الحبشة على التنصر:

قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير،

قال : كان عُبَيد اللّه ابن جحش- حين تنصر - يمر بأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم هنالك من أرض الحبشة فيقول : فقَّحْنا وصَأصَأتم ، أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر، ولم تُبصروا بعد، وذلك أن ولد الكلب ، إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر، صأصأ، لينظر. وقوله : فقَّح : فتح عينيه

رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخلف على زوجة ابن جحش بعد وفاته

قال ابن إسحاق : وخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعده على امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن علي بنَ حُسين : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث فيها إلى النجاشى عَمْرَو بن أمية الضَّمْري ، فخطبها عليه النجاشى ؛ فزوجه إياها، وأصدقها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة دينار. فقال محمد بن علي : ما نرى عبد الملك بن مروان وقف صداق النساء على أربعمائة دينار إلا عن ذلك. وكان الذي أملكها النبى صلى اللّه عليه وسلم خالد بن سعيد بن العاص.

تنصر ابن الحُوَيْرث وقدومه على قيصر

قال ابن إسحاق :

وأما عثمان بن الحُوَيْرث ، فقدم على قيصر ملك الروم فتنصَّر، وحسنت منزلتُه عندَه.

قال ابن هشام : ولعثمان بن الحُوَيْرث عند قيصر حديث ، منعني من ذكره ما ذكرت في حديث حرب الفجار.

زيد يتوقف عن جميع الأديان :

قال ابن إسحاق :

وأما زيد ابن عَمرو بن نُفَيْل فوقف، فلم يدخل يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه ، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تُذْبَح على الأوثان.

ونهى عن قَتْل الموءودة،

وقال : أعبدُ ربَّ إبراهيم ، وبادَى قومه بعيْب ما هم عليه.

قال ابن إسحاق : وحدثني هشام بن عروة عن أبيه ، عن أمه أسماء بنت أبى بكر رضي اللّه عنهما،

قال : لقد رأيتُ زيدَ بن عمرو بن نُفَيْل شيخاً كبيراً مُسْنِداً ظهره إلى الكعبة، وهو يقول : يا معشرَ قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده : ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ، ثم يقول : اللّهم لو أني أعلم أيَّ الوجوه أحبّ إليك عبدتُك به ، ولكني لا أعلمه ، ثم يسجد على راحته.

قال ابن إسحاق : وحُدثت أن ابنه سعيد بن زيْد بن عمرو بن نُفَيْل وعمر بن الخطاب ، وهو ابن عمه ، قالا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أتستغفر لزيد بن عمرو؟

قال : نعم ، فإنه يُبْعث أمةً وحدَه.

شعر زيد في فراق الوثنية

وقال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه وما كان لقى منهم في ذلك:

أرَبّاً واحداً، أم ألفَ رب  أدِينُ إذا تُقُسمت الأمورُ
عَزَلْتُ اللاتَ والعُزَّى جميعاً  كذلك يفعلُ الجَلْدُ الصبورُ
فلا العُزَّى أدينُ ولا ابنتيْهـا  ولا صَنَمَيْ بنى عمرو أزورُ
ولا هُبَلاً أدين ، وكان ربًّا   لنا في الدهر إذ حِلمى يسيرُ
عجبت وفي الليالي مُعْجَبات  وفي الأيام يعرفها البصيرُ
بأن اللّه قد أفنى رجـالاً  كثيراً كان شأنَهمُ الفجورُ
وأبقى آخرين ببرِّ قوم   فَيَرْبِلُ منهمُ الطفلُ الصغير
وبَيْنا المرءُ يعثر ثابَ يوماً  كما يَتروَّح الغصنُ المطيرُ
ولكنْ أعبدُ الرحمنَ ربِّـى  ليغفرَ ذنبىَ الربُّ الغفورُ
فتقوى اللّه ربكم احفظوها  متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرارَ دارَهُم جِنانٌ  وللكفارِ حامية سعيرُ
وخزْي في الحياة وإن يموتوا  يلاقوا ما تضيقُ به الصدورُ
وقال زيد بن عمرو بن نُفَيل أيضا -

قال ابن هشام : هى لأمية ابن أبى الصلت في قصيدة له إلا البيتين الأولين ، والبيت الخامس ، وآخرها بيتا. وعجز البيت الأول عن غير ابن إسحاق :

إلى اللّه أهْدِي مِدحتى وثنائيا  وقولاً رصيناً لا ينى الدهرَ باقيَا
إلى الملكِ الأعلى الذي ليس  فوقَه إلهٌ ولا رب يكونُ مُدانيَا
ألا أيها الإنسان إياك والرَّدَى  فإنك لا تخفى من اللّه خافيَا
وإياكَ لا تجعلْ مع اللّه غيرَهُ  فإن سبيلَ الرُّشْد أصبحَ باديَا
حَنَانَيْكَ إن الجنَّ كانت رجاءَهم  وأنتَ إلهى ربنا ورجَائيَا
رضيتُ بك -اللّهمَّ –ربًّا فلن  أرَى أدينُ إلها غيرك اللّه ثانيَا
وأنت الذي من فَضْل مَن ورحمةٍ بعَثتَ إلى موسى رسولاً مناديَا
فقلت له يا اذْهب وهارون فادْعُوَا إلى اللّه فرعونَ الذيِ كان طاغيا

وقولا له : آأنْتَ سَوَّيتَ هذه بلا وَتدٍ ، حتى اطمأنت كما وقولا له :

آأنْتَ رفعت هذه بلا  عَمَدٍ ، أرفقْ - إذاً - بك بانيَا وقولا. له :

آأنْتَ سوَّيت وَسْطَها  مُنيراً، إذ ما جَنَّه الليلُ هاديَا
 وقولا له : من يرسلُ الشمس غُدوةً فيُصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له : من يُنبتُ الحبَّ في  الثرَى فيصبحُ منه البقلُ يهتزُّ رابيَا
ويُخرج منه حبَّه في رءوسِه  وفي ذاك آياتٌ لمن كان وَاعيَا
وأنت بفضلٍ منك نجَّيت يونساً  وقد بات في أضعافِ حوتٍ لياليَا
وإني ولو سبحت باسمك ربنا  لأكْثِر - إلا ما غفرتَ - خطائيَا
فربّ العبادِ ألق سَيْباً ورحمةً  علىَّ، وباركْ في بَنىَّ وماليَا

وقال زيد بن عمرو يعاتب امرأته صفية بنت الحَضرَمي :

نسب الحضرمي

قال ابن هشام : واسم الحضرمى : عبداللّه بن عباد أحد الصَّدِف ، واسم الصَّدف : عمرو بن مالك أحد السَّكون ابن أشرس بن كِنْدى،

ويقال : كِندة بن ثَوْر بن مُرَتِّع بن عُفَير بن عَدي بن الحارث بن مُرة بن أدد بن زيد بن مهسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ،

ويقال : مُرَتِّع بن مالك بن زيد ابن كهلان بن سبأ.

زيد يعاتب زوجته لمنعها له عن البحث في الحنيفية

قال ابن إسحاق : وكان زيد بن عمرو قد أجمع الخروج من مكة، ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم فكانت صفيةُ بنت الحضرمي كلما رأته قد تهيأ للخروج ، وأراده ، آذنت به الخطاب بن نُفَيل ، وكان الخطاب بن نُفَيل عمه وأخاه لأمه ، وكان يعاتبه على فراق دين قومه ، وكان الخطاب قد وكَّل صفية به.

وقال : إذا رأيتيه قد هَمَّ بأمر فآذنيني به - فقال زيد:

لا تحبيني فى الهوان   صفي ما دابي ودابة

إني إذ١ا خفت الهوان   مشيع ذلل ركابه

دعمص أبواب الملوك   وجانب للخرق نابه

قطاع أسباب تذل  بغير أقران صعابه

وإنما أخذ الهوان  العير إذا يوهى إهابه

ويقول : إني لا أُذل  بصك جنبيه صلابه

وأخي ابن أمي ، ثم  عمي لا يواتني خطابه

وإذا يعاتبني بسوء  لست أعياني جوابه

ول شاء لقلت ما  عندي مفاتحه وبابه

قول زيد حين يستقبل الكعبة :

قال ابن إسحاق : وحُدثت عن بعض أهلِ زيدٍ بن عمرو بن نُفَيل أن : أن زيداً كان إذا استقبل الكعبة داخلَ المسجد،

قال : لبيك حقّاً حقّاً، تعبداً ورقّاً.

عُذتُ بما عاذ به إبراهيمْ    مستقبلَ القبلة، وهو قائم
إذ قال:

أنفى لك اللّهم عان راغم  مهما تجشمنى فإنى جاشم
البر أبغى لا الخـال   ليس مهجر كمن قال
قال ابن هشام: ويقال: البر أبقى لا الخال، ليس مهجر كمن قال. قال وقوله : " مستقبل الكعبة" عن بعض أهل العلم.

قال بن إسحاق: وقال زيد بن عمرو بن نفيل:

وأسلمت وجهي لمن أسلمـت   له الأرض تحمل صخراً ثقالاً
دحاها فلما رآها استوت على  الماء ،أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمـت  له المزن تحمل عذباً زلالا
إذا هي سيقت إلي بلـدة  أطاعت ، فصبت عليها سجالا

الخطاب يؤذي زيداً ويحاصره

وكان الخطاب قد آذى زيداً؛ حتى أخرجه إلى أعلى مكة، فنزل حراء مقابلَ مكة، ووكَّل به الخطاب شباباً من شباب قُريش وسفهاء من سفهائهم ،

فقال لهم : لا تتركوه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سراً منهم ، فإذا علموا بذلك ، آذنوا به الخطاب ، فأخرجوه ، وآذوه كراهيةَ أن يُفسدَ عليهم دينهم ، وأن يتابعه أحد منهم على فراقه فقال - وهو يعظم حرمته على من استحلَّ منه ما استحل من قومه :

لا هُمَّ إني مُحرِم لا حِلّهْ  وإن بيتى أوسطُ المَحِلَّهْ

عند الصَّفا ليس بذي مَضَلَّهْ

زيد يرحل إلى الشام وموته

 ثم خرج يطلبُ دينَ إبراهيم عليه السلام ، ويسأل الرهبانَ والأحبار، حتى بلغ الموصِل والجزيرةَ كلَّها، ثم أقبل فجالَ الشامَ كلَّه ، حتى انتهى إلى راهب بميْفَعة من أرض البلقاء، كان ينتهي إليه عِلْمُ أهلِ النصرانية فيما يزعمون ، فسأله عن الحنيفيةِ دين إبراهيم ،

فقال : إنك لتطلب دِيناً ما أنت بواجدٍ من يحملك عليه اليوم ، ولكن قد أظلَّ زمانُ نبي يخرج من بلادك التي خرجتَ مِنها، يُبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحقْ بها، فإنه مبعوث الآنَ ، هذا زمانُه ، وقد كان شَامَّ اليهودية والنصرانية، فلم يرضَ شيئاً منهما، فخرج سريعاً، حين قال له ذلك الراهب ما قال ، يريد مكةَ، حتى إذا توسط بلادَ لخم ، عَدَوْا عليه فقتلوه.

ورقة يرثي زيدا: فقال ورقةُ بنُ نوفل بنِ أسد يبكيه :

رشدتَ ، وأنعمت ابن عمرو،  وإنما تجنبْتَ تنّوراً من النار حاميا

بدينك ربًّا ليس رب كمثلِه  وترككَ أوثانَ الطواغي كما هيَا
وإدراكك الدينَ الذي قد طلبتَه  ولم تكُ عن توحيدِ ربِّك ساهيَا
 فأصبحتَ في دارٍ كريمٍ مقامُها  تُعلَّلُ فيها بالكرامةِ لاهيا
تُلاقي خليلَ اللّه فيها، ولم تكنْ  من الناسِ جَبَّاراً إلى النارِ هاويَا
وقد تدركُ الإنسانَ رحمة ربِّه  ولوكان تحتَ الأرضِ سبعين واديَا

قال ابن هشام : يروى لأمية بن أبى الصَّلْت البيتان الأوَّلان منها، وآخرها بيتاً في قصيدة له. وقوله : " أوثان الطواغى " عن غير ابن إسحاق.

صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الإِنجيل

يُحَنَّس الحواري يثبت بعثة الرسول صلى اللّه عليه وسلم من الإِنجيل

قال ابن إسحاق : وقد كان - فيما بلغنى عما كان وَضعَ عيسى ابن مريم فيما جاءه من اللّه في الإِنجيل لأهل الإنجيل - من صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما أثبت يُحَنَّس الحواري لهم ، حين نسخ لهم الإِنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم أنه

قال : من أبغضنى فقد أبغض الربَّ ، ولولا أنى صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحدٌ قبلي ، ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بَطِرُوا وظنوا أنهم يَعُزُّوننى، وأيضا للرب ، ولكن لا بد من أن تتم الكلمةُ التي في الناموس : أنهم أبغضوني مجانا، أي : باطلا. فلو قد جاء المنْحمنّا هذا الذي يرسله اللّه إليكم من عند الربِّ ، وروح القُدس هذا الذي من عند الرب خرج ، فهو شهيد عليَّ وأنتم أيضا؛ لأنكم قديما كنتم معي في هذا، قلت لكم : لكيما لا تشكوا.

والمُنْحَمَنَّا بالسريانية : محمد: وهو بالرومية: البرقْلِيطِس ، صلى اللّه عليه وسلم.

مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله وسلم تسليما

أخذ اللّه الميثاق على الرسل بالإِيمان به صلى اللّه عليه وسلم:

قال : حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام ،

قال : حدثنا زياد بن عبداللّه البكائي - عن محمد بن إسحاق المطلبى

قال : فلما بلغ محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعين سنة بعثه اللّه تعالى رحمةً للعالمين ، وكافةً للناس بشيراً، وكان اللّه تبارك وتعالى قد أخذ الميثاقَ على كلِّ نبي بعثه قبلَه بالإِيمان به ، والتصديق له ، والنصر له على من خالفه ، وأخذ عليهم أن يؤدُّوا ذلك إلى كلِّ من آمن بهم وصدقهم ، فأدوا من. ذلك ما كان عليهم من الحقِّ فيه. يقول اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله وسلم : { وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران:٨١] : أي ثقل ما حملتكم من عهدي : { قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران:٨١] فأخذ اللّه ميثاق النبيين جميعا بالتصديق له ، والنصر له ممن خالفه ، وأدوا ذلك إلى من آمن بهم ، وصدقهم من أهل هذين الكتابين.

الرؤيا الصادقة أول ما بُدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : فذكر الزهريُّ عن عُروة بن الزبير، عن عائشة رضى اللّه عنها أنها حدثته : أن أولَ ما بُدى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من النبوة، حين أراد اللّه كرامته ورحمة العباد به : الرؤيا الصادقةُ، لا يرى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم رؤيا في نومِه إلا جاءت كفلق الصبح

قالتْ : وحبب اللّه تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلوَ وحدَه.

سلام الحجر والشجر عليه صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : وحدثني

عبد الملك بن عُبَيْد اللّه بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي ، وكان واعيةً، عن بعض أهل العلم :

أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أراده اللّه بكرامته ، وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعدَ حتى تحسَّرَ عنه البيوتُ ، ويُفضى إلى شِعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحجر ولا شجر، إلا

قال : السلامُ عليك يا رسولَ اللّه.

قال : فيلتفتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حولَه ، وعن يمينه وشماله وخلفه ، فلا يرى إلا الشجرَ والحجارة، فمكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ، ما شاء اللّه أن يمكثَ ، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة اللّه ، وهو بحراء في شهر رمضان.

نزول جبريل عليه صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : وحدثني ، وَهْب بن كَيْسان ، مولى آل الزبير.

قال : سمعتُ عبدَاللّه بن الزبير وهو يقول لعُبَيد ابن عُمَيْر بن قَتادة الليثي : حدثنا يا عبيد، كيف كان بدْءُ ما ابتُدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من النبوة، حين جاءه جبريل عليه السلام ؟

قال : فقال عُبيد - وأنا حاضر يحدث عبداللّه بن الزبير، ومن عنده من الناس : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجاور في حِراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنَّث به قريش في الجاهلية. والتحنث : التبرُّر.

قال ابن إسحاق : وقال أبو طالب :

وثَوْر ومن أرسى ثَبِيراً مكانَه  ورَاقٍ ليَرْقَى في حِراءَ ونازِلِ

التحنث والتحنف

قال ابن هشام : تقول العرب : التحنث والتحنف ، يريدون الحَنِيفية فيبدلون الفاء من الثاء، كما

قالوا: جَدَفَ وجَدَث. يريدون : القبرَ. قال رؤبةُ بن العَجّاج :

لو كان أحجاري مع الأجْداف

يريد: الأجداث : وهذا البيت في أرجوزة له. وبيت أبي طالب في قصيدة له سأذكرها إن شاء اللّه في موضعها.

قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول: فم، في موضع: ثم، يبدلون الفاء من الثاء.

قال ابن إسحاق : حدثني وهب بن كيسان

قال : قال عُبَيد: فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجاور ذلك الشهرَ من كل سنة، يُطعم من جاءه من المساكين ، فإذا قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جوارَه ، من شهره ذلك ، كان أول ما يبدأ به - إذا انصرف من جواره - الكعبة، قبل أن يدخلَ بيتَه ، فيطوفُ بها سبعاً، أو ما شاء اللّه من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته.

حتى إذا كان الشهرُ الذي أراد اللّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته ، من السنة التي بعثه اللّه تعالى فيها، وذلك الشهرُ: شهرُ رمضان ، خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى حِراء، كما كان يخرج لجوارِه ومعه أهلُه ، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه اللّه فيها برسالته ورحم العبادَ بها، جاءه جبريلُ - عليه السلام - بأمر اللّه تعالى.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فجاءنى جبريلُ ، وأنا نائم ، بِنَمَطٍ من دِيباجٍ فيه كتاب ،

فقال : اقرأ،

قال : قلت : ما أقرأ قال فغتَّنى به ، حتى ظننت أنه الموتُ ، ثم أرسلنى؛

فقال : اقرأ، قال قلت : ما أقرأ؟

قال : فغتَّنى به ، حتى ظننتُ أنه الموتُ ، ثم أرسلني ،

فقال : اقرأ،

قال : قلت : ماذا أقرأ؟ قال فغتَّني به ، حتى ظننتُ أنه الموتُ ، ثم أرسلنى،

فقال : اقرأ،

قال : فقلت : ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداءً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بى.

فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.[العلق:١ـ٥]

قال : فقرأتها، ثم انتهى، فانصرف عنى، وهببت من نومي ، فكأنما كتبت في قلبي كتابا.

قال : فخرجتُ حتى إذا كنتُ في وسطٍ من الجبل سمعت صوتاً من السماءِ يقول : يا محمدُ أنت رسولُ اللّه ، وأنا جبريلُ ،

قال : فرفعتُ رأسى إلى السماء أنظر، فإذا جبريلُ في صورة رجل صافّ قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد، أنت رسول اللّه وأنا جبريل.

قال : فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلتُ أصرفُ وجهي عنه في آفاقِ السماء،

قال : فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلتُ واقفا ما أتقدم أمامي ، وما أرجع ورائى حتى بَعثَتْ خدِيجةُ رُسلَهَا في طلبي ، فبلغوا أعلى مكةَ، ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك ، ثم انصرف عني.

الرسول صلى اللّه عليه وسلم يخبر خديجة رضي اللّه عنها بنزول جبريل عليه

وانصرفتُ راجعاً إلى أهلي ، حتى أتيتُ خديجةَ، فجلست إلى فخذها مُضيفا إليها، فقالت : يا أبا القاسم ، أين كنتَ ؟ فواللّه لقد بعثت رسلي في طلبك ، حتى بلغوا مكةَ ورجعوا لي ، ثم حدثتها بالذي رأيتُ ، فقالت : أبشرْ يا ابن عمِّ واثبُتْ فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة.

خديجة رضي اللّه عنها تخبر ورقة بن نوفل

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزى ابن قُصي ، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصّر، وقرأ الكتب ، وسمع من أهل التوراة والإنجيل. فأخبرته بما أخبرها به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه رأى وسمع. فقال ورقةُ بن نوفل : قدُّوس قدوس ، والذي نفس ورقةَ بيده لئن كنتِ صدقتيني يا خديجةُ لقد جاءه الناموسُ الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبيُّ هذه الأمة. فقولى له : فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأخبرته بقول ورقةَ بن نَوْفَل. فلما قضى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم جوارَه وانصرف ، صنع كما كان يصنع : بدأ بالكعبة، فطاف بها. فلقيه ورقةُ بن نوفل ، وهو يطوف بالكعبة.

فقال : يا ابن أخى أخبرْنى بما رأيتَ وسمعتَ : فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال له ورقةُ : والذي نفسى بيده ، إنك لنبىُّ هذه الأمة، وقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الذي جاء موسى. ولتُكَذِّبنهْ ، ولتُؤذَيَنَّهْ ، ولتُخْرَجَنهْ ، ولَتُقَاتلنَّهْ. ولئن أنا أدركتُ ذلك اليوم لأنصرنَّ اللّه نصراً يعلمه. ثم أدنى رأسَه منه ، فقبل يافوخَه ، ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى منزله.

 تثبُّت خديجة رضي اللّه عنها من الوحي

قال ابن إسحاق : وحدثني إسماعيلُ بن أبي حكيم مولى آلِ الزبير: أنه حُدِّث عن خديجة رضي اللّه عنها أنها قالت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أي ابن عَم ، أتستطيع أن تخبرنى بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟

قال : نعم ،

قالت : فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريلُ عليه السلام ، كما كان يصنعُ ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لخديجةَ: يا خديجةُ، هذا جبريلُ قد جاءنى ،

قالت : قم يا ابن عم فاجلسْ على فَخذي اليسرى،

قال : فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجلس عليها،

قالت : هل تراه ؟

قال : نعم ،

قالت : فتحولْ ، فاجلسْ على فخذي اليمنى،

قالت : فتحول رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجلس ، على فخذي اليمنى، فقالت : هل تراه ؟

قال : نعم ،

قالت : فتحولْ فاجلسْ على حجري ،

قالت : فتحول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجلس في حجرها،

قالت : هل تراه ؟

قال : نعم ،

قال : فتحسَّرت وألقت خمارَها ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس في حجرها،

ثم قالت له : هل تراه ؟

قال : لا، قالت يا ابن عم ، أثبت وأبشرْ، فواللّه إنه لملك وما هذا بشيطان.

قال ابن إسحاق : وقد حَدثتُ عبدَاللّه بن حسن هذا الحديث ،

فقال : قد سمعتُ أمى فاطمة بنت حُسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول : أدخلتْ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عندَ ذلك جبريل ، فقالت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن هذا لملك ، وما هو بشيطان.

ابتداء تنزيل القرآن

متى نزل القرآن

قال ابن إسحاق : فابتُدئ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان ، بقول اللّه عز وجل : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:١٨٥] وقال اللّه تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.[القدر:١ـ٥] وقال اللّه تعالى: { حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}.[الدخان:١ـ٣] وقال تعالى : { إنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّه وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.[الأنفال:٤١] وذلك مُلْتقَى رسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمشركين ببدر.

تاريخ وقعة بدر

قال ابن إسحاق : وحدثني أبو جعفر محمد ابن علي بن حُسَين : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة، صبيحةَ سَبْعَ عَشْرةَ من رمضان.

قال ابن إسحاق : ثم تتامَّ الوحي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مؤمن باللّه مُصدِّق بما جاءه منه ، قد قَبله بقَبوله ، وتحمَّل منه ما حُمِّله على رضَا العباد وسخطهم ، والنبوة أثقال ومؤنة ، لا يحملها، ولا يستطيع بها، إلا أهل القوة والعزم من الرسل ، بعون اللّه تعالى وتوفيقه ، لما يَلْقَوْن من الناسِ ، وما يُرَدُّ عليهم مما جاءوا به عن اللّه سبحانه وتعالى.

 

قال : فمضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمر اللّه ، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.

إسلام خديجة بنت خويلد

وقوفها بجانبه صلى اللّه عليه وسلم : وآمنت به خديجة بنت خُوَيْلد، وصدَّقت بما جاءه من اللّه ، ووازرَتْه على أمره ، وكانت أولَ من آمن باللّه وبرسوله ، وصدَّق بما جاء منه ، فخفف اللّه بذلك عن نبيه صلى اللّه عليه وسلم لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له ، فيحزنه ذلك ، إلا فرَّج اللّه عنه بها إذا رجع إليها، تثبِّته وتخفف عليه ، وتصدِّقه وتهون عليه أمر الناس ، رحمها اللّه تعالى.

تبشير خديجة ببيت من قصب

قال ابن إسحاق : وحدثني هشام بن عُرْوة، عن أبيه عُروةَ بنِ الزبير، عن عبداللّه بن جعفر ابن أبي طالب رضي اللّه عنه ،

قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " أمرتُ أن أبشِّر خديجةَ ببيت من قَصَبٍ ، لا صخبَ فيه ولا نصب".

قال ابن هشام : القصب اللؤلؤ المجوف.

جبريل يُقرئ خديجة السلام من ربها

قال ابن هشام : وحدثني من أثق به ، أن جبريل عليه السلام أتى رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛

فقال : أقرئ خديجةَ السلام من ربها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا خديجةُ، هذا جبريل يقرِئُك السلامَ من ربك ، فقالت خديجة : اللّه السلامُ ، ومنه السلامُ ، وعلى جبريلَ السلامُ.

فترة الوحي ونزول سورة الضحى

قال ابن إسحاق : ثم فتر الوحي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتْرةً من ذلك ، حتى شقَّ ذلك عليه فأحزنه ، فجاءه جبريلُ بسورة الضحى، يُقسم له رُّبه ، وهو الذي أكرمه بما أكرمه به ، ما ودَّعه وما قَلاَه ، فقال تعالى : { وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}.[الضحى:١ـ٣] يقول : ما صرمك فتركك ، وما أبغضك منذ أحبك. { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الْأُولَى}.[الضحى:٤] أي لمَا عندي من مرجعك إلىَّ، خيرٌ لك مما عَجَّلْت لك من الكرامة في الدنيا. { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٥] من الفُلح في الدنيا، والثواب في الآخرة. { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:٦ـ٨] يعرفه اللّه ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ، ومَنِّه عليه في يتمه وعَيْلَته وضلالته ، واستنقاذه من ذلك كلِّه برحمته.

تفسير مفردات سورة الضحى

قال ابن هشام : سَجَى : سكن. قال أمية بن أبي الصلت الثقفي :

إذ أتى مَوْهِناً وقد نام صحبي  وسجا الليلُ بالظلامِ البهيمِ

وهذا البيت في قصيدة له ، ويقال للعَيْن إذا سكن طرفُها: ساجية، وسجا طرفُها.

قال جرير:

ولقد رَمَيْنَك حين رُحْن بأعين    يَقْتُلْنَ مِن خَلَلِ الستور سَواجِىٍ

وهذا البيت في قصيدة له. والعائل : الفقير. قال أبو خِرَاش الهُذلى: إلى بيته يَأوَي الضّريكُ إذا شَتا ومُستَنبح بالِى الدَّرِيسيْنِ عائلُ وجمعه : عالة وعيل. وهذا البيت في قصيدة له ، سأذكرها في موضعها

إن شاء اللّه: والعائل أيضا: الذي يعول العيال. والعائل أيضا: الخائف. وفي كتاب اللّه تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}.[النساء: ٣] وقال أبو طالب :

بميزانِ قِسطٍ لا يُخِسُّ شَعيرةً له  شاهد من نفسِه غيرُ عائل

وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها - إن شاء اللّه في موضعها. والعائل أيضا الشيء المُثْقِل المعيى يقول الرجل : قد عالني هذا الأمر: أي أثقلنى وأعياني. قال الفرزدق :

ترى الغرَّ الجَحَاجِحَ من قريشٍ  إذا ما الأمرُ في الحَدَثانِ عَالاَ

وهذا البيت في قصيدة له.

 { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (٩)

وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} :[الضحى:٩،١٠] أي لا تكن جباراً ولا متكبراً، ولا فحَّاشا فَظا على الضعفاء من عباد اللّه. {

وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: ١١] : أي بما جاءك من اللّه من نعمته وكرامته من النبوة فحدثْ ، أي اذكرْها وادْعُ إليها، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكرُ ما أنعم اللّه به عليه وعلى العبادِ به من النبوةِ سرّاً إلى من يطمئن إليه من أهله.

ابتد اء ما افترض اللّه سبحانه وتعالى على النبى صلى اللّه عليه وسلم

من الصلاة وأوقاتها

و افتُرضت الصلاةُ عليه فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وآله، والسلام عليه وعليهم ورحمة وبركاته.

افُترضت الصلاة ركعتين ثم زيدت

قال ابن إسحاق : وحدثني صالح بن كَيْسَان عن عُرْوة بن الزبير، عن عائشة رضى اللّه عنها

قالت : افتُرضت الصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أول ما افتُرضت عليه ،ركعتين ركعتين ، كل صلاة ؛ ثم إن اللّه تعالى أتمها في الحضَر أربعاً وأقرها في السفر على فَرْضها الأول ركعتين.

جبريل يعلم الرسول صلى اللّه عليه وسلم الوضوء والصلاة

قال ابن إسحاق : وحدثني بعضُ أهل العلم : أن الصلاة حين افتُرضت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، آتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي ، فانفجرت منه عين؛ فتوضأ جبريل عليه السلام ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينظر إليه ، ليُرِيَه كيف الطَّهور للصلاة، ثم توضأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ. ثم قام به جبريلُ فصلى به ، وصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بصلاته ، ثم انصرف جبريلُ عليه السلام.

الرسول صلى اللّه عليه وسلم يُعلم خديجة الوضوء والصلاة

 فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خديجة، فتوضأ لها ليرِيَها كيف الطَّهورُ للصلاة كما أراه جبريلُ ، فتوضأت كما توضأ لها رسول اللّه عليه الصلاة والسلام ، ثم صلى اللّه عليه وسلم بها رسول اللّه عليه الصلاة والسلام كما صلى اللّه عليه وسلم به جبريل فصلت بصلاته.

جبريل يعين للرسول صلى اللّه عليه وسلم أوقات الصلاة

قال ابن إسحاق : حدثني عُتبةُ بن مُسْلم مولى بني تميم ، عن نافع بن جُبَيْر بن مُطعِم ، وكان نافع كثير الرواية، عن ابن عباس

قال : لما افتُرضت الصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام ، فصلى به الظهر حين مالت الشمس ، ثم صلى به العصر حين كان ظلُّه مثلَه ، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمسُ ، ثم صلى به العِشاءَ الآخرةَ حين ذهب الشَّفقُ ، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجرُ، ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظلُّه مثلَه ، ثم صلى به العصر حين كان ظلُّه مثليه ، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمسُ لوقتها بالأمس ، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلثُ الليل الأول ، ثم صلى به الصبح مسفراً غيرَ مُشْرِقٍ ،

ثم قال : يا محمد، الصلاةُ فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس.

ذكر أن على بن أبي طالب رضي اللّه عنه

 أول ذكر أسلم

قال ابن إسحاق : ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول اللّه صلى، وصلى معه وصدَّق بما جاءه من اللّه تعالى : على بن أبى طالب ابن عبد المطلب بن هاشم ، رضوان اللّه وسلامه عليه ، وهو يومئذ ابن عشر سنين.

نعمة اللّه على علي بنشأته في كَنَف الرسول : وكان مما أنعم اللّه به على علي بن أبي طالب رضى اللّه عنه ، أنه كان في حِجْر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل الإِسلام.

سبب هذه النشأة

قال ابن إسحاق : وحدثني عبدُاللّه بن أبي نَجِيح ، عن مُجاهد بن جَبْر بن أبي الحَجَّاج ،

قال :كان من نعمةِ اللّه على عليِّ بن أبى طالب ، ومما صنع اللّه له ، وأراده به من الخير، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيالٍ كثير؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للعباس عمِّه ، وكان من أيسر بنى هاشم : يا عباس ، إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناسَ ما ترى من هذه الأزمة، فانطلقْ بنا إليه ، فلنخففْ عنه من عياله : آخذ من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت رجلاً، فنكلهما عنه ؛ فقال العباسُ : نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب ، فقالا له : إنا نريد أن نخففَ عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ؛ فقال لهما أبو طالب : إذا تركتما لي عَقيلاً فاصنعا ما شئتما -

قال ابن هشام :

ويقال : عقيلاً وطالباً. فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا، فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه ، فلم يزل علي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبيا، فاتَّبعه علي رضى اللّه عنه ، وآمن به وصدقه ؛ ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.

الرسول صلى اللّه عليه وسلم وعلىّ يخرجان إلى الصلاة في شعب مكة واكتشاف أبي طالب لهما

قال ابن إسحاق : وذكر بعض أهل العلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علىُّ بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه ، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء اللّه أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يُصليان ، فقال لرسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يابن أخي ! ما هذا الدينُ الذي أراك تَدين به ؟

قال : أي عمّ ! هذا دين اللّه ودين ملائكته ، ودين رسله ، ودين أبينا إبراهيم – أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم – بعثني اللّه به رسولا إلى العباد، وأنت أي عم ، أحقُّ من بذلتُ له النصيحة، ودعوتُه إلى الهدَى، وأحقُّ من أجابنى إليه وأعانني عليه ، أو كما قال ؟ فقال أبو طالب : أي ابن أخي ! إنى لا أستطيع أن أفارقَ دين آبائى وما كانوا عليه ، ولكن واللّه لا يُخْلَصُ إليك بشيء تكرهه ما بَقيت.

وذكروا أنه قال لعلى: أي بني ! ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟

فقال : يا أبت ، آمنت باللّه وبرسولِ اللّه ، وصدقتُه بما جاء به وصليتُ معه للّه واتبعته ، فزعموا أنه قال له : أما إنه لم يَدْعُك إلا إلى خير فألزمه.

السابقون إلى الإسلام

إسلام زيد بن حارثة ثانيا

قال ابن إسحاق : ثم أسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب ابن عبد العُزَّى بن امرئ القيس الكلبى، مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان أولَ ذكر أسلم ، وصلى بعد علي بن أبي طالب.

نسب زيد

قال ابن هشام : زيد بن حارثة بن شَرَاحيل بن كعب ابن عبد العُزَّى بن امرى القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد وُدّ بن عَوْف بن كِنانة بن بكر بن عوف بن عُذْرَة بن زيْد اللات بن رُفَيْدة بن ثَوْر بن كلب بن وَبْرة. وكان حكيم بن حزام ابن خُوَيلد قدم من الشام برقيق ، فيهم زيد بن حارثة وصيف. فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد وهي يومئذ عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال لها: اختاري يا عمة أي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك ، فاختارت زيداً فأخذته ، فرآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له ، فأعتقه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتبناه ، وذلك قبل أن يُوحي إليه.

 شعر حارثة أبي زيد عندما فقده

وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جَزَعاً شديداً، وبكى عليه حين فقده ،

فقال :

بكيتُ على زيدٍ ولمْ أدْرِ ما فعلْ  أحَى فيُرْجَى أم أتى دونَه الأجلْ
فواللّه ما أدري وإنى لسائلٌ أغَالكَ   بعدي السهلُ أم غالَك الجبلْ
ويا ليتَ شِعْري هل لك الدهرُ أوبةٌ فحسبى من الدنيا رجوعُك لي بَجَلْ؟
تُذَكِّرْنيه الشمسُ عندَ طلوعِها  وتَعرضُ ذكراه إذا غربُها أفل
وإن هَبَّت الأرواحُ هَيَّجنَ ذكرَه فيا  طولُ ما حزْني عليه وما وَجَلإْ
سأعمل نَصَّ العيسِ في الأرضِ جاهداً ولا أسأمُ التَّطوَافَ أوتسأمُ الإبل
حَياتىَ أو تأتي على مَنِيتى  فكلُّ امرئ فانٍ وإن غرَّه الأملْ

 ثم قَدِم عليه وهو عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إن شئتَ فأقم عندي ، وإن شئتَ فانطلقْ مع أبيك ،

فقال : بل أقيم عندك. فلم يزل عندَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بعثه اللّه فصدقه وأسلم ، وصلى معه؛ فلما أنزل اللّه عز وجل : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}.[الأحزاب:٥]

قال : أنا زيد بن حارثة.

إسلام أبي بكر الصديق رضى اللّه عنه – وشأنه

 نسبه

قال ابن إسحاق : ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة، واسمه عَتيق ، واسم أبي قحافة عُثمان بن عَمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم ابن مُرّة بن لُؤَي بن غالب بن فِهر.

اسمه ولقبه

قال ابن هشام : واسم أبي بكر: عبداللّه، وعتيق : لقب لحُسنِ وجهه وعتقه.

إسلامه

قال ابن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر رضي اللّه عنه : أظهر إسلامه ، ودعا إلى اللّه وإلى رسوله.

إيلاف قريش له ودعوته للإِسلام

وكان أبو بكر رجلاً مألفاً لقومه ، محبباً سهلاً، وكان أنسبَ قريش لقريش ، وأعلمَ قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجراً، ذا خُلق ومعروف ، وكان رجال قومِه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته وحسن مجالسته ، فجعل يدعو إلى اللّه وإلى الإِسلام من وَثق به من قومه ، ممن يغشاه ويجلس إليه.

ذكر من أسلم من الصحابة بدعوة أبي بكر رضى اللّه عنه

عثمان :

قال : فأسلم بدعائه - فيما بلغنى - عثمانُ بن عفان ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب.

الزبير: والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.

عبد الرحمن بن عوف : وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ابن عبد بن الحارث بن زُهرة بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي.

سعد بن أبي وقاص : وسعد بن أبي وقاص ، واسم أبي وقاص : مالك بن أهَيْب بن عبد مناف بن زُهرة بن مُرة بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي.

طلحة : وطلحة بن عُبَيْداللّه بن عثمان بن عَمرو بن كَعْب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَي ، فجاء بهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلُّوا. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ، فيما بلغني : ما دعوتُ أحداً إلى الإِسلام إلا كانت فيه عنده كَبْوَة، ونظر وتردد، إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قُحَافة، ما عَكم عنه حين ذكرتُه له ، وما تزدد فيه.

قال ابن هشام : قوله : " بدعائه " عن غير ابن إسحاق.

قال ابن هشام : قوله : عَكَم : تلبث. قال رُؤبة بن العَجَّاج :

وانصاعَ وثابَ بها وما عَكَمْ

قال ابن إسحاق : فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناسَ بالإِسلام فصَلُّوا وصدَّقُوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما جاءه من اللّه.

إسلام أبي عبيدة : ثم أسلم أبو عُبَيْدة بن الجراح ، واسمه عامر ابن عبداللّه بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضَبَّة بن الحارث بن فِهْر.

إسلام أبي سلمة: وأبو سَلَمة، واسمه عبداللّه بن عبد الأسَد بن هلال بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَي.

إسلام الأرقم : والأرقم بن أبى الأرقم. واسم أبى الأرقم عبد مناف بن أسَد - وكان أسد يُكْنَى أبا جُنْدُب - بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرَّة بن كَعْب بن لُؤَي.

إسلام عثمان بن مظعون وأخويه : وعثمان بن مَظْعون بن حَبيب ابن وَهْب بن حُذَافة بن جُمَح بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي. وأخواه قُدامة وعبداللّه ابنا مظعون بن حبيب.

إسلام عبيدة بن الحارث : وعُبَيْدة بن الحارث بن المطَّلب بن عبد مناف بن قُصىَ بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤَي. إسلام سعيد بن زيد وامرأته : وسعيد بن زيد بن عَمرو بن نُفَيْل بن عبد العُزَّي بن عبداللّه بن قُرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي ؛ وامرأته فاطمة بنت الخطاب بن نُفيل بن عبد العزى بن عبداللّه بن قُرْط بن رِياح بن رَزَاح بن عَدي بن كعب ابن لُؤَي ، أخت عمر بن الخطاب.

إسلام أسماء وعائشة ابنتي أبي بكر وخباب بن الأرت: وأسْماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبى بكر، وهي يومئذ صغيرة وخَبَاب بن الأرَت ، حليف بني زُهْرة.

قال ابن هشام : خَبَّاب بن الأرَتِّ من بنى تميم ،

ويقال : هو من خزاعة.

إسلام عُمَير وابن مسعود وابن القاري :

قال ابن إسحاق : وعُمَيْر بن أبى وقَّاص ، أخو سعد بن أبي وقاص ، وعبداللّه بن مسعود ابن الحارث بن شَمْخ بن مخزوم بن صَاهلة بن كاهل بن الحارث ابن تميم بن سعد بن هُذَيْل. ومسعود بن القَارِي ، وهو مسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبد العُزَّى بن حًمالة بن غالب بن مُحَلِّم بن عائذة بن سُبَيْع بن الهَوْن بن خزيمة من القَارَةِ.

قال ابن هشام : والقارة : لقب ، ولهم يقال :

قد أنصف القارَةَ من راماها

وكانوا قوما رُماة.

إسلام سليط وأخيه ، وعياش وامرأته وخنيس وعامر:

قال ابن إسحاق : وسَلِيط بن عَمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نصر ابن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر؛ وأخوه حاطب بن عَمرو وعَيَّاش بن ربيعة بن المغيرة بن عبداللّه بن عُمر ابن مخزوم بنِ يَقَظَة بن مُرة بن كعب بن لؤي ؛ وامرأته أسماء بنت سلامة بن مُخرِّبة التميمية. وخُنَيْس بن حُذافة بن عدي بن سعد بن سهم بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي. وعامر بن ربيعة، من عَنْز بن وائل ، حليف آل الخطاب بن نُفَيْل بن عبد العُزَّى.

قال ابن هشام : عَنْز بن وائل أخو بكر بن وائل ، من ربيعة بن نزار.

 إسلام ابنيْ جحش ، وجعفر وامرأته ، وحاطب وإخوته ونسائهم ، والسائب ، والمطلب وامرأته :

قال ابن إسحاق : وعبداللّه ابن جحش بن رِئاب بن يَعْمَر بن صَبِرة بن مُرة بن كبير بن غَنْم ابن دُودَان بن أسد بن خُزَيمة. وأخوه أبو أحمد بن جحش ، حليفا بنى أمية بن عبد شمس. وجعفر بن أبى طالب ؛ وامرأته أسماء بنت عُمَيْس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة، من خَثْعم. وحاطب ابن الحارث بن مَعْمَر بن حَبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح بن عمرو بن هُصيْص بن كعب بن لؤي ، وامرأته فاطمة بنت المُجَلَّل ابن عبداللّه بن أبي قَيْس بن عبد وُدّ بن نَصر بن مالك بن حِسْل ابن عامر بن لُؤَي بن غالب بن فِهر وأخوه خطَّاب بن الحارث ، وامرأته فُكَيْهة بنت يَسار. ومَعْمَر بن الحارث بن حبيب بن وهب ابن حُذَافة بن جُمَح بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي. والسائب ابن عثمان بن مَظْعون بن حَبِيب بن وَهْب. والمطَّلِب بن أزْهَر بن عبد عَوْف بن عبد بن الحارث بن زُهْرة بن كلاب بن مُرّة بن كَعْب بن لُؤَي ، وامرأته : رَمْلَة بنت أبى عوف بن ضُبَيْرة بن سَعيد ابن سَهْم بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي.

إسلام نعيم : والنَّحَّام ، واسمه نُعَيْم بن عبداللّه بن أسَد، أخو بني كعب بن لؤي.

نسب نعيم :

قال ابن هشام : هو نُعَيم بن عبداللّه بن أسَيْد بن عبد عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي ، وإنما سمى النَّحَّام ، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال : لقد سمعت نَحْمَه في الجنة.

 قال ابن هشام : نَحْمه : صوته أو حِسّه.

اسلام عامر بن فهيرة :

قال ابن إسحاق : وعامر بن فهيرة، مولى أبي بكر الصديق رضى اللّه عنه.

نسبه :

قال ابن هشام : عامر بن فُهَيْرة مُوَلَّد من مُوَلِّدي الأسَيْد، أسْوَد اشتراه أبو بكر رضى اللّه عنه منهم.

إسلام خالد بن سيد ونسبه واسلام امرأته :

قال ابن إسحاق : وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ابن قُصى بن مُرَّة بن كعب بن لؤي. وامرأته أمَيْنة بنت خَلَف بن أسعد بن عامر بن بَيَاضة بن سُبَيْع بن جُعْثُمة بن سعد بن مُلَيْح بن عَمرو، من خُزاعة.

قال ابن هشام :

ويقال : هُمَيْنة بنت خلف.

إسلام حاطب وأبي حذيفة :

قال ابن إسحاق : وحاطب بن عَمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نَصر بن مالك بن حِسْل عامر بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر ، واسمه مُهْشِم فيما

قال ابن هشام - ابن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤَي.

إسلام واقد وشيء من خبره:

وواقد بن عبداللّه بن عبد مناف ابن عَرِين بن ثَعْلبة بن يَرْبوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، حليف بنى عدي بن كعب.

قال ابن هشام : جاءت به باهلة، فباعوه من الخطاب بن نُفَيْل ، فتبناه ، فلما أنزل اللّه تعالى : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}.[الأحزاب:٥]

قال : أنا واقد بن عبداللّه ، فيما قال أبو عَمرو المدني.

إسلام بني البكير:

قال ابن إسحاق : وخالد وعامر وعاقل وإياس بَنُو البُكَيْر بن عبد يَاليل بن ناشِب بن غِيَرَة بن سعد بن لَيْث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة حلفاء بني عدي بن كعب.

إسلام عمار: بن ياسر حليف بنى مخزوم بن يقظة.

قال بن هشام: عمار بن ياسر عنسى من مذحج.

إسلام صهيب: قال بن اسحاق: صهيب بن سنان أحد النمر بن قاسط حليف بنى تيم بن مرة.

نسب صهيب : قال بن هشام : النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار،

ويقال : أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد؛ ويقال: صهيب: مولى عبد اللّه بن جدعان بن عمرو كعب بن سعد بن تيم.

ويقال : إنه رومى. فقال بعضُ مَن ذكر أنه من النمر بن قاسط، إنما كان أسيراً في أرض الروم ، فاشتُرِيَ منهم. وجاء في الحديث عن النبى صلى اللّه عليه وسلم : " صُهَيب سابق الروم ".

مباداة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومَه ، وما كان منهم

أمر اللّه له صلى اللّه عليه وسلم بمباداة قومه

قال ابن إسحاق : ثم دخل الناس في الإسلام أرْسالاً من الرجال والنساء، حتى فشا ذكرُ الإسلام بمكة، وتُحدث به. ثم إن اللّه عز وجل أمر رسولَه صلى اللّه عليه وسلم أن يَصْدعَ بما جاءه منه ،وأن يباديَ الناس بأمره ، وأن يدعوَ إليه ، وكان بين ما أخفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره اللّه تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغنى - من مبعثه ؛

ثم قال اللّه تعالى له : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤]. وقال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}.[الشعراء: ٢١٤،٢١٥]

معنى { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:٩٤ ] :

قال ابن هشام : اصدع : افْرُقْ بين الحق والباطل. قال أبو ذُؤيْب الهُذَلى، واسمه خُوَيْلد بن خالد، يصف أتن وحْش وفحلَها:

وكأنهنَّ رِبابَة وكأنه يَسَر   يفيضُ على القِداحِ ويَصْدُعُ
أي يُفَرِّق على القداح ويبين أنصباءَها. وهذا البيت في قصيدة له ، وقال رُؤبَة بن العَجَّاج :

أنتَ الحليمُ والأميرُ المنتقمْ  تَصدَعُ بالحقِّ وتَنْفِي مَنْ ظَلَمْ
وهذان البيتان في أرجوزة له.

خروج الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه للصلاة في الشِّعْب

قال ابن إسحاق : وكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا صلوا، ذهبوا في الشعاب ، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبيْنَا سعد بن أبى وقاص في نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في شِعْب من شِعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحْي بعير فشجَّه ، فكان أول دم هُرِيقَ في الإِسلام.

عداوة قومه ومساندة أبي طالب له :

قال ابن إسحاق : فلما بادَى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومَه بالإسلام وصدَع به كما أمره اللّه ، لم يبعد منه قومه ، ولم يردُّوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافَه وعداوته ، إلا من عصم اللّه تعالى منهم بالإِسلام ، وهم قليل مستَخْفُون ، وحَدِب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمُّه أبو طالب ، ومنعه وقام دونَه ، ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمر اللّه ، مظهراً لأمرِه ، لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يُعْتِبهم من شيء أنكروه عليه ، من فراقَهم وعَيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حَدِب عليه ، وقام دونَه ، فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبى طالب ، عُتبة وشَيْبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤَي بن غالب بن فهر.

قال ابن هشام : واسم أبى سفيان صَخْر.

قال ابن إسحاق : وأبو البَخْتري ، اسمه العاص بن هشام بن الحارث ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.

قال ابن هشام : أبو البَخْتري : العاص بن هاشم.

قال ابن إسحاق : والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزي ابن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وأبو جهل - واسمه عَمْرو، وكان يكنى أبا الحكم - بن هشام بن المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرة بن كعب بن لؤي. والوليد بن المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مُرة ابن كعب بن لؤي. ونُبَيْه ومُنَبه ابنا الحجاج بن عامر بن حُذيفة بن سعد بن سَهْم بن عَمرو بن هُصيْص بن كعب بن لؤي. والعاص بن وائل.

قال ابن هشام : العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سَهْم ابن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي.

وفد قريش يعاتب أبا طالب :

قال ابن إسحاق : أو من مشى منهم.

فقالوا: يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب دينَنا، وسفَّه أحلامَنا، وضلَّل آباءَنا؛ فإما أن تكفَّه عنا،

وإما أن تُخَلِّىَ بينَنَا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ،فنَكْفِيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه. الرسول صلى اللّه عليه وسلم يستمر في دعوته : ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ما هو عليه يُظهر دينَ اللّه ، ويدعو إليه ، ثم شرى الأمرُ بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذِكرَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينَها، فتذامروا فيه ، وحضَّ بعضُهم بعضأ عليه.

رجوع الوفد إلى أبي طالب مرةً ثانيةً:

ثم إنهم مَشَوْا إلى أبي طالب مرةً أخرى، فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سِنّاً وشرفاً ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تَنْهه عنا، وإنا واللّه لا نصبرُ على هذا من شَتْم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهَلَك أحد الفريقين - أو كما قالوا له - ثم انصرفوا عنه ، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفساً بإسلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهم ولا خِذلانه.

ما دار بين الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأبي طالب :

قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخْنَس أنه حُدِّث : أن قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فقال له : يا ابن أخي ، إن قومَك قد جاءونى ، فقالوا لي كذا وكذا، الذي كانوا قالوا له ، فابق علىَّ وعلى نفسك ، ولا تُحمّلْنى من الأمر ما لا أطيق؛

قال : فظن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاءً أنه خاذله ومُسْلِمُه ، وأنه قد ضَعُف عن نصرته والقيام معه.

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا عم ، واللّه لو وضعوا الشمسَ في يمينى، والقمرَ في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره اللّه، أو أهلك فيه ما تركته.

قال : ثم استعبر رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فبكى ثم قام؛ فلما ولى ناداه أبو طالب ،

فقال : أقبلْ يابن أخي؛

قال : فأقبل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال : اذهبْ يابن أخي ، فقلْ ما أحببتَ ، فواللّه لا أسْلمك لشيء أبد اً.

قريش تعرض عمارة بن الوليد على أبي طالب :

قال ابن إسحاق : ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلانَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإسلامه ، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم ، مَشَوْا إليه بعُمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له - فيما بلغنى - يا أبا طالب ، هذا عُمارةُ بن الوليد، أنْهدُ فتى في قريش وأجملُه ، فخذه فلك عَقْلُه ونَصْرُه. واتخذْه ولداً فهو لك وأسلمْ إلينا ابن أخيك هذا، الذي قد خالف دينَك ودينَ آبائك ، وفرق جماعة قومك وسفَّه أحلامَهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل؛

فقال : واللّه لبئس ما تسومونني ، أتعطوننى ابنكم أغذُوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟! هذا واللّه ما لا يكون أبداً.

قال : فقال المُطْعِم بن عدي بن نَوْفل بن عبد مناف بن قُصي : واللّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومُك ، وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً؛ فقال أبو طالب للمطعم : واللّه ما أنصفونى، ولكنك قد أجمعتَ خذلانى ومظاهرة القوم عليَّ ، فاصنع ما بدا لك ، أو كما قَال.

قال : فحقب الأمر، وحميت الحربُ ، وتنابذ القوم ، وبادَى بعضُهم بعضا.

شعر أبي طالب في المطعم ومن خذله : فقال أبو طالب عند ذلك ، يعرض بالمطْعِم بن عَدِيّ ، ويعم من خذله من بنى عبد مناف ، ومن عاداه من قبائل قريش ، ويذكر ما سألوه ، وما تباعد من أمرهم :

ألا قل لعمرو والوليدِ ومُطْعِم ألا  ليت حظِّى من حياطتِكم بكرُ
من الخُور حَبْحَاب كثيرٌ رُغاؤه يُرَشُ    على الساقَيْن من بولِه قطر
تَخلًّف خالفَ الوِرْدِ ليس بلاحـق  إذا ما علا الفَيْفاء قيل له وَبْرُ
أرى أخويْنَا من أبينا وأمِّنا   إذا سُئلا قالا إلى غيرِنا الأمرُ
بلَى لهما أمر ولكن تَجَرجَمَا كما جُرْجِمَتْ من رأسِ ذي عَلَقٍ صخرُ
أخُصُّ خصوصاً عبدَ شمس ونوْفـلاً  هما نبذانا مثلَ مايُنبَذُ الجمرُ
هما أغمزَا القومَ في أخَوَيْهما    فقد أصبحا منهم أكفُّهما صِفْرُ
هما أشركا في المجدِ من لا أبـا   له من الناسِ إلا أن يُرَسَّ له ذِكْرُ
وتَيْم ومخزوم وزُهرة منهـمُ  وكانوا لنا مَوْلًى إذا بُغِىَ النصرُ
فواللّه لا تنفكُّ منا عَداوةٌ ولا  منهمُ ما كان من نَسْلِنا شَفْر
فقد سَفُهَتْ أحلامُهم وعقولُهم  وكانوا كجَفْر بئسَ ما صنعتْ جَفْرُ
قال ابن هشام : تركنا منها بيتين أقذع فيهما.

 قريش تُظهر عداوتها للمسلمين

قال ابن إسحاق : ثم إن قريشا تذامروا بينَهم على من في القبائل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين أسلموا معه ، فوثبت كلُّ قبيلة على مَنْ فيهم من المسلمين يعذبونهم ، ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع اللّه رسولَه صلى اللّه عليه وسلم منهم بعمِّه أبى طالب ، وقد قام أبو طالب ، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بنى هاشم وبنى المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه ، من مَنْع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والقيام دونَه ؛ فاجتمعوا إليه ، وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه ، إلا ما كان من أبى لهب ، عدو اللّه الملعون.

شعر أبي طالب في مدح قومه لنصرته : فلما رأى أبو طالب من قومه ما سرَّه في جهدهم معه ، وحَدَبهم عليه ، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ، ويذكر فضلَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم ، ومكانَه منهم ، ليشد لهم رأيهم ، وليَحْدَبوا معه على أمره ،

فقال :

إذا اجتمعتْ يوماً قريش لمفخر   فعبدُ منافٍ سِرُّها وصميمُها
وإن حُصِّلت أشرافُ عبد منافها  ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُها
وإن فخَرَتْ يوماً فإن محمداً هو  المصطَفي من سرِّها وكريمها
تداعتْ قريش غَثُّها وسمينُها   علينا فلم تَظْفَرْ وطاشتْ حلومُها
وكنا قديماً لا نُقِرُّ ظلامةً   إذا ماثَنَوْا صعْرَ الخدودِ نقيمُها
ونحمي حِماها كل يومٍ كريهـةٍ   ونضربُ عن أحجارِها من يرومُها
بنا انتعش العُود الذوَاء وإنمـا   بأكنافِنا تندَى وتَنْمى أرُومُها

الوليد بن المغيرة : كيده للرسول ، وموقفه من القرآن

ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سِن فيهم ، وقد حضر الموسم

فقال لهم : يا معشرَ قرَيش، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدَمُ عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمرِ صاحبِكم هذْا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذِّب بعضُكم بعضاً، ويردّ قولُكم بعضَه بعضاً؛

قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأياً نقول به ؛

قال : بل أنتم فقولوا أسمع ؛

قالوا: نقول كاهن؛

قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بَزَمْزَمة الكاهن ولا سَجْعه ؛

قالوا: فنقول : مجنون ؛

قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخَنْقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته ؛

قالوا: فنقول : شاعر؛

قال : ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجَزَه ، وهَزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعرة

قالوا: فنقول : ساحر؛

قال : ما هو بساحر، لقد رأينا السُّحَّار وسحرَهم ، فما هو بنَفْثِهم ولا عَقْدِهم قالوا؛ فما نقول يا أبا عبد شمس ؛

قال : واللّه إن لقوله لحلاوةً وإن أصلَه لعَذْقٍ ، وإن فرعه لجَناة -

قال ابن هشام :

ويقال لغَدْق - وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرِّق به بين المرءِ وابنه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسُبُل الناس حين قدموا الموسم ، ولا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره.

فأنزل اللّه تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:١١ـ ١٦] أي خصيما.

قال ابن هشام : عنيد: معاند مخالف. قال رؤبة بن العجاج :

ونحن ضرَّابون رأسَ العُنَّد

وهذا البيت في أرجوزة له.

 { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}.[المدثر: ١٧ـ ٢٢]

قال ابن هشام : بسر: كرَّه وجهه. قال العَجَّاج :

مُضبَّر اللَّحْيين بَسْراً مِنْهَسا

يصف كراهية وجهه. وهذا البيت في أرجوزة له.

 } ثم أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٣ـ ٢٥]

رد القرآن على صحب الوليد:

قال ابن إسحاق : وأنزل اللّه تعالى في رسوله صلى اللّه عليه وسلم وفيما جاء به من اللّه تعالى وفي النفر الذين كانوا معه يصنِّفون القول في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وفيما جاء به من اللّه تعالى : { كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.[الحجر:٩٠ـ ٩٣]

قال ابن هشام : واحدة العِضين : عِضَة، يقول : عَضَّوْه : فرقوه. قال رُزبة بن العُجاج :

وليس دينُ اللّه بالمعضَّى

وهذا البيت في أرجوزة له.

قال ابن إسحاق : فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمن لقوا من الناس ، وصدرت العربُ من ذلك الموسم بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛ فانتشر ذكرُه في بلادِ العربِ كلِّها.

شعر أبي طالب في معاداة خصومه : فلما خشى أبو طالب دَهْماءَ العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التي تعوَّذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشرافَ قومه ، وهو على ذلك يُخبرهم وغيرَهم في ذلك من شعره أنه غير مُسْلِم رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونَه ،

فقال :

ولما رأيتُ القـومَ لا وُدَّ  فيهمُ وقد قطعوا كلَّ العُرَى والوسائل
وقد صارحونا بالعـداوةِ  والأذَى وقد طاوعوا أمرَ العدوِّ المزايل
وقد حالفوا قوماً علينـا  أظِنَّةً يَعَضُّونَ غَيْظاً خلفَنا بالأناملِ
صبرتُ لهم نفسي بسمراء  سَمْحة وأبيضَ عَضْب من تُراث المقاولِ
وأحصرتُ عندَ البيت رهطى  وإخوتى وأمسكتُ من أثوابِه بالوصائلِ
قياماً معاً مستقبلين رِتاجَه  لدى حيثُ يَقْضي حلفه كل نافلِ
وحيثُ يُنيبخ الأشعرون ركابَهـم  بمُفْضٍّى السيولِ من إسافَ ونائل
مُوَسَّمة الأعضادِ أو قَصَراتها    مُخَيَّسة بينَ السَّديس وبازلِ
ترى الوَدْع فيها والرخامَ  وزينةً بأعناقِها معقودةً كالعثاكلِ
أعوذ بربِّ الناسِ من كل  طاعن علينا بسوءٍ
أو مُلح بباطلِ
ومن كاشحٍ يسعَى لنا بمعيبة  ومن مُلْحِقٍ في الدين ما لم نُحاولِ
وثَوْرٍ ومن أرسَى ثَبيـراً  مكانَه وراقٍ ليرقى في حِراءَ ونازلِ
وبالبيتِ ، حقّ البيتِ ،    من فيِ مكة وباللّه إن اللّه ليس بغافِل
وبالحجرِ المسْوَدّ إذ يمسحونه  إذا اكتنفوه بالضُّحَى والأصائل
وموطئ إبراهيمَ في الصخرِ  رطبة على قدميْه حافياً غير ناعلِ
وأشْواط بينَ المروَتَيْن إلى الصَّفَا   وما فيهما من صُورةٍ وتَماثلِ
ومن حجَّ بيتَ اللّه من كلِّ راكبٍ  ومن كلِّ ذي نَذرٍ ومن كل راجل
وبالمشْعَرِ الأقْصَى إذا عَمدوا له   إلالٌ إلى مفْضَى الشِّراجِ القوابلِ
وتَوْقافِهم فوقَ الجبالِ عَشِيَّـــةً  يُقيمون بالأيدي صدورَ الرواحلِ
وليلةِ جَمْعٍ والمنازلِ من مِنــى   وهل فوقها من حُرْمة ومنازلِ
وجَمْعٍ إذا ما المُقْرَبات أجَزْنَــه  سِراعا كما يخرجنَ من وقعِ وابلِ
وبالجمرةِ الكبرى إذا صَمدوا لها   يَؤُمُّون قذفاً رأسَها بالجَنادلِ
وكِندةَ إذ هُم بالحِصاب عشيــة    تُجيز بهم حُجاجُ بكرِ بنِ وائلِ
حليفان شدَّا عَقْدَ ما احتلفا لــه    وردَّا عليه عاطفاتِ الوسائل
وحَطْمِهم سُمرَ الرماحِ وسرحـه   وشِبْرِقَه وَخْدَ النعامِ الجوافلِ
فهل بعد هذا من مَعَاذٍ لعائــذ   وهل من مُعيذٍ يتقى اللّه عاذل
يُطاع بنا أمرُ العدوِّ ودَّ أننــا  تُسدُّ بنا أبوابُ تُركٍ وكابلِ
كذبتمْ وبيتِ اللّه نترك مكــة  ونَظْعنُ إلا أمرُكمِ فى بلابلِ
كذبتم وبيتِ اللّه نُبْزي محمـدا   ولمَّا نطاعنْ دونه ونناضل
ونسلمه حتى نُصَرَّع حولــَه  ونُذْهَل عن أبنائِنا والحلائل
وينهض قوم فى الحديد إليكمُ  نهوضَ الرَّوايا تحتَ ذات الصلاصل
وحتى ترى ذا الضَّغْنِ يركب رَدْعَه   من الطَّعنِ فعلَ الأنْكَبِ المتحَامِلِ

 

وإما لعَمْرُ اللّه إن جَدَّ مــا أرى    لتَلْتَبِسَنْ أسيافُنا بالأماثل
بكَفَّىْ فتى مثل الشهاب سَمَيْدعٍ  أخى ثقةٍ حامى الحقيقةِ باسل
شهوراً وأياماً وحولاً مُجَرَّمــا    علينا وتأتى حِجَّةٌ بعدَ قابل
وما تركُ قومٍ ، لا أبا لك ، سيدا   يحوط الذِّمارَ غير ذَرْب مُوَاكِل
وأبيضُ يُستسقَى الغمامُ بوجهـه    ثمالُ اليتامى عِصْمةٌ للأرامل
يلوذُ به الهُلاَّف من آلِ هاشــم    فهم عندَه فى رَحْمةٍ وفواضلِ
لَعَمْري لقد أجرى أسَيد وبَكْرُه  إلى بُغضِنا وجزّآنا لآكلِ
وعثمانُ لم يَرْبع علينا وقُنفُذ  ولكن أطاعَا أمرَ تلك القبائلِ
أطاعا أبَيًّا وابنَ عبدِ يغوثِهم  ولم يَرْقُبا فينا مَقالةَ قائل
كما قد لَقِينا من سُبَيْعٍ ونوْفلٍ  وكل تولَّى مُعْرِضاً لم يجامل
فإن يُلْقيا
أو يُمكن اللّه منهما  نَكِلْ لهما صاعاً بصاعِ المُكايل
وذاك أبو عمرو أبى غيرَ بُغْضِنا   ليظْغنا فى أهلِ شاءٍ وجاملِيناجى بنا فى كلِّ مَمْسَى ومُصْبَح   فناجِ أبا عمرو بنا ثم خاتِل
ويُؤْلى لنا باللّه ما إن يَغُشنا  بَلى قد نراه جهرةً غيرَ حائلِ
أضاق عليه بغضُنا كلَّ تَلْعَةٍ  من الأرضِ بين أخْشُبٍ فمجادِلِ
وسائلْ أبا الوليدِ ماذا حَبَوْتَنا    بِسَعْيِك فينا معْرِضاً كالمخاتِل
وكنتَ امرأ ممن يُعاش برأيِه    ورحمتِه فينا ولست بجاهلِ
فعتبةُ لا تسمعْ بنا قولَ كاشحٍ  حسودٍ كذوبٍ مُبْغِضٍ ذي دَغَاوِلِ
ومَرَّ أبو سفيان عنى مُعْرِضاً  كما مَرَّ قَيْلٌ من عِظامِ المَقاوِلِ
يَفِر إلى نَجْدٍ وبَرْدِ مياهِه  ويزعُم أننى لستُ عنكم بغافلِ
ويخبرُنا فِعْلَ المُناصِح أنه  شفيق ويُخفى عارماتِ الدواخل
أمِطْعمُ لم أخْذُلْك فى يومِ نجدةٍ  ولا مُعْظِم عندَ الأمورِ الجلائل
ولا يومَ خَصْمٍ إذا أتوك ألِـدَّةً  أولِى جَدَل من الخصومِ المَساجل
أمُطْعِمُ إن القومَ ساموك خُطَّةً    وإنى متىِ أوكَلْ فلستُ بوائلِ
جزى اللّه عنا عبدَ شمسٍ ونَوْفَلاً   عقوبةَ شر عاجلاً غيرَ آجل
بميزانِ قِسْطٍ لا يُخَسُّ شعيرةً  له شاهدٌ من نفسِه غيرَ عائل
لقد سَفُهتْ أحلامُ قومٍ تبدَّلوا    بنى خلفٍ قَيْضاً بنا والغَياطل
ونحنُ الصميمُ من ذؤابةِ هاشم   وآل قُصَىٍّ فى الخُطوبِ الأوائل
وسهمٌ ومخزوم تمالوا وألَّبُوا  علينا العِدَا من كلِّ طِمْل وخاملِ
فعبدُ مناف أنتم خيرُ قومِكم    فلا تُشركوا فى أمرِكم كلَّ واغِلِ
لعَمْري لقد وهنتمُ وعَجَزْتم  وجئتم بأمر مُخْطئ للمفاصلِ
وكنتم حديثاً حَطْبَ قدرٍ وأنتم ال   آن حِطابُ أقدُرٍ ومَراجل
ليَهْنِئْ بنى عبد مناف عقوقُنا    وخذلانُنا وتركُنا في المعَاقلِ
فإن نك قوما نَثئِر ما صنعتمُ  وتَحتلبوها لِقْحَةً غيرَ باهلِ
وسائط كانت في لُؤيِّ بن غالبٍ    نفاهم إلينا كلُّ صقر حُلاحِل
ورهط نُفَيل شَرُّ مَنْ وطئَ الحصىَ   وألأم حافٍ مِنْ مَعد ونَاعل
فأبلغْ قُصيا أن سيُنشر أمرُنا    وبَشِّر قصيّاً بعدَنا بالتخاذل
ولو طرَقت ليلاً قُصيا عظيمةٌ    إذا ما لجأنا دونَهم فى المَداخلِ
ولو صَدقوا ضَرْبا خلالَ بيوتِهم    لكنَّا أسًى عندَ النساءِ المَطافِل
فكلُّ صديقٍ وابنِ أختٍ نعدُّه  لَعَمْري وَجَدْنا غِبَّه غيرَ طائل
سوى أنَّ رهطاً من كلابِ بنِ مُرة   بَراء إلينا من معقَّةِ خاذلِ
وهَنَّا لهم حتى تبددَّ جمعُهم    ويَحْسُر عنا كل باغٍ وجاهلِ
وكان لنا حوضُ السقايةِ فيهمُ  ونحنُ الكُدى من غالبٍ والكَواهلِ
شباب من المطيِّبين وهاشمٍ  كبِيضِ السيوفِ بينَ أيدِي الصَّياقِل
فما أدركوا ذَحْلاً ولا سفكوا دما   ولا حالفوا إلا شِرارَ القبائل
بضرْبٍ ترى الفِتيانَ فيه كأنهم  ضَوَارِي أسودٍ فوق لحمٍ خَرادِلِ
بنى أمَةٍ محبوبةٍ هِنْدِكيَّةٍ    بنى جُمَح عُبَيْد قيسِ بنِ عاقلِ
ولكننا نسل كرامٌ لسادة    بهم نُعِيَ الأقوامُ عندَ البَواطلِ
ونعم ابنُ أختِ القومِ غيرَ مُكَذَّبٍ   زُهَير حُساماً مُفْرَداً من حَمائل
أشَمُّ مِنَ الشُّمِّ البهاليلِ ينتَمِي  إلى حسب في حَوْمةِ المجدِ فاضل
لعَمْري لقد كُلفتُ وَجْداً بأحمد   وإخوتِه دَأبَ المحِبِّ المواصلِ
فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلِها  وزَيْناً لمن والاه ربُّ المَشاكلِ
فمن مِثلُه فى الناس
أيُّ مُؤَمَّلٍ  إذا قاسه الحكامُ عندَ التفاضلِ
حليم رشيدٌ عادل غيرُ طائشٍ  يوالى إلاهاً ليسَ عنه بغافلِ
فواللّه لولا أن أجىءَ بسُبَّةٍ  تُجَرُّ على أشياخِنا فى المحافلِ
لكنا اتبعناه على كلِّ حالة   من الدهرِ جِدًّا غير قولِ التهازلِ
لقد علموا أن ابنَنا لا مُكذَّبٌ    لدينا ولا يُعْنَى بقوْلِ الأباطل

 فأصبح فينا أحمد فى أرومةٍ    تُقَصِّر عنه سَوْرةُ المتطاولِ
حَدِبْتُ بنفسى دونَه وحَميْتُه    ودافعتُ عنه بالذُّرَا والكَلاكِلِ
فأيده ربُّ العبادِ بنصرِه  وأظهرَ ديناً حقُّه غيرُ باطلِ
رجال كرام غيرُ ميلٍ نَماهُمُ  إلى الخيرِ آباء كرامُ المحاصلِ
فإن تكُ كعب من لُؤي صُقَيْبة    فلا بُدّ يوماً مرةً من تَزايُلِ

قال ابن هشام : هذا ما صح لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.

الرسول عليه السلام يستسقي لأهل المدينة ويود لو أن أبا طالب حي يرى ذلك

قال ابن هشام : وحدثني من أثق به ،

قال : أقحط أهلُ المدينة، فأتَوْا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فشكوا ذلك إليه ، فصعد رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم المنبر فاستسقى، فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهلُ الضواحي يشكون منه الغرق ؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " اللّهم حوالينا ولا علينا "، فانجاب السحاب عن المدينة فصار حواليها كالإكليل ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره "، فقال له بعض أصحابه : كأنك يا رسول اللّه أردت قوله :

وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهِه   ثمالُ اليتامى عصمة للأراملِ

قال : " أجل ".

قال ابن هشام : وقوله " وشبرقة " عن غير ابن إسحاق.

ذكر الأسماء التي وردت في قصيدة أبي طالب

قال ابن إسحاق : والغياطل : من بنى سهم بن عمرو بنْ هَصيص ، وأبو سفيان ابن حرب بن أمية. ومُطْعِم بن عَدِيِّ بن نوفل بن عبد مناف. وزُهير ابن أبي أمية بن المغيرة بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم ، أمه عاتكة بنت عبد المطلب.

قال ابن إسحاق : وأسيد، وبِكْره : عَتَّاب بن أسيد بن أبي العيص ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. وعثمان بن عُبيد اللّه ، أخو طلحة بن عُبيد اللّه التيْمي. وقنفذ بن عُمَير بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرة. وأبو الوليد عتبة بن ربيعة. وأبو الأخنس بن شريق الثقفى، حليف بنى زُهرة بن كلاب.

قال ابن هشام : وإنما سمي الأخنس. لأنه خنس بالقوم يوم بدر، وإنما اسمه أبىّ، وهو من بنى علاج ، وهو عِلاج بن أبى سلمة بن عَوْف بن عقبة. والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف ابن زُهرة بن كلاب. وسُبيع بن خالد، أخو بَلْحَارث بن فهر. ونَوْفل ابن خُوَيْلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي ، وهو ابن العدوية. وكان من شياطين قريش، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عُبَيْد اللّه رضى اللّه عنهما فى حبل حين أسلما، فبذلك كانا يسميان القرينين ؛ قتله علي بن أبى طالب عليه السلام يوم بدر. وأبو عمرو قُرْظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف.

" وقومٌ علينا أظنَّة ": بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، فهؤلاء الذين عدَّد أبو طالب فى شعره من العرب.

انتشار ذكر الرسول خارج مكة

فلما انتشر أمرُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى العرب ، وبلغ البلدان ، ذُكر بالمدينة، ولم يكن حى من العرب أعلم بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين ذُكر، وقبل أن يُذكر من هذا الحى من الأوس والخزرج ، وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود، وكانوا لهم حلفاء، ومعهم فى بلادِهم. فلما وقع ذكره بالمدينة، وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف. قال أبو قيس بن الأسْلَت ، أخو بنى واقف :

نسب ابن الأسلت

قال ابن هشام : نسب ابنُ إسحاق أبا قيس هذا هاهنا إلى بني واقف ، ونسبه في حديث الفيل إلى خَطْمة، لأن العرب قد تنسب الرجل إلى أخي جده الذي هو أشهر منه.

قال ابن هشام : حدثني أبو عُبَيدة : أن الحكم بن عمرو الغِفارى من ولد نُعَيْلة أخي غِفار وهو غِفار بن مُلَيْل ، ونُعَيلة بن مُلَيل بن ضَمْرة بن بكر بن عبد مناة، وقد قالوا عتبة بن غزوان السُّلَمى وهو من ولد مازن بن منصور وسُلَيْم بن منصور.

قال ابن هشام : فأبو قيس بن الأسلت : من بنى وائل ؛ ووائل ، وواقف ، وخَطْمة إخوة من الأوس.

شعر ابن الأسلت في الدفاع عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : فقال أبو قيس بن الأسلت - وكان يحب قريشاً، وكان لهم صهراً، كانت عنده أرنب بنت أسد بن عبد العُزَّى بن قُصي، وكان يقيم عندهم السنين بامرأته - قصيدة يعظم فيها الحرمة، وينهى قريشا فيها عن الحرب ، ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض ، ويذكر فضلَهم وأحلامَهم ، ويأمرهم بالكفِّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ويذكِّرهم بلاءَ اللّه عندهم ، ودفعه عنهم الفيل وكيده عنهم ،

فقال :

يا راكباً إما عَرَضتَ فبلِّغـــنْ    مُغَلغلَةً عني لُؤيَّ بنَ غالبِ
رسول امرئ قد راعه ذات بينكم على النأيِ محزونٍ بذلكِ ناصبِ
وقد كان عندي للّهمومِ معَرَّسٌ    فلم أقضِ منها حاجتي ومآربى
نُبِّيتُكم شَرْجَيْن كل قبيلـــةٍ    لها أزْمَلٌ من بين مُذْكٍ وحاطبِ
أعيذكم باللّه من شر صنعِكـم  وشرِّ تباغيكم ودسِّ العقاربِ
وإظهارِ أخلاقٍ ونجْوَى سقيمة   كوخزِ الأشافى وقعُها حقُّ صائب
فذكرْهمْ باللّه أولَ وهلـــةٍ  وإحلال أحرام الظباءِ الشوازبِ
وقل لهم واللّه يحكمُ حُكْمَــهُ ذروا الحربَ تذهبْ عنكم فى المَراحبِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمـةً   هى الغُولُ للأقصينَ أو للأقاربِ
تُقطِّعُ أرحاماً وتُهلك أمــةً   وتبري السَّديفَ من سَنام وغاربِ
وتستبدلوا بالأتحميةِ بعدَهـا   شَليلاً وأصداءً ثيابَ المحاربِ
وبالمسكِ والكافورِ غُبْراً سوابغا   كأن قَتِيرَيْها عيونُ الجنادبِ
فإياكمُ والحربَ لا تَعْلَقَنَّكُمْ   وحَوْضاً وخيم الماءِ مُرَّ المشاربِ
تَزَيَّنَ للأقوامِ ثم يَرَوْنَها    بعاقبةٍ إذ بَيَّنَتْ ، أمَّ صاحبِ
تحرِّق لا تُشْوِي ضعيفاً وتنتحى  ذوي العزِّ منكم بالحُتوف الصوائبِ
ألم تعلموا ما كان في حربِ داحس ٍ فتعتبروا أو كان فى حربِ حاطبِ
وكم قد أصابت من شريفٍ مُسَوَّدٍ  طويلِ العمادِ ضيفُه غيرُ خائِب
عظيمِ رمادِ النارِ يُحمَدُ أمرُه  وذي شيمةٍ محضٍ كريمِ المضاربِ
وماء هُريق فى الضلالِ كأنما  أذاعت به ريحُ الصَّبا والجنائبِ
يُخبِّركم عنها امرؤ حقُّ عالم  بأيامِها والعلمُ علمُ التجاربِ
فبيعوا الحرابَ مِلْمُحَارِبِ واذكروا  حسابَكمُ واللّه خيرُ محاسبِ
وليّ امرئٍ فاختار دينا فلا يَكنْ  عليكم لي رقيباً غيرُ ربِّ الثواقبِ
أقيموا لنا دِيناً حنيفاً فأنتم   لنا غاية قد يُهتَدى بالذوائبِ
وأنتم لهذا الناسِ نور وعصمةٌ   تُؤَمُّون ، والأحلامُ غيرُ عوازبِ
وأنتم ، إذا ما حُصِّل الناسُ ، جوهر   لكم سُرَّةُ البطحاءِ شُمُّ الأرانبِ
تصونون أجساداً كراماً عتيقةً    مهذَّبةَ الأنسابِ غيرَ أشائبِ
ترى طالبَ الحاجاتِ نحوَ بيوتِكم   عصائبَ هَلْكَى تهتدي بعصائبِ
لقد علم الأقوامُ أن سَراتَكم   على كلِّ حالٍ خيرُ أهلِ الجباجِبِ
وأفضلُه رأياً وأعلاه سُنة  وأقولُه للحقِّ وسطَ المواكبِ
فقوموا فصلوا ربَّكم وتمسَّحوا   بأركان هذا البيتِ بينَ الأخاشبِ
فعندكمُ منه بلاءٌ ومصْدَق  غداةَ أبى يَكْسومَ هادي الكتائبِ
كتيبتُه بالسهلِ تُمسى ورَجْلُه   على القاذفاتِ في رءوسِ المناقب
فلما أتاكم نصرُ ذي العرشِ ردَّهم  جنودُ المليكِ بين سافٍ وحاصبِ
فَوَلَّوْا سِراعا هاربين ولم يَؤُبْ  إلى أهلِه مِلْحُبْشِ غيرِ عصائب
فإن تَهْلِكوا نَهْلِكْ وتهلكْ مواسمٌ  يُعاش بها قولُ امرئٍ غيرِ كاذبِ
قال ابن هشام : أنشدني بيته ، " وماء هريق "، وبيته : " فبيعوا الحراب "، وقوله : " ولى امرئ فاختار "، وقوله :

* على القاذفات فى رءوس المناقب *

أبو زيد الأنصاري وغيره.

حرب داحس والغبراء

قال ابن هشام :

وأما قوله :

* ألم تعلموا ما كان فى حرب داحس *

فحدثنى أبو عُبَيدة النحوي : أن داحساً فرس كان لقيس بن زُهَير ابن جَذيمة بن رَواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عِبْس بن بغيض بن رَيْث بن غَطَفان أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عَمرو بن زيد بن جُؤَيَّة بن لُوذان بن ثعلبة بن عدي بن فَزارة بن ذُبيان بن بَغيض بن رَيْث بن غَطَفان ، يقال لها: الغبراء. فدس حذيفة قوما وأمرهمِ أن يضربوا وجه داحس إن رأوه قد جاء سابقاً، فجاء داحس سابقاَ فضربوا وجهه ، وجاءت الغبراء. فلما جاء فارس داحس أخبر قيساً الخبر، فوثب أخوه مالك بن زُهَيْر فلطم وجه الغبراء، فقام حَمَلُ بن بدر فلطم مالكاً. ثم إن أبا الجُنَيْدب العَبْسى لقى عوفَ بنَ حذيفة فقتله ، ثم لقى رجلٌ من بنى فزارة مالكاً فقتله ، فقال حَمَل بن بدر أخو حذيفة بن بدر:

قتلنا بعوف مالكاً وهو ثأرُنا  فإن تطلبوا منا سوى الحقِّ تَنْدَموا
وهذا البيت فى أبيات له. وقال الربيع بن زياد العَبْسي :

أفبعدَ مقتل مالكِ بن زُهَير    ترجو النساءُ عواقبَ الأطهارِ
وهذا البيت في قصيدة له.

فوقعت الحربُ بين عَبْس.وفزارة، فقُتل حذيفةُ بن بدر وأخوه حَمَلُ

ابن بدر، فقال قيس بن زُهير بن جَذِيمة يرثى حُذيفة، وجزع عليه :

كم فارس يُدْعَى وليس بفارسٍ    وعلى الهَباءةِ فارس ذو مَصْدق

فابكوا حذيفةَ لن تُرَثّوا مثلَه حتى تبيدَ قبائلٌ لم تُخْلَق
وهذان البيتان في أبيات له. وقال قيس بن ز هير:

على أن الفتى حَمَلَ بنَ بدر    بغى والظلمُ مرتعُه وخيمُ
وهذا البيت فى أبيات له. وقال الحارث بن زهير أخو قيس بن زهير:

تركتُ على الهباءةِ غيرَ فَخْر    حُذيفةَ عندَه قِصَدُ العوالى
 وهذا البيت فى أبيات له.

قال ابن هشام :

ويقال : أرسل قيس داحساً والغبراء، وأرسل حذيفة الخَطَّار والحَنْفاء، والأول أصح الحديثين. وهو حديث طويل ، منعنى من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

حرب حاطب

قال ابن هشام :

وأما قوله : " حرب حاطب ". فيعنى حاطب بن الحارث بن قيس بن هَيْشة بن الحارث بن أمية ابن معاوية بن مالك بن عَوْف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، كان قتل يهوديا جاراً للخزرج ، فخرج إليه يزيد بن الحارث ابن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كَعْب بن الخزرج ابن الحارث بن الخزرج - وهو الذي يقال له : ابن فُسْحُم ، وفُسْحُم أمه ، وهي امرأة من القَيْن بن جَسْر - ليلا فى نفر من بنى الحارث ابن الخزرج فقتلوه ، فوقعت الحرب بين الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديداً، فكان الظَّفَر للخزرج على الأوس ، وقُتل يومئذ سُوَيد بن صامت ابن خالد بن عطية بن حَوْط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، قتله المُجذَّر بن زياد البلوي ، واسمه عبداللّه ، حليف بنى عَوْف بن الخزرج. فلما كان يوم أحد خرج المجَذَّر بن زياد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وخرج معه الحارث بن سوَيْد بن صامت ، فوجد الحارث بن سُوَيْد غِرَّة من المجذر فقتله بأبيه. وسأذكر حديثه في موضعه - إن شاء اللّه تعالى. ثم كانت بينهم حروب منعنى من ذكرها واستقصاء هذا الحديث ما ذكرت في حديث حرب داحس.

شعر حكيم بن أمية فى نهي قومه عن عداوة الرسول

قال ابن إسحاق : وقال حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوْقَص السُّلَمي ، حليف بنى أمية وقد أسلم ، يُوَرِّع قومَه عما أجمعوا عليه من عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان فيهم شريفا مطاعا:

هل قائلٌ قولاً من الحقِّ قاعــد   عليه وهل غضبان للرشْدِ سامعُ
وهل سيّد ترجو العشيرةُ نفعَـه  لأقصى الموالي والأقارب جامعُ
تبرأت إلا وجه من يملك الصَّبَا  وأهجرُكم ما دام مُدْلٍ ونازع
وأسْلم وجهي للإِله ومنطقي ولو  راعنى مِنَ الصَّديقِ روائع

ذكر ما لقي وسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قومه

سفهاء قريش يأذونه :

قال ابن إسحاق : ثم إن قريشا اشتد أمرُهم للشقاء الذي أصابهم فى عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن أسلم معه منهم ، فأغْرَوْا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سفهاءَهم ؛ فكذَّبوه وآذَوْه ، ورموه بالشِّعر والسحر والكهانة والجنون ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ِمظهر لأمر اللّه لا يستخفى به ، مبادٍ لهم بما يكرهون من عَيْب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم على كفرهم.

أشد ما أوذي به الرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عبداللّه بن عمرو بن العاص ،

قال : قلت له : ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما كانوا يُظهرون من عداوته ؟

قال : حضرتُهم وقد اجتمع أشرافُهم يوماً فى الحِجْر، فذكروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فقالوا: ما رأينا مثلَ ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفَّه أحلامَنا، وشتم آباءَنا، وعاب دينَنا، وفرَّق جماعَتنا، وسبَّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، أو كما قالوا. فبينَا هُم فى ذلك إذْ طلعٍ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركنَ ، ثم مَرَّ بهم طائفا بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول.

قال : فعرفت ذلك في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

قال : ثم مضى، فلما مرَّ بهم الثانية غمزوه بمثلِها، فعرفتُ ذلك فى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم مرَّ الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف

ثم قال : أتسمعون يا معشرَ قُريش، أما والذي نفسى بيده ، لقد جئتكم بالذَّبْح.

قال : فأخذت القومَ كلمتُه حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائرٌ واقع ، حتى إن أشدَّهم فيه وصاة قبل ذلك لَيرْفَؤُه بأحسن ما يجد من القول ، حتى إنه ليقول : انصرفْ يا أبا القاسم ، فواللّه ما كنتَ جهولاً.

قال : فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حتى إذا كان الغدُ اجتمعوا في الحِجْر وأنا معهم ، فقال بعضُهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم ، وما بلغكم عنه ، حتى إذا بادَاكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم فى ذلك طلع عليهم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فوثبوا إليه وثبةَ رجلٍ واحد، وأحاطوا به ، يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا؛ لما كان يقول من عَيْب آلهتهم ودينهم ، فيقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نعم : أنا الذي أقول ذلك.

قال : فلقد رأيتُ رجلا منهم أخذ بمجْمَع ردائه.

قال : فقام : أبو بكر رضى اللّه عنه دونه ، وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربىَ اللّه؟ ثم انصرفوا عنه ، فإن ذلك لأشدُّ ما رأيتُ قريشا نالوا منه قط.

قال ابن إسحاق : وحدثنى بعضُ آل أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها

قالت : رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فَرْقَ رأسِه ؛ مما جبذوه بلحيته ، وكان كثير الشعر.

قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم : أشدُّ ما لقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قريش أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلا كذَّبه وآذاه ، لا حُر ولا عبد، فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى منزله ، فتدثر من شدةِ ما أصابه ،

فأنزل اللّه تعالى عليه : {يا أيها المدثِّر. قُم فأنذرْ} [المدثر: ١،٢] .

إسلام حمزة رضي اللّه عنه

سبب إسلامه :

قال ابن إسحاق : حدثني رجل من أسلم ، كان واعيةً : أن أبا جهل مر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه ، ونال منه بعض ما يكره من العَيْب لدينه ، والتضعيف لأمره ؛ فلم يكلمه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومولاةٌ لعبداللّه بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرة في مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه فعمد إلى نادٍ من قريش عند الكعبة، فجلس معهم. فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضى اللّه عنه أن أقبل متوشحا قوسَه ، راجعاً من قَنَص يرميه ويخرج له ، وكان إذا رجع من قَنَصه لم يصل إلى أهله حتى يطوفَ بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على نادٍ من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم ، وكان أعزَّ فتى فى قريش، وأشدَّ شكيمة. فلما مر بالمَوْلاةِ، وقد رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بيته ، قالت له : يا أبا عُمارة، ولو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبى الحكم بن هشام : وجده هاهنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى اللّه عليه وسلم.

فاحتمل حمزة الغضب لما أراد اللّه به من كرامته ، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، مُعِدًّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به ؛ فلما دخل المسجد نظهر إليه جالساً فى القوم ، فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجةً منكَرة،

ثم قال : أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ؟ فرُد ذلك على إنِ استطعت. فقامت رجال من بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ؛ فقال أبو جهل : دعوا أبا عُمارة، فإني واللّه قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً، وتم حمزة رضى اللّه عنه على إسلامه ، وعلى ما تابع عليه رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريشٌ أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد عز وامتنع ، وأن حمزة سيمنعه ، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

عتبة بن ربيعة يفاوض الرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : وحدثنى يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرظي ،

قال : حُدثتُ أن عُتبة بن ربيعة، وكان سيداً، قال يوما وهو جالس فى نادي قريش، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس فى المسجد وحده : يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبلُ بعضَها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزةُ، ورأوْا أصحابَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يزيدون ويكثُرون ؛

فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمْه؛ فقام إليه عُتبة حتى جلس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمتَ من السِّطَة فيِ العشيرة، والمكان فى النسب ، وإنك أتيت قومَك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم وسفهتَ به أحلامَهم وعِبتَ به آلهتهم ودينهم وكفَّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع منى أعرضْ عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.

قال : فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قُلْ يا أبا الوليد، أسمع ،

قال : يا بنَ أخي ، إن كنتَ إنما تريد بما جئتَ به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به مُلكاً ملكناك علينا: وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسِك ، طلبنا لك الطبَّ ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئَك منه ، فإنه ربما غلب التابعُ على الرجل حتى يُدَاوَى منه أو كما قال له ، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستمع منه ،

قال : أقد فرغت يا أبا الوليد؟

قال : نعم

قال : فاسمع مني ؛

قال : أفعل.

فقال : { بِاِسْمِ اللّه الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ حم (١) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: ١ـ٥] ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلفَ ظهره معتمداً عليهما يسمع منه ؛ ثمِ انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد

ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعتَ ، فأنت وذاك.

رأي عتبة : فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغيرِ الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم

قالوا: ما وراءَك يا أبا الوليد؟

قال : ورائى أنى قد سمعتُ قولا واللّه ما سمعت مثلَه قطُّ ، واللّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بي ، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزِلوه ، فواللّه ليكونن لقوله الذي سمعتُ منه نبأ عظيم ، فإن تصبْه العرب فقد كُفيتموه بغيرِكم ، وإن يظهر على العرب فملُكه ملكُكم ، وعزُّه عزكم ، وكنتم أسْعَدَ الناس به ؛

قالوا: سحرك واللّه يا أبا الوليد بلسانه ؛

قال : هذا رأى فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم.

 قريش تفتن المسلمين :

قال ابن إسحاق : ثم إن الِإسلام جعل يفشو بمكة فى قبائل قريش فى الرجال والنساء ؛ وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة، كما حدثني بعض أهل العلم عن سعيد ابن جبير، وعن عكرمة مولى ابن عباس ، عن عبداللّه بن عباس رضى اللّه عنهما

قال :

زعماء قريش تفاوض الرسول صلى اللّه عليه وسلم : اجتمع عتبةُ بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأبو سُفيان بن حرب ، والنَّضْر بن الحارث ، أخو بني عبد الدار، وأبو البَخْتَري بن هشام ، والأسود بن المطَّلب بن أسد، وزَمَعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام وعبداللّه بن أبى أمية، والعاص بن وائل ، ونُبَيْه ومُنبَّه ابنا الحجاج السهميان ، وأمية بن خلف ، أو من اجتمع منهم.

قال : اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة،

ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه ، فبعثوا إليه : إنَّ أشرافَ قومِك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فأتهمْ.

فجاءهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بَداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدَهم ، ويعز عليه عَنَتُهم ، حتى جلس إليهم ؛ فقالوا له : يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا واللّه ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الاباء، وعِبت الدين ، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلامَ ، وفرقت الجماعةَ، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بينَنا وبينك أو كما قالوا له فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كَان هذا الذي يأتيك رَئِيُّا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن رَئِيا فربما كان ذلك ، بذلنا لك أموالَنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أو نُعْذر فيك ؛ فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما بي ما تقولون ، ما جئتُ بما جئتكم به أطلب أموالَكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملكَ عليكم ، ولكن اللّه بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرنى أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظُّكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر اللّه حتى يحكم اللّه بيني وبينكم ، أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم.

قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً، ولا أقل ماءً، ولا أشد عيشاً منا، فسَلْ لنا ربَّك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيَّقت علينا، وليبسط لنا بلادَنا، وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يُبعث لنا منهم : قُصَىُّ بن كلاب ، فإن كان شيخ صِدْق ، فنسألهم عما تقول : أحقّ هو أم باطل ، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك من اللّه ، وأنه بعثك رسولا كما تقول.

فقال له صلوات اللّه وسلامه عليه : ما بهذا بُعثتُ إليكم من اللّه ، إنما جئتكم من اللّه بما بعثني به ، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبرْ لأمر اللّه تعالى، حتى يحكم اللّه بيني وبينكم.

قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك ، سل ربَّك بأن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك وسَلْه فليجعل لك جِناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلَك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.

فقال لهمرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربَّه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن اللّه بعثني بشيراً ونذيراً - أو كما قال - فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر اللّه حتى يحكمَ اللّه بينى وبينكم.

قالوا: فأسقط السماءَ علينا كِسفاً كما زعمت أن ربَّك إن شاء فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ذلك إلى اللّه ، إن شاء أن يفعلَه بكم فعل.

قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم فيعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع فى ذلك بنا، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به ! إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له : الرحمن ، وإنا واللّه لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا و اللّه لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكَك ، أو تهلكنا. وقال قائلهم :

نحن نعبد الملائكة، وهى بنات اللّه. وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا باللّه والملائكة قبيلا.

فلما قالوا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قام عنهم ، وقام معه عبداللّه بن أبي أمية بن المغيرة بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم - وهو ابن عمته ، فهو لعاتكة بنت عبد المطلب -

فقال له : يا محمد، عرض عليك قومُك ما عرضوا فلم تقبلْه منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من اللّه كما تقول ، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعلْ ، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ، ومنزلتك من اللّه ، فلم تفعل ، ثم سألوك أن تعجلَ لهم بعضَ ما تخوِّفهم به من العذاب ، فلم تفعل - أو كما قال له - فواللّه لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سُلَّما، ثم ترقَى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيهَا، ثم تأتى معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم اللّه ، لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ، ثم انصرف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانصرف رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهله حزيناً آسفاً لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه.

أبو جهل يتوعد الرسول صلى اللّه عليه وسلم

 فلما قام عنهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أبو جهل : يا معشر قريش ، إن محمداً قد أبى إلا ما تَرَوْنَ من عَيْب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامِنا، وشتم آلهتنا، وإنى أعاهد اللّه لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حملَه - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضَخْتُ به رأسَه ، فأسْلِموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.

قالوا: واللّه لا نسلمك لشىء أبداً، فامضِ لما تريد.

فلما أصبح أبو جهل ، أخَذَ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينتظره ، وغدا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما كان يغدو. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام ، فكان إذا صلى صلى بين الركن اليمانى والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام ، فقام رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلِّى وقد غدت قريشٌ فجلسوا فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل ، فلما سجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجرَ، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونُه مرعوباً قد يَبِست يداه على حجره، حتى قذف الحجرَ من يده ، وقامت إليه رجال قريش، فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ؟

قال : قمت إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحةَ، فلما دنوتُ منه عَرض لي دونَه فحلٌ من الِإبل ، لا واللّه ما رأيت مثل هامتِه ، ولا مثل قَصَرَته ولا أنيابه لفحلٍ قطُّ ، فَهَمَّ بى أن يأكلنى.

قال ابن إسحاق : فذُكر لي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قال : ذلك جبريلُ عليه السلام لو دنا لأخذه.

النضر بن الحارث ينصح قريشاً: فلما قال لهم ذلك أبو جهل ، قام النَّضر بن الحارث بن كَلَدَة بن علقمة بن عبد صد بن عبد الدار بن قُصي.

قال ابن هشام : ويقال النضر بن الحارث بن علقمة بن كَلَدَة ابن عبد مناف.

قال ابن إسحاق : فقال يا معشر قريش ، إنه واللّه قد نزل بكم أمرٌ ما أتيتم له بحيلة بعدُ، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صُدْغَيْه الشيبَ ، وجاءكم بما جاءكم به ، قلتم ساحر، لا واللّه ما هو بساحر، لقد رأينا السحرةَ ونفثهم وعقدهم ، وقلتم كاهن ، لا واللّه ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وتخالُجهم وسمعنا سَجْعهم ، وقلتم شاعر، لا واللّه ما هو بشاعر، قَد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافَه كلَّها: هَزَجه ورجزه ، وقلتم مجنون ، لا واللّه ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخَنْقه ، ولا وسوسته ، ولا تخليطه ، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم ، فإنه واللّه لقد نزل بكم أمر عظيم.

أذى النضر للرسول صلى اللّه عليه وسلم : وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وينصب له العداوةَ، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديثَ ملوك الفرس ، وأحاديث رُسْتم واسبنديار، فكان إذا جلس رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجلساً فذكَّر فيه باللّه ، وحذَّر قومَه ما أصاب مَنْ قبلَهم من الأمم من نِقْمة اللّه ، خلفه في مجلسه إذا قام ،

ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش، أحسن حديثاً منه ، فهلمّ إلىَّ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورُستم واسبنديار، ثم يقول : بماذا محمد أحسن حديثاً منى؟.

 قال ابن هشام : وهو الذي قال فيما بلغنى : " سأنزل مثل ما أنزل اللّه ".

قال ابن إسحاق : وكان ابن عباس رضي اللّه عنهما يقول ، فيما بلغني : نزل فيه ثمان آيات من القران : قول اللّه عز وجل :

 { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: ١٥] . وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن.

قريش تسأل أحبار اليهود في شأنه عليه الصلاة والسلام

فلما قال لهم ذلك النضرُ بن الحارث بعثوه ، وبعثوا معه عقبة بن أبى مُعَيْط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سَلاهم عن محمد، وصِفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهلُ الكتاب الأول ، وعندهم علمٌ ليس عندَنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قَدِما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ووصفا لهم أمرَه ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.

   فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنَّ : فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فرَوْا فيه رأيكم. سَلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ما كان أمرُهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجب ، وسَلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارقَ الأرض ومغاربها ما كان نبؤُه ، وسلوه عن الرّوحِ ما هى؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه ، فإنه نبى، وإن لم يفعل ، فهو رجل متقول ، فاصنعوا فى أمره ما بدا لكم.

   فأقبل النضرُ بنُ الحارث ، وعقبة بن أبي مُعَيْط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصى حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبرنا أحبارُ يهود أن نسألَه عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي ، وإن لم يفعلْ فالرجلُ متقوِّلٌ ، فَرَوْا فيه رأيكم.

قريش تسأل والرسول يجيب : فجاءوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب ، وعن رجل كان طوَّافاً قد بلغ مشارقَ الأرض ومغاربَها، وأخبرْنا عن الروح ما هى؟

قال : فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غداً، ولم يستثن ، فانصرفوا عنه.

فمكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما يذكرون - خمسَ عشَرةَ ليلة لا يُحْدث اللّه إليه فى ذلك وحياً، ولا يأتيه جبريل ، حتى أوجف أهلُ مكة، وقالوا: وعدنا محمد غداً، واليوم خمسَ عشَرةَ ليلةً، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشىء مما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكثُ الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبريل من اللّه عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبرُ ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجلُ الطواف ، والروح.

الرد على قريش فيما سألوه

قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه : لقد احتبست عني يا جبريل حتى سُؤْتُ ظنا؛ فقال له جبريل { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.[مريم:٦٤] فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده وذكر نبوة رسوله ، بما أنكروه عليه من ذلك ،

فقال : { الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: ١] يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، إنك رسول منى : أى تحقيق لما سألوه عنه من نبوتك. { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا* قيماً} [الكهف: ١]: أي معتدلا، لا اختلاف فيه ، { لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: ٢] : أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة : أي من عند ربك الذي بعث رسولا. { وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: ٢،٣] أي دار الخلد. لا يموتون فيها الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال ، { وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا} [الكهف: ٤] يعني قريشاً في قولهم : إنا نعبد الملائكة وهى بناتُ اللّه { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ} [الكهف: ٥] الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } : أي لقولهم : إن الملائكة بنات اللّه { إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} يا محمد { عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: ٦] : أي لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم ، أي لا تفعل.

قال ابن هشام : باخع نفسك : أي مهلك نفسك فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرِّمَّة :

ألا أيهذا الباخع الوَجْدُ نفسَه   لشيءٍ نَحَتْهُ عن يَدَيْه المقَادِرُ

وجمعه : باخعون وبَخَعة. وهذا البيت فى قصيدة له. وتقول العرب :قد بخعْتُ له نصحى ونفسي : أي جهدت له. { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.[الكهف: ٧]

قال ابن إسحاق : أي أيهم أتبعُ لأمري ، وأعملُ بطاعتى.

 { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} :[الكهف: ٨] أي الأرض ، وإن ما عليها لفانٍ وزائل ، وإن المرجع إلىَّ، فأجزي كلا بعمله ، فلا تأسَ ولا يحزنْك ما تسمع وترى فيها.

قال ابن هشام : الصعيد: الأرض ، وجمعه : صُعُد. قال ذو الرِّمة يصف ظبياً صغيراً:

كأنه بالضحَى ترمى الصعيدَ به   دبَّابةٌ فى عِظام الرأسِ خُرطومُ

 وهذا البيت فى قصيدة له. والصعيد: الطريق. وقد جاء فى الحديث :" إياكم والقعودَ على الصُّعَداتِ "، يريد الطرقَ. والجُرُز: الأرض التي لا تنبت شيئاً، وجمعها: أجْراز. ويقال ؛ سَنة جُرز، وسنون أجْراز، وهى التي لا يكون فيها مطر، وتكون فيها جدوبة ويُبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلاً:

طوى النحْزُ والأجْراز ما فى بُطونها   فما بقيتْ إلا الضلوعُ الجَراشِعُ
وهذا البيت فى قصيدة له.

أهل الكهف

قال ابن إسحاق : ثم استقبل قصةَ الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية، فقال { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} :[الكهف: ٩] أي قد كان من آياتى فيما وضعت على العباد من حُججي ما هو أعجب من ذلك.

قال ابن هشام : والرقيم ٠ الكتاب الذي رُقِمَ فيه بخبرِهم ، وجمعُه : رُقُم. قال العَجَّاج :

ومُسْتَقر المصحفِ المرَقَّم

وهذا البيت فى أرجوزة له.

قال ابن إسحاق :

ثم قال تعالى : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠) فَضَرَبْنَا } [الكهف: ١٠،١١] عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}.[الكهف: ١١،١٢]

ثم قال تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} : أي بصدق الخبر عنهم { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} :[الكهف: ١٣،١٤] أي لم يشركوا بى كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم.

قال ابن هشام : والشطط : الغُلو ومجاوزة الحق. قال أعْشَى بنى

قَيْس بن ثَعْلبة :

لا يَنْتهون ولا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ  كالطَّعْنِ يذهبُ فيه الزيتُ والفُتُلُ

وهذا البيت في قصيدة له.

 { هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}[الكهف: ١٥ ]

قال ابن إسحاق : أي بحجة بالغة.

 { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا (١٥) وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللّه فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}.[الكهف: ١٥ـ١٧]

قال ابن هشام : تَزَاور: تميلُ ، وهو من الزور. وقال امرؤ القيس ابن جُحْر.

وإنى زعيم إن رجعتُ مُملكاً   بسَيْر ترى منه الفُرانِق أزْوَرَا

وهذا البيت فى قصيدة له. وقال أبو الزحف الكلبى يصف بلداً:

جَابُ المُندَّى عن هَوانا أزورُ   يُنْضِى المطايا خِمْسُه العَشَنْزرُ

 وهذان البيتان في أرجوزة له.و { تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } [الكهف: ١٧] : تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرِّمة :

إلى ظُعْنٍ يَقْرِضن أقْواز مُشرِف   شمالاً وعن أيمانِهن الفوارسُ

وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة: السِّعة، وجمعها: الفِجاء. قال الشاعر :

ألبسْتَ قومَك مَخْزاةً ومَنْقَصةً   حتى أبيحوا وخَلَّوْا فجوةَ الدار

 { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّه } [الكهف: ١٧] أ ي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم فى صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم : { مَنْ يَهْدِ اللّه فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: ١٧، ١٨]

قال ابن هشام : الوصيد: الباب. قال العَبْسى، واسمه عُبَيْد بن وهب :

بأرضٍ فَلاة لا يُسَدّ ؤَصيدُها   علىَّ ومعروفي بها غَيرُ مُنْكَرِ

وهذا البيت فى أبيات له. والوصيد ( أيضاً ) الفناء، وجمعه : وصائد، ووُصُد، ووصْدان وأصُد، وأصْذَان.

 { لوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:١٨] إلى قوله : {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف٢١] أهل السلطان والملك منهم : {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (٢١) سيقولون} [الكهف:٢١،٢٢] يعني أحبار يهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم : { ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: ٢٢]: أي لا علم لهم. { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا } : أي لا تكابرهم ، {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: ٢٢] فإنهم لا علم لهم بهم.

 { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّه وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: ٢٣،٢٤]: أي ولا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت فى هذا: إنى مخبركم غداً. واستثن مشيئة اللّه ، واذكر ربك إذا نسيت ، وقل عسى أن يهدين ربى لخير مما سألتمونى عنه رشداً، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك. { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: ٢٥] : أي سيقولون ذلك. { قُلْ اللّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: ٢٦] أي لم يخف عليه شىء مما سألوك عنه.

 ذو القرنين

 وقال فيما سألوه عنه من أمر الرجل الطوَّاف :

 { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: ٨٣،٨٤] حتى انتهى إلى آخر قصة خبره.

خبر ذي القرنين : وكان من خبر ذىِ القرنين أنه أوتي ما لم يؤتَ أحدٌ غيره ، فمُدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضاً إلا سُلط على أهلِها، حتى انتهى من المشرقِ والمغربِ إلى ما ليس وراءَه شئ من الخلق.

قال ابن إسحاق : فحدثنى من يسوق الأحاديثَ عن الأعاجم فيما

توارثوا من علمه : أن ذا القرنين كان رجلاً من أهلِ مصر. اسمُه مُرْزُبان بن مَرْذبة اليونانى، من ولد يونان بن يافث بن نوح.

قال ابن هشام : واسمه الِإسكندر، وهو الذي بنى الِإسكندرية فنسبت إليه.

قال ابن إسحاق : وقد حدثني ثَوْر بن يزيد عن خالد بن مَعْدان الكَلاعيِّ ، وكان رجلا قد أدرك : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سُئل عن ذي القرنين

فقال : مَلِك مسح الأرضَ من تحتِها بالأسبابِ.

وقال خالد: سمع عمرُ بن الخطاب رضى اللّه عنه رجلاً يقول :

يا ذا القرنين ، فقال عمر: اللّهم غُفْراً، أما رَضَيْتم أن تَسَمَّوْا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكةِ.

قال ابن إسحاق : اللّه أعلم أي ذلك كان ، أقال ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أم لا؟ فإن كان قاله ، فالحق ما قال.

أمر الروح : وقال تعالى فيما سألوه عنه من الروح : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٨٥]

ما أوتيتم من العلم إلا قليلا

قال ابن إسحاق : وحُدثت عن ابن عباس ، أنه

قال : لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، قالت أحبارُ يهود: يا محمدُ، أرأيت قولك : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أيانا تريد، أم قومَك ؟

قال : كُلاًّ؟

قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك : أنا قد أوتينا التوراةَ فيها بيانُ كل شىء. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إنها في علم اللّه قليل ، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه.

قال :

فأنزل اللّه تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك { وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّه إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الكهف: ٢٧] : أي أن التوراة فى هذا من علم اللّه قليل.

تسيير الجبال وبعْث الموتى : قال وأنزل اللّه تعالى عليه فيما سأله قومُه لأنفسِهم من تسيير الجبال ، وتقطيع الأرض ، وبعث من مضى من آبائهم من الموتى: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ للّه الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: ٣١]: أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت.

خذ لنفسك : وأنزل عليه فيٍ قولهم : خذ لنفسك ، ما سألوه أن يأخذ لنفسه ، أن يجعل له جنانا وقصوراً وكنوزاً، ويبعث معه ملكا يصدقه بما يقول ، ويرد عنه : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٨) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٩) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ } [الفرقان: ٧ـ٩]: أي من أن تمشي فى الأسواق وتلتمس المعاش {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان: ١٠]

لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي لفعلت : وأنزل عليه فى ذلك من قولهم { وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}.[الفرقان: ٢٠] أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يُخَالفوا لفعلتُ.

القرآن يرد على ابن أبي أمية : وأنزل اللّه عليه فيما قال عبدُاللّه ابن أبي أمية : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّه وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: ٩٠ـ٩٣]

قال ابن هشام : الينبوع : ما نبع من الماء من الأرض وغيرها، وجمعه ينابيع. قال ابن هَرْمة واسمه إبراهيم بن على الفِهري :

وإذا هَرقتَ بكل دارٍ عَبْرةً  نُزِفَ الشئونُ ودَمْعُك اليَنْبوعُ

 وهذا البيت فى قصيدة له. والكِسَف : القِطَع من العذاب ، وواحدته : كِسْفة، مثل سِدْرة وسِدَر. وهى أيضاً : واحدة الكِسْف. والقبيل : يكون مقابلة ومعاينة، وهو كقوله تعالىِ : { أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف: ٥٥]: أي عيانا. وأنشدنى أبو عُبَيْدة لأعشى بنى قَيْس بن ثَعْلبة :

أصالحكم حتى تَبوءُوا بمثلِهَا    كصرخةِ حُبْلَى يسَّرتها قبيلُها

يعنى القابلة، لأنها تقابلها وتَقبل ولدها. وهذا البيت في قصيدة

له.

ويقال : القبيل جمعه قُبُل ، وهى الجماعات ، وفى كتاب اللّه تعالى: { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام: ١١١] فقُبل : جمع قبيل مثل سُبل : جمعٍ سبيل ، وسُرر: جمع سرير، وقُمص : جمع قميص ، والقبيل أيضا: فى مَثَل من الأمثال ، وهو قولهم : ما يَعرف قبيلاً من دبير: أي لا يعرف ما أقبل مما أدبر، قال الكُميْت بن زيد:

تفرقَت الأمورُ بوَجْهَتَيْهم  فما عَرَفوا الدبيرَ من القبيلِ

وهذا البيت في قصيدة له ،

ويقال : إنما أريد بهذا القبيل : الفَتل ،

فما فُتل إلى الذراع فهو القبيل ، وما فُتل إلى أطراف الأصابع فهو الدبير، وهو من الِإقبال والإدبار الذي ذكرت.

ويقال : فَتْل المِغْزَل. فإذا فُتل المِغْزل إلىِ الركبة فهو القبيل ، وإذا فُتل إلى الوَرِك فهو الدَّبير. والقبيل أيضاَ: قوم الرجل. والزُّخرف : الذهب. والمزخْرَف : المزيَّن بالذهب. قال العجاج :

مِن طللٍ أمسى تخال المصْحَفا  رسومه والمذهَب المزخْرَفا

وهذان البيتان فى أرجوزة له ، ويقال أيضاً لكل مُزَيَّن : مُزَخْرَف.

نفي القران أن رجلا من اليمامة يعلمه

قال ابن إسحاق :

وأنزل فى قولهم : إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجلٌ باليمامة، يقال

له الرحمنُ ، ولن نؤمن به أبداً: { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: ٣٠].

ما نزل في أبي جهل :

وأنزل عليه فيما قال أبو جهل بن هشام ،وما هم به {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللّه يَرَى (١٤) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [العلق:٩ـ١٩]                    

قال ابن هشام : لنسفعاً: لنجذبن ولنأخذن. قال الشاعر:

قومٌ إذا سَمِعوا الصراخَ رأيتَهم  من بين مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِع

والنادي : المجلس الذي يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورَهم ، وفى كتاب اللّه تعالى : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ} [العنكبوت: ٢٩] وهو النديُّ.

قال عَبيد بن الأبرص :

أذهبْ إليك فإنى من بني أسَدٍ  أهل النديِّ وأهل الجودِ والنادي

وفى كتاب اللّه تعالى : { وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: ٧٣] وجمعه : أندية. فليدع

أهل ناديه. كما قال تعالى: { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف: ٨٢] يريد أهل القرية.

 قال سلامة بن جَنْدَل ، أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم :

يومان يومُ مقاماتٍ وأنديةٍ  ويومُ سَيْر إلى الأعداءِ تأويبِ

وهذا البيت في قصيدة له. وقال الكُمَيْت بن زيد:

لا مهاذيرَ في النديّ مكاثيـ   ر ولا مُصْمتين بالِإفحامِ

 وهذا البيت فى قصيدة له. ويقال النادي : الجلساء. الزبانية: الغلاظ الشداد، وهم في هذا الموضع خزنة النار. والزبانية أيضاً في الدنيا أعوان الرجل الذين يخدمونه ويعينونه ، والواحد: زِبْنِيَة. قال ابن الزبَعْرَى فى ذلك :

مطاعيمُ فى المَقْرَى مطاعينُ فى الوَغَى زبانية غُلْت عظامٌ حلومُها

يقول : شداد. وهذا البيت فى أبيات له. وقال صخر بن عبداللّه الهذلى، وهو صخر الغى :

ومن كبير نفرٌ زبانيهْ

وهذا البيت فى أبيات له.

قال ابن إسحاق : وأنزل اللّه تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللّه وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.[سبأ: ٤٧]

استكبار قريش عن الِإيمان بالرسول صلى اللّه عليه وسلم

فلما جاء رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما عرفوا من الحق ، وعرفوا صدقَه فيما حدَّث ، وموقع نبوتِه فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه ، حال الحسدُ منهم له بينَهم وبين اتِّباعه وتصديقه : فعَتَوْا على اللّه وتركوا أمرَه عياناً، ولجُّوا فيما هم عليه من الكفر، فقال قائلهم : { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: ٢٦] أي اجعلوه لغوا وباطلا، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك. فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يوماً غلبكم.

فقال أبو جهل يوماً يهزأ برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما جاء من الحق : يا معشر قريش يزعم محمدٌ أنما جنود اللّه الذين يعذبونكم فى النار يحبسونكم فيها تسعةَ عشرَ، وأنتم أكثر الناس عدداً، وكثرة، أفيعجز كلُّ مائة رجل منكم عن رجل منهم ؟

فأنزل اللّه تعالى عليه في ذلك من قوله : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: ٣١] إلى آخر القصة، فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، جعلوا إذا جهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقرآن وهو يصلى، يتفرقون عنه ، ويأبون أن يستمعوا له ، فكان الرجلُ منهم إذا أراد أن يستمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعضَ ما يتلُو من القرآن وهو يصلي ، استرق السمعَ دونَهم فَرَقاً منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشيةَ أذاهم فلم يستمعْ ، وإن خفض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليه وآله وسلم صوتَه فظن الذي يستمع أنهم لا يستمعون شيئاً من قراءته وسمع هو شيئاً دونهم أصاخ له يستمعُ منه.

قال ابن إسحاق : حدثني داود بن الحُصَيْن ، مولى عُمر بن عثمان ، أن عِكْرِمة مولى ابن عباس حدثهم أن عبداللّه بن عباس رضي اللّه عنهما حدثهم : إنما أنزلت هذه الآية : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: ١١٠] من أجل أولئك النفر يقول : لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ، ولا تخافتْ بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعَها ممن يسترق ذلك دونَهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع

فينتفع به.

أول من جهر بالقرآن

قال ابن إسحاق : وحدثنى يحيى بنُ عروة بن الزبير، عن أبيه ،

قال :

كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة عبداللّه ابن مسعود رضي اللّه عنه

قال : اجتمع يوماً أصحابُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فقالوا: واللّه ما سمعتْ قريش هذا القران يجهر لها به قطُّ ، فمنَ رجل يُسْمِعهموه ؟ فقال عبداللّه بن مسعود أنا،

قالوا: إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه ؟ قال دعونى فإن اللّه سيمنَعُنى.

قال : فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام فى الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عندَ المقام ثم قرأ: { بِاِسْمِ اللّه الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ{ رافعاً بها صوته {الرَّحْمَانُ *عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: ١،٢]

قال : ثم استقبلها يقرؤها.

قال : فتأملوه فجعلوا يقولون : ما ذا قال ابنُ أمِّ عَبْد؟

قال :

ثم قالوا: إنه ليتلُو بعضَ ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربون فى وجْهِه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء اللّه أن يبلغَ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثَّروا فى وجهه ، فقالوا له : هذا الذي خَشينا عليك ؛

فقال : ما كان أعداءُ اللّه أهونَ علىَّ منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً؛ قالوا لا، حَسْبُك ، قد أسمعتَهم ما يكرهون.

قصة استماع قريش إلى قراءة النبى صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : وحدثني محمدُ بنُ مسلمِ بن شهابٍ الزهريُّ أنه حُدِّث : أن أبا سُفْيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شَرِيق بن عَمرو بن وهب الثَّقفي ، حليف بنى زُهْرة خرجوا ليلةً ليستمعوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يصلي من الليل في بيته ، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجرُ تفرقوا فجمعهم الطريقُ ، فتلاوموا، وقال بعضُهم لبعض : لا تعودوا، فلو رآكم بعضُ سفهائكم لأوقعتم فى نفسه شيئاً، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلةُ الثانية، عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجرُ تفرقوا، فجمعهم الطريقُ ، فقال بعضُهم لبعض مثلَ ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلةُ الثالثةُ أخذ كلّ رجل منهم مجلسَه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجرُ تفرقوا، فجمعهم الطريق. فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهدَ ألا نعود على ذلك ثم تفرقوا.

الأخنس يستفهم عما سمعه : فلما أصبح الأخنسُ بن شَرِيق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان فى بيته ،

فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟

فقال : يا أبا ثعلبة واللّه لقد سمعتُ أشياءَ أعرفها وأعرف ما يُراد بها، وسمعت أشياءَ ما عرفت معناها ولا ما يُراد بها، قال الأخنسُ : وأنا والذي حلفتَ به.

 

قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيتَه ،

فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سَمِعْتَ من محمد؟

فقال : ماذا سمعت ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحازينا على الرُّكب ، وكنا كفرسَيْ رهان ،

قالوا: منا نبيٌّ يأتيه الوحىُ من السماء؛ فمتى ندرك مثلَ هذه ، واللّه لا نؤمنُ به أبداً ولا نصدقه

قال : فقام عنه الأخنسُ وتركه.

تعنت قريش عند سماعهم القرآن وما نزل فيهم

قال ابن إسحاق : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا تلا عليهم القرآن ، ودعاهم إلى اللّه : قالوا يهزءون به : { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: ٥] لا نفقه ما تقول {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ { لا نسمع ما تقول {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ { قد حال بيننا وبينك { فَاعْمَلْ{ بما أنت عليه { إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: ٥] بما نحن عليه ، إنا لا نفقه عنك شيئاً،

فأنزل اللّه تعالى عليه في ذلك من قولهم : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } [الإسراء: ٤٥]... إلى قوله : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: ٤٦] : أي كيف فهموا توحيدَك ربَّك إن كنتَ جعلتَ على قلوبِهم أكنة هو فى آذانهم وقراً، وبينك وبينهم حجابا بزعمهم ؛ أي إنى لم أفعل ذلك. { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: ٤٧] : أي ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثك به إليهم. { انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} :[الإسراء: ٤٨] أي أخطئوا المثل الذي ضربوا لك ، فلا يصيبون به هُدًى، ولا يعتدل لهم فيه قول { وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: ٤٩]: أي قد جئتَ تخبرنا أنا سنُبعث بعد موتنا إذا كنا عظاما ورفاتا، وذلك ما لا يكون. { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: ٥٠،٥١]: أي الذي خلقكم مما تعرفون ، فليس خلقكم من تراب بأعزِّ من ذلك عليه.

قال ابن إسحاق : حدثني عبداللّه بن أبي نَجيح ، عن مُجاهد، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما،

قال : سألته عن قول اللّه تعالى : { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: ٥١] ما الذي أراد به اللّه ؟

فقال : الموت.

ذكر عدوان المشركين على المستضعفين

ممن أسلم بالأذى والفتنة

قال ابن إسحاق : ثم إنهم عَدَوْا على من أسلم ، واتبع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أصحابه ، فوثبت كلُّ قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرَمْضاء مكة إذا اشتد الحرُّ، من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم ، فمنهم من يُفتَن من شدةِ البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يَصْلُب لهم ، ويعصمه اللّه منهم.

ما لقيه بلال وتخليص أبي بكر له

 وكان بلال ، مولى أبي بكر رضى اللّه عنهما، لبعض بنى جُمَح ،مُوَلَّدا من مُوَلّديهم ، وهو بلال بن رباح ، وكان اسم أمه حمامة، وكان صادقَ الإسلام طاهرَ القلب ، وكان أميةُ بن وهب بن حُذَافة بن جُمَح يُخرجه إذا حَميت الظهيرةُ، في بَطْحاءِ مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتُوضع على صدره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموتَ ، أو تكفرَ بمحمد، وتعبد اللات والعُزَّى؛ فيقول وهو فى ذلك البلاء: أحَد أحَد.

قال ابنِ إسحاق : وحدثنى هشام بن عُروة عن أبيه ،

قال : كان ورقة بن نوْفل يمر به وهو يُعَذَّبَ بذلك ، وهو يقول : أحَد أحَد؛ فيقول : أحَد أحَد واللّه يا بلال ، ثم يُقْبِل على أمية بن خلف ، ومن يصنع ذلك به من بنى جُمَح ، فيقول :أحلف باللّه لئن قتلتموه على هذا لأتخذنَّه حَنَاناً، حتى مر به أبو بكر الصديق ابن أبى قحافة رضى اللّه عنه يوما، وهم يصنعون ذلك به ، وكانت دار أبى بكر في بنى جُمَح ، فقال لأمية بن خلف : ألا تتقي اللّه في هذا المسكين ؟ حتى متى؟!

قال : أنت الذي أفسدتَه فأنقذْه مما ترى؛ فقال أبو بكر: أفعل ، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك ، أعْطِيكه به؛

قال : قد قبلتُ

فقال : هو لك. فأعطاه أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه غلامَه ذلك ، وأخذه فأعتقه.

من أعتقهم أبو بكر

 ثم أعتق معه على الِإسلام قبل أن يهاجرَ إلى المدينة سِتَّ رقابٍ ، بلالٌ سابعهم : عامر بن فهيرة، شهد بدراً وأحدا، وقُتل يوم بئر معونة شهيداً؟ وأم عُبَيْس وزِنِّيرة، وأصيب بصرُها حين أعتقها، فقالت قريش : ما أذهب بصرَها إلا اللاتُ والعزَّى؛ فقالت : كذَبوا وبيتِ اللّه ما تضرُّ اللات والعزى وما تنفعان ، فرد اللّه بصرَها.

وأعتق الهَدِيةَ وبنتَها، وكانتا لامرأة من بنى عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها، وهى تقول : واللّه لا أعتقهما أبداً، فقال أبو بكر رضى اللّه عنه : حلّ يا أم فلان؛ فقالت : حِلَّ ، أنت أفسدتهما فأعتقهما؛

قال : فبكم هما؟ قالت بكذا وكذا؛

قال : وقد أخذتهما وهما حرتان ، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أو نفرُغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؛

قال : وذلك إن شئتما.

ومر بجارية بنى مُؤمَّل ، حَىٍّ من بنى كعب ، وكانت مُسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الِإسلام ، وهو يومئذ مشرك وهو يضربُها، حتى إذا ملَّ

قال : إنى أعتذر إليكِ ، إنى لم أتركْك إلا ملالة ؛ فتقول : كذلك فعل اللّه بك. فابتاعها أبو بكر، فأعتقها.

أبو قحافة يلوم أبا بكر

قال ابن إسحاق : وحدثنى محمدُ ابن عبد المطلب بن أبى عَتِيق ، عن عامر بن عبداللّه بن الزبير، عن بعض أهله ،

قال : قال أبو قحافة لأبي بكر: يا بُنَي ، إنى أراك تُعْتِق رقاباً ضِعافاً فلو أنك إذا ما فعلتَ أعتقتَ رجالاً جُلْداً يمنعونك ويقومون دونَك ؟ فقال أبو بكر رضى اللّه عنه : يا أبتِ ، إنى إنما أريد ما أريد للّه عز وجل.

قال : فيُتَحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه ، وفيما قال له أبوه : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}.[الليل: ٥،٦].. إلى قوله تعالى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.[الليل: ١٩ـ٢١]

تعذيب آل ياسر

قال ابن إسحاق : وكانت بنو مخزوم يَخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه ، وكانوا أهلَ بيت إسلام ، إذا حَمِيت الظهيرة، يعذبونهم برَمْضاء مكة، فيمر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيقول فيما بلغني : " صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة ". فأما أمه فقتلوها وهى تأبَى إلا الإسلامَ.

وكان أبو جهل الفاسق الذي يُغْرِي بهم فى رجال من قريش، إذا سمع بالرجلِ قد أسلم له شرف ومَنَعة، أنَّبه وأخْزاه

وقال : تركتَ دينَ أبيك وهو خيرِّ منك ، لنُسَفهنَّ حلمَك ، ولنفيّلن رأيك ، ولنضعنَّ شرفَك؛ وإن كان تاجراً

قال : واللّه لنُكْسِدَن تجارتَك ، ولنُهلكن مالك؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرَى به.

فتنة المسلمين

قال ابن إسحاق : وحدثني حكيم بن جُبَير عن سعيد بن جُبَير،

قال : قلتُ لعبداللّه بن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من العذاب ما يُعْذَرون به في ترك دينهم؛

قال : نعم واللّه ، إن كانوا ليُضربون أحدَهم ويجيعونه ويُعَطِّشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به ، حتى يعطيَهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له؛ آللاتُ والعُزَّي إلهك من دون اللّه ؟ فيقول نعم ، حتى إن الجُعْلَ ليمر بهم ، فيقولون له : أهذا الجُعْلُ إلهك من دون اللّه ؟ فيقول : نعم ، افتداء منهم مما يبلغون من جهده.

هشام يرفض تسليم الوليد إلى قريش

قال ابن إسحاق : وحدثني الزبير بن عُكَّاشة بن أبي أحمد أنه حُدِّث أن رجالا من بنى مخزوم مَشَوْا إلى هشام بن الوليد، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد، وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا، منهم : سَلَمة ابن هشام ، وعياش بن أبى ربيعة.

قال : فقالوا له وخَشَوْا شرَّهم : إنا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا، فإنا نأمن بذلك في غيرهم.

قال : هذا، فعليكم به ، فعاتبوه وإياكم ونفسَه ، وأنشأ يقول :

ألا لا يقتلنَّ أخى عُيَيْش  فيبقى بينَنا أبداً تلاحِي

احذروا على نفسِه ، فأقْسم باللّه لئن قتلتموه لأقتلنَّ أشرفَكم رجلاً

قال :

فقالوا: اللّهم العنْه ، من يُغَرر بهذا الخبيث ، فواللّه لو أصيب فى أيدينا لقتلَ أشرفَنا رجلا.

قال : فتركوه ونزعوا عنه.

قال : وكان ذلك مما دفع اللّه به عنهم.

ذكر الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة

قال ابن إسحاق : فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما يصيب أصحابَه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من اللّه ومن عمه أبي طالب ، وأنه لا يقدر أن يمنعَهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم : لو خرجتم إلى أرضِ الحبشة فإن بها مَلَكا لا يُظْلَم عنده أحدٌ ، وهي أرضُ صدقٍ ، حتى يجعلَ اللّه لكم فرجاً مما أنتم ؛ فخرج عند ذلك المسلمون من أصحابِ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أرضِ الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى اللّه بدينهم ، فكانت أولَ هجرة كانت فى الِإسلام

 أوائل المهاجرين إلى الحبشة

وكان أولَ من خرج من المسلمين من بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤَي بن غالب بن فهر: عثمانُ بن عفان بن أبى العاص.بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف : أبو حُذَيفة بن عُتبة بن ربيعة ابن عبد شمس ، معه امرأته : سَهْلة بنت سُهَيْل بن عَمرو، أحد بني عامر بن لُؤَي ، وَلَدت له بأرض الحبشة محمدَ بن أبي حُذَيفة. ومن بني أسد بن عبد العُزى بن قصي : الزبير بن العوام بن خُوَيلد بن أسد. ومن بني عبد الدار بن قصى: مُصْعَب بن عُمير بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار. ومن بنى زهرة بن كلاب : عبد الرحمن ابن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة. ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة: أبو سَلَمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم ، ومعه امرأته : أم سَلَمة بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم. ومن بني جمَح بن عمرو ابن هُصيْص بن كعب : عثمان بن مظعون بن حبيب بن وَهْب بن حُذافة بن جمَح. ومن بنى عدي بن كعب : عامر بن ربيعة، حليف آل الخطاب ، من عَنز بن وائل - معه امرأتُه ليلى بنت أبي حَثْمة ابن حذافة بن غانم بن عامر بن عبداللّه بن عوف بن عبيد بن عُوَيج ابن عدي بن كعب. ومن بني عامر بن لؤي : أبو سَبْرة بن أبى رُهْم بن عبد العُزى بن أبى قيْس بن عبد وُد بن نصر بن مالك ابن حِسْل بن عامر،

ويقال : بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس ابن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر

ويقال : هو أول من قدمها. ومن بنى الحارث بن فهر: سُهَيْل ابن بيضاء، وهو سُهَيْل ابن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهَيْب بن ضَبَّة بن الحارث ، فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة، فيما بلغني.

قال ابن هشام : وكان عليهم عثمانُ بن مظعون ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم.

قال ابن إسحاق : ثم خرج جعفرُ بن أبى طالب رضى اللّه عنه ، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة، فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه ، ومنهم من خرج بنفسه لا أهلَ له معه.

 المهاجرون من بني هاشم

ومن بني هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر: جعفر ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، معه امرأتُه أسماء بنت عُمَيْر بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة بن خَثْعم ، ولدت له بأرض الحبشة: عبدَاللّه بن جعفر، رجل.

المهاجرون من بنى أمية

ومن بنى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف : عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، معه امرأته : رقيةُ ابنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعَمرو بن سعيد بن العاص ابن أمية، معه امرأته : فاطمة بنت صفوان بن أمية بن مُحَرِّث بن شِق بن رَتَبة بن مُخْدِج الكنانى، وأخوه خالد بن سعيد بن العاص ابن أمية، معه امرأته أمَيْنة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة ابن سبيع بن جُعْثُمة بن سعد بن مُلَيْح بن عمرو، من خزاعة.

قال ابن هشام : ويقال هُمَيْنة بنت خلف.

قال ابن إسحاق : ولدت له بأرض الحبشة سعيد بن خالد، وأمَةَ بنت خالد، فتزوج أمةَ بعد ذلك الزبيرُ بن العوام ، فولدت له عمرو ابن الزبير، وخالد بن الزبير.

المهاجرون من بنى أسد

ومن حلفائهم ، من بنى أسد بن خُزَيمة: عبداللّه بن جَحْش بن رِئاب بن يَعْمر بن صَبْرة بن مرة بن كبير ابن غَنْم بن دُودان بن أسد؛ وأخوه عُبَيْد اللّه بن جَحْش ، معه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب بن أمية. وقيس بن عبداللّه ، رجل من بنى أسد بن خُزَيمة، معه امرأته بركة بنت يسار، مولاة أبى سفيان ابن حرب بن أمية؛ ومعيقيب بن أبي فاطمة. وهؤلاء آل سعيد بن العاص ، سبعة نفر.

قال ابن هشام : مُعَيْقيب من دوس.

المهاجرون من بني عبد شمس

قال ابن إسحاق : ومن بنى عبد شمس بن عيد مناف أبو حُذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس؛ وأبو موسى الأشعري ، واسمه عبداللّه بن قيس ، حليف آل عُتبة بن ربيعة، رجلان.

المهاجرون من بني نَوْفل

ومنِ بنى نَوْفل بن عبد مناف : عُتبة ابن غَزْوان بن جابر بن وهب بنِ نسيب بن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عِكرمة بن خصَفَة، بن قيس بن عَيْلان ، حليف لهم ، رجل.

المهاجرون من بني أسد

ومن بني أسد بن عبد العُزَّى بن قصى : الزبير بن العوام بن خُوَيْلد بن أسد، والأسْوَد بن نَوْفل بن خُوَيلد بن أسد، ويزيد بن زَمْعة بن الأسْوَد بن المطلب بن أسد. وعُمر بن أمية بن الحارث بن أسد، أربعة نفر.

المهاجرون من بني عبد بن قُصي : ومن بنى عبد بن قُصى: طُلَيب بن عُمَيْر بن وهب بن أبى كبير بن عبد بن قصى، رجل.

المهاجرون من بني عبد الدار بن قصى : ومن بنى عبد الدار ابن قُصى : مُصعَب بن عُمَيْر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وسُوَيْبط بن حرملة بن مالك بن عُمَيْلة بن السبَّاق بن عبد الدار، وجَهْم بن قَيْس بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، معه امرأته : أم حَرْملة بنت عبد الأسْود بن جُذيمة بن أقْيش ابن عامر بن بَيَاضة بن سُبيع بن جُعْثمة بن سعد بن مُلَيح بن عمرو، من خزاعة؛ وابناه : عَمرو بن جَهْم وخُزيمة بن جَهْم. وأبو الرُّوم بن عُمَير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار؛ وفِراس بن النضْر بن الحارث بن كَلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار، خمسة نفر.

المهاجرون من بني زهرة : ومن بنى زُهرة بن كلاب : عبد الرحمن بن عوف بن عبْد عَوْف بن عبد بن الحارث بن زُهرة وعامر بن أبى وقَّاص وأبو وقَّاص مالك بن أهَيْب بن عبد مناف ابن زُهرة والمطَّلب بن أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث ابن زُهْرة، معه امرأته رملة بنت أبى عوف بن ضُبَيْرة بن سعيد بن سعد بن سهم ، وَلدت له بأرض الحبشة : عبدَاللّه بن المطلب.

المهاجرون من بنى هذيل : ومن حلفائهم من هُذَيل : عبداللّه ابن مسعود بن الحارث بن شَمْخ بن مخزوم بن صَاهلة بن كاهل ابن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذَيل : وأخوه : عُتبة بن مسعود.

المهاجرون من بهراء: ومن بهراء: المِقْداد بن عَمرو بن ثعلبة ابن مالك بن ربيعة بن ثُمامة بن مطرود بن عَمرو بن سعد بن زُهَير بن لُؤَي بن ثعلبة بن مالك بن الشَّريد بن أبى أهْوز بن أبى فائش بن دُرَيم بن القَيْن بن أهود بن بهراء بن عَمرو بن الحاف ابن قضاعة.

قال ابن هشام : ويقال هزل بن فاس بن ذَر، ودَهِير بن ثَوْر.

قال ابن إسحاق : وكان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث ابن وهب بن عبد مناف بن زُهرة، وذلك أنه تبناه فى الجاهلية وحالفه ، ستة نفر.

الهاجرون من بنى تيم : ومن بني تَيْم بن مرة : الحارث بن خالد بن صخر بن عَامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم ، معه امرأته : رَيْطة بنت الحارث بن جَبَلَة بن عامر بن كعب بن سعد بن تَيْم ، ولدت له بأرض الحبشة: موسى بن الحارث وعائشة بنت الحارث ، وزينب بنت الحارث وفاطمة بنت الحارث. وعَمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم ، رجلان.

المهاجرون من في مخزوم : ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة : أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم ، ومعه امرأته. أم سَلَمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبداللّه بن عمر ابن مخزوم ، ولدت له بأرض الحبشة : زينبَ بنت أبى سلمة، واسم أبي سلمة عبداللّه ، واسم أم سلمة : هند. وشَمَّاس بن عثمان بن الشَّرِيد ابن سُوَيْد بن هَرْمِى بن مخزوم.

خبر الشماس

قال ابن هشام : واسم شَمَّاس : عثمان ، وإنما سُمى شماسا، لأن شماسا من الشمامسة قَدِم مكة في الجاهلية، وكان جميلا فعجب الناس من جماله ، فقال عتبة بن ربيعة، وكان خال شماس : أنا آتيكم بشماس أحسن منه ، فجاء بابن أخته عثمان بن عثمان ، فسمى شماسا، فيما ذكر ابن شهاب وغيره.

قال ابن إسحاق : وهَبَّار بن سفيان بن عبد الأسَد بن هلال بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم ، وأخوه عبداللّه بن سفيان : وهشام بن أبى حذيفة بن المغيرة بن عبداللّه بن مخزوم ،. وسلمة بن هشام بن المغيرة بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم ؛ وعَيَّاش بن أبى ربيعة بن المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم.

المهاجرون من حلفاء بني مخزوم؛ ومن حلفائهم ، مُعَتِّب بن عَوْف بن عامر بن الفضل بن عفيف بن كُلَيب بن حَبشية ابن سلول ابن كعب بن عمرو، من خزاعة، وهو الذي يقال له : عَيْهامة، ثمانية نفر.

قال ابن هشام : ويقال حُبْشية ابن سلول ، وهو الذي يقال له معتِّب ابن حمراء.

المهاجرون من بني جُمح : ومن بني جُمح بن عَمرو بن هُصَيْص ابن كعب : عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح وابنه السائب بن عثمان : وأخواه قُدامة بن مظعون ، وعبداللّه ابن مظعون؛ وحاطب بن الحارث بن مَعْمَر بن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح ، معه امرأته : فاطمةُ بنت المجلَّل بن عبداللّه بن أبى قيس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر: وابناه : محمد ابن حاطب ، والحارث بن حاطب ، وهما لبنت المجلَّل؛ وأخوه حطاب ابن الحارث ، معه امرأته فُكَيهة بنت يسار؛ وسفيان بن معمر بن حبيب ابن وهب بن حُذافة بن جُمَح ، معه ابناه جابر بن سفيان ، وجُنادة ابن سفيان ، ومعه امرأته حَسنة، وهى أمهما، وأخوهما من أمهما شَرَحْبيل ابن حسنة، أحد الغوث.

قال ابن هشام : شرحبيل بن عبداللّه أحد الغَوث بن مُرّ، أخى تميم بن مر.

قال ابن إسحاق : وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حُذافة ابن جُمَح ، أحد عشر رجلا.

المهاجرون من بني سهم : ومن بنى سَهْم بن عمرو بن هُصَيْص ابن كعب ، خنَيْس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم ؛ وعبداللّه بن الحارث بن قَيْس بن عَدِي بن سعد بن سهل ، وهشام ابن العاص بن وائل بن سعد بن سهم.

قال ابن هشام : العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم.

قال ابن إسحاق : وقَيْس بن حُذافة بن قَيْس بن عَدِي بن سعد ابن سهم ، وأبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم ، وعبداللّه بن حُذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم ، والحارث ابن قيس بن عدي بن سعد بن سهم ، ومَعْمَر بن الحارث بن قَيْس ابن عدي بن سعد بن سهم؛ وبِشر بن الحارث بن قَيْس بن عَدِي ابن سعد بن سهم ، وأخ له من أمه من بني تميم ، يقال له : سعيد ابن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم؛ والسَّائب بن الحارث بن قَيْس بن عدي بن سعد بن سهم. وعُمَيْر ابن رِئاب بن حُذيفة بن مُهَشم بن سعد بن سهم. ومَحْمِية بن جَزْء، حليف لهم ، من بنى زبيد، أربعة عشر رجلا.

المهاجرون من بني عدي : ومن بنى عدي بن كعب : مَعْمر ابن عبداللّه بن نَضْلَة بن عبد العُزَّى بن حُرْثان بن عَوْف بن عُبَيد ابن عُوَيْج بن عدي وعُروة بن عبد العُزَّى بن حُرْثان بن عوف بن عُبَيد بن عُوَيج بن عَدِيّ ، وعدي بن نَضْلَة بن عبد العُزى بن حُرْثان ابن عَوْف بن عُبَيد بن عُوَيج بن عدي ، وابنه النعمان بن عَدِيِّ ، وعامر ابن ربيعة، حليف لآل الخطاب ، من عنز بن وائل ، معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمَة بن غانم. خمسة نفر.

المهاجرون من بنى عامر: ومن بنى عامر بن لؤي : أبو سَبْرة ابن أبى رُهْم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد وُد بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، معه امرأته : أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو ابن عبد شمس بن عبد وُد بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، وعبداللّه بن مَخْرَمة بن عبد العُزى بن أبي قيس بن عبد وُد بن نصر ابن مالك بن حِسْل بن عامر، وعبداللّه بن سُهَيل بن عَمرو بن عبد شمس بن عبد وُد بن مالك بن حِسْل بن عامر، وسَلِيط بن عَمرو ابن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، وأخوه السكران بن عمرو، معه : امرأته سَوْدَة بنت زَمْعَة بن قَيْس ابن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، ومالك بن زَمْعَة بن قَيْس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، معه : امرأته عمرة بنت السَّعْدي بن وَقْدان ابن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر، وحاطب بن عَمرو بن عبد شمسِ بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حِسْل بن عامر، وسعد بن خولة، حليف لهم ، ثمانية نفر.

قال ابن هشام : سعد بن خَولة من اليمن.

المهاجرون من بني الحارث :

قال ابن إسحاق : ومن بنى الحارث ابن فِهْر: أبو عُبَيْدة بن الجراح ، وهو عامر بن عبداللّه بن الجراح بن هلال بن أهَيْب بن ضَبَّة بن الحارث بن فِهر، وسُهَيل ابن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهَيْب بن ضَبَّة بن الحارث ، ولكن أمه غلبت على نسبه ، فهو ينسب إليها، وهى دعد بنت جحدم ابن أمية من ظرب بن الحارث بن فِهْر، وكانت تدعى بيضاء، وعمرو ابن أبي سَرْح بن ربيعة بن هلال بن أهَيب بن ضَبَّة بن الحارث ، وعياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث ،

ويقال : بل ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبيِ شداد بن ربيعة بن مالك بن ضَبة بن الحارث ، وعثمان بن عبد غنْم بن زهير بن أبى شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضَبة بن الحارث ، وسعد بن عبد قيس ابن لَقيط بن عامر بن أميهّ بن ظَرَب بن الحارث ، والحارث بن عبد قَيْس بن لَقيط بن عامر بن أمية بن ظَرَب بن الحارث بن فهر. ثمانية نفر..

عدد مهاجري الحبشة : فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين ، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغاراً وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم ، وهو يُشَك فيه.

شعر عبداللّه بن الحارث في هجرة الحبشة : وكان مما قيل من الشعر فى الحبشة أن عبداللّه بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم ، حين أمنوا بأرض الحبشة، وحمدوا جوار النجاشي وعبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحداً، وقد أحسن النجاشىُّ جوارَهم حين نزلوا به

قال :

يا راكباً بَلِّغَنْ عني مُغَلْغَلةـً  من كان يرجو بلاغَ اللّه والدينِ
كلًّ امرئٍ من عبادِ اللّه مضطهد      ببطن مكةَ مقهورٍ ومفتونِ
أنا وجدنا بلادَ اللّه واسعـةً    تُنجي من الذلِّ والمَخْزاةِ والهونِ
فلا تقيموا على ذلِّ الحياةِ وخِز   يٍ في  المماتِ وعيبٍ غيرِ مأمونِ
إنا تبعنا رسولَ اللّه واطَّرحوا   قولَ  النبيِّ وعالوا في الموازينِ
فاجعل عذابَك في القومِ الذين بَغَوْا  وعائذاً بك أن يغلوا فيطغونى

وقال عبداللّه بن الحارث أيضاً، يذكر نفى قريش إياهم من بلادهم ، ويعاتب بعض قومه فى ذلك :

أبتْ كَبِدي ، لا أكْذِبَنْكَ ، قتالَهم   عليَّ وتأباه علىَّ أناملى
وكيف قتالي معَشراً أدَّبوكمُ  على الحق أن لا تأشِبوه بباطلِ
نفتهمْ عبادُ الجنِّ من حُرِّ أرضِهم   فأضْحَوْا على أمر شديدِ البلابلِ
فإن تكُ كانت فى عَدِي أمانةٌ   عديّ بن سعد عن تُقًى
أو تواصلِ
فقد كنت أرجو أن ذلك فيكمُ   بحمدِ الذي لا يُطَّبِي بالجعائل.
وبُدِّلت شِبلاً شبْلَ كل خبيئةٍ   بذي فَجَر مأوَى الضِّعافِ الأراملِ

وقال عبداللّه بن الحارث أيضاً:

وتلك قريشٌ تجحَدُ اللّه حقَّه كما   جحدت عاد ومدينُ والحِجْرُ
فإن أنا لم أبرِقْ فلا يَسَعَنَّنــى   من الأرضِ برٌّ ذو فضاءٍ ولا بحرُ
بأرضٍ بها عَبد الِإلهَ محمـــدٌ   أبيِّنُ ما فى النفسِ إذ بلغ النَّقْرُ

فسمي عبداللّه بن الحارث - يرحمه اللّه - لبيته الذي

قال :

" المُبْرِ ق ".

وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف بن وهب بن حُذافة ابن جُمَح ، وهو ابن عمه وكان يؤذيه في إسلامه ، وكان أمية شريفا فى قومه في زمان ذلك :

أتَيْمَ بنَ عمرو للذي جاء بغضُه   ومن دونه الشَّرمان والبرك اكتع
أأخرجتنى من بطنِ مكةَ آمنـاً   وأسكنتنى في صرحِ بيضاء ِتقذع
تَريشُ نبالاً لا يواتيك ريشُهـا   وتَبْري نبالاً ريشُها لكَ أجمعُ
وحاربتَ أقواما كراماً أعــزَّةً   أهلكتَ أقواماً بهم كنتَ تَفْزعُ
ستعلم إن نابتْك يوماً مُلِمــَّةٌ   وأسلمك الأوباشُ ما كنتَ تصنعُ

وتَيْم بن عمرو، الذي يدعو عثمان ، جمحُ ، كان اسمه تَيْما.

إرسال قريش إلى الحبشة في طلب المهاجرين إليها

من أرسلتهما قريش في طلب المهاجرين

قال ابن إسحاق : فلما رأت قريش أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها داراً ومَراراً، ائتمروا بينَهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جَلْدَين إلى النجاشي ، فيردهم عليهم ، ليفتنوهم في دينهم ، ويخرجوهم من دارِهم ، التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها؛ فبعثوا عبدَاللّه بن أبى ربيعة، وعَمرو بن العاص بن وائل ، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ، ثم بعثوهما إليه فيهم.

شعر أبي طالب للنجاشي : فقال أبو طالب ، حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه ، أبياتا للنجاشى يحضه على حسنِ جوارِهم والدفع عنهم :

ليتَ شِعْري كيفَ فى النأيِ جعفرٌ وعمرو وأعداءُ العدو الأقاربُ
وهل نالت افعالُ النجاشىِّ جفـراً وأصحابَه
أو عاق ذلك شاغبُ
تعلَّم أبيتَ اللعنَ ، أنك ماجـدٌ   كريم فلا يَشْقَى لديك المُجانِبُ
تعلَّمِ بأن اللّه زادك بَسْطــةً   واسبابَ خير كلُّها بك لاَزِبُ
وأنك فيْض ذو سِجالٍ غزيرةٍ   ينال الأعادي نفعَها والأقاربُ

حديث أم سلمة عن الرسولين اللذين أرسلتهما قريش للنجاشي

قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن مسلم الزهريّ عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قالت : لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خيرَ جار: النجاشىَّ، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا اللّه تعالى لا نُؤْذَي ولا نسمعُ شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جَلْدَينِ؛ وأن يهدوا للنجاشى هدايا مما يستظرِف من متاعِ مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدَم ، فجمعواله أدَماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبداللّه بن أبى ربيعة، وعمرو ابن العاص ، وأمروهما بأمرهم ، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ، ثم قدما إلى النجاشي هداياه ، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

قالت : فخرجا حتى قدما على النجاشي ، ونحن عندَه بخير دار، عند خيرِ جارٍ ، فلم يبقَ من بطارقته بطريقٌ إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشى، وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد ضوَى إلى بلد الملك منا غلمان سُفهاء، فارقوا دينَ قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدَع ، لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك ، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم ، فإن قومهم أعلَى بهم عيناً ، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم.

ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا

له : أيها الملك ، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دينَ قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحنُ ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم لتردَّهم إليهم ، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبداللّه بن أبى ربيعة وعمرو ابن العاص من أن يسمع كلامَهم النجاشىُّ.

 

قالت : فقالت بطارقته حوله : صَدَقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمْهم إليهما. فليردَّاهم إلى بلادهم وقومهم.

قالت : فغضب النجاشي ،

ثم قال : لاهَا اللّه ، إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم ، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومِهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارَهم ما جاوروني.

الحوار الذي دار بين المهاجرين والنجاشي

قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، قال بعضُهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه؛

قالوا: نقول واللّه ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى اللّه عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن.

فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته ، فنشروا مصاحفهم حوله سألهم

فقال لهم : ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ، ولا في دين أحد من هذه المِلل ؟

 

قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبى طالب ،

فقال له : أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ، ونأكلُ الميتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطع الأرحام. ونسيء الجوار ويأكل القويُّ منا الضعيف ، فكنا على ذلك ، حتى بعث اللّه إلينا رسولاً منا، نعرف نسبَه وصدقَه

وأمانته وعفافَه ، فدعانا إلى اللّه لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارةِ والأوثانِ وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلةِ الرَّحمِ وحسنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد اللّه وحده ، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام

قالت : فعدد عليه أمور الِإسلام فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من اللّه ، فعبدنا اللّه وحدَه ، فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللّه تعالى، وأن نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ؛ ورغبنا في جوارِك ، ورجونا أن لا نُظلَم عندك أيها الملك.

قالت : فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن اللّه من شىء؟

قالت : فقال له جعفر: نعم ؛ فقال له النجاشي: فاقرأه على؛

قالت :

فقرأ عليه صدراً من : "كهيعص "

قالت : فبكى واللّه النجاشي حتى اخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفَهم ، حين سمعوا ما تلا عليهم.

ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مِشكاةٍ واحدة، انطلِقَا، فلا واللّه لا أسلمهم إليكما، ولا يُكَادون.

رأي المهاجرين في عيسى أمام النجاشيٍ :

قالت : فلما خرجا من عنده ، قال عمرو بن العاص : واللّه لآتينه غدا عنهم بما استأصل به خَضرَاءَهم.

قالت : فقال له عبداللّه بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا؛

قال : واللّه لأخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عَبْدٌ.

قالت : ثم غدا عليه من الغد

فقال : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسِلْ إليهم فسلْهم عما يقولون فيه.

قالت : فأرسل إليهم ليسألهم عنه.

قالت : ولم ينزل بنا مثلها قطُّ. فاجتمع القوم ،

ثم قال بعضهم لبعض : ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه ؟

قالوا: نقول واللّه ما قال اللّه ، وما جاءنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن.

قالت : فلما دخلوا عليه ، قال لهم : ماذا تقولون في عيسى ابن مريم ؟

قالت : فقال جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاءنا به نبيُّنا صلى اللّه عليه وسلم : هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول

قالت : فضرب النجاشى بيده إلى الأرض فأخذ منها عُوداً،

ثم قال : واللّه ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتَ هذا العودَ.

قالت : فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال؛

فقال : وإن نخرتم واللّه ، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضى والشيوم : الآمنون من سبَّكم غَرِم ،

ثم قال : من سبكم غَرِم ،

ثم قال : من سبكم غَرِم. ما أحبُّ أن لي دَبراً من ذهب ، وأنى آذيت رجلاً منكم.

قال ابن هشام : ويقال دبري من ذهب ،

ويقال : فأنتم سيوم. والدبر بلسان الحبشة : الجبل - ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فواللّه ما أخذ اللّه من الرِّشْوَة حين ردَّ علىَّ ملكَي ، فآخذ الرِّشوة فيه ، وما أطاع الناس فىَّ فأطيعهم فيه.

قالت : فخرجا من عنده مَقْبوحَيْن مردوداً عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دار، مع خير جار.

المهاجرون يفرحون بانتصار النجاشي :

قالت : فواللّه إنا لعلى ذلك ، إذا نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه.

قالت : فواللّه ما علمتُنا حَزِنَّا حزناً قطًّ كان أشدَّ علينا من حزن حزناه عند ذلك ، تخوّفاً أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي ، فيأتى رجل لا يعرف من حقِّنا ما كان النجاشيُّ يعرف منه.

قالت : وسار إليه النجاشىُّ، وبينهما عَرضُ النيل ،

قالت : فقال أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله وسلم : مَنْ رجل يخرج حتى يحضرَ وقيعةَ القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت. فقال الزبير بن العوام. أنا.

قالوا: فأنت. وكان من أحدث القوم سِنّاً.

قالت : فنفخوا له قربةً فجعلها في صدره ، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقَى القوم ، ثم انطلق حتى حضرهم.

قالت : فدعونا اللّه تعالى للنجاشىِّ بالظهور على عدوِّه ، والتمكين له في بلاده.

قالت : فواللّه إنا لعلَى ذلك متوقعون لما هو كائن ، إذ طلع الزبيرُ وهو يسعَى، فلمع بثوبه وهو يقول : ألا أبشروا، فقد ظفر النجاشىُّ، وأهلك اللّه عدوَّه ، ومكَّن له في بلاده.

قالت : فواللّه ما علمتنا فَرِحنا فرحةً قط مثلَها

قالت : ورجع النجاشيُّ ، وقد أهلك اللّه عدوَّه ، ومكن له في بلاده ، واستوثق عليه أمرُ الحبشة فكنا عنده في خير مَنْزِل ، حتى قَدِمنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة.

قصة تملك النجاشي على الحبشة

قتل أبي النجاشي وتملك عمه :

قال ابن إسحاق : قال الزهري. فحدثت عروة بن الزبير حديث أبى بكر بن عبد الرحمن ، عن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم ،

فقال : هل تدري ما قوله : ما أخذ اللّه مني الرِّشْوَة حين رد علىَّ ملكي ، فاخذ الرِّشوة فيه ، وما أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه ؟

قال : قلت : لا،

قال : فإن عائشة أمّ المؤمنين حدثتني أن أباه كان ملك قومه ، ولم يكن له ولد إلا النجاشي ، وكان للنجاشى عم ، له من صلبه اثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشةُ بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام ، وإن لأخيه من صلبه اثني عشر رجلا، فتوارثوا ملكَه من بعده ، بقيت الحبشةُ بعدَه دهراً، فَغَدَوْا على أبي النجاشي فقتلوه ، وملَّكوا أخاه ، فمكثوا على ذلك حينا.

الحبشة تبيع النجاشي : ونشأ النجاشى مع عمه ، وكان لبيبا حازما من الرجال ، فغلب على أمر عمه ، ونزل منه بكل منزِلة، فلما رأت الحبشةُ مكانَه منه قالت بينها: واللّه لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه ، وإنا لنتخوف أن يملِّكه علينا، وإن ملَّكه علينا ليقتلنا أجمعين ، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه. فمشَوْا إلى عمه

فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى،

وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خِفناه على أنفسنا؛

قال : ويلكم ! قتلت أباه بالأمس ، وأقتله اليوم ! بل أخرجه من بلادكم.

قالت : فخرجوا به إلى السوق ، فباعوه من رجل من التجار بست مئة درهم؛ فقذفه في سفينة فانطلق به ، حتى إذا كان العشىّ من ذلك اليوم ، هاجت سحابةٌ من سحائبِ الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته.

قالت : ففزعت الحبشة إلى ولده ، فإذا هو مُحمَّق ، ليس فى ولده خير، فمرج على الحبشة أمرُهم.

تولية النجاشي الملك : فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك ، قال بعضهم لبعض : تَعلَّموا واللّه أن مَلِكَكم الذي لا يقيم أمرَكم غيرُه للذي بعتم غَدوةً، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه الآن

قالت : فخرجوا في طلبه ، وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه ، فأخذوه منه؛ ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج ، وأقعدوه على سرير الملك ، فملَّكوه.

حديث التاجر الذي اشتراه : فجاءهم التاجر الذي كانوا باعوه منه ،

فقال : إما أن تعطوني مالي ،

وإما أن أكلمه فى ذلك ؟

قالوا: لا نعطيك شيئا،

قال : إذن واللّه أكلمه؛

قالوا: فدونَك وإياه.

قالت : فجاءه فجلس بين يديه ،

فقال : أيها الملك ، ابتعتُ غلاما من قوم بالسوق بست مئة درهم ، فأسلموا إليَّ غلامى وأخذوا دراهمى، حتى إذا سرت بغلامى أدركونى، فأخذوا غلامي ، ومنعونى دراهمى.

قالت : فقال لهم النجاشي : لتُعْطُنَّه دراهمه ، أو ليضعن غلامُه يدَه في يده ، فليذهبن به حيث شاء؛

قالوا: بل نعطيه دراهمه

قالت : فلذلك يقول : ما أخذ اللّه منى رِشوة حين ردَّ علىّ ملكي ، فاخذ الرِّشوةَ فيه ، وما أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه.

قالت : وكان ذلك أول ما خُبر من صلابته في دينه ، وعدله في حكمه.

قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، عن عائشة،

قالت : لما مات النجاشى، كان يتحدث أنه لا يزال يُرَى على قبره نور.

إسلام النجاشي والصلاة عليه وخروج الحبشة عليه

قال ابن إسحاق : وحدثني جعفر بن محمد، عن أبيه ،

قال : اجتمعت الحبشةُ فقالوا للنجاشى : إنك قد فارقت دينَنا، وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه ، فهيأ لهم سُفناً،

وقال : اركبوا فيها وكونوا كما أنتم ، فإذا هُزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم ، وإن ظفرت فاثبتوا ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه : هو يشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمداً عبده ورسوله ، ويشهد أن عيسى ابن مريم عبدُه ورسولُه وروحُه ، وكلمته ألقاها إلى مريم؛ ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن ، وخرج إلى الحبشة، وصفّوا له؛

فقال : يا معشر الحبشة، ألست أحقَّ الناس بكم ؟ قالوا. بلى؛

قال : فكيف رأيتم سيرتي فيكم ؟ قالوا. خير سيرة؛

قال : فما لكم ؟

قالوا: فارقت دينَنا، وزعمت أن عيسى عبدٌ ؛

قال : فما تقولون أنتم في عيسى؟

قالوا: نقول هو ابن اللّه ؛ فقال النجاشي، ووضع يده على صدره على قبائه : هو يشهد أن عيسى ابن مريم ، لم يزد على هذا شيئاً، وإنما يعني ما كتب ، فرضوا وانصرفوا. فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم ؛ فلما مات النجاشي صلى اللّه عليه وسلم عليه ، واستغفر له.

إسلام عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه

قال ابن إسحاق : ولما قَدم عمرو بنُ العاص وعبدُاللّه بن أبى ربيعة على قريش ، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورَدَّهما النجاشي بما يكرهون ، وأسلم عُمر بن الخطاب ، وكان رجلاً ذا شكيمة لا يُرام ما وراء ظهره ، امتنع به أصحابُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبحمزة حتى عازُّوا قريشاً، وكان عبداللّه بن مسعود يقول : ما كنا نقدر على أن نصلىَ عند الكعبة، حتى أسلم عمرُ، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه ، وإن كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الحبشة.

قال البكائي :

قال : حدثني مِسْعر بن كِدَام ، عن سعد بن إبراهيم ،

قال : قال عبداللّه بن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نُصلي عند الكعبة حتى أسلم عمرُ، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه.

حديث أم عبداللّه بنت أبي حَثمَة عن إسلام عمر:

قال ابن إسحاق : حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبداللّه بن عباس ابن أبي ربيعة، عن عبد العزيز بن عبداللّه بن عامر بن ربيعة، عن أمِّه أم عبداللّه بنت أبى حَثْمَة،

قالت :

واللّه إنا لنترحل إلى أرضِ الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علىَّ وهو على شركه -

قالت : وكنا نلقى منه البلاء أذًى لنا وشدةً علينا -

قالت :

فقال : إنه للانطلاق يا أم عبداللّه ،

قالت :

فقلت : نعم واللّه ، لنخرجن في أرض اللّه ، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل اللّه مخرجا.

قالت :

فقال : صحبكم اللّه ، ورأيت له رقةً لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه - فيما أرى - خروجُنا.

قالت : فجاء عامر بحاجته تلك ، فقلت له : يا أبا عبداللّه ، لو رأيتَ عُمر آنفا ورقته وحزنَه علينا.

قال : أطمعتِ في إسلامه ؟

قالت : قلت : نعم ؛

قال : فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب.

قالت : يأساً منه ، لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الِإسلام.

سبب إسلام عمر

قال ابن إسحاق : وكان إسلام عمر فيما بلغنى أن أخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند سعيد بن زَيْد بن عَمرو بن نُفَيل ، وكانت قد أسلمت وأسلم بَعْلُها سعيد بن زيد، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر، وكان نُعَيم بن عبداللّه النحام من مكة، رجل من قومه ، من بنى عَدِي بن كعب قد أسلم ، وكان أيضاً يستخفى بإسلامه فَرَقا من قومه ، وكان خَبَّابُ بن الأرَت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القران ، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذُكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب ، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق ، وعلى بن أبى طالب ، في رجال من المسلمين رضى اللّه عنهم ، ممن كان أقام من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة.

فلقيه نُعَيم بن عبداللّه ،

فقال له : أين تريد يا عمر؟

فقال : أريد محمدا هذا الصابئ ، والذي فِرّق أمرَ قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله ؛ فقال له نعيم : واللّه لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرَهم ؟

قال : وأي أهل بيتى؟

قال : خَتْنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عَمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب : فقد واللّه أسلما، وتابعا محمداً على دينه ، فعليك بهما.

قال : فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه ، وعندهما خبابُ بن الأرَتِّ معه صحيفة، فيها: " طه " يُقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خَبَّاب في مخدع لهم ، أو في بعض البيت ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فَخِذِها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خَبَّاب عليهما، فلما دخل

قال : ما هذه الهَيْنَمَة التي سمعت ؟ قالا له : ما سمعتَ شيئا،

قال : بلى واللّه لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه ، وبطش بِخَتْنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجِها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وخَتْنه : نعم قد أسلمنا وآمنا باللّه ورسوله ، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع ، فارعوى، وقال لأخته : أعطينى هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتبا، فلما قال ذلك ، قالت له أخته : إنا نخشاك عليها،

قال : لا تخافى، وحلف لها بآلهته ليردَّنَّها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك ، طمعت في إسلامه ، فقالت له : يا أخى، إنك نجس ، على شركك ، وإنه لا يمسها إلا الطاهرُ، فقام عمر فاغتسل ، فأعطته الصحيفةَ، وفيها: " طه " فقرأها، فلما قرأ منها صدراً،

قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه ،

فقال له : يا عمر، واللّه إنى لأرجو أن يكون اللّه قد خصَّك بدعوةِ نبيه ، فإني سمعته أمس وهو يقول : " اللّهم أيد الِإسلام بأبى الحكم بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب "، فاللّه اللّه يا عمر. فقال له عند ذلك عمر: فدلنى يا خبَّاب علي محمد حتى آتيَه فأسلم ، فقال له خَبَّاب : هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه.

فأخذ عمر سيفه فتوشحه ، ثم عمد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، فضرب عليهم الباب ، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنظر من خَلَلِ الباب فرآه متوشِّحا السيف ، فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو فَزِعٌ ،

فقال : يا رسول اللّه ، هذا عمر بن الخطاب متوشِّحاً السيف ، فقال حمزة بن عبد المطلب : فأذنْ له ، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ائذنْ له ، فأذن له الرجل ، ونهض إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حُجْزَته ، أو بمجمع ردائه ، ثم جَبَذه به جَبْذةً شديدة،

وقال : ما جاء بك يا بن الخطاب ؟ فواللّه ما أرى أن تنتهي حتى يُنزلَ اللّه بك قارعة، فقال عمر: يا رسول اللّه ، جئتك لأومن باللّه وبرسوله ، وبما جاء من عند اللّه؛

قال : فكبَّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكبيرةً عَرَف أهلُ البيت من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن عمر قد أسلم.

فتفرق أصحابُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكانهم ، وقد عَزُّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سَيَمْنعان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوِّهم. فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر بن الخطاب حين أسلم.

ما رواه عطاء ومجاهد عن إسلام عمر

قال ابن إسحاق : وحدثني عبداللّه بن أبى نَجِيح المكي عن أصحابه : عطاء، ومجاهد، أو عمن روى ذلك : أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه ، أنه كان يقول : كنت للإِسلام مباعداً، وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها وأسَر بها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجالٌ من قريش بالحَزْوَرَة، عند دُور آل عمر بن عبد بن عمران المخزومى.

قال : فخرجت ليلة أريد جلسائى أولئك في مجلسهم ذلك ،

قال : فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحداً

فقلت : لو أني جئت فلانا الخمار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلى أجد عنده خمراً فأشرب منها.

قال : فخرجت فجئته فلم أجده.

قال :

فقلت : فلو أنى جئت الكعبةَ فطفت بها سبعا أو سبعين

قال : فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائم يصلي ، وكان إذا صلىاستقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام ، وكان مصلاه بين الركنين : الركن الأسود، والركن اليماني.

قال : فقلت حين أتيته : واللّه لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أسمعَ ما يقول

فقلت : لئن دنوت منه أستمع منه لأرَوِّعنَّه؛ فجئت من قِبلِ الحِجْر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشى رُوَيْدا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائم يصلى يقرأ القرآن ، حتى قمت في قبلته مُسْتقبلَه ، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة.

قال : فلما سمعت القرآن رقَّ له قلبي فبكيت ودخلني الِإسلام فلم أزل قائما في مكاني ذلك ، حتى قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاته ، ثم انصرف ، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبى حُسَين ، وكانت طريقَه ، حتى يَجزع المسْعَى، ثم يسلك بين دار عباس بن عبد المطلب ، وبين دار ابن أزهر بن عبد عَوْف الزهري ، ثم على دار الأخنس بن شَرِيق ، حتى يدخل بيته. وكان مسكنُه صلى اللّه عليه وسلم في الدار الرَّقْطاء، التي كانت بيدي معاوية بن أبي سفيان. قال عمر رضي اللّه عنه : فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس ، ودار ابن أزهر، أدركتُه ، فلما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حسي عَرَفنى، فظن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أني إنما تبعته لأوذيه فنهمنى

ثم قال : ما جاء بك يا بن الخطاب هذه الساعة؟

قال : قلت : لأومن باللّه وبرسوله ، وبما جاء به من عنداللّه

قال : فحمد اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

ثم قال : قد هداك اللّه يا عمر، ثم مسح صدري ، ودعا لي بالثبات ، ثم انصرفتُ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ودخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيته.

قال ابن إسحاق ، واللّه أعلم أي ذلك كان.

ثبات عمر في إسلامه

قال ابن إسحاق : وحدثني نافع مولى عبداللّه بن عمر، عن ابن عمر

قال : لما أسلم أبى: عمر

قال : أي قريش أنقل للحديث ؟ فقيل له : جميل بن مَعْمر الجُمحي.

قال :

فغدا عليه. قال عبداللّه بن عمر: فغدوت أتبع أثره ، وأنظر ما يفعل ، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت ، حتى جاءه ،

فقال له : أعلمت يا جميل أنى قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟

قال : فواللّه ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، واتبعت أبي ، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، وهم في أنديتهم حول الكعبة، ألا إن عمر بن الخطاب قد صَبا.

قال : يقول عمر من خلفه : كَذَب ، ولكنى قد أسلمتُ ، وشهدتُ أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً عبده ورسوله. وثاروا إليه ، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم.

قال : وطلح ، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول : افعلوا ما بدا لكم ، فأحلف باللّه أن لو قد كنا ثلثمائة رجل لقد تركناها لكم ، أو تركتموها لنا،

قال : فبينما هم علىِ ذلك ، إذا أقبل شيخ من قريش ، عليه حُلة حبْرة، وقميص مُوَشى، حتى وقف عليهم ،

فقال : ما شأنكم ؟

قالوا: صبأ عمر؛

فقال : فمه ، رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي بن كعب يُسلمون لكم صاحبكم هكذا! خلّوا عن الرجل.

قال : فواللّه لكأنما كانوا ثوبا كُشط عنه.

قال : فقلت لأبى بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت ، من الرجل : الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت ، وهم يقاتلونك ؟

فقال : ذاك ، أي بُني ، العاص بن وائل السهمي.

قال ابن هشام : وحدثنى بعض أهل العلم ، أنه

قال : يا أبت ، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت ، وهم يقاتلونك جزاه اللّه خيرا.

قال : يا ابني ذلك ، العاص بن وائل ، لا جزاه اللّه خيراً.

قال ابن إسحاق : وحدثنى عبدُ الرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر، أو بعض أهله ،

قال : قال عمر: لما أسلمت تلك الليلة، تذكرتُ أيَّ أهل مكة أشد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت ؟ قال قلت : أبو جهل وكان عمر لَحَنْتَمة بنت هشام بن المغيرة

قال : فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه.

قال : فخرج إلىَّ أبو جهل ،

فقال : مرحباً وأهلا بابن أختى، ما جاء بك ؟ قلت جئت لأخبرك أنى قد آمنت باللّه وبرسوله ومحمد، وصدَّقت بما جاء به ؟

قال : فضرب الباب في وجهي

وقال : قبحك اللّه ، وقبح ما جئتَ به.

خبر الصحيفة

ائتمار قريش بالرسول

قال ابن إسحاق : فلما رأت قريش أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشىَّ قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عُمر قد أسلم ، فكان هو وحمزةُ بن عبد المطلب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، وجعل الإسلام يفشُو في القبائل ، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى المطّلب ، على أن لا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم ؛ فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم ، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عِكْرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.

قال ابن هشام :

ويقال : النضر بن الحارث. فدعا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فَشُلَّ بعضُ أصابعه.

من انحاز إلى أبي طالب ومن خرج عنه

قال ابن إسحاق ؛ فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب ابن عبد المطلب ، فدخلوا معه في شِعْبه واجتمعوا إليه ، وخرج من بني هاشم أبو لهب ، عبد العزى بن عبد المطلب ، إلى قريش ، فظاهرهم.

تهكم أبي لهب بالرسول وما نزل فيه من القران

قال ابن إسحاق : وحدثنى حُسَيْن بنُ عبداللّه : أن أبا لهب لقي هندَ بنت عُتبة بن ربيعة، حين فارق قومه ، وظاهر عليهم قريشاً

فقال : يا بنت عتبة؛ هل نصرتِ اللات والعزى، وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما؟

قالت : نعم : فجزاك اللّه خيراً يا أبا عتبة.

قال ابن إسحاق : وحُدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول : يعدنى محمد أشياءً لا أراها، يزعم أنها كائنة بعدَ الموت ، فماذا وضع في يديَّ بعد ذلك ، ثم ينفخ في يديه ويقول : تبّاً لكما ما أرى فيكما شيئاً مما يقول محمد.

فأنزل اللّه تعالى فيه : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد:١].

قال ابن هشام : تبت : خسرت. والتباب : الخسران. قال حبيب بن خُدْرة الخارجي : أحد بنى هلال بن عامر بن صعصعة :

يا طيب إنا في معشر ذهبت   مَسْعاتُهم فى التَّبارِ والتَّبَبِ

وهذا البيت في قصيدة له.

شعر أبي طالب في تظاهر قريش :

قال ابن إسحاق : فلما اجتمعت على ذلك قريش، وصنعوا فيه الذي صنعوا، قال أبو طالب :

ألا أبلغا عنى عَلَى ذاتِ بيننا   لُؤَيا وخُصَّا من لؤي بني كعبِ
ألم تعلموا أنا وجدنا محمـداً   نبيا كموسى خُطَّ في أول الكتبِ
وأن عليه في العبادِ محبــةً   ولا خيرَ ممن خصه اللّه بالحبِّ
وأن الذي ألصقتمُ من كتابِكـم   لَكُم كائنٌ نحساً كراغيةِ السَّقْبِ
أفيقوا أفيقوا قبلَ أن يُحْفَرَ الثرى ويصبحَ من لم يَجْنِ ذنباً كذي الذنْبِ
ولا تتبعوا أمرَ الوُشاةِ وتقطعوا   أواصرَنا بعدَ المودةِ والقُربِ
وتستجلبوا حرباً عواناً وربما   أمرّ على من ذاقه جَلبُ الحربِ
فلسنا وربِّ البيتِ أسلمُ أحمـداً   لعزَّاءَ مِن عضِّ الزمان ولاكَرْب
ولمَّا تَبِنْ منا ومنكم سوالــف   وأيدٍ أترَّت بالقُساسيَّةِ الشهْب
بمعتَركٍ ضَيْقٍ ترى كِسَرَ القَنَا   به والنسورَالطُّخْمَ يعكفن كالشَّرْبِ
كأن مجالَ الخيلِ في حَجَراتِـه   ومَعْمَعة الأبطالِ معركة الحربِ
أليس أبونا هاشم شـــدَّ أزرَهُ   وأوصى بنيه بالطِّعان وبالضربِ
ولسنا نَمَلُّ الحربَ حتى تَمَلَّنـا   ولا نشتكي ما قد ينوبُ من النَّكْبِ
ولكننا أهلُ الحفائِظ والنُّهَــى   إذا طار أرواحُ الكُماةِ من الرعْبِ
 فأقاموا على ذلك سنتين
أو ثلاثا، حتى جُهِدوا لا يصل إليهم شىء، إلا سرّاً

مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش.

أبو جهل يحكم الحصار على المسلمين

وقد كان أبو جهل ابن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خُوَيْلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خوَيلد، وهي عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ومعه في الشِّعْب ، فتعلق به

وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟ واللّه لا تبرحْ أنت وطعامُك حتى أفضحك بمكة.

فجاءه أبو البَخْتري بن هشام بن الحارث بن أسد،

فقال : ما لك وله ؟

فقال : يحمل الطعام إلى بني هاشم ؟ فقال أبو البَخْتري : طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلِّ سبيلَ الرجل؛ فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ أبو البخْتري لَحْي بعير فضربه به فشجه ، ووطئه وطأ شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك ، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، فيشمتوا بهم ، ورسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً، سرّاً وجهاراً، منادياً بأمر اللّه لا يتقى فيه أحداً من الناس.

ذكر ما لقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قومه من الأذى

ما نزل من القرآن في أبي لهب وامرأته حمالة الحطب

 فجعلت - قريش حين منعه اللّه منها، وقام عمُّه وقومه من بنى هاشم وبني المطلب دونَه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به ، يَهْمِزونه ويستهزئون به ويخاصمونه ، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم ، وفيمن نصب لعداوته منهم ، ومنهم من سَمى لنا، ومنهم من نزل فيه القران في عامة من ذَكر اللّه من الكفار، فكان ممن سُمي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبد المطلب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية، حمالة الحطب وإنما سماها اللّه تعالى حمالة الحطب لأنها كانت - فيما بلغني - تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث تمر،

فأنزل اللّه تعالى فيهما:

 { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ* وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } [المسد: ١ـ٥].

قال ابن هشام : الجِيد: العُنق ، قال أعْشَى بنىِ قَيْس بن ثعلبة:

يومَ تُبدي لنا قتيلةُ عن جيـ   دٍ أسيلٍ تزِينُه الأطواقُ

وهذا البيت في قصيدة له. وجمعه : أجياد. والمسَد: شجر يُدَق كما يُدَق الكتان فتفتل منه حبال. قال النابغة الذُّبياني ، واسمه زِياد ابن عَمرو بن ساوية :

مقذوفةٍ بدخيسِ النَّحْضِ بازِلُها   له صريف صريفَ القَعْوِ بالمَسدِ

وهذا البيت في قصيدة له ، وواحدته : مسدة.

أم جميل امرأة أبي لهب

قال ابن إسحاق : فذكر لي : أن أم جميل ، حمالة الحطب ، حين سمعت ما نزل فيها، وفي زوجها من القرآن ، أتت رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق ، وفي يدها فِهْر من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ اللّه ببصرِها عن رسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت : يا أبا بكر: أين صاحبُك ؟ فقد بلغني أنه يهجوني ، واللّه لو وجدتُه لضربتُ بهذا الفِهْرِ فاه ، أما واللّه إني لشاعرة،

ثم قالت :

مُذَمماً عَصَينا   وأمرَه أبَينا
ودينَه قَلَيْنَا

ثم انصرفت ، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه أما تراها رأتك ؟

فقال : ما رأتنى. ؟ لقد أخذ اللّه ببصرِها عني.

قال ابن هشام : قولها " ودينَه قلَيْنا " عن غير ابن إسحاق.

قال ابن إسحاق : وكانت قريش إنما تُسمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مُذمما، ثم يسبونه ، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : " ألا تعجبون لِما صرف اللّه عنى أذى قريش، يسبون مُذمما، وأنا محمدٌ ".

إيذاء أمية بن خلف للرسول

وأمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جُمَح ، كان إذا رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هَمزه ولَهمزه ،

فأنزل اللّه تعالى فيه : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نَارُ اللّه الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: ١ـ٩]

قال ابن هشام : الهُمزة : الذي يشتم الرجلَ علانية، ويُكسر عينيه عليه ، ويَغْمِز به ، قال حسان بن ثابت :

همْزُتُك فاختُضِعْتَ لذلِّ نفسٍ   بقافيةٍ تَأجَّجُ كالشُّوَاظِ

وهذا البيت في قصيدة له ، وجمعه : همزات ، واللُّمَزَة: الذي يعيب

الناس سرّاً ويُؤْذيهم.

قال رؤبة بن العجاج :

في ظلِّ عَصْرَيْ باطلى ولمزي

وهذا البيت في أرجوزة له ، وجمعه : لمزات.

إيذاء العاص الرسول صلى اللّه عليه وسلم وما نزل فيه من قرآن :

قال ابن إسحاق : والعاص بن وائل السَّهْمي ، كان خَبَّاب بن الأرَتّ ، صاحبُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قيناً بمكة يعمل السيوف ، وكان قد باع من العاص ابن وائل سيوفاً عملها له حتى كان له مال ، فجاءه يتقاضاه فقال له يا خباب : أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب ، أو فضة، أو ثياب أو خدم ؟

قال خَباب : بلى.

قال : فأنظرنى إلى يوم القيامةِ يا خَباب ، حتى أرْجعَ إلى تلك الدار فأقضيَك هناك حقَّك ، فواللّه لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند اللّه مني ، ولا أعظم حظّاً في ذلك ؛

فأنزل اللّه تعالى فيه : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ } [مريم: ٧٧،٧٨] ألى قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا }.[مريم: ٨٠]

إيذاء أبي جهل الرسول

ولقى أبو جهل بن هشام رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغني -

فقال له : واللّه يا محمدُ، لتتركنَّ سبَّ آلهتنا، أو لنسبنَّ إلهك الذي تعبد.

فأنزل اللّه تعالى فيه : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: ١٠٨] فذكر لي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كف عن سب آلهتهم ، وجعل يدعوهم إلى اللّه.

إيذاء النضر الرسول : والنضر بن الحارث بن علقمة بن كَلدَة ابن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصي ، كان إذا جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجلسا، فدعا فيه إلى اللّه تعالى وتلا فيه القرآن وحذر قريشاً ما أصاب الأممَ الخالية، خَلَفه في مجلسه إذا قام ، فحدثهم عن رُستم السنديد، وعن أسفنديار، وملوك فارس ، ثم يقول واللّه ما محمد بأحسن حديثا مني ، وما أحاديثُه إلا أساطير الأولين ، اكتتبها كما اكتتبتها.

فأنزل اللّه فيه : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.[الفرقان: ٥،٦] ونزل فيه : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.[القلم: ١٥] ونزل فيه : { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آيَاتِ اللّه تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.[الجاثية: ٧،٨]

قال ابن هشام : الأفاك : الكذاب. وفى كتاب اللّه تعالى : { أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ* وَلَدَ اللّه وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: ١٥١،١٥٢]

وقال رؤبة :

ما لامرئ أفَّك قولاً إفْكا

وهذا البيت في أرجوزة له.

قال ابن إسحاق : وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً - فيما بلغني

مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضْر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس ، وفى المجلس غيرُ واحد من رجال قريش، فتكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعرضَ له النضرُ بنُ الحارث ، فكلمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: ٩٨ـ١٠٠]

قال ابن هشام : حصب جهنم : كل ما أوقدت به. قال ، أبو ذُؤيب الهذلى، واسمه خوَيْلد بن خالد:

فأطفئ ولا توقد ولاتكُ مُحصباً  لنارِ العداةِ أن تطيرَ شداتها

وهذا البيت في أبيات له. ويروى " ولاتك محضئاً ". قال الشاعر: حضأت له ناري فأبصر ضوءَها وما كان لولا حضأةُ النارِ يهتدي ابن الزبعرى وما قيل فيه :

قال ابن اسحاق : ثم قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأقبل عبداللّه بن الزبعرى السَّهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبداللّه بن الزبعرى : واللّه ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ؛ فقال عبداللّه بن الزبعرى : أما واللّه لو وجدته لخصَمته ، فسلوا محمدا: أكل ما يعبد من دون اللّه في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم عليهما السلام فعجب الوليد، ومن كان معه في المجلس من قول عبداللّه بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم : فذُكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قول ابن الزبعرى : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "كل من أحب أن يُعبد من دون اللّه فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين ، ومن أمرتهم بعبادته ".

فأنزل اللّه تعالى عليه في ذلك : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ* لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: ١٠١،١٠٢] أي عيسى ابن مريم ، وعزيزاً، ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضوا على طاعة اللّه ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون اللّه.

 ونزل فيما يذكرون ، أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات اللّه : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ* لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.[الأنبياء: ٢٦،٢٧]. إلى قوله : { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.[الأنبياء: ٢٩].

ونزل فيما ذكروا من أمر عيسى ابن مريم أنه يعبد من دون اللّه ، وعَجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: ٥٧]: أي يصدون عن أمرك بذلك من قولهم.

ثم ذكر عيسى ابن مريم

فقال : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ* وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ* وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} :[الزخرف: ٥٩ــ٦١] أي ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام ، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول : { فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.

الأخنس وما أنزل فيه : والأخنس بن شَريق بن عمرو بن وهب الثقفى، حليف بني زُهرة، وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه ، فكان يصيبُ من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ويرد عليه ؛

فأنزل اللّه تعالى: { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}.[القلم: ١٠،١١].. إلى قوله تعالى : { زَنِيمٍ} ولم يقل : " زنيم " لعيب في نسبه ، لأن اللّه لا يعيب أحداً بنسب ، ولكنه حقق بذلك نعتَه ليُعرف. والزنيم :العديد للقوم. وقد قال الخَطِيم التميمىُّ في الجاهلية :

زنيمٌ تداعاه الرجالً زيادةً   كما زِيدَ في عرضِ الأديمِ الأكارعُ

الوليد وما أنزل فيه : والوليد بن المغيرة،

قال : أينْزل على محمد وأترَك وأنا كبير قريش وسيدُها! ويُترك أبو مسعود عمرو بن عُمير الثقفي سيد ثقيف ، ونحن عظيما القريتين !

فأنزل اللّه تعالى فيه ، فيما بلغني : { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.[الزخرف: ٣١].. إلى قوله تعالى: { مِمَّا يَجْمَعُونَ}.[الزخرف: ٣٢]

أبي بن خلف وعُقبة بن أبي مُعيط ، وما أنزل فيهما

وأبي ابن خلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح ، وعقبة بن أبى مُعيط ، وكانا متصافيين ، حَسَناً ما بينهما. فكان عقبة قد جلس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسمع منه ، فبلغ ذلك أبَيا، فأتى عقبة

فقال : ألم يبلغنى أنك جالستَ محمداً وسمعت منه !

قال : وجهى من وجهك حرام أن أكلِّمَك - واستغلظ من اليمين - إن أنت جلستَ إليه أو سمعت منه ، أو لم تأته فتَتْفل في وجهه. ففعل ذلك عدو اللّه عقبة بن أبي مُعيط لعنه اللّه

فأنزل اللّه تعالى فيهما: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}.[الفرقان: ٢٧] إلى قوله تعالى : { لِلْإِنسَانِ خَذُولًا}.[الفرقان: ٢٩]

ومشى أبَىُّ بن خلف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعظم بالٍ قد ارْفَتَّ

فقال : يا محمد، أنت تزعم أن اللّه يبعث هذا بعد ما أرَمَّ ، ثم فتَّه بيده ، ثم نفخه في الريح نحوَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: نعم أنا أقول ذلك ، يبعثه اللّه وإياك بعدما تكونان هكذا، ثم يدخلك اللّه النارَ.

فأنزل اللّه تعالى فيه : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُون} [يس: ٧٨ـ٨٠]

سورة ( الكافرون ) وسبب نزولها : واعترض رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يطوف بالكعبة - فيما بلغنى - الأسودُ بنُ المطلب بن أسَد ابن عبد العُزى، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي ، وكانوا ذَوي أسنان في قومِهم ،

فقالوا: يا محمد، هلمَّ فلنعبد ما تعبدُ، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظِّنا منه ، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد، كنت قد أخذت بحظِّك منه.

فأنزل اللّه تعالى فيهما: { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (٤) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: ١ـ٦] أي إن كنتم لا تعبدون اللّه ، إلا أن أعبد ما تعبدون ، فلا حاجة لي بذلك منكم لكم دينكم جميعاً، ولى دينى.

أبو جهل وما نزل فيه : وأبو جهل بن هشام ، لما ذكر اللّه عز وجل شجرةَ الزقوم تخويفاً بها لهم

قال : يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟

قالوا: لا ؛

قال :

عَجْوة يثرب بالزُّبد، واللّه لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقما.

فأنزل اللّه تعالى فيه : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: ٤٣ـ٤٦]: أي ليس كما يقول.

تفسير لفظ المهل :

قال ابن هشام المهل : كل شىء أذبته ، من نحاس أو رصاص أو ما أشبه ذلك ، فيما أخبرني أبو عُبيدة. وبلغنا عن الحسن البصري أنه

قال : كان عبداللّه بن مسعود واليا لعمر بن الخطاب على بيت مال الكوفة، وأنه أمر يوماً بفضة فأذيبت ، فجعلت تَلَوَّنُ ألواناً،

فقال : هل بالباب من أحد؟

قالوا: نعم ؛

قال : فأدخلوهم ، فأدخلوا

فقال : إن أدنى ما أنتم راءون شبها بالمهل لهذا. وقال الشاعر:

يسقيه ربى حميمَ المهلِ يجرعُه يشْوِي الوجوهَ فهو في بطنِه صَهِرُ

ويقال :إن المهل : صديد الجسد.

وقال عبداللّه بن الزبير الأسدي :

فمن عاش منهم عاش عبداً وِإن يمتْ ففي النارِ يُسقَى مهلها وصديدها

وهذا البيت في قصيدة له.

بلغنا أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه لما حُضر أمر بثوبين لبيسين يغْسَلان فيُكَفن فيهما، فقالت عائشة: قد أغناك اللّه يا أبت عنهما، فاشترِي كفناً،

فقال : إنما هي ساعة حتى يصير إلى المهل ، قال الشاعر:

شابَ بالماءِ منه مُهلاً كَريها  ثم علَّ المتونَ بعدَ النِّهالِ

قال ابن إسحاق :

فأنزل اللّه تعالى فيه : { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: ٦٠]

ابن أم مكتوم والوليد وسورة عبس : ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكلمه ، وقد طمع في إسلامه ، فبينا هو في ذلك ، إذ مر به ابنُ أمِّ مكتوم الأعمى، فكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجعل يستقرئه القرآنَ ، فشق ذلك منه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أضجره ، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه. فلما أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه.

فأنزل اللّه تعالى عليه فيه : { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}.[عبس: ١،٢] إلى قوله تعالى: { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: ١٣،١٤] أي إنما بعثتك بشيراً ونذيرا، لم أخص بك أحداً، فلا تمنعْه ممن ابتغاه ، ولا تتصدين به لمن لا يريده.

العائدون من أرض الحبشة

قال ابن إسحاق : وبلغ أصحابَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، الذين خرجوا إلى أرض الحبشة، إسلامُ اًهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك ، حتى إذا دَنَوْا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفياً.

من عبد شمس : فكان ممن قدم عليه مكةَ منهم ، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد معه بدراً ومن حبس عنه حتى فاته بدر وغيره ، ومن مات بمكة منهم من بنى عبد شمس بن عبد مناف ابن قصي : عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، معه امراًته : رقية بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وأبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة ابن عبد شمس ، وامرأته سَهلة بنت سُهَيْل.

ومن حلفائهم : عبداللّه بن جحش بن رئاب.

من نوفل : ومن بني نوفل بن عبد مناف : عُتبة بن غَزْوان ، حليف لهم ، من قيس عيلان.

من أسد: ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قُصى : الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد.

من عبد الدار: ومن بنى عبد الدار بن قصي : مُصْعَب بن عُمَير ابن هاشم بن عبد مناف ، وسُوَيْبط بن سعد بن حريملة.

من عبد: ومن بنى عبد بن قصى : طُلَيب بن وهب بن عبد.

 من زهرة : ومن بني زهرة بن كلاب : عبدُ الرحمن بن عَوْف ابن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة. والمقداد بن عَمرو، حليف لهم ، وعبداللّه بن مسعود، حليف لهم.

من مخزوم : ومن بنى مخزوم بن يَقَظة : أبو سَلمة بن عبد الأسد ابن هلال بن عبداللّه بن عَمرو بن مخزوم ، معه امرأته : أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة، وشمَّاس بن عثمان بن الشَّريد بن سُوَيد بن هَرْمِى بن عامر بن مخزوم. وسلمة بن هشام بن المغيرة، حبسه عمه بمكة، فلم يقدم إلا بعد بدر وأحد والخندق ، وعَيَّاش بن أبي ربيعة ابن المغيرة، هاجر معه إلى المدينة، ولحق به أخواه لأمه : أبو جهل ابن هشام ، والحارث بن هشام ، فرجعا به إلى مكة فحبساه بها حتى مضى بدر وأحد والخندق.

ومن حلفائهم : عمار بن ياسر، يُشَكُّ فيه أكان خرج إلى الحبشة

أم لا؟ ومُعَتِّب بن عوف بن عامر من خزاعة.

من جمح : ومن بنى جُمَح بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب : عثمان ابن مَظْعون بن حبيب بن وهْب بن حُذافة بن جُمَح. وابنه السائب ابن عثمان ، وقدامة بن مظعون ، وعبداللّه بن مظعون.

من سهم : ومن بني سهم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب : خُنَيس ابن حذافة بن قيس بن عدي ، وهشام بن العاص بن وائل ، حبس بمكة بعد هجرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة حتى قدم بعد بدر وأحد والخندق.

من عدي : ومن بنى عدي بن كعب : عامر بن ربيعة، حليف لهم ، معه امرأته : ليلى بنت أبي حَثْمة بن حذافة بن غانم.

من عامر: ومن بنى عامر بن لؤي : عبداللّه بن مَخْرمَة بن عبد العُزى بن أبى قيس. وعبداللّه بن سُهَيْل بن عمرو، وكان حُبس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، حتى كان يوم بدر، فانحاز من المشركين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فشهد معه بدراً، وأبو سَبْرة بن أبي رُهْم بن عبد العُزى، معه امرأته : أم كلثوم بنت سُهيل بن عمرو، والسكران بن عمرو بن عبد شمس ، معه امرأته : سَوْدة بنت زَمْعة ابن قيس ، مات بمكة قبل هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة، فخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على امرأته سَوْدة بنت زَمْعة.

ومن حلفائهم : سعد بن خولة.

من الحارث : ومن بنى الحارث بن فِهر: أبو عُبَيدة بن الجراح ، وهو عامر بن عبداللّه بن الجراح ، وعمرو بن الحارث بن زُهير بن أبى شداد، وسُهَيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال ، وعمرو بن أبي سَرْح بن ربيعة بن هلال.

فجميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا.

من دخل مكة بجوار من مهاجري الحبشة : فكان من دخل منهم بجوار، فيمن سُمي لنا: عثمان بن مظعون بن حبيب الجُمحى، دخل بجوار من الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم ، دخل بجوار من أبى طالب بن عبد المطلب وكان خاله. وأم أبي سلمة : بُرَّة بنت عبد المطلب.

عثمان بن مظعون يرد جوار ،الوليد:

قال ابن إسحاق : فأما عثمانُ بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان ،

قال : لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة،

قال : واللّه إن غُدُوِّي ورواحى آمنا بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابي وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى في اللّه ما لا يصيبني ، لنقصٌ كبير فيِ نفسي. فمشى إلى الوليد بن المغيرة، فقال له يا أبا عبد شمس ، وفتْ ذمتُك ، قد رددتُ إليك جوارَك ،

فقال له : يا بن أخى لعله آذاك أحد من قومي ؟

قال : لا ولكني أرضى بجوار اللّه ، ولا أريد أن أستجير بغيره ؟

قال : فانطلق إلى المسجد، فاردد علىَّ جواري علانيةً كما أجرتُك علانية.

قال : فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يردَّ علىّ جواري ،

قال : صدق ، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكنى قد أحببت أن لا أستجير بغير اللّه ، فقد رددت عليه جوارَه ، ثم انصرف عثمان ، ولبيد ابن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في مجلس من قريش ينشدهم ، فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد:

* ألا كل شيءٍ ما خلا اللّه باطلُ *

قال عثمان : صدقت. قال لبيد:

" وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ "

قال عثمان : كذبت ، نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد بن ربيعة : يا معشر قريش، واللّه ما كان يُؤذَى جليسكم ، فمتى حدث هذا فيكم ؟ فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله ، فرد عليه عثمان حتى شَرِيَ أمرُهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينَه فخضَّرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان ،

فقال : أما واللّه يابن أخي كانت عينُك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمةٍ منيعة.

قال : يقول عثمان : بل واللّه إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في اللّه ، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد: هلم يابن أخى، إن شئت فعد إلى جوارك ،

فقال : لا.

 أبو سلمة في جوار أبي طالب :

قال ابن إسحاق :

وأما أبو سَلَمة بن عبد الأسد، فحدثنى أبى : إسحاقُ بن يَسار عن سَلمة بن عبداللّه بن عمر بن أبى سلمة أنه حدثه : أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب ، مشى إليه رجال من بنى مخزوم ،

فقالوا: يا أبا طالب ، لقد منعتَ منا ابنَ أخيك محمداً، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟

قال : إنه استجار بى، وهو ابن أختي ، وإن أنا لم أمنع ابنَ أختي لم أمنع ابنَ أخى، فقام أبو لهب

فقال : يا معشر قريش ، واللّه لقد أكثرتم على هذا الشيخ ، ما تزالون تتواثبون عليه في جوارِه من بين قومه ، واللّه لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كلِّ ما قام فيه ، حتى يبلغ ما أراد.

قال :

فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبةَ، وكان لهم وليا وناصرا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأبقوا على ذلك ، فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول ، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال أبو طالب يحرِّض أبا لهب على نُصرتِه ونصرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

وإن امرأً أبو عُتَيْبة عَمُّــــه   لفي روضةٍ ما إن يُسامُ المَظالمَا
أقول له ، وأين منه نصيحتــي   أبا مُعْتب ثبتْ سوادَك قائمَا
ولا تقبلنَّ الدهرَ ما عشتَ خُطـةً   تُسَب بها إما هَبطت المواسما
وولِّ سبيلَ العجزِ غيرَك منهــمُ   فإنك لم تُخلَقْ على العجزِ لازما
وحاربْ فإن الحربَ نُصْف وما ترى أخا الحربِ يُعطى الخسْفَ حتى يُسالما
وكيف ولم يَجْنُوا عليكَ عظيمـةً   ولم يخذلوك غانماً أو مُغارِما
جزى اللّه عنا عبدَ شمسٍ ونَوْفـلاً   وتَيْماً ومخزوماً عُقوقا ومأثما
بتفريقِهم من بعدِ وُد وألفَـــةٍ   جماعتنا كيما ينالوا المحارِما
كذبتم وبيتِ اللّه نُبزَى محمداً   ولما تَرَوْا يوماً لدى الشِّعْب قائما

قال ابن هشام : نبزى : نسلب.

قال ابن هشام : وبقى منها بيت تركناه.

 دخول أبى بكر في جوار ابن الدغنة ثم رده عليه :

قال ابن إسحاق :

وقد كان أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ، كما حدثني محمد بن مُسلم الزهري عن عُروة عن عائشة رضى اللّه عنهما، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الهجرة فأذن له ، فخرج أبو بكر مهاجراً، حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين ، لقيه ابن الدُّغُنَّة، أخو بني عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد الأحابيش.

قال ابن إسحاق : والأحابيش: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خُزيمة بن مُدركة، وبنو المصطلق من خزاعة.

قال ابن هشام : تحالفوا جميعاً، فسُموا الأحابيش للحلف.

ويقال : ابن الدّغينة.

قال ابن إسحاق : حدثني الزهري ، عن عروة، عن عائشة رضى اللّه عنها

قالت : فقال ابن الدُّغُنة: أين يا أبا بكر؟

قال : أخرجني قومى وآذونى، وضيقوا عليَّ ،

قال : ولمَ ؟ فواللّه إنك لتَزين العشيرة، وتعين على النوائب ، وتفعل المعروف ، وتُكعبِ المعدوم ، ارجع فأنت في جواري. فرجع معه ، حتى إذا دخل مكة، قام ابن الدُّغنة

فقال : يا معشر قريش؛ إني قد أجرت ابن أبى قحافة، فلا يعرضنَّ له أحد إلا لِخير.

قالت : فكفوا عنه.

قالت : وكان لأبى بكر مسجد عند باب داره في بني جُمَح ، فكان يصلى فيه ، وكان رجلا رقيقا؟ إذا قرأ القرآن استبكى.

قالت : فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء، يعجبون لما يرَوْن من هيئته.

قالت : فمشى رجال من قريش إلى ابن الدُّغنَّة،

فقالوا: يابن الدغنة، إنك تُجِيرُ هذا الرجل ليؤذيَنا! إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكى؛ وكانت له هيئة ونحو؛ فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم ؛ فأته فمرْه أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء.

قالت : فمشى ابن الدغنة إليه؛

فقال له : يا أبا بكر؛ إني لم أجرْك لتؤذي قومَك ؛ إنهم قد كرهوا مكانَك الذي أنت فيه وتأذوا بذلك منك ، فادخل بيتك ، فاصنع فيه ما أحببت

قال : أوَأرد عليك جوارَك وأرضى بجوار اللّه ؟ قال فارددْ علىَّ جواري ؛

قال : قد رددته عليك قالت. فقام ابن الدُّغنَّة، فقال ، يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد ردَّ عليَّ جواري فشأنكم بصاحبكم.

قال ابن إسحاق : وحدثنى عبدُ الرحمن بن القاسم ، عن أبيه القاسم ابن محمد،

قال : لقيه سفيه من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه تراباً.

قال : فمرَّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل.

قال : فقال أبو بكر: ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه ؟

قال : أنت فعلتَ ذلك بنفسك.

قال : وهو يقول : أي رب ، ما أحلمك ! أي رب ، ما أحلمك ! أي رب ، ما أحلمك !.

حديث نقض الصحيفة

هشام بن عمرو يسعى في نقض الصحيفة

قال ابن إسحاق : وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش علي بنى هاشم وبنى المطلب نفرٌ من قريش، ولم يُبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حُبيب بن نصر بن جُذَيمة بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي ، وذلك أنه كان ابن أخيٍ نَضْلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه ، فكان هشام لبنى هاشم واصلا، وكان ذا شرف في قومه ، فكان - فيما بلغني - يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشِّعْب ليلاً، قد أوقره طعاماً حتى إذا أقبل به فم الشِّعْب خلع خطامه من رأسه ، ثم ضرب على جنبه ، فيدخل الشِّعْب عليهم ثم يأتى به قد أوقره بزاً أو براً، فيفعل به مثل ذلك.

قال ابن إسحاق : ثم إنه مشى إلى زُهير بن أبى أمية بن المغيرة ابن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم. وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ،

فقال : يا زُهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثيابَ ، وتَنكح النساء، وأخوالُك حيث قد علمتَ ، لا يُباعون ولا يُبتاع منهم ، ولا يَنكحون ولا يُنكح إليهم ؟ أما إني أحلف باللّه أن لو كانوا أخوالَ أبي الحكم بن هشام ، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ، ما أجابك إليه أبدا،

قال : ويحك يا هشام ! فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد، واللّه لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضِها حتى أنقضَها،

قال : قد وجدت رجلا

قال : فمن هو؟

قال : أنا ، قال له زُهير: أبغنا رجلا ثالثا.

فذهب إلى المطْعِم بن عدي ،

فقال له : يا مُطعم أقد رضيتَ أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ! أما واللّه لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعا، قال ويحك ! فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد،

قال : قد وجدت ثانيا،

قال : من هو؟

قال : أنا،

فقال : أبغنا ثالثا.َ

قال : قد فعلت ،

قال : من هو؟

قال : زُهَير بن أبي أمية، قال أبغنا رابعا.

فذهب إلى البَخْتري بن هشام ، فقال له نحواً مما قال للمُطعم ابن عدي ،

فقال : وهل من أحد يعين على هذا؟

قال : نعم ،

قال : من هو؟

قال : زُهير بن أبى أمية، والمُطم بن عدي ، وأنا معك ، قال أبغنا خامسا.

فذهب إلى زَمْعَة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقَّهم ،

فقال له : وهل على هذا الأمر الذي تدعونى إليه من أحد؟

قال : نعم ،ثم سمَّى له القوم.

 فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك. فأجمعوا أمرَهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زُهير: أنا أبدؤكم ، فأكون أولَ من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم ، وغدا زُهير بن أبي أمية عليه حُلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس

فقال : يا أهلَ مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثيابَ ، وبنو هاشم هلْكَى لا يباع ولا يبتاع منهم ، واللّه لا أقعدُ حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

قال أبو جهل : وكان في ناحية المسجد: كذبتَ واللّه لا تُشق ، قال زَمْعة بن الأسود: أنت واللّه أكذب ، ما رضينا كتابها حيثُ كُتبت ، قال أبو البختري : صدق زَمعة، لا نرضى ما كُتب فيها، ولا نقرّ به ، قال المطعِم بن عدي : صدقتما وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى اللّه منها، ومما كُتب فيها، قال هشام بن عمرو نحوأ من ذلك. فقال أبو جهل : هذا أمر قُضِيَ بليلٍ ، تَشُووِر فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، فقام المطْعِم إلى الصحيفة ليشقَّها، فوجد الأرَضَة قد أكلتها، إلا " باسمك اللّهم".

شلت يد من كتب الصحيفة: وكان كاتب الصحيفة منصور ابن عكرمة. فشُلت يده فيما يزعمون.

إخباره عليه الصلاة والسلام بأكل الأرضة الصحيفة

قال ابن هشام : وذكر بعضُ أهل العلم : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي طالب :يا عم؛ إن ربي اللّه قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدعْ فيها اسما هو للّه إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان؛

فقال : أربُّك أخبرك بهذا؟

قال : نعم ،

قال : فواللّه ما يدخل عليك أحدٌ ، ثم خرج إلى قريش،

فقال : يا معشر قريش ، إن ابن أخى أخبرني بكذا وكذا، فهلمّ صحيفتكم ، فإن كان كما قال ابن أخى فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبا دفعت إليكم ابن أخى، فقال القوم : رضينا. فتعاقدوا على ذلك. ثم نظروا. فإذا هي كما قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فزادهم ذلك شرّاً. فعند ذلك صنع الرهْط من قريش في نقض الصحيفةِ ما صنعوا.

قال ابن إسحاق : فلما مُزقت الصحيفة وبطل ما فيها. قال أبو طالب ، فيما كان من أمر أولئك النفر الذين قاموا في نقضها يمدحهم :

ألا هل أتى بَحْرِيَّنا صُنْعُ ربنا على نأيهم واللّه بالناسِ أرْوَدُ
فيخبرهم أن الصحيفةَ مُزقت وأنْ كلُّ ما لم يَرْضه اللّه مُفسِد
تراوحها إفك وسحر مجمَّعٌ ولم يُلفَ سِحر آخر الدهر يَصْعَد
تداعى لها من ليس فيها بقرقر  فطائرها في رأسها يتردد
وكانت كفاء رقعة بأثيمــة  ليقطع منها ساعد ومقلد
ويَظْعنُ أهلُ المكَّتين فيهربوا   فرائصُهم من خشيةِ الشرِّ تَرْعَد
ويُتْرَك حَرَّات يقلب أمــرَه   أيتهِم منهم عند ذاك ويُنجِدُ
وتصعد بين الأخْشَبَيْن كتيبةٌ   لها حُدُج سهم وقوس ومِرْهد
فمن يَنَش من حضَّار مكة عزه   فعِزتنا في بطن مكة أتلدُ
نشأنا بها والناسُ فيها قلائـل   فلم ننْفكك نزداد خيراً ونُحمد
ونُطعم حتى يترك الناسُ فضلَهم   إذا جعلت أيدي المُفيضين ترعَد
جزى اللّه رهطاً بالحَجون تتابعوا   على ملإِ يهدي لحزم ويُرشِد
قُعوداً لدى خَطْمِ الحَجون كأنهم   مقاولةٌ بل هم أعزُّ وأمجدُ
أعان عليها كلُّ صقر كأنــه إذا ما مشى في رَفْرفِ الدرعِ أحردُ
جرى على جُلَّى الخطوبِ كأنه   شِهاب بكَفّيْ قابسٍ يتوقدُ
من الأكرمين من لُؤيِّ بن غالب   إذا سِيم خسفاً وجهُه يتربَّدُ
طويلُ النِّجاد خارجٌ نصف ساقِه   على وجهِه يُسْقَى الغَمامُ ويُسْعَد
عظيمُ الرمادِ سيدٌ وابنُ سيــدٍ   يَحُضُّ على مَقرَى الضيوفِ ويحْشِدُ
ويبني لأبناءِ العشيرةِ صالحـاً   إذا نحن طُفنا في البلادِ ويَمْهَدُ

ألَظَّ بهذا الصِلح كل مُبـــــَرإ   عظيم اللواء أمره ثَمَّ يُحمدُ
قَضَوْا ما قَضَوْا في ليلهم ثم أصبحوا   على مَهَلٍ وسائر الناس رُقَّدُ
همُ رَجعوا سهلَ بنَ بيضاء راضيـاً   وسُر أبو بكر بها ومحمدُ
متى شُرك الأقوامُ في جُل أمرِنــا   وكنا قديماً قبلَها نتوددُ
وكنا قديما لا نقِرُّ ظلامـــــةً   وندرك ما شئنا ولا نتشددُ
فيا لَقُصيُّ هل لكم في نفوسِكــم   وهل لكم فيما يجيءُ به غد
فإني وإياكم كما قال قائــــل   لديك البيانُ لو تكلمت أسودُ

ما رثى به حسان المطعم بن عدي وذكره نقضه الصحيفة

وقال حسان بن ثابت : يبكى المطْعِم بن عدي حين مات ، ويذكر قيامه في نقض الصحيفة :

أيا عينُ فابكي سيدَ القومِ واسفحي   بدمعٍ وإن أنزَفْتِه فاسكبي الدمَا
وبكِّى عظيمَ المُشعرين كليْهمـا   على الناس معروفاً له ما تكلما
فلو كان مجدٌ يُخلد الدهرَ واحـداً   من الناسِ ،أبقى مجدُه اليومَ مُطْعِمَا
أجرتَ رسولَ اللّه منهم فأصبحوا   عبيدَك ما لي مُهلّ وأحْرَمَا
فلو سُئلتْ عنه مَعَدٌّ بأسرِهـــا   وقحطانُ أو باقي بقيةِ جُرْهُمَا
لقالوا هو الموفِي بخُفْرَةِ جــاره   وذمتُه يوماً إذا ما تذمَّما
فما تطلعُ الشمسُ المنيرةُ فوقَهـمٍ   على مثلِه فيهم أعَزَّ وأعظمَا
وآبَى إذا يأبى وألْينَ شيمـــة   وأنومَ عن جار إذا الليلُ أظلما

قال ابن هشام : قوله "كليهما " عن غير ابن إسحاق.

قال ابن هشام :

وأما قوله : " أجرْت رسول اللّه منهم "، فإن رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف ، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، من تصديقه ونصرته ، صار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره ،

فقال : أنا حليف ، والحليف لا يجير. فبعث إلى سُهيل ابن عمرو،

فقال : إن بنى عامر لا تجير على بني كعب. فبعث إلى المطْعِم بن عدي فأجابه إلى ذلك ، ثم تسلح المطعم وأهلُ بيته ، وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أدخل ، فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فطاف بالبيت وصلى عنده ، ثم انصرف إلى منزله. فذلك الذي يعني حسان بن ثابت.

حسان يمدح هشام بن عمرو لقيامه في نقض الصحيفة

قال ابن إسحاق : وقال حسانُ بن ثابت أيضا: يمدح هشام بن عمرو لقيامه في الصحيفة :

هل يُوفينَّ بنو أميةَ ذمةً من معشر   عَقْداً كما أوْفَى جِوارُ هشام
من معشر لا يَغْدِرون بجارِهم   للحارث بن حُبَيِّب ابن سُخَام
وإذا بنو حِسْلٍ أجاروا ذمةً  أوفَوْا وأدَّوْا جارَهم بسلاَمَ

وكان هشام أحد سُحام.

قال ابن هشام :

ويقال : سخام.

إسلام الطفيل بن عمرو الدَّوْسي

قريش تحذره من استماعه للرسول

قال ابن إسحاق : وكان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على ما يرى من قومه ، يبذل لهم النصيحة، ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه. وجعلت قريش ، حين منعه اللّه منهم يحذِّرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب.

وكان الطُّفَيْل بن عَمرو الدوسي يحدث : أنه قدم مكةَ ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش ، وكان الطُّفيل رجلا شريفاً شاعراً لبيباً، فقالوا له : يا طفيل ، إنك قدمت بلادَنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضَل بنا، وقد فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وإنما قوله كالسحرِ يفرِّق بين الرجلِ وبينَ أبيه ، وبينَ الرجلِ وبين أخيه ، وبين الرجل وبين زوجتِه ، وإنا نخشى عليك وعلى قومِك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنَّه ولا تسمعنَّ منه شيئا.

استماعه للرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال : فواللّه ما زالوا بي حتى أجمعتُ أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه ، حتى حشوتُ في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً فَرَقاً من أن يبلغني شىء من قوله ، وأنا لا أريد أن أَسمعَه.

قال : فغدوْت إلى المسجدِ، فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائمٌ يصلى عند الكعبة.

قال : فقمت منه قريباً، فأبى اللّه إلا أن يسمعني بعضَ قولِه.

قال : فسمعت كلاماً حَسَناً.

قال : فقلتُ في نفسي : واثُكْلَ أمي، واللّه إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علىَّ الحسنُ من القبيح ، فما يمنعني أن أسمعَ من هذا الرجل ما يقول ! فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته ، وإن كان قبيحاً تركته.

إسلام الطفيل

قال : فمكثت حتى انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بيته فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه ،

فقلت : يا محمد، إن قومَك قد قالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا ؛ فواللّه ما بَرحوا يخوِّفونني أمرَك حتى سَددت أذني بكُرْسُف لئلا أسمعَ قولك ، ثم أبي اللّه إلا أن يُسمعني قولَك ، فسمعته قولاً حسناً، فاعرض عليَّ أمرَك.

قال : فعرض علىَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإسلامَ ، وتلا علىَّ القرآن ، فلا واللّه ما سمعت قولاً قطُّ أحسنَ منه ، ولا أمراً أعدلَ منه.

قال : فأسلمتُ وشهدت شهادة الحقِّ ،

وقلت : يا نبي اللّه ، إني امرؤ مطاعٌ في قومي وأنا راجع إليهم ، وداعيهم إلى الإِسلام ، فادعُ اللّه أن يجعلَ لي آيةً تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه

فقال : اللّهم اجعلْ له آيةً.

 آية للطفيل ليصدقه قومه :

قال : فخرجتُ إلى قومي ، حتى إذا كنت بِثَنيَّة تُطلعني على الحاضر وقع نور بين عينيَّ مثل المصباح ؛

فقلت : اللّهم في غير وجهي ، إني أخشى أن يظنوا أنها مُثْلةٌ وقعتْ في وجهي لفراقي دينَهم

قال : فتحول فوقع في رأس سوطي.

قال : فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سَوْطي كالقنديل المعلَّق ، وأنا أهبط إليهم من الثَّنيةِ،

قال : حتى جئتُهم فأصبحتُ فيهم.

 إسلام والد الطُّفيل وزوجه :

قال : فلما نزلت أتاني أبي ، وكان شيخاً كبيراً،

قال :

فقلت : إليكَ عنى يا أبت ، فلستُ منك ولستَ منى

قال : ولم يا بنى؟

قال : قلت : أسلمتُ وتَابعت دين محمد صلى اللّه عليه وسلم :

قال : أي بني ، فديني دينُك ؛

قال :

فقلت : فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت.

قال : فذهب فاغتسل ، وطهر ثيابه.

قال : ثم جاء فعرضت عليه الإسلام ، فأسلم.

قال : ثم أتتني صاحبتي ،

فقلتُ : إليك عنى، فلستُ منك ولستِ مني ؟

قالت : لم ؟ بأبي أنت وأمي؟

قال : قلت : قد فرق بيني وبينَك الإِسلامُ ، وتابعتُ دينَ محمد صلى اللّه عليه وسلم ؛

قالت : فديني دينك ؛

قال : قلت : فاذهبي إلى حِنَا ذِي الشَّرَى -

قال ابن هشام :

ويقال : حِمَى ذي الشَّرَى - فتطهري منه.

قال : وكان ذو الشرى صنماً لدوس ، وكان الحمى حمى حموه له ، وبه وَشَل من ماء يهبط من جبل.

قال : فقالت : بأبي أنت وأمي، أتخشى على الصِّبْية من ذي الشرى شيئاً؟

قال : قلت : لا، أنا ضامن لذلك ، فذهبتْ فاغتسلت ، ثم جاءت فعرضتُ عليها الإِسلام ، فأسلمت.

دعاؤه قومه للإِسلام

ثم دعوت دَوْساً إلى الإِسلام ، فأبطئوا علىَّ، ثم جئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة فقلت له : يا نبى اللّه ، إنه قد غلبنى على دوس الزِّنا، فادعُ اللّه عليهم ؟

فقال : اللّهم اهدِ دوساً، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم.

قال : فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإِسلام حتى هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق ، ثم قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دَوْس ، ثم لحقنا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين.

ثم لم أزل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حتى إذا فتح اللّه عليه مكة،

قال : قلت يا رسول اللّه ، ابعثني إلى ذي الكفين ، صنم عَمرو بن حُمَمة حتى أحرقه.

إحراق صنم ذي الكفين :

قال ابن إسحاق : فخرج إليه ، فجعل طفيل يوقد عليه النار ويقول :

يا ذا الكفين لستُ من عبادِكا  ميلادُنا أقدمُ من ميلادِكا
إني حشوتُ النارَ في فؤادِكا

جهاده معه صلى اللّه عليه وسلم وموته :

قال : ثم رجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فكان معه بالمدينة حتى قبض اللّه رسولَه صلى اللّه عليه وسلم ، فلما ارتدت العرب ، خرج مع المسلمين ، فسار معهم حتى فرغوا من طُلَيْحة، ومن أرض نجد كلها. ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة، ومعه ابنه عمرو بن الطفيل ، فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة، فقال لأصحابه : إني قد رأيت رؤيا فاعبرُوها لي، رأيت أن رأسي حُلق ، وأنه خرج من فمىٍ طائر، وأنه لقيتنى امرأة فأدخلتني في فرجِها، وأرى ابنى يطلبني حثيثا ثم رأيته حُبس عنى؛

قالوا: خيرا؛

قال : أما أنا واللّه فقد أولتها:

قالوا: ماذا؟

قال : أما حلق رأسي فوضعه ،

وأما الطائر الذي خرج من فمى فروحى،

وأما المرأة التي أدخلتني فرجها فالأرض تُحفر لي، فأغيب فيها،

وأما طلب ابنى إياي ثم حبسه عنى، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابنى. فقُتل رحمه اللّه شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبل منها، ثم قتل عام اليرموك في زمن عمر رضي اللّه عنه شهيدا.

قصة أعشى بني قيس بن ثعلبة

قدومه على الرسول ومدحه

قال ابن هشام : حدثني خلاد ابن قُرَّة بن خالد السُّدوسى وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم : أن أعشى بنى قيس بن ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ، خرج إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد الإسلام ، فقال يمدح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

ألم تغتمضْ عيناك ليلةَ أرمدَا  وبِتَّ كما بات السليمُ مُسهَّدَا
وما ذاك من عشقِ النساءِ وإنما   تناسيتَ قبلَ اليوم خلةَ مهدداَ
ولكن أرى الدهرَ الذي هو خائن   إذا أصلحتْ كفاى عاد فأفسدَا
كُهولاً وشبانا فقدت وثـــروة   فللّه هذا الدهرُ كيف ترددَا
وما زلت أبغي المالَ مذ أنا يافع   وليداً وكهلاً حين شبتُ وأمْردَا
وأبتذلُ العِيسَ المراقيلَ تُغْتلـي   مسافةَ ما بينَ النُّجَيْر فصَرْخَدا

ألا أيهذا السائلى أين يَمَّمـــتْ  فإن لها في أهلِ يثربَ مَوْعدَا
فإن تسألي عني فيا رُبّ سائــلٍ   حَفِى عن الأعشى به حيثُ أصعدا
أجدَّتْ برجليها النجاءَ وراجعـتْ   يداها خِنافاً ليناً غيرَ أحْردَا
[١]
وفيها إذا ما هجَّرَت عَجْرَفِيَّــة   إذا خِلْتَ حَرْباءَ الظهيرةِ أصْيدَا
[٢]
فآليتُ لا أرثى لها من كُلالــةٍ  ولا من حَفًى حتى تُلاقي محمدَا
[٣]
متى ما تُنَاخِي عندَ بابِ ابنَ هاشم   تُراحي وتَلْقَى من فواضلِه نَدَى
نبيُّا يرى ما لا تروْن وذِكْــرُه   أغار لَعَمْرِي في البلادِ وأنْجدَا
[٤]
له صدقات ما تغِبُّ ونائِـــل   وليس عطاءُ اليومِ مانعَه غدَا
[٥]
أجِدُّك لم تسمعْ وَصَاةَ محمــدٍ   نبىِّ الإِلهِ حيثُ أوْصَى وأشْهدَا
إذا أنت لم ترحلْ بزادٍ من التُّقَى   وِلاقيْتَ بعدَ الموتِ من قَد تَزَوَّدَا
ندمتَ على أن لا تكونَ كمثلِـه   فتُرْصِدُ للموتِ الذي كان أرْصَدا
فإياك والميتَاتِ لا تقربنَّهــــا   ولا تأخذَنْ سهماً حديداً لتُفْصِدَا
ولا النَّصَب المنصوب لا تنسكُنَّه   ولا تعبد الأوثانَ واللّه فاعبدا
ولا تَقْرَبنْ حُرَّةً كان سِرُّهـــا   عليك حراماً فانْكَحَنْ
أو تأبدَا
وذا الرحِمِ القُرْبَى فلا تَقْطعَنَّـه   لعاقبةٍ ولا الأسير المقيَّدَا
وسبِّح علِى حينِ العشياتِ والضُّحَى   ولا تَحْمَدِ الشيطانَ واللّه فاحمدَا
ولاتسْخرَنْ من بائسٍ ذي ضَرارَةٍ   ولا تحسَبَنَّ المالَ للمرءِ مُخلِدَا

نهاية الأعشى

فلما كان بمكة أو قريبا منها، اعترضه بعضُ المشركين من قريش ، فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليسلم ،

فقال له : يا أبا بصير، إنه يحرِّم الزنا، فقال الأعشى: واللّه إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرَب ،

فقال له : يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر، فقال الأعشى: أما هذه فواللّه إن في النفس منها لعُلالات ، ولكنى منصرف فأتروَّى منها عامى هذا، ثم آتيه فأسْلم[٦] ، فانصرف فمات في عامه ذلك ، ولم يَعُدْ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

أبو جهل يُذل للرسول

قال ابن إسحاق : وقد كان عدو اللّه أبو جهل بن هشام مع عداوته لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبغضه إياه ، وشدته عليه ، يُذلُّه اللّه له إذا رآه.

أبو جهل والإِراشي

مماطلة أبي جهل الإِراشي

قال ابن إسحاق : حدثني عبدُ الملك بن عبد اللّه بن أبي سفيان الثقفى، وكان واعيةً،

قال : قدم رجل من إِرَاش -

قال ابن هشام : ويقال إراشة - بإبل له مكة، فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها. فأقبل الإراشي حتى وقف على نادٍ من قريش ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ناحية المسجد جالس ،

فقال : يا معشر قريش، من رجل يؤدينى على أبي الحكم بن هشام فإنى رجل غريب ، ابن سبيل ، وقد غلبنى على حقى؟

قال : فقال له أهل ذلك المجلس : أترى ذلك الرجل الجالس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهم يهزءون به لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه فإنه يؤديك عليه.

الرسول ينصف الإراشى من أبي جهل : فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

فقال : يا عبد اللّه إن أبا الحكم بن هشام قد غلبنى على حق لي قِبَلَه ، وأنا رجل غريب ابن سبيل ، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤدينى عليه ، يأخذ لي حقى منه ، فأشاروا لي إليك ، فخذ لي حقى منه ، يرحمك اللّه؛

قال : انطلقْ إليه ، وقام معه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما رأوه قام معه. قالوا لرجل ممن معهم : اتبَعْه ، فانظر ماذا يصنع.

قال : وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه.

فقال : من هذا؟

قال : محمد، فاخرج إلىَّ، فخرج إليه وما في وجهه من رائحة، قد انتُقع لونُه ،

فقال : اعط هذا الرجل حقه؛

قال : نعم ، لا تبرحْ حتى أعطيَه الذي له ،

قال : فدخل ، فخرج إليه

قال : ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال للإراشى الحق بشأنك ، فأقبل الإراشى حتى وقف على ذلك المجلس ،

فقال : جزاه اللّه خيراً، فقد واللّه أخذ لي حقي.

 ما خافه أبو جهل من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

قال : وجاء الرجل الذي بعثوا معه

فقالوا: ويحك ! ماذا رأيت ؟ قال عجباً من العجب واللّه ما هو إلا أن ضرب عليه بابَه ، فخرج إليه وما معه روِحُه

فقال له : أعط هذا حقه

فقال : نعم ، لا تبرح حتى أخرج إليه حقه. فدخل فخرج إليه بحقه ، فأعطاه إياه.

قال : ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء،

فقالوا: ويلك ! ما لك ؟ واللّه ما رأينا مثل ما صنعت قطُّ !

قال : ويحكم واللّه ما هو. إلا أن ضرب علىَّ بابي ، وسمعت صوته ، فملئت رعباً، ثم خرجت إليه ، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ، ما رأيت مثل هامته ، ولا قَصَرته ، ولا أنيابه لفحل قط ، واللّه لو أبيت لأكلني.

أمر ركانة المطلبي ومصارعته النبى صلى اللّه عليه وسلم

من معجزاته صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق: وحدثني أبي: إسحاق بن يسار قال: كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن أشد قريش؛ فخلا يوما برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ياركانة، ألا تتقى اللّه وتقبل ما أدعوك إليه؟ قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لا تبعتك؛ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أفرأيت إن صرعتك؛ أتعلم أن ما أقول حق؟ قال: نعم قال: فقم حتى أصارعك.

قال : فقام إليه ركانة يصارعه فلما بطش به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أضجعه، وهو لا يملك من نفسه شيئاً،

ثم قال: عد يا محمد ، فعاد فصرعه، فقال يا محمد واللّه إن هذا للعجب أتصرعنى؟! فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه ، إن اتقيت اللّه واتبعت أمري ؛

قال : ما هو؟

قال : أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتينى،

قال : ادعها، فدعاها، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

قال : فقال لها ارجعى إلى مكانك.

قال : فرجعت إلى مكانها.

قال : فذهب رُكانة إلى قومه

فقال : يا بنى عبد مناف ، ساحروا بصاحبكم أهلَ الأرض ، فواللّه ما رأيت أسحر منه قَطُّ ، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع.

قدوم وفد النصارى من الحبشة

أبو جهل يحاول ردهم عن الإسلام

قال ابن إسحاق : ثم قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو بمكة، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى اللّه عز وجل وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا للّه ، وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره ، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم : خيبكم اللّه من ركب ! بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسُكم عندَه ، حتى فارقتم دينَكم وصدقتموه بما قال ، ما نعلم ركْباً أحمق منكم. أو كما قالوا. فقالوا لهم : سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نألُ أنفسَنا خيراً.

ما نزل فيهم من القرآن

ويقال : إن النفر من النصارى من أهل نجران ، فاللّه أعلم أي ذلك كان. فيقال - واللّه أعلم - فيهم نزلت هؤلاء الآيات : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}.[القصص: ٥٢،٥٣]. إلى قوله : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}.[القصص: ٥٥]

قال ابن إسحاق : وقد سألت ابنَ شهاب الزهريَّ عن هؤلاء الآيات فيمن أنزلن فقال لي: ما أسمع من علمائنا أنهن أنزلن في النجاشي وأصحابه. والآية من سورة المائدة من قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}.[المائدة: ٨٢].. إلى قوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.[المائدة: ٨٣]

تهكم المشركين بالمستضعفين وما نزل في ذلك

قال ابن إسحاق : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا جلس في المسجد، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه : خَبَّاب ، وعمار، وأبو فَكيهة يسار مولى صفوان بن أمية بن مُحرّث ، وصُهَيب ، وأشباههم من المسلمين ، هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه ، كما ترون ؟ أهؤلاء مَنَّ اللّه عليهم من بيننا بالهدى والحق ! لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه ، وما خصهم اللّه به دوننا،

فأنزل اللّه تعالى فيهم : { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.[الأنعام: ٥٢ـ٥٤]

ادعاء المشركين أنه يعلمه بشر ورد القرآن عليهم

وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما بلغنى كثيراً ما يجلس عند المروة إلى مَبْيَعة غلام نصراني ، يقال له : جبر، عبد لبنى الحضرمي ، فكانوا يقولون : واللّه ما يعلم محمداً كثيراً مما يأتى به إلا جبر النصرانى، غلام بنى الحَضْرمى،

فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهم : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.[النحل: ١٠٣]

قال ابن هشام : يُلحِدون إليه : يميلون إليه. والإلحاد: الميل عن الحق. قال رؤبة بن العَجَّاج :

إذا تَبع الضحاكَ كُلُّ مُلْحِدِ

قال ابن هشام : يعنى الضحاك الخارجي ، وهذا البيت في أرجوزة له.

سبب نزول سورة الكوثر

نزول سورة الكوثر في العاص بن وائل

قال ابن إسحاق : وكان العاص بن وائل السَّهْمي - فيما بلغنى - إذا ذُكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قال : دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عَقِب له لو مات لا نقطع ذكرُه واسترحتم منه ،

فأنزل اللّه في ذلك : {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: ١] ما هو خير لك من الدنيا وما فيها والكوثر: العظيم.

معنى الكوثر

قال ابن إسحاق : قال لَبيد بن ربيعة الكِلأبي :

وصاحبُ مَلْحوبٍ فُجعنا بيومِه وعندَ الرداعِ بيتُ آخر كوثر

يقول : عظيم.

قال ابن هشام : وهذا البيت في قصيدة له. وصاحبُ ملحوبٍ : عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب ، مات بملحوب. وقوله : " وعند الرداع بيت آخر كوثر ": يعنى شُرَيح بن الأحْوص بن جعفر بن كلاب ، مات بالرّداع. وكوثر: أراد: الكثير. ولفظه مشتق من لفظ الكثير. قال الكُميت بن زيد يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان :

وأنت كثير يابنَ مروان طيب   وكان أبوك ابنَ العقائل كوْثرا

وهذا البيت في قصيدة له. وقال أمية بن أبي عائذ الهُذلي يصف حمار وحش :

يُحامي الحَقيقَ إذا ما احتدَمْن  وحَمْحَمْنَ في كوثر كالجِلال

يعنى بالكوثر: الغبار الكثير، شبهه لكثرته عليه بالجلال. وهذا البيت في قصيدة له.

قال ابن إسحاق : حدثني جعفر بن عمرو -

قال ابن هشام : هو جعفر بن عمرو بن أمية الضمْري - عن عبد اللّه بن مسلم أخى محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن أنس بن مالك

قال : " سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل له يا رسول اللّه : ما الكوثر الذي أعطاك اللّه ؟

قال : نهر كما بين صنعاء إلى أيْلة، آنيته كعدد نجوم السماء، ترده طيور لها أعناق كأعناق الإبل.

قال : يقول عمرُ بن الخطاب : إنها يا رسول اللّه لناعمة،

قال : آكلُها أنعم منها".

قال ابن إسحاق : وقد سمعت في هذا الحديث أو غيره أنه قال صلى اللّه عليه وسلم: من شرب منه لا يظمأ أبدا.

نزول { وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: ٨]

قال ابن إسحاق : ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومَه إلى الإِسلام ، وكلمهم فأبلغ إليهم ، فقال زَمَعَة بن الأسود، والنضْر بن الحارث ، والأسود ابن عبد يَغوث ، وأبيُّ بن خلف ، والعاص بن وائل : لو جُعل معك يا محمد مَلَك يحدث عنك الناس ويُرَى معك !

فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهم : { وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}.[الأنعام: ٨،٩] نزول { وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}

قال ابن إسحاق : ومر اللّه صلى اللّه عليه وسلم- فيما بلغنى - بالوليد ابن المغيرة، وأمية بن خلف وبأبي جهل بن هشام ، فهمزوه واستهزءوا به ، فغاظه ذلك.

فأنزل اللّه تعالى عليه في ذلك من أمرهم : {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام: ١٠].

ذكر الإِسراء والمعراج

قال ابن هشام : حدثنا زياد بن عبد اللّه البكائي ، عن محمد بن إسحاق المطلبي

قال : ثم أسْري برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو بيت المقدس من إيلياء وقد فشا الإسلام ، بمكة في قريش، وفي القبائل كلها.

قال ابن إسحاق : كان من الحديث فيما بلغني عن مَسراه صلى اللّه عليه وسلم ، عن عبد اللّه بن مسعود، وأبي سعيد الخدري ، وعائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ ومعاوية بن أبي سفيان ، والحسن بن أبي الحسن البصري ، وابن شهاب الزهري ، وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبي طالب ، ما اجتمع في هذا الحديث ، كل يحدِّث عنه بعض ما ذكر من أمرِه حين أسرى به صلى اللّه عليه وسلم، وكان في مسراه ، وما ذكر عنه بلاء وتمحيص ، وأمْر من أمر اللّه عز وجل في قدرته وسلطانه ، فيه عِبرة لأولي الألباب ، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق ، وكان من أمر اللّه سبحانه وتعالى على يقين ، فأسري به سبحانه وتعالى كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرتِه التي يَصنعُ بها ما يريد.

رواية ابن مسعود عن الإسراء

فكان عبد اللّه بن مسعود - فيما بلغنى عنه - يقول:

أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالبراق - وهى الدابة التي كانت تُحمل عليها الأنبياء قبلَه ، تضع حافرَها في منتهى طرفِها - فحُمل عليها، ثم خرج به صاحبُه ، يرى الآياتِ فيما بين السماءِ والأرض ، حتى انتهى إلى بيت المقدس ، فوجد فيه إبراهيمَ الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جُمعوا له ، فصلى بهم. ثم أتى بثلاثة آنية، إناء فيه لبن ، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء.

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فسمعت قائلا يقول حين عُرضتْ علي : إن أخذ الماء غرق وغرقت أمتُه ، وإن أخذ الخمر غَوي وغَوتْ أمتُه ، وإن أخذ اللبن هُدِىَ وهُديت أمتُه.

قال : فأخذتُ إناء اللبن ، فشربت منه ، فقال لي جبريل عليه السلام : هُديتَ وهُدِيت أمتُك يا محمد.

رواية الحسن

قال ابن إسحاق : وحُدثت عن الحسن أنه

قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: بينا أنا نائم في الحِجْر، إذ جاءنى جبريل ، فهمزني بقدمه ، فجلست فلم أرَ شيئاً فعدت إلى مضجعى، فجاءني الثانيةَ فهمزني بقدمه ، فجلست ، فلم أر شيئاً، فعدت إلى مضجعى فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه ، فجلست ، فأخذ بعضدي ، فقمت معه ، فخرج بي إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض ، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز بهما رجله ، يضع يده في منتهى طرفه ، فحملني عليه ، ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته.

رواية قتادة

قال ابن إسحاق : وحُدثتُ عن قتادة أنه

قال : حُدثت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال : لما دنوت منه لأركبه شمس ، فوضع جبريل يده على مَعْرفته ،

ثم قال : ألا تستحى يا براق مما تصنع ، فواللّه ما ركبك عبد للّه قبل محمد أكرم عليه منه.

قال : فاستحيا حتى ارفضَّ عرقا، ثم قرَّ حتى ركبته.

عودة إلى رواية الحسن

قال الحسن في حديثه : فمضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ومضى جبريل عليه السلام معه ، حتى انتهى به إلى بيت المقدس ، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمَّهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصلى بهم ، ثم أتي بإناءين ، في أحدهما خمر، وفى الآخر لبن.

قال : فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إناء اللبن ، فشرب منه ، وترك إناء الخمر.

قال : فقال له جبريل : هُديت للفطرة، وهُديَتْ أمتك يا محمد، وحُرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر. فقال أكثر الناس : هذا واللّه الإِمْر البين ، واللّه إن العير لتطرد، شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة، ويرجع إلى مكة؟!

قال : فارتد كثير ممن كان أسلم ، وذهب الناس إلى أبي بكر، فقالوا له : هل لك يا أبا بكر في صاحبك ، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة.

قال : فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه ؛

فقالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس ؛ فقال أبو بكر: واللّه لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجبكم من ذلك ! فواللّه إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه ، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فقال : يا نبي اللّه. أحدَّثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟

قال : نعم ؛

قال : يا نبى اللّه ، فصفه لي ، فإني قد جئته - قال الحسن : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فرفع لي حتى نظرت إليه - فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقت ، أشهد أنك رسول اللّه ، كلما وصف له منه شيئاً، قال صدقت ، أشهد أنك رسول اللّه ، حتى إذا انتهى، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر الصِّدِّيقُ ؛ فيومئذ سماه الصديق.

قال الحسن : وأنزل اللّه تعالى فيمن ارتد عن إسلامه لذلك : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}.[الإسراء: ٦٠]

فهذا حديث الحسن عن مَسرَى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وما دخل فيه من حديث قتادة.

رواية عائشة

قال ابن إسحاق : وحدثني بعض آل أبي بكر: أن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم

الإسراء رؤيا

فلم ينكر ذلك من قولهما، لقول الحسن : إن هذه الآية نزلت في ذلك ،

قول اللّه تبارك وتعالى { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: ٦٠]، ولقول اللّه تعالى في الخبر عن إبراهيم عليه السلام إذ قال لابنه : { يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: ١٠٢] ثم مضى على ذلك. فعرفت أن الوحي من اللّه يأتى الأنبياء أيقاظا ونياما.

قال ابن إسحاق : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغني - يقول : تنام عيناي وقلبي يقظان. واللّه أعلم أي ذلك كان قد جاءه ، وعاين فيه ما عاين ، من أمر اللّه ، على أي حاليه كان نائما، أو يقظان ، كل ذلك حق وصدق.

وصفه صلى اللّه عليه وسلم إبراهيم وموسى وعيسى

قال ابن إسحاق : وزعم الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصف لأصحابه إبراهيمَ وموسى وعيسى حين رآهم في تلك الليلة،

فقال : أما إبراهيمُ ، فلم أر رجلا أشبه قط بصاحبكم ، ولا صاحبكم أشبه به منه ؛

وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أقنى كأنه من رجال شنوءة ؛

وأما عيسى ابن مريم ، فرجل أحمر، بين القصير والطويل ، سبط الشعر، كثير خيلان الوجه ، كأنه خرج من ديماس : تخال رأسه يقطر ماء، وليس به ما أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفى.

علي يصف الرسول صلى اللّه عليه وسلم :

قال ابن هشام : وكانت صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما ذكر عمر مولى غفرة عن إبراهيم بن محمد بن على بن أبي طالب

قال : كان علي بن أبي طالب عليه السلام : إذا نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال : لم يكن بالطويل الممغَّط ، ولا القصير المتردِّد، وكان رَبْعة من القوم ، ولم يكن بالجعْد القطط ولا السبط : كان جعداً رجلا، ولم يكن بالمطهَّم ولا المكلثم. وكان أبيض مشربا ، أدعج العينين ، أهدب الأشفار ، جليل المشاش والكتد ، دقيق المسربة ، أجرد ، شثن الكفين والقدمين : إذا مشى. تقلع ، كأنما يمشى في صبب ، وإذا التفت التفت معاً. بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين. أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه أحبه ، يقول ناعته : لم أر قبله ولا بعده مثله ، صلى اللّه عليه وسلم.

رواية أم هانئ عن الإسراء

قال محمد بن إسحاق : وكان فيما بلغنى عن أم هانئ بنت أبي طالب رضى اللّه عنها، واسمُها هند، في مسرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنها كانت تقول ما أسري برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا وهو في بيتي : نائم عندي تلك الليلة في بيتي ، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبَّنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فلما صلى الصبح وصلينا معه ،

قال : يا أم هانئ ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين ، ثم قام ليخرج ، فأخذت بطرف ردائه ، فتكشف عن بطنه كأنه قبطية مطوية، فقلت له : يا نبى اللّه : لا تحدث بهذا للناس فيكذبوك ويؤذوك ؛

قال : واللّه لأحدثنهموه.

قالت : فقلت لجارية لي حبشية: ويحك اتبعى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تسمعى ما يقول للناس ، وما يقولون له. فلما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الناس أخبرهم ، فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد؟ فإنا لم نسمع بمثل هذا قط ؛ قال آية ذلك إني مررت بعير بنى فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فندَّ لهم بعير، فدللتهم عليه ، وأنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بنى فلان : فوجدت القوم نياماً، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشىء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه. ثم غطيت عليه كما كان ؛ وآية ذلك أن عيرهم الآن يصوِّب من البيضاء، ثنية التنعيم ، يقدمها جمل أورق ، عليه غرارتان : إحداهما سوداء، والأخرى برقاء.

قالت : فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل كما وصف لهم ، وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءاً ماءً ثم غطوه ، وأنهم هبوا فوجدوه مغصَّ كما غطوه ، ولم يجدوا فيه ماء. وسألوا الآخرين وهم بمكة،

فقالوا: صدق واللّه ، لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر، وندّ لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه ، حتى أخذناه.

قصة المعراج

الرسول صلى اللّه عليه وسلم يصعد إلى السماء الأولى

و قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أنه

قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : لما فرغت مما كان في بيت المقدس ، أتي بالمعراج ، ولم أر شيئا قط أحسن منه : وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حُضر؟ فأصعدنى صاحبى فيه ؛ حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له : باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة، يقال له : إسماعيل ، تحت يديه اثنا عشر ألف ملك ، تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك

قال : يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين حَدَّث بهذا الحديث : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: ٣١] فلما دُخل بي

قال : من هذا يا جبريل ؟

قال : محمد.

قال : أوَقد بُعث ؟

قال : نعم.

قال : فدعا لي بخير: وقاله.

صفة مالك خازن النار

قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أنه

قال : تلقتنى الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقني ملك إلا ضاحكا مستبشرا، يقول خيرا ويدعو به حتى لقينى ملك من الملائكة، فقال مثل ما قالوا، ودعا بمثل ما دعوا به ، إلا أنه لم يضحك ، ولم أر منه البشر مثل ما رأيت من غيره ، فقلت لجبريل : يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكة ولم يضحك ، ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت من غيره ؟

قال : فقال لي جبريل : أما إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك ، أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك ، لضحك إليك ، ولكنه لا يضحك ، هذا مالك صاحب النار.

من صفات جهنم أعاذنا اللّه منهما: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

فقلت لجبريل ، وهو من اللّه تعالى بالمكان الذي وُصف لكم { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} :[التكوير: ٣١] ألا تأمره أن يرينى النار؟

فقال : بلى، يا مالك ، أرِ محمداً النار.

قال : فكشف عنها غطاءها،

فقال : ففارت وارتفعت ، حتى ظننت لتأخذن ما أرى.

قال : فقلت لجبريل يا جبريل ، مره فليردها إلى مكانها.

قال : فأمره ، فقال لها: اخْبِى، فرجعتْ إلى مكانها الذي خرجت منه. فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل. حتى إذا دَخلت من حيث خرجت رَد عليها غطاءَها.

عرض الأرواح على آدم عليه السلام : قال أبو سعيد الخدري في حديثه : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال : لما دخلت السماء الدنيا، رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بني آدم ، فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيراً ويُسَر به ، ويقول : روح طيبة خرجت من جسد طيب ويقول لبعضها إذا عُرضت عليه : أفّ ، ويعبس بوجهه ويقول : روح خبيثة خرجت من جسد خبيث.

قال : قلت من هذا يا جبريل ؟

قال : هذا أبوك آدم ، تُعرض عليه أرواح ذريته ، فإذا مرت به روح المؤمن منهم سر بها

وقال : روح طيبة خرجت من جسد طيب. وإذا مرت به روح الكافر منهم أنف منها وكرهها، وساءه ذلك ،

وقال : روح خبيثة خرجت من جسد خبيث.

أكلة أموال اليتامى ظلما:

قال : ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإِبل ، في أيديهم قطع من نار كالأفهار، يقذفونها في أفواههم ، فتخرج من أدبارهم.

فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟

قال : هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما.

أكلة الربا:

قال : ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون ، يمرون عليهم كالإِبل المهيومة حين يُعرضون على النار، يطئونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك.

قال : قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟

قال : هؤلاء أكلة الربا.

الزناة من بني آدم :

قال : ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب ، إلى جنبه لحم غث منتن ، يأكلون من الغث المنتن ، ويتركون السمين الطيب.

قال : قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟

قال : هؤلاء الذين يتركون ما أحل اللّه لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم اللّه عليهم منهن.

من نسبت ابنا لزوجها من غيره :

قال : ثم رأيت نساء معلقات بثديهن ،

فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟

قال : هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم.

قال ابن إسحاق : وحدثني جعفر بن عمرو، عن القاسم بن محمد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قال : " اشتد غضب اللّه على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم ، فأكل حرائبهم ، وطلع على عوراتهم "

صعوده صلى اللّه عليه وسلم إلى السموات الأخر وما رأى منها : ثم رجع إلى حديث أبي سعيد الخدري ،

قال : ثم أصعدنى إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة : عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا،

قال : ثم أصعدنى إلى السماء الثالثة، فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر؛

قال : قلت : من هذا يا جبريل ؟

قال : هذا أخوك يوسف ابن يعقوب.

قال : ثم أصعدنى إلى السماء الرابعة، فإذا فيها رجل فسألته :

من هو؟

قال : هذا إدريس

قال : يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " ورفعناه مكانا عليا "

قال : ثم أصعدنى إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية، عظيم العثنون ، لم أر كهلا أجمل منه ، قالت قلت : من هذا يا جبريل ؟

قال : هذا المحبَّب في قومه هارون ابن عمران.

قال : ثم أصعدني إلى السماء السادسة، فإذا فيها رجل آدم طويل أقنى، كأنه من رجال شنوءة ؛ فقلت له : من هذا يا جبريل ؟

قال : هذا أخوك موسى بن عمران. ثم أصعدني إلى السماء السابعة، فإذا فيها كهل جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة. لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ، ولا صاحبكم أشبه به منه ؛

قال : قلت : من هذا يا جبريل ؟

قال : هذا أبوك إبراهيم.

قال : ثم دخل بي الجنة، فرأيت فيها جارية لعساء فسألتها: لمن أنت ؟ وقد أعجبتني حين رأيتها؛ فقالت : لزيد بن حارثة، فبشَّر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيد بن حارثة.

فرض الصلاة عليه صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : ومن حديث ابن مسعود رضى اللّه عنه ، عن النبى صلى اللّه عليه وسلم ، فيما بلغنى: أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن في دخولها: من هذا يا جبريل ؟ فيقول : محمد؛ فيقولون : أوَقَدْ بعث إليه ؟ فيقول : نعم ؛ فيقولون : حيَّاه اللّه من أخ وصاحب ، حتى انتهى به إلى السماء السابعة، ثم انتهى به إلى ربه ، ففرض عليه خمسين صلاة في كل يوم.

موسى بن عمران عليه السلام يطلب منه عليه الصلاة والسلام سؤال ربه التخفيف عن أمته في أمر الصلاة

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فأقبلت راجعا، فلما مررت بموسى بن عمران ، ونعم الصاحب كان لكم ، سألنى: كم فُرض عليك من الصلاة؟

فقلت : خمسين صلاة كل يوم ؛

فقال : إن الصلاة ثقيلة، وإن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك ، فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتى، فوضع عنى عشرا. ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك ؛ فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتى، فوضع عنى عشراً. ثم انصرفت فمررت على موسى، فقال لي مثل ذلك ؟ فرجعت فسألت ربى فوضع عني عشراً. ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك ، كلما رجعت إليه ،

قال : فارجع ، فاسأل ربك حتى انتهيت إلى أن وضع ذلك عنى، إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة. ثم رجعت إلى موسى، فقال لي مثل ذلك ،

فقلت : قد راجعت ربي وسألته ، حتى استحييت منه ، فما أنا بفاعل.

فمن أداهن منكم إيمانا بهن ، واحتسابا لهن ، كان له أجر خمسين صلاة.

المستهزئون بالرسول وكفاية اللّه أمرهم

قال ابن إسحاق : فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمر اللّه تعالى صابرا محتسبا، مؤديا إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى وكان عظماء المستهزئين ، كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، خمسة نفر من قومهم ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم.

أسماء المستهزئين : من بنى أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَى بن كلاب : الأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغنى - قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه ،

فقال : اللّهم أعم بصره ، وأثكله ولده.

ومن بنى زهرة بن كلاب : الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة.

ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة: الوليد بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم.

ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب : العاص بن وائل ابن هشام.

قال ابن هشام : العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم.

ومن بنى خزاعة : الحارث ابن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث ابن عبد عمرو بن ملكان.

فلما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الاستهزاء، أنزل اللّه تعالى عليه : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.[الحجر: ٩٤ـ٩٦]

ما فعل اللّه بالمستهزئين

قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير، أو غيره من العلماء أن جبريل أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهم يطوفون بالبيت ، فقام وقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جنبه ، فمر به الأسود بن المطلب ، فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمى. ومر به الأسود بن عبد يغوث ، فأشار إلى بطنه ، فاستسقى بطنه فمات منه حَبْنا. ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله ، كان أصابه قبل ذلك بسنين ، وهو يجر سبله ، وذلك أنه مر برجل من خزاعة وهو يريش نَبلا له ، فتعلق سهم من نبله بإزاره ، فخدش في رجله ذلك الخدش ، وليس بشىء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل ، فأشار إلى أخمص رجله وخرج على حمار له يريد الطائف ، فربض به على شبارقة، فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث ابن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا،فقتله.

قصة أبي أزيهر الدوسي

وصية الوليد أولاده :

قال ابن إسحاق : فلما حضرت الوليد الوفاة دعا بنيه وكانوا ثلاثة : هشام بن الوليد، والوليد بن الوليد، وخالد ابن الوليد،

فقال لهم : أي بنى، أوصيكم بثلاث ، فلا تضيعوا فيهن : دمي في خزاعة فلا تطلنَّه ، واللّه إني لأعلم أنهم منه براء، ولكنى أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم ، ورباي في ثقيف ، فلا تدعوه حتى تأخذوه ، وعقري عند أبي أزيهر، فلا يفوتنكم به. وكان أبو أزيهر قد زوجه بنتا، ثم أمسكها عنه ، فلم يدخلها عليه حتى مات.

عقل الوليد عند خزاعة : فلما هلك الوليد بن المغيرة وثب بنو مخزوم على خزاعة يطلبون منهم عقل الوليد، وقالوا: إنما قتله سهم صاحبكم - وكان لبنى كعب حلف من بني عبد المطلب ابن هاشم - فأبت عليهم خزاعة ذلك ، حتى تقاولوا أشعاراً، وغلظ بينهم الأمر - وكان الذي أصاب الوليد سهمه رجلا من بني كعب ابن عمرو من خزاعة - فقال عبد اللّه بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم :

ما قيل من الأشعار في مقتل الوليد:

إني زعيم أن تسيروا فتهربوا  وأن تتركوا الظهرَان تعوي ثعالبُهْ
 وأن تتركوا ماءً بجزعة أطرقا   وأن تسألوا
أي الأراك أطايبه ؟

فإنا أناس لا تُطَلُّ دماؤنا  ولا يتعالى صاعداً من نحاربه

وكانت الظهران والأراك منازل بنى كعب ، من خزاعة. فأجابه الجون ابن أبي الجون ، أخو بني كعب بن عمرو الخزاعي ،

فقال :

واللّه لا نُؤتَى الوليد ظُلامةً  ولما تروا يوما تزول كواكبه
ويُصرع منكم مُسمن بعد مسمن   وتُفتح بعد الموت قسراً مشاربه
إذا ما أكلتم خبزكم وخزيركم    فكلكم باكى الوليد ونادبه

 ثم إن الناس ترادوا وعرفوا إنما يخشى القوم السَّبة فأعطتهم خزاعة بعض العقل وانصرفوا عن بعض. فلما اصطلح القوم قال الجون بن أبي الجون :

وقائلةٍ لما اصطلحنا تعجبـــــا   لما قد حملنا للوليد وقائل
ألم تُقسموا تؤتوا الوليد ظلامـــة   ولما تروا يوما كثير البلابل
فنحن خلطنا الحرب بالسلم فاستوت   فأمَّ هواه آمنا كل راحل

ثم لم ينته الجون بن أبي الجون حتى افتخر بقتل الوليد، وذكر أنهم أصابوه ، وكان ذلك باطلا. فلحق بالوليد وبولده وقومه من ذلك


 

ما حذر، فقال الجون بن أبي الجون :

ألا زعم المغيرة أن كعبا  بمكة منهم قدر كبير
فلا تفخر مغير أن تراها  بها يمشي المعلهج والمهير
بها آباؤنا وبها وُلدنــا  كما أرسي بمثبته ثبير
وما قال المغيـرةُ ذاك إلا    ليعلمَ شأنَنا
أو يستثير
فإن دمَ الوليد يُطَلُّ إنــا  نطل دماء أنت بها خبير
كساه الفاتك الميمون سهما    زعافا وهْو ممتلئ بهير
فخر ببطن مكة مُسلحبـا  كأنه عند وجبته بعير
سيكفينى مطال أبي هشام  صغار جعدة الأوتار خور

قال ابن هشام : تركنا منها بيتا واحدا أقذع فيه.

قتل أبي أزيهر:

قال ابن إسحاق : ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر، وهو بسوق ذي المجاز وكانت عند أبي سفيان بن حرب عاتكة؛ بنت أبي أزيهر، وكان أبو أزيهر رجلا شريفا في قومه فقتله بعقر الوليد الذي كان عنده ، لوصية أبيه إياه ، وذلك بعد أن هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر، وأصيب به من أصيب من أشراف قريش من المشركين ، فخرج يزيد بن أبي سفيان ، فجمع بنى عبد مناف ، وأبو سفيان بذي المجاز، فقال الناس : أخفر أبو سفيان في صهره ، فهو ثائر به. فلما سمع أبو سفيان بالذي صنع ابنه يزيد وكان أبو سفيان رجلا حليما منكراً يحب قومه حبا شديداً - انحط سريعاً إلى مكة، وخشى أن يكون بين قريش حدث في أبي أزيهر، فأتى ابنه وهو في الحديد، في قومه من بني عبد مناف والمطيبين ، فأخذ الرمح من يده ، ثم ضرب به على رأسه ضربة هدَّه منها،

ثم قال له : قبحك اللّه ! أتريد أن تضرب قريشاً بعضَهم ببعض في رجل من دَوْس. سنؤتيهم العَقْل إن قبلوه ، وأطفئ لك الأمرَ. فانبعث حسانُ بن ثابت يحرض في دم أبي أزَيْهر، ويعير أبا سفيان خُفْرَته ويُجْبِنه ،

فقال :

غدا أهلُ ضَوْجَىْ ذى المجاز كليهما  وجار ابنِ حربٍ بالمغمَّس ما يغدُو
ولم يمنع العيرُ الضَّروطُ ذمارَه  وما منعت مخزاةَ والدِها هندُ
كساك هشام بنُ الوليد ثيابَه  فأبْلِ وأخْلِفْ مثلَها جدداً بَعْدُ
قضى وطراً منه فأصبح ماجداً   وأصبحتَ رخواً ما تُخبُّ وما تعدُو
فلو أن أشياخاً ببدرٍ تشاهدوا  لَبَلَّ نعالَ القومِ مُعْتَبِطٌ وَرْدُ

فلما بلغ أبا سفيان قول حسان

قال : يريد حسان أن يضرب بعضنا ببعض في رجل من دوس ، بئس واللّه ما ظن.

ولما أسلم أهلُ الطائف كلَّم رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالدُ بنُ الوليد في ربا الوليد، الذي كان في ثقيف ، لما كان أبوه أوصاه به.

خالد يطالب بتنفيذ وصية أبيه وما نزل في ذلك من القرآن

قال ابن إسحاق : فذكر لي بعضُ أهلِ العلم أن هؤلاء الآيات من تحريم ما بقي من الربا بأيدي الناس نزلن في ذلك من طلب خالد الربا: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: ٢٧٨] إلى آخر القصة فيها.

دوس تحاول الثأر لأبي أزيهر: ولم يكن في أبي أزيهر ثأر نعلمه ، حتى حجز الإسلام بين الناس إلا أن ضرار بن الخطاب بن مِرْداس الفِهْري خرج في نفر من قريش إلى أرض دَوْس، فنزلوا على امرأة يقال لها أمُّ غَيْلان ،- مولاة لدوس ، وكانت تمشِّط النساء، وتجهِّز العرائس ، فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر، فقامت دونهم أمُّ غيلان ونسوة معها، حتى منعتهم ، فقال ضرار بن الخطاب في ذلك :

جزى اللّه عنا أمَّ غَيْلان صالحاً ونسوَتها إذ هن شُعْثٌ عواطلُ فهن
دفعن الموتَ بعدَ اقترابِه وقد برزتْ للثائرين المقاتلُ
دعت دعوةً دوساً فسالت شعابُها بعز وأدَّتها الشَّراجُ القوابلُ
وعَمراً جزاه اللّه خيراً فما وَنَى وما بردتْ منه لديَّ المفاصلُ فجردت
سيفى
ثم قمتُ بنصلِـــــه وعن أيِّ نفسٍ بعدَ نفسى أقاتل

قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة: أن التي قامت دون ضرار أمّ جميل ، ويقال أم غيلان؛

قال : ويجوز أن تكون أم غيلان قامت مع أم جميل فيمن قام دونه.

فلما قام عمر بن الخطاب أتته أم جميل ، وهي ترى أنه أخوه. فلما انتسبت له عرف القصة

فقال : إني لست بأخيه إلا في الإسلام ، وهو غازٍ ، وقد عرفت منَتّكَ عليه ، فأعطاها على أنها ابنة سبيل.

قال الراوي :

قال ابن هشام : وكان ضِرار لحق عمر بن الخطاب يوم أحد، فجعل يضربه بعَرض الرمح ويقول : انج يا ابن الخطاب لا أقتلك؛ فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه.

وفاة أبي طالب وخديجة ،

وما عاناه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعدهما

من كان يؤذي الرسول صلى اللّه عليه وسلم :

قال ابن إسحاق : وكان النفر الذين يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيته : أبا لهب ، والحَكم بن العاص ابن أمية، وعُقْبة بن أبي مُعَيْط ، وعَدِي بن حمراء الثقفى، وابن الأصْداء الهذلى؛ وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص ، فكان أحدهم فيما ذكر لي يطرح عليه صلى اللّه عليه وسلم رحِم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في بُرْمته إذا نُصبت له ، حتى اتخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حِجْراً يستتر به منهم إذا صلى اللّه عليه وسلم، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى كما حدثني عُمر بن عبد اللّه بن عروة بن الزبير، عن عروةبن الزبير يخرج به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على العود، فيقف به على بابه ، ثم يقول : يا بني عبد مناف ، أي جوار هذا! ثم يلقيه في الطريق.

قال ابن إسحاق : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المصائب بهُلْك خديجة، وكانت له وزير صِدْق على الإسلام ، يشكو إليها؛ وبُهلْك عمه أبي طالب ، وكان له عَضَداً وحِرْزاً في أمره ، ومَنَعة وناصراً على قومه ، وذلك قبل مُهاجره إلى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب ، نالت قريش من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه تراباً.

قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير،

قال :

لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول صلى اللّه عليه وسلم ذلك التراب ، دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لها: لا تبكى يا بنية، فإن اللّه مانع أباك.

قال : ويقول بين ذلك : ما نالت منى قريش شيئاً أكرهه ، حتى مات أبو طالب.

المشركون يطلبون عهداً بينهم وبين الرسول قبل موت أبي طالب

قال ابن إسحاق : ولما اشتكى أبو طالب ، وبلغ قريشاً ثِقَلُه ، قالت قريش بعضُها لبعض : إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلِّها، فانطلِقوا بنا إلى أبي طالب ، فيأخذ لنا على ابن أخيه ، وليعطِه مِنَّا، واللّه ما نأمَن أن يبتزُّونا أمرَنا.

قال ابن إسحاق : فحدثني العباس بني عبد اللّه بن مَعْبد بن عباس عن بعض أهله ، عن ابن عباس ،

قال : مشوا إلى أبي طالب فكلموه؛ وهم أشرافُ قومه : عُتبة بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وأبو سفيان بن حرب ، في رجال من أشرافهم

فقالوا: يا أبا طالب ، إنك منا حيث قد علمتَ ، وقد حضرك ما ترى، وتخوَّفْنا عليك ، وقد علمتَ الذي بيننا وبين ابن أخيك ، فادْعه فخذ له منا، وخذ لنا منه ، ليكفَّ عنا، ونكفَّ عنه ، وليدعَنا ودينَنَا، وندَعه ودينَه؛ فبعث إليه أبو طالب ، فجاءه ،

فقال : يا ابن أخي ، هؤلاء أشرافُ قومك ، قد اجتمعوا لك ، ليعطوك ، وليأخذوا منك.

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نعم ، كلمة واحدة تُعطونيها تملكون بها العرب ، وتدين لكم بها العجم.

قال : فقال أبو جهل : نعم وأبيكَ ، وعشر كلمات؛

قال : تقولون : لا إله إلا اللّه ، وتخلعون ما تعبدون من دونه

قال : فصفقوا بأيديهم ،

ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهةَ إلهاً واحداً، إن أمرَك لعَجب ! قال بعضهم لبعض : إنه واللّه ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون ، فانطلِقُوا وامضُوا على دين آبائكم ، حتى يحكم اللّه بينكم وبينه.

قال : ثم تفرقوا.

رجاء الرسول إسلام أبي طالب

فقال أبو طالب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : واللّه يا ابن أخي ، ما رأيتك سألتهم شططاً،

قال : فلما قالها أبو طالب طمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في إسلامه ، فجعل يقول له : أي عمّ ، فأنت فقُلْها أستحلّ لك بها الشفاعة يومَ القيامة

قال : فلما رأى حِرص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليه ،

قال : يا ابن أخى، واللّه لولا مخافة السُّبَّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي ، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جَزعاً من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرّك بها.

قال : فلما تقارب من أبي طالب الموت

قال : نظر العباس إليه يحرك شفتيه ،

قال : فأصغى إليه بأذنِه ،

قال : فقال يا ابن أخى ، واللّه لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، قال. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لم أسمعْ.

ما نزل فيمن طلبوا العهد على الرسول عند أبي طالب

قال : وأنزل اللّه تعالى في الرهط الذين كانوا قد اجتمعوا إليه ، وقال لهم ما قال ، وردوا عليه ما ردوا : { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}.[ص: ١،٢] إلى قوله تعالى : {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } [ص: ٥ـ٧] يعنون النصارى، لقولهم : { إِنَّ اللّه ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: ٧٣] {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} ثم هلك أبو طالب.

سعى الرسول إلى الطائف وموقف ثقيف منه

قال ابن إسحاق : ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف ، يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من اللّه عز وجل ، فخرج إليهم وحدَه.

الثلاثة الذين نزل بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي ،

قال : لما انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الطائف ، عَمَد إلى نفر من ثقيف ، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة: عبد يَالِيل بن عَمرو بن عُمَير، ومسعود بن عَمرو بن عُمَير، وحبيب بن عمرو بن عُمَير بن عوف ابن عُقدة بن غِيَرَة بن عَوْف بن ثقيف ، وعند أحدهم امرأة من قريش من بنى جُمَح ، فجلس إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فدعاهم إلى اللّه ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه ،

فقال له أحدهم : هو يَمْرُط ثياب الكعبة إن كان اللّه أرسلك ،

وقال الآخر: أما وجد اللّه أحداً يرسله غيرك ! وقال الثالث : واللّه لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولاً من اللّه كما تقول ، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على اللّه ، ما ينبغى لي أن أكلمك. فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف ، وقد قال لهم فيما ذكر لي -: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى، وكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه ، فيُذْئرهم ذلك عليه.

قال ابن هشام : قال عَبيد بن الأبْرص :

ولقد أتاني عن تميمٍ أنهم    ذَئِروا لقَتْلى عامر وتعصبوا

فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدَهم ، يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، وألجئوه إلى حائط لعُتبة بن ربيعة وشَيْبة ابن ربيعة، وهما فيه ، ورجع عنه سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حَبَلة من عنب ، فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويريان ما لقى من سفهاء أهل الطائف ، وقد لقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جُمَح ، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك ؟

شكواه صلى اللّه عليه وسلم إليه تعالى

 فلما اطمأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فيما ذكر لي -

: "اللّهم إليك أشكو ضَعْفَ قوتى، وقلة حيلتي ، وهوانى على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى، إلى من تَكِلُنى؟ إلى بعيد يتجَهَّمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلماتُ ، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك ، أو يحل علىَّ سُخْطُك ، لك العُتْبَى حتى ترضَى، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك ".

قصته صلى اللّه عليه وسلم مع عداس

قال : فلما رآه ابنا ربيعة، عُتبة وشَيْبة، وما لقى، تحركت له رحمهما، فدعوَا غلاما لهما نصرانيا، يقال له عَدَّاس ، فقالا له : خذ قِطفا من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه. ففعل عَدَّاس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يديْ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

ثم قال له : كُلْ ، فلما وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه يده ،

قال : باسم اللّه ، ثم أكل ، فنظر عَدَّاس في وجهه ،

ثم قال : واللّه إن هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ومن أهل أي البلاد أنت يا عَدَّاس ، وما دينُك ؟

قال : نصرانى، وأنا رجل من أهل نِينَوى؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى؛ فقال له عَدَّاس :

وما يُدريك ما يونس بن مَتَّى؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ذاك أخى، كان نبيا وأنا نبي ، فأكب عَدَّاس على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقبل رأسه ويديه و قدميه.

قال : يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامُك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عَداس قالا له : ويلك يا عَدَّاس ! ما لك تقبل رأس هذا- الرجل ويديه وقدميه ؟

قال : يا سيدي ، ما في الأرض شىء خير من هذا، لقد أخبرنى بأمر ما يعلمه إلا نبى؛ قالا له : ويحك يا عداس ، لا يصرفنك عن دينك ، فإن دينَك خير من دينه.

وفد جن نصيبين

قال : ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنَخْلة قام من جوف الليل يصلى، فمر- به النفر من الجن الذين ذكرهم اللّه تبارك وتعالى، وهم - فيما ذُكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته وَلَّوْا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص اللّه خبرهم عليه صلى اللّه عليه وسلم، قال اللّه عز وجل : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ}.[الأحقاف: ٢٩]. إلى قوله تعالى: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.[الأحقاف: ٣١]

وقال تبارك وتعالى: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ}.[الجن: ١]. إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.

عرض وسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نفسه على القبائل

عرض نفسه في المواسم

قال ابن إسحاق : ثم قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة : وقومه أشدُّ ما كانوا عليه من خلافِه وفراق دينه ، إلا قليلاً مستضعَفين ممن آمن به. فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يَعْرِض نفسَه في المواسم ، إذا كانت ، على قبائل العرب يدعوهم إلى اللّه ، ويخبرهم أنه نبي مُرْسَل ، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبينَ لهم ما بعثه به اللّه.

قال ابن إسحاق : فحدثني من أصحابنا، من لا أتهم ، عن زيد بن أسلم عن ربيعة بن عِبَاد الدِّيَلى، أو من حدثه أبو الزناد عنه -

قال ابن هشام : ربيعة بن عِبَاد.

أبو لهب يفرق الناس من حوله صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : وحدثني حُسين بن عبد اللّه بن عُبيداللّه بن عباس ، قال سمعت ربيعة ابن عِبَاد، يحدثه أبي،

قال : إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب ، فيقول : يا بنى فلان ، إني رسول اللّه إليكم ، يأمركم أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي ، وتصدقوا بي ، وتمنعونى، حتى أبين عن اللّه ما بعثنى به.

قال : وخلفه رجل أحول وضيء ، له غديرتان عليه حلة عدنية. فإذا فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قوله وما دعا إليه ، قال ذلك الرجل : يا بنى فلان ، إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ، وحلفاءكم من الجن من بنى مالك بن أقَيْش ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ، ولا تسمعوا منه.

قال : فقلت لأبي : يا أبت ، من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول ؟ قال هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب ، أبو لهب.

قال ابن هشام : قال النابغة:

كأنك من جمال بني أقَيْشٍ   يُقَعْقِعُ خلفَ رجْليه بِشَن

 عرضه صلى اللّه عليه وسلم نفسه على كندة

قال ابن إسحاق : حدثنا ابن شهاب الزهرى: أنه أتى كِنْدة في منازلهم ، وفيهم سيد لهم يقال : مُلَيْح ، فدعاهم إلى اللّه عز وجل ، وعرض عليهم نفسه ، فأبَوْا عليه.

 عرضه صلى اللّه عليه وسلم نفسه على كلب

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن حُصين : أنه أتى كلبا في منازلهم ، إلى في منهم يقال لهم : بنو عبد اللّه ، فدعاهم إلى اللّه وعرض عليهم نفسه ، حتى إنه ليقول لهم : يا بني عبد اللّه ، إن اللّه عز وجل قد أحسن اسمَ أبيكم ، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

عرضه صلى اللّه عليه وسلم نفسه على بني حنيفة

قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أصحابنا عن عبد اللّه بن كعب بن مالك : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتى بنى حنيفة في منازلهم ، فدعاهم إلى اللّه وعرض عليهم نفسه ، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليهم ردا منهم.

عرضه صلى اللّه عليه وسلم نفسه على بني عامر

قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى اللّه عز وجل ، وعرض عليهم نفسَه ، فقال رجل منهم - يقال له : بَيْحَرة بن فراس.

قال ابن هشام : فراس بن عبد اللّه بن سلمة الخير بن قُشَير بن كعب ابن ربيعة بن عامر بن صَعْصعة -: واللّه ، لو إني أخذت هذا الفتى من قريش ، لأكلت به العرب ،

ثم قال : أرأيتَ إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك اللّه على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟

قال : الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء.

قال : فقال له : أفَتُهدَف نحورُنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك اللّه كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك؛ فأبوا عليه.

فلما صدر الناسُ رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم ، قد كانت أدركته السنُّ ، حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم ،

فقالوا: جاءنا فتى من قريش ، ثم أحد بنى عبد المطلب ، يزعم أنه نبي ، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ، ونخرج به إلى بلادنا.

قال : فوضع الشيخ يديه على رأسه

ثم قال : يا بنى عامر، هل لها من تَلافٍ ، هل لذُنَاباها من مَطْلب ، والذي نفس فلان بيده ، ما تقوَّلها إسماعيلى قط وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم.

عرضه صلى اللّه عليه وسلم نفسه في المواسم

قال ابن إسحاق : فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك من أمره ، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى اللّه وإلى الإِسلام ، ويَعْرض عليهم نفسه ، وما جاء به من اللّه من الهدى والرحمة، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب ، له اسم وشرف ، إلا تصدَّى له ، فدعا إلى اللّه ، وعرَض عليه ما عنده.

عرضه صلى اللّه عليه وسلم نفسه على سويد بن صامت

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، ثم الظَّفري عن أشياخ من قومه

قالوا: قدم سُويد بن صامت ، أخو بنى عمرو بن عَوْف ، مكة حاجاً

أو معتمراً، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم : الكامل ، لجلده وشعره وشرفه ونسبه ، وهو الذي يقول :

ألا رُبَّ من تدعو صديقاً ولوترى   مقالتَه بالغيب ساءك ما يَفْري

مقالتُه كالشهدِ ما كان شاهــداً   وبالغيبِ مأثورٌ على ثُغْرَةِ النحرِ
يَسرك باديه وتحت أديمـــه   نميمةُ غش ِّتبتري عَقَبَ الظهرِ

تُبين لك العينان ما هو كاتــمٌ   من الغلِّ والبغضاءِ بالنظرِ الشَّزْرِ
فرِشْنِى بخير طالَما قد بَرَيْتَنى   وخيرُ الموالى من يَريشُ ولايَبْرِي

وهو الذي يقول - ونافر رجلا من بنى سُلَيم ، ثم أحد بنى زِعْب ابن مالك على مائة ناقة، إلى كاهنة من كهان العرب ، فقضت له ، فانصرف عنها هو والسَّلَمى، ليس معهما غيرها، فلما فرقت بينهما الطريق ،

قال : مالى يا أخا بني سُلَيم

قال : أبعث إليك به ،

قال : فمن لي بذلك إذا فُتَّني به ؟

قال : كلا، والذي نفس سُوَيد بيده ، لا تفارقنى حتى أوتَى بمالي ، فاتَّخذا فضرب به الأرض ، ثم أوثقه رباطا، ثم انطلق به إلى دار بني عَمرو بن عوف ، فلم يزل عنده حتى بعثت إليه سُلَيم بالذي له ، فقال في ذلك :

لا تحسبنِّي يابنَ زِغْبِ بن مالك   كمن كُنت تُرْدِي بالغيوبِ وتَخْتِلُ
تحولت قِرْنا إذ صُرِعْت بعزةٍ   كذلك إن الحازمَ المتحوِّل
ضربتُ به إبْطَ الشمال فلم يزلْ   على كلِّ حالٍ خدُّه هو أسفلُ

في أشعار كثيرة كان يقولها.

فتصدى له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سمع به ، فدعاه إلى اللّه وإلى الإسلام ، فقال له سُوَيد: فلعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : وما الذي معك ؟

قال : مجلة لُقمان يعنى حكمة لقمان فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أعرضها علي ، فعرضها عليه ،

فقال له : إن هذا لكلام حسن ، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله اللّه تعالى علىَّ، هو هُدى ونور، فتلا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القرآن ، ودعاه إلى الإسلام ، فلم يَبْعُد منه ،

وقال : إن هذا لقول حسن ، ثم انصرف عنه ، فقدم المدينة على قومه ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج ، فإذا كان رجال من قومه ليقولون : إنا لنراه قد قُتل وهو مسلم. وكان قتله قبل يوم بُعاث.

إسلام إياس بن معاذ وقصة أبي الحيسر

قال ابن إسحاق : وحدثني الحُصَيْن بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن ُمعاذ، عن محمود بن لبيد،

قال : لما قدم أبو الحَيْسَر، أنس ابن رافع ، مكة ومعه فِتية من بني عبد الأشْهل ، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحِلْف من قريش على قومهم من الخزرج ، سمع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم ،

فقال لهم : هل لكم في خير مما جئتم له ؟ فقالوا له : وما ذاك ؟

قال : أنا رسول اللّه بعثنى إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل علىَّ الكتاب.

قال : ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن.

قال : فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أي قوم ، وهذا واللّه خيرٌ مما جئتم له.

قال : فيأخذ أبو الحَيْسر، أنس بن رافع ، حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن مُعاذ،

وقال : دَعْنا منك فلَعَمْري لقد جئنا لغير هذا.

قال : فصمت إياس ، وقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا إلى المدينة، وكان وقعة بُعاث بين الاًوس والخزرج.

قال : ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرنى من حضره من قومه عند موته : أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل اللّه تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما سمع.

إسلام الأنصار

اجتماعه صلى اللّه عليه وسلم بوفد من الخزرج عند العقبة

قال ابن إسحاق : فلما أراد اللّه عز وجل إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب ، كما كان يصنع في كل موسم. فبينما هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد اللّه بهم خيراً.

قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قَتادة، عن أشياخ من قومه

قالوا: لما لقيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال لهم : من أنتم ؟ قالوا نفر من الخزرج ،

قال : أمن موالى يهود؟

قالوا: نعم ؛

قال : أفلا تجلسون أكلمكم ؟

قالوا: بلَى، فجلسوا معه ، فدعاهم إلى اللّه عز وجل ، وعرض عليهم الإِسلام ، وتلا عليهم القرآن

قال : وكان مما صنع اللّه لهم به في الإسلام ، أن يهود كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهلَ كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، وكانوا قد عزوهم ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا لهم : إن نبياً مبعوثٌ الآنَ ، قد أظل زمانُه ، نتبعه فنقتلكم معه قتلَ عاد وإرَم. فلما كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تَعلَّموا واللّه إنه للنبى الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقُنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه ، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإِسلام ، وقالوا: إنا قد تركنا قومَنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّه بك ، فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم اللّه عليك فلا رجل أعز منك.

ثم انصرفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راجعين إلى بلادهم ، وقد آمنوا وصدقوا.

أسماء من التقوا به صلى اللّه عليه وسلم من الخزرج

قال ابنإسحاق : وهم - فيما ذكر لي -: ستة نفر من الخزرج ، منهم من بنى النجار - وهو تَيْم اللّه - ثم من بنى مالك بن النجار بن ثعلبة ابن عَمرو بن الخزرج بن حارثة بن عمرو بن عامر: أسعد بن زُرارة ابن عُدَس بن عُبَيْد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة ؛ وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سَوَاد بن مالك بن غُنْم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء.

قال ابن هشام : وعفراء بنت عُبَيْد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار.

قال ابنِ إسحاق : ومن بني زُرَيْق بن عامر بن زُرَيْق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جُشم بن الخزرج : رافع بن مالك بن العَجْلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيْق.

قال ابن هشام : ويقال عامر بن الأزرق.

قال ابن إسحاق : ومن بنى سَلِمة بن سعد بن على بن ساردة بن تزيد بن جُشَم بن الخزرج ، ثم من بنى سواد بن غَنْم بن كعب ابن سلمة : قُطْبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غَنْم بن سَواد.

قال ابن هشام : عمرو بن سواد، وليس لسواد ابن يقال له : غَنْم.

قال ابن إسحاق : ومن بني حرام بن كعب بن غَنْم بن كعب بن سَلمة : عقبة بن عامر بن نابى بن زيد بن حرام.

ومن بنى عُبَيد عبد اللّه بن رِئاب بن عدي بن النعمان بن غَنْم بن كعب بن سَلَمة: جابر بن عبد اللّه بن رئاب بن النعممان بن سنان بن عُبَيد.

فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

بيعة العقبة الأولى

حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقُوه بالعقبة :

قال : وهى العقبة الأولى، فبايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بيعةِ النساءِ، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.

رجال البيعة الأولى : منهم من بنى النجار، ثم من بني مالك بن النجار: أسعد بن زُرارة بن عُدَس بن عُبَيد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة؛ وعوف ، ومعاذ، ابنا الحارث بن رفاعة بن سَواد بن مالك بن غَنْم بن مالك بن النجار، وهما ابنا عفراء. ومن بنى زُرَيق بن عامر رافع بن مالك بن العَجْلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيْق ، وذَكْوان بن عبد قيس بن خَلَدة بن مُخْلِد بن عامر ابن

قال ابن هشام: ذَكْوان ، مهاجري أنصاري.

ومن بنى عَوْف بن الخزرج ، ثم من بنى غَنْم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج ، وهم القوافل : عُبادة بن الصامت بن قيس بن أصْرم بن فِهْر بن ثعلبة بن غَنْم ؛ وأبو عبد الرحمن ، وهو يزيد بن ثعلبة بن خَزْمة بن أصْرم بن عَمرو بن عَمَّارة، من بنى غُصَيْنة، من بَلِىّ حليف لهم.

قال ابن هشام : وإنما قيل لهم القواقل ، لأنهم كانوا إذا استجار بهم الرجل دفعوا له سهما وقالوا له : قوقل به بيثرب حيث شئتَ.

قال ابن هشام : القوقلة : ضرب من المشى.

قال ابن إسحاق : ومنِ بنى سالم بن عمرو بن الخزرج ، ثم من بنى العَجْلان بن زيد بن غنْم بن سالم : العباس بن عبادة بن نَضَلة بن مالك بن العَجْلان.

ومن بنى سَلَمة بن علي بن أسد بن سارِدَة بن تَزِيد بن جُشَم بن الخزرج ، ثم من بنى حرام بن كعب بن غَنْم بن سلمة: عقبة بن عامر بن نابى بن زيد بن حرام.

ومن بنى سواد بن غَنْم بن كعب بن سلمة : قُطبة بن عامر بن حَديدة بن عمرو بن غَنْم بن سواد.

وشهدها من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عَمرو بن عامر ثم من بنى عبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس : أبو الهيثم بن التَّيِّهان ، واسمه مالك.

قال ابن هشام : التيهان : يخفف ويثقل ، كقوله ميْت وميِّت.

ومن بنى عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس : عُوَيْم بن ساعدة.

نص البيعة

قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي مَرْثد بن عبد اللّه اليزَنى، عن عبد الرحمن بن عُسَيلة الصنابحي ، عن عُبادة بن الصامت ،

قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تُفترض الحرب ، على أن لا نشرك باللّه شيئاً، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادَنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلتا، ولا نعصيه في معروف. فإن وفيتم فلكم الجنة. وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى اللّه عز وجل، إن شاء عَذَّب وإن شاء غفر.

قال ابن إسحاق : وذكر ابن شهاب الزهري عن عائذ اللّه بن عبد اللّه الخَوْلاني أبي إدريس أن عبادة بن الصامت حدثه أنه

قال : بايعنا، رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة الأولى على أن لا نشرك باللّه شيئاً، ولا نسرق ، ولا نرى ، ولا نقتل أولادَنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف ؛ فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك فأخذتم بحدِّه في الدنيا، فهو كفارة له ، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى اللّه عز وجل إن شاء عذب ، وإن شاء غفر.

إرسال مصعب بن عمير مع وفد العقبة :

قال ابن إسحاق : فلما انصرف عنه القوم بعث رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم معهم مُصْعَب بن عُميْر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي وأمره أن قرئهم القران ، ويعلمهم الإسلام ، ويفقههم في الدين ، فكان يسمى المقرئ بالمدينة مصعب. وكان منزَله على أسعد بن زُرارة بن عدس ،أبي أمامة

قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قَتادة : أنه كان يصلى بهم ، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.

أول جمعة أقيمت بالمدينة

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف ، عن أبيه أبي أمامة، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ،

قال : كنت قائد أبي : كعبِ بن مالك ، حين ذهب بصرُه ، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذانَ بها صلى على أبي أمامة، أسعد بن زرارة.

قال : فمكث حينا على ذلك لا يسمع الأذان للجمعة إلا صلى عليه واستغفر له.

قال : فقلت في نفسي : واللّه إن هذا بي لعجز، ألا أساله ما له إذا سمع الأذان للجمعة صلى على أبي أمامة أسعد ابن زُرارة؟

قال : فخرجت به في يوم جمعة كما كنت أخرج ، فلما سمع الأذان للجمعة صلى عليه واستغفر له. قال فقلت له : يا أبتِ ، ما لك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟

فقال : أي بُنَيَّ ، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هَزم النبيت ، من حَرَّة بني بَياضة، يقال له : نَقيع الخَضمات ،

قال : قلت : وكم أنتم يومئذ؟

قال : أربعون رجلا.

إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وبني عبد الأشهل :

قال ابن إسحاق : وحدثني عبيد اللّه بن المغيرة بن مُعَيْقب ، وعبد اللّه بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حزم : أن أسعد بن زُرارة خرج بمصْعَب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ، ودار بني ظَفَر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل ابن خالة أسعد بن زُرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظَفَر.

قال ابن هشام : واسم ظفر: كعب بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس - قالا: على بئر يقال لها: بئر مَرَق فجلسا في الحائط ، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم وسعد بن معاذ، وأسَيْد بن حُضَيْر، يومئذ سيدا قومهما من بنى عبد الأشهل ، وكلاهما مشرك على دين قومه ، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حُضَير: لا أبا لك ، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا داريْنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرْهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد ابن زرارة منى حيث قد علمت كفيتك ذلك ، هو ابن خالتي ، ولا أجد عليه مقدما.

قال : فأخذ أسيد بن حُضَير حربته ثم أقبل إليهما؛ فلما رآه أسعد ابن زُرارة، قال لمصعب بن عمير: ،هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق اللّه فيه؛ قال مصعب : إن يجلس أكلمْه. قال فوقف عليهما مُتشتِّما،

فقال : ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءَنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.

فقال له مصعب : أوَ تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كُف عنك ما تكره ؟

قال : أنصفت ، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مُصْعَب بالإِسلام ، وقرأ عليه القران؛ فقالا فيما يذكر عنهما: واللّه لعرفنا في وجهه الإسلامَ قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهُّله ،

ثم قال : ما أحسن هذا الكلام وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل فتطهَّر وتطهر ثوبيك ، ثم تصلى.

فقام فاغتسل وطهر ثوبيه ، وتشهد شهادة الحق ، ثم قام فركع ركعتين ،

ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من في قومه وسأرسله إليكما الآن ، سعد بن مُعاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم؛ فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا،

قال : أحلف باللّه لقد جاءكم أسَيْد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت ؟

قال : كلمت الرجلين ، فو اللّه ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت ، وقد حُدِّثت أن بنى حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ، ليخفروك.

قال : فقام سعد مغضَباً مبادراً، تخوُّفا للذي ذُكر له من بنى حارثة، فأخذ الحربة من يده ،

ثم قال : واللّه ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما؛ فلما رآهما سعد مطمئنين ، عرف سعد أن أسيداً إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما،

ثم قال لأسعد بن زرارة : يا أبا أمامة، أما واللّه ، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ، أتغشانا في دارينا بما نكره وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مُصْعب ، جاءك واللّه سيد مَن وراءه من قومه ، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان -:

قال : فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع ، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته ، وأن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟ قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القران ، قالا: فعرفنا واللّه في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلم ، لإِشراقه وتسهُّله ،

ثم قال لهما: وكيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلى ركعتين.

قال :فقام فاغتسل وطهر ثوبيه ، وشهد شهادة الحق ، ثم ركع ركعتين ، ثم أخذ حربته ، فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير.

قال : فلما رآه قومه مقبلا،

قالوا: نحلف باللّه لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف عليهم

قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعملون أمري فيكم

قالوا: سيدُنا وأفضلُنا رأياً ، وأيمنُنا نقيبةً

قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا باللّه وبرسوله.

قالا: فواللّه ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمةً، ورجع أسعد ومُصْعَب إلى منزل أسعد بن زُرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار بنى أمية بن زيد، وخَطْمة ووائل وواقف ، وتلك أوس اللّه ، وهم من الأوْس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسْلَت ، وهو صيفي ، وكان شاعراً لهم وقائداً يستمعون منه ويطيعونه ، فوقف بهم عن الإِسلام ، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق ، وقال فيما رأى من الإِسلام ، وما اختلف الناس فيه من أمره :

أربَّ الناسِ أشياخ ألمَّتْ  يُلَفُّ الصعبُ منها بالذَّلولِ
أربَّ الناسِ
أما إذ ضللنا  فيسِّرْنا لمعروفِ السبيلِ
فلولا ربُّنا كنا يهــوداً  وما دينُ اليهودِ بذي شُكولِ
ولولا ربُّنا كنا نصـــارى  مع الرهبانِ في جبلِ الجليلِ
ولكنا خُلقنا إذ خُلقنـــــا  حنيفاً دينُنا عن كلِّ جيلِ
نسوق الهَدْي تَرسُف مُذْعِناتٍ  مُكثَّفة المناكبِ في الجُلولِ

قال ابن هشام : أنشدنى قوله : فلولا ربنا، وقوله : لولا ربنا، وقوله : مكشفة المناكب في الجلول ، رجل من الأنصار، أو من خزاعة.

أمر العقبة الثانية

قال ابن إسحاق : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك ، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العقبة، من أوسط أيام التشريق ، حين أراد من كرامته ؛ والنصرِ لنبيه ، وإعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله.

البراء بن معرور يصلي إلى الكعبة  

قال ابن إسحاق : حدثني مَعْبَد بن كعب بن مالك بن أبي كعب بن القَيْن ، أخو بنى سَلَمة، أن أخاه عبد اللّه بن كعب ، وكان من أعلم الأنصار، حدثه أن أباه كعبا حدثه ، وكان كعب ممن شهد العقبة وبايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها،

قال : خرجنا في حجاج قومنا من المشركين ، وقد صلينا وفقِهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا.

فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: يا هؤلاء، إني قد رأيت رأيا، فواللّه ما أدري ، أتوافقونني عليه ، أم لا؟

قال : قلنا: وما ذاك ؟

قال : قد رأيت أن لا أدع هذه البَنِيَّة مني بظهر، يعنى الكعبة، وأن أصلي إليها.

قال : فقلنا، واللّه ما بلغنا أن نبيَّنا صلى اللّه عليه وسلم يصلى إلا إلى الشام ، وما نريد أن نخالفه. قال؛

فقال : إني لمصلٍ إليها.

قال : فقلن! له : لكنا لا نفعل.

قال : فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام ، وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة.

قال : وقد كنا عبنا عليه ما صنع ، وأبى إلا الإقامة على ذلك. فلما قدمنا مكة قال لي: يابن أخى، انطلق بنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى نسألَه عما صنعت في سفري هذا، فإنه واللّه قد وقع في نفسي منه شيء ، لما رأيت من خلافكم إياي فيه.

قال : فخرجنا نسأل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكنا لا نعرفه ، ولم نره قبل ذلك فلقينا رجلا من أهل مكة، فسألناه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فقال : هل تعرفانه ؟ فقلنا: لا؛

قال : فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه ؟

قال : قلنا: نعم -

قال : كنا نعرف العباس ، وكان لا يزال يقدم علينا تاجراً -

قال : فإن دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.

قال : فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس معه ، فسلمنا ثم جلسنا إليه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للعباس : هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟

قال : نعم ، هذا البَراء بن معرور، سيد قومه ، وهذا كعب بن مالك

قال : فواللّه ما أنسى قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: الشاعر؟ قال نعم ،

قال : فقال له البراء بن معرور: يا نبى اللّه ، إني خرجت في سفري هذا، وقد هدانى اللّه للإِسلام ، فرأيت أن لا.

أجعل هذه البَنيَّة مني بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني أصحابى في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شىء، فماذا ترى يا رسول اللّه ؟

قال : كنت على قبلة لو صبرت عليها.

قال : فرجع البراء إلى قبلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وصلى معنا إلى الشام.

قال : وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات ، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم.

قال ابن هشام : وقال عَوْن بن أيوب الأنصاري :

ومنا المصلِّي أولَ الناس مُقبلاً   على كعبةِ الرحمنِ بينَ المشاعرِ

 يعني البراء بن معرور. وهذا البيت في قصيدة له.

إسلام عبد اللّه بن عمرو بن حرام :

قال ابن إسحاق : حدثني مَعْبِد بن كعب ، أن أخاه عبد اللّه بن كعب حدثه أن أباه كعب بن مالك حدثه ، قال كعب : ثم خرجنا إلى الحج ، وواعدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق.

قال : فلما فرغنا من الحج ، وكانت الليلة التي واعدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لها، ومعنا عبد اللّه بن عَمرو بن حرام أبو جابر، سيد من سادتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له : يا أبا جابر، إنك سيد من سادتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام ، وأخبرناه بميعاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إيانا العقبة.

قال : فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيباً.

امرأتان في البيعة :

قال : فنمنا تلك الليلة مع قومِنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثُلثُ الليل خرجنا من رحالنا لمعاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، نتسلل تسلل القَطا مُستَخفين ، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نُسَيْبة بنت كعب ، أم عُمارة، إحدى نساء بنى مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن نَابِى، إحدى نساء بنى سَلَمة، وهي أم مَنيع.

العباس يستوثق من الأنصار:

قال : فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضُرَ أمر ابن أخيه ويتوثَقَ له. فلما جلس كان أول مُتكلم العباس بن عبد المطلب

فقال : يا معشر الخزرج -

قال : وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج ، خزرجها وأوْسها -: إن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو في عز من قومه ومَنَعة في بلده ، وإنه قد أبي إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم ، فإن كنتم تَرَوْن أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم تَرَوْن أنكم مُسْلِموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم ، فمن الآن فدَعَوْه ، فإنه في عِز ومَنَعة من قومه وبلده.

قال : فقلنا له : قد سمعنا ما قلت فتكلمْ يا رسول اللّه ، فخذْ لنفسك ولربك ما أحببت.

عهد الرسول عليه الصلاة والسلام على الأنصار

قال : فتكلم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتلا القرانَ ، ودعا إلى اللّه ورغَّب في الإسلام ،

ثم قال :أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءَكم وأبناءَكم.

قال : فأخذ البَراء بن معرور بيده ،

ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق لنمنَعنَّك مما نمنع منه أزُرَنا فبايعْنا يا رسول اللّه فنحن واللّه أبناءُ الحروب ، وأهل الحلْقة، ورثناها كابراً عن كابر.

قال : فاعترض القولَ - والبراء يكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أبو الهيثم بن التَّيِّهان ، فقال يا رسول اللّه ، إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنّا قاطعوها - يعنى اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه أن ترجع إلى قومك وتَدَعنا؟

قال : فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

ثم قال : بل الدم الدم ، والهَدْم الهَدْم ، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم.

قال ابن هشام :

ويقال : الهَدَم الهدَم : يعنى الحرمة. أي ذمتي ذمتكم ، وحرمتى حرمتكم.

قال كعب بن مالك : وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أخرجوا إليَّ منكم اثنى عشر نقيبا، ليكونوا على قومِهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا، تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوْس.

أسماء النقباء الاثنى عشر

نقباء الخزرج :

قال ابن هشام : من الخزرج - فيما حدثنا زياد ابن عبد اللّه البكَّائى، عن محمد بن إسحاق المطلبى - أبو أمامة أسعد بن زُرارة بن عُدَس بن عُبَيْد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار، وهو تَيْم اللّه بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج ، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زُهَيْر بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج ، وعبد اللّه بن رَوَاحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج. ورافع بن مالك بن العَجْلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيق بن عبد حارثة بن مالك بن غَضب بن جُشَم بن الخزرج ، والبَرَاء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سارِدَة بن تَزِيد بن جُشَم بن الخزرج؛ وعبد اللّه بن عَمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن سَلَمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن تَزيد بن جُشَم بن الخزرج ، وعُبادة بن الصامت بن قَيْس بن أصْرم بن فِهْر بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عَوْف بن عَمرو بن عَوْف بن الخزرج.

قال ابن هشام : هو غَنْم بن عوف ، أخو سالم بن عَوْف بن عمرو بن الخز رج.

قال ابن إسحاق : وسعد بن عُبادة بن دُلَيْم بن حارثة بن أبي حَزِيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج ،والمنذر بن عمرو بن خُنيس بن حارثة بن لَوْذان بن عبد وُدّ بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج.

قال ابن هشام :

ويقال : ابن خُنَيس.

نقباء الأوس : ومن الأوْس : أسُيْد بن حُضَير بن سِمَاك بن عَتيك ابن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل ، وسعد بن خَيثُمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النَّحَّاط بن كعب بن حارثة بن غَنْم بن السَّلَم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس ، ورفاعة بن عبد المنذر بن زَنْبَر بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عَوْف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.

شعر كعب بن مالك في النقباء :

قال ابن هشام : وأهل العلم يعدُّون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ، ولا يعدون رفاعة، وقال كعب ابن مالك يذكرهم ، فيما أنشدني أبو زيد الأنصاري :

أبلغْ أبَيا أنه فال رأيــــه  وحال غداة الشِّعْب والحينُ واقعُ
أبي اللّه ما منَّتك نفسُك إنـه  بمرصادِ أمرِ الناسِ راءٍ وسامعُ
وأبلغ أبا سفيان أنْ قد بدا لنا  بأحمدَ نور من هُدَى اللّه ساطعُ
فلا ترغبنْ في حشدِ أمر تريدُه   وألِّبْ وجَمِّعْ كلَّ ما أنت جامعُ
ودونَك فاعلم أن نقضَ عهودِنا   أباه عليك الرهطُ حين تبايعُوا
أباه البَراء وابن عَمرو كلاهما    وأسعدُ يأباه عليك ورافعُ
وسعد أباه الساعديُّ ومُنـذِر   لأنفِك إن حاولتَ ذلك جادعُ
وما ابنُ ربيعٍ إن تناولت عهدَه   بمسلمِه لا يطمعنْ ثَمَّ طامعُ
وأيضاً فلا يُعطيكه ابنُ رَواحَة   وإخفارُه من دونِه السمُّ ناقعُ
وفاءً به والقَوْقليٍ بن صامتٍ    بمندوحةٍ عما تحاولُ يافعُ
أبو هَيْثمٍ أيضا وفىّ بمثلهــا   وفاء بما أعطى من العهد خانع
وما ابن حضير إن أردت بمطمع   فهل أنت عن أحموقة الغي نازع
وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه   ضروح لما حاولت ملأمر مانع
أولاك نجوم لا يغبك منهـــم   عليك بنحس في دجى الليل طالع

فذكر كعب فيهم " أبا الهيثم بن التيهان " ولم يذكر " رفاعة ".

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل على قومي - يعنى المسلمين -

قالوا: نعم.

ما قاله العباس بن عبادة للخزرج

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري ، أخو بني سالم بن عوف : يا معشر الخزرج ، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟

قالوا: نعم ،

قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه؛ فمن الآن ، فهو واللّه إن فعلتم خِزيُ الدنيا والآخرة، وإن كنتم تَرَوْن أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهكَةِ الأموال ، وقتْل الأشراف ، فخذوه ، فهو واللّه خير الدنيا والآخرة،

قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتْل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول اللّه إن نحن وفَّينا.

قال : الجنة.

قالوا: أبسطْ يدك ، فبسط يده فبايعوه.

وأما عاصم بن عُمر بن قتادة

فقال : واللّه ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أعناقهم.

وأما عبد اللّه بن أبي بكر

فقال : ما قال ذلك العباس إلا ليؤخر القوم تلك الليلة، رجاء أن يحضرها عبد اللّه بن أبي ابن سلول ، فيكون أقوى لأمر القوم. فاللّه أعلم أي ذلك كان.

قال ابن هشام: سلول : امرأة من خزاعة،. وهى أم أبي بن مالك ابن الحارث.

أول من ضرب على يد الرسول في بيعة العقبة الثانية:

قال ابن إسحاق : فبنو النجار يزعُمون أن أبا أمامة، أسعد بن زرارة، كان أول من ضرب على يده ، وبنو عبد الأشهل يقولون : بل أبو الهيثم بن التَّيهان.

قال ابن إسحاق : فأما معبد بن كعب بن مالك فحدثني في حديثه ، عن أخيه عبد اللّه بن كعب عن أبيه كعب بن مالك ،

قال : كان أول من ضرب على يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البراء بن معرور، ثم بايع بعد القوم.

الشيطان يصرخ بعد بيعة العقبة : فلما بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط : يا أهل الجَباجِب - والجباجب المنازل - هل لكم في مُذَمَّم والصُّباة معه ، قد اجتمعوا على حربكم ؟

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هذا أزْبُ العقبة، هذا ابن أزْيب

قال ابن هشام. ويقال ابن أزَيْب - أتسمع أي عدو اللّه أما واللّه لأفرغنَّ لك.

الأنصار تستعجل الحرب :

قال : ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ارفَضُّوا إلى رحالكم.

قال : فقال له العباس بن عُبادة بن نَضلة : واللّه الذي بعثك بالحق ، إن شئت لنميلنَّ على أهلِ منىً غداً بأسيافنا؟

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لم نُؤمرْ بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم.

قال : فرجعنا إلي مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا.

قريش تجادل الأنصار:

قال : فلما أصبحنا غدت علينا جِلَّة قريش، حتى جاءونا في منازلنا

فقالوا: يا معشر الخزرج ، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه واللّه ما من حي من العرب أبغض إلينا، أن تنشب الحرب بيننا وبينِهم ، منكم.

قال : فانبعث من هناك من مشركى قومنا يحلفون باللّه ما كان من هذا شىء، وما علمناه. قال ؛ وقد صدقوا، لم يعلموه.

قال : وبعضنا ينظر.إلى بعض ،

قال : ثم قام القوم ، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومى، وعليه نعلان له جديدان. قال فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا -: يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا، مثل نعلَيْ هذا الفتى من قريش؟ قال فسمعها الحارث ، فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلىَّ،

وقال : واللّه لتَنْتعَلَنَّهُما.

قال : يقول : أبو جابر: مَهْ ، أحفظتَ واللّه المفتى، فاردد إليه نعليه ،

قال : قلت : واللّه لا أردّهما، قالٌ واللّه صالح ، لئن صدق الفأل لأسلُبَنَّه.

قال ابن إسحاق : وحدثني عبد اللّه بن أبي بكر: أنهم أتوا عبد اللّه بن أبي ابن سلول ، فقالوا له مثل ما قال كعب من القول ،

فقال لهم : إن هذا الأمر جسيم ، ما كان قومي ليتفوتوا علىَّ بمثل هذا، وما علمتُه كان ،

قال : فانصرفوا عنه.

قريش تأسر سعد بن عُبادة:

قال : ونفر الناس من مِنىً ، فتنطَّس القومُ الخبرَ، فوجدوه قد كان ، وخرجوا في طلب القوم ، فأدركوا سعد بن عُبادة بأذَاخر، والمنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة بن كعب ابن الخزرج ، وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القومَ ؛

وأما سعد فأخذوه ، فربطوا يديه إلى عنقه بنِسْعِ رحله ، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ، ويجذبونه بجُمته ، وكان ذا شعر كثير.

خلاص سعد: قال سعد: فواللّه إني لفي أيديهم إذ طلع عليَّ نفر من قريش، فيهم رجل وضئ أبيض ، شَعْشاع، حلو من الرجال.

قال ابن هشام : الشَّعْشاع الطويل الحسن. قال رؤبة:

يمطوه من شَعْشاعٍ غيرِ مُودن

يعنى: عنق البعير غير قصير، يقول : مودن اليد، أي ناقص اليد.

قال : فقلت في نفسى : إن يك عند أحد من القوم خيرٌ ، فعند هذا

قال : فلما دنا مني رفع يدَه فلكمني لكمةً شديدة

قال : فقلت في نفسي : لا واللّه ما عندهم بعد هذا من خير

قال : فواللّه إني لفى أيديهم يسحبونني إذا أوى لي رجل ممن كان معهم ،

فقال : ويحك ! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟

قال : قلت : بلَى، واللّه ، لقد كنت أجير لجُبير بن مُطْعِم بن عَدِي بن نَوْفل بن عبد مناف تجارة، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي ، وللحارث بن حرب ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ؛

قال : ويحك ! فاهتف باسم الرجلين ، واذكر ما بينَك وبينهما:

قال : ففعلت ، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يُضرب بالأبطح ويَهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جواراً؛ قالا: ومن هو؟

قال : سعد بن عبادة، قالا: صدق واللّه ، إن كان ليجير لنا تجارَنا، ويمنعهم أن يُظلموا ببلده.

قال : فجاء ا فخلَّصا سعداً من أيديهم فانطلق ، وكان الذي لكم سعداً سُهَيْل بن عَمرو، أخو بني عامر بن لؤي.

قال ابن هشام: وكان الرجل الذي أوي إليه ، أبا البَخْتَري بن هشام.

 أول ما قيل في الهجرة من الشعر

قال ابن إسحاق : وكان أول شعر قيل في الهجرة بيتين ، قالهما ضرار بن الخطاب بن مرداس ، أخو بني محارب بن فهر:

تداركتَ سعداً عَنوةً فأخذته وكان شفاءً لو تداركتَ مُنذِرَا
لو نِلته طُلَّت هناك جراحُه  وكانت حَرِيًّا أن يُهان ويُهدَرَا

 قال ابن هشام : ويروى :

وكان حقيقا أن يُهان ويُهدَرا

قال ابن إسحاق : فأجابه حسان بن ثابت فيهما

فقال :

لستَ إلى سعدٍ ولا المرء مُنذِرٍ   إذا ما مَطايا القومِ أصبحْن ضُمَّرَا
فلولا أبو وهْبٍ لمرَّت قصائد   على شرفِ البَرقاءِ يَهْوينَ حُسَّرَا
أتفخُر بالكتانِ لما لبسْتَـــه   وقد تلبَس الأنباطُ رِيطا مُقَصَّرَا
فلا تَكُ كالوَسْنانِ يحلمُ أنــه   بقريةِ كِسْرَى
أو بقريةِ قَيْصَرَا
ولا تك كالثَّكلَى وكانت بمعْزِلٍ   عن الثُّكْلِ لو كان الفؤادُ تفكَّرَا
ولا تكَ كالشاةِ التي كان حتفُها   بحفرِ ذرِاعَيْها فلم ترضَ محفَرَا
ولا تك كالعاوِي فأقبلَ نحـرَه   ولم يَخْشَه سهماً من النَّبلِ مُضْمَرا
فإنا ومن يُهدِي القصائدَ نحوَنا   كمسْتَبضِعٍ تمراً إلى أهلِ خَيْبَرَا

قصة صنم عمرو بن ا لجموح

فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها، وفى قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك ، منهم عمرو بن الجَمُوح بن زيد بن حرام بن كعب بن غَنْم بن كعب بن سلمة، وكان ابنه مُعاذ بن عمرو شهد العقبة، وبايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها، وكان عَمرو بن الجَموح سيداً من سادات بني سَلمة، وشريفاً من أشرافِهم ؛ وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب ، يقال له : مَناةُ، كما كانت الأشراف يصنعون ، تتخذه إلها تعظّمه وتطهره ، فلما أسلم فتيان بني سَلَمة : معاذُ ابن جبل، وابنه مُعاذ بن عَمْرو بن الجَموح ، في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة كانوا يدلجون بالليل على صنم عَمرو ذلك فيحملوِنه فيطرحونه في بعض حُفر بنى سلمة، وفيها عِذَرُ الناس ، مُنَكَّسا على رأسه ، فإذا أصبح عمرو،

قال : ويلكم ! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟

قال : ثم يغدو يلتمسه ، حتى إذا وجده غسلَه وطهره وطيبه ،

ثم قال : أما واللّه لو أعلم من فعل هذا بك لأخْزِينَّه. فإذا أمسى ونام عَمرو، عَدَوا عليه ، ففعلوا به مثل ذلك ، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغْسله ويطهره ويطيبه ، ثم يعدون عليه ، إذ أمسى، فيفعلون به مثل ذلك. فلما أكثروا عليه ، استخرجه من حيث ألْقَوْه يوما، فغسله وطهره وطيبه ، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ،

ثم قال : ،إني واللّه ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع ، فهذا السيف معك فلما أمسى ونام عمرو، عَدَوا غليه ، فأخذوا السيف من عنقه ، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ، ثم ألْقَوْه في بئر من آبار بني سَلَمة، فيها عِذَر من عِذر الناس ، ثم عدا عَمرو بن الجَموح فلم يجده في مكانه الذي كان به.

إسلام عمرو وما قاله من الشعر: فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منَكَّسا مقرونا بكلب ميت ، فلما رآه وأبصر شأنه ، وكلمه من أسلم من قومه ، فأسلم برحمة اللّه ، وحسُنَ إسلامه ، فقال حين أسلم وعرَف من اللّه ما عرَف ، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ، ويشكر اللّه تعالى الذي أنقذه مما كان فيه من العَمَى والضلالة:

واللّه لو كنتَ إلهاً لم تكـنْ  أنتَ وكلب وسْطَ بئر في قَرَنْ
أفّ لمَلْقَاك إلهاً مُسْتَــدَن  الآنَ فتشناكَ عَنْ سُوءِ الغَبَنْ
الحمدُ للّه العليِّ ذي المئنَ  الواهبِ الرزاقِ دَيانِ الدّيَنْ
هو الذي أنقذني مـن أن  أكونَ في ظُلمةِ قبر مُرْتَهنْ
بأحمدَ المهدي النبيِّ المرتهنْ

شروط البيعة في العقبة الأخيرة

قال ابن إسحاق : وكانت بيعةُ الحرب ، حين أذِن اللّه لرسولِه صلى اللّه عليه وسلم في القتال شروطاً سوى شرطِه عليهم في العقبة الأولى، كانت الأولى على بيعة النساء وذلك أن اللّه تعالى لم يكن أذِنَ لرسوله صلى اللّه عليه وسلم في الحرب ، فلما أذن اللّه له فيها، وبايعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في العقبة الأخيرة على حرب الأحْمر والأسود، أخذ لنفسه واشترطَ على القوم لربِّه ، وجعل لهم على الوفاء بذلك الجنة.

قال ابن إسحاق : فحدثني عُبادة بن الوليد بن عُبادة بن الصامت ، عن أبيه الوليد، عن جَدِّه عُبادة بن الصامت ، وكان أحد النقباء،

قال : بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بَيْعة الحرب - وكان عُبادة من الاثنى عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى على بيعة النساء - وعلى السمع والطاعة؛ في عُسرنا ويُسرنا ومُنْشَطنا ومُكْرَهنا، وأثْرَةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمرَ أهلَه ، وأن نقولَ بالحقِّ أينما كنا، لا نخاف في اللّه لَوْمة لائم.

أسماء من شهد العقبة الأخيرة

عدد من شهدها:

قال ابن إسحاق : وهذا تسمية من شهد العقبة، وبايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها من الأوْس والخزرج ، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين.

من الأوس بن حارثة : شهدها من الأوس بن حارثة بن ثَعلبة بن عَمرو بن عامر، ثم من بني عبد الأشْهل بن جُشَم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن الأوْس : أسَيْد بن حُضيْر بن سِمَاك بن عَتِيك بن رافعٍ بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشْهَل ، نقيب لم يشهد بدرا. وأبو الهَيْثم بن التيهان ، واسمه مالك ، شهد بدراً. وسَلَمة بن سلامة بن وَقْش بن زِغْبة بن زَعُوراء بن عبد الأشْهل ، شهد بدراً، ثلاثة نفر.

قال ابن هشام :

ويقال : ابن زعَوْراء.

من بني حارثة بن الحارث :

قال ابن إسحاق : ومن بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عَمرو بن مالك بن الأوْس : ظُهَيْر بن رافع بن عَدي بن زيد بن جُشم بن حارثة: وأبو بُرْدَة بن نِيَار، واسمه هاني بن نِيار بن عمرو بن عبيد بن كلاب بن دُهْمان بن غَنْم بن ذُبْيان بن هُمَيْم بن كاهل بن ذهْل بن هَنىّ بن بَلِىّ بن عَمرو بن الحاف بن قُضاعة، حليف لهم شهد بدراً. ونُهَيْر بن. الهَيْثم ، من بنى نابي ابن. مجْدعة بن حارثة، بن الحارث؛ بن الخزرج بن عَمرو بن مالك بن الأوس ، ثم من آل السواف بن قيس بن عامر بن نايي بن مَجْدعة. بن ، حارثة. ثلاثة نفر.

من بني عمرو بن عوف : - ومن بنى عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس : سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النَّحَّاط بن كعب بن حارثة بن غَنْم بن السَّلَم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس ، نقيب ، شهد بدراً، فقُتل به مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شهيداً.

قال ابن هشام : ونسبه ابن إسحاق في بنى عَمرو بن عوف؛ وهو من بني غَنْم بن السَّلَم لأنه ربما كانت دعوة الرجل في القوم ، ويكون فيهم فيُنسب إليهم.

قال ابن إسحاق : ورفاعة بن عبد المُنْذِر بن زَنْبَر بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عَوْف بن عمرو، نقيب ، شهد بدراً. وعبد اللّه بن جُبَيْر بن النعمان بن أمية ة بن البُرَك - واسم البُرَك : امرؤ القيس بن ثَعْلبة بن عَمرو بن عَوْف بن مالك بن الأوْس - شهد! بدراً، وقُتل يومَ أحد شهيداً أميراً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على. الرُّمَاة؛

ويقال : أمية.بن البَرْك ، فيما

قال ابن هشام.

قال ابن إسحاق : ومعْنُ بن عدي بن الجد بن.العَجْلان بن حارثة بن ضبَيْعة، حليف لهم من بَلِى، شهد بدراً وأحداً والخندق ، ومشاهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلها، قُتل يومَ اليمامة شهيداً في خلافة أبي بكر الصديق رضى اللّه عنه ، وعُوَيْم بن ساعدة، شهد بدرا وأحدا والخندق. خمسة نفر.

فجميع من شهد العقبة من الأوس أحد عشر رجلا.

من الخزرج بن حارثة : وشهدها، من الخزرج بن حارثة بن ثَعْلبة بن عَمرو بن عامر؛ ثم من بنى النجار، وهو تَيْم اللّه بن ثعلبة بن عَمرو بن الخزرج : أبو أيوب ، وهو خالد بن زيد بن كلَيب بن ثَعلبة بن عبد بن عَوْف بن غَنْم بن مالك بن النجار، شهد بدرا وأحداً والخندق ، والمشاهد كلها؛ مات بأرض الروم غازياً في زمن معاوية بن أبي سفيان. ومُعاذ بن الحارث بن رفاعة بن سَواد بن مالك بن غَنْم بن مالك بن النجار، شهد بدرا وأحداً والخندق ، والمشاهد كلها، وهو ابن عفراء، وأخوه عَوْف بن الحارث شهد بدرا وقتل به شهيدا، وهو لعفراء. واًخوه مُعوّذ بن الحارث ، شهد بدرا وقُتل به شهيدا ، وهو الذي قَتل أبا جهل بن هشام بن المغيرة : وهو لعفراء -

ويقال : رفاعة بن الحارث بن سواد - فيما

قال ابن هشامِ - وعُمارة بن حَزْم بن زيد بن لَوذان بن عَمْرو بن عبد عوف بن غنْم بن مالك بن النجار: شهد بدرا وأحداً والخندق ، والمشاهد كلَّها، قُتل يوم اليمامة شهيدا في خلافة أي بكر الصديق رض اللّه عنه. وأسعد بن زرارة ابن عُدَس بن عُبَيد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار، نقيب ، مات قبل بدر ومسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يُبنى، وهو أبو أمامة. ستة نفر.

من بني عمرو بن مبذول : ومن بنى عمرو بن مبذول - ومبذول : عامر بن مالك بن النجار -: سهل بن عَتيك بن نعمان بن عَمرو ابن عَتيك بن عمرو، شهد بدرا. رجل.

من بني عمرو بن مالك : ومن بنى عمرو بن مالك بن النجار، وهم بنو حُدَيْلة -

قال ابن هشام : حُدَيْلة : بنت مالك بن زيد مَناة بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غَضْب بن جُشَم بن الخزرج - أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عَمرو بن زيد مَناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، شهد بدراً، وأبو طلحة، وهو زَيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عَمرو بن زيد مَناة بن عَدي بن مالك بن النجار، شهدا بدرا. رجلان.

من بني مازن بن النجار: ومن بنى مازن بن النجار، قيس بن أبي صَعصعة، واسم أبي صعصَعة : عَمرو بن زيد بن عوف بن مَبْذُول بن عَمرو بن غَنْم بن مازن ، شهد بدرا، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعله على السَّاقَة يومئذ. وعمرو بن غزية بن عمرو بن ثعلبة بن خَنْساء بن مبذول بن عمرو بن غَنْم بن مازن. رجلان. فجميع.من شهد العقبة من بنى النجار أحد، عشر رجلا.

قال ابن هشام : عمرو بن غزية بن عمرو بن ثعلبة بن خنساء، هذا الذي ذكره ابن إسحاق ، إنما هو غزية بن عمرو بن عطية بن خنساء.

من بني الحارث بن الخزرج :

قال ابن إسحاق : ومن بلحارث بن الخزرج : سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زُهَيْر بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثَعْلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث ، نقيب ، شهد بدرا وقُتل يوم أحد شهيدا. وخارجة بن زيد بن أبي زُهَيْر بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث ، شهد بدراً وقُتل يوم أحد شهيدا. وعبد اللّه بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث ، نقيب ، شهد بدراً وأحداً والخندق ومشاهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلها، إلا الفتح وما بعده ، وقُتل يوم مؤتة شهيداً أميراً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وبشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث أبو النعمان بن بشير، شهد بدراً. وعبد اللّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد اللّه بن زيد مَناة بن الحارث بن الخزرج ، شهد بدرا، وهو الذي أرِيَ النداءَ للصلاة، فجاء به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأمر به ، وخَلاَّد بن سُوَيد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج ، شهد بدرا وأحدا والخندق ، وقُتل يوم بنى قُرَيْظة شهيدا، طُرِحَتْ عليه رحى من أطَم من أطَامها فشدخته شدخاً شديداً، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما يذكرون - إن له لأجر شهيدين. وعُقبة بن عَمرو بن ثعلبة بن أسَيْرة بن عُسَيْرة بن جِدَارة بن عَوْف بن الحارث بن الخزرج ، وهو أبو مسعود وكان أحدث من شهد العقبة سِنا، مات في أيام معاوية لم يشهد بدراً، سبعة نفر.

من بنيِ بياضة: ومن بني بَيَاضة بن عامر بن زُريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جُشَم بن الخزرج : زياد بن لَبِيد بن ثعلبة بن سِنان بن عامر بن عَدي بن أمية بن بَيَاضة، شهد بدراً، وفروة بن عَمرو بن وذْفَة بن عبيد بن عامر بن بياضة، شهد بدرا.

قال ابن هشام :

ويقال : ودفة.

قال ابن إسحاق : وخالد بن قَيْس بن مالك بن العَجْلان بن عامر ابن بَيَاضة شهد بدرا، ثلاثة نفر.

من بنيِ زريق :ومن بني زُرَيق بن عامر بن زُرَيق بن عبد حارثة بن مالك بن غضْب بن جُشَم بن الخزرج : رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زُريْق ، نقيب ، وذَكوان بن عبد قيس بن خلدة ابن فخلَّد بن عامر بن زُرَيق ،ِ وكان خرج إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان معه بمكة وهاجر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة، فكان يقال له : مهاجري أنصاري ، شهد بدرا وقُتل يوم أحد شهيدا. وعبَّاد بن قيس بن عامر بن خَلدة ابن مخُلّد بن عامر بن زُرَيق ، شهد بدرا، والحارث بن قيس بن خالد بن مَخْلَد بن عامر بن زُرَيْق ، وهو أبو خالد شهد بدرا، أربعة نفر.

من بني سلمة بن سعد: ومن بنى سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سَارِدَة بن تَزِيد بن جُشَم بن الجزِرج ، ثم من بنى عبيد ابن عدى بن غَنْم بن كعب بن سَلَمة : البَراء بن معرور بن صخر بن خَنْساء بن سِنان بن عبيد بن عدي بن غَنْم ، نقيب ، وهو الذي تزعُم بنو سلمة أنه كان أول من ضرب على يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشرط له ، واشترط عليه ، ثم تُوفي قبلَ مقْدَمِ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة. وابنه بشر بن البَراء بن معرور، شهد بدرا وأحدا والخندق ومات بخيبر من أكلة أكلها.مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، من الشاة التي سُمَّ فيها - وهو الذي قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حين سأِل بني سلَمة من سيدكم يا بني سَلَمة؟

فقالوِا: الجَدُّ بن قَيْس ، على بخله ، فقال رسول صلى اللّه عليه وسلم: وأي داءِ أكبر من البُخْل ! سيد بني سلَمة الأبيضُ الجَعْدُ بِشْر بن البَراء بن معرور وسِنان بن صيفى بن صخر بن خنساء بن سِنان ابن عبيد، شهد بدرا، وِقتل! يوم الخندق شهيدا. والطُّفَيْل بن النعمان ابن خَنْساء ابن سنان بن عُبَيْد، شهد بدرا، وحُمل يوم الخندق شهيدا. ومَعْقل بن المنذر بن سَرْح بن خُناس بن سِنان بن عُيَيْد، شهد بدرا، ويزيد بن المنذر، شهد بدرا، ومسعود بن يزيد بن سبيع بن خنساء بن سنان بن عبيد، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثَعلبة بن عُبَيْد، شهد بدرا، ويزيد بن حرام بن سبيع بن خنساء بن سنان بن عُبَيْد، وجُبار بن صخْر بن أمية بن خَنْساء بن سِنان بن عُبَيد، شهد بدرا.

قال ابن هشام :

ويقال : جَبَّار بن صخر بن أمية بن خُناس.

قال ابن إسحاق : والطفيل بن مالك بن خنساء بن سِنان بن عُبَيْد، شهد بدراً. أحد عشر رجلا.

من بني سواد بن غنم : ومن بني سواد بن غَنْم بن صب بن سَلَمة،َ ثم من بني كعب بن سَوَاد: كعب بن مالك بن أبي كعب ابن القيْن بن كعب ،رجل..

من بني غنم بن سواد: ومن بني غَنْم بن سَوَاد بنِ غَنْم بن كعب بن سَلَمة : سُلَيم بن عمرو بن حديدة بنِ عمرو بن غنْم ، شهد بدرا، وقُطْبة بن عامر بن حَديدة بن عمرو بن غنْم ، شهد بدرا، وأخوه يزيد بن عامر بن حَديدة بن عَمرو بن غَنْم ، وهو أبو المنذِر، شهد بدرا، وأبو اليَسَر، واسمه كعب بن عمرو بن عَبَّاد بن عَمرو بن غَنْم ، شهد بدرا، وصَيْفىُّ بن سَوَاد بن عَبَّاد بن عَمرو بن غَنْم ، خمسة نفر.

قال ابن هشام : صيفى بن أسْود بن عَبَّاد بن عمرو بن غنم بن سَوَاد، وليس لسواد ابن يقال له : غَنْم.

من بنيِ نابي :

قال ابن إسحاق : ومن بنى نابى بن عَمْرو بن سَوَاد بن غنْم بن كعب بن سَلَمة : ثعلبة بن غَنَمَة بن عدي بن نابى، شهد بدراً، وقُتل بالخندق شهيدا، وعمرو بن غَنَمَة بن عَدي بن بَابي ، وعَبْس بن عامر بن عدي بن نابى، شهد بدرا. وعبد اللّه بن أنيْس ، حليف لهم من قُضاعة وخالد بن عَمرو بن عَدِي بن نابى، خمسة نفر.

من بني حرِام بن كعب :

قال ابن إسحاق : ومن بني حرام ابن كعب بن غنْم بن كعب بن سَلَمة : عبد اللّه بن عمرو بن حرام ابن ثَعْلبة بن حرام ، نقيب ، شهد بدرا، وقُتل يوم أحد شهيدا وابنه جابر بن عبد اللّه. ومُعاذ بن عَمرو بن الجَموح بن يزيد بن حرام ، شهد بدرا، وثابت بن الجِذْع - والجِذْع : ثعلبة بن زيد بن الحارث بن حرام - شهد بدراً، وقُتل بالطائف شهيدا. وعُمَيْر بن الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن حرام ، شهد بدرا.

قال ابن هشام : عُمير بن الحارث بن لَبْدَة بن ثعلبة.

قال ابن إسحاق : وخَدِيج بن سَلاَمة بن أوْس بن عمرو بن الفُرَافِرِ، حليف لهم من بَلِيّ. ومُعاذ بن جَبَل بن عَمرو بن أوْس بن عائذ بن كعب بن عَمرو بن أدِي بن سعد بن على بن أسد،

ويقال : أسد بن سَارِدة بن تَزيد بن جُشَم بن الخزرج؛ وكان في بنى سَلَمة، شهد بدرا والمشاهد كلَّها ومات بعِمْواس ، عام الطاعون بالشام ، في خلافة عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ، وإنما ادعته بنو سَلَمة أنه كان أخا سهل بن محمد بن الجد بن قيس بن صخر بن خَنْساء بن سِنان ابن عبيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن سلمة. سبعة نفر.

قال ابن هشام: أوس: ابن عباد بن عدى بن كعب بن عمرو بن أذن بن سعد

من بنى عوف بن الخزرج :

قال ابن إسحاق : ومن بنى عَوْف بن الخزرج؛ ثم من بني سالم بن عَوْف بن عَمْرو بن عوف بن الخزرج : عُبادة بن الصامت بن قَيْس بن أصْرَم بن فِهْر بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عَوْف ، نقيب شهد بدرا والمشاهد كلها.

قال ابن هشام : هو غَنْم بن عَوْف ، أخو سالم بن عَوْف بن عمرو ابن عوف بن الخزرج.

قال ابن إسحاق : والعباس بن عُبادة بن نَضْلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غَنْم بن سالم بن عوف وكان ممن خرج إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة، فأقام معه بها، فكان يُقال له : مهاجري أنصاري ، وقُتل يوم أحد شهيدا، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خَزَمة بن أصرم بن عَمرو بن عُمارة، حليف لهم من بني غصينة من بلي. وعَمْرو بن الحارث بن لَبْدة بن عمرو بن ثَعلبة: أربعة نفر، وهم القَوَاقِل.

من بني سالم بن غنم : ومن بني سالم بن غَنْم بن عوف بن الخزرج ، وهم بنو الحُبُلَّى -

قال ابن هشام : الحبلى: سالم بن غنم ابن عوف ، وإنما سُمي الحبُلَّى لعظم بطنه - : رفاعة بن عمرو بن زيد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن سالم بن غَنْم. شهد بدرا؛ وهو أبو الوليد.

قال ابن هشام :

ويقال : رفاعة بن مالك ، ومالك : ابن الوليد بن عبد اللّه بن مالك بن ثعلبة بن جُشم بن مالك بن سالم.

قال ابن إسحق : وعقبة بن وهب بن كَلَّدة بن الجَعْد بن هلال بن الحارث بن عمرو بن عدي بن جشم بن عوف بن بُهْثَة بن عبد اللّه بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان ، حليف لهم ، شهد بدراً، وكان ممن خرج إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مهاجرا من المدينة إلى مكة، فكان يقال له : مهاجري أنصاري.

قال ابن هشام : رجلان.

من بني ساعدة بن كعب :

قال ابن إسحاق : ومن بني ساعدة بن كعب بن الخزرج : سعد بن عُبادة بن حارثة بن أبي خُزَيمة بن ثعلبة بن طَريف بن الخزرج بن سَاعدة نقيب ، والمُنذر بن عَمرو بن خنيس بن حارثة بن لَوْذان بن عبد وُدّ بن زيد بن ثعلبة بن جُشم بن الخزرج بن ساعدة. نقيب. شهد بدرا وأحدا. وقُتل يوم بئر معونة أميراً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو الذي كان يقال له أعنق ليموت. رجلان.

قال ابن هشام :

ويقال : المنذر بن عمرو بن خنش.

قال ابن إسحاق : فجميع من شهد العقبة من الأوس والخزرج ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان منهم ، يزعمون أنهما قد بايعتا، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يصافح النساءَ إنما كان يأخذ عليهنَّ ، فإذا أقررن ،

قال : اذهبْنَ فقد بايعتكنَّ.

من بني مازن بن النجار: ومن بنى مازن بن النجار: نُسَيْبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عَمرو بن غَنْم بن مازن ، وهي أم عمارة، كانت شهدت الحرب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وشهدت معها أختها. وزوجها زيد بن عاصم بن كعب. وابناها: حبيب بن زيد، وعبد اللّه بن زيد، وابنها حبيب الذي أخذه مُسيلمة الكذاب الحنفي ، صاحب اليمامة، فجعل يقول له : أتشهد أن محمدا رسول اللّه ؟ فيقول : نعم فيقول : أفتشهد إني رسول اللّه ؟ فيقول : لا أسمع ، فجعل يقطعه عضواً عضواً حتى مات في يده ، لا يزيده على ذلك ، إذا ذكر له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آمن به وصلى عليه ، وإذا ذكر له مُسيلمة

قال : لا أسمع - فخرجتْ إلى اليمامة مع المسلمين ، فباشرت الحربَ بنفسِها، حتى قَتل اللّه مسيلمةَ ورجعت وبها اثنا عشر جرحا، من بين طعنة وضربة.

قال ابن إسحاق : حدثني هذا الحديث عنها محمدُ بن يحيى بن حِبَّان ، عن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعة.

من بني سلمة : ومن بنى سلمة: أم مَنيع ، واسمها: أسماء بنت عَمرو بن عَدي بن نابى بن عمرو بن غَنْم بن كعب بن سَلَمة.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

نزول الأمر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في القتال

قال : حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام ،

قال : حدثنا زياد ابن عبد اللّه البكائي ، عن محمد بن إسحاق المطَّلبى : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يُؤْذَن له في الحرب ولم تُحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى اللّه والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل ، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم ، فهم من بين مفتون في دينه ، ومن بين مُعذَّب في أيديهم ، ومن بين هارب في البلاد فرارا منهم ، منهم مَن بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه ، فلما عتت قريش على اللّه عز وجل ، وردّوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، وعذبوا ونَفَوْا من عبَدَه ووحَّده وصدَّق نبيه ، واعتصم بدينه ، أذن اللّه عز وجل لرسوله صلى اللّه عليه وسلم في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم.

فكانت أولُ آية أنزلت في إذنه له في الحرب ، وإحلاله الدماء والقتال ، لمن بنى عليهم ، فيما بلغنى عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء،

قول اللّه تبارك وتعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّه عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّه وَلَوْلَا دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْبِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّه كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللّه مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَللّه عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} :[الحج: ٣٩ـ٤١] أي أني إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظُلموا، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس ، إلا أن يعبدوا اللّه، وأنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر، يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابَه رضي اللّه عنهمِ أجمعين ، ثم أنزل اللّه تبارك وتعالى عليه : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَة} : أي حتى لا يفتَن مؤمن عن دينه {وَيَكُونَ الدِّينُ للّه} [البقرة: ١٩٣]: أي حتى يُعبد اللّه ، لا يُعبد معه غيره.

الإذن لمسلمي مكة بالهجرة إلى المدينة

قال ابن إسحاق : فلما أذن اللّه تعالى له صلى اللّه عليه وسلم في الحرب ، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنُّصْرة له ولمن اتبعه ، وأوى إليهم من المسلمين ، أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ، ومن معه بمكة من المسلمين ، بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار

وقال : إن اللّه عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها، فخرجوا أرْسالاً، وأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له رُّبه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة.

ذكر المهاجرين إلى المدينة

هجرة أبي سلمة وامرأته : فكان أولُ من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المهاجرين من قريش، من بني مخزوم : أبو سَلمة بن عبد الأسَد بن هلال بن عبد اللّه بن عُمر بن مخزوم ، واسمه : عبد اللّه ، هاجر إلى المدينة قبل بَيعة أصحاب العقبة بستة، وكان قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش ، وبلغة إسلام من أسلم من الاًنصار، خرج إلى المدينة مهاجرا.

قال ابن إسحاق : حدثني أبي : إسحاق بن يسار، عن سَلَمة بن عبد اللّه بن عُمر بن أبي سَلَمة عن جدته أم سلمة، زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم،

قالت : لما أجمع أبي سلمة الخروج إلى المدينة رحَّل لي بعيره ثم حملني عليه ، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري ، ثم خرج بي يقود بعيرَه ، فلما رأته رجالُ بني المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم قاموا إليه ،

فقالوا: هذه نفسك غلبتَنا عليها، أرأيتَ صاحبتك هذه ؟ علامَ نتركك تسير بها في البلاد؟

قالت : فنزعوا خطامَ البعير من يده ، فأخذونى منه

قالت : وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهْط أبي سلمة،

فقالوا: لا واللّه ، لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.

قالت : فتجاذبوا بُنَيَّ سَلَمة بينهم حتى خلعوا يدًه وانطق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجي أبو سَلَمة إلى المدينة.

قالت : ففرق بيني وبين زوجي وبين ابنى.

قالت : فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطَح ، فما أزال، أبكي ، حتى أمسي : سنةً أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بنى عمى، أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة. ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها! قالت: فقالوا لي : الحقي بزوجك إن شئتِ.

قالت : ورد بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابنى.

قالت : فارتحلت بعيري ثم أخذت ابنى فوضعته في حجري ، ثم خرجت أريد زوجى بالمدينة.

قالت : وما معي أحد من خلق اللّه.

قالت : أتبلَّغ بمن لَقِيتُ حتى أقْدُمَ على زوجي ، حتى إذا كنت بالتنعيم لَقِيتُ عثمانَ بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بنى عبد الدار فقال لي : إلى أين يا بنت أبي أمية؟

قالت : فقلت أريد زوجي بالمدينة.

قال : أوَما معكِ أحد؟

قالت :

فقلت : لا واللّه ، إلا اللّه وبُنَىَّ هذا.

قال : واللّه ما لك من مَتْرك ، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي ، فواللّه ما صحبت رجلا من العرب قط ، أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثم استأخر عنى؛ حتى إذا نزلت استأخر ببعيري ؟ فحطَّ عنه ، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عنى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرَّواحُ ، قام إلى بعيري فقدمه فرَحله ثم استأخر عنى،

وقال : اركبى، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذه بخطامِه فقاده ، حتى ينزل بي حتى أقدمنى المدينة، فلما نظر إلى قرية بنى عَمْرو بن عَوْف بقُباء،

قال : زوجُك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة اللّه ، ثم انصرف راجعاً إلى مكة.

قال : فكانت تقول : واللّه ما أعلم أهلَ بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط كان أكرمَ من عثمان ابن طلحة.

هجرة عامر بن ربيعة وبني جحش

قال ابن إسحاق : ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة : عامر بن ربيعة، حليف بني عدي بن كعب ، معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمَة بن غانم ابن عبد اللّه بن عَوْف بن عُبَيد بن عَدي بن كعب. ثم عبد اللّه بن جَحْش بن رِئاب بن يَعْمُر بن صَبرة بن مُرة بن كثير بن غَنْم بن دُودان بن أسد بن خُزَيمة، حليف بني أمية بن عبد شمس ، احتمل بأهله وبأخيه عبد بن جَحْش، وهو أبو أحمد - وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكة، أعلاها وأسفلها، بغير قائد، وكان شاعراً، وكانت عنده الفَرْعَة بنت أبي سفيان بن حرب ، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم - فغُلِّقت دار بنى جَحْش هجرةً، فمر بها عُتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب ، وأبو جهل ابن هشام بن المغيرة، وهي دار أبان بن عثمان اليوم التي بالردْم ، وهم مُصعِدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عُتبة بن ربيعة تخفقَ أبوابُها يَباباً ليس فيها ساكن ، فلما رآها كذلك تنفس الصُّعَداء،

ثم قال :

وكل دار وإن طالت سلامتُها  يوماً ستُدركُها النكْباءُ والحُوبُ

قال ابن هشام : وهذا البيت لأبي دُؤاد الإيادي في قصيدة له. والحوب : التوجع.

قال ابن إسحاق :

ثم قال عتبة بن ربيعة : أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها! فقال أبو جهل : وما تبكي عليه من قُلّ ابن قُلّ.

قال ابن هشام : القُل : قال لَبيد بن ربيعة :

كل بنى حرة مصيرهم  قل وإن أكثرتْ من العَددِ

قال ابن إسحاق :

ثم قال : هذا عمل ابن أخى هذا، فرق جماعتنا، وشتت أمرَنا وقطع بيننا. فكان منزل أبي سلمة بن عبد الأسد، وعامر ابني ربيعة، وعبد اللّه بن جحش، وأخيه أبي أحمد بن جحش، على مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بقُباء، في بني عمرو بن عوف ، ثم قدم المهاجرون أرْسالاً، وكان بنو غَنم بن دوادن أهل إسلام ، قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هجرة رجالهم ونساؤهم : عبد اللّه ابن جحش ، وأخوه أبو أحمد بن جحش ، وعُكاشة بن مِحصن ، وشُجاع ، وعقبة، ابنا وهب ، و أرَبد بن حُمَيِّرَة.

قال ابن هشام : ويقال ابن حُمَيْرَة.

هجرة بعض الرجال ونسائهم

قال ابن إسحاق : ومُنْقذ بن نُباتة، وسعيد بن رُقَيش، ومُحرِز بن نَضلة، ويزيد بن رَُقيش، وقيس ابن جابر، وعَمرو بن مِحصن ، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وثَقْف بن عمرو، وربيعة بن أكثم ، والزبير بن عُبيد، وتمَّام بن عُبيدة، وسَخْبَرة بن عُبَيْدة، ومحمد بن عبد اللّه بن جَحْش.

ومن نسائهم : زينب بنت جَحش، وأم حَبيب بنت جَحْش، وجُذَامة بنت جَنْدَل ، وأم قيس بنت مِحْصن ، واًم حبيب بنت ثُمامة، وآمنة بنت رُقيشَ ، وسَخْبَرة بنت تميم ، حَمْنة بنت جحش.

وقال أبو أحمد بن جَحْش بن رِئاب ، وهو يذكر هجرة بني أسد ابن خُزَيمة من قومه إلى اللّه تعالى وإلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وإيعابهم في ذلك حين دُعوا إلى الهجرة :

ولو حلفتْ بين الصفا أمُّ أحمـد   ومَرْوتها باللّه بَرَّتْ يمينُها
لنحنُ الألى كنا بها
ثُم لم نـزلْ   بمكةَ حتى عاد غَثًّا سمينُها
بها خيَّمت غَنْم بنُ دُوادنَ وابتنتْ   وما إِنْ غَدتْ غَنْم وخف قطينُها
إلى اللّه تغدو بين مَثْنى وواحـدٍ   ودينُ رسولِ اللّه بالحقِّ دينُها

وقال أبو أحمد بن جحش أيضاً:

لما رأتنى أمُّ أحمدَ غاديـــاً   بذمةِ من أخشى بغَيْبٍ وأرهبُ
تقول : فإما كنتَ لا بدَّ فاعـلا   فيممْ بنا البلدانَ ولتنأ يثربُ
فقلت لها: بل يثربُ اليومَ وجهُنا   وما يشاءُ الرحمنُ فالعبدُ يركبُ
إلى اللّه وجهي والرسول ومن يُقمْ   إلى اللّه يوماً وجهُه لا يُخيَّبُ
فكم قد تركنا من حميمٍ مُناصـحٍ   وناصحةٍ تبكى بدمعٍ وتندُبُ
ترى أن وِتراً نأينا عن بلادِنـا   ونحنُ نرى أن الرغائبَ تُطْلَبُ
دعوْتُ بنى غَنْمٍ لحقْنِ دمائِهـم   وللحق لما لاح للناسِ مَلْحبُ
أجابوا بحمدِ اللّه لما دعاهــمُ   إلى الحقِّ داعٍ والنجاح فأوْعبوا
وكنا وأصحاباً لنا فارقوا الهدَى   أعانوا علينا بالسلاح وأجْلَبوا
كَفَوْجَيْن :
أمَّا منهما فمُوفّــَق   على الحقِّ مهدى ، وفوج مُعَذَّبُ
طغَوْا وتمنوْا كذبة وأزلَّهــم   عن الحقِّ إبليس فخابوا وخُيبوا
وَرِعْنا إلى قولِ النبيِّ محمـد   فطاب وُلاةُ الحقِّ منا وطُيِّبوا
نمتْ بأرحام إليهم قريبـــةٍ   ولا قربَ بالأرحام إذ لا نُقَرَّبُ
فأيُّ ابنِ أختٍ بعدَنا يأمننَّكـم  وأيةُ صِهْر بعدَ صِهريَ ترْقَبُ
ستعلمُ يوماً أينا - إذ تزايلوا  وزُيل أمرُ الناسِ - للحقِّ أصوبُ

قال ابن هشام : قوله " ولتنأ يثرب "، وقوله " إذ لا نقرب "، عن غير ابن إسحاق.

قال ابن هشام يريد بقوله : " إذ " إذا، كقول اللّه عز وجل : {إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.[سبأ: ٣١] قال أبو النجم العِجْلي :

ثم جزاه اللّه عنا إذ جَزَى جنَّات عدنٍ في العَلالى والعُلاَ

هجرة عُمر وقصة عياش وهشام معه

قال ابن إسحاق : ثم خرج عُمر بن الخطاب ، وعَيَّاش بن أبي ربيعة المخزومى، حتى قدما المدينة. فحدثني نافع مولى عبد اللّه بن عمر، عن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب ،

قال : اتعَدْتُّ ، لما أردنا الهجرة إلى المدينة، أنا وعَيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام ابن العاص بن وائل السهمي التَّناضِبَ من أضاة بني غفار، فوق سَرِف وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حُبس فليمض صاحباه.

قال : فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التَّناضِب ، وحُبس عنا هشام ، وفُتن فافتتن.

أبو جهل يغرر بعياش بن أبي ربيعة: فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عَمرو بن عوف بقُباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عَيَّاش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا: إن أمَّك قد نذرت أن لا يَمس رأسَها مُشظ حتى تراك ،. ولا تستظل من شمس حتى تراك ، فرقَّ لها، فقلت له : يا عياش ، إنه واللّه إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرْهم ، فواللّه لو قد آذى أمَّك القملُ لامتشطت ، ولو قد اشتد عليها حرُّ مكة لاستظلت.

قال : فقال : أبرّ قَسَمَ أمي، ولي هنالك مال فآخذه.

قال :

فقلت : واللّه إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما.

قال : فأبى علي إلا أن يخرج معهما؛ فلما أبي إلا ذلك؛

قال : قلت له : أما إذ قد فعلت ما فعلت ، فخذ ناقتى هذه ، فإنها ناقة نجيبة ذلول ، فالزم ظهرَها، فإن رابك من القوم ريْب ، فانجُ عليها.

فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال له أبو جهل : يا بن أخي ، واللّه لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تُعْقِبنى على ناقتك هذه ؟

قال : بلَى.

قال : فأناخ ، وأناخا ليتحول عليها، فلما استَوَوْا بالأرض عدَوَا عليه ، فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتُتن.

 قال ابن إسحاق : فحدثني به بعضُ آل عَيَّاش بن أبي ربيعة : أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهاراً مُوثَقا،

ثم قالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم ، كما فعلنا بسفيهنا هذا.

كتاب عمر إلى هشام بن العاص :

قال ابن إسحاق : وحدثني نافع ، عن عبد اللّه بن عمر، عن عمر في حديثه ،

قال : فكنا نقول : ما اللّه بقابل ممن افتُتن صَرْفاً ولا عَدْلاً ولا تَوْبة، قوم عرفوا اللّه ، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم أ

قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسِهم. فلما قَدِم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، أنزل اللّه تعالى فيهم ، وفى قولنا وقولهم لأنفسهم : { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: ٥٣ـ٥٥].

قال عمر بن الخطاب فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص

قال : فقال هشام بن العاص : فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طُوَى، أصعد بها فيه وأصَّوَّب ولا أفهمها حتى قلت :

اللّهم فَهمْنيها.

قال : فألقى اللّه تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا.

قال : فرجعت إلى بعيري ، فجلست عليه ، فلحقت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بالمدينة.

أمر الوليد بن الوليد مع عياش وهشام :

قال ابن هشام : فحدثني من أثق به : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ، وهو بالمدينة : من لي بعَيَّاش ابن أبي ربيعة، وهشام بن العاص فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة : أنا لك يا رسول اللّه بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفياً، فلقي امرأة تحمل طعاما فقال لها: أين تريدين يا أمة اللّه ؟

قالت : أريد هذين المحبوسين تعنيهما فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له ؟ فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ مَرْوة فوضعها تحتَ قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه : " ذو المرْوة " لذلك ، ثم حملهما على بعيره ، وساق بهما، فعثر فدَميت إصبُعه ،

فقال :

هل أنتِ إلا إصبعٌ دميت   وفى سبيلِ اللّه ما لَقيتِ

ثم قدم بهما على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة.

منازل المهاجرين بالمدينة

منزل عمر وأخيه وعمرو وعبد اللّه ابني سراقة وخنيس بن حذافة وبني البكيَر:

قال ابن إسحاق : ونزل عمر بن الخطاب حين قدم المدينة ومن لحق به من أهله وقومه ، وأخوه زيد بن الخطاب؛ وعمرو وعبد اللّه ابنا سراقة بن المعتمر، وخُنَيس بن حُذافة السَّهْمي وكان صهره على ابنته حَفْصة بنت عمر، فخلف عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعده وسعيد بن زيد بن عَمرو بن نُفَيل ، وواقد بن عبد اللّه التميمي ، حليف لهم؛ وخَؤْليّ بن أبي خَوْلِيّ ؛ ومالك بن أبي خَوْلِيّ ، حليفان لهم.

قال ابن هشام : أبو خولى: من بني عجل بن لُجَيم بن صعب ابن على بن بكر بن وائل.

قال ابن إسحاق : وبنو البُكير أربعتهم : إياس بن البكير، وعاقل ابن البُكير، وعامر بن البكير، وخالد بن البكير، وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث ، على رفاعة بن عبد المنذر بن زنْبَر، في بنى عَمرو ابن عَوْف بقُباء، وقد كان منزل عَيَّاش بن أبي ربيعة معه عليه حين قدما المدينة.

منزل طلحة وصهيب : ثم تتابع المهاجرون ، فنزل طلحة بن عبيداللّه ابن عثمان ، وصُهيب بن سنان على خُبَيْب بن إساف أخي بلحارث ابن الخزرج بالسُّنْح ،

ويقال : بل نزل طلحة بن عُبيداللّه على أسعد ابن زُرارة، أخي بني النجار.

قال ابن هشام : وذُكر لي عن أبي عثمان النهْدي أنه

قال : بلغني اًن صُهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صُعلوكا حقيرا، فكثر مالُك عندنا، وبلغتَ الذي بلغتَ ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسِك ، واللّه لا يكون ذلك؛ فقال لهم صُهَيْب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ؟

قالوا: نعم.

قال : فإنى جعلت لكم مالي.

قال : فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال : ربح صُهيب؛ ربح صهيب.

منزل حمزة وزيد وأبي مرثد وابنه وأنسة وأبي كبشة :

قال ابن إسحاق : ونزل حمزةُ بنُ عبد المطلب ، وزيد بن حارثة، وأبو مَرْثَد كَنَّاز بن حِصْن.

قال ابن هشام : ويقال ، ابن حُصَيْن - وابنه مرثد الغنويان ، حليف حمزة بن عبد المطلب وأنَسة، وأبو كَبْشة، موليا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على كُلثوم بن هِدْم ، أخي بني عمرو بن عَوْف بقُباء ويقال بل نزلوا على سعد بن خَيْثمة

ويقال : بل نزل حمزة بن عبد المطلب على أسعد بن زُرارة، أخي بني النجار. كل ذلك يقال.

منزل عبيدة وأخيه والحصين وغيرهم : ونزل عبيدة بن الحارث ابن المطلب ، وأخوه الطُّفَيل بن الحارث ، والحُصَيْن بن الحارث ، ومِسْطَح ابن أثَاثة بن عَبّاد بن المطلب ، وسُوَيْبط بن سعد بن حُرَيْملة، أخو بنى عبد الدار وطُلَيب بن عُمَير، أخو بنى عبد بن قصي ، وخَبّاب ، مولي عُتبة بن غزوان ، على عبد اللّه بن سلمة، أخي بلعجلان بقباء.

منزل عبد الرحمن بن عوف : ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخي بِلْحَارث بن الخزرج ، في دار بِلْحارث بن الخزرج.

منزل الزبير وأبي سبرة: ونزل الزبير بن العوام ، وأبو سَبْرة بن أبي رُهْم بن عبد العُزى، على مُنْذِر بن محمد بن عُقْبة بن أحَيْحة ابن الجُلاح بالعُصبة، دار بنى جحجبي.

منزل مصعب بن عمير: ونزل مُصْعَب بن عُمَير بن هاشم ، أخو بنى عبد الدار على سعد بن مُعاذ بن النعمان ، أخى بنى عبد الأشْهل ، في دار بني عبد الأشْهل.

منزل.أبي حذيفة : ونزل أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، وسالم مولي أبي حذيفة.

قال ابن هشام : سالم مولى أبي حُذَيفة سائبة لثُبَيْتة.بنت يَعَار بن زيد بن عُبَيْد بن زيد بن مالك بن عوف بن عَمْرو بن عوف بن مالك بن الأوْس ، سيبته فانقطع إلى أبي حذيفة بن عُتْبة بن ربيعة فتبناه ، فقيل : سالم مولى أبي حذيفة،

ويقال : كانت ثُبَيْتة بنت يَعار تحت أبي حُذيفة بن عتبة فأعتقت سالماً سائبة. فقيل : سالم لي أبي حذيفة.

منزل عتبة بن غزوان :

قال أبن إسحاق : ونزل عتبة بن غزوان ابن جابر على عَبَّاد بن بشر بن وَقْش أخي بني عبد الأشْهل ، في دار عبد الأشهل.

منزل عثمان بن عفان : ونزل عثمان بن عفان على أوْس بن ثابت بن المنذِر، أخى حسان بن ثابت في دار بني النجار، فلذلك كان حسان يحبُّ عثمان ويبكيه حين قُتل.

وكان يقال : نزل الأعزابُ من المهاجرين على سعد بن خَيْثمة، وذلك أنه كان عَزَبا، فاللّه أعلم أي ذلك كان.

تم بعون اللّه. الجزء الثاني : من السيرة النبوية لابن هشام ويليه - إن شاء اللّه - الجزء الثالث وأوله : هجرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم أعان اللّه على إتمامه.