Geri

   

 

 

İleri

 

١٠-٢ الفصل الثالث

فى تفضيله- صلى اللّه عليه وسلم- فى الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم وعلى الدرجات العاليات وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، المغبوط عليه من الأولين والآخرين، وانفراده بالسؤدد فى مجمع جامع الأنبياء والمرسلين، وترقيه فى جنات عدن أرقى مدارج السعادة، وتعاليه يوم المزيد فى أعلى معالى الحسنى وزيادة.

اعلم أن اللّه تعالى كما فضل نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فى البدء بأن جعله أول الأنبياء فى الخلق، وأولهم فى الإجابة فى عالم الذر، يوم ألست بربكم، فضل له ختم كمال الفضائل فى العود، فجعله أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع، وأول من يؤذن له بالسجود، وأول من ينظر إلى رب العالمين، والخلق محجوبون عن رؤيته إذ ذاك، وأول الأنبياء يقضى بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته، وأول داخل الجنة، وأمته أول الأمم دخولا إليها. وزاده لطائف التحف ونفائس الطرف ما لا يحد ولا يعد:

فمن ذلك أنه يبعث راكبا، وتخصيصه بالمقام المحمود، ولواء الحمد تحته آدم فمن دونه من الأنبياء، واختصاصه أيضا بالسجود للّه تعالى أمام العرش،

__________

(١) أخرجه الترمذى (٣٦٩٢) فى المناقب، باب: رقم (٧٢) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٨٩٩) .

وما يفتحه اللّه عليه فى سجوده من التحميد والثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبله ولا يفتحه على أحد بعده زيادة فى كرامته وقربه، وكلام اللّه له: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ولا كرامة فوق هذا إلا النظر إليه تعالى.

ومن ذلك: تكراره فى الشفاعة، وسجوده ثانية وثالثة، وتجديد الثناء عليه بما يفتح اللّه عليه.

ومن ذلك: كلام اللّه تعالى له فى كل سجدة: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع، فعل المدل على ربه الكريم عليه الرفيع عنده، المحب ذلك منه تشريفا له وتكريما وتبجيلا وتعظيما.

ومن ذلك: قيامه عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم، وإتيانهم إليه يسألونه الشفاعة ليريحهم من غمهم وعرقهم وطول وقوفهم، وشفاعته فى أقوام قد أمر بهم إلى النار.

ومنها: الحوض، الذى ليس فى الموقف أكثر أوان منه، وأن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته.

ومنها: أنه يشفع فى رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم.

وهو صاحب الوسيلة التى هى أعلى منزلة فى الجنة، إلى غير ذلك مما يزيده تعالى به جلالة وتعظيما وتبجيلا وتكريما على رؤس الأشهاد من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين. ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم.

فأما تفضيله- صلى اللّه عليه وسلم- بأولية انشقاق القبر المقدس عنه، فروى مسلم من حديث أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع) (١) .

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٧٨) فى الفضائل، باب: تفضيل نبينا على جميع الخلائق. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

وفى حديث أبى سعيد- رضى اللّه عنه-

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى- آدم فمن سواه- إلا تحت لوائى، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر..) (١)

رواه الترمذى.

وعن ابن عمر

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر، ثم آتى أهل البقيع فيحشرون معى، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين) (٢) قالالترمذى: حسن صحيح. ورواه أبو حاتم و

قال: حتى نحشر. وتقدم.

وعن أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش: فما أدرى أكان فيمن صعق) (٣) . وفى رواية: (فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدرى أكان فيمن صعق فأفاق قبلى أو كان ممن استثنى اللّه) (٤) .

رواه البخارى. والمراد بالصعق: غشى يلحق من سمع صوتا أو رأى شيئا ففزع منه.

ولم يبين فى هذه الرواية- من الطريقين- محل الإفاقة، من أى الصعقتين. ووقع فى رواية الشعبى عن أبى هريرة فى تفسير سورة الزمر (إنى أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة) .

والمراد بقوله: (ممن استثنى اللّه)

قوله تعالى: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣١٤٨) فى تفسير القرآن، باب: ومن سورة بنى إسرائيل من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-. قال الترمذى: حسن صحيح.

(٢) وقد تقدم قريبا.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٤١١) فى الخصومات، باب: ما يذكر فى الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهود. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٤) تقدم.

وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللّه (١) . وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون، مع أن الموتى لا إحساس لهم؟

فقيل المراد: الذين يصعقون هم الأحياء، وأما الموتى فهم فى الاستثناء فى قوله: إِلَّا مَنْ شاءَ اللّه (٢) أى إلا من سبق له الموت قبل ذلك فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح القرطبى. ولا يعارضه ما ورد فى الحديث: إن موسى ممن استثنى اللّه، لأن الأنبياء أحياء عند اللّه.

وقال القاضى عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض. وتعقبه القرطبى: بأنه صرح- صلى اللّه عليه وسلم- بأنه يخرج من قبره فيلقى موسى وهو متعلق بالعرش وهذا إنما هو عند نفخة البعث.

انتهى.

ووقع فى رواية أبى سلمة عند ابن مردويه: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة فأقوم فأنفض التراب عن رأسى، فاتى قائمة العرش فأجد موسى قائما عندها، فلا أدرى أنفض التراب عن رأسه قبلى، أو كان ممن استثنى اللّه) (٣) .

واختلف فى المستثنى من هو على عشرة أقوال: فقيل الملائكة، وقيل الأنبياء، وبه قال البيهقى فى تأويل الحديث فى تجويزه: أن يكون موسى ممن استثنى اللّه،

قال: ووجهه عندى أنهم أحياء كالشهداء، فإذا نفخ فى الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتا فى جميع معانيه إلا فى ذهاب الاستشعار.

وقيل الشهداء: واختاره الحليمى

قال: وهو مروى عن ابن عباس، فإن اللّه تعالى يقول: أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (٤) ، وضعف غيره من الأقوال.

__________

(١) سورة النمل: ٨٧.

(٢) سورة النحل: ٨٧.

(٣) تقدم.

(٤) سورة آل عمران: ١٦٩.

وقال أبو العباس القرطبى صاحب (المفهم) : الصحيح أنه لم يأت فى تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل. وتعقبه تلميذه فى (التذكرة) ف

قال: قد ورد فى حديث أبى هريرة بأنهم الشهداء وهو صحيح. وعن أبى هريرة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سأل جبريل عن هذه الآية: (من الذين لم يشأ اللّه أن يصعقوا؟)

قال: هم شهداء اللّه (١) . وصححه الحاكم.

وقيل: هم حملة العرش وجبريل وميكائيل وملك الموت، ثم يموتون، وآخرهم ملك الموت، وقيل هم الحور العين والولدان فى الجنة.

وتعقب: بأن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات والأرض، لأن العرش فوق السماوات كلها، وبأن جبريل وميكائيل وملك الموت من الصافين المسبحين، ولأن الحور العين والولدان فى الجنة، وهى فوق السماوات ودون العرش، وهى بانفرادها عالم مخلوق للبقاء فلا شك أنها بمعزل عما خلقه اللّه للفناء. ثم إنه وردت الأخبار بأن اللّه تعالى يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل ثم يحييهم.

وأما أهل الجنة فلم يأت عنهم خبر، والأظهر أنها دار خلود، فالذى يدخلها لا يموت فيها أبدا، مع كونه قابلا للموت، فالذى خلق فيها أولى أن لا يموت فيها أبدا.

فإن قلت: قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (٢) يدل على أن الجنة نفسها تفنى ثم تعاد ليوم الجزاء، ويموت الحور العين ثم يحيون.

أجيب: بأنه يحتمل أن يكون معنى قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ (٣) أى أنه قابل للّهلاك، فيهلك إن أراد اللّه به ذلك، إلا هو سبحانه فإنه قديم، والقديم لا يمكن أن يفنى، انتهى ملخصا من تذكرة القرطبى.

ويؤيد القول بعدم موت الحور قولهن: نحن الخالدات فلا نموت، كما فى الحديث.

ولا يقال: المراد من قولهن الخلود الكائن بعد القيامة، لأنه لا خصوصية فيه، والأوصاف المشتركة لا يتباهى بها، واللّه أعلم.

__________

(١) ذكره الحافظ فى (الفتح) (١١/ ٣٧١) .

(٢) سورة القصص: ٨٨.

(٣) سورة القصص: ٨٨.

وفى كتاب العظمة لأبى الشيخ ابن حبان من طريق وهب بن منبه من قوله:

قال: خلق اللّه الصور من لؤلؤة بيضاء فى صفاء الزجاجة، ثم قال للعرش: خذ الصور فتعلق به، ثم

قال: كن فكان إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة، فذكر الحديث وفيه:

ثم تجتمع الأرواح كلها فى الصور، ثم يأمر اللّه إسرافيل فينفخ فيه فتدخل كل روح فى جسدها. فعلى هذا فالنفخ يقع فى الصور أولا ليصل النفخ بالروح إلى الصّور وهى الأجساد، فإضافة النفخ إلى الصور الذى هو القرن حقيقة، وإلى الصور التى هى الأجساد مجاز.

وفى صحيح مسلم من حديث عبد اللّه بن عمر، رفعه: (ثم ينفخ فى الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، ثم يرسل اللّه مطرا كأنه الطل فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) (١) .

و (الليت) بكسر اللام وبالمثناة التحتية ثم الفوقية: صفحة العنق، وهما ليتان و (أصغى) : أمال.

وأخرج البيهقى بسند قوى، عن ابن مسعود موقوفا: ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه- والصور قرن- فلا يبقى للّه خلق فى السماوات والأرض إلا مات، إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء اللّه أن يكون.

وأخرج ابن المبارك فى الرقاق من مرسل الحسن: بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت اللّه بها كل حى، والآخرى يحيى اللّه بها كل ميت، ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس، وهو ......

وعن أنس

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مستشفعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدى، ولواء الحمد

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٩٤٠) فى الفتن، باب: فى خروج الدجال ومكثه فى الأرض ونزول عيسى. من حديث عبد اللّه بن عمرو، وليس ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

يومئذ بيدى، وأنا أكرم ولد آدم على ربى، يطوف علىّ ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور) (١) . رواه الدارمى، وقال الترمذى: حديث غريب.

ولم يقل: وأنا إمامهم، لأن دار الآخرة ليست دار تكليف.

وفى حديث رواه صاحب كتاب (حادى الأرواح) : أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يبعث يوم القيامة وبلال بين يديه ينادى بالأذان.

وفى كتاب (ذخائر العقبى) للطبرى، مما عزاه لتخريج الحافظ السلفى من حديث أبى هريرة، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (تبعث الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة على ناقتىّ العضباء والقصواء، وأحشر أنا على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة) (٢) .

وأخرجه الطبرانى والحاكم بلفظ: (يحشر الأنبياء على الدواب، وأبعث على البراق، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة فينادى بالأذان محضّا وبالشهادة حقّا، حتى إذا قال أشهد أن محمدا رسول اللّه، شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين) (٣) .

وعند ابن زنجويه فى (فضائل الأعمال) عن كثير بن مرة الحضرمى،

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (تبعث ناقة ثمود لصالح فيركبها من عند قبره حتى توافى به المحشر، وأنا على البراق اختصصت به من دون الأنبياء يومئذ، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادى على ظهرها بالأذان حقّا، فإذا سمعت الأنبياء وأممها: أشهد أن محمدا رسول اللّه قالوا: ونحن نشهد على ذلك) (٤) .

__________

(١) أخرجه الدارمى (٤٨) فى المقدمة، باب: ما أعطى النبى من الفضل. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-.

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٣٣٣) و

قال: رواه الطبرانى فى الصغير والكبير، وفيه أبو صالح كاتب الليث وهو ..... وقد وثق، وعثمان بن يحيى بن صالح المصرى كذلك وبقية رجالهما رجال الصحيح.

(٣) انظر ما قبله.

(٤) أخرجه حميد بن زنجويه وابن عساكر عن كثير بن مرة الحضرى، والعقيلى فى الضعفاء، -

وذكر الشيخ زين الدين المراغى، مما عزاه لابن النجار فى تاريخ المدينة عن كعب الأحبار، والقرطبى فى (التذكرة) وابن أبى الدنيا عن كعب: أنه دخل على عائشة- رضى اللّه عنها-، فذكروا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال كعب: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفون بالقبر، ويضربون بأجنحتهم ويصلون على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك يحفون بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، سبعون ألفا بالليل وسبعون ألفا بالنهار، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج فى سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وفى (نوادر الأصول) للحكيم الترمذى من حديث ابن عمر

قال: خرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ويمينه على أبى بكر وشماله على عمر، ف

قال: (هكذا نبعث يوم القيامة) (١) .

وعن أبى هريرة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيرى) (٢) . رواه الترمذى.

وفى رواية جامع الأصول عنه: (أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى) (٣) ، وفى رواية كعب: حلة خضراء.

وفى البخارى، من حديث ابن عباس، عنه- صلى اللّه عليه وسلم-:

__________

وابن عساكر عن عبد الكريم بن كيسان عن سويد بن عمير، وقال العقيلى: ابن كيسان مجهول وحديثه غير محفوظ، وأورد ابن الجوزى حديث سويد فى ال.......ات ووافقه الذهبى، وقال غيره: .......، انظر (كنز العمال) (٣٩١٧٩) .

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٦١) فى المناقب، باب: فى مناقب أبى بكر وعمر، كليهما من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- .

(٢) أخرجه الترمذى (٣٦١٩) فى المناقب، باب: فضل النبى. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) تقدم فى الذى قبله.

(تحشرون حفاة عراة غرلا، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم) (١) .

وأخرجه البيهقى، وزاد: وأول من يكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حلة من الجنة ويؤتى بكرسى فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بى فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر. وفيه: أنه يجلس على الكرسى عن يمين العرش.

ولا يلزم من تخصيص إبراهيم- عليه السّلام- بأنه أول من يكسى أن يكون أفضل من نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-، على أنه يحتمل أن يكون نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- خرج من قبره فى ثيابه التى مات فيها، والحلة التى يكساها يومئذ حلة الكرامة، بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم فى الكسوة بالنسبة لبقية الخلق.

وأجاب الحليمى: بأنه يكسى إبراهيم أولا، ثم يكسى نبينا، - عليهما الصلاة والسلام-، على ظاهر الخبر، لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فتجبر بنفاستها ما فات من الأولية.

وفى حديث أبى سعيد عند أبى داود وصححه ابن حبان، أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها و

قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (إن الميت يبعث فى ثيابه التى يموت فيها) (٢) .

وعند الحارث بن أبى أسامة وأحمد بن منيع: (فإنهم يبعثون فى أكفانهم ويتزاورون فى أكفانهم) (٣) .

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٣٤٩) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول اللّه تعالى واتخذ اللّه إبراهيم خليلا. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٣١١٤) فى الجنائز، باب: ما يستحب من تطهير ثياب الميت عند الموت. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-. .

(٣) صحيح: أخرجه مسحويه والعقيلى فى الضعفاء والخطيب فى التاريخ عن أنس، كما فى (صحيح الجامع) (٨٤٥) .

ويجمع بينه وبين ما فى البخارى بأن بعضهم يحشر عاريا وبعضهم كاسيا، أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى الأنبياء، وأول من يكسى إبراهيم- عليه السّلام-، أو يخرجون من القبور بالثياب التى ماتوا فيها ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة ثم يكون أول من يكسى إبراهيم.

وحمل بعضهم حديث أبى سعيد على الشهداء، فيكون أبو سعيد سمعه فى الشهداء فحمله على العموم.

وأما ما رواه الطبرى فى (الرياض النضرة) وعزاه للإمام أحمد فى المناقب عن محدوج بن زيد الهذلى أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال لعلى: (أما علمت يا على أنه أول من يدعى به يوم القيامة بى، فأقوم عن يمين العرش فى ظله، فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على أثر بعض، فيقومون سماطين عن يمين العرش ويكسون حللا خضرا من حلل الجنة، ألا وإن أمتى أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشر، فأول من يدعى بك، فيدفع لك لوائى وهو لواء الحمد، فتسير به بين السماطين، آدم وجميع خلق اللّه تعالى يستظلون بظل لوائى يوم القيامة، وطوله مسيرة ألف سنة وستمائة سنة، وسنانه ياقوتة حمراء، قبضته فضة بيضاء، زجه درة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور، ذؤابة فى المشرق، وذؤابة فى المغرب، والثالثة فى وسط الدنيا، مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأول: بسم اللّه الرحمن الرحيم، الثانى: الحمد للّه رب العالمين، الثالث: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، طول كل سطر ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة، فتسير باللواء والحسن عن يمينك، والحسين عن يسارك، حتى تقف بينى وبين إبراهيم- عليه السّلام- فى ظل العرش، ثم تكسى حلة من الجنة، والسماطان من الناس والنخل: الجانبان) (١) .

ورواه ابن سبع فى الخصائص بلفظ: قال سأل عبد اللّه بن سلام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن لواء الحمد ما صفته؟

قال: (طوله مسيرة) الحديث. فقال

__________

(١) أخرجه بنحوه أحمد فى (المسند) (٣/ ١١٦) من حديث أنس، وله رواية أيضا بنحوه فى الصحيحين.

الحافظ قطب الدين الحليمى: كما نقله عنه المحب بن الهمام: إنه ....... بين الوضع.

قال: واللّه أعلم بحقيقة لواء الحمد.

وفى حديث أبى سعيد- عند الترمذى بسند حسن-

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى) (١) الحديث. واللواء: الراية، وفى عرفهم لا يمسكها إلا صاحب الجيش ورئيسه، ويحتمل أن تكون بيد غيره بإذنه وتكون تابعة له ومتحركة بحركته، تميل معه حيث مال، لا أنه يمسكها بيده، إذ هذه الحالة أشرف.

وفى استعمال العرب عند الحروب، إنما يمسكها صاحبها، ولا يمنعه ذلك من القتال بها، بل يقاتل بها ممسكا لها أشد القتال، ولذا لا يليق بإمساكها كل أحد، بل مثل على- رضى اللّه عنه-، كما قال (لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه وسوله، ويحبه اللّه ورسوله) (٢) . وإنما أضاف (اللواء) إلى (الحمد) الذى هو الثناء على اللّه بما هو أهله، لأن ذلك هو منصبه فى ذلك الموقف دون غيره من الأنبياء. وقد اختلف فى هيئة حشر الناس.

ففى البخارى من حديث أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير وأربعة على بعير. وعشرة على بعير، ويحشر بقيتهم النار، تقبل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسى معهم حيث أمسوا) (٣) رواه الشيخان.

وقد مال الحليمى إلى أن هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالى،

وقيل: إنهم يخرجون من القبور بالوصف المذكور فى

__________

(١) تقدم.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٤٠٤) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب. من حديث سعد بن أبى وقاص- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٥٢٢) فى الرقاق، باب: كيف الحشر، ومسلم (٢٨٦١) فى الجنة وصفته، باب: فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

حديث ابن عباس عند الشيخين: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إنكم محشورون حفاة عراة غرلا، ثم قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ثم يفترق حالهم من ثم إلى الموقف، كما فى حديث أبى هريرة:

(ويحشر الكافر على وجهه) ، قال رجل: يا رسول اللّه، كيف يحشر على وجهه؟

قال: (أليس الذى أمشاه على الرجلين فى الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة) (١) أخرجه الشيخان.

وفى حديث أبى ذر عند النسائى مرفوعا: (إن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوجا راكبين طاعمين كاسين، وفوجا تسحبهم الملائكة على وجوههم، وفوجا يمشون ويسعون) (٢) .

وفى حديث سهل بن سعد مرفوعا: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقى ليس فيها علم لأحد) (٣) رواه الشيخان.

وفى حديث عقبة بن عامر- عند الحاكم- رفعه: (تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ فاه وأشار بيده ألجمها فاه، ومنهم من يغطيه عرقه، وضرب بيده على رأسه) (٤) .

وله شاهد عند مسلم، من حديث المقداد بن الأسود، وليس بتمامه، وفيه: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل،

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٧٦٠) فى تفسير القرآن، باب: قوله الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك ... من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه النسائى (٤/ ١١٦) فى الجنائز، باب: البعث، وأحمد فى (المسند) (٥/ ١٦٤) .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٥٢١) فى الرقاق، باب: يقبض اللّه الأرض يوم القيامة. من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-. ولفظه يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقىّ، قال سهل أو غيره: ليس فيها معلم لأحد.

(٤) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٦١٥) ، وانظر ما بعده.

فيكون الناس على قدر أعمالهم فى العرق) (١) . وهذا ظاهر فى أنهم يستوون فى وصول العرق إليهم ويتفاوتون فى حصوله فيهم.

فإن قلت: الشمس محلها السماء، وقد

قال اللّه تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (٢) والألف واللام فى (السماء) للجنس، بدليل وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (٣) فما طريق الجمع؟

فالجواب: يجوز أن تقام بنفسها دانية من الناس فى المحشر ليقوى هوله وكربه، عافانا اللّه من كل مكروه.

وقال ابن أبى جمرة: ظاهر الحديث يقتضى تعميم الناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الآخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء اللّه، فأشدهم الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم.

وأخرج أبو يعلى، وصححه ابن حبان عن أبى هريرة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤)

قال: مقداره نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون على المؤمنين كتدلى الشمس إلى أن تغرب (٥) .

وأخرج أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبى سعيد.

وللبيهقى فى البعث عن أبى هريرة: (يحشر الناس قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء، فليجمهم العرق من شدة الكرب) (٦) .

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٨٦٤) فى الجنة وصفتها، باب: فى صفة يوم القيامة. من حديث المقداد بن الأسود- رضى اللّه عنه-.

(٢) سورة الأنبياء: ١٠٤.

(٣) سورة الزمر: ٦٧.

(٤) سورة المطففين: ٦.

(٥) أصله فى مسلم (٩٨٧) فى الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٦) أخرجه البيهقى فى (البعث والنشور) (ص ٣٣٩) .

وفى البخارى من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، - صلى اللّه عليه وسلم-: (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم فى الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم) ) .

وعند البيهقى من حديث ابن مسعود: (إذا حشر الناس قاموا أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم، والشمس على رؤسهم حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر) .

وفى حديث أبى سعيد، عند أحمد، أنه يخفف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة فريضة مكتوبة (٢) ، وسنده حسن. وللطبرانى من حديث ابن عمر: ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار.

وجاء عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص: أن الذى يلجمه العرق الكافر، أخرجه البيهقى فى البعث بسند حسن عنه

قال: يشتد كرب الناس ذلك اليوم حتى يلجم الكافر العرق، قيل له: فأين المؤمنون؟

قال: على كراسى من ذهب ويظلل عليهم الغمام.

وبسند قوى عن أبى موسى

قال: الشمس فوق رؤس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظلهم.

وأخرج ابن المبارك فى (الزهد) وابن أبى شيبة فى (المصنف) واللفظ له، بسند جيد عن سلمان

قال: تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الرأس حتى تكون قاب قوسين، فيعرقون حتى يرشح العرق فى الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل. زاد ابن المبارك فى روايته:

ولا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة. قال القرطبى: المراد من يكون كامل

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٥٣٢) فى الرقاق، باب: قول اللّه تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن حبان فى (صحيحه) كلهم من طريق دراج عن أبى الهيثم، قاله المنذرى فى (الترغيب والترهيب) (٤/ ٣٩١) ، قلت: وهو طريق ......

الإيمان لما يدل عليه حديث المقداد وغيره: أنهم يتفاوتون فى ذلك بحسب أعمالهم.

وفى رواية عند أبى يعلى، وصححها ابن حبان: إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب، أرحنى ولو إلى النار (١) . وهو كالصريح فى أن ذلك كله فى الموقف. ومن تأمل الحالة المذكورة، عرف عظيم الهول فيها، وذلك أن النار تحف بأرض الموقف، وتدنو الشمس من الرؤس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض، وماذا يرونه من العرق مع أن كل أحد لا يجد إلا قدر موضع قدميه، فكيف يكون حال هؤلاء فى عرقهم مع تنوعهم فيه.

إن هذا لما يبهر العقول، ويدل على عظيم القدرة، ويقتضى الإيمان بأمور الآخرة، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يعترض على ذلك بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول.

فتأمل- رحمك اللّه- شدة هذا الازدحام والانضمام والاتساق والالتصاق، واجتماع الإنس والجان، ومن يجمع معهم من سائر أصناف الحيوان، وانضغاطهم وتدافعهم واختلاطهم، وقرب الشمس منهم، وما يزاد فى حرها، ويضاعف فى وهجها، ولا ظل إلا ظل عرش ربك بما قدمته، مع ما انضاف إلى ذلك من حر البأس، لتزاحم الناس واحتراق القلوب، لما غشيها من الكروب.

ولا ريب أن هذا موجب لحصول العطش فى ذلك اليوم، وكثرة الالتهاب، والماء ثم أعز موجود، وأعظم مفقود، فلا منهل مورود إلا حوض صاحب المقام المحمود- صلى اللّه عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه، ولا مشرب لأمته سواه، ولا تبرد أكبادهم إلا به، فالشربة منه كما ورد تروى الظمأ، وتشفى من الصدى. وتذهب بكل داء فلا يظمأ شاربها ولا يسقم بعدها أبدا.

__________

(١) رواه الطبرانى فى الكبير بإسناد جيد، وأبو يعلى، ومن طريقه ابن حبان إلا أنهما قالا: إن الكافر. ورواه البزار والحاكم من حديث الفضل بن عيسى وهو واه عن المنكدر عن جابر، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، قاله المنذرى فى (الترغيب والترهيب) (٤/ ٣٩٠) .

وفى حديث أنس عند البزار: من شرب منه- أى من الحوض- شربة لم يظمأ أبدا، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدا، وزاد فى حديث أبى أمامة عند أحمد وابن حبان: ولم يسود وجهه أبدا.

وفى حديث ثوبان عند الترمذى وصححه الحاكم: (أكثر الناس عليه ورودا فقراء المهاجرين) (١) .

وفى حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص، عند الشيخين: (حوضى مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، ورائحته أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ أبدا) (٢).

قال القرطبى فى (التذكرة) : ذهب صاحب (القوت) وغيره إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح أن للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- حوضين، أحدهما فى الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمى كوثرا.

وتعقبه شيخ الحفاظ ابن حجر: بأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب فى الحوض، ويطلق على الحوض كوثر لكونه يمد منه. فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبى أن الحوض يكون قبل الصراط لأن الناس يردون الموقف عطاشا، فيرد المؤمنون الحوض، وتتساقط الكفار فى النار بعد أن يقولوا ربنا عطشنا، فترفع لهم جهنم كأنها سراب فيقال ألا تردون، فيظنونها ماء فيتساقطون فيها.

وفى حديث أبى ذر مما رواه مسلم: (أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة) (٣) وهو حجة على القرطبى لا له، لأن الصراط جسر جهنم، وهو بين

__________

(١) صحيح المرفوع منه: أخرجه الترمذى (٢٤٤٤) فى صفة القيامة، باب: ما جاء فى صفة أوانى الحوض، من حديث ثوبان- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٥٧٩) فى الرقاق، باب: فى الحوض. من حديث عبد اللّه ابن عمرو- رضى اللّه عنهما-.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٠٠) فى الفضائل، باب: إتيان حوض نبينا وصفاته. من حديث أبى ذر- رضى اللّه عنه-.

الموقف والجنة، والمؤمنون يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذى يصب من الكوثر فى الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض، بجانب الجنة ليصب فيه الماء من النهر الذى داخلها.

وقال القاضى عياض: ظاهر قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا) يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار، لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذب بالنار، ولكن يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيها بالظمأ بل بغيره.

وعن أنس

قال: سألت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن يشفع لى يوم القيامة،

فقال: (أنا فاعل إن شاء اللّه) قلت: فأين أطلبك؟

قال: (أول ما تطلبنى على الصراط) ، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟

قال: (فاطلبنى عند الميزان) ، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟

قال: (فاطلبنى عند الحوض، فإنى لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن) (١) . رواه الترمذى وقال: حسن غريب.

وفى حديث ابن مسعود عند أحمد: (ثم أوتى بكسوتى فألبسها فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد، فيغبطنى به الأولون والآخرون) .

قال: (ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض) (٢) . الحديث.

وقد بين فى حديث ابن عمرو بن العاص، عند البخارى، أن الحوض مسيرة شهر، وزاد فى رواية مسلم من هذا الوجه: وزواياه سواء طوله كعرضه. وهذه الزيادة- كما قاله فى فتح البارى- تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث فى تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول.

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٤٣٣) فى صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء فى شأن الصراط. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه أحمد (١/ ٣٩٨) من حديث ابن مسعود، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٣٦٢) وقال: رواه أحمد والبزار والطبرانى وفى أسانيدهم كلهم عثمان بن عمير، وهو ......

وفى حديث أبى سعيد عند ابن ماجه رفعه: (إن لى حوضا ما بين الكعبة وبيت المقدس) (١) .

وفى حديث أبى برزة عند الطبرانى وابن حبان فى صحيحه: (ما بين ناحيتى حوضى كما بين أيلة وصنعاء، مسيرة شهر عرضه كطوله) (٢) . وفى حديث أنس- عند الشيخين- كما بين صنعاء والمدينة. وفى حديث عتبة بن عبد السلمى عند ابن حبان فى صحيحه كما بين صنعاء إلى بصرى. وفى حديث أبى أمامة عند الطبرانى: ما بين عدن وعمان- بضم المهملة وتخفيف الميم- وقال ابن الأثيرفى النهاية فى حديث الحوض: عرضه من مقامى إلى عمّان- هى بفتح العين وتشديد الميم- مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء، فأما بالضم والتخفيف فهو صقع عند البحرين. انتهى.

وهذه المسافات كلها متقاربة، وظن بعضهم أنه وقع اضطراب فى ذلك، وليس كذلك.

وأجاب النووى عن ذلك: بأنه ليس فى ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة، فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة. وحاصله يشير إلى أنه أخبر أولا بالمسافة اليسيرة ثم أعلم بالمسافة الطويلة فأخبر بما كان اللّه تفضل عليه باتساعه شيئا بعد شئ، فيكون الاعتماد على أطولها مسافة.

فإن قلت: هل لكل نبى من الأنبياء غير نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- حوض هناك يقوم عليه كنبينا؟

فالجواب: أنه اشتهر اختصاص نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- بالحوض. قال القرطبى فى (المفهم) مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به، أنه تعالى قد خص نبيه محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه فى الأحاديث الصحيحة الشهيرة التى يحصل بمجموعها العلم القطعى، إذ روى ذلك عنه- صلى اللّه عليه وسلم- من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم فى الصحيحين

__________

(١) أخرجه ابن ماجه (٤٣٠١) فى الزهد، باب: ذكر الحوض، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-، وقال البوصيرى فى الزوائد: فى إسناده عقبة العوفى، وهو ......

(٢) إسناده حسن: أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٦٤٥٨) وقال الشيخ شعيب الأرناؤط: إسناده حسن.

ما ينيف على العشرين، وفى غيرهما بقية ذلك، كما صح نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم، ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرّا، واجتمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف. انتهى.

لكن أخرج الترمذى من حديث سمرة رفعه: (إن لكل نبى حوضا) (١) وأشار إلى أنه اختلف فى وصله وإرساله، وأن المرسل أصح، والمرسل أخرجه ابن أبى الدنيا بسند صحيح عن الحسن

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن لكل نبى حوضا) ، وهو قائم على حوضه بيده عصا يدعو من عرف من أمته، ألا وإنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإنى لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا.

وأخرجه الطبرانى من وجه آخر عن سمرة موصولا مرفوعا مثله، وفى سنده لين.

وأخرج ابن أبى الدنيا أيضا من حديث أبى سعيد رفعه: (وكل نبى يدعو أمته، ولكل نبى حوض، فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العصبة، ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإنى لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة) ، وفى إسناده لين.

فإن ثبت، فالمختص نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- الكوثر الذى يصب من مائه فى حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به فى سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (٢) انتهى ملخصا من فتح البارى.

و (الفئام) كما فى الصحاح، الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، والعامة تقول (فيام) بلا همز.

وفى رواية مسلم من حديث أبى هريرة رفعه،

قال: (ترد علىّ أمتى الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل عن إبله) قالوا: يا رسول اللّه، تعرفنا؟

__________

(١) تقدم.

(٢) سورة الكوثر: ٢.

قال: (نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون علىّ غرّا محجلين من آثار الوضوء) (١) .

قالوا: والحكمة فى الذود المذكور، أنه- صلى اللّه عليه وسلم- يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، كما تقدم (إن لكل نبى حوضا) ، فيكون هذا من جملة إنصافه- صلى اللّه عليه وسلم- ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلا عليهم بالماء، ويحتمل أن يكون بطرد من لا يستحق الشرب من الحوض. واللّه أعلم.

وفى حديث أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (لحوضى أربعة أركان، الأول بيد أبى بكر الصديق، والثانى بيد عمر الفاروق، والثالث بيد عثمان ذى النورين، والرابع بيد على بن أبى طالب. فمن كان محبّا لأبى بكر مبغضا لعمر لا يسقيه أبو بكر، ومن كان محبّا لعلى مبغضا لعثمان لا يسقيه على) . رواه أبو سعد فى (شرف النبوة) والغيلانى واللّه أعلم.

وأما تفضيله- صلى اللّه عليه وسلم- بالشفاعة والمقام المحمود، فقد

قال تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٢) . اتفق المفسرون على أن كلمة (عسى) من اللّه واجب، قال أهل المعانى: لأن لفظة (عسى) تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانا فى شئ ثم أحرمه كان عارا، واللّه تعالى أكرم من أن يطمع أحدا فى شئ ثم لا يعطيه ذلك. وقد اختلف فى تفسير المقام المحمود على أقوال:

أحدها: أنه الشفاعة. قال الواحدى: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذه الآية: (هو المقام الذى أشفع فيه لأمتى) .

وقال الإمام ابن الخطيب: اللفظ مشعر بذلك، لأن الإنسان إنما يصير محمودا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاما أنعم فيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليمهم الشرع لأن

__________

(١) تقدم.

(٢) سورة الإسراء: ٧٩.

ذلك كان حاصلا فى الحال. وقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (١) يدل على أن يحصل للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل، ومن المعلوم أن حمد الإنسان على سعيه فى التخلص عن العقاب أعظم من سعيه فى زيادة من الثواب لا حاجة به إليها، لأن احتياج الإنسان فى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التى لا حاجة إلى تحصيلها.

وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٢) هو الشفاعة فى إسقاط العذاب على ما هو مذهب أهل السنة.

ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارا قويّا.

ثم وردت الأخبار الصحيحة فى تقرير هذا المعنى كما فى البخارى من حديث ابن عمر

قال: سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن المقام المحمود ف

قال: (هو الشفاعة) (٣) . وفيه أيضا عنه

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن الناس يصيرون يوم القيامة جثّى كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع لنا، حتى تنتهى الشفاعة إلىّ فذلك المقام المحمود) (٤) .

فإذا ثبت هذا، فيجب حمل اللفظ عليه

قال: ومما يؤكد هذا، الدعاء المشهور: وابعثه مقاما محمودا يغبطه فيه الأولون والآخرون.

ونصب قوله (مقاما) على الظرفية، أى وابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محمودا، أو على أنه مفعول به، وضمن معنى (ابعثه) معنى (أقمه) ، ويجوز أن يكون حالا بعد حال، أى: ابعثه ذا مقام. قال الطيبى: وإنما نكّره لأنه

__________

(١) سورة الإسراء: ٧٩.

(٢) سورة الإسراء: ٧٩.

(٣) أخرجه أحمد (٢/ ٤٧٨) ، من حديث أبى هريرة، وهو عند البخارى بلفظ آخر انظر رقم (٤٧١٨) .

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٤٧١٨) فى تفسير القرآن، باب: قوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

أفخم وأجزل، أى مقاما محمودا بكل لسان. وقول النووى: (إن الرواية ثبتت بالتنكير، وأنه كان حكاية للفظ القرآن) متعقب بأنه جاء فى هذه الرواية بعينها بالتعريف عند النسائى.

قال ابن الجوزى: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وادعى الإمام فخر الدين الاتفاق عليه.

القول الثانى: قال حذيفة: يجمع اللّه الناس فى صعيد واحد، فلا تكلم نفس، فأول مدعو محمد- صلى اللّه عليه وسلم- فيقول: (لبيك وسعديك والخير فى يديك، والشر ليس إليك، والمهتدى من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت)

قال: فهذا هو المراد من

قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (١) رواه الطبرانى وقال ابن منده: حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رجاله.

قال الرازى: والقول الأول أولى، لأن سعيه فى الشفاعة يفيد إقدام الناس على حمده فيصير محمودا، وأما ما ذكر من الدعاء فلا يفيد إلا الثواب، أما الحمد فلا.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يحمده على هذا القول؟

فالجواب: لأن الحمد فى اللغة مختص بالثناء المذكور فى مقابلة الإنعام فقط، فإن ورد لفظ (الحمد) فى غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز.

القول الثالث: مقام تحمد عاقبته، قال الإمام فخر الدين: وهذا أيضا ..... للوجه الذى ذكرنا.

القول الرابع: قيل هو إجلاسه- صلى اللّه عليه وسلم- على العرش وقيل على الكرسى، روى عن ابن مسعود أنه قال: يقعد اللّه تعالى محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- على العرش، وعن مجاهد أنهقال: يجلسه معه على العرش. قال الواحدى:

وهذا قول رذل موحش فظيع، ونص الكتاب ينادى بفساد هذا التفسير، ويدل عليه وجوه:

__________

(١) سورة الإسراء: ٧٩.

الأول: أن البعث ضد الإجلاس، يقال: بعثت البارك والقاعد فانبعث، ويقال بعث اللّه الميت أى أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد وهو فاسد.

والثانى: يوجب أنه تعالى لو كان جالسا على العرش بحيث يجلس عنده محمد- صلى اللّه عليه وسلم- لكان محمودا متناهيا، ومن كان كذلك فهو محدث تعالى اللّه علوّا كبيرا.

والثالث: أنه تعالى

قال: مَقاماً مَحْمُوداً (١) ولم يقل مقعدا، والمقام موضع القيام، لا موضع القعود.

الرابع: وإذا قيل: السلطان بعث فلانا، فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه، فثبت أن هذا القول ساقط، لا يميل إليه إلا قليل العقل عديم الدين، انتهى.

وتعقب القول الثانى: بأنه تعالى يجلس على العرش كما أخبر جل وعلا عن نفسه المقدسة بلا كيف، وليس إقعاد محمد- صلى اللّه عليه وسلم- على العرش موجبا له صفة الربوبية، أو مخرجا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه، وأما قوله (معه) فهو بمنزلة

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ (٢) وقوله: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ (٣) فكل هذا ونحوه عائد على الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان.

وقال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلانى: قول مجاهد (يجلسه معه على العرش) ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عطية: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به

قال: وبالغ الواحدى فى رد هذا القول. ونقل النقاش عن أبى داود صاحب السنن أنه

قال: من أنكر هذا فهو متهم. وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبى، وعن ابن عباس عند أبى الشيخ

__________

(١) سورة الإسراء: ٧٩.

(٢) سورة الأعراف: ٢٠٦.

(٣) سورة التحريم: ١١.

قال: إن محمدا يوم القيامة يجلس على كرسى الرب بين يدى الرب، فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك يحمل ما جاء عن مجاهد وغيره، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس هى المنزلة المعبر عنها بالوسيلة. كذا قاله بعضهم: ويحتمل أن يكون الإجلاس علامة الإذن فى الشفاعة.

واختلف فى (فاعل) الحمد من

قوله تعالى: مَحْمُوداً (١) فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل النبى- صلى اللّه عليه وسلم أى أنه يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده فى الليل، والأول أرجح لما ثبت من حديث ابن عمر بلفظ:

(مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم) ويجوز أن يحمل على أعم من ذلك، أى: مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه، وهو مطلق فى كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا أبو حيان، وأيده بأنه نكرة تدل على أنه ليس المراد مقاما مخصوصا. انتهى.

فإن قلت: إذا قلنا بالمشهور، أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، فأى شفاعة هى؟

فالجواب: إن الشفاعة التى وردت فى الأحاديث، فى المقام المحمود نوعان:

النوع الأول: العامة فى فصل القضاء،

والثانى: فى الشفاعة فى إخراج المذنبين من النار، لكن الذى يتجه: رد هذه الأقوال كلها إلى الشفاعة العظمى العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد، وثناءه على ربه وكلامه بين يديه، وجلوسه على كرسيه كل ذلك صفات للمقام المحمود الذى يشفع فيه ليقضى بين الخلق.

وأما شفاعته فى إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك، وقد أنكر بعض المعتزلة والخوارج الشفاعة فى إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٢)وقوله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (٣) .

__________

(١) سورة الإسراء: ٧٩.

(٢) سورة المدثر: ٤٨.

(٣) سورة غافر: ١٨.

وأجاب أهل السنة بأن هذه الآيات فى الكفار. قال القاضى عياض:

مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلا، ووجوبها سمعا، لصريح

قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١) وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى (٢) ولقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٣) المفسر بها عند الأكثرين، كما قدمنا.

وقد جاءت الأحاديث التى بلغ مجموعها التواتر بصحة الشفاعة فى الآخرة لذنبى المؤمنين، وعن أم حبيبة

قالت: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أريت ما تلقى أمتى من بعدى، وسفك بعضهم دماء بعض، وسبق لهم من اللّه ما سبق للأمم قبلهم فسألت اللّه أن يؤتينى فيهم شفاعة يوم القيامة ففعل) (٤) .

وفى حديث أبى هريرة: (لكل نبى دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى فى الآخرة) . وفى رواية أنس: (فجعلت دعوتى شفاعة لأمتى) (٥) . وهذا من مزيد شفقته علينا، وحسن تصرفه حيث جعل دعوته المجابة فى أهم أوقات حاجاتنا، فجزاه اللّه عنا أفضل الجزاء.

وعن أبى هريرة؛ قلت: يا رسول اللّه ماذا ورد عليك فى الشفاعة؟

فقال: (شفاعتى لمن شهد أن لا إله إلا اللّه مخلصا يصدق لسانه قلبه) (٦) .

وعن أبى زرعة عن أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

__________

(١) سورة طه: ١٠٩.

(٢) سورة الأنبياء: ٢٨.

(٣) سورة الإسراء: ٧٩.

(٤) صحيح: أخرجه أحمد (٦/ ٤٢٧) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ١٣٨) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢٣/ ٢٢١ و ٢٢٢) .

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٠٤) فى الدعوات، باب: لكل نبى دعوة مستجابة، ومسلم (١٩٨) فى الإيمان، باب: اختباء النبى دعوة الشفاعة لأمته. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٦) أخرجه أحمد (٢/ ٣٠٧ و ٥١٨) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذلك؟ يجمع اللّه الأولين والآخرين فى صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعى، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه، إلى ما بلغتم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فقال: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهانى عن الشجرة فعصيت، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا- عليه السّلام- فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك اللّه عبدا شكورا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لى دعوة، دعوت بها على قومى، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم- عليه السّلام- فيقولون: أنت نبى اللّه وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنى كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى- عليه السّلام-، فيقولون: يا موسى، أنت رسول اللّه، فضلك برسالته وبكلامه على الناس، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنى قد قتلت نفسّا لم أومر بقتلها، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى- عليه السّلام-، فيقولون: يا عيسى: أنت رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمات الناس فى المهد، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى- عليه السّلام-: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى،

اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- فيقولون: يا محمد، أنت رسول اللّه اللّه وخاتم الأنبياء، وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فأنطلق فاتى تحت العرش فأقع ساجدا لربى، ثم يفتح اللّه على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلى، ثم ي

قال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسى فأقول: أمتى يا رب، أمتى يا رب،

فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب) (١) الحديث رواه البخارى ومسلم.

قال فى فتح البارى: وقد استشكل قولهم لنوح: (أنت أول الرسل من أهل الأرض) ، فإن آدم نبى مرسل، وكذا شيث وإدريس، وهم قبل نوح.

ومحصل الأجوبة عن ذلك: أن الأولية مقيدة بقوله (أهل الأرض) لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا، وإلى هذا جنح ابن بطال فى حق آدم. وتعقبه القاضى عياض بما صححه ابن حبان من حديث أبى ذر، فإنه كالصريح فى أنه كان مرسلا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال. وأما إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان من بنى إسرائيل.

ومن الأجوبة: أن رسالة آدم كانت إلى بنيه، وهم موحدون، ليعلمهم شريعته ونوح رسالته كانت إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد.

وذكر الغزالى فى كتاب (كشف علوم الآخرة) أن بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحا ألف سنة، وكذا بين كل نبى ونبى، إلى نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-.

قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف لذلك على أصل،

قال: ولقد أكثر فى هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها، فلا يغتر بشئ منها.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٣٤٠) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول اللّه تعالى إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك ... ، ومسلم (١٩٤) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

ووقع فى رواية حذيفة: أن الخليل- عليه السّلام-

قال: (لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلا من وراء وراء) . بفتح الهمزة فيهما بلا تنوين، ويجوز البناء فيها على الضم للقطع عن الإضافة نحو (من قبل ومن بعد) واختار أبو البقاء. قال الأخفش: يقال لقيته من وراء بالضم،

وقال:

إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء

ويجوز فيهما النصب والتنوين جوازا جيدا، قاله أبو عبد اللّه الأبى.

ومعناه: لم أكن فى التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب،

وقيل: مراده: إن الفضل الذى أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذى كلمه اللّه بلا واسطة، وكرر (وراء) إشارة إلى نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه

قال: أنا من وراء موسى، الذى هو من وراء محمد، وسبق مزيد لذلك فى الخصائص.

وأما ما ذكره من الكذبات الثلاث، فقال البيضاوى: الحق أنها إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استقصارا لنفسه عن الشفاعة، لأن من كان أعرف باللّه وأقرب إليه منزلة، كان أعظم خوفا.

وأما قوله عن عيسى: (إنه لم يذكر ذنبا) ، فوقع فى حديث ابن عباس عند أحمد والنسائى: (إنى اتخذت إلها من دون اللّه) ) .

وفى حديث النضر بن أنس عن أبيه، حدثنى نبى اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إنى لقائم انتظر أمتى عند الصراط، إذ جاء عيسى ف

قال: يا محمد، هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو اللّه أن يفرق جمع الأمم إلى حيث شاء، لعظم ما هم فيه) (٢) .

فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حينئذ، وأن هذا الذى

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٣٧٢) وقال: رواه أبو يعلى وأحمد وفيه على بن زيد، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجالهما رجال الصحيح.

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٣٧٣) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار فى النار، وأن عيسى هو الذى يخاطب نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-، وأن جميع الأنبياء يسألونه فى ذلك.

وفى حديث سلمان عند ابن أبى شيبة: يأتون محمدا فيقولون: يا نبى اللّه، أنت فتح اللّه بك وختم بك، وغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وجئت فى هذا اليوم، وترى ما نحن فيه فقم فاشفع لنا إلى ربنا، فيقول: (أنا صاحبكم) ، فيجوس الناس حتى ينتهى إلى باب الجنة.

فإن قلت: ما الحكمة فى انتقاله- صلى اللّه عليه وسلم- من مكانه إلى الجنة؟

أجيب: بأن أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مقام مخافة وإشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون فى مكان إكرام.

وفى حديث أبى بن كعب عند أبى يعلى رفعه: فأسجد له سجدة يرضى بها عنى، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عنى.

وفى حديث أبى بكر الصديق، فينطلق إليه جبريل، فيخر ساجدا قدر جمعة، في

قال: يا محمد، ارفع رأسك.

وفى رواية النضر بن أنس: فأوحى اللّه إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل له: ارفع رأسك.

وعلى هذا، فالمعنى يقول لى على لسان جبريل، والظاهر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- يلهم التحميد قبل سجوده، وبعده وفيه، ويكون فى كل مكان ما يليق به، فإنه ورد فى رواية: (فأقوم بين يديه فيلهمنى بمحامد لا أقدر عليها، ثم أخر ساجدا) (١) . وفى رواية البخارى: (فأرفع رأسى فأحمد ربى بتحميد يعلمنى) (٢) .

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٧٥١٠) فى التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء، ومسلم (١٩٣) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-.

(٢) تقدم فى الذى قبله.

وفى رواية أبى هريرة عند الشيخين: (فاتى تحت العرش فأقع ساجدا لربى: ثم يفتح اللّه على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلى) (١) ، ثم ي

قال: يا محمد، ارفع رأسك. الحديث.

وفى رواية البخارى من حديث قتادة عن أنس: (ثم أشفع، فيحد لى حدّا، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة) (٢) .

قال الطيبى: أى يبين لى كل طور من أطوار الشفاعة حدّا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجماعة، ثم فيمن أخل بالصلاة، ثم فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنا، وهكذا على هذا الأسلوب، والذى يدل عليه سياق الأخبار أن المراد به تفصيل مراتب المخرجين فى الأعمال الصالحة، كما وقع عند أحمد عن يحيى القطان عن سعيد بن أبى عروبة.

وفى رواية ثابت عند أحمد فأقول: (أى رب، أمتى أمتى) ، فيقول:

أخرج من كان فى قلبه مثقال شعيرة، وفى حديث سلمان: فيشفع فى كل من كان فى قلبه مثقال حبة من حنطة، ثم شعيرة، ثم حبة خردل، فذلك المقام المحمود.

وفى رواية أبى سعيد عند مسلم: (ارجعوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال دينار من خير) . قال القاضى عياض: قيل معنى الخير: اليقين بالإيمان. وأما قوله فى رواية أنس عند البخارى: (فأخرجهم من النار) فقال الداودى: كأن راوى هذا الحديث ركب شيئا على غير أصله، وذلك أن فى أول الحديث ذكر الشفاعة فى الإراحة من كرب الموقف، وفى آخره ذكر الشفاعة فى الإخراج من النار، يعنى: وذلك إنما يكون بعد الدخول من الموقف والمرور على

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٧١٢) فى تفسير القرآن، باب: ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٧٤٤٠) فى التوحيد، باب: قول اللّه تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

الصراط وسقوط من يسقط فى تلك الحالة فى النار. ثم تقع بعد ذلك الشفاعة فى الإخراج. وهو إشكال قوى.

وقد أجاب عنه النووى: ومن قبله القاضى عياض: بأنه قد وقع فى حديث حذيفة وأبى هريرة: فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له فى الشفاعة، وترسل معه الأمانة والرحم فيقومان جنبتى الصراط، يمينا وشمالا، أى يقفان فى ناحيتى الصراط. قال القاضى عياض: فبهذا ينفصل الكلام، لأن الشفاعة التى لجأ الناس إليه فيها هى لإراحة الناس من كرب الموقف، ثم تجئ الشفاعة فى الإخراج. انتهى.

والمعنى فى قيام الأمانة والرحم، أنهما لعظم شأنهما، وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما، يوقفان للأمين والخائن، وللواصل والقاطع، فتحاجان عن المحق، ويشهدان على المبطل.

وقد وقع فى حديث أبى هريرة بعد ذكر الجمع فى الموقف: الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكأن الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء، والإراحة من كرب الموقف، وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها. انتهى.

فظهر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أول ما يشفع ليقضى بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وأن العرض والميزان وتطاير الصحف تقع فى هذا الموطن، ثم ينادى لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيسقط الكفار فى النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن فى نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين، فيسقطون فى النار أيضا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط، ويوقف من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة.

وقد قال النووى ومن قبله القاضى عياض: الشفاعات خمس:

الأولى: فى الإراحة من هول الموقف.

الثانية: فى إدخال قوم الجنة بغير حساب.

الثالثة: فى إدخال قوم حوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذبوا.

الرابعة: فى إخراج من أدخل النار من العصاة.

الخامسة: فى رفع الدرجات. انتهى.

فأما الأولى: وهى لإراحة الناس من هول الموقف، فيدل عليها حديث أبى هريرة وغيره المتقدم، وحديث أنس عند البخارى، ولفظه: (يجمع اللّه الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت الذى خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربك، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا نوحا، وذكر إتيانهم الأنبياء واحدا واحدا، إلى أن

قال: فيأتونى، فأستأذن على ربى، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعنى ما شاء اللّه ثم يقال لى: ارفع رأسك، سل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسى فأحمد ربى، بتحميد يعلمنى) (١) . الحديث.

وأما الثانية: وهى إدخال قوم الجنة بغير حساب، فيدل عليها ما فى آخر حديث أبى هريرة عند البخارى ومسلم الذى قدمته (فأرفع رأسى فأقول: يا رب أمتى، يا رب أمتى) ، في

قال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة (٢) قال أبو حامد: والسبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب، لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفا، وإنما هى براءة مكتوبة: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، هذه براءة فلان ابن فلان، قد غفر له وسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدا، فما مر عليه شئ أسر من ذلك المقام.

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

وأما الثالثة: وهى إدخال قوم حوسبوا أن لا يعذبوا، فيدل على ذلك قوله فى حديث حذيفة عند مسلم: ونبيكم على الصراط يقول: (رب سلم سلم) (١) .

وأما الرابعة: وهى فى إخراج من أدخل النار من العصاة، فدلائلها كثيرة، وقد روى البخارى عن عمران بن حصين مرفوعا: (يخرج قوم من النار بشفاعة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين) (٢) .

وأما الخامسة: وهى فى رفع الدرجات،

فقال النووى (فى الروضة) :

إنها من خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم- ولم يذكر لذلك مستندا فاللّه أعلم.

وقد ذكر القاضى عياض شفاعة سادسة، وهى شفاعته- صلى اللّه عليه وسلم- لعمه أبى طالب فى تخفيف العذاب لما ثبت فى الصحيح أن العباس قال لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل نفعه ذلك؟

قال: نعم، وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح (٣) . وفى الصحيح أيضا من طريق أبى سعيد أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه) (٤) .

وزاد بعضهم سابعة: وهى الشفاعة لأهل المدينة، لحديث سعد، رفعه:

(لا يثبت أحد على لأوائها إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة) (٥) .

وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن متعلقها لا يخرج عن واحد من الخمس

__________

(١) تقدم.

(٢) قلت: هو عند البخارى (٦٥٥٩) فى الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٨٨٣) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (٢٠٩) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى لأبى طالب. من حديث العباس- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٦٥٦٤) فى الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، ومسلم (٢١٠) فى الإيمان، باب شفاعة النبى لأبى طالب من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(٥) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٦٣) فى الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبى فيها بالبركة. من حديث سعد بن أبى وقاص- رضى اللّه عنه-.

الأول، وبأنه لو عدّ مثل ذلك لعدّ حديث عبد الملك بن عباد: سمعت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (أول من أشفع له أهل المدينة ثم أهل مكة. ثم أهل الطائف) (١) . رواه البزار، وأخرى لمن زار قبره الشريف، وأخرى لمن أجاب المؤذن ثم صلى عليه- صلى اللّه عليه وسلم-، وأخرى فى التجاوز عن تقصير الصلحاء. لكن قال الحافظ ابن حجر إنها مندرجة فى الخامسة.

وزاد القرطبى: أنه أول شافع فى دخول أمته الجنة قبل الناس، ويدل له ما رواه ... (٢) .

وزاد فى فتح البارى أخرى، فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، لما أخرجه الطبرانى عن ابن عباس

قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد برحمة اللّه، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون بشفاعته- صلى اللّه عليه وسلم-. وأرجح الأقوال فى أصحاب الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.

وشفاعة أخرى وهى شفاعته فيمن

قال: (لا إله إلا اللّه) ولم يعمل خيرا قط، لرواية الحسن عن أنس: فأقول يا رب ائذن لى فيمن

قال: لا إله إلا اللّه،

قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتى وكبريائى وعظمتى لآخرجن من النار من

قال: لا إله إلا اللّه (٣) .

فالوارد على الخمسة أربعة، وما عداها لا يرد، كما لا ترد الشفاعة فى التخفيف عن صاحبى القبرين وغير ذلك لكونه من جملة أحوال الدنيا.

انتهى.

فإن قلت: فأى شفاعة ادخرها- صلى اللّه عليه وسلم- لأمته؟ أما الأولى فلا تختص

__________

(١) أخرجه الطبرانى فى الكبير عن عبد اللّه بن جعفر كما فى (..... الجامع) (٢١٤٢) .

(٢) بياض بالأصل.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٧٥١٠) فى التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، ومسلم (١٩٣) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها.

بهم بل هى لإراحة الجمع كلهم، وهى المقام المحمود كما تقدم، وكذلك باقى الشفاعات الظاهر أنه يشاركهم فيها بقية الأمم.

فالجواب: أنه يحتمل أن المراد الشفاعة العظمى التى للإراحة من هول الموقف وهى وإن كانت غير مختصة بهذه الأمة لكن هم الأصل فيها، وغيرهم تبع لهم، ولهذا كان اللفظ المنقول عنه- صلى اللّه عليه وسلم- فيها أنه

قال: (يا رب أمتى أمتى) ، فدعا لهم فأجيب، وكان غيرهم تبعا لهم فى ذلك، ويحتمل أن تكون الشفاعة الثانية، وهى التى فى إدخال قوم الجنة بغير حساب هى المختصة بهذه الأمة، فإن الحديث الوارد فيها: (يدخل من أمتى الجنة سبعون ألفا بغير حساب) (١) ، الحديث. ولم ينقل ذلك فى بقية الأمم، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الشفاعة المشتركة بين الشفاعات الخمس. وكون غير هذه الأمة يشاركونهم فيها أو فى بعضها لا ينافى أن يكون- صلى اللّه عليه وسلم- أخر دعوته شفاعة لأمته، فلعله لا يشفع لغيرهم من الأمم بل يشفع لهم أنبياؤهم، ويحتمل أن تكون الشفاعة لغيرهم تبعا كما تقدم مثله فى الشفاعة العظمى، واللّه أعلم.

وعن بريدة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إنى لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما فى الأرض من شجرة ومدرة) (٢) رواه أحمد.

وعن ابن عباس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (نحن آخر الأمم وأول من يحاسب،

يقال: أين الأمة الأمية ونبيها، فنحن الآخرون الأولون) (٣) ، رواه ابن ماجه.

وفى حديث ابن عباس عند أبى داود الطيالسى مرفوعا: (فإذا أراد اللّه

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٧٠٥) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوي غيره وفضل من لم يكتو. من حديث عمران بن الحصين- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه أحمد فى (المسند) (٥/ ٣٤٧) ، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٣٧٨) وقال: رواه أحمد ورجاله وثقوا على ضعف كثير فى أبى إسرائيل الملائى.

(٣) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٤٢٩٠) فى الزهد، صفة أمة محمد. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- .

أن يقضى بين خلقه نادى مناد: أين محمد وأمته فأقوم وتتبعنى أمتى غرّا محجلين من أثر الطهور) . قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (فنحن الآخرون الأولون وأول من يحاسب، وتفرج لنا الأمم عن طريقنا وتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها) (١) .

وقد صح أن أول ما يقضى بين الناس فى الدماء (٢) . رواه البخارى.

وللنسائى مرفوعا: (أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس فى الدماء) (٣) .

وفى البخارى عن على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه- أنه

قال: أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدى الرحمن للخصومة، يريد قصته فى مبارزته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش. قال أبوذر: وفيهم نزلت هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ (٤) (٥)الآية.

وعن أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) (٦) . رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح.

__________

(١) أخرجه أحمد (١/ ٢٨١ و ٢٩٥) ، من حديث ابن عباس، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٣٧٣) وقال: رواه أبو يعلى وأحمد وفيه على بن زيد وقد وثق على ضعفه وبقية رجالهما رجال الصحيح.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٨٦٤) فى الديات، باب قول اللّه تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ... ، ومسلم (١٦٧٨) فى القسامة، باب: المجازاة بالدماء فى الآخرة. من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه النسائى (٧/ ٨٣) فى تحريم الدم، باب: تعظيم الدم. من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-، .

(٤) سورة الحج: ١٩.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٣٩٦٥) فى المغازى، باب: قتل أبى جهل. من حديث على ابن أبى طالب- رضى اللّه عنه-.

(٦) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٤١٧) فى صفة القيامة، باب: ما جاء فى شأن الحساب والقصاص، من حديث أبى برزة الأسلمى- رضى اللّه عنه- .

وفى البخارى من حديث عائشة، أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (من نوقش الحساب عذب) (١) .

وروى البزار عن أنس بن مالك عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم من اللّه تعالى عليه، فيقول لأصغر نعمة- أحسبه قال من ديوان النعم-: خذى ثمنك من عمله الصالح، فتستوعب عمله الصالح وتقول: وعزتك ما استوفيت، وتبقى الذنوب والنعم، وقد ذهب العمل الصالح، فأراد اللّه أن يرحم عبدا،

قال: يا عبدى، قد ضاعفت لك حسناتك، وتجاوزت عن سيئاتك- أحسبه

قال: ووهبت لك نعمى-) (٢) .

وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (ليختصمن كل شئ يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا) (٣) .

وعن أنس: بينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- جالس إذ رأيناه يضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول اللّه، بأبى أنت وأمى،

قال: (رجلان من أمتى جثيا بين يدى رب العزة، فقال

أحدهما: يا رب خذ لى مظلمتى من أخى، فقال اللّه: كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شئ؟

قال: يا رب فليتحمل من أوزارى) ، وفاضت عينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالبكاء ثم

قال: (إن ذلك ليوم عظيم، يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم، فقال اللّه للطالب: ارفع بصرك فانظر، ف

قال: يا رب أرى مدائن من ذهب وفضة مكللة باللؤلؤ، لأى نبى هذا، أو لأى صديق هذا، أو لأى شهيد هذا؟ فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة) ،

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٣) فى العلم، باب: من سمع شيئا فلم يفهمه، ومسلم (٢٨٧٦) فى الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إتيان الحساب. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٣٥٧) وقال: رواه البزار، وفيه صالح المرى وهو ......

(٣) حسن: أخرجه أحمد (٢/ ٣٩٠) من حديث أبى هريرة، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٣٤٩) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.

قال: لمن يعطى الثمن،

فقال: يا رب، ومن يملك ذلك؟

قال: أنت تملكه،

قال: بماذا؟

قال: بعفوك عن أخيك،

قال: يا رب فإنى قد عفوت عنه،

قال اللّه تعالى:

فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عند ذلك: (اتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم، فإن اللّه يصلح بين المسلمين يوم القيامة) (١) . رواه الحاكم والبيهقى فى البعث، كلاهما عن عباد بن أبى شيبة الحبطى، عن سعيد ابن أنس عنه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، كذا قال.

وقد نقل: لو أن رجلا له ثواب سبعين نبيّا، وله خصم بنصف دانق لم يدخل الجنة حتى يرضى خصمه.

وقيل: يؤخذ بدانق سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم. ذكره القشيرى فى التحبير.

ثم بعد انقضاء الحساب يكون وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء فينبغى أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها.

وقد ذكر اللّه تعالى الميزان فى كتابه بلفظ الجمع، وجاءت السنة بلفظ الإفراد والجمع،

فقيل: إن صورة الإفراد محمولة على أن المراد الجنس، جمعا بين الكلامين،

وقال بعضهم: يحتمل أن يكون تعددها بتعدد الأعمال، فيكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله، وذهبت طائفة إلى أنها ميزان واحد يوزن بها للجميع، وإنما ورد فى الآية بصيغة الجمع للتفخيم، وليس المراد حقيقة العدد، وهو نظير قوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (٢) ، والمراد رسول واحد، وهذا هو المعتمد، وعليه الأكثرون.

واختلف فى كيفية وضع الميزان، والذى جاء فى أكثر الأخبار، أن الجنة توضع عن يمين العرش، والنار عن يسار العرش، ثم يؤتى بالميزان، فينصب بين يدى اللّه تعالى، فتوضع كفة الحسنات مقابل الجنة، وكفة السيئات مقابل النار. ذكره الترمذى الحكيم فى (نوادر الأصول) .

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٦٢٠) .

(٢) سورة الشعراء: ١٠٥.

واختلف أيضا فى الموزون نفسه. فقال بعضهم: توزن الأعمال نفسها.

وهى وإن كانت أعراضا إلا أنها تجسم يوم القيامة فتوزن

وقال بعضهم: الموزون صحائف الأعمال، ويدل له حديث البطاقة المشهور، وقد رواه الترمذى، من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص، يرفعه بلفظ: (إن اللّه يستخلص رجلا من أمتى على رؤس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين رجلا، كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟

أظلمك كتبتى الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا، يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ ف

قال: إنك لا تظلم،

قال: فتوضع السجلات فى كفة والبطاقات فى كفة،

قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم اللّه شئ) (١) .

فإن قلت: إن من شأن الميزان أن يوضع فى الكفة شئ وفى الآخرى ضده، فتوضع الحسنات فى كفة والسيئات فى كفة، والذى يقابل شهادة التوحيد الكفر، ويستحيل أن يأتى عبد واحد بالكفر والإيمان معا حتى يوضع الإيمان فى كفة والكفر فى أخرى؟

أجاب الترمذى الحكيم: بأنه ليس المراد وضع شهادة التوحيد فى كفة الميزان، وإنما المراد وضع الحسنة المترتبة على النطق بهذه الكلمة مع سائر الحسنات. ويدل لما قاله قوله: (بلى إن لك عندنا حسنة) ولم يقل لك عندنا إيمانا. وقد سئل- صلى اللّه عليه وسلم- عن لا إله إلا اللّه، أمن الحسنات هى؟

فقال: من أعظم الحسنات. أخرجه البيهقى وغيره. ويجوز- كما قاله القرطبى فى التذكرة- أن تكون هذه الكلمة هى آخر كلامه فى الدنيا، كما فى حديث

__________

(١) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٤٣٠٠) فى الزهد، باب: ما يرجى من رحمة اللّه يوم القيامة. من حديث عبد اللّه بن عمرو- رضى اللّه عنهما-.

معاذ: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنة) (١) .

وفى (التحبير) للقشيرى: قيل لبعضهم فى المنام: ما فعل اللّه بك؟

قال: وزنت حسناتى فرجحت السيئات على الحسنات، فسقطت صرة فى كفة الحسنات فرجحت، فحلت الصرة فإذا فيها، كف تراب ألقيته فى قبر مسلم.

وفى الخبر: إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بطاقة كالأنملة فيلقيها فى كفة الميزان التى فيها الحسنات فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبد المؤمن للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-: بأبى أنت وأمى ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك، فمن أنت؟ فيقول أنا نبيك محمد، وهذه صلاتك علىّ وقد وفيتك إياها أحوج ما تكون إليها. ذكره القشيرى فى تفسيره.

وذكر الغزالى أنه يؤتى برجل يوم القيامة، فما يجد حسنة يرجح بها ميزانه، وقد اعتدلت بالسوية، فيقول اللّه له- رحمة منه-: اذهب فى الناس فالتمس من يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة، فما يجد أحدا يكلمه فى ذلك الأمر إلا قال له: أنا أحوج لذلك منك فييأس، فيقول له رجل: لقد لقيت اللّه فما فى صحيفتى إلا حسنة واحدة، وما أظنها تغنى عنى شيئا، خذها هبة، فينطلق بها فرحا مسرورا، فيقول اللّه له: ما بالك؟ - وهو أعلم- فيقول: يا رب اتفق لى من أمرى كيت وكيت،

قال: فينادى اللّه تعالى بصاحبه الذى وهب له الحسنة فيقول له تعالى: كرمى أوسع من كرمك، خذ بيد أخيك وانطلقا إلى الجنة.

وكذا تستوى كفتا الميزان لرجل، فيقول اللّه تعالى له: لست من أهل الجنة ولا من أهل النار، فيأتى الملك بصحيفة فيضعها فى كفة الميزان فيها مكتوب (أف) فترجح على الحسنات لأنها كلمة عقوق، فيؤمر به إلى النار،

قال: فيطلب أن يرد إلى اللّه تعالى، فيقول اللّه تعالى: ردوه، فيقول له: أيها

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (٣١١٦) فى الجنائز، باب: فى التلقين. من حديث معاذ بن جبل- رضى اللّه عنه-. .

العبد العاق لأى شئ تطلب الرد؟ فيقول: إلهى، إنى سائر إلى النار وكنت عاقا لأبى وهو سائر إلى النار مثلى، فضعف علىّ عذابه وأنقذه منها،

قال: فيضحك اللّه تعالى ويقول: عققته فى الدنيا وبررته فى الآخرة، خذ بيد أبيك فانطلقا إلى الجنة.

وقد روى حذيفة أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل- عليه السّلام-، وهو الذى يزن الأعمال يوم القيامة.

واختلف أيضا فى كيفية الرجحان والنقص فقال بعضهم: الراجح أن الموزون فى الآخرة يصعد، عكس ما فى الدنيا، واستشهد فى ذلك بقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)

الآية. قال الزركشى: وهو غريب مصادم لقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢) .

وهل توزن الأعمال كلها أو خواتيمها؟ حكى عن وهب بن منبه أنه

قال: يوزن من الأعمال خواتيمها، واستدل بقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنما الأعمال بخواتيمها) (٣) .

وذكر الحافظ أبو نعيم عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (من قضى لأخيه المؤمن حاجة كنت واقفا عند ميزانه، فإن رجح وإلا شفعت له) . وقال بعض أهل العلم، فيما حكاه القرطبى فى (التذكرة) : ولن يجوز أحد الصراط حتى يسأل على سبع قناطر، فأما القنطرة الأولى: فيسأل عن الإيمان باللّه، وهو شهادة أن لا إله إلا اللّه، فإن جاء بها مخلصا جاز، ثم يسأل فى القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز، ثم يسأل فى القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان، فإن جاء به تامّا جاز، ثم يسأل فى القنطرة الرابعة عن الزكاة، فإن جاء بها تامة جاز، ثم يسأل فى القنطرة الخامسة عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما تامتين جاز، ثم يسأل فى السادسة

__________

(١) سورة فاطر: ١٠.

(٢) سورة القارعة: ٦، ٧.

(٣) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه البخارى (٦٤٩٣) فى الرقاق، باب: الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها. من حديث سهل بن سعد الساعدى- رضى اللّه عنه-.

عن الغسل والوضوء، فإن جاء بهما تامين جاز، ثم يسأل فى السابعة، وليس فى القناطر أصعب منها، فيسأل عن ظلامات الناس.

وفى حديث أبى هريرة عنه- صلى اللّه عليه وسلم-: (ويضرب الصراط بين ظهرانى جهنم، أكون أنا وأمتى أول من يجوز عليه، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ:

اللّهم سلم سلم، وفى جهنم كلاليب مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا اللّه تعالى، فتخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو) (١) . الحديث رواه البخارى.

وفى حديث حذيفة وأبى هريرة عند مسلم: (ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلّم سلّم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يأتى الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا،

قال: وفى حافتى الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به: فمخدوش ناج ومكدوس فى النار) (٢) .

وهذه الكلاليب هى الشهوات المشار إليها فى الحديث (حفت النار بالشهوات) (٣) فالشهوات .......ة على جوانبها، فمن اقتحم الشهوة سقط فى النار. قاله ابن العربى.

ويؤخذ من قوله: (فمخدوش إلخ) أن المارين على الصراط ثلاثة أصناف: ناج بلا خدش، وهالك من أول وهلة، ومتوسط بينهما مصاب ثم ينجو.

وفى حديث المغيرة عند الترمذى: شعار المؤمنين على الصراط: ربّ سلّم. ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به، بل ينطق به الرسل، يدعون للمؤمنين بالسلامة، فيسمى ذلك شعارا لهم.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٨٠٦) فى الأذان، باب: فضل السجود، ومسلم (١٨٢) فى الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٩٥) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) تقدم فى الذى قبله.

وفى حديث ابن مسعود: فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم، يسعى بين أيديهم، الحديث؛ وفيه:

فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الفرس، ومنهم من يمر كشد الرجل، حتى يمر الذى يعطى نوره على ظهر قدميه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه، تجرّ يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها و

قال: الحمد للّه الذى أعطانى ما لم يعط أحدا إذ نجانى منها بعد أن رأيتها. الحديث. رواه ابن أبى الدنيا والطبرانى.

وروى مسلم: قال أبو سعيد: بلغنى أن الصراط أحد من السيف وأرق من الشعرة (١) . وفى رواية ابن منده من هذا الوجه: قال سعيد بن أبى هلال.

ووصله البيهقى عن أنس عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مجزوما به، وفى سنده لين.

ولابن المبارك من مرسل عبيد بن عمير: (أن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب، والذى نفسى بيده إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر) .

وأخرجه ابن أبى الدنيا من هذا الوجه وفيه: والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلم سلم.

وعن الفضيل بن عياض: بلغنا أن الصراط مسيرة خمس عشرة ألف سنة، خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى، أدق من الشعرة وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية اللّه. ذكره ابن عساكر فى ترجمته، قال فى فتح البارى: وهذا معضل لا يثبت.

قال: وعن سعيد بن أبى هلال: بلغنا أن الصراط أدق من الشعرة على بعض الناس، ولبعض الناس مثل الوادى الواسع، أخرجه ابن المبارك، وهو مرسل أو معضل.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٨٣) فى الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

وقد ذهب بعضهم إلى أن المراد من

قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها (١) الجواز على الصراط لأنه ممدود على النار.

وروى ابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط. وقيل الورود: الدخول.

وعن أبى سمية

قال: اختلفنا فى الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا، ثم ينجى اللّه الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد اللّه، فقلت له: اختلفنا فى الورود ف

قال: يردونها جميعا، فقلت له: إنا اختلفنا فى ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا:

يدخلونها جميعا، فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه و

قال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار- أو

قال: لجهنم- ضجيجا من بردهم، ثم ينجى اللّه الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيّا) . رواه أحمد والبيهقى بإسناد حسن.

وأخرج ابن الجوزى- كما ذكره القرطبى فى التذكرة- رفعه: الزالون عن الصراط كثير، وأكثر من يزل عنه النساء،

قال: وإذا صار الناس على طرفى الصراط نادى ملك من تحت العرش: يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط وليقف كل عاص منكم وظالم. فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها، وأشد حرها، يتقدم فيها من كان فى الدنيا .....ا مهينا، ويتأخر عنها من كان فيها عظيما مكينا، ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك فى الجواز على الصراط على قدر أعمالهم، فإذا عصف الصراط بأمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- نادوا: وامحمداه وا محمداه، فبادر- صلى اللّه عليه وسلم- من شدة إشفاقه عليهم، وجبريل آخذ بحجزته، فينادى- صلى اللّه عليه وسلم- رافعا صوته: رب أمتى أمتى، لا أسلك اليوم نفسى ولا فاطمة ابنتى، والملائكة قيام عن يمين الصراط ويساره ينادون رب سلم. وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال، والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال، والزبانية يتلقونهم بالسلاسل والأغلال، وينادونهم: أما نهيتم عن كسب

__________

(١) سورة مريم: ٧١.

الأوزار، أم أما أنذرتم كل الإنذار، أما جاءكم النبى المختار. ذكره ابن الجوزى فى كتابه (روضة المشتاق) .

وقد جاء فى حديث أبى هريرة عنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (من أحسن الصدقة فى الدنيا مر على الصراط) . رواه أبو نعيم.

وفى الحديث: من يكن المسجد بيته ضمن اللّه له بالروح والرحمة الجواز على الصراط إلى الجنة.

وروى القرطبى عن ابن المبارك عن عبد اللّه بن سلام: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأنبياء نبيّا نبيّا، وأمة أمة، ويضرب الجسر على جهنم وينادى أين أحمد وأمته، فيقوم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وتتبعه أمته، برها وفاجرها، حتى إذا كان على الصراط طمس اللّه أبصار أعدائه فيتهافتون فى النار يمينا وشمالا، ويمضى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- والصالحون معه، فتتلقاهم الملائكة فيدلونهم على الطريق، على يمينك، على شمالك، حتى ينتهى إلى ربه، فيوضع له كرسى عن يمين العرش، ثم يتبعه عيسى- عليه السّلام- على مثل سبيله، وتتبعه أمته برها وفاجرها، فإذا كانوا على الصراط طمس اللّه أبصار أعدائهم فيتهافتون فى النار يمينا وشمالا. الحديث.

واعلم أن فى الآخرة صراطين: أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم إلا من دخل الجنة بغير حساب، أو يلتقطه عنق من النار، فإذا خلص من خلص من الصراط الأكبر حبسوا على صراط آخر لهم، ولا يرجع إلى النار أحد من هؤلاء إن شاء اللّه لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم.

وقد روى البخارى من حديث أبى سعيد الخدرى

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم فى الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول الجنة، والذى نفس محمد بيده لأحدهم أهدى فى الجنة بمنزله منه بمنزله كان فى الدنيا) .

وأما تفضيله- صلى اللّه عليه وسلم- بأنه أول من يقرع باب الجنة وأول من يدخلها، ففى صحيح مسلم من حديث المختار بن فلفل عن ابن عباس

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة) (١) .

وفيه أيضا من حديث أنس قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك) (٢) . ورواهالطبرانى وزاد فيه: قال فيقوم الخازن ويقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم لأحد بعدك.

فقيامه له- صلى اللّه عليه وسلم- خاصة، فيه إظهار لمزيته ومرتبته، وأنه لا يقوم فى خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون فى خدمته وهو كالملك عليهم، وقد أقامه تعالى فى خدمة عبده ورسوله محمد- صلى اللّه عليه وسلم-.

وروى سهيل بن أبى صالح عن زياد المهرى عن أنس بن مالك

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أول من يأخذ بحلقة الجنة ولا فخر) (٣) . وهو فى مسند الفردوس لكن من حديث ابن عباس.

وعن أبى سعيد

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر) ،

قال: فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم، فذكر الحديث إلى أن

قال: (فيأتونى فأنطق معهم) ، قال ابن جدعان قال أنس: فكأنى أنظر إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، قال فاخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها، في

قال: من هذا؟

فيقال: محمد، فيفتحون لى ويرحبون بى فيقولون: مرحبا، فأخر ساجدا، فيلهمنى اللّه من الثناء والحمد، في

قال: ارفع رأسك (٤) . الحديث. رواه الترمذى وقال: حسن.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٩٦) فى الإيمان، باب: فى قول النبى أنا أول الناس يشفع فى الجنة وأنا أكثر. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٩٧) فى الإيمان، باب: فى قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أول الناس يشفع فى الجنة) .

(٣) أخرجه الديلمى عن ابن عباس، كما فى (كنز العمال) (١٦٦٣٤) .

(٤) تقدم.

وفى حديث سلمان: فيأخذ بحلقة الباب وهى من ذهب، فيقرع الباب

فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح (١) . وفى حديث الصور: إن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم فى الدخول، فيقصدون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمدا- صلى اللّه عليه وسلم-، كما فعلوا عند العرصات عند استشفاعهم إلى اللّه عز وجل فى فصل القضاء ليظهر شرف نبينا محمد- صلى اللّه عليه وسلم- على سائر البشر كلهم فى المواطن كلها.

وروى أبو هريرة مرفوعا: (أنا أول من يفتح له باب الجنة، إلا أن امرأة تبادرنى فأقول لها ما لك؟ وما أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى) (٢) .

رواه أبو يعلى، ورواته لا بأس بهم. قال المنذرى: إسناده حسن إن شاء اللّه.

وقوله: (تبادرنى) أى لتدخل معى، أو تدخل فى أثرى، ويشهد له حديث (أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا، وقال بأصبعيه السبابة والوسطى) (٣) رواه البخارى من حديث سهل بن سعد. قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى الجنة، ولا منزلة فى الجنة أفضل من ذلك، انتهى، ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حال دخول الجنة كما فى الحديث قبله.

ووجه التشبيه: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومرشدا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل ولا دنياه ويعلمه ويحسن أدبه.

وعن ابن عباس

قال: جلس ناس من أصحاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ينتظرونه،

قال: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم وهم يتذاكرون، فسمع حديثهم فقال بعضهم: عجبا إن اللّه اتخذ من خلقه خليلا، اتخذ إبراهيم خليلا، وقال

__________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الخرائطى فى مكارم الأخلاق والديلمى عن أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، كما فى (كنز العمال) (٤٥٤٢٩) .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٠٥) فى الأدب، باب: فضل من يعول يتيما. من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-.

آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه تكليما، وقال آخر: فعيسى روح اللّه، وقال آخر: وآدم اصطفاه اللّه، فخرج عليهم فسلم و

قال: (قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن اللّه اتخذ إبراهيم خليلا وهو كذلك، وموسى كلمه اللّه وهو كذلك، وعيسى روح اللّه وهو كذلك، وآدم اصطفاه اللّه وهو كذلك. ألا وأنا حبيب اللّه ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح اللّه لى فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر) (١) . رواه الترمذى.

وعن أنس بن مالك

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الحمد بيدى، ومفاتيح الجنة يومئذ بيدى، وأنا أكرم ولد آدم على ربى ولا فخر، ويطوف على ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون) (٢) ، رواه الترمذى والبيهقى واللفظ له.

وعن أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة) (٣) رواه مسلم. وعنه أيضا عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولا الجنة) (٤) .

فهذه الأمة أسبق الأمم خروجا من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان فى الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى فصل القضاء، وأسبقهم إلى الجوار على الصراط، وأسبقهم إلى دخول الجنة، وهى أكثر أهل الجنة.

وروى عبد اللّه ابن الإمام أحمد من حديث أبى هريرة: لما نزلت هذه

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١) قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة) ، قال الطبرانى: تفرد برفعه ابن المبارك عن الثورى. وفى حديث بهز بن حكيم، رفعه: (أهل الجنة عشرون ومائة صف، أنتم منها ثمانون) (٢) .

وعن عمر بن الخطاب، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتى) (٣) قال الدار قطنى: غريب عن الزهرى.

فإن قلت: فما تقول فى الحديث الذى صححه الترمذى من حديث بريدة بن الحصيب

قال: أصبح رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فدعا بلالا ف

قال: (يا بلال، بم سبقتنى إلى الجنة، فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامى) (٤) الحديث.

أجاب عنه ابن القيم: بأن تقدم بلال بين يديه- رضى اللّه عنه- إنما هو لأنه كان يدعو إلى اللّه أولا بالأذان، ويتقدم أذانه بين يدى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فيتقدم دخوله بين يديه كالحاجب والخادم.

قال: وقد روى فى حديث أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يبعث يوم القيامة وبلال بين يديه. ينادى بالأذان، فتقدمه بين يديه كرامة له- صلى اللّه عليه وسلم-، وإظهارا لشرفه وفضيلته لا سبقا من بلال له.

وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه

__________

(١) سورة الواقعة: ٣٩، ٤٠.

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٥٤٦) فى صفة الجنة، باب: ما جاء فى كم صف أهل الجنة، وابن ماجه (٤٢٨٩) فى الزهد، باب: صفة أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث بريدة- رضى اللّه عنه- .

(٣) أخرجه ابن النجار، كما فى (كنز العمال) (٣١٩٥٣) ، والدار قطنى فى الأفراد، المصدر السابق (٣٢٠٤٩) .

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٨٩) فى المناقب، باب: فى مناقب عمر بن الخطاب. من حديث أبى بريدة- رضى اللّه عنه-.

- صلى اللّه عليه وسلم-: (أتانى جبريل فأخذ بيدى، فأرانى باب الجنة الذى تدخل منه أمتى) ، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه وددت أنى كنت معك حتى أنظر إليه، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتى) (١) .

وقد دل هذا الحديث على أن لهذه الأمة بابا مختصا يدخلون منه الجنة دون سائر الأمم.

فإن قلت: من أى أبواب الجنة يدخل النبى- صلى اللّه عليه وسلم

فالجواب: إنه قد ذكر الترمذى الحكيم أبواب الجنة، كما نقله عنه القرطبى فى التذكرة، فذكر باب محمد- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: وهو باب الرحمة، وهو باب التوبة.

فإن قلت: كم عدة أبواب الجنة؟

فاعلم أن فى حديث أبى هريرة عند الشيخين مرفوعا: من أنفق زوجين فى سبيل اللّه دعى من أبواب الجنة: يا عبد اللّه هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الريان.

وروى الترمذى من حديث عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- مرفوعا: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم

قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له من أبواب الجنة الثمانية) (٢) بزيادة (من) .

قال القرطبى: وهو يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية،

قال: وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابا، كذا قال؟!

فإن قلت: أى الجنان يسكنها النبى- صلى اللّه عليه وسلم

__________

(١) أخرجه أبو داود (٤٦٥٢) فى السنة، باب: فى الخلفاء .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٤) فى الطهارة، باب: الذكر المستحب عقب الصلاة. من حديث عقبة بن عامر- رضى اللّه عنه-.

فاعلم- منحنى اللّه وإياك التمتع بذاته القدسية فى الحضرة الفردوسية- أن اللّه تعالى قد اتخذ من الجنان دارا اصطفاها لنفسه، وخصها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده، فهى سيدة الجنان، واللّه يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة جبريل ومن البشر محمدا- صلى اللّه عليه وسلم-، وربك يخلق ما يشاء ويختار.

وفى الطبرانى من حديث أبى الدرداء

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(ينزل اللّه تعالى فى آخر ثلاث ساعات بقين من الليل، فينظر فى الساعة الأولى منهن فى الكتاب الذى لا ينظر فيه غيره، فيمحو اللّه ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم ينظر فى الساعة الثانية فى جنة عدن، وهى مسكنه الذى يسكن لا يكون معه فيها أحد إلا الأنبياء والشهداء والصالحون والصديقون، وفيها ما لم يره أحد، ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرنى فأغفر له، ألا سائل يسألنى فأعطيه، ألا داع يدعونى فأستجيب له، حتى يطلع الفجر) (١) .

وروى أبو الشيخ عن شمر بن عطية

قال: خلق اللّه جنة الفردوس بيده، فهو يفتحها كل يوم خمس مرات فيقول: ازدادى طيبا لأوليائى، ازدادى حسنا لأوليائى.

فتأمل هذه العناية، كيف جعل الجنة التى غرسها بيده لمن خلقه بيده، ولأفضل بريته اعتناء وتشريفا، وإظهارا لفضل ما خلقه بيده وشرفه، وتمييزه بذلك عن غيره.

وروى الدارمى عن عبد اللّه بن الحارث

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(خلق اللّه ثلاثة أشياء بيده، خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده وغرس

__________

(١) صحيح: أصله فى البخارى (١١٤٥) فى الجمعة، باب: الدعاء فى الصلاة من آخر الليل. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، ولفظه ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعونى فأستجيب له من يسألنى فأعطيه من يستغفرنى فأغفر له.

الفردوس بيده، ثم

قال: وعزتى وجلالى لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث) (١) . وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن تكلم فيه.

وروى الدارمى أيضا، عن عبد اللّه بن عمر: خلق اللّه أربعة أشياء بيده، العرش والقلم وعدنا وآدم- عليه السّلام-، ثم قال لسائر والخلق كن فكان.

وعنده أيضا عن ميسرة

قال: إن اللّه لم يمس شيئا من خلقه غير ثلاث:

خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده.

فجنة عدن أعلى الجنان وسيدتها، وهى قصبة الجنة، وفيها الكثيب الذى تقع فيه الرؤية، وعليها تدور ثمانية أسوار بين كل سورين جنة، فالتى تلى جنة عدن من الجنان جنة الفردوس، وأصله البستان، وهى أوسط الجنان التى دون جنة عدن وأفضلها ثم جنة الخلد، ثم جنة النعيم، ثم جنة المأوى، وهى التى يأوى إليها جبريل والملائكة. وعن مقاتل: تأوى إليها أرواح الشهداء، ثم دار السلام، لأنها دار السلام من كل مكروه، ثم دار المقامة.

واعلم أن للجنة أسماء عديدة باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار ذاتها، فهى مترادفة من هذا الوجه، ومختلفة باعتبار صفاتها، فاسم الجنة هو الاسم العام المتناول لتلك الذوات وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والسرور وقرة العين، وهذه اللفظة مشتقة من الستر، ومنه سمى البستان جنة لأنه يستر داخله بالأشجار، والجنان كثيرة جدّا، كما قال- صلى اللّه عليه وسلم- لأم حارثة لما قتل ببدر، وقد

قالت: يا رسول اللّه ألا تحدثنى عن حارثة، فإن كان فى الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت فى البكاء عليه، ف

قال: (يا أم حارثة، إنها جنان فى الجنة، وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى) (٢) .

وقال تعالى:

وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٣) فذكرهما ثم

قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٤)

__________

(١) أخرجه الديلمى عن الحارث بن نوفل، كما فى (كنز العمال) (١٥١٣٨) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٠٩) فى الجهاد والسير، باب: من أتاه سهم غرب فقتله. من حديث أم حارثة- رضى اللّه عنها-.

(٣) سورة الرحمن: ٤٦.

(٤) سورة الرحمن: ٦٢.

أى فهذه أربع) ، وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما) . رواه الشيخان من حديث أبى موسى الأشعرى.

وقد قسم بعضهم الجنان بالنسبة إلى الداخلين فيها ثلاثة:

اختصاص إلهى وهى التى يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، ومن أهلها أهل الفترات، ومن لم تصل إليه دعوة رسول.

والجنة الثانية: جنة ميراث، ينالها كل من دخل الجنة من المؤمنين، وهى الأماكن التى كانت معينة لأهل النار لو دخلوها.

والجنة الثالثة: جنة الأعمال، وهى التى ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان أفضل من غيره فى وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر. وسواء كان الفاضل دون المفضول أو لم يكن، غير أن فضله فى هذا المقام لهذه الحالة، فما من عمل من الأعمال إلا وله جنة، ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضى أحوالهم. قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (يا بلال، بم سبقتنى إلى الجنة) الحديث، فعلم أنها كانت جنة مخصوصة، فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص، يناله من دخلها، وقد يجمع الواحد من الناس فى الزمان الواحد أعمالا من العبادات فيؤجر فى الزمان الواحد من وجوه كثيرة، فيفضل غيره ممن ليس له ذلك.

فقد تبين أن نيل المنازل والدرجات فى الجنات بالأعمال، وأما الدخول فلا يكون إلا برحمة اللّه تعالى، كما فى البخارى ومسلم من حديث عائشة، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟

قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى اللّه برحمته) (١) أى يلبسنيها ويسترنى بها، مأخوذ من غمد السيف وهو غلافه.

وعند الإمام أحمد، بإسناد حسن، من حديث أبى سعيد الخدرى: __________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٧٣) فى المرض، باب: تمنى المريض الموت، ومسلم (٢٨١٦) فى صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة اللّه) ، ق

الوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟

قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدنى اللّه برحمته) ، وقال بيده فوق رأسه. يعنى أن الجنة إنما تدخل برحمة اللّه، وليس عمل العبد سببا مستقلا بدخولها وإن كان سببا، ولهذا أثبت اللّه دخولها بالأعمال فى

قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١) ، ونفى- صلى اللّه عليه وسلم- دخولها بالأعمال فى قوله: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) ولا تنافى بين الأمرين، لما ذكره سفيان وغيره،

قال: كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو اللّه، ودخول الجنة برحمة اللّه، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدل له حديث أبى هريرة: إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم. رواهالترمذى.

قال ابن بطال: محمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، ومحل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها. ثم أورد على هذا الجواب

قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال. وأجاب: بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول.

ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية والتقدير: ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة اللّه لكم وتفضله عليكم، لأن اقتسام منازل الجنة برحمة اللّه، وكذا أصل دخول الجنة برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شئ من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل اللّه عليهم ابتداء بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم.

وأشار إلى نحوه القاضى عياض

فقال: وإن من رحمة اللّه توفيقه للعمل، وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل اللّه ورحمته.

وقال غيره: لا تنافى بين ما فى الآية والحديث، لأن (الباء) التى أثبتت

__________

(١) سورة الزخرف: ٧٢.

(٢) سورة النحل: ٣٢.

الدخول هى باء السبب التى تقتضى سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلا بحصوله و (الباء) التى نفت الدخول هى باء المعاوضة التى يكون فيها أحد العوضين مقابلا للآخر، نحو: اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس فى مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة اللّه لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل بمجرده- ولو تناهى- لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا يكون عوضا لها، لأنه لو وقع على الوجه الذى يحبه اللّه، لا يقاوم نعمة اللّه، بل جميع العمل لا يوازى نعمة واحدة. فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بها، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا من أعمالهم، كما فى حديث أبى بن كعب عند أبى داود وابن ماجه.

وهذا فصل الخطاب مع الجبرية النفاة للحكمة والتعليل القائلين بأن القيام للعبادة ليس إلا لمجرد الأمر، من غير أن يكون سببا للسعادة فى معاش ولا معاد، ولا لنجاة المعتقدين أن النار ليست سببا للإحراق، وأن الماء ليس سببا للإرواء والتبريد.

والقدرية الذين ينفون نوعا من الحكمة والتعليل، القائلين بأن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وإنما هى بمنزلة استيفاء الأجير أجرته، محتجين بأن اللّه تعالى يجعلها عوضا عن العمل، كما فى

قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١) وبقوله- صلى اللّه عليه وسلم- حاكيا عن ربه تعالى: (يا عبادى، إنما هى أعمالكم أحصاها لكم ثم أوفيكم إياه) .

وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة، والقدرية جعلت ذلك بمحض الأعمال وثمنا لها، والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذى فطر اللّه عليه عباده، وجاءت به رسله، ونزلت به كتبه، وهو: أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب، مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب

__________

(١) سورة النحل: ٣٢.

لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق اللّه تعالى ومنته وصدقته على عبده أن أعانه عليها ووفقه لها، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحببها إليه وزينها فى قلبه، وكره إليه أضدادها، ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرا له تعالى أن قبلها سبحانه، ولهذا نفى- صلى اللّه عليه وسلم- دخول الجنة بالعمل ردّا على القدرية القائلين بأن الجزاء بمحض الأعمال وثمنا لها، وأثبت سبحانه وتعالى دخول الجنة بالعمل ردّا على الجبرية الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطا بالجزاء. فتبين أنه لا تنافى بينهما، إذ توارد النفى والإثبات ليس على معنى واحد، فالمنفى استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها ردّا على القدرية، والمثبت الدخول بسبب العمل ردّا على الجبرية، واللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.

وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو، عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا. وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى اللّه تعالى، وإنما يحصل برحمة اللّه لمن يقبل منه، وعلى هذا: فمعنى قوله ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١) أى تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر مع هذا أن تكون (الباء) للمصاحبة أو للإلصاق أو للمقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية.

قال: ثم رأيت النووى جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث: أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها. وقبولها إنما هو برحمة اللّه وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل، وهو من رحمة اللّه تعالى. انتهى.

وروى الدار قطنى عن أبى أمامة، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (نعم الرجل أنا لشرار أمتى، فقالوا: فكيف أنت لخيارها؟

__________

(١) سورة النحل: ٣٢.

فقال: أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم وأما شرار أمتى فيدخلون الجنة بشفاعتى) (١) ، ذكره عبد الحق فى العاقبة.

وأما تفضيله- صلى اللّه عليه وسلم- فى الجنة بالكوثر- وهو على وزن فوعل من الكثرة- سمى به هذا النهر العظيم لكثرة مائه وآنيته وعظم قدره وخيره.

فقد نقل المفسرون فى تفسير (الكوثر) أقوالا تزيد على العشرة، ذكرت كثيرا منها فى المقصد السادس من هذا الكتاب، وأولاها قول ابن عباس: إنه الخير الكثير لعمومه، لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فلا معدل عنه.

فقد روى مسلم وأبو داود والنسائى من طريق محمد بن فضيل وعلى ابن مسهر، كلاهما عن المختار بن فلفل عن أنس- واللفظ لمسلم-

قال: بينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بين أظهرنا فى المسجد، إذ أغفى إغفاءه ثم رفع رأسه متبسما،

قلنا: ما أضحكك يا رسول اللّه؟

قال: (أنزلت على آنفا سورة، فقرأ بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٢) ثم

قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: اللّه ورسوله أعلم،

قال: إنه نهر وعدنيه ربى عز وجل) (٣) . الحديث.

لكن فيه إطلاق الكوثر على الحوض، وقد جاء صريحا فى حديث عند البخارى أن الكوثر هو النهر الذى يصب فى الحوض. وعند أحمد: (ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض) (٤) ، وعند مسلم(يغت فيه- يعنى الحوض- ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب والآخر من ورق) .

وقوله: (يغت) بالغين المعجمة، أى: يصب.

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٣٧٧) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، وفيه جميع بن ثوب الرجبى، قال فيه البخارى: ....... الحديث، وقال النسائى: متروك الحديث، وقال ابن عدى: روايته تدل على أنه ......

(٢) سورة الكوثر: ١- ٣.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه أحمد (٥/ ٣٩٣) بمعناه من حديث حذيفة- رضى اللّه عنه-.

وفى البخارى من حديث قتادة عن أنس

قال: لما عرج بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى السماء

قال: (أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟:

قال: هذا الكوثر) (١) .

ورواه ابن جرير عن شريك بن أبى نمر

قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا

قال: لما أسرى بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- مضى به جبريل، فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فذهب يشم ترابه فإذا هو مسك،

قال: (يا جبريل، ما هذا النهر؟

قال: الكوثر الذى خبأ لك ربك) (٢) .

وروى أحمد عن أنس: أن رجلا

قال: يا رسول اللّه، ما الكوثر؟

قال:(نهر فى الجنة أعطانيه ربى، لهو أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل) (٣) .

وعن أبى عبيدة عن عائشة

قال: سألتها عن

قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (٤)

قالت: نهر أعطيه نبيكم شاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم (٥) . رواه البخارى. وقوله: (شاطئاه) أى: حافتاه. وقوله: (در مجوف) أى: القباب التى على جوانبه.

ورواه النسائى بلفظ

قالت: نهر فى بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟

قالت: وسطها، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت (٦) . و (بطنان) : بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون.

و (وسط) بفتح المهملة، المراد به أعلاها، أرفعها قدرا، والمراد به: أعدلها.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٩٦٤) فى تفسير القرآن، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: جزء من حديث أخرجه البخارى (٧٥١٧) فى التوحيد، باب: قوله وكلم اللّه موسى تكليما. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أصله عند مسلم (٢٤٧) فى الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٤) سورة الكوثر: ١.

(٥) صحيح: أخرجه البخاري (٤٩٦٥) فى تفسير القرآن. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٦) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٠٠) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- وصفاته، من حديث أبى ذر- رضى اللّه عنه-.

وعن- ابن عمر

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (الكوثر نهر فى الجنة حافتاه من الذهب والماء يجرى على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل) (١) ، رواه أحمد وابن ماجه، وقالالترمذى: حسن صحيح.

وروى عن ابن عباس فى

قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ

قال: هو نهر فى الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، شاطئاه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خص اللّه به نبيه قبل الأنبياء، رواه ابن أبى الدنيا موقوفا.

وعن أنس

قال: سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما الكوثر؟

قال: (نهر أعطانيه اللّه- يعنى فى الجنة- أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق البخت، أو أعناق الجزر) ، قال عمر: إنها لناعمة، قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أكلتها أنعم منها) (٢) . رواه الترمذى و

قال: حسن. و (الجزر) بضم الجيم والزاى، جمع جزور وهو البعير.

قال الحافظ ابن كثير: قد تواترت- يعنى أحاديث الكوثر- من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث، وكذلك أحاديث الحوض،

قال: وهكذا روى عن أنس وأبى العالية ومجاهد وغير واحد من السلف: أن الكوثر نهر فى الجنة.

وأما تفضيله- صلى اللّه عليه وسلم- فى الجنة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والفضيلة، فروى مسلم من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول: ثم صلوا علىّ، فإنه من صلى علىّ صلاة صلى اللّه عليه بها عشرا، ثم سلوا اللّه لى الوسيلة فإنها منزلة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة) (٣) .

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الوسيلة علم على أعلى منزلة فى الجنة، وهى منزلة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وداره فى الجنة، وهى أقرب أمكنة الجنة إلى العرش.

وقال غيره: الوسيلة (فعيلة) من وسل إليه إذا تقرب، ي

قال: توسلت أى تقربت، وتطلق على المنزلة العلية، كما قال فى هذا الحديث، فإنها منزلة فى الجنة، على أنه يمكن ردها إلى الأول، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من اللّه، فيكون كالقربة التى يتوسل بها، ولما كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى اللّه تعالى، وهى أعلى درجة فى الجنة، وأمر أمته أن يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء الزلفى وزيادة الإيمان، وأيضا: فإن اللّه تعالى قدرها له بأسباب منها دعاء أمته له، بما نالوه على يده من الهدى والإيمان.

وأما الفضيلة، فهى المرتبة الزائدة على سائر الخلق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرا للوسيلة. وعن أبى سعيد الخدرى

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (الوسيلة درجة عند اللّه عز وجل ليس فوقها درجة، فسلوا اللّه لى الوسيلة) (١) . رواه أحمد فى المسند، وذكره ابن أبى الدنيا و

قال: الوسيلة درجة ليس فى الجنة أعلى منها، فسلوا اللّه أن يؤتينيها على رؤوس الخلائق.

وروى ابن مردويه عن على عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إذا سألتم اللّه فسلوا لى الوسيلة، قالوا: يا رسول اللّه، من يسكن معك؟

قال: على وفاطمة والحسن والحسين) (٢) . لكن قال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه حديث غريب ....... من هذا الوجه.

وعند ابن أبى حاتم من حديث على أيضا: أنه قال على منبر الكوفة:

أيها الناس إن فى الجنة لؤلؤتين إحداهما بيضاء والآخرى صفراء، فأما البيضاء فإنها إلى بطنان العرش. والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف

__________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه ابن مردويه عن على كما فى (كنز العمال) (٣٤١٩٥ و ٣٧٦١٩) .

غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد، واسمها الوسيلة، هى لمحمد- صلى اللّه عليه وسلم- وأهل بيته والصفراء فيها مثل ذلك، هى لإبراهيم- عليه السّلام- وأهل بيته. وهذا أثر غريب كما نبه عليه الحافظ ابن كثير أيضا.

وعن ابن عباس فى

قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (١)

قال: أعطاه اللّه فى الجنة ألف قصر فى كل قصر ما ينبغى له من الأزواج والخدم. رواه ابن جرير وابن أبى حاتم من طريقه، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف، فهو فى حكم المرفوع.

__________

(١) سورة الضحى: ٥.