١٠-١ الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه صاعلم- وصلنى اللّه وإياك بحبل تأييده، وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده- أن هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوى الإيمان. واعلم أنه لما كان الموت مكروها بالطبع، لما فيه من الشدة والمشقة العظيمة، لم يمت نبى من الأنبياء حتى يخير. وأول ما أعلم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ (١) ، فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح اللّه عليك البلاد، ودخل الناس فى دينك الذى دعوتهم إليه أفواجا، فقد اقترب أجلك، فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به، من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا خير لك من الدنيا، فاستعد للنقلة إلينا. وقد قيل إن هذه السورة آخر سورة نزلت يوم النحر، وهو- صلى اللّه عليه وسلم- بمنى فى حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوما. وعند ابن أبى حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال. وعن مقاتل: سبعا، وعن بعضهم: ثلاثا. ولأبى يعلى من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة فى أوسط أيام التشريق فى حجة الوداع، فعرف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه الوداع. __________ (١) سورة النصر: ١. وفى حديث ابن عباس، عند الدارمى: لما نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ (١) دعا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فاطمة، و قال: (نعيت إلى نفسى) فبكت قال: (لا تبكى، فإنك أول أهلى لحوقا بى) ، فضحكت (٢) . الحديث. وروى الطبرانى من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ (٣) نعيت إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- نفسه، فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادا فى أمر الآخرة. وللطبرانى أيضا، من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لجبريل: (نعيت إلى نفسى) . فقال له جبريل: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) . وروى فى حديث ذكره ابن رجب فى (اللطائف) : أنه تعبد حتى صار كالشن البالى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فى ذلك العام عشرين، وأكثر من الذكر والاستغفار. وقالت أم سلمة: كان- صلى اللّه عليه وسلم- فى آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجئ إلا قال: (سبحان اللّه وبحمده، أستغفر اللّه وأتوب إليه) ، فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم، ف قال: (إن ربى أخبرنى أنى سأرى علما فى أمتى، وأنى إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره) ، ثم تلا هذه السورة (٥) . رواه ابن جرير وابن خزيمة. وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عائشة نحوه. وروى الشيخان من حديث عقبة بن عامر قال: صلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء وللأموات، ثم طلع __________ (١) سورة النصر: ١. (٢) أخرجه الدارمى (٧٩) ، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٣) سورة النصر: ١. (٤) سورة الضحى: ٤. (٥) أخرجه أحمد فى (المسند) (٦/ ١٨٤) . المنبر فقال: (إنى بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإنى لأنظر إليه وأنا فى مقامى هذا، وإنى قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدى، ولكنى أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها) . وزاد بعضهم: (فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم) (١) . وعن أبى سعيد الخدرى: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- جلس على المنبر فقال: (إن عبدا خيره اللّه بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده) ، فبكى أبو بكر- رضى اللّه عنه- و قال: يا رسول اللّه، فديناك بابائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن عبد خيره اللّه بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند اللّه، وهو يقول: فديناك بابائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام، لا يبقى فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر- رضى اللّه عنه-) (٢) . رواه البخارى ومسلم. ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليال (إنى أبرأ إلى اللّه أن يكون لى منكم خليل) (٣) . وكأن أبا بكر- رضى اللّه عنه- فهم الرمز الذى أشار به النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك فى مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٤٤) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، ومسلم (٢٢٩٦) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا وصفاته، من حديث عقبة بن عامر- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٩٦) فى الصلاة، باب: الخوخة والممر فى المسجد، ومسلم (٢٣٨٢) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-. (٣) تقدم فى الذى قبله. وما زال- صلى اللّه عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله فى آخر عمره، فإنه لما خطب فى حجة الوداع قال للناس: (خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا) وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع (١) . فلما رجع- صلى اللّه عليه وسلم- من حجة الوداع إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى (خما) فى طريقه بين مكة والمدينة، فخطبهم و قال: (أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب) ، ثم حض على التمسك بكتاب اللّه ووصى بأهل بيته (٢) . قال الحافظ ابن رجب: وكان ابتداء مرضه- صلى اللّه عليه وسلم- فى أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما فى المشهور. وكانت خطبته التى خطب بها المذكورة فى حديث أبى سعيد الذى قدمته فى ابتداء مرضه الذى مات فيه، فإنه خرج- كما رواه الدارمى- وهو معصوب الرأس بخرقة، حتى أهوى إلى المنبر فاستوى عليه ف قال: (والذى نفسى بيده، إنى لأنظر إلى الحوض من مقامى هذا، ثم قال: إن عبدا عرضت عليه الدنيا) .. إلخ، ثم هبط عنه فما رؤى عليه حتى الساعة. فلما عرّض- صلى اللّه عليه وسلم- على المنبر باختياره اللقاء على البقاء، ولم يصرح، خفى المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ (٣) ، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول- صلى اللّه عليه وسلم-، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى و قال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكّن الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- جزعه، وأخذ فى مدحه والثناء عليه على المنبر، ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف فى خلافته ف قال: (إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر- رضى اللّه عنه-) ثم قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة __________ (١) تقدم. (٢) تقدم. (٣) سورة التوبة: ٤٠. الإسلام) (١) ، لما كان- صلى اللّه عليه وسلم- لا يصلح له أن يخالل مخلوقا، فإن الخليل من جرت صحبة خليله منه مجرى الروح ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل: قد تخللت مسلك الروح منى ... وبذا سمى الخليل خليلا أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا يبقى فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر) (٢) ، إشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكن المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلين، ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلى بالناس أبو بكر- رضى اللّه عنه-، فروجع فى ذلك وهو يقول: (مروا أبا بكر أن يصلى بالناس) ، فولاه إمامة الصلاة، ولذا قال الصحابة عند بيعة أبى بكر- رضى اللّه عنه-: رضيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لديننا أفلا نرضاه لدنيانا. وكان ابتداء مرض رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى بيت ميمونة، كما ثبت فى رواية معمر عن الزهرى، وفى سيرة أبى معشر: كان فى بيت زينب بنت جحش، وفى سيرة سليمان التيمى كان فى بيت ريحانة، والأول هو المعتمد. وذكر الخطابى، أنه ابتدأ به يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء، واختلف فى مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يوما، وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما فى الروضة، وصدر بالثانى، وقيل عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمى فى مغازيه، وأخرجه البيهقى بإسناد صحيح. وفى البخارى: قالت عائشة: لما ثقل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- واشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتى فأذنّ له، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه فى الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد اللّه فأخبرت عبد اللّه بالذى قالت عائشة فقال لى عبد اللّه بن عباس: هل تدرى __________ (١) تقدم. (٢) تقدم. من الرجل الآخر الذى لم تسم عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو على بن أبى طالب (١) . الحديث. وفى رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العباس ورجل آخر (٢) . وفى أخرى لغير مسلم: رجلين أحدهما أسامة. وعند الدار قطنى: أسامة والفضل، وعند ابن حبان فى أخرى: بريرة ونوبة- بضم النون وسكون الواو ثم موحدة- قيل وهو اسم أمه، وقيل: عبد. وعند ابن سعد من وجه آخر: بين الفضل وثوبان. وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدد، فتعدد من اتكأ عليه. وعن عائشة- رضى اللّه عنها- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال لنسائه: (إنى لا أستطيع أن أدور فى بيوتكن، فإن شئتن أذنتن لى) . رواه أحمد. وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقول: (أين أنا غدا، أين أنا غدا؟) (٣) يريد يوم عائشة. وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهرى: أن فاطمة هى التى خاطبت أمهات المؤمنين بذلك فقالت لهن: إنه يشق عليه الاختلاف. وفى رواية ابن أبى مليكة عن عائشة أن دخوله- صلى اللّه عليه وسلم- بيتها كان يوم الاثنين، وموته يوم الاثنين الذى يليه. وفى مرسل أبى جعفر عند ابن أبى شيبة: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (أين أكون أنا غدا) ، كررها مرتين، فعرف أزواجه أنه إنما يريد عائشة، فقلن: يا رسول اللّه، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة (٤) . وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٩٨) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب، ومسلم (٤١٨) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٤١٨) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام ... وتقدم فى الذى قبله. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٨٩) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر، ومسلم (١٤٤٣) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٤) أصله فى البخارى وقد تقدم. - عند الإسماعيلى- كان يقول: (أين أنا غدا) حرصا على بيت عائشة، فلما كان يومى أذن له نساؤه أن يمرض فى بيتى (١) . وعن عائشة: أتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعا فى رأسى، وأنا أقول: وارأساه، ف قال: (بل أنا وارأساه) ، ثم قال: (ما ضرك لو مت قبلى فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك) ، فقالت: لكأنى بك واللّه لو فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم- صلى اللّه عليه وسلم-، ثم بدأ فى وجعه الذى مات فيه (٢) . رواه أحمد والنسائى. وفى البخارى، قالت عائشة: وارأساه فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (ذاك لو كان وأنا حى فأستغفر لك وأدعو لك) ، فقالت عائشة: واثكلياه، واللّه إنى لأظنك تحب موتى، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (بل أنا وارأساه) ، لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى اللّه ويدفع المؤمنون، أو يدفع اللّه ويأبى المؤمنون (٣) . وقوله: (بل أنا وارأساه) إضراب، يعنى: دعى ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلى بى. فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد فى الزهد عن طاووس أنه قال: (أنين المريض شكوى) ، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن تأوه المريض مكروه. قلت: تعقبه النووى ف قال: هذا ..... أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهى مخصوص، وهو لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة هذا، __________ (١) تقدم. (٢) أخرجه الدارمى (٨٠) فى المقدمة، باب: وفاة النبى، وأصله فى الصحيح وسيأتى فى الذى بعده. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٦٦) فى المرضى، باب: قول المريض إنى وجع أو وارأساه. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. ثم قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى. انتهى. قال فى فتح البارى: ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا، فليس ذكر الوجع شكاية. فكم من ساكت وهو ساخط، وكم من شاك وهو راض، فالمعوّل فى ذلك على عمل القلب اتفاقا لا على نطق اللسان. وقد تبين- كما نبه عليه فى (اللطائف) - أن أول مرضه- صلى اللّه عليه وسلم- كان صداع الرأس، والظاهر أنه كان مع حمى، فإن الحمى اشتدت به فى مرضه، فكان يجلس فى مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، يتبرد بذلك. وفى البخارى قالت عائشة: لما دخل بيتى واشتد وجعه قال: (أهريقوا علىّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلى أعهد إلى الناس) ، فأجلسناه فى مخضب لحفصة- زوج النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن (١) . الحديث. وقد قيل فى الحكمة فى هذا العدد: أن له خاصية فى دفع ضرر السم والسحر، وسيأتى- إن شاء اللّه تعالى- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (هذا أوان انقطاع أبهرى) (٢) ، أى من ذلك السم. وتمسك بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب به، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعا إنما هو لدفع السمية التى فى ريقه. وكانت عليه- صلى اللّه عليه وسلم- قطيفة، فكانت الحمى تصيب من يضع يده عليه __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٩٨) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (تعليقا) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته، من حديث عائشة، وأبو داود (٤٥١٢) فى الديات، باب: فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات أيضا منه. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. من فوقها فقيل له فى ذلك فقال: (إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر) (١) ، رواه ابن ماجه وابن أبى الدنيا، والحاكم و قال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبى سعيد الخدرى. وقالت عائشة: ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٢) . وعن عبد اللّه قال: دخلت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يوعك، فقلت: يا رسول اللّه، إنك توعك وعكا شديدا، قال: (أجل، أنى أوعك كما يوعك رجلان منكم) ، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: (أجل، ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر اللّه به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها) (٣) . رواه البخارى. والوعك- بفتح الواو وسكون العين المهملة، وقد تفتح-: الحمى، وقيل: ألم الحمى، وقيل: إرعادها الموعك وتحريكها إياه. وعن الأصمعى: الوعك: الحر، فإن كان محفوظا فلعل الحمى سميت وعكا لحرارتها. قال أبو هريرة: ما من وجع يصيا بنى أحب إلىّ من الحمى، إنها تدخل فى كل مفصل من ابن آدم، وإن اللّه يعطى كل مفصل قسطا من الأجر. وأخرج النسائى، وصححه الحاكم، من حديث فاطمة بنت اليمان- أخت حذيفة- قالت: أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى نساء نعوده: فإذا سقاء يقطر عليه من شدة الحمى، ف قال: (إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم) (٤) . وفى حديث عائشة: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان بين يديه علبة أو ركوة فيها ماء، __________ (١) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٤٠٢٤) فى الفتن، باب: الصبر على البلاء. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه- . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٤٦) فى المرضى، باب: شدة المرض، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٤٠) فى المرضى، باب: ما جاء فى كفارة المرض. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٤) أخرجه النسائى فى (الكبرى) (٧٤٨٢ و ٧٤٩٦ و ٧٦١٣) . فجعل يدخل يديه فى الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: (لا إله إلا اللّه إن للموت سكرات) (١) الحديث رواه الشيخان. وروى أيضا عن عروة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم) (٢) . وفى رواية: (ما زالت أكلة خيبر تعادّنى) (٣) . والأكلة: بالضم، اللقمة التى أكل من الشاة. وبعض الرواة يفتح الألف، وهو خطأ لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يأكل منها إلا لقمة واحدة، قاله ابن الأثير. ومعنى الحديث: أنه نقض عليه سم الشاة التى أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانا. والأبهر: عرق مستبطن بالصلب يتصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه. وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه- صلى اللّه عليه وسلم- مات شهيدا من السم. وعند البخارى أيضا قالت: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيده، فلما اشتكى وجعه الذى توفى فيه، طفقت أنفث عليه بالمعوذات التى كان ينفث وأمسح بيد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عنه (٤) . وفى رواية مالك: وأمسح بيده رجاء بركتها (٥) . ولمسلم فلما مرض مرضه الذى مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدى. وأطلقت على السور الثلاث: المعوذات، تغليبا. وفى البخارى عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبى بكر على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأنا مسندته إلى صدرى، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به، __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٤٩) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) تقدم. (٣) تقدم. (٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢١٩٢) فى السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٥) أخرجه مالك (١٧٥٥) فى الجامع، باب: التعوذ والرقية من المرض. فأبده رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بصره، فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فاستن به، فما رأيته استن استنانا قط أحسن منه (١) . الحديث. قولها: (فأبده) بتشديد الدال المهملة أى: مد نظره إليه. وقولها: (فقضمته) - بكسر الضاد المعجمة- أى: لطوله ولإزالة المكان الذى تسوك به عبد الرحمن. (ثم طيبته) : أى لينته بالماء. وفى رواية له أيضا: قالت: إن من نعم اللّه تعالى علىّ أن جمع اللّه بين ريقى وريقه عند موته، دخل علىّ عبد الرحمن وبيده سواك، وأنا مسندة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم (٢) . وفى رواية: مر عبد الرحمن وفى يده جريدة رطبة، فنظر إليه- صلى اللّه عليه وسلم- فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها ودفعتها إليه فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع اللّه بين ريقى وريقه فى آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة (٣) . وفى حديث خرجه العقيلى، أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال لها فى مرضه: (ائتينى بسواك رطب فامضغيه ثم ائتينى به أمضغه لكى يختلط ريقى بريقك لكى يهون على عند الموت) . قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت هون اللّه عليهم ذلك بلقاء اللّه، وبكلما أحبوا من تحفة أو كرامة، حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك، لما قد مثل له. وفى المسند عن عائشة أيضا: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (إنه ليهون على __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٨٩٠) فى الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٤٤٩) وتقدم قريبا. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٥١) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. الموت لأنى رأيت بياض كف عائشة فى الجنة) . وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (لقد رأيتها فى الجنة، حتى ليهون علىّ بذلك موتى، كأنى أرى كفيها) ، يعنى عائشة. فقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يحب عائشة حبّا شديدا، حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت له بين يديه فى الجنة ليهون عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة، وقد سأله- صلى اللّه عليه وسلم- رجل ف قال: (أى الناس أحب إليك؟) ف قال: (عائشة) فقال: من الرجال: قال: (أبوها) (١) ، ولهذا قال لها فى ابتداء مرضه لما قالت: وارأساه: (وددت أن ذلك كان وأنا حى فأصلى عليك وأدفنك) (٢) فعظم ذلك عليها، وظنت أنه يحب فراقها، وإنما- صلى اللّه عليه وسلم- يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما. ويروى أنه كان عنده- صلى اللّه عليه وسلم- فى مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها فى كفه ف قال: (ما ظن محمد بربه لو لقى اللّه وعنده هذه؟) ثم تصدق بها كلها. رواه البيهقى. انظر إذا كان هذا سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف حال من لقى اللّه وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة، وما ظنه بربه تعالى. وفى البخارى من طريق عروة عن عائشة- رضى اللّه عنها- قالت: دعا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فاطمة فى شكواه الذى قبض فيه، فسارّها بشئ فبكت، ثم دعاها فسارّها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارّنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه يقبض فى وجعه الذى توفى فيه فبكيت، ثم سارّنى فأخبرنى أنى أول أهله يتبعه فضحكت (٣) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٦٢) فى المناقب، باب: قول النبى لو كنت متخذا خليلا. من حديث عمرو بن العاص- رضى اللّه عنه-. (٢) تقدم. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٦٢٦) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام. من حديث عروة عن عائشة- رضى اللّه عنها-. وفى رواية مسروق عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشى كأن مشيتها مشية النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ف قال: (مرحبا بابنتى) ، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارّها (١) . ولأبى داود والترمذى والنسائى وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى قيامها وقعودها من فاطمة. وكانت إذا دخلت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قام إليها وقبلها وأجلسها فى مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلما مرض دخلت عليه فأكبت عليه فقبلته (٢) . واتفقت الروايتان: على أن الذى سارّها به أولا فبكت، هو إعلامه إياها أنه ميت فى مرضه ذلك، واختلفتا فيما سارّها به فضحكت، ففى رواية عروة أنه: إخباره إياها بأنها أول أهله لحوقا به (٣)، وفى رواية مسروق أنه: إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة (٤) . وجعل كونها أول أهله لحوقا به مضموما إلى الأول، وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست فى حديث عروة، وهو من الثقات الضابطين. فمما زاده مسروق: قول عائشة فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشى سر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، حتى توفى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فسألتها فقالت: أسر إلىّ أن جبريل كان يعارضنى القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضنى العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلى، وأنك أول أهل بيتى لحاقا بى (٥) . __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٤٥٠) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى. من حديث مسروق عن عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٥٢١٧) فى الأدب، باب: ما جاء فى القيام، والترمذى (٣٨٧٢) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل من رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وهو فى صحيح البخارى بنحوه، من حديث حذيفة- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٧٨١) فى المناقب، باب: من مناقب الحسن والحسين، من حديث حذيفة- رضى اللّه عنه- . (٤) تقدم. (٥) تقدم. وفى رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة: أن عائشة لما رأت بكاها وضحكها قالت: إن كنت لأظن أن هذه المرأة من أعقل النساء، فإذا هى من النساء. ويحتمل تعدد القصة. وفى رواية عروة الجزم أنه ميت من وجعه ذلك بخلاف رواية مسروق ففيها أنه ظن ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن. وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أول أهله لحوقا به سببا لبكائها ولضحكها باعتبارين، فذكر كل من الراويين ما لم يذكره الآخر. وقد روى النسائىمن طريق أبى سلمة عن عائشة فى سبب البكاء أنه ميت، وفى سبب الضحك الأمرين الآخرين. ولابن سعد من رواية أبى سلمة عنها: أن سبب البكاء موته، وسبب الضحك لحاقها به. وعند الطبرانى- من وجه آخر- عن عائشة أنه قال لفاطمة: (إن جبريل أخبرنى أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكونى أدنى امرأة منهن صبرا) . وفى الحديث: إخباره- صلى اللّه عليه وسلم- بما سيقع، فوقع كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-، فإنهم اتفقوا على أن فاطمة- رضى اللّه عنها- كانت أول من مات من أهل بيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعده، حتى من أزواجه- عليه الصلاة والسلام-. وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- من شدة وجعه يغمى عليه فى مرضه ثم يفيق، وأغمى عليه مرة فظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه، فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه، فقالوا: كراهية للدواء، فلما أفاق قال: (ألم أنهكم أن تلدونى؟) فقالوا: كراهية المريض للدواء، ف قال: (لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم يشهدكم) (١) . رواه البخارى. واللدود، هو ما يجعل فى جانب الفم من الدواء، فأما ما يصب فى الحلق فيقال له: الوجور. وفى الطبرانى من حديث العباس: أنهم أذابوا قسطا بزيت ولدوه به. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٥٨) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. وفى قوله (لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ، إلخ) مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان، وفيه نظر: لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم لتركهم امتثال نهيه عما نهاهم عنه. قال ابن العربى: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه فيقعوا فى خطيئة عظيمة. وتعقب: بأنه كان يمكن أن يقع العفو، ولأنه كان لا ينتقم لنفسه، والذى يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديبا لا اقتصاصا ولا انتقاما. قيل: وإنما كره اللدود مع أنه كان يتداوى، لأنه تحقق أنه يموت فى مرضه، ومن تحقق ذلك كره له التداوى. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، والذى يظهر أن ذلك كان قبل التخيير والتحقيق، وإنما أنكر التداوى لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك، كما هو ظاهر فى سياق الخبر. وعند ابن سعد قال: كانت تأخذ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الخاصرة، فاشتدت فأغمى عليه، فلدوه، فلما أفاق قال: (كنتم ترون أن اللّه يسلط علىّ ذات الجنب، ما كان اللّه ليجعل لها على سلطانا، واللّه لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ) ، فما بقى أحد فى البيت إلا لدّ، ولددنا ميمونة وهى صائمة. وروى أبو يعلى- بسند ..... فيه ابن لهيعة- من وجه آخر عن عائشة: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- مات من ذات الجنب. وجمع بينهما: بأن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين: أحدهما: ورم حار يعرض فى الغشاء المستبطن، والآخر: ريح محتقن بين الأضلاع، فالأول هو المنفى هنا. وقد وقع فى رواية الحاكم فى المستدرك: ذات الجنب من الشيطان، والثانى هو الذى أثبت هنا وليس فيه محذور كالأول. وفى حديث ابن عباس عند البخارى: لما حضر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وفى البيت رجال، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده) ، فقال بعضهم: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (قوموا) . قال عبيد اللّه: فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم (١) . قال المازرى: إنما جاز للصحابة الاختلاف فى هذا الكتاب: مع صريح أمره لهم بذلك. لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال ذلك عن غير قصد جازم. وقال النووى: اتفق العلماء على أن قول عمر: (حسبنا كتاب اللّه) (٢) من قوة فقهه ودقيق نظره، لأنه خشى أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء، وفى تركه- صلى اللّه عليه وسلم- الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه، وأشار بقوله: (حسبنا كتاب اللّه) إلى قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ (٣) ، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس: (إن الرزية إلخ) لأن عمر كان أفقه منه قطعا، ولا يقال إن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن، وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه أسفا على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه، لكونه أولى من الاستنباط، واللّه أعلم. ولما اشتد به- صلى اللّه عليه وسلم- وجعه قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، فقالت __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١١٤) فى العلم، باب: كتابة العلم. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٣٢) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما. (٣) سورة الأنعام: ٣٨. له عائشة: يا رسول اللّه، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء، قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، فعادوته بمثل مقالتها، فقال: (إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس) (١) . رواه الشيخان وأبو حاتم واللفظ له. وفى رواية: إن أبا بكر رجل أسيف (٢) . وفى حديث عروة عن عائشة عند البخارى: فمر عمر فليصل بالناس، قالت: قلت لحفصة قولى له إن أبا بكر إذا قام فى مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا (٣) . والأسيف: بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل، من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا، رقيق القلب. ولابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عن مسروق عن عائشة فى هذا الحديث: قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم، وصواحب: جمع صاحبة، والمراد: أنهن مثل صواحب يوسف فى إظهار ما فى الباطن. ثم إن هذا الخطاب، وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهى عائشة- رضى اللّه عنها-. ووجه المشابهة بينهما فى ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة، ومرادها الزيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها فى محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن لا يتشاءم الناس به. وقد صرحت هى بذلك، كما عند البخارى فى باب وفاته- صلى اللّه عليه وسلم- فقالت: لقد راجعته وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع فى قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا. وأن لا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٦٤) فى الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، ومسلم (٤١٨) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) تقدم فى الذى قبله. (٣) تقدم. وقد نقل الدمياطى: أن الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة. وقد ذكر الفاكهى فى (الفجر المنير) مما عزاه لسيف الدين بن عمر فى كتاب (الفتوح) أن الأنصار لما رأوا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يزداد وجعا، أطافوا بالمسجد، فدخل العباس فأعلمه- صلى اللّه عليه وسلم- بمكانهم وإشفاقهم، ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه على بن أبى طالب كذلك. فخر-صلى اللّه عليه وسلم- متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- معصوب الرأس يخط برجليه، حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثار الناس إليه، فحمد اللّه وأثنى عليه و قال: يا أيها الناس، بلغنى أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبى قبلى فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا إنى لاحق بربى، وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم، فإن اللّه تعالى يقول: وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (١) إلى آخرها، وإن الأمور تجرى بإذن اللّه تعالى، ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن اللّه عز وجل لا يعجل بعجلة أحد، ومن غالب اللّه غلبه، ومن خادع اللّه خدعه، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢) ، وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم فى الثمار؟ ألم يوسعوا لكم فى الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولى أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، إلا وإنى فرط لكم، وأنتم لا حقون بى، إلا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده علىّ غدا فليكفف يده ولسانه، إلا فيما ينبغى، يا أيها الناس، إن الذنوب تغير النعم، وتبدل القسم، فإذا برّ الناس، برّهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوهم. وفى حديث أنس عند البخارى: قال: مرّ أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، ف قال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبى __________ (١) سورة العصر: ١، ٢. (٢) سورة محمد: ٢٢. - صلى اللّه عليه وسلم- منا، فدخل أحدهما على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأخبره بذلك، فخرج النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر- ولم يصعده بعد ذلك اليوم- فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: (أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشى وعيبتى، وقد قضوا الذى عليهم، وبقى الذى لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) (١) . وقوله (كرشى وعيبتى) أى موضع سرى أراد أنهم بطانته وموضع أمانته، والذين يعتمد عليهم فى أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك. لأن المجتر يجمع علفه فى كرشه، والرجل يجمع ثيابه فى عيبته، وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أى جماعتى وصحابتى يقال: عليه كرش من الناس، أى جماعة، قاله فى النهاية. وذكر الواحدى بسند وصله بعبد اللّه بن مسعود قال: نعى لنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت عائشة ف قال: (حياكم اللّه بالسلام، رحمكم اللّه، جبركم اللّه، رزقكم اللّه، نصركم اللّه، رفعكم اللّه، آواكم اللّه، أوصيكم بتقوى اللّه، وأستخلفه عليكم، وأحذركم اللّه، إنى لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على اللّه فى بلاده وعباده، فإنه قال لى ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٢) وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٣) ) ، قلنا: يا رسول اللّه، متى أجلك؟ قال: (دنا الفراق، والمنقلب إلى اللّه وإلى جنة المأوى) ، قلنا: يا رسول اللّه، من يغسلك؟ قال: (رجال من أهل بيتى الأدنى فالأدنى) ، قلنا: يا رسول اللّه، فيم نكفنك؟ قال: (فى ثيابى هذه وإن شئتم فى بياض ثياب مصر، أو حلة يمنية) ، قلنا: يا رسول اللّه، من يصلى عليك؟ قال: (إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على سريرى هذا على شفير __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٩٩) فى المناقب، باب: قول النبى اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن سيئاتهم. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. (٢) سورة القصص: ٨٣. (٣) سورة الزمر: ٦٠. قبرى، ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى على جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت ومعه جنود من الملائكة، ثم ادخلوا على فوجا فوجا، فصلوا علىّ وسلموا تسليما، وليبدأ بالصلاة علىّ رجال أهل بيتى، ثم نساؤهم، ثم أنتم، واقرؤا السلام على من غاب من أصحابى ومن تبعنى على دينى، من يومى هذا إلى يوم القيامة) ، قلنا: يا رسول اللّه، من يدخلك قبرك؟ قال: (أهلى مع ملائكة ربى) . وكذا رواه الطبرانى فى (الدعاء) وهو واه جدّا. وقالت عائشة: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو صحيح يقول: (إنه لم يقبض نبى قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيّا أو يخير) . فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذى غشى عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: (اللّهم فى الرفيق الأعلى) ، فقلت: إذا لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذى كان يحدثنا وهو صحيح (١) . وفى رواية: أنها أصغت إليه قبل أن يموت، وهو مستند إلىّ ظهره يقول: (اللّهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى) (٢) . رواه البخارى من طريق الزهرى عن عروة. وما فهمته عائشة من قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (اللّهم فى الرفيق الأعلى) أنه خير، نظير فهم أبيها- رضى اللّه عنه- من قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن عبدا خيره اللّه ما بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده) أن العبد المراد هو النبى-صلى اللّه عليه وسلم- حتى بكى كما قدمته. ذكره الحافظ ابن حجر. وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد المطلب بن عبد اللّه عن عائشة: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقول: __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٣٧) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٤٩٦) فى الدعوات، باب: ما جاء فى عقد التسبيح باليد. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها- . (ما من نبى يقبض إلا يرى الثواب ثم يخير) (١) . ولأحمد أيضا، من حديث أبى مويهة قال: قال لى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة، فخيرات بين ذلك وبين لقاء ربى فاخترت لقاء ربى والجنة) (٢) . وعند عبد الرزاق من مرسل طاووس، رفعه: (خيرات بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتى، وبين التعجيل فاخترت التعجيل) ، وفى رواية أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه عند النسائى، وصححه ابن حبان: فقال اسأل اللّه الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل. وظاهره: أن الرفيق الأعلى، المكان الذى تحصل المرافقة فيه مع المذكورين، وقال ابن الأثير فى (النهاية) الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وقيل: المراد به اللّه تعالى، يقال: اللّه رفيق بعباده من الرفق والرأفة، انتهى، وقيل: المراد حظيرة القدس. وفى كتاب (روضة التعريف بالحب الشريف) : لما تجلى له الحق ضعفت العلائق بينه وبين المحسوسات والحظوظ الضرورية من أوانى معانى الترقيات البشرية، فكانت أحواله فى زيادة الترقى، ولذلك روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (كل يوم لا أزداد فيه قربا من اللّه فلا بورك لى فى طلوع شمسه) . وكلما فارق مقاما واتصل بما هو أعلى منه لمح الأول بعين النقص، وسار على ظهر المحبة، ونعمت المطية لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال، والسفر إلى حضرة ذى الجلال، والاتصال بالمحبوب الذى كل شئ هالك إلا وجهه. وقال السهيلى: الحكمة فى اختتام كلامه- صلى اللّه عليه وسلم- بهذه الكلمة، كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب، حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان، لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره إذا كان قلبه عامرا بالذكر. انتهى ملخصا. قال الحافظ ابن رجب: وقد روى ما يدل على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير. ففى المسند قالت- يعنى عائشة- كان __________ (١) أخرجه البخارى، وقد تقدم. (٢) تقدم. النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (ما من نبى إلا تقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه إلى أن يلحق) (١) ، فكنت قد حفظت ذلك عنه، فإنى لمسندته إلى صدرى، فنظرت إليه حتى مالت عنقه، فقلت: قضى، قالت: فعرفت الذى قال، فنظرت إليه حين ارتفع ونظر، فقلت: إذا واللّه لا يختارنا، فقال: مع الرفيق الأعلى فى الجنة، مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وفى البخارى من حديث عروة عن عائشة قالت: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو صحيح- يقول: (إنه لم يقبض نبى قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيّا أو يخير) ، فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشى عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: (اللّهم فى الرفيق الأعلى) (٢) . ونبه السهيلى على أنه النكتة فى الإتيان بهذه الكملة بالإفراد، الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد. وفى صحيح ابن حبان عنها قالت: أغمى على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ورأسه فى حجرى. فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء، فلما أفاق قال: (أسأل اللّه الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل) (٣) . ولما احتضر- صلى اللّه عليه وسلم-، اشتد به الأمر، قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، قالت: وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: (اللّهم أعنى على سكرات الموت) (٤) . وفى رواية: فجعل يقول: (لا إله إلا اللّه، إن للموت لسكرات) (٥) . قال بعض العلماء: فيه أن ذلك من شدة الآلام والأوجاع لرفعة منزلته. __________ (١) تقدم. (٢) تقدم. (٣) تقدم. (٤) تقدم. (٥) تقدم. وقال الشيخ أبو محمد المرجانى: تلك السكرات سكرات الطرب، ألا ترى إلى قول بلال حين قال له أهله وهو فى السياق: واكرباه، ففتح عينيه و قال: واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه، فإذا كان هذا طربه وهو فى هذا الحال بلقاء محبوبه وهو النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وحزبه، فما بالك بلقاء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لربه تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (١) وهذا موضع تقصر العبارة عن وصف بعضه. وفى حديث مرسل ذكره الحافظ ابن رجب: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (اللّهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل، فأعنى عليه وهونه على) . وعند الإمام أحمد والترمذى من طريق القاسم عنها قالت: ورأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: (اللّهم أعنى على سكرات الموت) (٢) . ولما تغشاه الكرب، قالت فاطمة- رضى اللّه عنها-: واكرب أبتاه، فقال لها: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) (٣) ، رواه البخارى. قال الخطابى: زعم من لا يعد من أهل العلم: أن المراد بقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) أن كربه كان شفقة على أمته، لما علم من وقوع الاختلاف والفتن بعده، وهذا ليس بشئ، لأنه كان يلزم أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة، لأنه مبعوث إلى من جاء بعده، وأعمالهم تعرض عليه، وإنما الكلام على ظاهره، وإن المراد بالكرب ما كان يجده- صلى اللّه عليه وسلم- من شدة الموت، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر ليتضاعف له الأجر، انتهى. وروى ابن ماجه أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال لفاطمة: (إنه حضر من أبيك ما اللّه تعالى بتارك منه أحدا لموافاة يوم القيامة) (٤) . __________ (١) سورة السجدة: ١٧. (٢) تقدم. (٣) تقدم. (٤) حسن: أخرجه ابن ماجه (١٦٢٩) ، فيما جاء فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. وفى البخارى من حديث أنس بن مالك: أن المسلمين بينما هم فى صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلى لهم لم يفجأهم إلا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم فى صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصلاة، قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا فى صلاتهم فرحا برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فأشار إليهم بيده- صلى اللّه عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر (١) . وفى رواية أبى اليمان عن شعيب، عند البخارى، فى (الصلاة) : فتوفى من يومه (٢) . وفى رواية معمر عنده أيضا. وكلها من حديث أنس: لم يخرج إلينا- صلى اللّه عليه وسلم- ثلاثا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم، فقام نبى اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالحجاب فرفعه، فلما وضح لنا وجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- حين وضح لنا، قال: فأومأ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى أبى بكر أن يتقدم وأرخى الحجاب (٣) . الحديث رواه الشيخان. وعنه أن أبا بكر كان يصلى بهم فى وجع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الذى توفى فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف فى الصلاة، كشف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ستر الحجرة، فنظرنا إليه وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ضاحكا (٤) . الحديث رواه مسلم. وقد جزم موسى ابن عقبة عن ابن شهاب، أنه- صلى اللّه عليه وسلم- مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبى الأسود عن عروة. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٨٠) فى الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. (٢) تقدم. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٨١) فى الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. (٤) صحيح: أخرجه مسلم (٤١٩) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما بقى من أجل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ثلاث، نزل عليه جبريل، فقال: يا محمد إن اللّه قد أرسلنى إليك إكراما لك، وتفضيلا لك، وخاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ ف قال: (أجدنى يا جبريل مغموما، وأجدنى يا جبريل مكروبا) ثم أتاه فى اليوم الثانى فقال له مثل ذلك، ثم جاءه فى اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل: يا محمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يأذن على نبى قبلك، ولا يستأذن على آدمى بعدك، قال: (ائذن له) ، فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال: يا رسول اللّه، إن اللّه عز وجل أرسلنى إليك وأمرنى أن أطيعك فى كل ما تأمر، إن أمرتنى أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتنى أن أتركها تركتها، فقال جبريل: يا محمد، إن اللّه قد اشتاق إلى لقائك، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (فامض يا ملك الموت لما أمرت به) ، فقال جبريل: يا رسول اللّه، هذا آخر موطئى من الأرض، إنما كنت حاجتى من الدنيا. فقبض روحه، فلما توفى- صلى اللّه عليه وسلم-، وجاءت التعزية سمعوا صوتا من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، إن فى اللّه عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت فباللّه فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته. فقال على: أتدرون من هذا؟ هو الخضر- عليه السّلام-. رواه البيهقى فى دلائل النبوة. وفى تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقى: وذكر التعزية المذكورة عن ابن عمر، مما ذكره فى الإحياء وأن النووى أنكر وجود الحديث المذكور فى كتب الحديث، و قال: إنما ذكره الأصحاب ثم قال العراقى: قد رواه الحاكم فى المستدرك من حديث أنس ولم يصححه، ولا يصح. ورواه ابن أبى الدنيا عن أنس أيضا قال: لما قبض رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- اجتمع أصحابه حوله يبكون، فدخل عليهم رجل طويل شعر المنكبين فى إزار ورداء، يتخطى أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى أخذ بعضادتى باب البيت فبكى على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ثم أقبل على أصحابه فقال: إن فى اللّه عزاء من كل مصيبة، وعوضا من كل فان. الحديث. وفيه: ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر: علىّ بالرجل، فنظروا يمينا وشمالا فلم يروا أحدا، فقال أبو بكر لعلى: هذا الخضر، جاء يعزينا. ورواه ابن أبى الدنيا أيضا من حديث على ابن أبى طالب، وفيه محمد بن جعفر الصادق، تكلم فيه، وفيه انقطاع بين على بن الحسين وبين جده على، والمعروف عن على بن الحسين مرسلا من غير ذكر على، كما رواه الشافعى فى الأم وليس فيه ذكر للخضر- عليه السّلام- (١) . قال البيهقى: قوله: (إن اللّه اشتاق إلى لقائك) معناه: قد أراد لقاءك بأن يردك من دنياك إلى معادك زيادة فى قربك وكرامتك. وأخرج الطبرانى من حديث ابن عباس قال: جاء ملك الموت إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى مرضه ورأسه فى حجر على، فاستأذن ف قال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، فقال له على: ارجع فإنا مشاغيل عنك، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (هذا ملك الموت، ادخل راشدا) ، فلما دخل قال: إن ربك يقرئك السلام. فبلغنى أن ملك الموت لم يسلم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده. وقالت عائشة: توفى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى بيتى، فى يومى، وبين سحرى ونحرى (٢) ، وفى رواية: بين حاقنتى وذاقنتى (٣) . رواه البخارى. والحاقنة: بالمهملة والقاف والنون، أسفل من الذقن. والذاقنة: طرف الحلقوم. والسحر: بفتح السين وسكون الحاء المهملتين، هو الصدر. والنحر: بفتح __________ (١) قلت: أحاديث الخضر .....ة، ولم تثبت، بل وجوده يخالف عمومات كثيرة من الشريعة كعموم بعثته- صلى اللّه عليه وسلم- لأهل الأرض جميعا فلو كان حيّا ووسعه لقائه لالتقى به وآمن به وجاهد معه، ولكن لم يحدث شئ من ذلك، فينتظر حتى وفاته حتى يجئ لأصحابه ليعزيهم ثم ينصرف!. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٨٩) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) تقدم. النون وسكون الحاء المهملة. والمراد: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- توفى ورأسه بين عنقها وصدرها. وهذا لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- مات ورأسه فى حجر على، لأن كل طريق منها- كما قاله الحافظ ابن حجر- لا تخلو من شئ، فلا يلتفت لذلك واللّه أعلم. قال السهيلى: وجدت فى بعض كتب الواقدى: أن أول كلمة تكلم بها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو مسترضع عند حليمة: اللّه أكبر، وآخر كلمة تكلم بها: الرفيق الأعلى. وروى الحاكم من حديث أنس: أن آخر ما تكلم به- صلى اللّه عليه وسلم-: (جلال ربى الرفيع) . ولما توفى- صلى اللّه عليه وسلم- كان أبو بكر غائبا بالسنح- يعنى العالية، عند زوجته بنت خارجة- وكان- صلى اللّه عليه وسلم- قد أذن له فى الذهاب إليها، فسل عمر بن الخطاب سيفه وتوعد من يقول: مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى- عليه السّلام-، فلبث عن قومه أربعين ليلة، واللّه إنى لأرجو أن يقطع أيدى رجال وأرجلهم. فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة فدخل، فكشف عن وجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فجثا يقبله ويبكى ويقول: توفى والذى نفسى بيده، صلوات اللّه عليك يا رسول اللّه، ما أطيبك حيّا وميتا، ذكره الطبرى فى (الرياض) . وقالت عائشة: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة، فبصر برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله ثم بكى و قال: بأبى أنت وأمى، لا يجمع اللّه عليك موتتين، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متها (١) . رواه البخارى. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٤٢) فى الجنائز، باب: الدخول على الميت بعد الموت. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. واختلف فى قول أبى بكر- رضى اللّه عنه-: (لا يجمع اللّه عليك موتتين) . فقيل هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدى رجال، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على اللّه من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وكالذى مر على قرية، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها. وقيل: أراد أنه لا يموت موتة أخرى فى القبر كغيره، إذ يحيا ليسئل ثم يموت، وهذا جواب الداودى. وقيل: لا يجمع اللّه موت نفسك وموت شريعتك. وقيل: كنى بالموت الثانى عن الكرب، أى لا يلقى بعد كرب الموت كربا آخر. قاله فى فتح البارى. وعنها: أن عمر قام يقول: واللّه ما مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقبله وقال: بأبى أنت وأمى، طبت حيّا وميتا، والذى نفسى بيده، لا يذيقك اللّه الموتتين أبدا، ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد اللّه أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حى لا يموت، و قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (١) وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (٢) الآية، قال: فنشج الناس يبكون (٣) ، رواه البخارى. يقال: نشج الباكى، إذا غص بالبكاء فى حلقه من غير انتحاب. وعن سالم بن عبيد الأشجعى قال: لما مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه-، فأخذ بقائم سيفه و قال: لا أسمع أحدا يقول: مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلا ضربته بسيفى هذا، __________ (١) سورة الزمر: ٣٠. (٢) سورة آل عمران: ١٤٤. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٤٢) وقد تقدم. قال: فقال الناس يا سالم، أطلب صاحب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، قال: فخرجت إلى المسجد، فإذا بأبى بكر، فلما رأيته أجهشت بالبكاء، فقال: يا سالم أمات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-؟ فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدا يقول مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلا ضربته بسيفى هذا، قال: فأقبل أبو بكر حتى دخل على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو مسجى، فرفع البرد عن وجهه، ووضع فاه على فيه واستنشى الريح، ثم سجاه والتفت إلينا فقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (١) الآية، وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٢) يا أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حى لا يموت. قال عمر: فو اللّه لكأنى لم أتل هذه الآيات قط، خرجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن الحارث، كما ذكره الطبرى فى (الرياض) له، و قال: خرج الترمذى معناه بتمامه. واستنشى الريح: شمها، أى شم ريح الموت. وعند أحمد: عن عائشة قالت: سجيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ثوبا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا، فأذنت لهما وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه، ثم قاما، فقال المغيرة: يا عمر، مات، قال: كذبت، إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يموت حتى يفنى اللّه المنافقين. ثم جاء أبو بكر، فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال: إنا للّه وإنا إليه راجعون، مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٣) . وفى حديث ابن عباس عند البخارى: إن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس، ف قال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حى لا يموت، قال اللّه عز وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (٤) __________ (١) سورة آل عمران: ١٤٤. (٢) سورة الزمر: ٣٠. (٣) تقدم. (٤) سورة آل عمران: ١٤٤. قال: واللّه لكأن الناس لم يعلموا أن اللّه أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها (١) . وفى حديث ابن عمر عند ابن أبى شيبة أن أبا بكر مر بعمر وهو يقول: ما مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ولا يموت حتى يقتل اللّه المنافقين. قال: وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رؤسهم، فقال: أيها الرجل، إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قد مات: ألم تسمع اللّه تعالى يقول: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٢) و قال: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ (٣) ثم أتى المنبر. الحديث. قال القرطبى أبو عبد اللّه المفسر: وفى هذا أدل دليل على شجاعة الصديق، فإن الشجاعة حدها: ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. فظهر عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية، فرجع عمر عن مقالته التى قالها. كما ذكر الوائلى أبو نصر عبد اللّه فى كتاب (الإنابة) عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- فى مسجد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- واستوى على منبره- صلى اللّه عليه وسلم-، تشهد ثم قال: أما بعد، فإنى قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإنى واللّه ما وجدت المقالة التى قلت لكم فى كتاب اللّه، ولا فى عهد عهده رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ولكنى كنت أرجو أن يعيش رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى يدبرنا- أى يكون آخرنا موتا، أو كما قال- فاختار اللّه عز وجل لرسوله الذى عنده على الذى عندكم، وهذا الكتاب الذى هدى اللّه به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسوله- صلى اللّه عليه وسلم-. قال أبو نصر: المقالة التى قالها ثم رجع عنها: هى أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدى وأرجل، وكان ذلك لعظيم ما ورد عليه __________ (١) تقدم. (٢) سورة الزمر: ٣٠. (٣) سورة الأنبياء: ٣٤. وخشى الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد قوة يقين الصديق الأكبر وتفوهه بقول اللّه عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (١) وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٢) وخرج الناس يتلونها فى سكك المدينة كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم انتهى. وقال ابن المنير: لما مات- صلى اللّه عليه وسلم- طاشت العقول، فمنهم من خبل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى، وكان عمر ممن خبل، وكان عثمان ممن أخرس، يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلاما، وكان على ممن أقعد فلم يستطع حراكا، وأضنى عبد اللّه ابن أنيس فمات كمدا. وكان أثبتهم أبو بكر الصديق- رضى اللّه عنه-، جاء وعيناه تهملان وزفراته تتردد وغصصه تتصاعد وتترفع، فدخل على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأكب عليه وكشف الثوب عن وجهه و قال: طبت حيّا وميتا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أن موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس. اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك. ووقع فى حديث ابن عباس وعائشة عند البخارى: أن أبا بكر قبل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد ما مات، كما قدمنا. وكذا وقع فى رواية غيره. وفى رواية يزيد بن بابنوس عنها، عند أحمد، أنه أتاه من قبل رأسه، فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته و قال: واخليلاه. وعند ابن أبى شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فجعل يقبله ويبكى ويقول: بأبى أنت وأمى، طبت حيّا وميتا. وعن عائشة: أن أبا بكر دخل على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد وفاته، فوضع فاه __________ (١) سورة آل عمران: ١٨٥. (٢) سورة الزمر: ٣٠. بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه و قال: وانبياه واخليلاه واصفياه. أخرجه ابن عرفة العبدى كما ذكره الطبرى. قال: ولا تضاد بين هذا على تقدير صحته وبين ما تقدم مما تضمن ثباته، بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق خافتا به صوته، ثم التفت إليهم وقال لهم ما قال. وأخرج البيهقى وأبو نعيم من طريق الواقدى عن شيوخه: أنهم شكوا فى موته- صلى اللّه عليه وسلم-، قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه- صلى اللّه عليه وسلم- فقالت: قد توفى، قد رفع الخاتم من بين كتفيه، فكان هذا الذى قد عرف به موته. وأخرجه ابن سعد عن الواقدى أيضا. ولما توفى- صلى اللّه عليه وسلم- قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربّا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه (١) . رواه البخارى. قال الحافظ ابن حجر- رحمه اللّه-: وقد قيل الصواب: إلىّ جبريل نعاه. جزم بذلك سبط ابن الجوزى فى مرآة الزمان. قال: والأول متوجه فلا معنى لتغليط الرواة بالظن. وزاد الطبرانى: يا أبتاه، من ربه ما أدناه. وقد عاشت فاطمة- رضى اللّه عنها- بعده- صلى اللّه عليه وسلم- ستة أشهر فما ضحكت تلك المدة، وحق لها ذلك. على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن كان من ليلى على الهجر طاويا وأخرج أبو نعيم عن على قال: لما قبض- صلى اللّه عليه وسلم- صعد ملك الموت باكيا إلى السماء، والذى بعثه بالحق نبيّا لقد سمعت صوتا من السماء ينادى: وا محمداه. الحديث. كل المصائب تهون عند هذه المصيبة. وفى سنن ابن ماجه: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال فى مرضه: (أيها الناس، إن أحد من الناس، أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بى عن المصيبة التى __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٦٢) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. تصيبه بغيرى، فإن أحدا من أمتى لن يصاب بمصيبة بعدى أشد عليه من مصيبتى) (١) . وقال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد اللّه، اتق اللّه، فإن فى رسول اللّه أسوة حسنة. ويعجبنى قول القائل: اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوب تنوب اليوم تكشف فى غد وإذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنبى محمد ويرحم اللّه القائل: تذكرت لما فرق الدهر بيننا ... فعزيت نفسى بالنبى محمد وقلت لها إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت فى يومه مات فى غد كادت الجمادات تتصدع من ألم فراقه- صلى اللّه عليه وسلم-، فكيف بقلوب المؤمنين؟ لما فقده الجذع الذى كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حنّ إليه وصاح. كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى و قال: هذه خشبة تحن إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه. وروى أن بلالا لما كان يؤذن بعد وفاته- صلى اللّه عليه وسلم-، وقبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن محمدا رسول اللّه، ارتج المسجد بالبكاء والنحيب. فلما دفن ترك بلال الأذان. ما أمرّ عيش من فارق الأحباب خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب. لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكان من وجده يميد قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد __________ (١) صحيح: أخرجه ابن ماجه (١٥٩٩) فى الجنائز، باب: ما جاء فى الصبر على المصيبة. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. وقد كانت وفاته- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الاثنين بلا خلاف، وقت دخول المدينة فى هجرته حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الأربعاء. فعند ابن سعد فى الطبقات، عن على: توفى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء. وعنده أيضا عن عكرمة، توفى يوم الاثنين، فحبس بقية يومه وليلته، ومن الغد حتى دفن من الليل، وعنده أيضا: عن عثمان بن محمد الأخنس: توفى يوم الاثنين حين زاغت الشمس ودفن يوم الأربعاء. وروى أيضا عن أبىّ بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده: توفى يوم الاثنين، فمكث بقية يوم الاثنين والثلاثاء حتى دفن يوم الأربعاء. وعنده أيضا: عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب: توفى يوم الاثنين حين زاغت الشمس (١) . ورثته عمته صفية بمراثى كثيرة منها قولها: ألا يا رسول اللّه كنت رجاءنا ... وكنت بنا برّا ولم تك جافيا وكنت رحيما هاديا ومعلما ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا لعمرك ما أبكى النبى لفقده ... ولكن لما أخشى من الهجر آتيا كأن على قلبى لذكر محمد ... وما خفت من بعد النبى المكاويا أفاطم صلى اللّه رب محمد ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا فدى لرسول اللّه أمى وخالتى ... وعمى وخالى ثم نفسى وماليا فلو أن رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا عليك من اللّه السلام تحية ... وأدخلت جنات من العدن راضيا أرى حسنا أيتمته وتركته ... يبكّى ويدعو جده اليوم نائيا ورثاه أبو سفيان بن الحارث فقال: أرقت فبت ليلى لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول وأسعدنى البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل __________ (١) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٢٧٢) . لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحى والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرائيل وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كادت تسيل نبى كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول ويهديناا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعى ذاك السبيل فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول ورثاه الصديق بقوله: لما رأيت نبينا متجندلا ... ضاقت على بعرضهن الدور فارتاع قلبى عند ذاك لهلكه ... والعظم منى ما حييت كسير أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى ... فالصبر عنك لما لقيت يسير يا ليتنى من قبل مهلك صاحبى ... غيبت فى جدث على صخور فلتحدثن بدائع من بعده ... يعيى بهن جوارح وصدور ورثاه الصديق أيضا بقوله: ودعنا الوحى إذا وليت عنا ... فودعنا من اللّه الكلام سوى ما قد تركت لنا رهينا ... تضمنه القراطيس الكرام ولقد أحسن حسان بقوله يرثيه- صلى اللّه عليه وسلم-: كنت السواد لناظرى ... فعمى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ورثاه حسان بقوله أيضا: بطيبة رسم للرسول ومعهد ... مبين وقد تعفو الرسوم وتهمد ولا تنمحى الآيات من دار حرمه ... بها منبر الهادى الذى كان يصعد وأوضح آيات وباقى معالم ... وربع له فيه مصلى ومسجد بها حجرات كان ينزل وسطها ... من اللّه نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها ... أتاها البلى فالآى منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وعهده ... وقبرا بها واراه فى الترب ملحد أطالت وقوفا تذرف العين دمعها ... على طلل القبر الذى فيه أحمد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد وبورك لحد منك ضمن طيبا ... عليه بناء من صفيح منضد تهيل عليه الترب أيد وأعين ... تباكت وقد غارت بذلك أسعد لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة ... عشية عالوه الثرى لا يوسد وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد يبكون من تبكى السماوات موته ... ومن قد بكته الأرض والناس وأكمد وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد ولما تحقق عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- موته- صلى اللّه عليه وسلم- بقول أبى بكر، ورجع إلى قوله، قال وهو يبكى: بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه، لقد كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلما كثروا اتخذت منبرا لتسمعهم، فحن الجذع لفراقك، حتى جعلت يدك عليه فسكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم، بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، ف قال: من يطع الرسول فقد أطاع اللّه، بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك فى أولهم، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ (١) الآية، بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه، لقد بلغ من فضيلتك عنده، أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك وهم فى أطباقها يعذبون، يقولون يا ليتنا أطعنا اللّه وأطعنا الرسول. الخبر ذكره أبو العباس القصار فى شرحه لبردة الأبوصيرى، __________ (١) سورة الأحزاب: ٧. ونقله عنه الرشاطى فى كتابه (اقتباس الأنوار والتماس الأزهار) وذكره ابن الحاج فى المدخل وساقه بتمامه، والقاضى عياض فى (الشفاء) لكنه ذكر بعضه، ويقع فى كثير من نسخ الشفاء: روى عن عمر بن الخطاب-- رضى اللّه عنه- أنه قال فى كلام بكى به النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، بتشديد الكاف من بكى، والصواب فيها التخفيف، لأن هذا الكلام إنما سمع من عمر- رضى اللّه عنه- بعد موته- صلى اللّه عليه وسلم- كما تقدم، ونبهت عليه فى حاشية الشفاء واللّه أعلم. ويؤيد هذا قوله فى الخبر نفسه: بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه، لقد اتبعك فى قصر عمرك ما لم يتبع نوحا فى كثرة سنه وطول عمره، فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل. وأخرج ابن عساكر عن أبى ذؤيب الهذلى قال: بلغنا أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عليل، فأوجس الحى خيفه، وبث بليلة طويلة حتى إذا كان السحر نمت فهتف بى هاتف وهو يقول: خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام قبض النبى محمد فعيوننا ... تبدى الدموع عليه بالتسجام فوثبت من نومى فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح فعلمت أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قبض!! أو هو ميت، فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقيل: قبض رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. ومن عجيب ما اتفق ما روى عن عائشة: أنهم لما أرادوا غسل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قالوا: لا ندرى، أنجرد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى اللّه عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه فى صدره، ثم كلهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو، اغسلوا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعليه ثيابه، فقاموا وغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص (١) . رواه البيهقى فى دلائل النبوة. __________ (١) انظر (دلائل النبوة) للبيهقى (٧/ ٢٤٢) . وروى ابن ماجه بسند جيد عن على يرفعه: (إذا أنا مت فاغسلونى بسبع قرب من بئرى بئر غرس) (١) . قال فى النهاية: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والسين المهملتين. وقد روى ابن النجار: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (رأيت الليلة أنى أصبحت على بئر من الجنة) ، فأصبح على بئر غرس فتوضأ منها وبزق فيها. وغسّل- صلى اللّه عليه وسلم- ثلاث غسلات، الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، وغسله على، والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران مولاه-صلى اللّه عليه وسلم- يصبون الماء وأعينهم معصوبة من وراء الستر. لحديث على: (لا يغسلنى إلا أنت فإنه لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه) (٢) رواه البزار والبيهقى. وأخرج البيهقى عن الشعبى قال: غسل على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فكان يقول وهو يغسله- صلى اللّه عليه وسلم-: بأبى أنت وأمى طبت حيّا وميتا. أخرج أبو داود، وصححه الحاكم عن على قال: غسلته- صلى اللّه عليه وسلم- فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئا، وكان طيبا حيّا وميتا. وفى رواية ابن سعد: وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط (٣) . قيل: وجعل على على يده خرقة وأدخلها تحت القميص ثم اعتصروا قميصه، وحنطوا مساجده ومفاصله، ووضؤوا منه ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه وجمروه عودا وندّا (٤) . وذكر ابن الجوزى أنه روى عن جعفر بن محمد قال: كان الماء يستنقع __________ (١) أخرجه ابن ماجه (١٤٦٨) فى الجنائز، باب: ما جاء فى غسل النبى. من حديث على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه- . (٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٩/ ٣٦) و قال: رواه البزار وفيه يزيد بن بلال، قال البخارى: فيه نظر وبقية رجاله وثقوا وفيهم خلاف. (٣) أخرجه ابن سعد فى (الطبقات الكبرى) (٢/ ٢٨١) ، وهو ليس عند أبى داود كما قال المصنف. (٤) انظر ما قبله. فى جفون النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فكان على يحسوه. وأما ما روى أن عليّا لما غسله- صلى اللّه عليه وسلم- امتص ماء محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والآخرين، ف قال النووى: ليس بصحيح. وفى حديث عروة عن عائشة قالت: كفن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى ثلاثة أثواب سحولية بيض (١) ، أخرجه النسائى من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى عن عروة. واتفق عليه الأئمة الستة من طريق هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة بزيادة: من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة (٢) . وليس قوله (من كرسف) عند الترمذى ولا ابن ماجه. زاد مسلم: أما الحلة فإنما شبّه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها، فتركت الحلة وكفن فى ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد اللّه بن أبى بكر ف قال: لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسى، ثم قال: لو رضيها اللّه عز وجل لنبيه لكفنه فيها فباعها وتصدق بثمنها (٣) . وفى رواية له: أدرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى حلة يمانية كانت لعبد اللّه ابن أبى بكر ثم نزعت عنه (٤) ، وذكر الحديث بطوله. وفى رواية أصحاب السنن الأربعة: فذكر لعائشة قولهم كفن فى ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتى بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه (٥) . قال الترمذى: حسن صحيح. __________ (١) صحيح: أخرجه النسائى (٤/ ٣٥) فى الجنائز، باب: كفن النبى. من حديث عائشة وأصله فى الصحيح وسيأتى فى الذى بعده. . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٦٤) فى الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٩٤١) فى الجنائز، باب: فى كفن الميت. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٤) تقدم فى الذى قبله. (٥) صحيح: أخرجه الترمذى (٩٩٦) فى الجنائز، باب: ما جاء فى كفن النبى. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-، وقال الترمذى: حسن صحيح. وفى رواية البيهقى: فى ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد (١) . والسحولية: بفتح السين وضمها، قال النووى: والفتح أشهر، وهو رواية الأكثرين، وفى النهاية تبعا للّهروى، فالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار، لأنه يسحلها، أى يغسلها، أو إلى سحول وهى قرية باليمن، وأما الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقى، ولا يكون إلا من قطن، وفيه شذوذ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضا. والكرسف: بضم الكاف وإسكان الراء، وضم السين المهملتين والفاء: القطن. وقال الترمذى: روى فى كفن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الأحاديث فى ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم. وقال البيهقى فى (الخلافيات) : قال أبو عبد اللّه- يعنى الحاكم-: تواترت الأخبار عن على بن أبى طالب وابن عباس وعائشة وابن عمر، وجابر وعبد اللّه بن مغافل، فى تكفين النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة. وعن عبد اللّه بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية عن على: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كفن فى سبعة أثواب (٢) ، وقد روى هذا الحديث أحمد فى مسنده، وذكر ابن حزم: أن الوهم فيه من ابن عقيل أو ممن بعده. وقد اختلف فى معنى قوله: (ليس فيها قميص ولا عمامة) . فالصحيح أن معناه: أنه ليس فى الكفن قميص ولا عمامة أصلا. والثانى: أن معناه أنه كفن فى ثلاثة أثواب خارج عن القميص والعمامة. قال الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد: والأول أظهر فى المراد، وذكر __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٧/ ٢٤٦) . (٢) أخرجه أحمد (١/ ٩٤ و ١٠٢) من حديث على بن أبى طالب. النووى فى شرح مسلم أن الأول تفسير الشافعى وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذى يقتضيه ظاهر الحديث، و قال: إن الثانى .....، فلم يثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كفن فى قميص وعمامة، انتهى. وترتب على اختلافهم: فى أنه هل يستحب أن يكون فى الكفن قميص وعمامة أم لا؟ فقال مالك والشافعى وأحمد: يستحب أن تكون الثلاثة لفائف، ليس فيها قميص ولا عمامة، واختلفوا فى زيادة القميص والعمامة أو غيرها على اللفائف الثلاثة لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقال الشافعية: إنه جائز غير مستحب، وقال المالكية: إنه يستحب للرجال والنساء، وهو فى حق النساء آكد. قال: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف، وقال الحنفية: الأثواب الثلاثة، إزار وقميص ولفافة. وقد أجمع المسلمون على وجوبه، وهو فرض كفاية فيجب فى ماله، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته. واختلف أصحابنا فى المتزوجة إذا كان لها مال، هل يجب تكفينها من مالها، أو هو على زوجها، فذهب إلى الأول الرافعى فى (الشرح الصغير) و (المحرر) والنووى فى (المنهاج) . وذهب إلى الثانى:الرافعى فى (الشرح الكبير) والنووى فى (الروضة) و (شرح المهذب) وقال فيه: قيد الغزالى وجوب التكفين على الزوج بشرط إعسار المرأة، وأنكروه عليه، انتهى. ومتى كانت معسرة فتكفينها على زوجها قطعا، ثم إن الواجب ثوب واحد، وهو حق اللّه تعالى، لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه بخلاف الثانى والثالث فإنه حق للميت، تنفذ وصيته بإسقاطهما. وفى هذا الحديث أيضا دلالة على أن القميص الذى غسل فيه النبى- صلى اللّه عليه وسلم- نزع عنه عند تكفينه. قال النووى فى شرح مسلم: وهذا هو الصواب الذى لا يتجه غيره، لأنه لو بقى مع رطوبته لأفسد الأكفان. قال: وأما الحديث الذى فى سنن أبى داود عن ابن عباس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كفن فى ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان وقميصه الذى توفى فيه، فحديث .....، لا يصح الاحتجاج به، لأن يزيد بن زياد، أحد رواته مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقات. وفى حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا من جهازه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الثلاثاء، وضع على سريره فى بيته ثم دخل الناس عليه- صلى اللّه عليه وسلم- أرسالا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحد (١) . وفى رواية: إن أول من صلى عليه- صلى اللّه عليه وسلم- الملائكة أفواجا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجا فوجا، ثم نساؤه آخرا. وروى أنه لما صلى أهل بيته لم يدر الناس ما يقولون فسألوا ابن مسعود، فأمرهم أن يسألوا عليّا فقال لهم قولوا: إِنَّ اللّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (٢) الآية، لبيك اللّهم ربنا وسعديك، صلوات اللّه البر الرحيم، والملائكة المقربين، والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما سبح لك من شئ يا رب العالمين، على محمد بن عبد اللّه خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين ورسول رب العالمين، الشاهد البشير الداعى إليك بإذنك السراج المنير، وعليه السلام، ذكره الشيخ زين الدين بن الحسين المراغى فى كتابه تحقيق النصرة. ثم قالوا: أين تدفنونه؟ فقال أبو بكر- رضى اللّه عنه-: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (ما هلك نبى قط إلا يدفن حيث تقبض روحه) ، وقال على: وأنا أيضا سمعته (٣) . وحفر أبو طلحة لحد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى موضع فراشه حيث قبض. __________ (١) أخرجه ابن ماجه (١٦٢٨) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٢) سورة الأحزاب: ٥٦. (٣) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٧/ ٢٦٠- ٢٦١) . وقد اختلف فيمن أدخله قبره، وأصح ما روى: أنه نزل فى قبره عمه العباس وعلى وقثم بن العباس والفضل بن العباس، وكان آخر الناس عهدا برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قثم بن العباس(١) . وروى أنه بنى فى قبره تسع لبنات، وفرش تحته قطيفة نجرانية كان يتغطى بها، فرشها شقران فى القبر، و قال: واللّه لا يلبسها أحد بعدك (٢) . قال النووى: وقد نص الشافعى وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت فى القبر. وشذ البغوى من أصحابنا فقال فى كتابه (التهذيب) : لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهية ذلك كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث: بأن شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهيته أن يلبسها أحد بعد النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. انتهى. وفى كتاب (تحقيق النصرة) : قال ابن عبد البر: ثم أخرجت، يعنى القطيفة من القبر لما فرغوا من وضع اللبنات التسع. حكاه ابن زبالة. ولما دفن- صلى اللّه عليه وسلم- جاءت فاطمة- رضى اللّه عنها- فقالت: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- التراب؟ وأخذت من تراب القبر الشريف ووضعته على عينيها وأنشأت تقول: ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت علىّ مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا قال رزين: ورش قبره- صلى اللّه عليه وسلم-، رشه بلال بن رباح بقرية، بدأ من قبل __________ (١) أخرجه أحمد (١/ ١٠٠) من حديث على بن أبى طالب، والبيهقى فى (دلائل النبوة) (٧/ ٢٥٧) . (٢) أخرجه ابن ماجه (١٦٢٨) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- . رأسه. حكاه ابن عساكر. وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء وبيضاء. ورفع قبره من الأرض قدر شبر. وفى حديث عائشة عند البخارى قالت: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى مرضه الذى لم يقم منه: (لعن اللّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) لولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشى أو خشى أن يتخذ مسجدا (١) . كذا فى رواية أبى عوانة عن هلال (خشى أو خشى) على الشك. فرواية (الضم) مبهمة يمكن أن تفسر بأنها هى التى منعت من إبرازه، والهاء ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك. وهذا يقتضى أنهم فعلوه باجتهاد بخلاف رواية الفتح فإنها تقتضى أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- هو الذى أمرهم بذلك. وقوله: (لأبرز قبره) أى: لكشف قبره- صلى اللّه عليه وسلم- ولم يتخذ عليه حائل. والمراد: الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة- رضى اللّه عنها- قبل أن يوسع المسجد، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلاثة الشكل محددة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلى إلى جهة القبر الكريم مع استقبال القبلة. وفى البخارى أيضا من حديث أبى بكر بن عياش عن سفيان التمار: أنه حدثه أنه رأى قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مسنما أى مرتفعا (٢) . زاد أبو نعيم فى (المستخرج) : وقبر أبى بكر وعمر كذلك. واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبى حنيفة ومالك وأحمد والمزنى وكثير من الشافعية، وادعى القاضى حسين اتفاق الأصحاب عليه. وتعقب: بأن جماعة من قدماء الشافعيةاستحبوا التسطيح كما نص عليه الشافعى. وبه جزم الماوردى وآخرون. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٣٠) فى الجنائز، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ومسلم (٥٢٩) فى المساجد، باب: النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ القبور. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٩٠) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وقول سفيان التمار لا حجة فيه، كما قال البيهقى لاحتمال أن قبره- صلى اللّه عليه وسلم- فى الأول لم يكن مسنما. فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبى بكر قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه، اكشفى لى عن قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فكشفت لى عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء (١) . زاد الحاكم: فرأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مقدما وأبو بكر رأسه بين كتفى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وعمر رأسه عند رجلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وهذا كان فى خلافة معاوية. فكأنها كانت فى الأول مسطحة، ثم لما بنى جدار القبور فى إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك صيروها مرتفعة. وقد روى أبو بكر الآجرى فى كتاب (صفة قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم-) من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبى هند، عن عثيم بن نسطاس المدنى قال: رأيت قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى إمارة عمر بن عبد العزيز: رأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبى بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبى بكر أسفل منه. ثم الاختلاف فى ذلك فى أنهما أفضل، لا فى أصل الجواز، ورجح المزنى التسنيم من حيث المعنى، بأن المسطح يشبه ما يصنع للجلوس، بخلاف المسنم. ويرجح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوى ثم قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يأمر بتسويتها. وعن هشام بن عروة عن أبيه: لما سقط عليهم الحائط، يعنى حائط حجرة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى زمان الوليد بن عبد الملك، أخذوا فى بنائه، فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبى-صلى اللّه عليه وسلم-، فما وجدوا أحدا يعلم ذلك حتى قال لهم عروة، واللّه ما هى قدم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، واللّه ما هى إلا قدم عمر (٢) ، رواه البخارى أيضا. __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٢٢٠) فى الجنائز، باب: فى تسوية القبر. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٩٠) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر. من حديث عروة بن الزبير بن العوام- رضى اللّه عنهما-. والسبب فى ذلك ما رواه الآجرى من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرنى أبى قال: كان الناس يصلون إلى القبر الشريف، فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلى إليه أحد، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز فأتاه عروة ف قال: هذا ساق عمر وركبته فسري عن عمر بن عبد العزيز. وروى الآجرى قال رجاء بن حيوة: قبر أبى بكر عند وسط النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وعمر خلف أبى بكر، رأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع، وإلا فحديث القاسم أصح. وأما ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة: أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره فسنده ...... انتهى ملخصا من فتح البارى. وقد اختلف أهل السير وغيرهم فى صفة القبور المقدسة على سبع روايات، أوردها ابن عساكر فى (تحفة الزائر) ونقل أهل السير عن سعيد بن المسيب قال: بقى فى البيت موضع قبر فى السهوة الشرقية يدفن فيه عيسى ابن مريم- عليهما السلام-، ويكون قبره. الرابع. وفى (المنتظم) لابن الجوزى: عن ابن عمر، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (ينزل عيسى ابن مريم فى الأرض، فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحد بين أبى بكر وعمر) . كذا ذكره فى(تحقيق النصرة) واللّه أعلم. فإن قلت: تقدم أنه- صلى اللّه عليه وسلم- توفى يوم الاثنين، ودفن يوم الأربعاء، فلم أخر دفنه- صلى اللّه عليه وسلم-؟ وقد قال- صلى اللّه عليه وسلم- لأهل بيت أخروا دفن ميتهم:(عجلوا دفن ميتكم ولا تؤخروا) . فالجواب: لما ذكر من عدم اتفاقهم على موته، أو لأنهم كانوا لا يعلمون. حيث يدفن، قال قوم فى البقيع، وقال آخرون: فى المسجد، وقال قوم: يحمل إلى إبراهيم حتى يدفن عنده، حتى قال العالم الأكبر صديق الأمة: سمعته يقول: (ما دفن نبى إلا حيث يموت) (١) . ذكره ابن ماجه والموطأ كما تقدم. وفى رواية الترمذى: (ما قبض اللّه نبيّا إلا فى الموضع الذى يحب أن يدفن فيه، ادفنوه فى موضع فراشه)(٢) . ولأنهم اشتغلوا فى الخلاف الذى وقع بين المهاجرين والأنصار فى البيعة، فنظروا فيها حتى استقر الأمر فى الخلافة ونظامها، فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه بالغد بيعة أخرى على ملأ منهم، وكشف اللّه به الكربة من أهل الردة، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فنظروا فى دفنه فغسلوه وكفنوه ودفنوه. ولما قبض- صلى اللّه عليه وسلم- تزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة، لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك. إذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه فرحا واستبشارا لقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح. ولما قدم- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه. كما رواه أبو داود من حديث أنس، وفى رواية الدارمى قال أنس: ما رأيت يوما كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٣) . وفى رواية الترمذى: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شئ، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شئ، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفى دفنه، حتى أنكرنا قلوبنا (٤) . ومن آياته- صلى اللّه عليه وسلم- ما ذكر من بعد موته، من حزن حماره عليه حتى __________ (١) تقدم. (٢) تقدم. (٣) أخرجه الدارمى (٨٨) فى المقدمة، باب: فى وفاة النبى. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. (٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦١٨) فى المناقب، باب: فى فضل النبى. من حديث أنس ابن مالك- رضى اللّه عنه-، قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح. تردى فى بئر وكذا ناقته فإنها لم تأكل ولم تشرب حتى ماتت. ومن ذلك: ظهور ما أخبر أنه كائن بعد موته، مما لا نهاية له ولا عد يحصيه، مما ذكرت بعضه فى المقصد الثامن. وفى حديث أبى موسى عند مسلم: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (إن اللّه إذا أراد بأمة خيرا قبض نبيها قبلها، فجعله فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حى، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره) (١) . وإنما كان قبض النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قبل أمته خيرا، لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم، وإذا أراد اللّه بهم خيرا جعل خيرهم مستمرا ببقائهم محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات نسلا وعقبا بعد عقب. الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيفاعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات، وأرجى الطاعات، والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام، وخالف اللّه ورسوله وجماعة العلماء الأعلام. وقد أطلق بعض المالكية، وهو أبو عمران الفاسى، كما ذكره فى المدخل عن تهذيب الطالب لعبد الحق، أنها واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة، وقال القاضى عياض: إنها سنة من سنن المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها. وروى الدار قطنى من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٣٢٨٨) فى الفضائل، باب: إذا أراد اللّه تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها. من حديث أبى موسى- رضى اللّه عنه-. قال: (من زار قبرى وجبت له شفاعتى) (١) . ورواه عبد الحق فى أحكامه الوسطى، وفى الصغرى وسكت عنه، وسكوته عن الحديث فيهما دليل على صحته. وفى المعجم الكبير للطبرانى: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (من جاءنى زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتى، كان حقّا علىّ أن أكون شفيعا له يوم القيامة) (٢) . وصححه ابن السكن. وروى عنه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من وجد سعة ولم يفد إلىّ فقد جفانى) (٣) . ذكره ابن فرحون فى مناسكه، والغزالى فى الإحياء، ولم يخرجه العراقى، بل أشار إلى ما أخرجه ابن النجار فى تاريخ المدينة مما هو فى معناه عن أنس بلفظ: (ما من أحد من أمتى له سعة ثم لم يزرنى إلا وليس له عذر) (٤) . ولابن عدى فى (الكامل) وابن حبان فى (الضعفاء) ، والدار قطنى فى (العلل) و (غرائب مالك) وآخرين كلهم عن ابن عمر مرفوعا: (من حج ولم يزرنى فقد جفانى) (٥) . ولا يصح. وعلى تقدير ثبوته، فليتأمل قوله (فقد جفانى) فإنه ظاهره فى حرمة ترك الزيارة لأن الجفاء أذى، والأذى حرام بالإجماع فتجب الزيارة، إذ إزالة الجفاء واجبة، حينئذ، فمن تمكن من زيارته ولم يزره فقد جفاه، وليس من حقه علينا ذلك. وعن حاطب أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (من زارنى بعد موتى فكأنما __________ (١) أخرجه ابن عدى فى الكامل، والبيهقى فى شعب الإيمان، كما فى (..... الجامع) (٥٦٠٧) . (٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٤/ ٢) و قال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير، وفيه سلمة بن سالم، وهو ...... (٣) ذكره الغزالى فى (الإحياء) وقال الحافظ العراقى: أخرجه ابن عدى والدار قطنى فى غرائب مالك. وابن حبان فى (الضعفاء) والخطيب فى (الرواة) عن مالك وذكره ابن الجوزى فى ال.......ات. (٤) أخرجه ابن النجار فى (تاريخ المدينة) ، قاله العراقى فى الموضع السابق. (٥) أو انظر ما قبلهما. زارنى فى حياتى، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين) (١) . رواه البيهقى عن رجل من آل حاطب لم يسمه عن حاطب. وعن عمر- رضى اللّه عنه- قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (من زار قبرى) أو قال: (من زارنى كنت له شفيعا وشهيدا) (٢) . رواه البيهقى وغيره عن رجل من آل عمر لم يسمه عن عمر. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من زارنى محتسبا إلى المدينة كان فى جوارى يوم القيامة) (٣) . رواه البيهقى أيضا. قال العلامة زين الدين بن الحسين المراغى: وينبغى لكل مسلم اعتقاد كون زيارته- صلى اللّه عليه وسلم- قربة، للأحاديث الواردة فى ذلك ولقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ (٤) الآية (٥) ، لأن تعظيمه- صلى اللّه عليه وسلم- لا ينقطع بموته، ولا يقال إن استغفار الرسول لهم إنما هو فى حال حياته وليست الزيارة كذلك، لما أجاب به بعض أئمة المحققين: أن الآية دلت على تعليق وجدان اللّه توابا رحيما بثلاثة أمور: المجئ، واستغفارهم، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين والمؤمنات لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- قد استغفر للجميع، قال اللّه تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ (٦) فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة اللّه ورحمته. __________ (١) أخرجه الدار قطنى فى (سننه) (٢/ ٢٧٨) بسند فيه هارون بن قزعة، وقيل ابن أبى قزعة، قال البخارى: لا يتابع عليه، وكذلك شيخه مجهول. (٢) انظر ما بعده. (٣) أخرجه البيهقى فى (شعب الإيمان) كما فى (كنز العمال) (٤٢٥٨٤) . (٤) سورة النساء: ٦٤. (٥) قلت: سبحان اللّه لو أكمل الآية لا تضحت الصورة، وهى قول اللّه عز وجل لَوَجَدُوا اللّه تَوَّاباً رَحِيماً، أى من مكانة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن دعوته واستغفاره بمكانة عند اللّه أنها تستوجب مغفرته عز وجل. (٦) سورة محمد: ١٩. وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووى، وأوجبها الظاهرية، فزيارته- صلى اللّه عليه وسلم- مطلوبة بالعموم والخصوص. لما سبق، ولأن زيارة القبور تعظيم، وتعظيمه-صلى اللّه عليه وسلم- واجب. ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق فى زيارته- صلى اللّه عليه وسلم- بين الرجال والنساء، وإن كان محل الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال، وفى النساء خلاف، والأشهر فى مذهبالشافعى الكراهة. قال ابن حبيب من المالكية: ولا تدع زيارة قبره- صلى اللّه عليه وسلم- والصلاة فى مسجده، فإن فيه من الرغبة ما لا غنى بك ولا بأحد عنه. وينبغى لمن نوى الزيارة أن ينوى مع ذلك زيارة مسجده الشريف، والصلاة فيه، لأنه أحد المساجد الثلاثة التى لا تشد الرحال إلا إليها، وهو أفضلها عند مالك، وليس لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فضل، لأن الشرع لم يجئ به، وهذا الأمر لا يدخله قياس، لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص فى هذه دون غيرها. وقد صح أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة. ومن نذر الزيارة وجبت عليه. كما جزم به ابن كج من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لزمه الوفاء، وجها واحدا، انتهى: ولو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة لزمه ذلك على الأصح عندنا، وبه قال المالكية والحنابلة، لكنه يخرج عنه بالصلاة فى المسجد الحرام. وصحح النووى أيضا أنه يخرج عنه بالصلاة فى مسجد المدينة. قال: ونص عليه الشافعى فى البويطى. وبه قال الحنفية والحنابلة. وللشيخ تقى الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب (١) ، يتضمن منع __________ (١) قلت: وهل قال ابن تيمية إلا بما قال به الأولون من القرون الثلاثة السابقة، من كراهة اتخاذ قبره- صلى اللّه عليه وسلم- عيدا أو مكانا يعبد اللّه فيه، لأحاديثه- صلى اللّه عليه وسلم- ذاته الناهية عن ذلك، أم نخالفه ونعصى أمره، ونقع فى المحذور الذى حذرنا منه بعبادته دون اللّه كما حدث من أتباع عيسى- عليه السّلام- ونغالى فيه كما غالت الأمم من قبلنا فى أنبيائهم وصالحيهم فعبدوهم من دون اللّه. شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب، بل بضد ذلك. ورد عليه الشيخ تقى الدين السبكى فى (شفاء السقام) فشفى صدور المؤمنين. وحكى الشيخ ولى الدين العراقى، أن والده كان معادلا للشيخ زين الدين عبد الرحمن بن رجب الدمشقى فى التوجه إلى بلد الخليل- عليه السّلام-، فلما دنا من البلد قال: نويت الصلاة فى مسجد الخليل، ليحترز عن شد الرحال لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية، فقلت: نويت زيارة قبر الخليل- عليه السّلام-. ثم قلت: أما أنت فقد خالفت النبى-صلى اللّه عليه وسلم-، لأنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع، وأما أنا فاتبعت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لأنه قال: (زوروا القبور) أفقال: إلا قبور الأنبياء؟! قال: فبهت. وينبغى لمن أراد الزيارة أن يكثر من الصلاة والتسليم عليه فى طريقه، فإذا وقع بصره على معالم المدينة الشريفة وما تعرف به، فليردد الصلاة والتسليم، وليسأل اللّه أن ينفعه بزيارته ويسعده بها فى الدارين. وليغتسل ويلبس النظيف من ثيابه، وليترجل ماشيا باكيا. ولما رأى وفد عبد القيس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ألقوا أنفسهم عن رواحلهم ولم ينيخوها وسارعوا إليه، فلم ينكر ذلك عليهم- صلوات اللّه وسلامه عليه-. وروينا مما ذكره القاضى عياض فى (الشفاء) أن أبا الفضل الجوهرى لما ورد إلى المدينة زائرا، وقرب من بيوتها ترجل ومشى باكيا منشدا: ولما رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا نزلنا عن الأكوار نمشى كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا وأنبئت بأن العلامة أبا عبد اللّه بن رشيد قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع وثمانين وستمائة، كان معى رفيقى الوزير أبو عبد اللّه بن أبى القاسم بن الحكيم، وكان أرمد، فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار، وقوى الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشى على قدميه احتسابا لتلك الآثار، وإعظاما لمن حل تلك الديار، فأحس بالشفاء، فأنشد لنفسه فى وصف الحال لمن حل فى تلك الديار: ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا وبالترب منها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا وحين تبدى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أذيلت لنا قربا نزلنا عن الأكوار نمشى كرامة ... لمن حل فيها أن نلم به ركبا نسح سجال الدمع فى عرصاته ... ونلثم من حب لواطئه التربا وإن بقائى دونه لخسارة ... ولو أن كفى تملك الشرق والغربا فيا عجبا ممن يحب بزعمه ... يقيم مع الدعوى ويستعمل الكذبا وزلات مثلى لا تعدد كثرة ... وبعدى عن المختار أعظمها ذنبا ولما كنت سائرا لقصد الزيارة فى ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولاح لنا عند الصباح جبل مفرح الأرواح المبشر بقرب المزار من أشرف الديار، تسابق الزوار إليه، وتعالوا بالصعود عليه استعجالا لمشاهدة تلك الآثار واقتباسا لمشاهدة تلك الأنوار فبرقت لوامع الأنوار النبوية، وهبت عرف نسمات المعارف المحمدية، فطبنا وغبنا إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية فأنشدت: ألا مع برق يغتدى ويروح ... أم النور من أرض الحجاز يلوح وريح الصبا هبت بطيّب عرفهم ... أم الروض فى وجه الصباح يفوح إذا ريح ذاك الحى هب فإنها ... حياة لمن يغدو لها ويروح ترفق بنا يا حادى العيس والتفت ... فللنور بين الواديين وضوح فما هذه إلا ديار محمد ... وذاك سناها يغتدى ويروح وإلا فما للركب هاج اشتياقهم ... فكل من الشوق الشديد يصيح وأنّت مطايا الركب حتى كأنها ... حمام على قضب الأراك تنوح وقد مدت الأعناق شوقا وطرفها ... إلى النور من تلك الديار لموح رأت دار من تهوى فزاد اشتياقها ... ومدمعها فى الوجنتين سفوح إذا العيس باحت بالغرام ولم تطق ... خفاء فما للضب ليس يبوح ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها، وتدانينا من معاينة رباها الكريمة وآكامها، وانتشقنا عرف لطائف أزهارها، وبدت لنواظرنا بوارق أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا، ونزل القوم عن المطايا، فأنشدت متمثلا: أتيتك زائرا وودت أنى ... جعلت سواد عينى أمتطيه وما لى لا أسير على الماقى ... إلى قبر رسول اللّه فيه ولما وقع بصرى على القبر الشريف والمسجد المنيف فاضت من الفرح سوابق العبرات حتى أصابت بعض الثرى والجدرات وقلت: أيها المغرم المشوق هنيئا ... ما أنالوك من لذيذ التلاق قل لعينيك تهملان سرورا ... طالما أسعداك يوم الفراق واجمع الوجد والسرور ابتهاجا ... وجميع الأشجان والأشواق ومر العين أن تفيض انهمالا ... وتوالى بدمعها المهراق هذه دارهم وأنت محب ... ما بقاء الدموع فى الآماق وقلت: وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر ويستحب صلاة ركعتين تحية المسجد قبل الزيارة، وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف- صلى اللّه عليه وسلم-. فإن كان استحبت الزيارة قبل التحية. قال فى (تحقيق النصرة) وهو استدراك حسن. قاله بعض شيوخنا. وفى منسك ابن فرحون: فإن قلت: المسجد إنما تشرف بإضافته إليه- صلى اللّه عليه وسلم- فينبغى البداءة بالوقوف عنده- صلى اللّه عليه وسلم-. قلت: قال ابن حبيب فى أول كتاب الصلاة: حدثنى مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد اللّه- رضى اللّه عنه- قال: قدمت من سفر، فجئت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أسلم عليه وهو بفناء المسجد، ف قال: (أدخلت المسجد فصليت فيه؟) قلت: لا، قال: (فاذهب فادخل المسجد وصل فيه، ثم ائت فسلم علىّ) . قال: ورخص بعضهم فى تقديم الزيارة على الصلاة. قال ابن الحاج: وكل ذلك واسع ولعل هذا الحديث لم يبلغهم، واللّه أعلم. انتهى. وينبغى للزائر أن يستحضر الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصدا فى سلامه بين الجهر والإسرار. وفى البخارى: أن عمر- رضى اللّه عنه- قال لرجلين من أهل الطائف: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، ترفعان أصواتكما فى مسجد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (١) . وقد روى عن أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنه- قال: لا ينبغى رفع الصوت على نبى حيّا ولا ميتا. وروى عن عائشة- رضى اللّه عنها- أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب فى بعض الدور المطيفة بمسجد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. قالوا: وما عمل على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه- مصراعى داره إلا بالمصانع توقيا لذلك. نقله ابن زبالة. فيجب الأدب معه كما فى حياته. وينبغى للزائر أن يتقدم إلى القبر الشريف من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلى الصاحبين فهو أبلغ فى الأدب من الإتيان من جهة رأسه المكرم. ويستدبر القبلة ويقف قبالة وجهه- صلى اللّه عليه وسلم- بأن يقابل المسمار الفضة المضروب فى الرخام الذى فى الجدار، ولا عبرة بالقنديل الكبير اليوم، لأن هناك عدة قناديل. وقد روى أن مالكا لما سأله أبو جعفر المنصور العباسى: يا أبا عبد اللّه أستقبل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأدعو، أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السّلام- إلى اللّه عز وجل يوم القيامة. لكن رأيت منسوبا للشيخ تقى الدين بن تيمية فى منسكه: أن هذه __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٧٠) فى الصلاة، باب: رفع الصوت فى المسجد. من حديث السائب بن يزيد- رضى اللّه عنه-. الحكاية كذب على مالك. وأن الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون ويدعون فى مسجده- صلى اللّه عليه وسلم-. قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك. وينبغى أن يقف عند محاذاة أربعة أذرع ويلازم الأدب والخشوع والتواضع، غاض البصر فى مقام الهيبة، كما كان يفعل بين يديه فى حياته، ويستحضر علمه بوقوفه بين يديه وسماعه لسلامه، كما هو الحال فى حال حياته، إذ لا فرق بين موته وحياته فى مشاهدته لأمته ومعرفته بأحوالهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جلى لا خفاء به. فإن قلت: هذه الصفات مختصة باللّه تعالى. فالجواب: إن من انتقل إلى عالم البرزخ من المؤمنين يعلم أحوال الأحياء غالبا، وقد وقع كثير من ذلك كما هو مسطور فى مظنة ذلك من الكتب. وقد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب: ليس من يوم إلا ويعرض على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أعمال أمته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم. ويمثل الزائر وجهه الكريم- صلى اللّه عليه وسلم- فى ذهنه، ويحضر قلبه جلال رتبته، وعلو منزلته، وعظيم حرمته، وإن أكابر الصحابة ما كانوا يخاطبونه إلا كأخى السرار، تعظيما لما عظم اللّه من شأنه. وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة- رضى اللّه عنها-: أن اكشفى لى عن قبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فكشفته فبكت حتى ماتت. وحكى عن أبى الفضائل الحموى، أحد خدام الحجرة المقدسة، أنه شاهد شخصا من الزوار الشيوخ، أتى باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة، فحركوه فإذا هو ميت، وكان ممن شهد جنازته. ثم يقول الزائر بحضور قلب، وغض بصر وصوت، وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا نبى اللّه، السلام عليك يا حبيب اللّه، السلام عليك يا خيرة خلق اللّه، السلام عليك يا صفوة اللّه، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين، السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر عباد اللّه الصالحين، جزاك اللّه عنا يا رسول اللّه أفضل ما جازى نبيّا ورسولا عن أمته، وصلى اللّه عليك كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون، أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه، وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت فى اللّه حق جهاده. ومن ضاق وقته عن ذلك، أو عن حفظه فليقل ما تيسر منه، أو مما يحصل به الغرض. وفى (التحفة) : أن ابن عمر وغيره من السلف كانوا يقتصرون ويوجزون فى هذا جدّا. فعن مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وناهيك به خبرة بهذا الشأن من رواية ابن وهب عنه، يقول: السلام عليك أيها النبى ورحمة اللّه وبركاته. وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا قدم من سفر دخل المسجد، ثم أتى القبر المقدس فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. وينبغى أن يدعو، ولا يتكلف السجع فإنه قد يؤدى إلى الإخلال بالخشوع. وقد حكى جماعة منهم الإمام أبو نصر بن الصباغ فى (الشامل) الحكاية المشهورة عن العتبى، واسمه: محمد بن عبيد اللّه بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبى سفيان صخر بن حرب، وتوفى فى سنة ثمان وعشرين ومائتين، وذكرها ابن النجار وابن عساكر وابن الجوزى فى مثير الغرام الساكن. عن محمد بن حرب الهلالى قال: أتيت قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابى فزاره ثم قال: يا خير الرسل، إن اللّه أنزل عليك كتابا صادقا، قال فيه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوَّاباً رَحِيماً (١) وقد جئتك مستغفرا من ذنبى مستشفعا بك إلى ربى وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسى الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ووقف أعرابى على قبره الشريف وقال: اللّهم إنك أمرت بعتق العبيد، وهذا حبيبك وأنا عبدك، فأعتقنى من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا تسأل العتق لك وحدك، هلا سألت لجميع الخلق. اذهب فقد أعتقناك من النار. إن الملوك إذا شابت عبيدهم ... فى رقهم أعتقوهم عتق أبرار وأنت يا سيدى أولى بذاكرما ... قد شبت فى الرق فاعتقنى من النار وعن الحسن البصرى قال: وقف حاتم الأصم على قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: يا رب، إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودى: يا هذا ما أذنا لك فى زيارة قبر حبيبنا إلا وقد قبلناك فارجع أنت ومن معك من الزوار مغفورا لكم. وقال ابن أبى فديك: سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فتلا هذه الآية: إِنَّ اللّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (٢) و قال: صلى اللّه عليك يا محمد، حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك: صلى اللّه عليك يا فلان، ولم تسقط له حاجة. قال الشيخ زين الدين المراغى وغيره: الأولى أن ينادى يا رسول اللّه وإن كانت الرواية يا محمد، انتهى. وقد نبهت على ذلك مع مزيد بيان فى كتاب __________ (١) سورة النساء: ٦٤. (٢) سورة الأحزاب: ٥٦. (لوامع الأنوار فى الأدعية والأذكار) . فإن أوصاه أحد بإبلاغ السلام إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فليقل: السلام عليك يا رسول اللّه من فلان. ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلم على أبى بكر- رضى اللّه عنه-، لأن رأسه بحذاء منكب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، على ما جزم به رزين وغيره، وعليه الأكثر، فيقول: السلام عليك يا خليفة سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيد اللّه به- يوم الردة- الدين، جزاك اللّه عن الإسلام والمسلمين خيرا، اللّهم ارض عنه، وارض عنا به. ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلم على عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيد اللّه به الدين، جزاك اللّه عن الإسلام والمسلمين خيرا، اللّهم ارض عنه، وارض عنا به. ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه سيدنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بعد السلام على سيدنا أبى بكر وعمر، فيحمد اللّه تعالى ويمجده، ويصلى على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ويكثر من الدعاء والتضرع، ويجدد التوبة فى حضرته الكريمة، ويسأل اللّه بجاهه أن يجعلها توبة نصوحا، ويكثر من الصلاة والسلام على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه. وقد روى أبو داود من حديث أبى هريرة: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (ما من مسلم يسلم علىّ إلا رد اللّه علىّ روحى حتى أرد عليه السلام) (١) . وعند ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة مرفوعا: (من صلى على عند قبرى سمعته، ومن صلى على نائيا بلغته) . وعن سليمان بن سحيم، مما ذكره القاضى عياض فى (الشفاء) قال: رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى النوم، فقلت: يا رسول اللّه، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأرد عليهم. __________ (١) حسن: أخرجه أبو داود (٢٠٤١) فى المناسك، باب: زيارة القبور. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، . ولا شك أن حياة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ثابتة معلومة مستمرة، ونبينا- صلى اللّه عليه وسلم- أفضلهم، وإذا كان كذلك فينبغى أن تكون حياته- صلى اللّه عليه وسلم- أكمل وأتم من حياة سائرهم. فإن قال سقيم الطبع ردئ الفهم، لو كانت حياته- صلى اللّه عليه وسلم- مستمرة ثابتة لما كان لرد روحه معنى كما قال: (إلا رد اللّه على روحى) . يجاب على ذلك من وجوه: أحدها: أن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائما لثبوت رد السلام دائما، فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم، واللازم يجب وجوده عند ملزومه أو ملزوم ملزومه، فوصف الحياة ثابت دائما لأن ملزوم ملزومه ثابت دائما، وهذا من نفاثات سحر البيان فى إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة، وأجمل فنون البراعة التى هى قطرة من بحار بلاغته العظمى. ومنها: أن ذلك عبارة عن إقبال خاص، والتفات روحانى يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا، وقوالب الأجساد الترابية، وتنزل إلى دائرة البشرية، حتى يحصل عند ذلك رد السلام، وهذا الإقبال يكون عامّا شاملا، حتى لو كان المسلمون فى كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف لوسعهم ذلك الإقبال النبوى والالتفات الروحانى، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبر عنه، ولقد أحسن من سئل: كيف يرد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- على من يسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها فى آن واحد فأنشد قول أبى الطيب: كالشمس فى وسط السماء ونورها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا ولا ريب أن حاله- صلى اللّه عليه وسلم- فى البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل- عليه السّلام- يقبض مائة ألف روح فى وقت واحد ولا يشغله قبض عن قبض، وهو مع ذلك مشغول بعبادة اللّه تعالى، مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- حى يصلى ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال فى حضرة اقترابه، متلذذا بسماع خطابه، وقد تقدم الجواب عن قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (١) فى أواخر الخصائص من المقصد الرابع. __________ (١) سورة الزمر: ٣٠. وقد روى الدارمى عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة، لم يؤذن فى مسجد النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وذكر ابن النجار وابن زبالة بلفظ قال سعيد- يعنى ابن المسيب-. فلما حضرت الظهر سمعت الأذان فى القبر، فصليت ركعتين، ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر، ثم مضى ذلك الأذان والإقامة فى القبر المقدس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، يعنى ليالى أيام الحرة. وقد روى البيهقى وغيره: من حديث أنس أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (الأنبياء أحياء فى قبورهم يصلون) (١) . وفى رواية: (أن الأنبياء لا يتركون فى قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدى اللّه حتى ينفخ فى الصور) . وله شواهد فى صحيح مسلم منها: قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (مررت بموسى وهو قائم يصلى فى قبره) (٢) . وفى حديث أبى ذر فى قصة المعراج: أنه لقى الأنبياء فى السموات، وكلموه وكلمهم (٣) . وقد ذكرت مزيد بيان لذلك فى حجة الوداع من مقصد عباداته، وفى ذكر الخصائص الكريمة فى مقصد معجزاته، وفى مقصد الإسراء والمعراج. وهذه الصلوات والحج الصادر من الأنبياء ليس على سبيل التكليف، إنما هو على سبيل التلذذ، ويحتمل أن يكونوا فى البرزخ ينسحب عليهم حكم الدنيا فى استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور من غير خطاب بتكليف، وبا للّه التوفيق. وإذا ثبت بشهادة قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه __________ (١) صحيح: أخرجه أبو يعلى عن أنس، كما فى (صحيح الجامع) (٢٧٩٠) . (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٧٥) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. (٣) انظر المجلد الأول، باب: إسرائه- صلى اللّه عليه وسلم-. أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١) حياة الشهيد، ثبت للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- بطريق الأولى، والذى عليه جمهور العلماء: أن الشهداء أحياء حقيقة، وهل ذلك للروح فقط أو للجسد معها؟ بمعنى عدم البلى، قولان. وقد صح عن جابر: أن أباه وعمرو بن الجموح وكانا ممن استشهد بأحد ودفنا فى قبر واحد، حتى حفر السيل قبرهما، فوجدا لم يتغيرا، وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأمطيت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت. وكان بين ذلك وبين أحد ست وأربعون سنة. وروى عنه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه قال فى شهداء أحد: (والذى نفسى بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه) . رواه البيهقى عن أبى هريرة. وقد قال ابن شهاب: بلغنا أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (أكثروا من الصلاة علىّ فى الليلة الزهراء واليوم الأزهر، فإنهما يؤديان عنكم، وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء) (٢) . رواه أبو داود وابن ماجه. ونقل ابن زبالة عن الحسن أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (من كلمه روح القدس لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه) . وقد ثبت أن نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- مات شهيدا لأكله يوم خيبر من شاة مسمومة سمّا قاتلا من ساعته حتى مات منه بشر بن البراء، وصار بقاؤه- صلى اللّه عليه وسلم- __________ (١) سورة آل عمران: ١٦٩. (٢) صحيح: أخرجه أبو داود (١٠٤٧) فى الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، وابن ماجه (١٦٣٦) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه من حديث أوس بن أوس- رضى اللّه عنه-، ولفظه (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علىّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علىّ) ، فقال رجل: يا رسول اللّه كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يعنى بليت؟ قال: (إن اللّه حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) . . معجزة، فكان ألم السم يتعاهده إلى أن مات به، ولذا قال فى مرض موته- كما مر-: (ما زالت أكلة خيبر تعادّنى حتى كان الآن قطعت أبهرى) (١) . والأبهران: عرقان يخرجان من القلب تتشعب منهما الشرايين، كما ذكره فى الصحاح. قال العلماء: فجمع اللّه له بذلك بين النبوة والشهادة. انتهى. وقد اختلف فى محل الوقوف للدعاء. فعند الشافعية أنه قبالة وجهه كما ذكرته، وقال ابن فرحون من المالكية: اختلف أصحابنا فى محل الوقوف للدعاء، ففى الشفاء قال مالك- فى رواية ابن وهب-: إذا سلم على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، وقد سأل الخليفة المنصور مالكا ف قال: يا أبا عبد اللّه، أأستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السّلام- إلى اللّه يوم القيامة. وقال مالك فى (المبسوط) ، لا أرى أن يقف عند القبر يدعو، ولكن يسلم ويمضى. قال ابن فرحون: ولعل ذلك ليس اختلاف قول، وإنما أمر المنصور بذلك لأنه يعلم ما يدعو، ويعلم آداب الدعاء بين يديه- صلى اللّه عليه وسلم-، فأمن عليه من سوء الأدب فأفتاه بذلك، وأفتى العامة أن يسلموا وينصرفوا، لئلا يدعوا تلقاء وجهه الكريم ويتوسلوا به فى حضرته إلى اللّه العظيم فيما لا ينبغى الدعاء به، أو فيما يكره أو يحرم، فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة، وأكثرهم لا يقوم باداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسلام والانصراف. انتهى. ورأيت مما نسب للشيخ تقى الدين بن تيمية فى منسكه: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، ولا يصلى إليها ولا يقبلها، فإن هذا كله منهى عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك، والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء، كذب على مالك، وكذا قال، واللّه أعلم، انتهى. __________ (١) تقدم. وأما قول الأبوصيرى فى بردة المديح: لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم فقال شارحها العلامة ابن مرزوق وغيره: كأنه إشارة إلى النوعين المستعملين فى الطيب، لأنه إما أن يستعمل بالشم، وإليه أشار بقوله (لمنتشق) وإما بالتضمخ وإليها أشار ب (ملتثم) ، قال: وأقل ذلك بتعفير جبهته وأنفه بتربته حال السجود فى مسجده- صلى اللّه عليه وسلم-، فليس المراد به تقبيل القبر الشريف فإنه مكروه. ونقل الزركشى عن السيرافى: أن (طوبى) الطيب، قال ابن مرزوق: طوبى فعلى من أنواع الطيب. وهذا مبنى على أن المراد أن تربته أفضل أنواع الطيب باعتبار الحقيقة الحسية، وذلك إما لأنه كذلك فى نفس الأمر، أدركه من أدركه أم لا، وإما باعتبار المؤمن فى ذلك فإن المؤمن لا يعدل بشم رائحة تربته- صلى اللّه عليه وسلم- شيئا من الطيب. فإن قلت: لو كان المراد الحقيقة الحسية لأدرك ذلك كل أحد. فالجواب: لا يلزم من قيام المعنى بمحل إدراكه لكل أحد، بل حتى توجد الشرائط وتنتفى الموانع، وعدم الإدراك لا يدل على عدم المدرك، وانتفاء الدليل لا يدل على انتفاء المدلول، فالمزكوم لا يدرك رائحة المسك، مع أن الرائحة قائمة بالمسك لم تنتف عنه. ولما كانت أحوال القبر من الأمور الآخروية، لا جرم لا يدركها من الأحياء إلا من كشف له الغطاء من الأولياء المقربين، لأن متاع الآخرة باق، ومن فى الدنيا فان، والفانى لا يتمتع بالباقى للتضاد، ولا ريب عند من له أدنى تعلق بشريعة الإسلام أن قبره- صلى اللّه عليه وسلم- روضة من رياض الجنة، بل أفضلها، وإذا كان القبر كما ذكرناه وقد حوى جسمه الشريف- عليه الصلاة والسلام- هو أطيب الطيب، فلا مرية أنه لا طيب يعدل تراب قبره المقدس. ويرحم اللّه أحمد بن محمد العريف حيث يقول فى قصيدته التى أولها: إذا ما حدا الحادى بأحمال يثرب ... فليت المطايا فوق خدى تعبّق ثم قال بعد أبيات: فما عبق الريحان إلا وتربها ... أجلّ من الريحان طيبا وأعبق وله أيضا: راحت ركائبهم تبدى روائحها ... طيبا فيا طيب ذاك الوفد أشباحا نسيم قبر النبى المصطفى لهم ... روض إذا نشروا من ذكره فاحا وللّه در القائل: فاح الصعيد بجسمه فكأنه ... روض بنم يعرفه المتأرج ما جسمه مما يغيره الثرى ... والروح منه كالصباح الأبلج وقال ابن بطال فى قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (المدينة ينصع طيّبها) (١) هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها مع فراق الأهل والتزام المخافة من العدو فلما باع نفسه والتزم هذا الأمر بأن صدقه ونصع إيمانه وقوى لاغتباطه بسكن المدينة ولقربه من رسوله، كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقا على سائر البلاد، خصوصية خص اللّه بها بلدة رسوله- صلى اللّه عليه وسلم- الذى اختار تربتها المباشرة جسده الطيب المطهر، وقد جاء فى الحديث (أن المؤمن يقبر فى التربة التى خلق منها) فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب، كما أنه هو- صلى اللّه عليه وسلم- أفضل البشر، فلهذا واللّه أعلم يتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلدان. انتهى. وينبغى للزائر أن يكثر من الدعاد والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به- صلى اللّه عليه وسلم-، فجدير بمن استشفع به أن يشفعه اللّه تعالى فيه. واعلم أن الاستغاثة هى طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٨٣) فى الحج، باب: المدينة تنفى الخبث، من حديث جابر بن عبد اللّه- رضى اللّه عنهما-. به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ: الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التجوّه أو التوجه، لأنهما من الجاه والوجاهة ومعناه: علو القدر والمنزلة. وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثم إن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- كما ذكره فى (تحقيق النصرة) و (مصباح الظلام) - واقع فى كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، فى مدة حياته فى الدنيا وبعد موته فى مدة البرزخ، وبعد البعث فى عرصات القيامة. فأما الحالة الأولى فحسبك ما قدمته فى المقصد الأول من استشفاع آدم- عليه السّلام- به لما أخرج من الجنة، وقول اللّه تعالى له: (يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد فى أهل السماوات والأرض لشفعناك) . وفى حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقى وغيرهما: (وإن سألتنى بحقه فقد غفرت لك) . ويرحم اللّه (١) ابن جابر حيث قال: به قد أجاب اللّه آدم إذ دعا ... ونجّى فى بطن السفينة نوح وما ضرت النار الخليل لنوره ... ومن أجله نال الفداء ذبيح وصح أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لى، قال اللّه تعالى: يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه، قال: يا رب، إنك لما خلقتنى بيدك ونفخت فىّ من روحك، رفعت رأسى فرأيت قوائم العرش مكتوبا عليها لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه فعرفت أنك لا تضيف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.فقال اللّه تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلى، وإذ سألتنى بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك (٢) . ذكره الطبرى وزاد فيه: وهو آخر الأنبياء من ذريتك. __________ (١) قلت: بل يغفر اللّه لقائله تلك الكلمات التى ليس عليها دليل، إلا أهواء قائليها، وما ضرهم إذ وصفوه بما وصفه اللّه تعالى به أو وصف به نفسه دون إفراط أو تفريط. (٢) تقدم أنه ........ وأما التوسل بعد خلقه فى مدة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به- صلى اللّه عليه وسلم- عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع ونحو ذلك مما ذكرته فى مقصد المعجزات ومقصد العبادات فى الاستسقاء، ومن ذلك استغاثة ذوى العاهات به، وحسبك ما رواه النسائى والترمذى عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضرير أتاه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: ادع اللّه يعافينى، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: (اللّهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، يا محمد إنى أتوجه بك إلى ربك فى حاجتى لتقضى، اللّهم شفعه فىّ) (١) وصححه البيهقى، وزاد: فقام وقد أبصر. وأما التوسل به- صلى اللّه عليه وسلم- بعد موته فى البرزخ فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء وفى كتاب (مصباح الظلام فى المستغيثين بخير الأنام) للشيخ أبى عبد اللّه بن النعمان طرف من ذلك. ولقد كان حصل لى داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به- صلى اللّه عليه وسلم- ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة بمكة زادها اللّه شرفا، ومنّ علىّ بالعود فى عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذ جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلانى من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف النبوى، ثم استيقظت فلم أجد بى- واللّه- شيئا مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. ووقع لى أيضا فى سنة خمس وثمانين وثمانمائة فى طريق مكة، بعد رجوعى من الزيارة الشريفة لقصد مصر، أن صرعت خادمتنا غزال الحبشية، واستمر بها أياما، فاستشفعت به- صلى اللّه عليه وسلم- فى ذلك، فأتانى آت فى منامى، ومعه الجنى الصارع لها فقال: لقد أرسله لك النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فعاتبته وحلفته أن لا يعود إليها، ثم استيقظت وليس بها قلبة كأنما نشطت من عقال، ولا __________ (١) صحيح: وقد تقدم، إلا أن المقصود بالتوسل به هنا التوسل بدعائه، لا التوسل بذاته، وبينهما فرق. زالت فى عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة سنة أربع وتسعين وثمانمائة، والحمد للّه رب العالمين (١) . وأما التوسل به- صلى اللّه عليه وسلم- فى عرصات القيامة، فمما قام عليه الإجماع وتواترت به الأخبار فى حديث الشفاعة. فعليك أيها الطالب إدراك السعادة الموصل لحسن الحال فى حضرة الغيب والشهادة، بالتعلق بأذيال عطفه وكرمه، والتطفل على موائد نعمه، والتوسل بجاهه الشريف والتشفع بقدره المنيف، فهو الوسيلة إلى نيل المعالى واقتناص المرام، والمفزع يوم الجزع والهلع لكافة الرسل الكرام، واجعله أمامك فيما نزل بك من النوازل، وإمامك فيما تحاول من القرب والمنازل، فإنك تظفر من المراد بأقصاه، وتدرك رضى من أحاط بكل شئ علما وأحصاه، واجتهد ما دمت بطيبة الطيبة حسب طاقتك فى تحصيل أنواع القربات، ولازم قرع أبواب السعادات بأظافير الطلبات، وارق فى مدارج العبادات، ولج فى سرادق المرادات. تمتع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصل ما استطعت من ادخار فها أنا قد أبحت لكم عطائى ... وها قد صرت عندى فى جوارى فخذ ما شئت من كرم وجود ... ونل ما شئت من نعم غزار فقد وسعت أبواب التدانى ... وقد قربت للزوار دارى فمتع ناظريك فها جمالى ... تجلى للقلوب بلا استتار ولازم الصلوات مكتوبة ونافلة فى مسجده المكرم، خصوصا بالروضة التى ثبت أنها روضة من رياض الجنة (٢) . كما رواه البخارى. __________ (١) قلت: هذه حكايات أعيان لا حجة فيها، لأنه ليس عليه دليل شرعى، ولو فتح هذا الباب لقال من شاء ما شاء. (٢) قلت: الذى فى صحيح البخارى: (ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة) أخرجه برقم (١١٩٥) فى الجمعة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر، والمقصد أن هذه البقعة سببا فى دخول الجنة، إما لأنها مكان علم (المسجد النبوى) ينتفع به، أو تؤدى فيه عبادة مقبولة فتكون سببا فى دخول الجنة، وكلاهما مقصود. قال ابن أبى جمرة معناه: تنقل تلك البقعة بعينها فى الجنة، فتكون روضة من رياض الجنة، ويحتمل أن يكون المراد: العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معا، يعنى احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، قال: ولكل وجه منهما دليل يعضده ويقويه من جهة النظر والقياس. أما الدليل على أن العمل فيها يوجب روضة فى الجنة، فلأنه إذا كانت الصلاة فى مسجده- صلى اللّه عليه وسلم- بألف فيما سواه من المساجد، فلهذه البقعة زيادة على باقى البقع كما كان للمسجد زيادة على غيره. وأما الدليل على كونها بعينها فى الجنة، وكون المنبر أيضا على الحوض، كما أخبر- صلى اللّه عليه وسلم- وأن الجذع فى الجنة، والجذع فى البقعة نفسها، فالعلة التى أوجبت للجذع الجنة هى فى البقعة سواء، على ما أذكره بعد- إن شاء اللّه تعالى-. والذى أخبر بهذا أخبر بهذا، فينبغى الحمل على أكمل الوجوه، وهو الجمع بينهما، لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن البقعة المباركة، ما فائدة بركتها لنا، والإخبار بها لنا إلا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضا، فعلى هذا يكون الموضع روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة كما كان فى موضعه، ويكون للعامل فيه روضة فى الجنة، وهو الأظهر لوجهين: أحدهما: لعلو منزلته- صلى اللّه عليه وسلم-، ولما خص الخليل- عليه السّلام- بالحجر من الجنة، خص الحبيب- صلى اللّه عليه وسلم- بالروضة من الجنة. وها هنا بحث: لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة؟ فإن قلنا: تعبد، فلا بحث، وإن قلنا: لحكمة فحينئذ يحتاج إلى البحث. والأظهر أنه لحكمة، وهى أنه قد سبق فى العلم الربانى بما ظهر أن اللّه عز وجل فضله على جميع خلقه، وأن كل ما كان منه بنسبة ما من جميع المخلوقات يكون له تفضيل على جنسه كما استقرئ فى كل أموره، من بدء ظهوره- صلى اللّه عليه وسلم- إلى حين وفاته، فى الجاهلية والإسلام. فمنها ما كان فى شأن أمه، وما نالها من بركته مع الجاهلية الجهلاء، حسب ما هو مذكور معلوم. ومثل ذلك حليمة السعدية. وحتى الأتان، وحتى البقعة التى تجعل الأتان يدها عليها تخضر من حينها، وما هو من ذلك كله معلوم. وكان مشيه- صلى اللّه عليه وسلم- حيث ما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله، وحيث وضع- صلى اللّه عليه وسلم- يده المباركة ظهر فى ذلك كله من الخيرات والبركات حسّا ومعنى، كما هو منقول معروف. ولما شاء صاحب القدرة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لا بدّ له من بيت، ولا بدّ له من منبر، وأنه بالضرورة يكثر تردده- صلى اللّه عليه وسلم- بين المنبر والبيت، فالحرمة التى أعطى غيرهما إذا كان من مسّة واحدة بمباشرته أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير، فكيف مع كثرة ترداده- صلى اللّه عليه وسلم- فى البقعة الواحدة مرارا فى اليوم الواحد طول عمره، من وقت هجرته إلى حين وفاته. فلم يبق من الترفيع بالنسبة إلى عالمها أعلى مما وصفناه، وهو أنها كانت من الجنة، وتعود إليها، وهى الآن منها، وللعامل فيها مثلها، فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه فى هذه الدار، لكان لهذه أعلى مرتبة مما ذكرنا فى جنسها. فإن احتج محتج لا فهم له بأن يقول: ينبغى أن يكون ذلك للمدينة بكمالها، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يطؤها بقدمه مرارا. فالجواب: أنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها، من ذلك أن ترابها شفاء كما أخبر- صلى اللّه عليه وسلم-، مع ما شاركت فيه البقعة المكرمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام. وأنه- صلى اللّه عليه وسلم- أول ما يشفع لأهلها يوم القيامة، وأن ما كان لها من الوباء والحمى رفع عنها، وأنه بورك فى طعامها وشرابها وأشياء كثيرة، فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولا، بأن تردده- صلى اللّه عليه وسلم- فى المسجد نفسه أكثر مما فى المدينة نفسها، وتردده- صلى اللّه عليه وسلم- فيما بين المنبر والبيت أكثر مما سواه من سائر المسجد، فالبحث تأكد بالاعتراض، لأنه جاءت البركة متناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة، والقرب من تلك النسمة المرتفعة لا خفاء فيه إلا على ملحد أعمى البصيرة، فالمدينة أرفع المدن، والمسجد أرفع المساجد والبقعة أرفع البقع، قضية معلومة وحجة ظاهرة موجودة. انتهى. وقال الخطابى: المراد من هذا الحديث الترغيب فى سكنى المدينة، وأن من لازم ذكر اللّه فى مسجدها آل به إلى روضة من رياض الجنة، وسقى يوم القيامة من الحوض انتهى. وتقدم فى الخصائص من مقصد المعجزات مزيد لذلك. وعند مسلم من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) . وقد اختلف العلماء فى المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم فى مكة والمدينة أيهما أفضل؟ ومذهب سفيان بن عيينة والشافعى وأحمد- فى أصح الروايتين عنه- وابن وهب ومطرف وابن حبيب- الثلاثة من المالكية- وحكاه الساجى عن عطاء بن أبى رباح، والمكيين والكوفيين. وحكاهابن عبد البر عن عمر وعلى وابن مسعود وأبى الدرداء وجابر وابن الزبير وقتادة، وجماهير العلماء، أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيها مرجوحة. وقد حكى ابن عبد البر أنه روى عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها، قال: ولكن المشهور عن أصحابه فى مذهبه تفضيل المدينة. انتهى. وقال مالك: المدينة ومسجدها أفضل. ومما احتج به أصحابنا لتفضيل مكة: حديث عبد اللّه بن الحمراء أنه سمع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو واقف على راحلته يقول: (واللّه إنك لخير أرض اللّه وأحبها إلى اللّه، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت) (١) . قال الترمذى: __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٩٢٥) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل من رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وصحبه، وابن ماجه (٣١٠٨) فى المناسك، باب: فضل مكة . حسن صحيح. وقال ابن عبد البر: هذا أصح الآثار عنه- صلى اللّه عليه وسلم-. قال: وهذا قاطع فى محل الخلاف. انتهى. فعند الشافعى والجمهور معناه- أى الحديث-: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة فى مسجدى. وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فى مسجدى تفضله بدون الألف. وعن عبد اللّه بن الزبير قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فى هذا) (١) رواه أحمد وابن حبان فى صحيحه. وزاد: يعنى فى مسجد المدينة، البزار ولفظه: (صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه مائة) . قال المنذرى: وإسناده صحيح أيضا. ومما يستدل به المالكية، ما ذكره ابن حبيب فى (الواضحة) أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (صلاة فى مسجدى كألف صلاة فيما سواه. وجمعة فى مسجدى كألف جمعة فيما سواه، ورمضان فى مسجدى كألف رمضان فيما سواه) . ومذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين- كما قاله القاضى عياض- أن المدينة أفضل، وهو أحد الروايتين عن أحمد. وأجمعوا على أن الموضع الذى ضم أعضاءه الشريفة- صلى اللّه عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض، حتى موضع الكعبة، كما قاله ابن عساكر والباجى والقاضى عياض، بل نقل التاج السبكى كما ذكره السيد السمهودى فى (فضائل المدينة) عن ابن عقيل الحنبلى أنها أفضل من العرش، وصرح الفاكهانى بتفضيلها على السماوات ولفظه: وأقول أنا وأفضل من بقاع السماوات أيضا. ولم أر من __________ (١) صحيح: أخرجه ابن ماجه (١٤٠٦) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى فضل الصلاة، من حديث جابر بن عبد اللّه- رضى اللّه عنهما- . تعرض لذلك، والذى أعتقده لو أن ذلك عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه، وقد جاء أن السماوات شرفت بمواطئ قدميه، بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها لكونه- صلى اللّه عليه وسلم- حالا فيها لم يبعد، بل هو عندى الظاهر المتعين. انتهى. وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووى: إن الجمهور على تفضيل السماء على الأرض، أى ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة. وقد استشكل ما ذكر من الإجماع على أفضلية ما ضم أعضاءه الشريفة على جميع بقاع الأرض، ويؤيده ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام فى تفضيل بعض الأماكن على بعض، من أن الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما لا بصفات قائمة بهما. قال: ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل اللّه العباد فيهما من فضله وكرمه، والتفضيل الذى فيهما أن اللّه تعالى يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما. انتهى. ملخصا. لكن تعقبه الشيخ تقى الدين السبكى بما حاصله: إن الذى قاله لا ينفى أن يكون التفضيل لأمر آخر فيهما وإن لم يكن عمل، لأن قبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند اللّه من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل؟ وليس محل عمل لنا لأنه ليس مسجدا، ولا له حكم المسجد، بل هو مستحق للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حى كما تقرر، وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من كل أحد، فلا يختص الت..... بأعمالنا نحن. قال: ومن فهم هذا انشرح صدره لما قاله القاضى عياض من تفضيل ما ضم أعضاءه الشريفة- صلى اللّه عليه وسلم- باعتبارين: أحدهما، ما قيل إن كل أحد يدفن فى الموضع الذى خلق منه، والثانى: تنزل الملائكة والبركات عليه، وإقبال اللّه تعالى. ولا نسلم أن الفضل للمكان لذاته ولكن لأجل من حلّ فيه- صلى اللّه عليه وسلم-. انتهى. وقد روى أبو يعلى عن أبى بكر أنه قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (لا يقبض النبى إلا فى أحب الأمكنة إليه) . ولا شك أن أحبها إليه أحبها إلى ربه تعالى، لأن حبه تابع لحب ربه جل وعلا، وما كان أحب إلى اللّه ورسوله كيف لا يكون أفضل؟ وقد قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (اللّهم إن إبراهيم دعاك لمكة، وإنى أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ومثله معه) (١) . ولا ريب أن دعاء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أفضل من دعاء إبراهيم، لأن فضل الدعاء على قدر فضل الداعى. وقد صح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (اللّهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة أو أشد) (٢) . وفى رواية (بل أشد) وقد أجيبت دعوته، حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها. وروى الحاكم أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (اللّهم إنك أخرجتنى من أحب البقاع إلىّ فأسكنى فى أحب البقاع إليك) (٣) أى فى موضع تصيره كذلك، فيجتمع فيه الحبان. قيل ضعفه ابن عبد البر، ولو سلمت صحته فالمراد: أحب إليك بعد مكة لحديث (إن مكة خير بلاد اللّه) ، وفى رواية (أحب أرض اللّه إلى اللّه) ، ولزيادة الت..... بمسجد مكة. وتعقبه العلامة السيد السمهودى: بأن ما ذكر لا يقتضى صرفه عن ظاهره، إذ القصد به الدعاء لدار هجرته بأن يصيرها اللّه كذلك. وحديث: (إن مكة خير بلاد اللّه) محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدين، وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها وأنال بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر إجابة دعوته، وصيرورتها أحب مطلقا بعد، ولهذا __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٧٣) فى الحج، باب: فضل المدنية ودعاء النبى فيها بالبركة. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٨٩) فى الحج، باب: كراهية النبى أن تعدى المدينة. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) ذكره العجلونى فى (كشف الخفاء) (٥٥٥) وعزاه للحاكم فى المستدرك، وابن سعد فى شرف المصطفى- صلى اللّه عليه وسلم-، إلا أنى لم أقف عليه فى المستدرك. افترض اللّه تعالى على نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- الإقامة بها، وحث هو- صلى اللّه عليه وسلم- على الاقتداء به فى سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل. قال: وأما مزيد المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر فى ذلك، فالصلوات الخمس بمنى للمتوجه لعرفة أفضل منها بمسجد مكة، وإن انتفت عنها المضاعفة، إذ فى الاتباع ما يربو عليها، ومذهبنا: شمول المضاعفة للنفل مع تفضيله بالمنزل، ولهذا قال عمر- رضى اللّه عنه- بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة، ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة: تفضيل مكة. إذ غايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، مع أن دعاءه- صلى اللّه عليه وسلم- بمزيد ت..... البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضا. وقد يبارك فى العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة. وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب: إن الكلام فيما عداها، فلا يرد شئ مما جاء فى فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد اللّه بن عياش المخزومى. أنت القائل: لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد اللّه: هى حرم اللّه وأمنه وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول فى حرم اللّه وبيته شيئا، ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد اللّه جوابه، فأعاد له: لا أقول فى حرم اللّه وبيته شيئا، فأشير على عبد اللّه فانصرف. وقد عوضت المدينة عن العمرة، ما صح فى إتيان مسجد قباء، وعن الحج ما جاء فى فضل الزيارة النبوية والمسجد، والإقامة بعد النبوة بالمدينة وإن كانت أقل من مكة على القول به، فقد كانت سببا لإعزاز الدين وإظهاره، ونزول أكثر الفرائض وإكمال الدين، حتى كثر تردد جبريل- عليه السّلام- بها، ثم استقر بها- صلى اللّه عليه وسلم- إلى قيام الساعة. ولهذا قيل لمالك: أيما أحب إليك المقام هنا- يعنى المدينة- أو مكة؟ فقال: هنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلك عليها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين فى أقل من ساعة؟! وروى الطبرانى حديث (المدينة خير من مكة) (١) وفى رواية للجندى (أفضل من مكة) وفيه: محمد بن عبد الرحمن الرداد، ذكره ابن حبان فى الثقات و قال: كان يخطئ، وقال أبو زرعة: لين، وقال: ابن عدى، روايته ليست محفوظة، وقال أبو حاتم: ليس بقوى. وفى الصحيحين عن أبى هريرة، قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهى المدينة، تنفى الناس كما ينفى الكير خبث الحديد) (٢) . أى أمرنى اللّه بالهجرة إليها، إن كان قاله- صلى اللّه عليه وسلم- بمكة، أو: بسكناها، إن كان قاله بالمدينة. وقال القاضى عبد الوهاب: لا معنى لقوله: (تأكل القرى) إلا رجوح فضلها عليها، أى على القرى وزيادتها على غيرها. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بذلك: غلبة فضلها على فضل غيرها، أى أن الفضائل تضمحل فى جنب عظيم فضلها حتى تكون عدما، وهذا أبلغ من تسمية مكة (أم القرى) لأن الأمومة لا ينمحى معها ما هى له أم، لكن يكون لها حق الأمومة، انتهى. ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهلها على القرى، والأقرب: حمله عليهما، إذ هو أبلغ فى الغرض المسوق له. انتهى ما قاله السيد السمهودى. وقد أطلت فى الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة، وإن كان مذهب إمامنا الشافعى- رحمه اللّه- تفضيل مكة، لأن هوى كل نفس أين حل حبيبها. علىّ لربع العامرية وقفة ... ليملى على الشوق والدمع كاتب ومن مذهبى حب الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب __________ (١) أخرجه الطبرانى فى الكبير والدار قطنى فى الأفراد عن رافع بن خديج كما فى (..... الجامع) (٥٩٢٠) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٧١) فى الحج، باب: فضل المدينة وأنها تنفى الناس، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. على أن للقلم فى أرجاء تفضيل المدينة مجالا واسعا ومقالا جامعا، لكن الرغبة فى الاختصار تطوى أطراف بساطه، والرهبة من الإكثار تصرف عن تطويله وإفراطه. وقد استنبط العارف ابن أبى جمرة من قوله- صلى اللّه عليه وسلم- المروى فى البخارى (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة) (١) . التساوى بين فضل مكة والمدينة. قال: وظاهر هذا الحديث يعطى التسوية بينهما فى الفضل، لأن جميع الأرض يطؤها الدجال إلا هذين البلدين، فدل على تسويتهما فى الفضل، قال: ويؤيد ذلك أيضا من وجوه النظر: لأنه إن كانت خصت المدينة بمدفنه- صلى اللّه عليه وسلم- وإقامته بها ومسجده، فقد خصت مكة بمسقطه- صلى اللّه عليه وسلم- بها ومبعثه منها، وهى قبلته، فمطلع شمس ذاته الكريمة المباركة مكة، ومغربها المدينة، وإقامته بعد النبوة على المشهور من الأقاويل بمكة مثل إقامته- صلى اللّه عليه وسلم- بالمدينة، عشر سنين فى كل واحدة منهما. كذا قاله. وأنت إذا تأملت قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فيما رواه مسلم من حديث سعد (يأتى على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذى نفسى بيده لا يخرج أحد رغبة عنها إلا أخلف اللّه فيها خيرا منه) (٢) ظهر لك أن فيه إشعارا بذم الخروج من المدينة. بل نقل الشيخ محب الطبرى عن قوم أنه عام أبدا مطلقا، و قال: إنه ظاهر اللفظ. وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتى إلا كنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا) (٣) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٨١) فى الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة، ومسلم (٢٩٤٣) فى الفتن، باب: قصة الجساسة، من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٨١) فى الحج، باب: المدينة تنفى شرارها. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٧٨) فى الحج، باب: الترغيب فى سكنى المدينة والصبر على لأوائها. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. وفيه عن سعيد- مولى المهرى- أنه جاء إلى أبى سعيد الخدرى ليالى الحرة، فاستشاره فى الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، ف قال: ويحك. لا آمرك بذلك، إنى سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (لا يصبر أحد على لأوائها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة) . و (اللأواء) : بالمد، الشدة والجوع. و (أو) فى قوله: (إلا كنت له شفيعا أو شهيدا) الأظهر أنها ليست للشك، لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد اللّه، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت أبى عبيد، عنه- صلى اللّه عليه وسلم- بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه قاله- صلى اللّه عليه وسلم-. وتكون (أو) للتقسيم، ويكون شهيدا لبعض أهل المدينة وشفيعا لباقيهم، إما شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين، وإما شهيدا لمن مات فى حياته، وشفيعا لمن مات بعده، أو غير ذلك. وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين فى القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بهذا كله علو مرتبة وزيادة منزلة وحظوة. وإذا قلنا (أو) للشك، فإن كانت اللفظة الصحيحة (شهيدا) اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم، وإن كانت اللفظة الصحيحة (شفيعا) فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، وأو بما شاء اللّه من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات لكونهم على منابر، أو فى ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات. كيف لا يتحمل المشقات من يحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسماوات، وينال ما وعده به من جزيل المثوبات وجسيم الهبات، وإنجاز وعده لشفاعته وشهادته وبلوغ قصده فى المحيا والممات، وكم عسى تكون شدة المدينة ولأوائها، وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها، لو تأملت يا هذا، لوجدت فى البلاد ما هو فى الشدة وشظف العيش مثلها أو أشق منها، وأهلها مقيمون فيها، وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال فلا ينتقل، وقوى على الرحلة فلا يرتحل، ويؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على الانتقال. على أن المدينة مع شظف العيش بها فى غالب الأحيان، قد وسع اللّه فيها على بعض السكان، حتى من أصحابنا من غير أهلها ممن استوطنها وحسن فيها حاله، وتنعم بها باله دون سائر البلدان، فإن من اللّه على المرء بمثل ذلك هنالك، وإلا فالصبر للمؤمن أولى، فمن وفقه اللّه تعالى صبره فى إقامته بها ولو على أحر من الجمر، فيتجرع مرارة غصتها ليجتلى عروس منصتها، ويلقى نزرا من لأوائها ليوقى بذلك من مصائب الدنيا وبلائها. وقد روى البخارى من حديث أبى هريرة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) (١) أى ينقبض وينضم ويلتجئ، مع أنها أصل فى انتشاره، فكل مؤمن له من نفسه سائق إليها فى جميع الأزمان، لحبه فى ساكنها-صلى اللّه عليه وسلم-، فأكرم بسكانها ولو قيل فى بعضهم ما قيل، فقد حظوا بشرف المجاورة بهذا الحبيب الجليل. فقد ثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم، فلا يسلب عنهم اسم الجار، وقد عمم- صلى اللّه عليه وسلم- فى قوله: (ما زال جبريل يوصينى بالجار) (٢) ولم يخص جارا دون جار، وكل ما احتج به محتج من رمى بعض عوامهم السنية بالابتداع وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت ذلك فى شخص منهم فلا يترك إكرامه، ولا ينقص احترامه فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار، ولا يزول عنه شرف مساكنته فى الدار __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٧٦) فى الحج، باب: الإيمان يأرز إلى المدينة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠١٤) فى الأدب. باب: الوصاة بالجار، ومسلم (٢٦٢٤) فى البر والصلة، باب: الوصية بالجار والإحسان إليه. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. كيفما دار، بل يرجى أن يختم له بالحسنى ويمنح بهذا القرب الصورى قرب المعنى. فيا ساكن أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب وللّه در ابن جابر حيث قال: هناؤكم يا أهل طيبة قد حقا ... فبالقرب من خير الورى حزتم السبقا فلا يتحرك ساكن منكم إلى ... سواها وإن جار الزمان وإن شقا فكم ملك رام الوصول لمثل ما ... وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا فبشراكم نلتم عناية ربكم ... فها أنتم فى بحر نعمته غرقى ترون رسول اللّه فى كل ساعة ... ومن يره فهو السعيد به حقا متى جئتم لا يغلق الباب دونكم ... وباب ذوى الإحسان لا يقبل الغلقا فيسمع شكواكم ويكشف ضركم ... ولا يمنع الإحسان حرّا ولا رقا بطيبة مثواكم وأكرم مرسل ... يلاحظكم فالدهر يجرى لكم وفقا وكم من نعمة للّه فيها عليكم ... فشكرا ونعم اللّه بالشكر تستبقى أمنتم من الدجال فيها فحولها ... ملائكة يحمون من دونها الطرقا كذاك من الطاعون أنتم بمأمن ... فوجه الليالى لا يزال لكم طلقا فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم ... وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا حياة وموتا تحت رحماه أنتم ... وحشرا فستر الجاه فوقكم ملقى فيا راحلا عنها لدنيا تريدها ... أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى أتخرج عن حوز النبى وحرزه ... إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا لئن سرت تبغى من كريم إعانة ... فأكرم من خير البرية ما تلقى هو الرزق مقسوم فليس بزائد ... ولو سرت حتى كدت تخرق الأفقا فكم قاعد قد وسع اللّه رزقه ... ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا فعش فى حمى خير الأنام ومت به ... إذا كنت فى الدارين تطلب أن ترقا إذا قمت فيما بين قبر ومنبر ... بطيبة فاعرف أن منزلك الأرقى لقد أسعد الرحمن جار محمد ... ومن جار فى ترحاله فهو الأشقى وقد روى الترمذى وابن ماجه وابن حبان فى صحيحه من حديث ابن عمر: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإنى أشفع لمن يموت بها) (١) ورواه الطبرانى فى الكبير من حديث سبيعة الأسلمية. وفى البخارى من حديث أبى هريرة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (لا يدخل المدينة الدجال ولا الطاعون) (٢) . وفيه: عن أبى بكرة- رضى اللّه عنه- عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان) (٣) . قال فى فتح البارى: وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كونه شهادة، وكيف قرن بالدجال، ومدحت المدينة بعدم دخولهما. وأجيب: بأن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه، وينشأ عنه لكونه سببه، فإذا استحضر ما تقدم فى المقصد الثامن من أنه طعن الجن حسن مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله فيها لا يتمكن من طعن أحد منهم. وقد أجاب القرطبى فى المفهم عن ذلك ف قال: المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذى وقع فى غيرها، كطاعون عمواس والجارف. وهذا الذى قاله يقتضى أنه دخلها فى الجملة، وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة فى (المعارف) وتبعه جمع منهم الشيخ محى الدين النووى فى (الأذكار) : بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلا، ولا مكة أيضا، لكن نقل __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٩١٧) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل المدينة. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٧١٣٤) فى الفتن، باب: لا يدخل الدجال المدينة. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٧٩) فى الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة. من حديث أبى بكرة- رضى اللّه عنه-. جماعة أنه دخل مكة الطاعون فى العام الذى كان فى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد أنه وقع الطاعون بها أصلا. وأجاب بعضهم بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- عوضهم عن الطاعون بالحمى، لأن الطاعون يأتى مرة بعد مرة، والحمى تتكرر فى كل حين فيتعادلان فى الأجر، ويتم المراد من عدم دخول الطاعون المدينة. قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لى جواب آخر، بعد استحضار الذى أخرجه أحمد من رواية أبى عسيب- بمهملتين آخره موحدة، بوزن عظيم- رفعه: (أتانى جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام) (١) ، وهو أن الحكمة فى ذلك: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما دخل المدينة كان فى قلة من أصحابه عددا ومددا، وكانت المدينة وبيئة، كما فى حديث عائشة، ثم خير- صلى اللّه عليه وسلم- فى أمرين يحصل بكل منهما الأجر الجزيل، فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار، وأذن له فى القتال كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد اللّه بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل فى سبيل اللّه، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التى هى حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزا لها عن غيرها لتحقق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره فى هذه المدة المتطاولة، فكان منع دخول الطاعون من خصائصها ولوازم دعائه- صلى اللّه عليه وسلم- لها بالصحة. وقال بعضهم: هذا من المعجزات المحمدية، لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد، بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة، انتهى ملخصا واللّه أعلم. ومن خصائص المدينة أن غبارها شفاء من الجذام والبرص بل من كل __________ (١) أخرجه أحمد (٥/ ٨١) من حديث أبى عسيب مولى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. داء، كما رواه رزين العبدرى فى جامعه من حديث سعد، زاد فى حديث ابن عمر: وعجوتها شفاء من السم، ونقل البغوى عن ابن عباس فى قوله تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً (١) أنها المدينة. وذكر ابن النجار تعليقا عن عائشة- رضى اللّه عنها- أنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن. وروى الطبرانى فى الأوسط بإسناد لا بأس به عن أبى هريرة يرفعه: (المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومثوى الحلال والحرام) (٢) . وبالجملة، فكل المدينة وترابها وطرقها وفجاجها ودورها وما حولها قد شملته بركته- صلى اللّه عليه وسلم-، فإنهم كانوا يتبركون بدخوله منازلهم، ويدعونه إليها وإلى الصلاة فى بيوتهم، ولذلك امتنع مالك من ركوب دابة فى المدينة و قال: لا أطأ بحافر دابة فى عراص كان- صلى اللّه عليه وسلم- يمشى فيها بقدميه- صلى اللّه عليه وسلم-. وينبغى أن يأتى قباء للصلاة فيه والزيارة، فقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يزوره راكبا وماشيا، رواه مسلم وفى رواية له: (يأتى) بدل (يزور) فيصلى فيه ركعتين. وعنده أيضا: إن ابن عمر كان يأتيه كل سبت ويقول: رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يأتيه كل سبت. وعند الترمذى وابن ماجه والبيهقى من حديث أسيد بن ظهير الأنصارى، يرفعه: (صلاة فى مسجد قباء كعمرة) (٣) ، قال الترمذى: حسن غريب. وقال المنذرى: لا نعرف لأسيد حديثا صحيحا غير هذا. ورواه أحمد وابن ماجه من حديث سهل بن حنيف بلفظ: (من تطهر __________ (١) سورة النحل: ٤١. (٢) أخرجه الطبرانى فى الأوسط، كما فى (..... الجامع) (٥٩٢١) . (٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٢٤) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، وابن ماجه (١٤١١) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء . فى بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة) (١) ، وصححه الحاكم. وينبغى أيضا بعد زيارته- صلى اللّه عليه وسلم- أن يقصد المزارات التى بالمدينة الشريفة، والآثار المباركة، والمساجد التى صلى فيها- صلى اللّه عليه وسلم- التماسا لبركته، ويخرج إلى البقيع لزيارة من فيه، فإن أكثر الصحابة ممن توفى فى المدينة فى حياته- صلى اللّه عليه وسلم- وبعد وفاته مدفون فى البقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين. وروى عن مالك أنه قال: من مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف، وكذلك أمهات المؤمنين سوى خديجة فإنها بمكة، وميمونة فإنها بسرف. وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول:(السلام عليكم دار قوم مؤمنين) (٢) رواه مسلم. قال ابن الحاج فى (المدخل) وقد فرق علماؤنا بين الآفاقى والمقيم فى التنفل بالطواف والصلاة، فقالوا: الطواف فى حق الآفاقى أفضل له، والتنفل فى حق المقيم أفضل، قال: وما نحن بسبيله من باب أولى، فمن كان مقيما خرج إلى زيارة أهل البقيع ومن كان مسافرا فليغتنم مشاهدته- صلى اللّه عليه وسلم-. وحكى عن العارف ابن أبى جمرة، أنه لما دخل المسجد النبوى لم يجلس إلا الجلوس فى الصلاة، وأنه لم يزل واقفا بين يديه- صلوات اللّه وسلامه عليه-، وكان قد خطر له أن يذهب إلى البقيع ف قال: إلى أين أذهب، هذا باب اللّه المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين. انتهى. __________ (١) صحيح: أخرجه النسائى (٢/ ٣٧) فى المساجد، باب: فضل مسجد قباء بالصلاة فيه، وابن ماجه (١٤١٢) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، وأحمد (٣/ ٤٨٧) ، والحاكم (٣/ ١٣) (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٤٩) فى الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. وروى ابن النجار مرفوعا: (مقبرتان مضيئتان لأهل السماء كما تضئ الشمس والقمر لأهل الدنيا: بقيع الغرقد ومقبرة بعسقلان) ، وعن كعب الأحبار قال: نجدها فى التوراة- يعنى مقبرة المدينة- كقبة محفوفة بالنخيل موكل بها ملائكة كلما امتلأت أخذوها مكفؤوها فى الجنة. وأخرج أبو حاتم من حديث ابن عمر: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر ثم عمر، ثم آتى البقيع فيحشرون معى، ثم أنتظر أهل مكة حتى يحشروا بين الحرمين) (١) . |