Geri

   

 

 

İleri

 

٩-٩ القسم الثانى فى صومه ص غير شهر رمضان وفيه فصول

الفصل الأول فى سرده ص صوم أيام من الشهر وفطره أياما

عن أبى أمامة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يسرد الصوم فيقال: لا يفطر، ويفطر فيقال: لا يصوم (١) . رواه النسائى. وعن أنس

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه ثم يصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا. وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته. ولا نائما إلا رأيته. وفى رواية: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته، ولا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته (٢) ، رواه البخارى.

ولمسلم: كان يصوم حتى يقال: قد صام صام، ويفطر حتى يقال: أفطر أفطر (٣) . وعن ابن عباس: ما صام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شهرا كاملا غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا واللّه ما يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا واللّه لا يصوم (٤) . رواه البخارى ومسلم والنسائى وزاد: ما صام شهرا متتابعا غير رمضان منذ قدم المدينة.

__________

(١) حسن صحيح: أخرجه النسائى (٤/ ٢٠٢) فى الصيام، باب: صوم النبى من حديث أسامة بن زيد وليس من حديث أبى أمامة كما ذكر المصنف.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٩٧٣) فى الصوم، باب: ما يذكر من صوم النبى وإفطاره، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (١١٥٨) فى الصيام، باب: صيام النبى فى غير رمضان. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٤) تقدم.

ففى هذا: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يصم الدهر كله، ولا قام الليل كله، وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدى به فيشق على الأمة، وإن كان قد أعطى من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر، وقام ونام.

الفصل الثانى فى صومه ص عاشوراء

وهو بالمد على المشهور. واختلف فى تعيينه: فعن الحكم بن الأعرج

قال: انتهيت إلى ابن عباس- وهو متوسد رداءه فى زمزم- فقلت له: أخبرنى عن صوم عاشوراء، ف

قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: هكذا كان محمد- صلى اللّه عليه وسلم- يصومه؟

قال: نعم (١) . رواه مسلم.

قال النووى: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه بأن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم، ويتأوله على أنه مأخوذ من أظمأ الإبل، فإن العرب تسمى اليوم الخامس من أيام الورد ربعا، وكذا باقى الأيام على هذه النسبة، فيكون التاسع عاشرا. انتهى.

لكن قال ابن المنير: قوله: (إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما) يشعر بأنه أراد العاشر، لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح صائما تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة، وهى الليلة العاشرة. انتهى. وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وممن قال ذلك: سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، ومالك وأحمد وإسحاق، وخلائق. وهذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ، وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد، ثم إن حديث ابن عباس يرد عليه معنى قوله: إن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صام يوم عاشوراء فقالوا له يا رسول: يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التاسع) ،

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١١٣٣) فى الصيام، باب: أى يوم يصام فى عاشوراء، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (١) . وهذا تصريح بأن الذى كان يصومه ليس هو التاسع، فتعين كونه العاشر. قاله النووى.

وقال القرطبى: عاشوراء معدول عن عاشر للمبالغة والتعظيم، وهو فى الأصل صفة الليلة العاشرة، لأنه مأخوذ من العشر الذى هو اسم للعقد، واليوم يضاف إليها، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة. وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر. وهذا قول الخليل وغيره. وقال ابن المنير: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر اللّه المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية. وقال ابن القيم. من تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال وسعة علم ابن عباس، فإنه لم يجعل يوم عاشوراء اليوم التاسع بل قال للسائل صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذى يعده الناس يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صوم التاسع معه، وأخبر أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يصومه كذلك، فإما أن يكون فعل ذلك وهو الأولى، وإما أن يكون حمل فعله على الأمر به وعزمه عليه فى المستقبل، وهو الذى روى (أمرنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر) (٢) وكل هذه الآثار يصدق بعضها بعضا. انتهى فليتأمل.

وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: كان يوم عاشوراء تصومه قريش فى الجاهلية، وكان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصومه فى الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١١٣٤) فى الصيام، باب: أى يوم يصام فى عاشوراء، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٧٥٥) فى الصوم، باب: ما جاء فى عاشوراء أى يوم هو. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- .

ومن شاء تركه (١) . رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى.

واستفيد من هذه الرواية تعيين الوقت الذى وقع الأمر فيه بصيام عاشوراء، وهو أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه- صلى اللّه عليه وسلم- كان فى ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك فى أول السنة الثانية، وفى السنة الثانية فرض شهر رمضان، فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم يوم عاشوراء إلا فى سنة واحدة، ثم فوض الأمر فى صومه إلى رأى المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعى أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة.

وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة، وقد روى عن عكرمة أنه سئل عن ذلك ف

قال: أذنبت قريش ذنبا فى الجاهلية، فعظم فى صدورهم، فقيل لهم صوموا عاشوراء يكفر ذلك. قاله فى فتح البارى. وعن ابن عمر: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إن عاشوراء يوم من أيام اللّه فمن شاء صامه) (٢) . رواه البخارى ومسلم وأبو داود، وفى رواية:

وكان عبد اللّه لا يصومه إلا أن يوافق صومه. وعن سلمة بن الأكوع: بعث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- رجلا من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن فى الناس:

من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل (٣) . رواه مسلم.

قال النووى: اختلفوا فى حكم صوم عاشوراء فى أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان، فقال أبو حنيفة: كان واجبا.

واختلف أصحاب الشافعى فيه على وجهين:

أشهرهما: عندهم أنه لم يزل سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط فى هذه الأمة، ولكنه كان متأكد

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٠٢) فى الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، ومسلم (١١٢٥) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٥٠١) فى تفسير القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ... الآية. ومسلم (١١٢٦) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (١١٣٥) فى الصيام، باب: من أكل فى عاشوراء فليكف بقية يومه. من حديث سلمة بن الأكوع- رضى اللّه عنه-.

الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبّا دون ذلك الاستحباب،

والثانى: كان واجبا كقول أبى حنيفة. وتظهر فائدة الخلاف فى اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها، ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار، ولم يأمروا بقضائه بعد صومه. وأصحاب الشافعى يقولون: كان مستحبّا فصح بنية من النهار، ويتمسك أبو حنيفة بقوله: (أمر بصيامه) والأمر للوجوب، وبقوله: (فلما فرض شهر رمضان

قال: من شاء صامه ومن شاء تركه) . ويحتج الشافعية بقوله: (هذا يوم عاشوراء ولم يكتب اللّه عليكم صيامه) ، والشافعية يقولون أيضا: معنى قوله فى حديث سلمة: (فأمره أن يؤذن فى الناس من كان لم يصم فليصم الخ) . أن من كان نوى الصوم فليتم صومه، ومن كان لم ينو الصوم ولم يأكل أو أكل فليمسك بقية يومه لحرمة اليوم. واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه: أن صوم الفرض يجب بنية فى النهار ولا يشترط تبييتها،

قال: لأنهم نووا فى النهار وأجزأهم. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث: بأن المراد إمساك بقية النهار لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا: أنهم أكلوا ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية فى النهار فى الفرض والنفل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل وغيره، انتهى.

وقال الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر: يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكيد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت فى مسلم: (لما فرض رمضان ترك عاشوراء) (١) مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه، وأما قول بعضهم: (المتروك تأكد استحبابه، والباقى مطلق استمرار الاهتمام به حتى فى عام وفاته- صلى اللّه عليه وسلم- حيث

قال:(لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر) وترغيبه فى صومه وأنه يكفر السنة، فأى تأكيد أبلغ من هذا. انتهى.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٥٠٣) فى التفسير، باب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، ومسلم (١١٢٣) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء.

وعن ابن عباس

قال: قدم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: (ما هذا؟) قالوا: يوم صالح نجى اللّه فيه موسى وبنى إسرائيل من عدوهم، فصامه فقال: (أنا أحق بموسى منكم) ، فصامه وأمر بصيامه.

وفى رواية: فقال لهم: (ما هذا اليوم الذين تصومونه) ؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى اللّه فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (فنحن أحق وأولى بموسى منكم) ، فصامه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأمر بصيامه وفى أخرى: فنحن نصومه تعظيما له (١) ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود.

وقد أجاب صاحب (زاد المعاد) وغيره عما استشكله بعضهم فى هذا الحديث- و

قال: إن رسول اللّه إنما قدم المدينة فى شهر ربيع الأول فكيف يقول ابن عباس إنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء؟ - بأنه ليس فى الحديث أن يوم قدومه وجدهم يصومونه، فإنه إنما قدم يوم الاثنين فى ربيع الأول، ثانى عشرة، ولكن أول علمه بذلك ووقوع القصة فى اليوم الذى كان بعد قدومه المدينة لم يكن وهو بمكة.

وقال فى الفتح: غايته أن فى الكلام حذفا تقديره: قدم- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صياما. ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذى قدم فيه- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة. وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى، لإضلالهم اليوم المذكور وهداية المسلمين له، ولكن سياق الأحاديث يدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول.

انتهى. وقد استشكل أيضا رجوعه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى خبر اليهود، وهو غير مقبول.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٠٤) فى الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، ومسلم (١١٣٠) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، وفى الباب عن عائشة.

وأجاب المازرى: بأنه يحتمل أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أوحى إليه بصدقهم فيما قالوه، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم بذلك. قال القاضى عياض ردّا على المازرى: قد روى مسلم أن قريشا كانت تصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هى صفة حال، وجواب سؤال، فقوله: (صامه) ليس فيه أن ابتداء صومه حينئذ، ولو كان هذا لحملناه على أنه أخبره به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره.

قال: وقد قال بعضهم يحتمل أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يصومه بمكة ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب منه فصامه،

قال: وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث.

قال النووى: المختار قول المازرى، ومختصر ذلك أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يصومه كما تصومه قريش فى مكة، ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فصامه أيضا بوحى أو تواتر أو اجتهاد، لا بمجرد إخبار آحادهم. انتهى.

وقال القرطبى: لعل قريشا كانوا يستندون فى صومه إليه شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم، كما فى الحج، وأذن اللّه له فى صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه احتمل أن يكون استئلافا لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك. وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك فى الوقت الذى يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، ولا سيما إذا كان فيه ما يخالف أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما فى حديث ابن عباس (إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول اللّه، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التاسع) ، فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-) (١) .

__________

(١) تقدم.

وفى رواية: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) . رواه مسلم. وهذا دليل الشافعى وأصحابه وأحمد وإسحاق القائلين باستحباب صوم التاسع والعاشر جميعا، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- صام العاشر ونوى صوم التاسع.

قال النووى:

قال بعض العلماء: ولعل السبب فى صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود فى إفراد العاشر، وفى الحديث إشارة إلى هذا، وقيل للاحتياط فى تحصيل عاشوراء، والأول أولى. انتهى. وفى روايةالبزار من حديث ابن عباس، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال- يوم عاشوراء-: (صوموه وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوما وبعده يوما) (١) . ولأحمد نحوه.

فمراتب صومه ثلاثة: أدناها أن يصام وحده، وأكملها أن يصام يوما قبله ويوما بعده، ويلى ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث.

وقال بعضهم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب فى هذه العبادة، وذلك يحصل بأحد أمرين، إما بنقل العاشر إلى التاسع، وإما بصيامهما معا، واللّه أعلم. وفى البخارى من حديث أبى موسى

قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (فصوموه أنتم) (٢) . وهذا ظاهره أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود، حتى يصام ما يفطرون فيه، لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صيامه موافقتهم على السبب وهو شكر اللّه تعالى على نجاة موسى. لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم بأنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه، فلعله كان من جملة تعظيمهم فى شرعهم أن يصوموه، وقد ورد ذلك صريحا فى مسلم (كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم) (٣) وهو بالشين المعجمة أى هيئتهم الحسنة. ومحصل ما ورد فى صيامه- صلى اللّه عليه وسلم- عاشوراء أربعة أحوال:

__________

(١) أخرجه أحمد (١/ ٢٤١) ، وابن خزيمة فى (صحيحه) (٢٠٩٥) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٠٥) فى الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، ومسلم (١١٣١) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، من حديث أبى موسى الأشعرى.

(٣) تقدم فى الذى قبله.

أولها: أنه كان يصومه بمكة، ولا يأمر الناس بصيامه كما تقدم فى حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما: (كان عاشوراء يوما تصومه قريش فى الجاهلية وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه ... ) الحديث.

الثانية: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما قدم المدينة، ورأى صيام أهل الكتاب له، وتعظيمهم له، وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به، صامه وأمر الناس بصيامه، وأكد الأمر بصيامه والحث عليه، حتى كانوا يصوّمونه أطفالهم، كما تقدم فى حديث ابن عباس عند الشيخين وغيرهما.

الثالثة: أنه لما فرض صوم شهر رمضان ترك- صلى اللّه عليه وسلم- صيامه و

قال: (إن عاشوراء يوم من أيام اللّه، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) (١) ويشهد له حديث عائشة السابق.

الحالة الرابعة: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- عزم فى آخر عمره أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر، مخالفة لأهل الكتاب فى صيامه، كما قدمناه.

وقد روى مسلم من حديث أبى قتادة مرفوعا: (أن صوم عاشوراء يكفر سنة وأن صيام يوم عرفة يكفر سنتين) (٢) . وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء. وقد قيل: الحكمة فى ذلك أن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى ويوم عرفة منسوب إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فلذلك كان أفضل. واللّه أعلم.

وأما ما ورى: من وسع على عياله فى يوم عاشوراء وسع اللّه عليه السنة كلها، فرواه الطبرانى والبيهقى فى (الشعب) وفى (فضائل الأوقات) ، وأبو الشيخ عن ابن مسعود، والأولان فقط عن أبى سعيد، والثانى فقط فى الشعب عن جابر وأبى هريرة، و

قال: إن أسانيده كلها .....ة، ولكن إذا ضم

__________

(١) تقدم.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١١٦٢) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأبو داود (٢٤٢٥) فى الصوم، باب: فى صوم الدهر تطوعا. من حديث أبى قتادة- رضى اللّه عنه-.

بعضها إلى بعض أفاد قوة، بل قال العراقى فى أماليه: لحديث أبى هريرة طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ. وأورده ابن الجوزى فى ال.......ات من طريق سليمان بن أبى عبد اللّه، و

قال: سليمان مجهول. وسليمان ذكره ابن حبان فى الثقات، فالحديث حسن على رأيه.

قال: وله طرق عن جابر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البر فى (الاستذكار) من رواية أبى الزبير عنه، وهى أصح طرقه. ورواه هو والدار قطنى فى (الأفراد) بسند جيد عن عمر موقوفا عليه، والبيهقى فى (الشعب) من جهة محمد بن المنتشر،

قال: كان يقال.. وذكره.

الفصل الثالث فى صيامه ص شعبان

عن عائشة- رضى اللّه عنها-: ما رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته فى شهر أكثر منه صياما فى شعبان (١) . رواه البخارى ومسلم، وفى أخرى لهما: لم يكن يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله (٢) . وفى رواية الترمذى: كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله (٣) . وفى رواية أبى داود: كان أحب الشهور إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان (٤) . وللنسائى: كان يصوم شعبان، أو عامة شعبان (٥) . وفى أخرى له: كان يصوم شعبان إلا قليلا (٦) .

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١١٥٦) فى الصيام، باب: صيام النبى من غير رمضان، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) تقدم فى الذى قبله.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٧٣٦) فى الصوم، باب: ما جاء فى وصال شعبان، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٤) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٤٣٠) فى الصوم، باب: فى صوم شعبان، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٥) حسن صحيح: أخرجه النسائى (١/ ٦٥٩) فى الصيام، باب: الاختلاف على محمد بن إبراهيم من حديث عائشة- رضى اللّه عنها- .

(٦) صحيح: أخرجه مسلم (١١٥٦) وتقدم.

وفى أخرى له أيضا: كان يصوم شعبان كله (١) . قال الحافظ ابن حجر: أى يصوم معظمه.

ونقل الترمذى عن ابن المبارك أنه

قال: جائز فى كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله. وي

قال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره، قال الترمذى: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله: أن الرواية الأولى مفسرة للثانية ومخصصة لها، وأن المراد ب(الكل) الأكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال.

واستبعده الطيبى و

قال: يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان. وقال ابن المنير:

إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة، والمراد الأكثر، وإما أن يجمع بأن قولها الثانى متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. انتهى. ولا يخفى تكلفه، والأول لمحمول على المبالغة هو الصواب.

واختلف فى الحكمة فى إكثاره- صلى اللّه عليه وسلم- من صوم شعبان،

فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فتجتمع فيقضيها فى شعبان. أشار إلى ذلك ابن بطال، وفيه حديث أخرجه الطبرانى فى الأوسط من طريق ابن أبى ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن عائشة: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان. وابن أبى ليلى .....، وقيل كان يضع الحديث.

وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أخرجه الترمذى من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس

قال: سئل النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: أى الصوم أفضل بعد رمضان

قال: (شعبان لتعظيم رمضان) قال الترمذى: حديث غريب، وصدقة عندهم ليس بذلك القوى.

__________

(١) تقدم فى الذى قبله.

لكن يعارضه ما رواه مسلم من حديث أبى هريرة مرفوعا: (أفضل الصيام بعد رمضان صوم المحرم) (١) . والأولى فى ذلك ما جاء فى حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائى وأبو داود، وصححهابن خزيمة عن أسامة بن زيد

قال: قلت يا رسول اللّه، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟

قال: (ذاك شهر يغافل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترتفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملى وأنا صائم) (٢) .

فبين- صلى اللّه عليه وسلم- وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله: (إنه شهر يغافل الناس عنه بين رجب ورمضان) يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما، فصار مغفولا عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك.

وفى إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها أن يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، ولا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ومنها: أنه أشق على النفوس، لأن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال بنى الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدى بهم.

وقد روى فى صيامه- صلى اللّه عليه وسلم- شعبان معنى آخر، وهو أنه تنسخ فيه الآجال، فروى- بإسناد فيه .....- عن عائشة

قالت: كان أكثر صيام النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى شعبان فقلت: يا رسول اللّه، أرى أكثر صيامك فى شعبان؟

قال: (إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض، فأنا أحب أن لا ينسخ اسمى إلا وأنا صائم) وقد روى مرسلا، وقيل إنه أصح.

وقد قيل فى صوم شعبان معنى آخر: وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان، فلا يدخل فى صيامه على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١١٦١) فى الصيام، باب: فضل صوم المحرم، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، بلفظ أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللّه المحرم الحديث.

(٢) أخرجه أحمد (٥/ ٢٠١) من حديث أسامة بن زيد- رضى اللّه عنهما-.

على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته، فيدخل فى صيام رمضان بقوة ونشاط. واعلم أنه لا تعارض بين هذا وبين النهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء فى النهى عن صوم نصف شعبان الثانى، فإن الجمع بينهما ظاهر، بأن يحمل النهى على من لم يدخل تلك الأيام فى صيام اعتاده.

وأجاب النووى عن كونه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يكثر الصوم فى المحرم، مع قوله:

(إن أفضل الصيام ما يقع فيه) ، بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا فى آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم فى المحرم، أو اتفق له فيه من الأعذار كالسفر ما منعه من كثرة الصوم فيه.

وأما شهر رجب بخصوصه- وقد قال بعض الشافعية: إنه أفضل من سائر الشهور، وضعفه النووى وغيره- فلم يعلم أنه صح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صامه، بل روى عنه من حديث ابن عباس، مما صح وقفه، أنه نهى عن صيامه، ذكره ابن ماجه لكن فى سنن أبى داود: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم، ورجب أحدها. وفى حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال له: (صم من الحرم واترك) ، قالها ثلاثا (١) .

وفى رواية مسلم عن عثمان بن حكيم الأنصارى

قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب- ونحن يومئذ فى رجب- فقال: سمعت ابن عباس يقول:

كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم (٢) . والظاهر: أن مراد سعيد بهذا الاستدلال على أنه لا نهى عنه ولا ندب فيه بعينه، بل له حكم باقى الشهور.

__________

(١) أخرجه أبو داود (٢٤٢٨) فى الصوم، باب: فى صوم أشهر الحرم. من حديث عجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١١٤١) فى الجمعة، باب: قيام النبى بالليل من نومه وما نسخ من قيام الليل، ومسلم (١١٥٨) فى الصيام، باب: صيام النبى فى غير رمضان. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

وفى (اللطائف) روى عن الكتانى أخبرنا تمام الرازى حدثنا القاضى يوسف حدثنا محمد بن إسحاق السراج حدثنا يوسف بن موسى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا حبيب المعلم عن عطاء أن عروة قال لعبد اللّه بن عمر: هل كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصوم فى رجب؟

قال: نعم ويشرفه، قالها ثلاثا (١) ، أخرجه أبو داود وغيره. وعن أبى قلابة

قال: إن فى الجنة قصرا لصوام رجب (٢) . قال البيهقى: أبو قلابة من كبار التابعين لا يقوله إلا عن بلاغ واللّه أعلم.

الفصل الرابع فى صومه ص عشر ذى الحجة

والمراد بها الأيام التسعة من أول ذى الحجة. عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قالت: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصوم تسع ذى الحجة (٣) . رواه أبو داود. وعن عائشة

قالت: ما رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- صائما فى العشر قط (٤) . رواه مسلم والترمذى.

وهذا يوهم كراهة صوم العشر، وليس فيها كراهة، بل هى مستحبة استحبابا شديدا لا سيما يوم التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد ثبت فى صحيح البخارى أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (ما من أيام العمل فيها أفضل منه فى هذه) (٥) يعنى العشر الأول من ذى الحجة، واستدل به على فضل صيام عشر ذى الحجة لاندراج الصوم فى العمل.

__________

(١) أخرجه أبو الحسن على بن محمد بن شجاع الربعى فى فضل رجب ورجاله كلهم ثقات، كما فى (كنز العمال) (٢٤٦٠١) وهو ليس فى (سنن أبى داود) .

(٢) أخرجه ابن عساكر، كما فى (كنز العمال) (٢٤٥٨١) .

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٤٣٧) فى الصوم، باب: فى صوم العشر. من حديث هند بنت أبى أمية بن المغيرة. .

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (١١٧٦) فى الاعتكاف، باب: صوم عشر ذى الحجة، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٩٦٩) فى الجمعة، باب: فضل العمل فى أيام التشريق.

واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد؟ و

أجيب: بأنه محمول على الغالب، واللّه أعلم. ويتأول قولها- يعنى عائشة-: (لم يصم العشر) أنه لم يصمه لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه فى نفس الأمر، ويدل عليه حديث هنيدة بن خالد الذى ذكرته.

قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع فى رواية القاسم بن أبى أيوب: (ما من عمل أزكى عند اللّه ولا أعظم أجرا من خير يعمله فى عشر الأضحى) (١) . وفى حديث جابر فى صحيحى أبى عوانة وابن حبان (ما من أيام أفضل عند اللّه من أيام عشر ذى الحجة) (٢) . فقد ثبتت الفضيلة لأيام عشر ذى الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك: فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوما منها تعين يوم عرفة لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة، جمعا بين الحديث السابق وبين حديث أبى هريرة مرفوعا: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة) (٣) . رواه مسلم. أشار إلى ذلك النووى فى شرحه، وقال الداودى: لم يرد- صلى اللّه عليه وسلم- أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة لأنه قد يكون فيها يوم الجمعة، يعنى: فيلزم تفضيل الشئ على نفسه، وتعقب: بأن المراد: كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من يوم الجمعة فى غيره لاجتماع الفضيلتين فيه. والذى يظهر أن السبب فى امتياز عشر ذى الحجة إمكان اجتماع أمهات العبادات فيه وهى الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك فى غيرها. وعلى هذا: هل يخص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال. انتهى.

__________

(١) صحيح: أخرجه الدارمى (١٧٧٧٤) فى الصوم، باب: فى فضل العمل فى العشر، وأصله فى الصحيح. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) صحيح: أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٣٨٥٣) .

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٨٥٤) فى الجمعة، باب: فضل يوم الجمعة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

وقال أبو أمامة بن النقاش:

فإن قلت أيما أفضل، عشر ذى الحجة أو العشر الأواخر من رمضان؟

فالجواب: أن أيام عشر ذى الحجة أفضل لاشتمالها على اليوم الذى ما رؤى الشيطان فى يوم غير يوم بدر أدحر ولا أغيظ ولا أحقر منه فيه وهو يوم عرفة، ولكون صيامه يكفر سنتين، ولاشتمالها على أعظم الأيام عند اللّه حرمة وهو يوم النحر الذى سماه اللّه تعالى يوم الحج الأكبر، وليالى عشر رمضان الأخير أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التى هى خير من ألف شهر. ومن تأمل هذا الجواب وجده كافيا شافيا، أشار إليه الفاضل المفضل فى قوله: (ما من أيام العمل فيهن أحب إلى اللّه من عشر ذى الحجة) الحديث، فتأمل قوله (ما من أيام) دون أن يقول: ما من عشر ونحوه. ومن أجاب بغير هذا التفضيل لم يدل بحجة صحيحة صريحة قط.

الفصل الخامس فى صومه ص أيام الأسبوع

عن عائشة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس (١) . رواه الترمذى والنسائى، وعن أبى قتادة

قال: سئل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن صوم الاثنين ف

قال: (فيه ولدت وفيه أنزل على) (٢) . رواه مسلم.

وعن أبى هريرة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (تعرض الأعمال على اللّه تعالى يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم) (٣) . رواه الترمذى.

وعن أسامة بن زيد: قلت: يا رسول اللّه، إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر،

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٧٤٥) فى الصوم، باب: ما جاء فى صيام يوم الاثنين والخميس من حديث عائشة- رضى اللّه عنها- .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١١٦٢) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من حديث أبى قتادة- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٥٦٥) فى البر والصلة، باب: النهى عن الشحناء والتهاجر. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

وتفطر حتى لا تكاد تصوم، إلا يومين إن دخلا فى صيامك وإلا صمتهما،

قال: (أى يومين؟) قلت: يوم الاثنين والخميس،

قال: (ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم) (١) .

رواه النسائى.

وروى على بن أبى طلحة عن ابن عباس فى

قوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (٢)

قال: يكتب كل ما يتكلم به من خير وشر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر ما كان فيه مجن خير أو شر، وألقى سائره، وهذا عرض خاص فى هذين اليومين غير العرض العام كل يوم فإن ذلك عرض خاص دائم بكرة وعشيّا. ويدل على ذلك ما فى صحيح مسلم عن أبى موسى الأشعرى

قال: قام فينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بخمس كلمات ف

قال: (إن اللّه تعالى لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل) (٣) الحديث.

وعن أم سلمة كان- صلى اللّه عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة (٤) . وفى رواية أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذى يليه (٥) . رواه النسائى. وعن عائشة:

__________

(١) صحيح: أخرجه النسائى (٢/ ٥٦) فى الصيام، باب: صوم النبى بأبى هو وأمى. من حديث أسامة بن زيد- رضى اللّه عنهما-، .

(٢) سورة ق: ١٨.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (١٧٩) فى الإيمان، باب: فى قوله إن اللّه لا ينام. من حديث أبى موسى- رضى اللّه عنه-.

(٤) أخرجه النسائى (٢/ ٤٩) فى الصيام، باب: صوم النبى بأبى هو وأمى، من حديث أم سلمة- رضى اللّه عنها-

(٥) أخرجه الترمذى (٧٤٦) فى الصوم، باب: ما جاء فى صيام يوم الاثنين والخميس من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

كان يصوم من شهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس (١) . رواه الترمذى: وعن كريب، مولى ابن عباس،

قال: أرسلنى ابن عباس وناس من أصحاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى أم سلمة أسألها: أى الأيام كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أكثرها صياما؟

قالت: السبت والأحد، ويقول: إنهما عيد المشركين، وأنا أحب أن أخالفهما (٢) . رواه أحمد والنسائى، وفيه محمد ابن عمر، ولا يعرف حاله، ويرويه عنه ابنه عبد اللّه بن محمد بن عمر ولا يعرف حاله أيضا.

وعن عبد اللّه بن بسر عن أخته الصماء أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه) (٣) . رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه والدارمى. قال بعضهم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة، فإن النهى عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال: باب النهى أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد. قالوا:

ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده.

قال النووى: وأما قول مالك فى الموطأ (لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، فقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه) فهذا الذى قاله هو الذى رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهى عن صوم يوم الجمعة فتعين القول به، ومالك معذور فإنه لم يبلغه. قال الداودى من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه.

__________

(١) هو فى الذى قبله.

(٢) أخرجه النسائى فى (الكبرى) (٢٧٧٥ و ٢٧٧٦) من حديث أم سلمة- رضى اللّه عنها-.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٧٤٤) فى الصوم، باب: ما جاء فى صوم يوم السبت، من حديث الصماء بنت بسر- رضى اللّه عنها- .

قالوا: واستحباب الفطر يوم الجمعة ليكون أعون له على وظائف العبادات المشروعة فى الجمعة، وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتذاذ بها من غير ملل ولا سامة كالحاج بعرفة.

فإن قلت: لو كان كذلك لم يزل النهى والكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى،

فالجواب: أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذى قبله أو بعده ما يجبره ما قد يحصل من فتور أو تقصير فى وظائف يوم الجمعة بسبب صومه، واللّه أعلم.

الفصل السادس فى صومه ص الأيام البيض

وهى التى يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره، وهى: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، وليس فى الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام، لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض فصح قول من

قال: الأيام البيض، على الوصف، واليوم الكامل هو النهار بليلته. وفيه رد لقول الجواليقى: (من قال الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ) واللّه أعلم.

عن ابن عباس

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يفطر أيام البيض فى حضر ولا سفر (١) . رواه النسائى. وعن حفصة: أربع لم يكن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وأيام البيض من كل شهر، وركعتا الفجر (٢) ، رواه أحمد.

وعن معاذة العدوية: أنها سألت عائشة: أكان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟

قالت: نعم، فقلت لها: من أى أيام الشهر كان يصوم؟

قالت: ما كان يبالى من أى أيام الشهر يصوم (٣) . رواه مسلم. قال

__________

(١) الإسناد: أخرجه النسائى (٤/ ١٩٨) فى الصيام، باب: صوم النبى بأبى هو وأمى.

(٢) أخرجه أحمد (٦/ ٢٨٧) .

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (١١٦٠) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

بعضهم: لعله- صلى اللّه عليه وسلم- لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعينها.

قال: وقد جعل اللّه تعالى صيام هذه الثلاثة أيام من الشهر بمنزلة صيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقد روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود

قال: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر (١) . وقد تحصل أن صيامه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الشهر على أوجه:

الأول: أنه كان يصوم أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذى يليه، رواه النسائى.

الثانى: كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس. رواه الترمذى.

الثالث: أيام البيض، ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر.

الرابع: أنه كان يصوم ثلاثة غير معينة كما روته معاذة عن عائشة عند مسلم.

الخامس: أنه كان يصوم ثلاثة من أول الشهر، واختار جماعة منهم:

الحسن وهو ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن مسعود.

قال القاضى عياض: واختار النخعى صوم ثلاثة أيام من آخر الشهر لتكون كفارة لما مضى، واختار آخرون: أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين، وقيل إنه صيام مالك بن أنس. وقال ابن شعبان من المالكية: أول يوم من الشهر والحادى عشر، والحادى والعشرون، ونقل ذلك عن أبى الدرداء، وهو موافق لما رواه النسائى من حديث عبد اللّه بن عمر (وصم من كل عشرة أيام يوما) (٢)وحكى الإسنوى عن الماوردى أنه يستحب أيضا صوم الأيام السود وهى السابع والعشرون واليومان بعده.

__________

(١) حسن: أخرجه النسائى (٤/ ٢٠٤) فى الصيام، باب: صيام النبى، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١١٥٩) فى الصيام، باب: النهى عن صوم الدهر لمن تضرر به، والنسائى (٤/ ٢١٥) فى الصيام، باب: صيام عشرة أيام من الشهر. من حديث عبد اللّه ابن عمرو بن العاص- رضى اللّه عنهما-.

وتترجح البيض بكونها وسط الشهر، ووسط الشئ أعدله، ولأن الكسوف غالبا يقع فيها وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع، فإذا اتفق الكسوف صادف الذى يعتاد صيام البيض صائما، فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها. ورجح بعضهم صيام الثلاثة فى أول الشهر، لأن المرء لا يدرى ما يعرض له من الموانع، واللّه أعلم.