Geri

   

 

 

İleri

 

٩-١٠ النوع الخامس فى ذكر اعتكافه ص واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر

اعلم أن الاعتكاف فى اللغة: الحبس والمكث واللزوم. وفى الشرع:

المكث فى المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة. ومقصوده وروحه عكوف القلب على اللّه، وجمعيته عليه، والفكر فى تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه باللّه بدلا عن أنسه بالخلق، ليكون ذلك أنسه يوم الوحشة فى القبر حين لا أنيس له. وليس بواجب إجماعا، إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عن قوم. واختلف فى اشتراط الصوم له:

ومذهب الشافعى: أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر.

وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: يشترط الصوم، فلا يصح اعتكاف المفطر.

واحتج الشافعى باعتكافه- صلى اللّه عليه وسلم- فى العشر الأول من شوال (١) . رواه

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١١٧٣) فى الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف معتكفه، من حديث عائشة. ولم يروه البخارى بهذا اللفظ.

البخارى ومسلم، وبحديث عمر: أنه

قال: يا رسول اللّه، إنى نذرت أن أعتكف ليلة فى الجاهلية، ف

قال: (أوف بنذرك) (١) . رواه البخارى ومسلم، والليل ليس محلا للصوم، فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف. واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكى فأجازه فى كل مكان. وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف فى مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه. وفيه قول قديم للشافعى. وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التى تقام فيها الصلوات. وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففى كل مسجد.

وقال الجمهور: بعمومه فى كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحبه له الشافعى فى الجامع. وشرطه مالك، لأن الاعتكاف عنده ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك. وخصه طائفة من السلف، كالزهرى بالجامع مطلقا، وأومأ إليه الشافعى فى القديم. وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجدى مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة. واتفقوا على أنه لا حد لأكثره، واختلفوا فى أقله، فمن شرط فيه الصيام

قال: أقله يوم، ومنهم من

قال: يصح مع شرط الصيام فى دون اليوم. حكاه ابن قدامة. وعن مالك: يشترط عشرة أيام، وعنه: يوم أو يومان. ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما ينطلق عليه اسم لبث، ولا يشترط القعود.

واتفقوا على فساده بالجماع.

وقد كان سيدنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان (٢) . رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة. وعن أبى هريرة

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٤٣) فى الاعتكاف، باب: إذا نذر فى الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم، ومسلم (١٦٥٦) فى الأيمان، باب: نذر الكافر وما يفعل إذا أسلم. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٢٥) فى الاعتكاف، باب: الاعتكاف فى العشر الأواخر، ومسلم (١١٧١) فى الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

- رضى اللّه عنه-: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين فى العام الذى قبض فيه (١) . رواه البخارى. وعن أبى سعيد الخدرى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط فى قبة تركية، ثم أطلع رأسه ف

قال: إنى اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة- يعنى ليلة القدر- ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لى إنها فى العشر الأواخر فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتنى أسجد فى ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها فى العشر الأواخر والتمسوها فى كل وتر منه،

قال: فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، فبصرت عيناى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين (٢) . رواه الشيخان.

وفى حديث عبادة بن الصامت: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها فى التاسعة والسابعة والخامسة (٣) ، رواهالبخارى. ولمسلم من حديث عبد اللّه بن أنيس: أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأرانى فى صبيحتها أسجد فى ماء وطين،

قال: فمطرت ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا وأثر الماء والطين فى جبهته وأنفه (٤) . وفى سنن أبى داود عن ابن مسعود مرفوعا:

(اطلبوها ليلة سبع عشرة) (٥) .

وأخرج الطبرانى مرفوعا من حديث أبى

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٩٩٨) فى فضائل القرآن، باب: كان جبريل يعرض القرآن على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٢٧) فى الاعتكاف، باب: الاعتكاف فى العشر الأواخر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٤٩) فى الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. من حديث عبادة بن الصامت- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠١٦) فى صلاة التراويح، باب: التماس ليلة القدر فى السبع الأواخر. من حديث أبى سعيد- رضى اللّه عنه-.

(٥) أخرجه أبو داود (١٣٨٤) فى الصلاة، باب: من روى أنها ليلة سبع عشرة .

هريرة: (التمسوا ليلة القدر فى ليلة سبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين) .

وقد اختلف العلماء فى ليلة القدر اختلافا كثيرا، وأفردها بعضهم بالتأليف، وقد جمع الحافظ أبو الفضل بن حجر من كلام العلماء فى ذلك أكثر من أربعين قولا، كساعة الجمعة. ومذهبالشافعى: انحصارها فى العشر الأخير، كما نص عليه الشافعى، فيما حكاه عنه الإسنوى.

وعن المحاملى فى (التجريد) : إنها تلتمس فى جميع الشهر، وتبعه عليه الشيخ أبو إسحاق فى (التنبيه) ف

قال: وتطلب ليلة القدر فى جميع شهر رمضان. ثم الغزالى فى كتبه. وتردد صاحب (التقريب) فى جواز كونها فى النصف الأخير، كذا نقله عنه الإمام وضعفه. وحكاه ابن الملقن فى شرح العمدة. وفى المفهم للقرطبى حكاية قول إنها ليلة النصف من شعبان.

ودليل الأول: حديث أبى سعيد الذى قدمناه،

قال النووى: وميل الشافعى إلى أنها ليلة الحادى والعشرين أو الثالث والعشرين، أما الحادى والعشرون فلقوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى حديث أبى سعيد: (فقد رأيت هذه الليلة، وقد رأيتنى أسجد فى ماء وطين من صبيحتها) (١) ، فبصرت عيناى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين، وأما الثالث والعشرون فلحديث عبد اللّه بن أنيس المتقدم أيضا. وجزم جماعة من الشافعية: بأنها ليلة الحادى والعشرين، ولكن قال السبكى: إنه ليس مجزوما به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده بليلة القدر أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها فى العشر الأخير. وعن ابن خزيمة- من أصحابنا- أنها تنتقل فى كل سنة إلى ليلة من ليالى العشر الأخير.

__________

(١) تقدم.

وحاصله: قولان، ووجه، واختار النووى فى الفتاوى وشرح المهذب رأى ابن خزيمة. وجزم ابن حبيب من المالكية، ونقله الجمهور، وحكاه صاحب (العدة) من الشافعية ورجحه: أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة، ولم تكن فى الأمم قبلهم.

وهو معترض: بحديث أبى ذر عند النسائى، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قلت: بل هى باقية. وعمدتهم قول مالك فى (الموطأ) بلغنى أن رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية فأعطاه اللّه تعالى ليلة القدر. وهذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح من حديث أبى ذر كما قاله الحافظان ابن كثير فى تفسيره وابن حجر فى فتح البارى.

قال: وقد ظهر لليلة القدر علامات؛ منها: ما فى صحيح مسلم عن أبى بن كعب أن الشمس تطلع فى صبيحتها لا شعاع لها، ولابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعا: (ليلة القدر لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء .....ة) (١) ، ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا أنها صافية، كأن فيها قمرا ساطعا، ساكنة صاحية، لا حر فيها ولا برد ولا يحل لكوكب يرمى به فيها، وإن من أماراتها أن الشمس فى صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها حينئذ (٢) .

وروى البيهقى فى (فضائل الأوقات) أن المياه المالحة تعذب فى تلك الليلة (٣) . وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يجتهد فى العشر الأخير من رمضان ما لا يجتهد فى غيره (٤) . رواه مسلم من حديث عائشة. وفى البخارى عنها: كان رسول

__________

(١) أخرجه ابن خزيمة فى (صحيحه) (٢١٩٠) من حديث جابر، ولم أقف على رواية ابن عباس.

(٢) انظر (فتح البارى) لابن حجر (٤/ ٢٦٠) .

(٣) ذكره الحافظ ابن حجر فى (المصدر السابق) .

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (١١٧٥) فى الاعتكاف، باب: الاجتهاد فى العشر الأواخر من شهر رمضان، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله (١) . وجزم عبد الرزاق بأن (شد مئزره) هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثورى. وقال الخطابى: يحتمل أن يراد به الجد فى العبادة، كما ي

قال: شددت لهذا الأمر مئزرى، أى: تشمرت له، ويحتمل أن يراد به التشمير والاعتزال معا، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز، فيكون المراد: شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وتشمر للعبادة.

وقوله: (وأحيا ليله) أى: سهره فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه، لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعا، لأن النائم إذا حيى باليقظة حيى ليله بحياته، وهو نحو قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبورا) (٢) ، أى:

لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور. فقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يخص العشر الأخير بأعمال لا يعملها فى بقية الشهر.

فمنها: إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويشهد له حديث عائشة من وجه ..... (وأحيا الليل كله) وفى المسند عنها أيضا،

قالت: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر (٣) ، وفى حديث ..... عن أنس عند أبى نعيم: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا دخل شهر رمضان قام ونام فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضا ويحتمل أن تريد بإحياء الليل غالبه، وقد قال الشافعى فى القديم: من شهد العشاء والصبح فى جماعة ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها. وروى فى حديث مرفوع عن أبى هريرة: (من صلى العشاء الآخرة فى جماعة فى رمضان فقد أدرك ليلة القدر) (٤) . رواه أبو الشيخ.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٢٤) فى صلاة التراويح، باب: العمل فى العشر الأواخر من رمضان. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٠٤٢) فى المناسك، باب: زيارة القبور، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه البيهقى، كما فى (كنز العمال) (٢٤٠٩٢) .

ومنها: أنه كان يوقظ أهله للصلاة فى ليالى العشر دون غيره من الليالى.

ومنها: تأخير الفطور إلى السحور، ففى حديث أنس وعائشة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان فى ليالى العشر يجعل عشاءه سحورا، ولفظ حديث عائشة:

كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورا، أخرجه ابن أبى عاصم. ولفظ حديث أنس: كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه سحورا (١) . وإسناد الأول مقارب، والثانى فيه حفص بن غياث، وقال فيه ابن عدى: إنه من أنكر ما لقيت له. لكن يشهد له حديث الوصال المخرج فى الصحيح كما قدمته.

ومنها: اغتساله- صلى اللّه عليه وسلم- بين العشاءين: المغرب والعشاء، روى من حديث على، وفى إسناده ضعف.

النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى اللّه عليه وسلم

اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود، ووقوف بساحة الجود، ومشاهدة لذلك المشهد العلى الرحمانى، وإلمام بمعهد العهد الربانى، ولا يخفى أن نفس الكون بتلك الأماكن شرف وعلو، وأن التردد فى تلك المواطن فخار وسمو، فإن المحال المحترمة لم تزل تفرع على الحال فيها من سجال وصفها بفيض غامر، وحسبك فى هذا ما يحكى فى أبيات عن مجنون بنى عامر:

رأى المجنون فى البيداء كلبا ... فجر عليه للإحسان ذيلا

فلاموه على ما كان منه ... وقالوا لم منحت الكلب نيلا

فقال دعوا الملام فإن عينى ... رأته مرة فى حى ليلا

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ١٧٤) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط وفيه حفص بن واقد البصرى، قال ابن عدى: له أحاديث منكرة.

فينبغى للعبد أن يهتم بأمر الحج ويبادر إليه، وينهض فاتر عزمه إنهاضا يحثه عليه، ولا يتوانى فى غسل أدران سيئات العمر بصابون المغفرة، ولا يتكاسل عن البدار، فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة.

وروى ابن عباس أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (من أراد الحج فليتعجل) (١) . رواه أبو داود. وفى حديث على بن أبى طالب، عنه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت اللّه الحرام، فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا) (٢) .

الحديث رواه الترمذى. وخطب- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: (أيها الناس: قد فرض اللّه عليكم الحج فحجوا) (٣) . رواه مسلم والنسائى من حديث أبى هريرة. وفى رواية النسائى، من حديث ابن عباس مرفوعا: (إن اللّه كتب عليكم الحج) ، فقال الأقرع بن حابس التميمى: كل عام يا رسول اللّه؟ ف

قال: (لو قلت نعم لوجبت) (٤) الحديث. فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر. واختلفوا: هل هو على الفور، أو على التراخى؟ فقالالشافعى وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخى، إلى أن ينتهى إلى حال يظن فواته لو أخره عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور. واختلفوا أيضا فى وقت ابتداء فرضه،

فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ،

وقيل: بعدها، ثم اختلف فى سنته.

فالجمهور على أنه سنة ست، لأنه نزل فيها

قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه (٥) ، وهذا ينبنى على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض. ويؤيده

__________

(١) حسن: أخرجه أبو داود (١٧٣٢) فى المناسك، باب: التجارة فى الحج، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، .

(٢) أخرجه الترمذى (٨١٢) فى الحج. باب: ما جاء فى التغليظ فى ترك الحج، من حديث على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٣٧) فى الحج، باب: فرض الحج مرة فى العمر، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم. وقد تقدم فى الذى قبله.

(٥) سورة البقرة: ١٩٦.

قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعى بلفظ (وأقيموا) رواه الطبرى بأسانيد صحيحة عنهم.

وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضى تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع فى قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدى سنة خمس، وهذا يدل- إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس، أو وقوعه فيها.

وقالت طائفة: إنه تأخر نزول فرضه إلى التاسعة والعاشرة. واحتجوا:

بأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد.

ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا فى أنفسهم بما فاتهم من التجارة مع المشركين لما أنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (١) الآية، فأعاضهم اللّه من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآيات والمنادات بها إنما كان سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك فى مكة فى موسم الحج، وأردفه بعلى.

وفى الترمذى من حديث جابر، أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر معها عمرة، فساق ثلاث وستين بدنة، ثم جاء على من اليمن ببقيتها، فيها جمل فى أنفه برة من فضة فنحرها (٢) ، الحديث. وعن ابن عباس: حج- صلى اللّه عليه وسلم- قبل أن يهاجر ثلاث حجج (٣) . أخرجه الحاكم وابن ماجه. وهو مبنى على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، وهذا لا يقتضى نفى الحج قبل ذلك. وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثورى، أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حج قبل أن يهاجر حججا (٤) .

__________

(١) سورة التوبة: ٢٨.

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٨١٥) فى الحج، باب: ما جاء فى حج النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. من حديث جابر بن عبد اللّه- رضى اللّه عنهما- .

(٣) تقدم فى الذى قبله.

(٤) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (١/ ٦٤٢) و (٣/ ٥٦) وفى الموضع الأول رفعه جابر- رضى اللّه عنه-.

وقال ابن الجوزى: حج حججا لا يعلم عددها، وقال ابن الأثير: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وقال جابر فى حديثه الطويل- كما فى رواية مسلم-: مكث- صلى اللّه عليه وسلم- تسع سنين لم يحج ثم أذن فى العاشرة؛ أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حاج. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر، فأرسلت إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

كيف أصنع؟

قال: (اغتسلى واستثفرى بثوب وأحرمى) ، فصلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت مدّ بصرى بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شئ عملنا به (١) .

وفى رواية عند النسائى: قال جابر: خرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لخمس بقين من ذى القعدة وخرجنا معه، حتى إذا أتى ذا الحليفة الحديث (٢) . وكان خروجه- صلى اللّه عليه وسلم- من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذى الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر.

وكان نساؤه كلهن معه، فطاف عليهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه، غير غسل الجماع الأول.

وفى الترمذى، عن خارجة بن زيد عن أبيه: تجرد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لإهلاله واغتسل (٣) . وفى الصحيحين: أن عائشة طيبته بذريرة (٤) ، وفى رواية

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٢١٨) فى الحج، باب: حجة النبى. من حديث جابر بن عبد اللّه- رضى اللّه عنهما-.

(٢) صحيح: أخرجه النسائى (٥/ ١٥٥) فى مناسك الحج، باب: ترك التسمية عند الإهلال. من حديث جابر- رضى اللّه عنه-، .

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٨٣٠) فى الحج، باب: ما جاء فى الاغتسال عند الإحرام. من حديث زيد بن ثابت بن الضحاك- رضى اللّه عنه- .

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٩٣٠) فى اللباس، باب: الذريرة، ومسلم (١١٨٩) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

قالت: كأنى أنظر إلى وبيص الطيب فى مفارقه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو محرم (١) ، وفى رواية

قالت: طيبته عند إحرامه، ثم طاف فى نسائه، ثم أصبح محرما (٢) ، زاد فى رواية: ينضح طيبا (٣) . وفى رواية: طيبته طيبا لا يشبه طيبكم (٤) ، تعنى ليس له بقاء. وهذا يدل على استحباب الطيب عند إرادة الإحرام، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم فى الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعى وأبى حنيفة وأبى يوسف وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابى عن أكثر الصحابة، وحكاه النووى عن جمهور العلماء من السلف والخلف.

وذهب مالك: إلى منع التطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه

قال: إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه. وعن عائشة

قالت: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمى وأشنان (٥) ، رواه الدار قطنى. وفى حديث أنس عند أبى داود والترمذى: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا على جبل البيداء أهل (٦) . وفى رواية ابن عمر، عند البخارى ومسلم وغيرهما: ما أهل إلا من عند المسجد (٧) ، يعنى مسجد ذى الحليفة.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٧١) فى الغسل، باب: من تطيب ثم اغتسل وبقى أثر الطيب، ومسلم (١١٩٠) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) تقدم فى الذى قبله.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (١١٩٢) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٤) صحيح الإسناد: أخرجه النسائى (٥/ ١٣٧) فى مناسك الحج، باب: إباحة الطيب عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٥) أخرجه الدار قطنى فى (سننه) (٢/ ٢٢٦) .

(٦) أخرجه النسائى (٥/ ١٦٢) فى مناسك الحج، باب: العمل فى الإهلال. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٧) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٤١) فى الحج، باب: الإهلال عند مسجد ذى الحليفة، ومسلم (١١٨٦) فى الحج، باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذى الحليفة. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

وفى رواية: ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره (١) . وفى رواية: حين وضع رجله فى الغرز، واستوت به راحلته قائما، أهل من عند مسجد ذى الحليفة. وفى رواية جابر- عند أبى داودوالترمذى- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما أراد الحج أذن فى الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم (٢) .

وفى حديث ابن جبير- عند أبى داود-

قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى إهلال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حين أوجب!؟

فقال: إنى لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا. خرج- صلى اللّه عليه وسلم- حاجّا فلما صلى فى مسجده بذى الحليفة ركعتيه أوجبه فى مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا إنما أهل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وايم اللّه لقد أوجب فى مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء.

قال سعيد بن جبير: فمن أخذ بقول عبد اللّه بن عباس أهل فى مصلاه إذا فرغ من ركعتيه (٣) ، وهو مذهب أبى حنيفة، والصحيح من مذهب الشافعى أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته. قال ابن القيم: ولم ينقل عنه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، انتهى.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٧٩٩) فى الحج، باب: القدوم بالغداة، ومسلم (١١٨٦) فى الحج، باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذى الحليفة. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٨١٧) فى الحج، باب: ما جاء فى أى موضع أحرم، من حديث جابر وقد تقدم.

(٣) أخرجه أبو داود (١٧٧٠) فى المناسك، باب: فى وقت الإحرام.

قلت: ثبت فى الصحيحين عن ابن عمر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يركع بذى الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذى الحليفة أهل (١) .

قال النووى: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضى وغيره عن الحسن البصرى أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قل:

لأنه روى أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث.

وقد اختلفت روايات الصحابة فى حجه- صلى اللّه عليه وسلم- حجة الوداع، هل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ وروى كل منها فى البخارى ومسلم وغيرهما.

واختلف الناس فى ذلك على ستة أقوال:

أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه.

الثانى: حج متمتعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كما قاله القاضى أبو يعلى وغيره.

الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدى ولم يكن قارئا.

الرابع: أنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين.

الخامس: أنه حج مفردا، اعتمر بعده من التنعيم.

السادس: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى حل منهما جميعا، وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وساق الهدى.

واختلفوا أيضا فى إحرامه على ستة أقوال:

أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها.

الثانى: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه.

الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة.

__________

(١) تقدم.

الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج.

الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا، ثم عينه بعد إحرامه.

السادس: لبى بالحج والعمرة معا.

وقد أطنب أبو جعفر الطحاوى الحنفى فى الكلام على ذلك، فإنه تكلم عليه فى زيادة على ألف ورقة كما ذكره عنه جماعة من العلماء، وبينه ابن حزم فى حجة الوداع بيانا شافيا، ومهده المحب الطبرى تمهيدا بالغا، وأشار إليه القاضى عياض والنووى فى شرحيهما لمسلم، ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثير من مباحثه استيفاء كافيا.

والذى ذهب إليه الشافعى فى جماعة: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- حج حجّا مفردا لم يعتمر معه، واحتج بما فى الصحيحين أن عائشة

قالت: (خرجنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنا أهلّ بالحج وحده، وأهلّ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالحج). فهذا التقسيم والتنويع صريح فى إهلاله بالحج وحده. ولمسلم عنها: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أهل بالحج وحده (١) . ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالحج(٢) .

ولابن ماجه عن جابر: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أفرد الحج (٣) . وعن ابن عمر:

أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أفرد الحج. رواه البخارى.

قالوا: وهؤلاء لهم قرب فى حجة الوداع على غيرهم: فأما جابر، فهو

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٣١) فى مناسك الحج، باب: القرآن. من حديث أنس

قال: سمعت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يلبى بالعمرة والحج جميعا فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبّى بالحج وحده ... الحديث.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٤٠) فى الحج، باب: جواز العمرة فى أشهر الحج، من حديث ابن عباس، وبنحوه عن عائشة.

(٣) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٢٩٦٦) فى المناسك، باب: الإفراد بالحج، وهو عند مسلم (١٢١١) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

أحسن الصحابة سياقا لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروجه- صلى اللّه عليه وسلم- من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غيره. وأما ابن عمر، فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقته- صلى اللّه عليه وسلم- فى حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله و

قال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإنى كنت تحت ناقته- صلى اللّه عليه وسلم- يمسنى لعابها، أسمعه يلبى بالحج، وأما عائشة فقربها من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره وظاهره، وفعله فى خلواته وعلانيته، مع كثرة فهمها وعظم فطنتها. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه فى الدين والفهم الثاقب معروف، مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- التى لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة.

واحتجوا أيضا: بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على (الإفراد) مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، والمقتدى بهم، فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل. وبأنه لم ينقل عن أحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهة التمتع والجمع بينهما، حتى فعله على- رضى اللّه عنه- لبيان الجواز. وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التمتع والقران.

وذهب النووى إلى أن الصواب أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان قارنا، ويؤيده أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يعتمر فى تلك السنة بعد الحج،

قال: ولا شك أن القران أفضل من الإفراد والذى لا يعتمر فى سنته عندنا، ولم يقل أحد إن الحج وحده أفضل من القران. انتهى. وقد صرح القاضى حسين والمتولى بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر فى تلك السنة. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القران بأمور.

منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع. وبأن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه فى ذلك. وأشهر من روى عنه الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته. وابن عمر، وقد ثبت عنه أنه- صلى اللّه عليه وسلم- بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج. وجابر، وقد روى عنه أنه اعتمر مع حجته أيضا.

وبأن القران رواه عنه- صلى اللّه عليه وسلم- جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه.

وبأنه لم يقع فى شئ من الروايات النقل عنه من لفظه أنه

قال: أفردت، ولا تمتعت، بل صح عنه أنه

قال: (لولا أن معى الهدى لأحللت) (١) .

وأيضا: فإن من روى القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف، بخلاف من روى الإفراد فإنه محمول على أول الحال وينتفى التعارض، ويؤيده: أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران، ومن روى عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين، ويؤيده: أن من جاء عنه التمتع لما وصفه، وصفه بصورة القران، لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج، وهذه إحدى صور القران.

وأيضا: فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيّا. انتهى.

وعدهم ابن القيم سبعة عشر: عائشة أم المؤمنين، وعبد اللّه بن عباس، وعمر ابن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلى، وعمران ابن الحصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبى أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد ابن أبى وقاص، وجابر، وابن عمر،

قال: فهؤلاء سبعة عشر صحابيّا، منهم من روى فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به.

فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر وجابرا، وعائشة، وابن عباس؟

وعائشة تقول: أهلّ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالحج، وفى لفظ: أفرد الحج، والأول فى الصحيحين، والثانى فى مسلم. وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخارى، وهذا ابن عباس يقول: أهلّ بالحج، رواه مسلم. وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه.

قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٥٨) فى الحج، باب: من أهل فى زمن النبى كإهلال النبى. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث من ذكرتم لا حجة فيها على القران ولا على الإفراد، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا، ولا تعارض بينها. انتهى.

وهذا يقتضى رفع الشك عنها والمصير إلى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان قارنا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الثورى (١) وأبو حنيفة وإسحاق بن راهواه واختاره من الشافعية المزنى وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزى، ومن المتأخرين الشيخ تقى الدين السبكى، وبحث مع النووى فى اختياره أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندا إلى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- اختار الإفراد أولا ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار فى أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور، وتعقب: بأن البيان قد سبق منه- صلى اللّه عليه وسلم- فى عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها فى ذى القعدة، وهى عمرة الحديبية التى صد عن البيت فيها، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط- مع أن الأفضل خلافه- لاكتفى فى ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى.

ومذهب الشافعى ومالك وكثيرين أن أفضلها: الإفراد، ثم التمتع، ثم القران،

فإن قلت: إذا كان الراجح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان قارنا، فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عن ذلك النووى فى شرح المهذب:

بأن ترجيح الإفراد لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- اختاره أولا، فأهلّ بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار فى أشهر الحج، وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور كما ذكرته.

وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إلى أن التمتع أفضل، وهو مذهب أحمد، لكونه- صلى اللّه عليه وسلم- تمناه، ف

قال: (لولا أنى سقت

__________

(١) زيادة من (فتح البارى) المصدر المنقول منه.

الهدى لأحللت) (١) ، ولا يتمنى إلا الأفضل.

وأجيب: بأنه إنما تمناه تطييبا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره اللّه تعالى له، واستمر عليه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وأما القائلون، إنه- صلى اللّه عليه وسلم- لبى بالعمرة واستمر عليها، فحجتهم حديث ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر

قال: تمتع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج (٢) . وقال ابن شهاب عن عروة: إن عائشة أخبرته عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذى أخبرنى سالم عن ابن عمر. وقال ابن عباس: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (هذه عمرة استمتعنا بها) (٣) . وقال سعد بن أبى وقاص فى المتعة: صنعها رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- وصنعناها معه (٤) .

وأجيب: بأن التمتع عندهم يتناول القران، ويدل له ما فى الصحيحين عن سعيد بن المسيب: اجتمع على وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، فقال على: ما تريد إلى أمر فعله رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، ف

قال: إنى لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى على ذلك أهلّ بهما جميعا (٥) .

فهذا يبين أن من جمع بينهما كانت متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذى فعله رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. ووافقه عثمان على أنه- صلى اللّه عليه وسلم- فعله، لكن النزاع بينهما: هل ذلك الأفضل فى حقنا أم لا؟ فقد اتفق على وعثمان على أنه

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٩٢) فى الحج، باب: من ساق البدن معه. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٤١) فى الحج، باب: جواز العمرة فى أشهر الحج. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٤) الإسناد: أخرجه الترمذى (٨٢٢) فى الحج، باب: ما جاء فى التمتع. من حديث سعد بن أبى وقاص والضحاك.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٦٩) فى الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج، ومسلم (١٢٢٣) فى الحج، باب: جواز التمتع.

- صلى اللّه عليه وسلم- تمتع وأن المراد بالتمتع عندهم القران. وأيضا: فإنه- صلى اللّه عليه وسلم- قد تمتع تمتع قران باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين. انتهى.

وفى فتح البارى عن أحمد: أن من ساق الهدى فالقران له أفضل ليوافق فعل النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومن لم يسق الهدى فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه. انتهى.

وأما من

قال: إنه- صلى اللّه عليه وسلم- حج مفردا ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره فهو غلط، لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أهل الحديث. قاله ابن تيمية.

وأما من

قال: إنه حج متمتعا، حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدى فحجته حديث معاوية أنه قصر عن رأس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بمشقص على المروة (١) ، وحديثه فى الصحيحين، ولا يمكن أن يكون هذا فى غير حجة الوداع، لأن معاوية أسلم بعد الفتح، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- لم يكن زمن الفتح محرما، ولا يمكن أن يكون فى عمرة الجعرانة لوجهين:

أحدهما: أنه فى بعض ألفاظ الحديث الصحيح (وذلك فى حجته) (٢) ،

الثانى: أن فى رواية النسائى بإسناد صحيح: (وذلك فى أيام العشر) (٣) وهذا إنما كان فى حجته، وهذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر فى قوله: ٧ نه اعتمر فى رجب كما سيأتى. وسائر الأحاديث الصحيحة كلها تدل على أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر، وبذلك أخبر عن نفسه بقوله: (لولا أن معى الهدى لأحللت)(٤)

__________

(١) صحيح: أخرجه النسائى (٥/ ٢٤٤) فى المناسك، باب: أين يقصر المعتمر، وفى الكبرى (٣٩٨١) ، .

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

وقوله: (إنى سقت الهدى وقرنت فلا أحل عن حتى أنحر) (١) . وهذا خبر عنه لا يدخله الوهم ولا الغلاط، بخلاف خبر غيره عنه. قاله فى زاد المعاد.

وأما اختلاف الروايات عنه- صلى اللّه عليه وسلم- فى إهلاله، هل هو بالحج أو بالعمرة أو القران، والجمع بينها، فكل تأول بما يناسب مذهبه الذى قدمته.

قال البغوى: والذى ذكره الشافعى فى كتاب (اختلاف الأحاديث) كلاما موجزه: أن أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان منهم المفرد والقارن والمتمتع، فكل كان يأخذ عنه أمر نسكه، ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، ويجوز فى لغة العرب إضافة الفعل إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى الفاعل له، كما

يقال: بنى فلان دارا، ويريد أنه أمر ببنائها، وكما روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه، ثم احتج بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابى نحوه.

وقال النووى: كان- صلى اللّه عليه وسلم- أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج فصار قارنا، فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعنى حمله على ما أهل به فى أول الحال، ومن روى القران أراد ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوى والارتفاق، فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة، وهو الاقتصار على فعل واحد. وقال غيره: أراد بالتمتع ما أمر به غيره. قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض.

وقالت طائفة: إنما أحرم- صلى اللّه عليه وسلم- قارنا ابتداء يعنى بالحج والعمرة معا واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس فى صحيح مسلم سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أهل بهما: (لبيك عمرة وحجّا) (٢) .

ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس أن لفظ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان إهلالا بحج وعمرة معا.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٦٦) فى الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج. من حديث حفصة ولفظه إنى لبدت رأسى وقلدت هديى فلا أحل حتى أنحر.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٩٢) فى الحج، باب: من ساق البدن معه. من حديث ابن عمر. وقد تقدم أكثر من مرة.

وأما من

قال: إنه- صلى اللّه عليه وسلم- أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما فى البخارى من حديث ابن عمر

قال: تمتع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدى من ذى الحليفة، وبدأ- صلى اللّه عليه وسلم- فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج.

وقد تقدم فى الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- بدأ بالإهلال بالحج ثم أدخل عليه العمرة، وهذا عكسه. والمشكل فى هذا الحديث قوله:

(بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج) . وأجيب عنه: بأن المراد به صورة الإهلال، أى لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما ف

قال: (لبيك بعمرة وحج معا) (١) ولبعضهم: بدأ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأهل بالعمرة (٢) ، أى أمرهم بها أولا، أى بتقديمها على الحج.

ومذهب الشافعى: أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح، وصار قارنا، فلو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعى، أصحهما لا يصح إحرامه بالعمرة، لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمى. وال..... لا يدخل على القوى. انتهى.

وعن ابن عباس

قال: صلى- صلى اللّه عليه وسلم- الظهر بذى الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها فى صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين (٣) ، رواه مسلم وأبو داود. وفى رواية الترمذى: قلد نعلين، وأشعر الهدى فى الشق الأيمن، بذى الحليفة، وأماط عنه الدم (٤) . وفى رواية لأبى داود بمعناه، و

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٤٣) فى الحج، باب: تقليد الهدى وإشعاره عند الإحرام، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٩٠٦) فى الحج، باب: ما جاء فى إشعار البدن. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- .

قال: ثم سلت الدم بيده (١) ، وفى أخرى بأصبعه (٢) . وعند النسائى: أشعر بدنه من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين (٣) . وفى أخرى: أمر ببدنة فأشعر فى سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين (٤) .

وكان حجه- صلى اللّه عليه وسلم- على رحل رث يساوى أربعة دراهم (٥) . رواه الترمذى فى الشمائل وابن ماجه من حديث أنس، والطبرانى فى الأوسط من حديث ابن عباس.

وعن أسماء بنت أبى بكر

قالت: خرجنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وجلست إلى جنب أبى بكر، وكانت زمالة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وزمالة أبى بكر واحدة، مع غلام لأبى بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ ف

قال: أضللته البارحة. قال أبو بكر: بعير واحد تضله؟ وطفق يضربه ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يبتسم ويقول: (انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع) ، وما يزيد على ذلك ويبتسم (٦) . رواهأبو داود.

وخرج معه- صلى اللّه عليه وسلم- أصحابه لا يعرفون إلا الحج- كما قالت عائشة- فبين لهم- صلى اللّه عليه وسلم- وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار فى أشهر الحج

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٧٥٢) فى المناسك، باب: فى الإشعار. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) قاله أبو داود عقب الحديث السابق، حيث

قال: رواه همام فذكره.

(٣) صحيح: أخرجه النسائى (٥/ ١٧٠) فى مناسك الحج، باب: سلت الدم عن البدن. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، .

(٤) تقدم فى الذى قبله.

(٥) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٢٨٩٠) فى المناسك، باب: الحج على الرحل. من حديث أنس- رضى اللّه عنه- .

(٦) حسن: أخرجه أبو داود (١٨١٨) فى المناسك، باب: المحرم يؤدب غلامه. من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى اللّه عنهما-، .

فقال:

 (من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحج فليهل) (١) . رواه البخارى. ولأحمد: (من شاء فليهل بعمرة) .

ولما بلغ- صلى اللّه عليه وسلم- الأبواء أو ودان، أهدى له الصعب بن جثامة حمارا وحشيا فرده عليه، فلما رأى ما فى وجهه

قال: (٧ نا لم نرده عليك إلا أنا حرم) (٢) . رواه البخارى ومسلم. وله فى رواية: حمار وحش (٣) . وفى أخرى: من لحم حمار وحش (٤) ، وفى رواية: عجز حمار وحش يقطر دما (٥) ، وفى رواية: شق حمار وحش (٦) ، وفى رواية عضو من لحم صيد (٧) .

ورواه أبو داود وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه

قال: يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-.. فذكره. واتفقت الروايات كلها عن أنه رده عليه، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقى من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- عجز حمار وحش، وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم، قال البيهقى: إن كان هذا محفوظا فلعله رد الحى وقبل اللحم.

قال فى فتح البارى: وفى هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق محفوظة فلعله رد حيّا لكونه صيد لأجله، ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله. وقد قال الشافعى فى(الأم) : إن كان الصعب

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٧) فى الحيض، باب: نقض المرأة شعرها عند غسل الحيض، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٢٥) فى الحج، باب: إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيّا حيّا لم يقبل، ومسلم (١١٩٣) فى الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم. من حديث الصعب ابن جثامة الليثى- رضى اللّه عنه-.

(٣) تقدم فى الذى قبله.

(٤) تقدم فى الذى قبله.

(٥) مسلم (١١٩٤) وتقدم فى الذى قبله.

(٦) تقدم فى الذى قبله.

(٧) أخرجه مسلم (١١٩٥) وتقدم فى الذى قبله.

أهدى حمارا حيّا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حى، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه. ونقل الترمذى عن الشافعى: أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور فى حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه- صلى اللّه عليه وسلم- من مكة، ويؤيده: أنه جازم فيه بوقوع ذلك فى الجحفة، وفى غيرها من الروايات: بالأبواء أو بودان. وقال القرطبى: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا بحضرته- صلى اللّه عليه وسلم- فقدمه له، فمن

قال: أهدى حمارا أراد بتمامه مذبوحا لا حيّا، ومن

قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبى- صلى اللّه عليه وسلم

قال: ويحتمل أن يكون من قال حمارا، أطلق وأراد بعضه مجازا،

قال: ويحتمل أنه أهداه له حيّا، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء حكم الكل.

قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الرواة.

قال النووى: قال الشافعى وآخرون: ويحرم تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوها، وفى ملكه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد فإن صاده أو صيد له فهو حرام، سواء صيد له بإذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا، سواء صاده، أو صاده غيره له، قصده أو لم يقصده، فيحرم مطلقا. حكاه القاضى عياض عن على وابن عمر وابن عباس لقوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً(١) ، قالوا: والمراد بالصيد المصيد، ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه- صلى اللّه عليه وسلم- رد وعلل رده بأنه محرم، ولم يقل: بأنك صدته لنا.

واحتج الشافعى وموافقوه: بحديث أبى قتادة المذكور فى صحيح

__________

(١) سورة المائدة: ٩٦.

مسلم، فإنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال فى الصيد الذى صاده أبو قتادة وهو حلال، قال للمحرمين: (هو حلال فكلوه) (١) . وفى الرواية الآخرى

قال: (فهل معكم منه شئ؟) قالوا: معنا رجله فأخذها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأكلها (٢) .

ولما مرّ- صلى اللّه عليه وسلم- بوادى عسفان

قال: (يا أبا بكر، أى واد هذا؟)

قال: وادى عسفان

قال: (لقد مرّ به هود وصالح على بكرين أحمرين خطامهما الليف، وأرزهما العباء وأرديتهما النمار يلبون بالحج يحجون البيت العتيق) (٣) . رواه أحمد. وفى رواية مسلم من حديث ابن عباس، لما مر بوادى الأزرق

قال: (كأنى أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا أصبعيه فى أذنيه مارا بهذا الوادى، وله جؤار إلى اللّه بالتلبية) (٤) .

ووادى الأزرق خلف أمج- بفتح الهمزة والميم والجيم- قرية ذات مزارع، بينه وبين مكة ميل واحد، ولم يعين فى رواية البخارى الوادى، ولفظه: أما موسى كأنى أنظر إليه إذ انحدر من الوادى يلبى. قال المهلب:

هذا وهم من بعض رواته، لأنه لم يأت فى أثر ولا خبر أن موسى حى، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوى، ويدل عليه قوله فى الحديث الآخر: (ليهلن ابن مريم بفج الروحاء) (٥) انتهى.

وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، وقد ذكر البخارى الحديث فى اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفي

قال: إن الراوى الآخر قد غلط فزاده؟

وفى رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس، أفي

قال: إن الراوى الآخر قد غلط فزاد يونس؟

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١١٩٦) وتقدم فى الذى قبله.

(٢) تقدم فى الذى قبله.

(٣) أخرجه أحمد (١/ ٢٣٢) من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (١٦٦) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٥) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٥٢) فى الحج، باب: إهلال النبى وهديه. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

وتعقب أيضا: بأن توهيم المهلب للراوى وهم منه، وإلا فأى فرق بين موسى وعيسى؟ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل. و

أجيب: بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق،

فقال: (كأنى أنظر إليه) ولهذا استدل المهلب بحديث أبى هريرة الذى فيه (ليهلن ابن مريم بالحج) .

وقد اختلف فى معنى قوله: (كأنى أنظر إليه) .

فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحى.

وقيل: هو على الحقيقة، لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا مانع أن يحجوا فى هذه الحالة، كما فى صحيح مسلم عن أنس: أنه رأى موسى- عليه السّلام- قائما فى قبره يصلى.

قال القرطبى: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعى أنفسهم لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ

اللّهمَّ (١) الآية لكن تمام هذا التوجيه أن ي

قال: المنظور إليه هى أرواحهم، فلعلها مثلت له- صلى اللّه عليه وسلم- فى الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء، وأما أجسادهم فهى فى القبور.

قال ابن المنير وغيره: يجعل اللّه لروحه مثالا، ويرى فى اليقظة كما يرى فى النوم.

وقيل: كأنه مثلت أحوالهم التى كانت فى الحياة الدنيا، كيف تعبدوا، وكيف حجوا، وكيف لبوا، ولهذا

قال: (كأنى) ...

وقيل: كأنه أخبر بالوحى عن ذلك، فلشدة قطعه به

قال: (كأنى أنظر إليه) . انتهى. وقد ذكرت فى مقصد الإسراء من ذلك ما يكفى واللّه الموفق.

ولما نزل- صلى اللّه عليه وسلم- بسرف خرج إلى أصحابه فقال من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدى فلا. وحاضت عائشة فدخل عليها- صلى اللّه عليه وسلم- وهى تبكى، ف

قال: (ما يبكيك يا هنتاه) ،

قالت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة،

قال: (وما شأنك؟)

قالت: لا أصلى،

__________

(١) سورة يونس: ١٠.

قال: (فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب اللّه عليك ما كتب عليهن، فكونى فى حجك، فعسى اللّه أن يرزقكها) (١) ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى.

وفى رواية

قال: خرجنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علىّ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأنا أبكى، ف

قال: (ما يبكيك) فقلت: واللّه لوددت أنى لم أكن خرجت العام، ف

قال: (ما لك، لعلك نفست؟) قلت: نعم،

قال: (هذا شئ كتبه اللّه على بنات آدم، افعلى ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى) (٢) . الحديث.

وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة، كما اختلف: هل كانت متمتعة أم مفردة؟ وإذا كانت متمتعة فقيل إنها كانت أولا أحرمت بالحج وهو ظاهر هذا الحديث.

وفى حجة الوداع من المغازى عند البخارى، من طريق هشام بن عروة عن أبيه

قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة. وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهرى: ولم أسق هديا، وفى رواية الأسود عنها

قالت: خرجنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- نلبى لا نذكر حجّا ولا عمرة.

ويحتمل فى الجمع أن ي

قال: أهلت عائشة بالحج مفردة، كما صنع غيرها من الصحابة، ثم أمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا، فصارت متمتعة، ثم لما دخلت مكة وهى حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج.

وقال القاضى عياض: واختلف فى الكلام على حديث عائشة،

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٦٠) فى الحج، باب: قول اللّه تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٥) فى الحيض، باب: تقضى الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ومسلم (١٢١١) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

فقال: ما لك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا. قال ابن عبد البر: يريد ليس العمل عليه فى رفض العمرة وجعلها حجّا، بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة. واختلف فى جوازه من بعدهم، لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله: (ارفضى عمرتك) (١) . أى اتركى التحلل منها وأدخلى عليها الحج، فتصير قارنة، ويؤيده قوله فى رواية لمسلم (وامسكى عن العمرة) (٢) أى عن أعمالها. وإنما قالت عائشة: (وأرجع بحج) لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل، كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين. واستبعد هذا التأويل لقولها فى رواية عطاء عنها (وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة) (٣) أخرجه أحمد. وهذا يقوى قول الكوفيين: إن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا فى ذلك بقوله لها (دعى عمرتك) (٤)، وفى رواية (اقضى عمرتك) (٥) ونحو ذلك.

واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة.

لكن فى رواية عطاء عنها ضعف، والرافع للإشكال فى ذلك: ما رواه مسلم من حديث جابر أن عائشة أهلت بعمرة، حتى إذا كان بسرف حاضت فقال لها النبى- صلى اللّه عليه وسلم-:(أهلى بالحج) حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت، ف

قال: (قد حللت من حجتك وعمرتك) ،

قالت: يا رسول اللّه إنى أجد نفسى أنى لم أطف بالبيت حين حججت،

قال: (فأعمرها من التنعيم) (٦) .

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٧٨٣) فى الحج، باب: العمرة ليلة الحصبة وغيرها، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) هى رواية عند مسلم (١٢١١) (١١٣) وقد تقدمت.

(٣) أخرجه أحمد فى (المسند) (٦/ ١٦٥ و ٢١٩) من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٤) أخرجه البخارى (٣١٧) وقد تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) صحيح: أخرجه البخارى (١٥١٨) فى الحج، باب: الحج على الرحل، من حديث عائشة وقد تقدم.

ولمسلم من طريق طاوس عنها: فقال لها النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (طوافك يسعك لحجك وعمرتك) فهذا صريح فى أنها كانت قارنة، لقوله: (قد حللت من حجك وعمرتك، وإنما أعمرها من التنعيم) (١) تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة، وقد وقع فى رواية مسلم: وكان- صلى اللّه عليه وسلم- رجلا سهلا إذا هويت الشئ تابعها عليه (٢) .

ثم قال- صلى اللّه عليه وسلم- لأصحابه: (من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) (٣) . وإنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج، وفى منتهى سفرهم ودنوهم من مكة بسرف، كما جاء فى رواية عائشة، أو بعد طوافه بالبيت كما جاء فى رواية جابر، ويحتمل تكرار الأمر بذلك فى الموضعين. وأن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة.

وفى رواية قالت عائشة: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، حتى قدمنا مكة فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحج فليتم حجه) (٤) .

وهذا الحديث ظاهر فى الدلالة لأبى حنيفة وأحمد وموافقيهما، فى أن المعتمر المتمتع إذا كان معه الهدى لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر.

ومذهب مالك والشافعى وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شئ فى الحال، سواء أكان ساق هديا أم لا. واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدى، وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شئ، كما لو تحلل المحرم بالحج.

__________

(١) تقدم.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٢١٣) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٥٦) فى الحج، باب: كيف تهل الحائض والنفساء، ومسلم (١٢١١) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٩) فى الحيض، باب: كيف تهل الحائض بالحج والعمرة، ومسلم (١٢١١) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الرواية التى ذكرها مسلم عن عائشة

قالت: خرجنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) (١) فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التى احتج بها أبو حنيفة وتقديرها: ومن أحرم بعمرة فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه، ولا بد من هذا التأويل، لأن القصة واحدة، والراوى واحد، فتعين الجمع بين الروايتين على ما ذكر واللّه أعلم.

ولما بلغ سيدنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ذا طوى- بضم الطاء وبفتحها، وقيدها الأصيلى بالكسر- عند آبار الزاهر، بات بها بى الثنيتين، فلما أصبح صلى الغداة ثم اغتسل (٢) رواهالبخارى. وللنسائى: كان- صلى اللّه عليه وسلم- ينزل بذى طوى، يبيت به حتى يصلى صلاة الصبح حين يقدم إلى مكة.

ومصلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ذلك، على أكمة خشنة غليظة، ليس فى المسجد الذى بنى ثمّ، ولكن من أسفل ذلك على أكمة خشنة غليظة. وفى الصحيحين: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- دخلها من أعلاها (٣) . وفى حديث ابن عمر فى الصحيح: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يدخل من الثنية العليا يعنى أعلى مكة من كداء (٤) - بفتح الكاف والمد، قال أبو عبيد: لا يصرف- وهذه الثنية هى التى ينزل منها إلى المعلاة- مقبرة مكة- وهى التى يقال لها: الحجون- بفتح الحاء المهملة وضم الجيم-.

ولم يقع أنه- صلى اللّه عليه وسلم- دخل مكة ليلا إلا فى عمرة الجعرانة، فإنه- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) هو عند مسلم (١٢١١) وقد تقدم.

(٢) أخرجه البخارى تعليقا فى الحج، باب: الإهلال مستقبل القبلة.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٧٧) فى الحج، باب: من أين يخرج من مكة، ومسلم (١٢٥٨) فى الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٥٧) فى الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

أحرم من الجعرانة، ودخل مكة ليلا، فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت (١) كما رواه أصحاب السنن الثلاثة، من حديث محرش الكعبى. وعن عطاء

قال: إن شئتم فادخلوا ليلا، إنكم لستم كرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، إنه كان إماما، فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس. رواه النسائى.

ثم دخل- صلى اللّه عليه وسلم- مكة لأربع خلون من ذى الحجة. ودخل المسجد الحرام ضحى من باب بنى عبد مناف، وهو باب بنى شيبة، والمعنى فيه أن باب الكعبة فى جهة ذلك الباب، والبيوت تؤتى من أبوابها، وأيضا: فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع، كما قال ابن عبد السلام فى (القواعد) .

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا رأى البيت

قال: (اللّهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرّا) (٢) . رواه الثورى عن أبى سعيد الشامى عن مكحول. وروى الطبرانى عن حذيفة بن أسيد: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا نظر إلى البيت

قال: (اللّهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرّا ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وبرّا ومهابة) (٣) .

ولم يركع- صلى اللّه عليه وسلم- تحية المسجد، إنما بدأ بالطواف لأنه تحية البيت كما صرح به كثير من أصحابنا، وليس بتحية المسجد. ثم استلم- صلى اللّه عليه وسلم- الحجر الأسود، وفى رواية جابر عند البخارى: (استلم الركن) ، والاستلام افتعال من السلام، أى التحية، قاله الأزهرى، وقيل من السلام- بالكسر- أى الحجارة، والمعنى: أنه يومئ بعصاه إلى الركن حتى تصيبه، وكانت محنية الرأس، وهى المراد بقوله فى الحديث ب (المحجن) .

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٩٣٥) فى الحج، باب: ما جاء فى العمرة من الجعرانة. من حديث محرش الكعبى- رضى اللّه عنه- .

(٢) أخرجه الطبرانى فى الكبير عن حذيفة بن أسيد، كما فى (..... الجامع) (٤٤٥٦) .

(٣) انظر ما قبله.

واعلم أن للبيت أربعة أركان: الأول له فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم، وللثانى: الثانية فقط، وليس للآخرين شئ منها، فلذلك يقبل الأول، ويستلم الثانى فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان.

وروى الشافعى عن ابن عمر

قال: استقبل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الحجر، فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلا. وكان إذا استلم الركن

قال: (بسم اللّه واللّه أكبر) ، وكلما أتى الحجر

قال: (اللّه أكبر) ، رواه الطبرانى. وهل كان- صلى اللّه عليه وسلم- طائفا على بعيره أم على قدميه؟

ففى مسلم عن عائشة: طاف- صلى اللّه عليه وسلم- فى حجة الوداع على بعيره. وفيه عن أبى الطفيل: رأيته- صلى اللّه عليه وسلم- يطوف بالبيت على بعيره (١) . وقد اختلف فى علة ذلك: فروى أبو داود من حديث ابن عباس: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته (٢) ، وفى حديث جابر عند مسلم: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه (٣) . فيحتمل أنه فعل ذلك للأمرين.

قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التى يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك، لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب. وتعقب:

بأنه ليس فى الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة، بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلوث يمتنع الدخول، وقد قيل: إن ناقته- صلى اللّه عليه وسلم- كانت منوقة، أىمدربة معلمة، فيأمن معها ما يحذر من التلويث.

قال بعضهم: وهذا كان- واللّه أعلم- فى طواف الإفاضة، لا فى طواف القدوم، فإن جابرا حكى عنه الرمل فى الثلاثة الأول، وذلك لا يكون

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٨٧٩) فى المناسك، باب: الطواف واجب. من حديث أبى الطفيل ولفظه رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمعجنه.

(٢) أخرجه أبو داود (١٨٨١) فى المناسك، باب: الطواف واجب. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- .

(٣) تقدم حديث جابر مرارا.

إلا مع المشى، ولم يقل أحد رملت به راحلته، وإنما قالوا: رمل، أى بنفسه.

وقال الشافعى: أما سعيه الذى طاف لمقدمه فعلى قدميه. انتهى.

ولما استلم- صلى اللّه عليه وسلم- الحجر مضى على يمينه، فرمل ثلاثا ومشى أربعا.

وكان ابتداء الرمل فى عمرة القضية، لما قدم- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلى الحجر، وأمرهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين ليرى المشركين جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا (١) . رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس.

ولما كان فى حجة الوداع رمل- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه، فكان سنة مستقلة.

قال الطبرى: قد ثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- رمل ولا مشرك يومئذ بمكة، يعنى فى حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج، إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل، بل لهيئة مخصوصة، فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها، فلا شئ عليه. انتهى. فلو ترك الرمل فى الثلاث لم يقضه فى الأربع، لأن هيئتها السكينة فلا تغير، واللّه أعلم.

ولما فرغ- صلى اللّه عليه وسلم- من طوافه أتى المقام، فقرأ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (٢) فصلى ركعتين بينه وبين البيت، قرأ فيهما ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (٣) وقُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ (٤) ثم رجع إلى الركن الذى فيه الحجر فاستلمه. ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه (٥) ، أبدأ بما بدأ اللّه به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٦٦) فى الحج، باب: استحباب الرمل فى الطواف والعمرة، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) سورة البقرة: ١٢٥.

(٣) سورة الكافرون: ١.

(٤) سورة الإخلاص: ١.

(٥) سورة البقرة: ١٥٨.

رأى البيت واستقبل القبلة، فوحد اللّه وكبره، و

قال: (لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا اللّه وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ، ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه فى بطن الوادى رمل، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة) (١) .

وفى حديث أبى الطفيل عند مسلم وأبى داود،

قال: قلت لابن عباس، أخبرنى عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة،

قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما قولك صدقوا وكذبوا؟

قال: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت.

قال: وكان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشى والسعى أفضل. هذا لفظ رواية مسلم. وفى أوله ذكر الرمل فى طواف البيت (٢) .

وعند أبى داود أن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيؤوا العام المقبل، فيقيموا ثلاثة أيام، فقدم- صلى اللّه عليه وسلم- فقال لأصحابه: (أرملوا البيت) ، وفيه: طاف- صلى اللّه عليه وسلم- بين الصفا والمروة على بعير، لأن الناس كانوا لا يدفعون ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم (٣) .

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا وصل إلى المروة رقى عليها، واستقبل البيت وكبر اللّه وحده، وفعل كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة

قال: (لو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة) ، فقام سراقة بن جعشم

فقال: يا رسول اللّه، ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك- صلى اللّه عليه وسلم- أصابعه واحدة فى

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٢١٨) فى الحج، باب: حجة النبى، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

الآخرى وقال: (دخلت العمرة فى الحج هكذا- مرتين-، لا بل لأبد أبد) (١) .

وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة.

قال النووى: وقد اختلف فى هذا الفسخ، هل هو خاص للصحابة تلك السنة خاصة، أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟

فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصّا، بل هو باق إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدى أن يقلب إحرامه ويتحلل بأعمالها.

وقال مالك والشافعى وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف:

هو مختص بهم فى تلك السنة، لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج.

ومما يستدل به للجماهير، حديث أبى ذر فى مسلم: كانت المتعة فى الحج لأصحاب محمد- صلى اللّه عليه وسلم- خاصة. يعنى فسخ الحج إلى العمرة (٢) . وفى النسائى عن الحارث بن بلال عن أبيه

قال: قلت يا رسول اللّه، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (بل لنا خاصة) (٣) .

قال: وأما الذى فى حديث سراقة: (ألعامنا هذا أم لأبد؟) ف

قال: (لا، بل لأبد أبد) (٤) فمعناه: جواز الاعتمار فى أشهر الحج، والقران كما سبق تفسيره. فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث: أن العمرة فى أشهر الحج جائزة إلى يوم القيامة، وكذلك القران، وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة، واللّه أعلم، انتهى.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٥٠٦) فى الشركة، باب: الاشتراك فى الهدى والبدن. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه النسائى (٥/ ١٧٩) فى مناسك الحج، باب: إباحة فسخ الحج بعمرة ... من حديث بلال بن الحارث- رضى اللّه عنه-.

(٤) تقدم.

وفى رواية النسائى أيضا: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة (١) ، يعنى متعة النساء ومتعة الحج، يعنى فسخ إلى العمرة، ومتعة النساء: هى نكاح المرأة إلى أجل، كان ذلك مباحا، ثم نسخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم فتح مكة ثم نسخ فى أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى يوم القيامة. وقد كان فيه خلاف فى العصر الأول، ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- مدة مقامه بمنزله الذى نزل فيه بالمسلمين بظاهر مكة، يقصر الصلاة فيه، وكانت مدة إقامته بمكة قبل الخروج إلى منى أربعة أيام ملفقة، لأنه قدم فى الرابع، وخرج فى الثامن، فصلى بها إحدى وعشرين صلاة، من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن، ومن يوم دخوله- صلى اللّه عليه وسلم- مكة وخروجه يوم النفر الثانى من منى إلى الأبطح عشرة أيام سواء. وقدم على من اليمن على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال له: (بما أهللت؟) ف

قال: بما أهل به رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ف

قال: (لولا أن معى الهدى لأحللت) (٢) . رواه الشيخان من حديث أنس.

وفى حديث البراء عند الترمذى والنسائى: دخل علىّ على فاطمة- رضى اللّه عنهما- فوجدها قد نضحت البيت بنضوح فغضب.

فقالت: ما لك؟ فإن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قد أمر أصحابه فأحلوا،

قال: قلت لها إنى أهللت بإهلال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: فأتيته فقال لى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (كيف صنعت؟)

قال: وقال لى: انحر من البدن سبعا وستين، أو ستّا وستين، وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين، وأمسك من كل بدنة منها قطعة.

وفى رواية جابر عند مسلم: فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثوبا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها،

فقالت: أبى أمرنى بهذا،

فقال: صدقت صدقت، ما قلت حين فرضت الحج؟

قال: قلت

اللّهم إنى أهل بما أهل به رسولك،

قال: فإن معى الهدى فلا تحل.

قال: فكان جماعة الهدى الذى

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٢٤) فى الحج، باب: جواز التمتع. من حديث أبى ذر- رضى اللّه عنه-.

(٢) تقدم.

قدم به على من اليمن والذى أتى به النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مائة.

قال: فحل الناس كلهم كلهم وقصروا إلا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ومن كان معه هدى.

فلما كان يوم التروية، وكان يوم الخميس ضحى، ركب- صلى اللّه عليه وسلم- وتوجه بالمسلمين إلى منى، وقد أحرم بالحج من كان أحل منهم، وصلى- صلى اللّه عليه وسلم- بمنى: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة، فسار على طريق ضب، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع فى الجاهلية، وكان (الحمس) وهم قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن قطين اللّه، أى جيران بيته فلا نخرج من حرمه، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات، وذلك

قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ (١) .

وعن جبير بن مطعم

قال: أضللت حمارا لى فى الجاهلية، فوجدته بعرفة، فرأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت عرفت أن اللّه وفقه لذلك. وفى رواية: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له، ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا، الحديث. ولما بلغ- صلى اللّه عليه وسلم- عرفة وجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر ب (القصواء) فرحلت له، فركب فأتى بطن الوادى فخطب الناس و

قال: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ألا إن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمىّ .......، ودماء الجاهلية .......ة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا فى بنى سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية ....... وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه ....... كله، فاتقوا اللّه فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن

__________

(١) سورة البقرة: ١٩٩.

فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما إن لا تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب اللّه، وأنتم تسألون عنى، فما أنتم قائلون؟) قالوا:نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ويقول:

(اللّهم اشهد) ثلاث مرات.

ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا (١) . وهذا الجمع مختص بالمسافرين عند الجمهور، وعن مالك والأوزاعى، وهو وجه للشافعية: أن الجمع بعرفة وجمع للنسك، فيجوز لكل أحد. قال الأسنوى: فلا يجوز إلا للمسافر بلا خلاف. قال الشافعى والأصحاب: إذا خرج الحاج يوم التروية، ونووا الذهاب، إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر من حين خروجهم.

ولما فرغ- صلى اللّه عليه وسلم- من صلاته ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، وكان أكثر دعائه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم عرفة فى الموقف:

(اللّهم لك الحمد كالذى نقول وخيرا مما نقول،

اللّهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى، وإليك مابى، ولك رب تراثى،

اللّهم إنى أعوذبك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر،

اللّهم إنى أسألك من خير ما تجئ به الرياح وأعوذبك من شر ما تجىء به الريح) (٢) . رواه الترمذى من حديث على.

وفى رواية ذكرها رزين: كان أكثر دعائه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم عرفة بعد قوله؛ لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له:

(اللّهم لك الحمد كالذى نقول:

اللّهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى، وإليك مابى، وعليك يا رب ثوابى،

__________

(١) صحيح: أخرجه النسائى (١/ ٢٩٠) فى المواقيت، باب: الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-، .

(٢) أخرجه الترمذى (٣٥٢٠) فى الدعوات، من حديث على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه-.

اللّهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذى شر) .

وفى الترمذى: (أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير) (١) .

وكان من دعائه فى عرفة أيضا- كما فى الطبرانى الصغير- من حديث ابن عباس:

(اللّهم إنك تسمع كلامى، وترى مكانى، وتعلم سرى وعلانيتى، لا يخفى عليك شئ من أمرى، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته وذل جسده، ورغم أنفه لك،

اللّهم لا تجعلنى بدعائك رب شقيّا، وكن بى رؤفا رحيما، يا خير المسئولين ويا خير المعطين) (٢) .

وأتاه- صلى اللّه عليه وسلم- ناس من أهل نجد- وهو بعرفة- فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه (٣) ، رواه الترمذى. وفى رواية جابر عند أبى داود، قال- صلى اللّه عليه وسلم- بعرفة: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) (٤) . وهناك أنزلت عليه الْيَوْمَ

__________

(١) حسن: أخرجه الترمذى (٣٥٨٥) فى الدعوات، باب: فضل لا حول ولا قوة إلا باللّه.

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ٢٥٢) و

قال: رواه الطبرانى فى الكبير والصغير، وفيه يحيى بن صالح الأيلى، قال العقيلى روى عنه يحيى بن بكير مناكير، وبقية رجاله رجال الصحيح.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٨٨٩) فى الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، من حديث عبد الرحمن بن يعمر- رضى اللّه عنه- .

(٤) صحيح: أخرجه أبو داود (١٩٠٧) فى المناسك، باب: صفة حجة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- .

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (١) الآية (٢) ، كما فى الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه-. وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته- وهو محرم- فمات، فأمر رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- أن يكفن فى ثوبيه ولا يمس بطيب، وأن يغسل بماء وسدر، ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أن اللّه يبعثه يوم القيامة يلبى (٣) . رواه البخارى ومسلم. أى يبعث على هيئته التى مات عليها.

واستدل بذلك على بقاء إحرامه، خلافا للمالكية والحنفية،

قال النووى: يتأول هذا الحديث على أن النهى عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز له تغطية وجهه، بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. انتهى. قال الحافظابن حجر: وكان وقوع المحرم المذكور عند الصخرات من عرفة، واللّه أعلم.

ولما غربت الشمس بحيث ذهبت الصفرة قليلا، حين غاب القرص، أفاض- صلى اللّه عليه وسلم- من عرفة وأردف أسامة خلفه، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده: أيها الناس السكينة السكينة، وكلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد وأفاض من طريق المأزمين. وفى رواية ابن عباس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- سمع وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل وراءه فأشار بسوطه و

قال: (أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع) (٤) ، يعنى بالإسراع.

وفى رواية أبى داود: أفاض من عرفة، وعليه السكينة، ورديفه أسامة،

__________

(١) سورة المائدة: ٣.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٢١٨) فى الحج، باب: ما جاء أن عرفة كلها موقف، وأبو داود (١٩٠٧) فى المناسك، باب: صفة حجة النبى، من حديث جابر وقد تقدم.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٤٩) فى الحج، باب: المحرم يموت يوم عرفة، ومسلم (١٢٠٦) ى الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٤) صحيح: أخرجه السنائى (٥/ ٢٥٧) فى مناسك الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة، من حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد ولفظه فإن البر ليس فى إيضاع الإبل، .

فقال: (أيها الناس، عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل) ، فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعا (١) . وفى رواية أسامة بن زيد عند الشيخين: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص (٢) ، قال هشام: والنص فوق العنق.

وأخرج الطبرانى فى المعجم عن سالم بن عبد اللّه عن أبيه: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أفاض من عرفات وهو يقول:

إليك تعدو قلقا وضنيها ... مخالف دين النصارى دينها

قال فى النهاية: والحديث مشهور بابن عمر من قوله. والقلق:

الانزعاج: والوضين: بالضاد المعجمة، حزام الرحل. ولما كان- صلى اللّه عليه وسلم- فى أثناء الطريق نزل فبال وتوضأ وضوآ خفيفا، فقال له أسامة: الصلاة يا رسول اللّه؟

قال: (الصلاة أمامك) (٣) .

فركب حتى أتى مزدلفة، وهى المسماة ب (جمع) بفتح الجيم وسكون الميم، وسميت جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها، أى دنى منها، وعن قتادة: إنما سميت جمعا لأنه يجمع فيها بين صلاتين،

وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها ويزدلفون إلى اللّه تعالى، أى يتقربون إليه بالوقوف فيها. انتهى.

فصلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بها المغرب والعشاء، كل واحدة منهما بإقامة، ولا صلى إثر كل واحدة منهما (٤) . وفى رواية: فأقام المغرب، ثم

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٩٢٠) فى المناسك، باب: الدفعة من عرفة، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٦٦) فى الحج، باب: السير إذا دفع من عرفة، ومسلم (١٢٨٦) فى الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة. من حديث أسامة بن زيد- رضى اللّه عنهما-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٣٩) فى الوضوء، باب: إسباغ الوضوء، ومسلم (١٢٨٠) فى الحج، باب: إدامة الحاج التلبية. من حديث أسامة بن زيد- رضى اللّه عنهما-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٧٣) فى الحج، باب: من جمع بينهما ولم يتطوع، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

أناخ الناس فى منازلهم ولم يجلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا (١) . وترك- صلى اللّه عليه وسلم- قيام الليل تلك الليلة، ونام حتى أصبح، لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى بعد الغروب، واجتهاده- صلى اللّه عليه وسلم- فى الدعاء، وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرا، ورقد بقية ليلته مع كونه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم فى عرفة، ولما هو بصدده يوم النحر من كونه ينحر بيده المباركة ثلاثا وستين بدنة، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى، كما نبه عليه فى شرح تقريب الأسانيد.

وعن عباس بن مرداس أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة،

فأجيب: إنى قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإنى آخذ للمظلوم منه،

قال: (أى رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم) ، فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل،

قال: فضحك- صلى اللّه عليه وسلم أو

قال: تبسم، فقال أبو بكر وعمر- رضى اللّه عنهما-: بأبى أنت وأمى، إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذى أضحكك، أضحك اللّه سنك،

قال: (إن عدو اللّه إبليس لما علم أن اللّه قد استجاب دعائى وغفر لأمتى أخذ التراب فجعل يحثو على رأسه ويدعو بالويل والثبور فأضحكنى ما رأيت من جزعه) (٢) ، رواه ابن ماجه. ورواه أبو داود من الوجه الذى رواه ابن ماجه ولم يضعفه.

وقد جاء فى بعض الروايات عن غير العباس ما يبين أن المراد من (الأمة) من وقف بعرفة. وقال القرطبى: إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها. وقد رواه البيهقى بنحو روايةابن ماجه ثم

قال: وله شواهد كثيرة، فإن صح بشواهده ففيه الحجة، وإن لم يصح فقد قال اللّه

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٨٠) وقد تقدم.

(٢) أخرجه ابن ماجه (٣٠١٣) فى المناسك، باب: الدعاء بعرفة، من حديث عباس ابن مرداس بن أبى عامر.

تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (١) وظلم بعضهم بعضا دون الشرك.

انتهى.

وقال الترمذى فى الحديث الصحيح: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) (٢) . وهو مخصوص بالمعاصى المتعلقة بحقوق اللّه تعالى خاصة دون العباد، ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق اللّه تعالى لا تسقط عنه، لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هى نفسها، فلو أخرها بعده تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق.

وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الحقوق كالصلاة يستتاب وإلا قتل، ولا يسقط حق الآدمى بالحج إجماعا. انتهى واللّه أعلم.

واستأذنت سودة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ليلة جمع، وكانت ثقيلة ثبطة فأذن لها، فقالت عائشة: فليتنى كنت استأذنت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كما استأذنته سودة، وفى رواية: فاستأذنته أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها أن تدفع قبل حطمة الناس، قالت عائشة: فلأن أكون استأذنت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كما استأذنت سودة أحب إلىّ من مفروح به (٣) . رواه البخارى: وفى رواية أبى داود والنسائى: أرسل- صلى اللّه عليه وسلم- بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. فكان ذلك اليوم اليوم الذى يكون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، تعنى عندها (٤) .

__________

(١) سورة النساء: ٤٨.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٢١) فى الحج، باب: فضل الحج المبرور، ومسلم (١٣٥٠) فى الحج، باب: فضل الحج، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٨١) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (١٢٩٠) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٤) أخرجه أبو داود (١٩٤٢) فى المناسك، باب: التعجيل من جمع، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها- .

وعند مسلم: بعث أم حبيبة من جمع بليل (١) . وفى رواية البخارى ومسلم والنسائى عن ابن عباس

قال: أرسلنى- صلى اللّه عليه وسلم- مع ضعفة أهله فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة (٢) . وفى الموطأ والصحيحين والنسائى عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلى ساعة ثم

قالت: يا بنى هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثم صلت ساعة ثم

قالت: هل غاب القمر؟ فقلت: نعم،

قالت: فارتحلوا، إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قد أذن للظعن- بالضم-:

النساء فى الهوادج (٣) .

وقد اختلف السلف فى ترك المبيت بالمزدلفة؛ فقال علقمة والنخعى والشعبى: من تركه فاته الحج، وقال عطاء والزهرى وقتادة والشافعى والكوفيون وإسحاق: عليه دم، ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف.

وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع.

انتهى. ولما طلع الفجر صلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الفجر حين تبين الصبح بأذان وإقامة.

وفى سنن البيهقى والنسائى بإسناد صحيح على شرط مسلم أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال للفضل بن العباس غداة يوم النحر: (التقط لى حصى) ، فالتقط له حصيات مثل حصى الخذف(٤) - وهو بالمعجمتين- ولم يكسرها كما يفعل من لا علم عنده. وفى رواية للنسائى قال- صلى اللّه عليه وسلم- لابن عباس، غداة النحر، وهو

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٩٢) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث أم حبيبة- رضى اللّه عنها-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٧٧) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (١٢٩٣) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن، والنسائى (٥/ ٢٦٦) فى مناسك الحج، باب: الرخصة للضعفة أن يصلوا يوم النحر الصبح بمنى. من حديث ابن عباس واللفظ للنسائى.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٧٩) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (١٢٩٢) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى اللّه عنها-.

(٤) لم أقف على رواية الفضل، ولعلها فى الكبرى، وانظر ما بعده.

- صلى اللّه عليه وسلم- على راحلته: (هات القط لى) ، فلقط حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن فى يده

قال: (بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلوّ فى الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ فى الدين) (١) .

قال العلماء: فى هذا الحديث دليل على استحباب أخذ الحصيات بالنهار، وهو رأى البغوى،

قال: ويكون ذلك بعد صلاة الصبح، نص عليه الشافعى فى (الأم) و (الإملاء) لكن الجمهور كما قال الرافعى: على استحباب الأخذ بالليل لفراغهم فيه، وهل يستحب أن يلتقط جميع ما يرمى به فى الحج، وبه جزم فى (التنبيه) وأقره عليه النووى فى تصحيحه. لكن الأكثرون كما قال الرافعى، على استحباب الأخذ ليوم النحر خاصة، ونص عليه الشافعى أيضا فى شرح (المهذب) . والاحتياط أن يزيد فربما سقط منها شئ.

انتهى.

ثم ركب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فرقى عليه فاستقبل القبلة، فحمد اللّه وكبره وهللّه ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس(٢) . وفى رواية غير جابر: وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وإن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كره ذلك، فنفر قبل طلوع الشمس.

وفى حديث على عند الطبرى: لما أصبح- صلى اللّه عليه وسلم- بالمزدلفة غدا فوقف على قزح وأردف الفضل ثم

قال: (هذا الموقف وكل المزدلفة موقف) ، حتى إذا أسفر دفع.

وفى رواية جابر: وأردف- صلى اللّه عليه وسلم- الفضل بن العباس،

قال: وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع- صلى اللّه عليه وسلم- مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يده على وجه الفضل، فحول

__________

(١) صحيح: أخرجه النسائى (٥/ ٢٦٨) فى مناسك الحج، باب: التقاط الحصى. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٢١٨) فى الحج، باب: حجة النبى من حديث جابر الطويل.

الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر (١) .

وفى رواية: كان الفضل رديف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر،

قالت: يا رسول اللّه، إن فريضة اللّه على عباده فى الحج أدركت أبى شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟

قال: (نعم) . وذلك فى حجة الوداع، رواه الشيخان وغيرهما. وقد روى أيضا من حديث عبد اللّه بن عباس، لكن رجح البخارى رواية الفضل لأنه كان رديف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حينئذ، وكان عبد اللّه بن عباس تقدم إلى منى مع الضعفة، فكأن الفضل حدث أباه بما شاهد فى تلك الحالة، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمى جمرة العقبة، فحضره عبد اللّه بن عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده، ويؤيده ما فى الترمذى: أن السؤال المذكور وقع عند المنحر، بعد الفراغ من الرمى، وأن العباس كان شاهدا. وفيه: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول اللّه، لويت عنق ابن عمك،

قال: (رأيت شابّا وشابة فلم آمن عليهما من الشيطان) . وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد اللّه أيضا كان معه.

وفى هذا الحديث دلالة على جواز النيابة فى الحج عمن لا يستطيع من الأحياء، خلافا لمالك فى ذلك، ولمن

قال: لا يحج عن أحد مطلقا كابن عمر، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه فى الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبى حنيفة خلافاللشافعى. وعن أحمد روايتان انتهى.

وفى رواية ابن عباس: أن أسامة

قال: كنت ردف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما

__________

(١) تقدم.

قال: لم يزل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يلبى حتى رمى جمرة العقبة (١) . رواه الشيخان وغيرهما.

وفى رواية جابر: فلما أتى- صلى اللّه عليه وسلم- بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير قليلا (٢) .

قال الإسنوى: سببه أن النصارى كانت تقف فيه، كما قاله الرافعى، أو العرب، كما قاله فى الوسيط، فأمر بمخالفتهم.

قال: وظهر لى فيه معنى آخر، وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، فاستحب فيه الإسراع لما ثبت فى الصحيح: أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك (٣). وقال غيره: وهذه كانت عادته- صلى اللّه عليه وسلم- فى المواضع التى نزل فيها بأس اللّه بأعدائه، وسمى وادى محسر لأن الفيل حسر فيه، أى أعيى وانقطع عن الذهاب. انتهى.

ثم سلك- صلى اللّه عليه وسلم- الطريق الوسطى التى تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التى عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.

رمى من بطن الوادى، وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة، وكان رميه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم النحر ضحى، كما قاله (٤) جابر فى رواية مسلم والترمذى وأبى داودوالنسائى.

وفى رواية أم الحصين، عند أبى داود: رأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة (٥) . وفى روايةالنسائى: ثم خطب فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر قولا كثيرا. وعن أم جندب: رأيته- صلى اللّه عليه وسلم- يرمى الجمرة من بطن الوادى، وهو راكب، يكبر مع كل حصاة، ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) صحيح: أخرجه أبو داود (١٨٣٤) فى المناسك، باب: فى المحرم يظلل، من حديث أم الحصين- رضى اللّه عنها-.

فقالوا: الفضل بن العباس. وازدحم الناس فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف) (١) . وفى هذا دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه، وقد مر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ضربت له قبة من شعر بنمرة.

وفى رواية جابر عند مسلم وأبى داود

قال: رأيته- صلى اللّه عليه وسلم- يرمى على راحلته يوم النحر، وهو يقول: (خذوا عنى مناسككم لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى هذه) (٢) . وفى رواية قدامة عند الترمذى رأيته يرمى الجمار على ناقة له صهباء، ليس ضرب ولا طرد ولا إليك إليك (٣) انتهى. ثم انصرف- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليّا فنحر ما غبر، وأشركه فى هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت فى قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها (٤) . وفى رواية جابر عند مسلم: نحر- صلى اللّه عليه وسلم- عن نسائه بقرة، وقالت عائشة: نحر- صلى اللّه عليه وسلم- عن آل محمد فى حجة الوداع بقرة واحدة (٥) . رواه أبو داود.

ثم أتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- منزله بمنى، ثم قال للحلاق: (خذ) ، وأشار بيده إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس (٦) . وفى رواية: أنه قال للحلاق: (ها) ، وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه أم سليم (٧) .

__________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٩٠٣٥) فى الحج، باب: ما جاء فى كراهية طرد الناس عند رمى الجمار، من حديث قدامة بن عبد اللّه- رضى اللّه عنه- .

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٨١٥) فى الحج، باب: ما جاءكم كم حج النبى. من حديث جابر- رضى اللّه عنه- .

(٥) تقدم.

(٦) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٠٥) فى الحج، باب: بيان أن السنة يوم النحر أن يرمى ثم ينحر ثم يحلق. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٧) تقدم فى الذى قبله.

وفى أخرى: فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر، فصنع مثل ذلك، ثم

قال: ها هنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه (١) . وفى أخرى: رمى جمرة العقبة ثم انصرف إلى البدن فنحرها والحجام جالس، وقال بيده على رأسه، فحلق الشق الأيمن فقسمه بين من يليه، ثم

قال: احلق الشق الآخر، ف

قال: أين أبو طلحة؟ فأعطاه إياه (٢) . رواه الشيخان.

وعند الإمام أحمد: أنه استدعى الحلاق فقال له وهو قائم على رأسه بالموسى، ونظر فى وجهه و

قال: يا معمر، أمكنك رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من شحمة أذنه وفى يدك الموسى،

قال: فقلت له، أما واللّه يا رسول اللّه، إن ذلك لمن نعم اللّه علىّ ومنّه،

قال: (أجل) (٣) . وقال البخارى: وزعموا أن الذى حلق للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- معمر بن عبد اللّه بن نضلة بن عوف. انتهى. وهو عند ابن خزيمة فى صحيحه، وعند الإمام أحمد: وقلم- صلى اللّه عليه وسلم- أظفاره وقسمها بين الناس.

وعنده أيضا: من حديث محمد بن زياد، أن أباه حدثه، أنه شهد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عند المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحى، فلم يصبه شئ ولا صاحبه، فحلق رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- رأسه فى ثوبه فأعطاه شعره، فقسم منه على رجال وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه، وكان يخضب بالحناء والكتم.

وعن أبى هريرة: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (اللّهم اغفر للمحلقين) ، قالوا يا رسول اللّه، وللمقصرين،

قال: (اللّهم اغفر للمحلقين) ، قالوا يا رسول اللّه، وللمقصرين،

قال: (اللّهم اغفر للمحلقين) ، قالوا يا رسول اللّه، وللمقصرين،

قال: (وللمقصرين) (٤) رواه الشيخان. وليس فيه تعيين: هل قاله- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحديبية أو فى حجة الوداع؟

__________

(١) تقدم فى الذى قبله.

(٢) تقدم فى الذى قبله.

(٣) تقدم فى الذى قبله.

(٤) تقدم.

قالوا: ولم يقع فى شئ من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ولو وقع لقطعنا بأنه كان فى حجة الوداع لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية. وقد وقع تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبى قرة فى (السنن) ومن طريقه الطبرانى فى الأوسط، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق فى المغازى. وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبى مريم السلولى عند أحمد وابن أبى شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم ومن حديث قارب بن الأسود الثقفى عند أحمد وابن أبى شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث.

والأحاديث التى فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا، وأصح إسنادا، ولهذا قال النوى عقب أحاديث ابن عمر وأبى هريرة وأم الحصين: هذه أحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت فى حجة الوداع.

قال: وهو الصحيح المشهور،

وقيل: كانت فى الحديبية، وجزم إمام الحرمين فى النهاية أن ذلك كان فى الحديبية، ثم

قال النووى: ولا يبعد أن يكون وقع ذلك فى الموضعين. انتهى. وكذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب.

قال فى فتح البارى: بل هو المتعين لتظاهر الروايات بذلك فى الموضعين، إلا أن السبب فى الموضعين مختلف، فالذى فى الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال، لما دخل عليهم من الحزن، لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم فى أنفسهم على ذلك، فخالفهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو- صلى اللّه عليه وسلم- قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعضهم وقص بعضهم، فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر، ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب فى حديث ابن عباس، فإن فى آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول اللّه، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟

قال: (لأنهم لم يشكوا) .

وأما السبب فى تكرير الدعاء للمحلقين فى حجة الوداع، فقال ابن الأثير فى (النهاية) : كان أكثر من حج معه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يسق الهدى، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها، ويحلقوا رؤسهم، شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير فى أنفسهم أخف من الحلق، ففعله أكثرهم، فرجح- صلى اللّه عليه وسلم- فعل من حلق لكونه أبين فى امتثال الأمر. انتهى.

قال الحافظ ابن حجر: وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد، لأن المتمتع يستحب فى حقه أن يقصر فى العمرة ويحلق فى الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا، وقد كان ذلك فى حقهم كذلك، والأولى ما قاله الخطابى وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعور والتزين بها، وكان الحلق فيهم قليلا، وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن فعل الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. انتهى.

وفى رواية عبد اللّه بن عمرو بن العاص: وقف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل

فقال: يا رسول اللّه، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ ف

قال: (اذبح ولا حرج) ، ثم جاء رجل آخر

فقال: يا رسول اللّه لم أشعر فنحرت قبل أن أرمى؟ ف

قال: (ارم ولا حرج) .

قال: فما سئل عن شئ قدم أو أخر إلا

قال: افعل ولا حرج (١) . رواه مسلم.

وفى رواية: حلقت قبل أن أرمى (٢) ، وفى رواية: وقف- صلى اللّه عليه وسلم- على راحلته فطفق الناس يسألونه فيقول القائل منهم: يا رسول اللّه إنى لم أكن أشعر أن الرمى قبل النحر، فنحرت قبل أن أرمى، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (فارم ولا حرج) ،

قال: فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (افعلوا ذلك ولا حرج) (٣) .

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٨٣) فى العلم، باب: الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، ومسلم (١٣٠٦) فى الحج، باب: من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمى. من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص.

(٢) تقدم فى الذى قبله.

(٣) تقدم فى الذى قبله.

وفى رواية: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- بينا هو قائم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل ف

قال: ما كنت أحسب أن كذا وكذا، قبل كذا وكذا، وفى رواية: حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمى وأشباه ذلك. وفى رواية: حلقت قبل أن أذبح، ذبحت قبل أن أرمى.

ومن المعروف أن الترتيب أولى، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمى جمرة العقبة، ثم نحر الهدى أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة مع السعى بعده، وقد تقدم أنه- صلى اللّه عليه وسلم- رمى جمرة العقبة ثم نحر ثم حلق.

وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، وأجمعوا أيضا على جواز تقديم بعضها على بعض، إلا أنهم اختلفوا فى وجوب الدم فى بعض المواضع. ومذهب الشافعى وجمهور السلف والعلماء وفقهاء الحديث: الجواز وعدم وجوب الدم لقوله- صلى اللّه عليه وسلم- للسائل: (لا حرج) ، وهو ظاهر فى رفع الإثم والفدية معا، لأن اسم الضيق يشملهما.

وقال الطحاوى: ظاهر الحديث يدل على التوسعة فى تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، إلا أنه يحتمل أن يكون قوله (لا حرج) أى لا إثم فى ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيا أوجاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية.

وتعقب: بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبا لبينه- صلى اللّه عليه وسلم- حينئذ لأنه وقت الحاجة فلا يجوز تأخير عنه. وتمسك الإمام أحمد بقوله فى الحديث (لم أشعر) وبما فى رواية يونس عند مسلم، وصالح عند أحمد فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعضها إلا

قال: (افعل ولا حرج) بأنه إذا كان ناسيا أو جاهلا فلا شئ عليه وإن كان عالما فلا.

قال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوى من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول فى الحج لقوله (خذوا عنى مناسككم) وهذه الأحاديث

المرخصة فى تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل (لم أشعر) فيختص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع فى الحج. انتهى.

وعن أبى بكرة

قال: خطبنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم النحر

قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان) . و

قال: (أى شهر هذا؟) قلنا: اللّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه،

قال: (أليس ذا الحجة؟) قلنا: بلى،

قال: (أى بلد هذا؟) قلنا: اللّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه،

قال: (أليس البلد الحرام؟)

قلنا: بلى،

قال: (فأى يوم هذا؟) قلنا: اللّه ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه،

قال: (أليس يوم النحر؟)

قلنا: بلى،

قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا فى شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعن بعدى كفارا ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟) قالوا: نعم،

قال: (اللّهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع) (١) .

رواه الشيخان. وفى رواية للبخارى: (فودع الناس) .

ووقع فى طريق .....ة عند البيهقى من حديث ابن عمر سبب ذلك، ولفظه: أنزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ (٢) على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب ووقف بالعقبة واجتمع إليه الناس ف

قال: يا أيها الناس فذكر الحديث.

وفيه دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر بمنى، وبه أخذ الشافعى ومن تبعه.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٧٤١) فى الحج، باب: الخطبة أيام منى، من حديث أبى بكرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) سورة النصر: ١.

وخالف فى ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: خطب الحج ثلاثة: سابع ذى الحجة، ويوم عرفة، وثانى يوم النحر بمنى. ووافقهم الشافعى إلا أنه

قال: بدل ثانى النحر ثالثه، لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهى يوم النحر،

قال: وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمى والذبح والحلق والطواف.

وتعقبه الطحاوى: بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج، لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا من الذى يتعلق بيوم النحر، فعلمنا أنها لم تقصد لأجل الحج.

وقال ابن بطال: إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذى اجتمع من أقاصى الدنيا، فظن الذى رآه أنه خطب.

قال: وأما ما ذكره الشافعى: أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين، لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة: انتهى.

وأجيب: بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- نبه فى الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم ذى الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة، فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة، يعكر عليه فى كونه يرى مشروعية الخطبة ثانى يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يؤتى به من أعمال الحج، لكن لما كان فى كل يوم أعمال ليست فى غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب. وأما قول الطحاوى: (إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من أسباب التحلل) فلا ينفى وقوع ذلكأو شئ منه فى نفس الأمر، بل قد ثبت من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه شهد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوى هذا النفى المطلق. انتهى.

وقد روى أبو داود والنسائى عن عبد الرحمن بن معاذ التيمى

قال: خطبنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ونحن بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن فى منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار، فوضع أصبعيه السبابتين ثم

قال: (بحصى الخذف) ، ثم أمر المهاجرين فنزلوا فى مقدم المسجد وأمر الأنصار أن ينزلوا من وراء المسجد،

قال: ثم نزل الناس بعد ذلك (١) .

وفى رواية عن عبد الرحمن بن معاذ عن رجل من أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: خطب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الناس بمنى ونزلهم منازلهم

فقال: (لينزلن المهاجرون هاهنا) ، وأشار إلى ميمنة القبلة، (والأنصار هاهنا) ، وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم

قال: (لينزل الناس حولهم) (٢) .

وعن ابن أبى نجيح عن أبيه عن رجلين من بنى بكر قالا: رأينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهى خطبة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- التى خطب بمنى، رواه أبو داود. وعن رافع بن عمرو المزنى

قال: رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحاء على بغلة شهباء، وعلى يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. رواه أبو داود أيضا.

وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن

قال: حدثتنى جدتى سراء بنت نبهان، وكانت ربة بيت فى الجاهلية، قالت خطبنا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الرؤس ف

قال: (أى يوم هذا؟) قلنا: اللّه ورسوله أعلم،

قال: (أليس أوسط أيام التشريق) (٣) . وفى رواية: أنه خطب أوسط أيام التشريق. رواه أبو داود أيضا.

ثم ركب- صلى اللّه عليه وسلم- قبل الظهر فأفاض إلى البيت فطاف طواف الإفاضة،

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٩٥١) فى المناسك، باب: النزول بمنى. .

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه أبو داود (١٩٥٣) فى المناسك، باب: أى يوم يخطب بمنى، من حديث سراء بنت نبهان .

وهو طواف الزيارة والركن والصدر (١) . وفى البخارى: ويذكر عن أبى حسان عن ابن عباس، أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يزور البيت أيام منى (٢) . وقد وصله الطبرانى من طريق قتادة عنه. وقال ابن المدينى فى (العلل) : روى قتادة حديثا غريبا لا نحفظه عن أحد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام. فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام، ولم أسمعه منه، عن أبيه عن قتادة حدثنى جدى حدثنى أبو حسان عن ابن عباس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى الحديث.

وأتى- صلى اللّه عليه وسلم- زمزم، وبنو عبد المطلب يسقون عليها،

فقال: (انزعوا بنى عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم) ، فناولوه دلوا فشرب منه (٣) . وفى رواية ابن عباس: فشرب وهو قائم (٤) ، وفى رواية: فحلف عكرمة: ما كان يومئذ إلا على بعير (٥) ، لكن لم يعين فيها حجة الوداع ولا غيرها، إنما التعيين فى رواية جابر عند مسلم. واختلف أين صلى- صلى اللّه عليه وسلم- الظهر يومئذ، ففى رواية جابر عند مسلم: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى بمكة (٦) ، وكذلك قالت عائشة. وفى حديث ابن عمر- فى الصحيحين- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى (٧) .

فرجح ابن حزم فى كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر، وتبعه على ذلك جماعة، لأنهما اثنان، وهما أولى من الواحد، ولأن عائشة أخص

__________

(١) تقدم من حديث ابن عمر أخرجه مسلم.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى فى الحج، باب: الزيارة يوم النحر، تعليقا عن ابن عباس.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (١٢١٨) فى الحج، باب: حجة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٢٧) فى الأشربة، باب: فى الشرب من زمزم قائما. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٣٧) فى الحج، باب: ما جاء فى زمزم. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٦) تقدم.

(٧) تقدم.

الناس به، ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها، ولأن سياق جابر لحجته- صلى اللّه عليه وسلم- من أولها إلى آخرها أتم سياق، وأحفظ للقصة وضبطها، حتى ضبط جزئياتها، حتى أقرّ منها ما لا يتعلق بالمناسك، وهو نزوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى الطريق فبال عند الشعب وتوضأ وضوآ خفيفا، فمن ضبط هذا القدر فهو لضبط مكان صلاته الظهر يوم النحر أولى، وأيضا: فإن حجة الوداع كانت فى (آذار) وهو تساوى الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس، ونحر بدنة وقسمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض، وطاف وشرب من ماء زمزم، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضى فى مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك الظهر فى فصل آذار.

ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر: بأنه لا يحفظ عنه فى حجته- صلى اللّه عليه وسلم- أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلى بمنزله بالمسلمين مدة مقامه، وبأن حديث ابن عمر متفق عليه، وحديث جابر من إفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصح منه، فإن رواته أحفظ وأشهر، وبأن حديث عائشة قد اضطرب فى وقت طوافه، فروى عنها أنه طاف نهارا، وفى رواية عنها: أنه أخر الطواف إلى الليل، وفى رواية عنها: أنه أفاض من آخر يومه، فلم تضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصلاة. وأيضا: فإن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع، لأن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن إسحاق مختلف فى الاحتجاج به، ولم يصرح بالسماع، بل عنعنه، فلا يقدم على حديث عبد اللّه بن عمر، انتهى.

ثم رجع- صلى اللّه عليه وسلم- إلى منى، فمكث بها ليالى أيام التشريق، يرمى الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمى الثالثة فلا يقف عندها (١) .

رواه أبو داود من حديث عائشة. وعن ابن عمر- عند الترمذى-: كان

__________

(١) أخرجه أبو داود (١٩٧٣) فى المناسك، باب: فى رمى الجمار. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

- صلى اللّه عليه وسلم- إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا (١) . وفى رواية أبى داود:

وكان يستقبل القبلة فى الجمرتين الدنيا والوسطى، ويرمى جمرة العقبة من بطن الوادى (٢) الحديث.

واستأذنه- صلى اللّه عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالى منى، من أجل السقاية فأذن له (٣) ، رواه البخارى ومسلم من رواية ابن عمر، وفى رواية الإسماعيلى: رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالى منى من أجل سقايته. وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج، لأن التعبير ب (الرخصة) يقتضى أن يقابلها: العزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أوما فى معناها لم يحصل الإذن. وبالوجوب قال الجمهور. وفى قول للشافعى، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية: أنه سنة.

ووجوب الدم بتركه مبنى على هذا الخلاف. ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل، وهل يختص الإذن بالسقاية، وبالعباس؟ الصحيح العموم، والعلة فى ذلك إعداد الماء للشاربين.

وجزم الشافعى، بإلحاق من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يتعهده، بأهل السقاية، كما جزم الجمهور: بإلحاق الرعاء خاصة، وهو قول أحمد. قالوا: ومن ترك المبيت لغير عذر وجب عليه دم عن كل ليلة.

ثم أفاض- صلى اللّه عليه وسلم- بعد الظهر يوم الثلاثاء- بعد أن أكمل رمى أيام التشريق، ولم يتعجل فى يومين- إلى المحصب، وهو الأبطح، وحده: ما بين

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٩٠٠) فى الحج، باب: ما جاء فى رمى الجمار راكبا وماشيا. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٧٥١) فى الحج، باب: ٧ ذا رمى الجمرتين يقوم ويهل مستقبل القبلة. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٧٤٥) فى الحج، باب: هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالى منى. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

الجبلين إلى المقبرة، وهو خيف بنى كنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هناك، وكان على ثقله، قال أبو رافع: لم يأمرنى- صلى اللّه عليه وسلم- أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكنى جئت فضربت فيه قبته فجاء فنزل (١) . رواه مسلم.

وفيه وفى البخارى، عن أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى الظهر والعصر يوم النفر بالأبطح (٢) . وفيهما من حديث أبى هريرة: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال- من الغد يوم النحر، وهو بمنى-: (نحن نازلون غدا بخيف بنى كنانة، حيث تقاسموا على الكفر) (٣) ، يعنى بذلك المحصب. وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بنى هاشم وبنى المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وعن ابن عباس، ليس التحصيب بشئ، إنما هو منزل نزله رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٤) ، أى: ليس التحصيب من أمر المناسك الذى يلزم فعله، لكن لما نزل به- صلى اللّه عليه وسلم- كان النزول به مستحبّا اتباعا له، لتقريره على ذلك، وقد فعله الخلفاء بعده (٥) ، كما فى مسلم.

وعن أنس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به (٦) ، رواه البخارى. وهذا

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (١٣١٣) فى الحج، باب: استحباب النزول بالمحصب يوم النفر والصلاة. من حديث أبى رافع- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٥٣) فى الحج، باب: أين يصلى الظهر يوم التروية. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٨٩) فى الحج، باب: نزول النبى بمكة. من حديث أبى هريرة.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (١٧٦٦) فى الحج، باب: المحصب. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٥) صحيح: أخرجه مسلم (١٣١٠) فى الحج، باب: استحباب النزول بالمحصب. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. ولفظه حصب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، والخلفاء بعده.

(٦) صحيح: أخرجه البخارى (١٧٥٦) فى الحج، باب: طواف الوداع. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

هو طواف الوداع، ومذهب الشافعى أنه واجب يلزم بتركه دم على الصحيح:

وهو قول أكثر العلماء. وقال مالك وداود: هو سنة لا شئ بتركه.

واختلف فى المرأة إذا حاضت بعد ما طافت طواف الإفاضة، هل عليها طواف الوداع أم لا؟ وكان ابن عباس يرخص لها أن تنفر إذا أفاضت وكان ابن عمر يقول فى أول أمره: إنها لا تنفر، ثم قال فى آخر أمره: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- رخص لهن (١) . رواه الشيخان. وعن عائشة: أن صفية بنت حيى حاضت، فذكر ذلك لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: (أحابستنا هى؟) قالوا: إنها قد أفاضت،

قال: (فلا إذن) (٢) . ومعنى أحابستنا هى؟ أى أمانعتنا من التوجه من مكة فى الوقت الذى أردنا التوجه فيه؟ ظنا منه- صلى اللّه عليه وسلم- أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك لأنه كان لا يتركها ويتوجه ولا يأمرها بالتوجه معه وهى باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثانى.

وفى رواية: فحاضت صفية، فأراد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت يا رسول اللّه إنها حائض.

قال: (أحابستنا هى؟) (٣) الحديث. وهذا مشكل، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول: (أحابستنا هى؟) وإن كان ما علم، فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثانى؟

ويجاب عنه: بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه فى طواف الإفاضة فأذن لهن، فكان بانيا على أنها قد حلت، فلما قيل له إنها حائض جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة،

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٣٠) فى الحيض، باب: المرأة تحيض بعد الإفاضة، ومسلم (١٣٢٨) فى الحج، باب: طواف الوداع وسقوطه على الحائض. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٢١١) فى الحج، باب: وجوب طواف الوداع وسقوط الحائض. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٣) تقدم.

فاستفهم عن ذلك، فأعلمته عائشة أنها طافت معهن فزال عنه ما خشيه من ذلك. انتهى.

وقالت عائشة: يا رسول اللّه، ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبى بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج (١) .

رواه الشيخان. وفى رواية لمسلم أنها وقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال لها- يعنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (قد حللت من حجك وعمرتك جميعا) ،

فقالت: يا رسول اللّه، إنى أجد فى نفسى أنى لم أطف بالبيت حين حججت،

قال: (فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم) ، وذلك ليلة الحصبة. زاد فى رواية: وكان- صلى اللّه عليه وسلم- رجلا سهلا، إذا هويت شيئا تابعها عليه (٢) .

وقد كانت عائشة قارنة، لأنها كانت قد أهلت بالعمرة، فحاضت فأمرها فأدخلت عليها الحج، وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها، فوجدت فى نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلتين، فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرنّ، وترجع هى بعمرة فى ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها.

ثم ارتحل- صلى اللّه عليه وسلم- راجعا إلى المدينة، فخرج من كدى (٣) - بضم الكاف مقصورا- وهى عند باب شبيكة، بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان.

واختلف فى المعنى الذى لأجله خالف- صلى اللّه عليه وسلم- بين طريقيه،

فقيل: ليتبرك به كل من فى طريقه،

وقيل: الحكمة فى ذلك المناسبة لجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه،

وقيل: لأن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لما دخل مكة دخل منها: وقيل غير ذلك.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٧) فى الحيض، باب: نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض، ومسلم وقد تقدم. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) تقدم.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (١٨٦٨) فى المناسك، باب: دخول مكة. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

وفى صحيح مسلم وغيره، من حديث ابن عباس: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لقى ركبا بالروحاء، ف

قال: (من القوم؟) فقالوا: المسلمون يا رسول اللّه، فرفعت امرأة صبيا لها فى محفة

فقالت: يا رسول اللّه، ألهذا حج؟

قال: (نعم ولك أجر) . ولما وصل- صلى اللّه عليه وسلم- لذى الحليفة بات بها. قال بعضهم: إن نزوله لم يكن قصدا، وإنما كان اتفاقا، حكاه القاضى إسماعيل فى أحكامه عن محمد ابن الحسن وتعقبه. والصحيح أنه كان قصدا لئلا يدخل المدينة ليلا.

فلما رأى المدينة كبر ثلاثا و

قال: (لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق اللّه وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) . ثم دخل المدينة نهارا من طريق المعرّس- بفتح الراء المشددة وبالمهملتين- وهو مكان معروف، فكل من المعرس والشجرة التى بات بها- صلى اللّه عليه وسلم- فى ذهابه إلى مكة على ستة أميال من المدينة. انتهى ملخصا من فتح البارى وغيره، واللّه أعلم.

وأما عمره- صلى اللّه عليه وسلم-، فالعمرة فى اللغة: الزيارة. ومذهب الشافعى وأحمد وغيرهما: أنها واجبة كالحج، والمشهور عن المالكية أنها تطوع وهو قول الحنفية. وقد اعتمر- صلى اللّه عليه وسلم- أربع عمر، ففى الصحيحين وسنن الترمذى وأبى داود عن قتادة

قال: سألت أنسا: كم حج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: حج حجة واحدة، واعتمر أربع عمر، عمرة فى ذى القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين (١) ، هذا لفظ رواية الترمذى وقال: حسن صحيح.

وفى رواية الصحيحين: اعتمر أربع عمر، كلهن فى ذى القعدة إلا التى مع حجته: عمرة الحديبية- أو زمن الحديبية- فى ذى القعدة، وعمرة من العام

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٨١٥) فى الحج، باب: ما جاء فى حج النبى. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه- .

المقبل فى ذى القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين فى ذى القعدة، وعمرة فى حجته (١) .

وعن محرش الكعبى: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- خرج من الجعرانة ليلا معتمرا، فدخل مكة ليلا، فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد، خرج من بطن سرف، حتى جاء مع الطريق طريق جمع ببطن سرف، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس (٢) . رواه الترمذى و

قال: حديث غريب. وعن ابن عمر

قال: اعتمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قبل أن يحج (٣) ، رواه أبو داود.

وعن عروة بن الزبير

قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمع صوتها بالسواك تستن،

قال: فقلت يا أبا عبد الرحمن، اعتمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى رجب؟

قال: نعم، فقلت لعائشة: أى أمتاه، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟

قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى رجب،

فقالت: يغفر اللّه لأبى عبد الرحمن، لعمرى ما اعتمر فى رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وأنا معه. قال عروة: وابن عمر يسمع، فما

قال: لا ولا نعم، سكت (٤) .

وفى رواية أبى داود عن عروة عن عائشة

قالت: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- اعتمر عمرتين فى ذى القعدة، وعمرة فى شوال (٥) . وفى رواية له عن مجاهد

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٧٨٠) فى الحج، باب: كم اعتمر النبى. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٩٣٥) فى الحج، باب: ما جاء فى العمرة من الجعرانة. من حديث محرش الكعبى- رضى اللّه عنه- .

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (١٩٨٦) فى المناسك، باب: العمرة. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٥٥) فى الحج، باب: بيان عدد عمر النبى وزمانهن، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٥) أخرجه أبو داود (١٩٩١) فى المناسك، باب: العمرة. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها- .

قال: سئل ابن عمر: كم اعتمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: عمرتين، فبلغ عائشة

فقالت: لقد علم أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- اعتمر ثلاثا سوى التى قرنها بحجة الوداع.

وقد ذكرت الاختلاف فيما كان- صلى اللّه عليه وسلم- محرما به فى حجة الوداع.

والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك. والمشهور عن عائشة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان مفردا، وحديثها هذا يشعر بأنه كان قارنا، وكذا ابن عمر قد أنكر على أنس لكونه

قال: (إنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان قارنا) مع أن حديثه هذا المتقدم يدل على أنه كان قارنا، لأنه لم ينقل أنه- صلى اللّه عليه وسلم- اعتمر مع حجته، ولم يكن متمتعا لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدى.

واحتاج بعضهم إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا ف

قال: إنما يجوز نسبة العمرة الرابعة إليه- صلى اللّه عليه وسلم- باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته، لا أنه- صلى اللّه عليه وسلم- اعتمرها بنفسه. وأنت إذا تأملت ما تقدم من أقوال الأئمة فى حجته- صلى اللّه عليه وسلم- من الجمع استغنيت عن هذا التأويل المتعسف.

قال بعض العلماء المحققين: وفى عدهم عمرة الحديبية التى صدّ عنها- صلى اللّه عليه وسلم- ما يدل على أنها عمرة تامة. وفيه إشارة إلى حجة قول الجمهور: أنه لا يجب القضاء على من صدّ عن البيت خلافا للحنفية، ولو كانت عمرة القضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء لأن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قاضى قريشا فيها، لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التى صدّ عنها، إذ لو كان كذلك لكانت عمرة واحدة. وأما حديث أبى داود عن عائشة: أنه اعتمر فى شوال، فإن كان محفوظا فلعله يريد عمرة الجعرانة حين خرج فى شوال، ولكن إنما أحرم فى ذى القعدة.

وأنكر ابن القيم أن يكون- صلى اللّه عليه وسلم- اعتمر فى رمضان، نعم قد أخرج الدار قطنى من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد عن أبيه عن عائشة

قالت: خرجت مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى عمرة رمضان فأفطر

وصمت وقصر وأتممت (١) ، و

قال: إن إسناده حسن. لكن يمكن حمله على أن قولها: (فى رمضان) متعلق بقولها: خرجت، ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان فى رمضان، واعتمر- صلى اللّه عليه وسلم- فى تلك السنة من الجعرانة، لكن فى ذى القعدة كما تقدم.

وأما قول ابن القيم- فى الهدى أيضا-: ولم يكن فى عمره- صلى اللّه عليه وسلم- عمرة واحدة خارجا من مكة كما يفعله كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة. وقد أقام بمكة بعد الوحى ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أحد أنه اعتمر خارجا من مكة فى تلك المدة أصلا، فالعمرة التى فعلها وشرعها هى عمرة الداخل إلى مكة لا عمرة من كان بها، فيخرج إلى الحل ليعتمر. ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها. انتهى.

فيقال عليه: بعد أن فعلته عائشة بأمره، فدل على مشروعيته. وروى الفاكهى وغيره من طريق محمد بن سيرين

قال: بلغنا أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وقت لأهل مكة التنعيم. ومن طريق عطاء

قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها.

فثبت بذلك أن ميقات العمرة الحل وأن التنعيم وغيره فى ذلك سواء واللّه أعلم.

النوع السابع من عبادته ص فى ذكر نبذة من أدعيته وأذكاره وقراءته

اختلف هل الدعاء أفضل أم تركه والاستسلام للقضاء أفضل؟ فقال الجمهور: الدعاء أفضل، وهو من أعظم العبادة، ويؤيده ما أخرجه الترمذى من حديث أنس رفعه: (الدعاء مخ العبادة) (٢) . وقد تواترت الأخبار عنه- صلى اللّه عليه وسلم- بالترغيب فى الدعاء والحث عليه.

وأخرج الترمذى وصححه ابن

__________

(١) أخرجه الدار قطنى فى (سننه) (٢/ ١٨٨) .

(٢) أخرجه الترمذى (٣٣٧١) فى الدعوات، باب: ما جاء فى فضل الدعاء، من حديث أنس- رضى اللّه عنه- .

حبان والحاكم عنه- صلى اللّه عليه وسلم- (من لم يسأل اللّه يغضب عليه) (١) . وقال عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه-: إنى لا أحمل همّ الإجابة ولكن هم الدعاء، فإذا أتممت الدعاء علمت أن الإجابة معه. وفى هذا يقول القائل:

لو لم ترد نيل ما أرجو وآمله ... من جود كفك ما عودتنى الطلبا

فإنه سبحانه وتعالى يحب تذلل عبيده بين يديه، وسؤالهم إياه، وطلبهم حوائجهم منه، وشكواهم منه إليه، وعياذتهم به منه، وفرارهم منه إليه. كما قيل:

قالوا أتشكو إليه ... ما ليس يخفى عليه

فقلت ربى يرضى ... ذل العبيد لديه

وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء، والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن

قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (٢) بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء هو العبادة (٣) .

قال الشيخ تقى الدين السبكى: الأولى حمل الدعاء فى الآية على ظاهره. وأما قوله تعالى بعد ذلك عَنْ عِبادَتِي (٤) فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا:

فالوعيد إنما هو فى حق ترك الدعاء استكبارا، ومن فعل ذلك كفر، وأما تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة فيه.

__________

(١) حسن: أخرجه الترمذى (٣٣٧٣) فى الدعوات، باب: ما جاء فى فضل الدعاء، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) سورة غافر: ٦٠.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٤٧٧) فى الدعوات، باب: ما جاء فى جامع الدعوات عن النبى من حديث فضالة بن عبيد- رضى اللّه عنه- .

(٤) سورة غافر: ٦٠.

وقال القشيرى فى (الرسالة) : اختلف أى الأمرين أولى، الدعاء أو السكوت والرضاء؟ فقيل الدعاء، وهو الذى ينبغى ترجيحه لكثرة الأدلة، ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار،

وقيل: السكوت والرضى أولى لما فى التسليم من الفضل. انتهى.

وشبهتهم: أن الداعى لا يعرف ما قدر له، فدعاؤه إن كان على وفق القدرة فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاند.

وأجيب: بأنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدر اللّه تعالى كان إذعانا لا معاندة وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء، لأن اللّه تعالى خلق الأسباب ومسبباتها. انتهى.

وقد أرشد- صلى اللّه عليه وسلم- أمته لكيفية الدعاء ف

قال: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد اللّه والثناء عليه، وليصل على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ثم ليدع بما شاء) ، رواه الترمذى من حديث فضالة بن عبيد. وقال- صلى اللّه عليه وسلم- فى رجل يدعو: (أوجب إن ختم بامين) (١) . رواه أبو داود. و

قال: (لا يقل أحدكم

اللّهم اغفر لى إن شئت،

اللّهم ارحمنى إن شئت، ولكن ليعزم على المسألة فإن اللّه لا مكره له) (٢) ، رواه البخارى وغيره.

ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه، وأن يجزم بوقوع مطلوبه، ولا يعلق ذلك بمشيئة اللّه تعالى، وإن كان مأمورا فى جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة اللّه تعالى، وقيل معنى العزم أن يحسن الظن باللّه فى الإجابة، فإنه يدعو كريما، وقد قال ابن عيينة: لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه، يعنى التقصير، فإن اللّه تعالى قد استجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين

قال: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣) . وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول:

دعوت فلم يستجب لى) رواه الشيخان وغيرهما.

__________

(١) أخرجه أبو داود (٩٣٨) فى الصلاة، باب: التأمين وراء الإمام .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٣٩) فى الدعوات، باب: ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) سورة الأعراف: ١٤.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك (١) ، رواه أبو داود من حديث عائشة: والجوامع: التى تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة، أو تجمع الثناء على اللّه تعالى وآداب المسألة.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول فى دعائه:

(اللّهم أصلح لى دينى الذى هو عصمة أمرى، وأصلح لى دنياى التى فيها معاشى، وأصلح لى آخرتى التى إليها معادى، واجعل الحياة زيادة لى فى كل خير، واجعل الموت راحة لى من كل شر)(٢) . رواه مسلم من حديث أبى هريرة.

وكان يقول:

(اللّهم انفعنى بما علمتنى، وعلمنى ما ينفعنى، وزدنى علما، الحمد للّه على كل حال، وأعوذ باللّه من حال أهل النار) (٣) . رواه الترمذى من حديث أبى هريرة.

وكان يقول:

(اللّهم متعنى بسمعى وبصرى. واجعلهما الوارث منى، وانصرنى على من ظلمنى، وخذ منه بثأرى) (٤) . رواه الترمذى من حديث أبى هريرة أيضا.

وكان أكثر دعائه: (ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (٥) . رواه الشيخان من حديث أنس.

وكان يقول: (ربّ أعنى ولا تعن على، وانصرنى ولا تنصر على، وامكر

__________

(١) تقدم تخريجه فى الذى قبله.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٢٠) فى الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه الترمذى (٣٥٩٩) فى الدعوات، باب: فى العفو والعافية. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٩٧٣) فى الدعوات، باب: متعنى بسمعى وبصرى، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه- .

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٤٥٢٢) فى تفسير القرآن، باب: ومنهم من يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة، ومسلم (٢٦٨٨) فى الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة فى الدنيا. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

لى ولا تمكر على، واهدنى وانصرى على من بغى على، رب اجعلنى لك شاكرا، لك ذاكرا، لك راهبا، مطواعا لك، مخبتا إليك، أواها منيبا، رب تقبل توبتى، واغسل حوبتى، وأجب دعوتى، وثبت حجتى، وسدد لسانى، واهد قلبى، واسلل سخيمة صدرى) (١) رواه الترمذى.

وكان يقول:

(اللّهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت،

اللّهم إنى أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أن تضلنى، أنت الحى الذى لا تموت، والجن والإنس يموتون) (٢) رواه الشيخان عن ابن عباس.

وكان يقول:

(اللّهم إنى أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى) (٣) .

رواه مسلم والترمذى من حديث ابن مسعود.

وكان يقول:

(اللّهم اغفر لى خطيئتى وجهلى، وإسرافى فى أمرى، وما أنت أعلم به منى،

اللّهم اغفر لى جدى وهزلى، وخطئى وعمدى، وكل ذلك عندى،

اللّهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شئ قدير) (٤) رواه الشيخان من حديث أبى موسى.

وكان أكثر دعائه: (يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك) (٥) . رواه الترمذى من حديث أم سلمة.

__________

(١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٥٥١) فى الدعوات، باب: فى دعاء النبى. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧١٧) فى الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٢١) فى الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٩٨) فى الدعوات، باب: قول النبى

اللّهم اغفر لى ما قدمت. من حديث عبد اللّه بن قيس- رضى اللّه عنه-.

(٥) صحيح: أخرجه الترمذى (٢١٤٠) فى القدر، باب: ما جاء فى أن القلوب بين أصبعى الرحمن، من حديث أنس- رضى اللّه عنه- .

وكان يقول:

(اللّهم عافنى فى جسدى، وعافنى فى سمعى وبصرى، واجعلهما الوارث منى، لا إله إلا اللّه الحليم الكريم، سبحان اللّه رب العرش العظيم، والحمد للّه رب العالمين) (١) رواه الترمذى.

وكان يقول:

(اللّهم اغسل خطاياى بماء الثلج والبرد، ونق قلبى من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) (٢) رواه النسائى.

وكان يقول:

(اللّهم إنى أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون) (٣) . رواه فى الموطأ.

وكان يدعو:

(اللّهم فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا، اقض عنى الدين وأغننى من الفقر، وأمتعنى بسمعى وبصرى وقوتى، وتوفنى فى سبيلك) (٤) رواه فى الموطأ.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يتعوذ فيقول:

(اللّهم إنى أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذبك من فتنة المحيا والممات) (٥) . رواه الشيخان من حديث أنس. وفى رواية أبى داود

(اللّهم إنى أعوذبك من الهم والحزن وضلع الدين وغلبة الرجال) (٦) .

__________

(١) الإسناد: أخرجه الترمذى (٣٤٨٠) فى الدعوات، باب: ما جاء فى جامع الدعوات. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) صحيح: أخرجه النسائى (١/ ٥١) فى الطهارة، باب: الوضوء بماء الثلج. من حديث عائشة وأصله فى الصحيح.

(٣) أخرجه مالك فى الموطأ فى النداء، باب: عن الدعاء فى الصلاة المكتوبة، عن مالك أنه بلغه، والترمذى (٣٢٣٣) فى تفسير القرآن، باب: ومن سورة ص. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- .

(٤) أخرجه مالك فى الموطأ (٤٩٣) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى الدعاء، عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه ... الحديث.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٢٣) فى الجهاد والسير، باب: ما يتعوذ من الجبن، ومسلم (٢٧٠٦) فى الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من العجز والكسل. من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-.

(٦) أخرجه أبو داود (١٥٥٥) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه- .

وكان يقول:

(اللّهم إنى أعوذ بك من الجذام والبرص والجنون، ومن سيئ الأسقام) (١) رواه أبو داود والنسائى، من حديث أنس.

وكان يقول:

(اللّهم إنى أعوذ بك من شر ما علمت، ومن شر ما لم أعلم) (٢) . رواه مسلم من حديث عائشة.

وكان يقول:

(اللّهم إنى أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذبك من هذه الأربع) (٣) رواه الترمذى والنسائى من حديث ابن عمرو بن العاص.

وكان يقول:

(اللّهم إنى أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك) (٤) ، رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن عمرو بن العاص أيضا.

وكان يقول:

(اللّهم إنى أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم) (٥) ، رواه أبو داود من حديث أبى هريرة.

وكان يقول:

(اللّهم إنى أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق) (٦) ، رواه أبو داود من حديث أبى هريرة أيضا.

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٥٥٤) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، والنسائى (٥٤٩٣) فى الاستعاذة، باب الاستعاذة من الجنون، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) تقدم.

(٣) صحيح: أخرجه النسائى (٨/ ٢٦٣) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، .

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٣٩) فى الذكر والدعاء، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٥) صحيح: أخرجه أبو داود (١٥٤٤) في الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٦) أخرجه أبو داود (١٥٤٦) فى الصلاة، باب: الاستعاذة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه- .

وكان يقول:

(اللّهم إنى أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة) (١) . رواه أبو داود والنسائى من حديث أبى هريرة أيضا.

وكان يقول:

(اللّهم إنى أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو، وشماتة الأعداء) (٢) . رواه النسائى.

وكان يقول:

(اللّهم إنى أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردى ومن الغرق والحرق والهرم، وأعوذ بك من أن يتخبطنى الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت فى سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا) (٣) . رواه أبو داود والنسائى من حديث أبى اليسر.

وكان يتعوذ من عين الجن والإنس، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك (٤) . رواه النسائى.

وكان إذا خاف قوما

قال: (اللّهم إنا نجعلك فى نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم) (٥) . رواه أبو داود.

وكان يعوذ الحسن والحسين ويقول- (إن أبا كما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق) - (أعوذ بكلمات اللّه التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) (٦) . رواه البخارى والترمذى.

__________

(١) حسن: أخرجه أبو داود (١٥٤٧) فى الصلاة، باب: الاستعاذة. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، .

(٢) أخرجه أبو داود (١٥٥٥) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (١٥٥٢) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى اليسر- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه النسائى (٨/ ٢٧١) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة، من عين الجان، من حديث أبى سعيد- رضى اللّه عنه-، .

(٥) صحيح: أخرجه أبو داود (١٥٣٧) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا خاف قوما، من حديث عبد اللّه بن قيس- رضى اللّه عنه-.

(٦) صحيح: أخرجه البخارى (٣٣٧١) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول اللّه تعالى: (واتخذ اللّه إبراهيم خليلا) . من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

وقد استشكل صدور هذه الأدعية ونحوها منه- صلى اللّه عليه وسلم- مع

قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ (١) ووجوب عصمته، و

أجيب: بأنه امتثل ما أمره اللّه به من تسبيحه وسؤاله المغفرة فى

قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ (٢) . ويحتمل أن يكون قاله على سبيل التواضع والاستكانة والخضوع والشكر لربه تعالى، لما علم أنه قد غفر له، ويحتمل أن يكون سؤاله ذلك لأمته وللتشريع، واللّه أعلم.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- عند الكرب- وهو ما يهجم على الإنسان مما يأخذ بنفسه ويحزنه ويغمه. - يدعو: (لا إله إلا اللّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللّه رب السماوات والأرضين ورب العرش العظيم) (٣) رواه البخارى. وفى رواية:

(لا إله إلا اللّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللّه رب السموات والأرضين ورب العرش الكريم) .

قال الطيبى: صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية، ومنه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة التى تدل على تمام القدرة، والحلم الذى يدل على العلم.

إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية.

انتهى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا همه أمر رفع رأسه إلى السماء وقال: (سبحان اللّه العظيم) . رواه الترمذى من حديث أبى هريرة.

فإن قلت: هذا ذكر ليس فيه دعاء.

فالجواب: إن التعرض للطلب تارة يكون بذكر أوصاف العبد من فقره وحاجته، وتارة بذكر أوصاف السيد من وحدانيته والثناء عليه. وقد قال أمية ابن أبى الصلت فى مدح عبد اللّه بن جدعان:

أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضك الثناء

__________

(١) سورة الفتح: ٢.

(٢) سورة النصر: ١.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٤٥) فى الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

قال سفيان الثورى: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء، فكيف بالخالق.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا كربه أمر

قال: (يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث) (١) رواه أبو داود من حديث أنس.

وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما كربنى أمر إلا تمثل لى جبريل ف

قال: يا محمد قل:

توكلت على الحى الذى لا يموت، والحمد للّه الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك، ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا) (٢) رواه الطبرانى عن أبى هريرة. وتقدم فى المقصد الثامن مزيد لذلك.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول فى الضالة:

(اللّهم رادّ الضالة وهادى الضالة أنت تهدى من الضلالة، اردد علىّ ضالتى بعزتك وسلطانك، فإنها من عطائك وفضلك) (٣) . رواه الطبرانى فى الصغير من حديث ابن عمر.

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يدعو هكذا بباطن كفيه وظاهرهما (٤) . رواه أبو داود عن أنس: وقال أبو موسى الأشعرى- كما عند البخارى- دعا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه (٥) . وعنده أيضا من حديث ابن عمر: رفع- صلى اللّه عليه وسلم- يديه ف

قال: (اللّهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد) (٦) .

__________

(١) أخرجه الترمذى (٣٥٢٤) فى الدعوات، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، وقال الترمذى: حديث غريب.

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٧/ ٥٢) و (١٠/ ٢٥٨) و

قال: رواه أبو يعلى وفيه موسى بن عبيدة الربذى وهو ......

(٣) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ١٣٣) و

قال: رواه الطبرانى فى الثلاثة، وفيه عبد الرحمن بن أبى عباد المكى، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

(٤) أخرجه أبو داود (١٤٨٧) فى الصلاة، باب: الدعاء.

(٥) أخرجه البخارى (تعليقا) فى الدعوات، باب: رفع الأيدى فى الدعاء.

(٦) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٣٩) فى المغازى، باب: بعث النبى خالد بن الوليد إلى بنى خزيمة. من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

لكن فى حديث أنس (لم يكن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يرفع يديه فى شئ من دعائه إلا فى الاستسقاء) (١) وهو حديث صحيح. ويجمع بينه وبين ما تقدم:

بأن الرفع فى الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان فى حذو الوجه مثلا، وفى الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت فى كل منهما (حتى يرى بياض إبطيه) بل يجمع: بأن تكون رؤية البياض فى الاستسقاء أبلغ منها فى غيره، وإما أن الكفين فى الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء. قال الحافظ عبد العظيم المنذرى: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح. انتهى.

وروى الإمام أحمد والحاكم وأبو داود أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يرفع يديه إذا دعا حذو منكبيه. وفى رواية ابن ماجه: وبسطهما. وهذا يقتضى أن تكونا متفرقتين مبسوطتين، لا كهيئة الاغتراف. قال الحافظ ابن حجر: غالب الأحاديث التى وردت فى رفع اليدين فى الدعاء إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء. وروى ابن عباس: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما مما يلى وجهه. رواه الطبرانى فى الكبير بسند ......

وهل يمسح بهما وجهه؟ أما فى القنوت فى الصلاة فالأصح، لا، لعدم وروده فيه، قال البيهقى: لا أحفظ فيه عن أحد من السلف شيئا، وإن روى عن بعضهم فى الدعاء خارج الصلاة، وقد روى فيه عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- خبر ..... مستعمل عند بعضهم فى الدعاء خارجها، فأما فيها فعمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس، والأولى أن لا يفعله.

وقد دعا- صلى اللّه عليه وسلم- لأنس

فقال: (اللّهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته) (٢) . رواه البخارى. وفى (الأدب المفرد) له، عن أنس

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٣١) فى الجمعة، باب: رفع الإمام يده فى الاستسقاء، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٣٤) فى الدعوات، باب: قول اللّه تعالى وصل عليهم.. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

قال: قالت أم سليم- وهى أم أنس-: خويدمك ألا تدعو له؟

فقال: (اللّهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته، واغفر له) (١) .

وفى الصحيح: إن أنسا كان فى الهجرة ابن تسع سنين، وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل- وقيل- سنة ثلاث- وله مائة وثلاث سنين. قاله خليفة وهو المعتمد. وأكثر ما قيل فى سنه: أنه بلغ مائة سنة وسبع سنين، وأقل ما قيل فيه بلغ تسعا وتسعين سنة. وأما كثرة ولده، فروي مسلم قال أنس: (فو اللّه إن مالى لكثير، وإن ولدى وولد ولدى ليعادون على نحو المائة اليوم) (٢) . وورد فى حديث رواه الشيخان (أن أنسا

قال: أخبرتنى ابنتى أمينة- بضم الهمزة وفتح الميم، وسكون المثناة التحتية، بعدها نون- أنه دفن من صلبى إلى مقدم الحجاج البصرة مائة وعشرون) .

وقال ابن قتيبة فى (المعارف) : كان بالبصرة ثلاث ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه: أبو بكرة، وخليفة بن بدر، وأنس، وزاد غيره رابعا: وهو المهلب بن أبى صفرة.

وأخرج ابن سعد عن أنس

قال: دعا لى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اللّهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره، واغفر له) ، فقد دفنت من صلبى مائة واثنين، وإن ثمرتى لتحمل فى السنة مرتين، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة، وأرجو الرابعة (٣) .

وأخرج الترمذى عن أبى العالية فى ذكر أنس: وكان له بستان يؤتى فى كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان تفوح منه رائحة المسك (٤) .

ورجاله ثقات.

ودعا- صلى اللّه عليه وسلم- لمالك بن ربيعة السلولى أن يبارك له فى ولده، فولد له

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٤٨١) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أنس. من حديث أنس بن مالك.

(٣) أخرجه ابن سعد فى (الطبقات) (٧/ ٢٠) .

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٨٣٣) فى المناقب، باب: مناقب أنس بن مالك- رضى اللّه عنه- .

ثمانون ذكرا، رواه ابن عساكر. وأرسل- صلى اللّه عليه وسلم- إلى على يوم خيبر، وكان أرمد، فتفل فى عينيه و

قال: (اللّهم أذهب عنه الحر والبرد) ،

قال: فما وجدت حرّا ولا بردا منذ ذلك اليوم، ولا رمدت عيناى (١) .

وبعث- صلى اللّه عليه وسلم- عليّا إلى اليمن قاضيا ف

قال: يا رسول اللّه، لا علم لى بالقضاء، ف

قال: (ادن منى) ، فدنا منه، فضرب يده على صدره و

قال: (اللّهم اهد قلبه وثبت لسانه) ، قال على: فو اللّه ما شككت فى قضاء بين اثنين (٢) ، رواه أبو داود وغيره.

وعاد- صلى اللّه عليه وسلم- عليّا من مرض ف

قال: (اللّهم اشفه

اللّهم عافه) ، ثم

قال: (قم) ، قال على: فما عاد لى ذلك الوجع بعد (٣) . رواه الحاكم وصححه البيهقى وأبو نعيم. ومرض أبو طالب، فعاده النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ف

قال: يا ابن أخى ادع ربك الذى تعبد أن يعافينى، ف

قال: (اللّهم اشف عمى) ، فقام أبو طالب كأنما نشط من عقال، ف

قال: يا ابن أخى، إن ربك الذى تعبد ليطيعك، ف

قال: (وأنت يا عماه لئن أطعت اللّه ليطيعنك) . رواه ابن عدى والبيهقى وأبو نعيم من حديث أنس. وتفرد به الهيثمى، وهو ...... ودعا- صلى اللّه عليه وسلم- لابن عباس:

(اللّهم فقهه فى الدين،

اللّهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل) (٤) . رواه البغوى وابن سعد. وفى البخارى:

(اللّهم علمه الكتاب) (٥) فكان عالما بالكتاب، حبر الأمة، بحر العلم، رئيس المفسرين، ترجمان القرآن، وكونه فى الدرجة العليا والمحل الأقصى لا يخفى. وقال للنابغة الجعدى لما

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٩/ ١٢٢) وعزاه للطبرانى فى الأوسط.

(٢) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٢٣١٠) فى الأحكام، باب: ذكر القضاة. من حديث على ابن أبى طالب- رضى اللّه عنه- .

(٣) أخرجه الترمذى (٣٥٦٤) فى الدعوات عن رسول اللّه، باب: فى دعاء المريض، من حديث على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه-، ولفظه..

اللّهم عافه أو اشفه- شكية الشاك- فما اشتكيت وجعى بعد قال الترمذى: وهذا حديث حسن صحيح.

(٤) صحيح: بمعناه، وانظر ما بعده.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٧٥) فى العلم، باب: قول النبى

اللّهم علمه الكتاب. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

قال:

ولا خير فى حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدرا

ولا خير فى علم إذا لم يكن له ... حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا

(لا يفضض اللّه فاك) (١) أى لا يسقط اللّه أسنانك، وتقديره: لا يسقط اللّه أسنان فيك، فحذف المضاف:

قال: فأتى عليه أكثر من مائة سنة وكان من أحسن الناس ثغرا. رواه البيهقى. وقال فيه: فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن، وفى رواية ابن أبى أسامة: وكان من أحسن الناس ثغرا وإذا سقطت له سن، نبتت له أخرى، وعند ابن السكن: فرأيت أسنان النابغة أبيض من البرد لدعوته- صلى اللّه عليه وسلم-.

وسقاه- صلى اللّه عليه وسلم- عمرو بن أحطب ماء فى قدح قوارير، فرأى فيه شعرة بيضاء فأخذها، ف

قال: (اللّهم جمله) ، فبلغ ثلاثا وتسعين سنة وما فى لحيته ورأسه شعرة بيضاء (٢) ، رواه الإمام أحمد من طريق أبى نهيك. قال أبو نهيك: فرأيته ابن أربع وتسعين سنة وليس فى لحيته شعرة بيضاء(٣) . وصححه ابن حبان والحاكم.

وأخرج البيهقى عن أنس أن يهوديّا أخذ من لحية النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: (اللّهم جمله) . فاسودت لحيته بعد أن كانت بيضاء. وقال عبد الرزاق:

أخبرنا معمر عن قتادة

قال: حلب يهودى للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- ناقة، ف

قال: (اللّهم جمله) ، فاسود شعره، حتى صار أشد سوادا من كذا وكذا. قال معمر:

وسمعت غير قتادة يذكر أنه عاش تسعين سنة فلم يشب. أخرجه ابن أبى شيبة وأبو داود فى المراسيل والبيهقى و

قال: مرسل شاهد لما قبله. وقال- صلى اللّه عليه وسلم- لابن الحمق الخزاعى، وقد سقاه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اللّهم متعه بشبابه) ، فمرت عليه ثمانون سنة ولم ير شعرة بيضاء، رواه أبو نعيم وغيره.

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ١٢٦) ، وقال: رواه البزار، وفيه يعلى بن الأشدق، وهو ......

(٢) أخرجه أحمد (٥/ ٣٤٠) من حديث أبى زيد الأنصارى- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه أحمد (٥/ ٣٤٠) من حديث أبى زيد الأنصارى- رضى اللّه عنه-.

وجاءته فاطمة وقد علاها الصفرة من الجوع، فنظر إليها- صلى اللّه عليه وسلم- ووضع يده على صدرها ثم

قال: (اللّهم مشبع الجاعة لا تجع فاطمة بنت محمد) قال عمران بن حصين: فنظرت إليها وقد علاها الدم على الصفرة فى وجهها، ولقيتها بعد

فقالت: ما جعت يا عمران، ذكره يعقوب بن سليمان الأسفراينى فى دلائل الإعجاز. ودعا- صلى اللّه عليه وسلم- لعروة بن الجعد البارقى ف

قال: (اللّهم بارك فى صفقة يمينه) قال فما اشتريت شيئا قط إلا وربحت فيه.

وقال لجرير وكان لا يثبت عل الخيل، وضرب فى صدره:

(اللّهم ثبته واجعله هاديا مهديا) . قال فما وقعت عن فرسى بعد (١) . وقال لسعد بن أبى وقاص:

(اللّهم أجب دعوته) . فكان مجاب الدعوة. رواه البيهقى والطبرانى فى الأوسط. ودعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة. رواه الشيخان عن أنس، زاد البيهقى من وجه آخر، قال عبد الرحمن: فلو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة (٢) . الحديث.

قال القاضى عياض: وقد فتح اللّه عليه ومات فحفر الذهب فى تركته بالفؤوس حتى مجلت فيه الأيدى، وأخذت كل زوجة ثمانين ألفا، وكن أربعا،

وقيل: مائة ألف،

وقيل: بل صولحت إحداهن لأنه طلقها فى مرض موته على ثمانين ألفا. وأوصى بخمسين ألفا بعد صدقاته الفاشية فى حياته، وعوارفه العظيمة، أعتق يوما ثلاثين عبدا، وتصدق مرة بعير فيها سبعمائة بعير، وردت عليه تحمل من كل شئ فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها.

وذكر المحب الطبرى، مما عزاه للصفوة عن الزهرى: أنه تصدق بشطر ماله: أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس فى سبيل اللّه، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة فى سبيل اللّه،

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٢٠) فى الجهاد والسير، باب: حرق الدور والنخيل. من حديث جرير- رضى اللّه عنه-.

(٢) أخرجه أحمد (٣/ ٢٧١) من حديث عبد الرحمن بن عوف- رضى اللّه عنه-.

وكان عامة ماله من التجارة. ودعا على مضر فأقحطوا حتى أكلوا العلهز- وهو الدم بالوبر- حتى استعطفته قريش.

ولما تلى- صلى اللّه عليه وسلم- وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) قال عتيبة بن أبى لهب.

كفرت برب النجم،

(اللّهم سلط عليه كلبا من كلابك) . فخرج عتيبة مع أصحابه فى عير إلى الشام حتى إذا كانوا بالشام زأر أسد، فجعلت فرائصه ترعد، فقيل له: من أى شئ ترتعد؟ فو اللّه ما نحن وأنت فى هذا إلا سواء، ف

قال: إن محمدا دعا على، ولا واللّه ما أظلت هذه السماء من ذى لهجة أصدق من محمد. ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يديه فيه حتى جاء النوم، فأحاطوا به وأحاطوا أنفسهم بمتاعهم، ووسطوه بينهم وناموا، فجاء الأسد يستنشق رؤسهم رجلا رجلا حتى انتهى إليه فمضغه مضغة، وهو يقول: ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس، ومات. ذكره يعقوب الأسفراينى: وتقدم فى ذكره أولاده- صلى اللّه عليه وسلم- قصة بنحو هذه.

وعن مازن الطائى، وكان بأرض عمان، قلت: يا رسول اللّه، إنى امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر والنساء، وألحت علينا السنون، فأذهبن الأموال وأهزلن الذرارى والرجال، وليس لى ولد، فادع اللّه أن يذهب عنى ما أجد ويأتينى بالحياء ويهب لى ولدا، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-:

(اللّهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وائته بالحياء، وهب له ولدا) قال مازن: فأذهب اللّه عنى كل ما كنت أجد، وأخصبت عمان وتزوجت أربع حرائر، ووهب اللّه لى حيان بن مازن. رواه البيهقى.

ولما نزل- صلى اللّه عليه وسلم- بتبوك صلى إلى نخلة فمر رجل بينه وبينها فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (قطع صلاتنا قطع اللّه أثره فأقعد فلم يقم) (٢) . رواه أبو داود والبيهقى، لكن سنده ......

__________

(١) سورة النجم: ١.

(٢) أخرجه أبو داود (٧٠٦) فى الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة .

وأكل رجل عنده بشماله ف

قال: (كل بيمينك)

قال: لا أستطيع،

قال: (لا استطعت) فما رفعها إلى فيه بعد (١) . والرجل هو بسر- بضم الموحدة وسكون المهملة- ابن راعى العير، بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية.

وطلب- صلى اللّه عليه وسلم- معاوية، فقيل له إنه يأكل، فقال فى الثانية: (لا أشبع اللّه بطنه) ، فما شبع بطنه أبدا (٢) ، رواه البيهقى من حديث ابن عباس، وكان معاوية رديفه يوما ف

قال: (يا معاوية، ما يلينى منك؟)

قال: بطنى؟

قال: (اللّهم املأه علما وحلما) . رواه البخارى فى تاريخه. وقال لابن ثروان:

(اللّهم أطل شقاءه وبقاءه) فأدرك شيخا كبيرا شقيّا يتمنى الموت.

وكم له- صلى اللّه عليه وسلم- من دعوات مستجابات، وقد أفرد القاضى عياض بابا فى الشفاء ذكر فيه طرفا منها، وكذا الإمام يوسف بن يعقوب الإسفراينى فى كتابه (دلائل الإعجاز) فكم أجابه اللّه تعالى إلى مسئوله، وأجناه من شجرة دعائه ثمرة سؤله.

وأما حديث أبى هريرة عند البخارى أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (لكل نبى دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى فى الآخرة) (٣) فقد استشكل ظاهره بما ذكرته، وبما وقع لنبينا ولكثير من الأنبياء- صلى اللّه عليهم وسلم- من الدعوات المجابة، فإن ظاهره أن لكل نبى دعوة مجابة فقط.

وأجيب: بأن المراد بالإجابة فى الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهم على رجاء الإجابة.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٢١) فى الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامها، من حديث سلمة بن عمرو بن الأكوع- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أصله فى مسلم (٢٦٠٤) فى البر والصلة، باب: من لعنه النبى أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك. من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٠٤) فى الدعوات، باب: لكل نبى دعوة مستجابة، ومسلم (١٩٩) فى الإيمان، باب: اختباء النبى دعوة الشفاعة لأمته. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

وقيل: معنى قوله (لكل نبى دعوة) أى أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى،

وقيل: لكل منهم دعوة عامة مستجابة فى أمته، إما بإهلاكهم، وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة:

فمنها ما يستجاب ومنها لا يستجاب.

وقيل: لكل نبى منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (١) وقول زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي (٢) ، وقول سليمان: رب هب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى إشارة إلى قوله: قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى إنك أنت الوهاب.

وأما قول الكرمانى فى شرحه على البخارى:

فإن قلت: هل جاز أن لا يستجاب دعاء النبى- صلى اللّه عليه وسلم قلت: لكل نبى دعوة مستجابة، وإجابة الباقى فى مشيئة اللّه تعالى، فقال العينى: هذا السؤال لا يعجبنى، فإن فيه بشاعة، وأنا لا أشك أن جميع دعوات النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مستجابة.

وقوله: (لكل نبى دعوة مستجابة) لا ينفى ذلك، لأنه ليس بمحصور. انتهى. ولم ينقل أنه- صلى اللّه عليه وسلم- دعا بشئ فلم يستجب.

وفى هذا الحديث بيان فضيلة نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- على سائر الأنبياء، حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره، - صلوات اللّه وسلامه عليهم-.

وظاهر الحديث يقتضى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أخر الدعاء والشفاعة ليوم القيامة، فذلك اليوم يدعو ويشفع، ويحتمل أن يكون المؤخر ليوم القيامة ثمرة تلك الدعوة ومنفعتها، وأما طلبها فحصل من النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى الدنيا حكاه صاحب مزيد الفتح.

وقد أمر اللّه النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بالترقى فى مراتب التوحيد بقوله:

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللّه (٣) فإنه ليس أمرا بتحصيل ذلك العلم، لأنه عالم بذلك،

__________

(١) سورة نوح: ٢٦.

(٢) سورة مريم: ٥، ٦.

(٣) سورة محمد: ١٩.

ولا بالثبات، لأنه معصوم، فتعين أن يكون للترقى فى مراتبه ومقاماته، إشارة إلى أن العلم به تعالى والسير إليه لا نهاية له أبدا، فجميع العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية فى العالم منتظم فى سلك تحقيقها، وستثمر من أفنان طواياها، ولذا اكتفى بعلمها له- صلى اللّه عليه وسلم- فى الآية فالشأن كله فى تصحيح التوحيد وتجريده وتكميله، وقد قال تعالى له- صلى اللّه عليه وسلم-: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ (١) و

قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً (٢) ، لأنه لا بد فى أول السلوك من الذكر باللسان مدة، ثم يزول الاسم ويبقى المسمى، فالدرجة الأولى هى المرادة بقوله: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ (٣) ، والمرتبة الثانية هى المرادة بقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً (٤) وفى استيفاء مباحث ذلك طول، يخرج عن الغرض، وقد تقدم جملة من أذكاره- صلى اللّه عليه وسلم- مفرقة فى الوضوء والصلاة والحج وغير ذلك.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يستغفر اللّه ويتوب إليه فى اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة (٥) . كما رواه عنه أبو هريرة عند البخارى. وظاهره أنه يطلب المغفرة، ويعزم على التوبة، ويحتمل أن يكون المراد: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجح الثانى ما أخرجه النسائى بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر: أنه سمع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (أستغفر اللّه الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه) فى المجلس قبل أن يقوم مائة مرة. وله: من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: إن كنا لنعد لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى المجلس:(رب اغفر لى وتب على إنك أنت التواب الغفور) ، مائة مرة (٦) . ويحتمل أن يريد بقوله فى حديث أبى هريرة (أكثر من سبعين

__________

(١) سورة المزمل: ٨.

(٢) سورة الأعراف: ٢٠٥.

(٣) سورة المزمل: ٨.

(٤) سورة الأعراف: ٢٠٥.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٠٧) فى الدعوات، باب: استغفار النبى فى اليوم والليلة. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٦) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٤٣٤) فى الدعوات، باب: ما يقول إذا قام من المجلس، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

مرة) المبالغة. ويحتمل أن يريد العدد بعينه، ولفظ (أكثر) مبهم، فيمكن أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور، وأنه يبلغ المائة. وقد وقع فى طريق أخرى عن أبى هريرة، من رواية معمر عن الزهرى بلفظ(إنى لأستغفر اللّه فى اليوم مائة مرة) لكن خالف معمر أصحاب الزهرى فى ذلك.

نعم أخرج النسائى أيضا من رواية محمد بن عمرو عن أبى سلمة بلفظ: (إنى لأستغفر اللّه وأتوب إليه كل يوم مائة مرة) (١) .

وأخرج النسائى أيضا من طريق عطاء، عن أبى هريرة: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- جمع الناس ف

قال: (يا أيها الناس توبوا إلى اللّه، فإنى أتوب إليه فى اليوم مائة مرة) (٢) .

واستغفاره- صلى اللّه عليه وسلم- تشريع لأمته، أو من ذنوبهم، وقيل غير ذلك، وتقدم ما ينتظم فى سلك ذلك.

فإن قلت: ما كيفية استغفاره- صلى اللّه عليه وسلم-؟.

فالجواب: أنه ورد فى حديث شداد بن أوس، عند البخارى: رفعه (سيد الاستغفار أن تقول:

اللّهم أنت ربى، لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) .

قال: (من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسى فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل موقنا بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة) (٣) فتعين أن هذه الكيفية هى الأفضل، وهو- صلى اللّه عليه وسلم- لا يترك الأفضل.

وأما قراءته- صلى اللّه عليه وسلم- وصفتها، فكانت مدّا، يمد ببسم اللّه، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم (٤) . رواه البخارى عن أنس: ونعتتها أم سلمة: قراءة

__________

(١) أخرجه النسائى فى (الكبرى) (١٠٢٦٨) .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٠٢) فى الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٠٦) فى الدعوات، باب: أفضل الاستغفار. من حديث شداد بن أوس- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٠٤٦) فى فضائل القرآن، باب: مد القراءة. من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

مفسرة حرفا حرفا (١) . رواه أبو داود والنسائى والترمذى. وقالت أيضا: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقطع قراءته، يقول: الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) ثم يقف، ثم يقول: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) ثم يقف (٤) . رواه الترمذى: وقالت حفصة:

كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها (٥) . رواه مسلم. وقال البراء: كان يقرأ فى العشاء وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (٦) فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه- صلى اللّه عليه وسلم-(٧) . رواه الشيخان.

فقد كانت قراءته- صلى اللّه عليه وسلم- ترتيلا لا هذا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفا حرفا، وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد، وكان يتغنى بقراءته، ويرجع صوته بها أحيانا، كما رجع يوم الفتح فى قراءة إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (٨) . وحكى عبد اللّه بن مغافل ترجيعه: ثلاث مرات (٩) ، ذكره البخارى.

وإذا جمعت هذا الحديث إلى قوله: (زينوا القرآن بأصواتكم) (١٠) ،

__________

(١) أخرجه الترمذى (٢٩٢٣) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء كيف كانت قراءة النبى، والنسائى (١٠٢٢) فى الافتتاح، باب: تزيين القرآن بالصوت. من حديث أم سلمة- رضى اللّه عنها-.

(٢) سورة الفاتحة: ١.

(٣) سورة الفاتحة: ٢.

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٩٢٧) فى القراآت، باب: فى فاتحة الكتاب. من حديث أم سلمة- رضى اللّه عنها- .

(٥) صحيح: أخرجه مسلم (٧٣٣) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا.

(٦) سورة التين: ١.

(٧) صحيح: أخرجه البخارى (٧٦٩) فى الأذان، باب: القراءة فى العشاء، ومسلم (٤٦٤) فى الصلاة، باب: القراءة فى العشاء. من حديث البراء- رضى اللّه عنه-.

(٨) سورة الفتح: ١.

(٩) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٨١) فى المغازى، باب: أين ركز النبى الراية يوم الفتح، من حديث عبد اللّه بن مغافل- رضى اللّه عنه-.

(١٠) صحيح: أخرجه النسائى (٢/ ١٧٩) فى الافتتاح، باب: تزيين القرآن بالصوت. من حديث البراء- رضى اللّه عنه-. .

وقوله: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) (١) . وقوله: (ما أذن اللّه لشئ كإذنه لنبى حسن الصوت يتغنى القرآن) (٢) . أى ما استمع اللّه لشئ كاستماعه لنبى يتغنى بالقرآن يتلوه يجهر به، يقال منه: أذن يأذن أذنا بالتحريك. علمت أن هذا الترجيع منه- صلى اللّه عليه وسلم- كان اختيارا، لا اضطرارا لهز الناقة له، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة لما كان داخلا تحت الاختيار، فلم يكن عبد اللّه بن مغافل يحكيه ويفعله اختيارا ليتأسى به وهو يرى هذا من هز الراحلة له حتى ينقطع صوته، ثم يقول: (كان يرجع فى قراءته) فنسب الترجيع إلى فعله، ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا.

وقد استمع- صلى اللّه عليه وسلم- ليلة لقراءة أبى موسى الأشعرى، فلما أخبره بذلك

قال: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرا. أى حسنته وزينته بصوتى تزيينا. وهذا الحديث يرد على من

قال: إن قوله (زينوا القرآن بأصواتكم) من باب القلب، أى: زينوا أصواتكم بالقرآن، فإن القلب لا وجه له. قال ابن الأثير: ويؤيد ذلك تأييدا لا شبهة فيه حديث ابن عباس: أن رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (لكل شئ حلية، وحلية القرآن حسن الصوت) (٣) . واللّه أعلم. وقد اختلف العلماء فى هذه المسألة اختلافا كثيرا يطول ذكره، وفصل النزاع فى ذلك أن ي

قال: إن التطريب والتغنى على وجهين.

أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين وتعليم، بل إذا خلا فى ذلك وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فهذا جائز وإن أعانته طبيعته على فضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا،

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٧٥٢٧) فى التوحيد، باب: قول اللّه تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به. من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٧٤٨٢) فى التوحيد، باب: قول اللّه تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده ... من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه عبد الرزاق فى الجامع، والضياء عن أنس، كما فى (..... الجامع) (٤٧٢٢) .

والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التخزين والتطريب فى القراءة. ولكن النفوس تستجلبه وتستملحه لموافقة الطبع وعدم التكلف والتصنع، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذى كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغنى المحمود، وهو الذى يتأثر به التالى والسامع.

والوجه الثانى: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، ليس فى الطبائع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعليم والتكلف، فهذه هى التى كرهها السلف وعابوها وأنكروا القراءة بها.

وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التى هى على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم اتقى للّه من أن يقرؤا بها ويسوغوها، ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرؤن بالتخزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقراءة، ويقرؤنه بسجاياهم تارة، وتطريبا أخرى، وهذا أمر فى الطباع، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضى الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه- صلى اللّه عليه وسلم-، وأخبر عن استماع اللّه لمن قرأ به، و

قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وليس المراد الاستغناء به عن غيره كما ظنه بعضهم، ولو كان كذلك لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى.

والمعروف فى كلام العرب أن التغنى إنما هو الغناء الذى هو حسن الصوت بالترجيع، كما قال الشاعر:

تغن بالشعر إذا ما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار

وروى ابن أبى شيبة عن عقبة بن عامر مرفوعا: (تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه) (١) . الحديث واللّه أعلم. وقد صح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- سمع أبا موسى الأشعرى يقرأ

__________

(١) ذكره الحافظ فى (الفتح) (٩/ ٧١) .

فقال: (لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود) (١) . يعنى من مزامير داود نفسه، كما ذكره أهل المعانى. وفى طريق آخر- كما تقدم- أن أبا موسى

قال: يا رسول اللّه، لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا (٢) . قال ابن المنير: فهذا يدل على أنه كان يستطيع أن يتلو أشجى من المزامير عند المبالغة فى التحبير، لأنه قد تلا مثلها وما بلغ الحد، فكيف لو بلغ حد استطاعته.

وقد كان داود- عليه السّلام- إذا أراد أن يتكلم على بنى إسرائيل يجوع سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا يأتى النساء، ثم يأمر سليمان فينادى فى الضواحى والنواحى والآكام والأودية والجبال: إن داود يجلس يوم كذا، ثم يخرج له منبرا إلى الصحراء، فيجلس عليه، وسليمان قائم على رأسه، فتأتى الإنس والجن والطير والوحش والهوام والعذارى والمخدرات يسمعون الذكر، فيأخذ فى الثناء على اللّه بما هو أهله، فتموت طائفة من المستمعين، ثم يأخذ فى النياحة على المذنبين فتموت طائفة، فإذا استجر الموت بالخلق قال له سليمان: يا نبى اللّه، قد استجر الموت بالناس، وقد مزقت المستمعين كل ممزق، فيخر داود مغشيّا عليه، فيحمل على سريره إلى بيته، وينادى منادى سليمان: أيها الناس، من كان له مع داود قريب أو حميم فليخرج لافتقاده، فكانت المرأة تأتى فتقف على زوجها أو ابنها أوأخيها، فتدخل به المدينة، فإذا أفاق داود فى اليوم الثانى

قال: يا سليمان، ما فعل عباد بنى إسرائيل؟ فيقول له سليمان: قد مات فلان وفلان وهلم جرا. فيضع داود يده على رأسه وينوح ويقول: يا ربّ داود، أغضبان أنت على داود حتى إنه لم يمت فيمن مات خوفا منك أو شوقا إليك؟ فلا يزال ذلك دأبه إلى المجلس الآخر، وأقام داود- عليه السّلام- على ذلك ما شاء اللّه تعالى.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٠٤٨) فى فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بالقراءة للقرآن، ومسلم (٧٩٣) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن. من حديث أبى موسى- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: وقد تقدم.

ولا تظن بما ذكرته من حال بنى إسرائيل أنهم فى ذلك أعلى من هذه الأمة، فأما المزامير فحسبك ما ذكر من حال أبى موسى الأشعرى- رضى اللّه عنه-، وأما الموت من الموعظة شوقا أو خوفا فلنا فيه طريقان:

أحدهما: أن نقول إن القوة التى أوتيتها هذه الأمة تقاوم الأحوال الواردة عليها فتتماسك الحياة، فلا تفنى القوة الجسمانية بل القوة الروحانية، والتأييدات الإلهية. فلفرط قوة هذه الأمة- إن شاء اللّه تعالى- تقارب عند سلفها الصالح ما بين حال سماع الموعظة وحال عدم سماعها، لتوالى أحوال الذكر وأطوار اليقين. وقد قال بعضهم: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

فتماسك قوة السلف عند واردات الأحوال هو الذى فرق بينهم وبين من قبلهم. ألا ترى أن داود وسليمان- عليهما السلام- وهما أصحاب المزامير- لم يتفق لهما الموت كما اتفق لمن مات، وما ذلك من تقصيرهما فى الخوف والشوق، ولكن من القوة الربانية التى أمدهما بها. ولا خلاف بأن داود- عليه السّلام- وإن لم يمت من الذكر أفضل ممن مات من أمته، وأما نواحه على كونه لم يمت فذلك من التواضع الذى يزيده شرفا، لا من التقصير عن آحاد أمته، بل لارتفاعه عنهم درجات وزلفى، وإلى هذه القوة الإلهية أشار أبو بكر الصديق- رضى اللّه عنه- وقد رأى إنسانا يبكى من الموعظة ف

قال: هكذا كنا حتى قست القلوب. عبر عن القوة بالقسوة تواضعا، ومرتبته بحمد اللّه محفوظة ومنزلته مرفوعة.

والطريق الثانى: أن نقول: قد روي ما لا يحصى كثرة عن هذه الأمة مثل ما اتفق فى مجلس داود- عليه السّلام- من موت المستمعين للذكر فى مجلس السماع قديما وحديثا، ولأبى إسحاق الثعلبى جزء فى قتلى القرآن رويناه، وعندى من ذلك جملة أرجو تدوينها، بل قد روي عن كثير من المريدين أنهم ماتوا بمجرد النظر إلى المشايخ، كما حكى أن مريدا لأبى تراب النخشبى كان يتجلى له الحق تعالى فى كل يوم مرات، فقال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد لرأيت أمرا عظيما، فلما ارتحل المريد مع شيخه أبى تراب النخشبى لأبى يزيد

ووقع بصر المريد عليه وقع ميتا، فقال له أبو تراب يا أبا يزيد نظرة منك قتلته، وقد كان يدعى رؤية الحق فقال له أبو يزيد قد كان صاحبك صادقا، وكان الحق يتجلى له على قدر مقامه، فلما رآنى تجلى له على قدر ما رأى، فلم يطق فمات. واصطلاح أهل الطريق فى التجلى معروف، وحاصله: رتبة من المعرفة جلية علية ولم يكونوا يعنون بالتجلى رؤية البصر التى قيل فيها لموسى- عليه السّلام- على خصوصيته- لَنْ تَرانِي (١) والتى قيل فيها على العموم لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (٢) . وإذا فهمت أن مرادهم الذى أثبتوه غير المعنى الذى حصل منه الناس على اليأس فى الدنيا، ووعد الخواص به فى الآخرى، فلا ضير بعد ذلك عليك. ولا طريق لسوء الظن بالقوم إليك، واللّه متولى السرائر. انتهى ملخصا.

وإذا علمت هذا فاعلم أن السماع فى طريق القوم معروف، وفى الجواذب إلى المحبة معدود وموصوف، وقد نقل إباحته أبو طالب فى (القوت) عن جماعة من الصحابة كعبد اللّه بن جعفر، وابن الزبير، والمغيرة بن شعبة ومعاوية، وكذا الجنيد، والسرى وذى النون، واحتج له الغزالى فى (الإحياء) بما يطول ذكره، خصوصا فى أوقات السرور المباحة، تأكيدا له وتهييجا، كعرس وقدوم غائب، ووليمة وعقيقة وحفظ قرآن، وختم درس أو كتاب أو تأليف.

وفى الصحيحين من حديث عائشة: أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان فى أيام منى تدففان وتضربان، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف- صلى اللّه عليه وسلم- عن وجهه وقال: (دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد) (٣) . وفى رواية: دخل على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعندى جاريتان

__________

(١) سورة الأعراف: ١٤٣.

(٢) سورة الأنعام: ١٠٣.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٩٨٨) فى الجمعة، باب: إذا فاته العيد يصلى ركعتين، ومسلم (٨٩٢) فى صلاة العيدين، باب: الرخصة فى اللعب الذى لا معصية فيه فى أيام العيد. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

تغنيان بغناء يوم بعاث- بضم الموحدة والعين المهملة آخره مثلاثة- اسم حصن للأوس، وبالمعجمة تصحيف، أى تنشدان الأشعار التى قيلت يوم بعاث، وهو حرب كان بين الأنصار، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرنى و

قال: مزمارة الشيطان عند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأقبل عليه- صلى اللّه عليه وسلم- و

قال: (دعهما) . واستدل جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بالة وبغير آلة.

وتعقب: بأن فى الحديث الآخر عند البخارى عن عائشة: (وليستا بمغنيتين) (١) فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم وعلى الحداء، ولا يسمى فاعله مغنيا، وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق لما فيه من تعريض بالفواحش أو تصريح.

قال القرطبى: قولها- يعنى عائشة-: (ليستا بمغنيتين) أى ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك.

قال: وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين، وهو الذى يحرك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا إذا كان فى شعر فيه وصف محاسن النساء أو الخمر أو غيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف فى تحريمه.

قال: وأما ما ابتدعته الصوفية فى ذلك فمن قبيل ما لا يختلف فى تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت فى كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة، وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وأن ذلك يثمر سنىّ الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة. انتهى.

والحق: أن السماع إذا وقع بصوت حسن، بشعر متضمن للصفات العلية، أو النعوت النبوية المحمدية، عريّا عن الآلات المحرمة، والحظوظ

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٩٥٢) فى الجمعة، باب: سنة العيدين لأهل الإسلام. من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

الخسيسة الغبية، والشبه الدنية، وآثار كامن المحبة الشريفة العلية، وضبط السامع نفسه ما أمكنه، بحيث لا يرفع صوته بالبكاء، ولا يظهر التواجد وهو يقدر على ضبط نفسه ما أمكنه مع العلم بما يجب للّه ورسوله ويستحيل، لئلا ينزل ما يسمعه على ما لا يليق، كان من الحسن فى غاية، ولتمام تزكية النفس نهاية. نعم تركه والاشتغال بما هو أعلى أسلم لخوف الشبهة، وللخروج من الخلاف، إلا نادرا.

وقد نقل عن الإمام الشافعى ومالك وأبى حنيفة وجماعة من العلماء ألفاظ تدل على التحريم، ولعل مرادهم ما كان فيه تهييج شيطانى، وإذا كان النظر فى السماع باعتبار تأثيره فى القلوب، لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأشخاص، واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما فى القلب، وهو لمن يرتقى لربه ترقية مثير للكامن فى النفوس من الأزل، حين خاطبنا الحق تعالى بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ (١) فما كان فى القلب من رقة ووجد وحقيقة فهو من حلاوة ذلك الخطاب، والأعضاء كلها ناطقة بذكره، مستطيبة لاسمه، فالسماع من أكبر مصايد النفوس، وإذا اقترن بألحانه المناسبة، وكان الشعر متضمنا لذكر المحبوب الحق، برز الكامن وذاعت الأسرار سيما فى أرباب البدايات.

وقد شوهد تأثير السماع حتى فى الحيوانات الغير الناطقة من الطيور والبهائم، فقد شوهد تدلى الطيور من الأغصان على أولى النغمات الفائقة، والألحان الرائقة، وهذا الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثيرا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه فى سماعه المسافة الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فتراه إذا طالت عليه البوادى، وأعياه الإعياء تحت الحمل إذا سمع منادى الحداء يمد عنقه ويصغى إلى الحادى، ويسرع فى سيره، وربما أتلف نفسه فى شدة السير وثقل الحمل، وهو لا يشعر بذلك لنشاطه.

__________

(١) سورة الأعراف: ١٧٢.

وقد حكى مما ذكره فى (الإحياء) عن أبى بكر الدينورى: أن عبدا أسود قتل جمالا كثيرة بطيب نغمته إذا حداها، وكانت محملة أحمالا ثقيلة، فقطعت مسيرة ثلاثة أيام فى ليلة واحدة، وأنه حدا على جمل غيرها بحضرته، فهام الجمل وقطع حباله وحصل له ما غيبه عن حسه، حتى خر لوجهه. فتأثير السماع محسوس، ومن لم يحركه فهو فاسد المزاج، بعيد العلاج، زائد فى غلظ الطبع وكثافته على الجمال. وإذا كانت هذا البهائم تتأثر بالنغمات، فتأثير النفوس الإنسانية أولى. وقد

قال:

نعم لولاه ما ذكر العقيق ... ولا جابت له الفلوات نوق

نعم أسعى إليك على جفونى ... تدانى الحى أو بعد الطريق

إذا كانت تحن لك المطايا ... فماذا يفعل الصب المشوق

فزبدة السماع تلطيف السر، ومن ثم وضع العارف الكبير سيدى على الوفوى حزبه المشهور على الألحان والأوزان اللطيفة، تنشيطا لقلوب المريدين وترويحا لأسرار السالكين، فإن النفوس- كما قدمناه- لها حظ من الألحان، فإذا قيلت هذه الواردات السنية الفائضة من الموارد النبوية المحمدية بهذه النغمات الفائقة والأوزان الرائقة، تشربتها العروق، وأخذ كل عضو نصيبه من ذلك المدد الوفوى المحمدى، فأثمرت شجرة خطاب الأزل بما سقيته من موارد هذه اللطائف عوارف المعارف.

تنبيه: زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد من التلاوة وأظهر تأثيرا.

والحجة عن ذلك: أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة، ولا تحتمله صفاتها المخلوقة، ولو كشف للقلوب ذرة من معناه لدهشت وتصدعت وتحيرت، والألحان مناسبة للطباع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان والأصوات بما فى الأبيات من الإشارات واللطائف، شاكل بعضها بعضا فكان أقرب إلى الحظوظ وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق. قاله أبو نصر السراج (١) .

__________

(١) هو عبد اللّه بن على الطوسى أبو نصر السراج زاهد صوفى على طريقة السنة. توفى سنة (٣٧٨ هـ) . الأعلام (٤/ ١٠٤) ، شذرات الذهب (٣/ ٩١) ، معجم المطبوعات (١٠١٧) .