٩-٢ النوع الثانى فى ذكر صلاته صاعلم أن بالصلاة يحصل تحقيق العبودية، وأداء حق الربوبية وسائر العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة. وقد جمع اللّه تعالى للمصلين فى كل ركعة ما فرق على أهل السموات، فللّه ملائكة فى الركوع منذ خلقهم اللّه تعالى لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا السجود والقيام والقعود. واجتمع فيها أيضا من العبوديات ما لم يجتمع فى غيرها، منها: الطهارة والصمت واستقبال القبلة، والاستفتاح بالتكبير، والقراءة والقيام __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٨) فى الغسل، باب: الجنب يتوضأ ثم ينام، ومسلم (٣٠٥) فى الحيض، باب: جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له. والركوع والسجود، والتسبيح فى الركوع، والدعاء فى السجود، إلى غير ذلك. فهى مجموع عبادات عديدة، لأن الذكر بمجرده عبادة، والقراءة بمجردها عبادة وكذا كل فرد فرد. وقد أمر اللّه تعالى نبيه بالصلاة فى قوله سبحانه: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ (١) ، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها (٢) . وفى ذلك- كما نبه عليه صاحب كتاب التنوير (٣) : أمدنا اللّه بمدده- إشارة إلى أن فى الصلاة تكليفا للنفوس شاقّا عليها، لأنها تأتى فى أوقات ملاذّ العباد وأشغالهم، فيطالبون بالخروج عن ذلك كله إلى القيام بين يديه، والفراغ مما سوى اللّه تعالى، فلذلك قال تعالى: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها (٤) . قال: ومما يدل على أن فى القيام بالصلاة تكاليف العبودية وأن القيام بها على خلاف ما تقتضيه البشرية، قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (٥) . فجعل الصبر والصلاة مقترنين إشارة إلى أنه يحتاج فى الصلاة إلى الصبر، صبر على ملازمة أوقاتها، وصبر على القيام بمسنوناتها وواجباتها، وصبر يمنع القلوب فيها من غفلاتها، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (٦) فأفرد الصلاة بالذكر ولم يفرد الصبر، إذ لو كان كذلك ل قال: وإنه لكبير، فذلك يدل على ما قلنا، أو لأن الصبر والصلاة مقترنان متلازمان، فكان أحدهما هو عين الآخر، كما قال تعالى فى الآية الآخرى: وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (٧) . انتهى ملخصا. ثم إن الكلام فيها ينقسم إلى خمسة أقسام: __________ (١) سورة العنكبوت: ٤٥. (٢) سورة طه: ١٣٢. (٣) هو: كتاب (التنوير فى إسقاط التدبير) لابن عطاء اللّه الإسكندرانى المتوفى سنة (٧٠٩ هـ) . انظر كشف الظنون لحاجى خليفة (١/ ٥٠٢) . (٤) سورة طه: ١٣٢. (٥) سورة البقرة: ٤٥. (٦) سورة البقرة: ٤٥. (٧) سورة التوبة: ٦٢. [القسم الأول] فى الفرائض وما يتعلق بها وفيه أبوابالباب الأول فى الصلوات الخمس وفيه فصول:الفصل الأول فى فرضهاعن أنس قال: فرضت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ليلة أسرى به خمسون صلاة، ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نادى: يا محمد إنه لا يبدل القول لدى، وإن لك بهذه الخمس خمسين (١) . رواهالترمذى هكذا مختصرا، ورواه البخارى ومسلم من حديث طويل تقدم فى مقصد الإسراء مع ما فيه من المباحث. وعن ابن عباس قال: فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين، وفى الخوف ركعة (٢) . رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقوله: (فى الخوف ركعة) محمول على أن المراد ركعة مع الإمام وينفرد بالآخرى. وعن عائشة: فرض اللّه الصلاة- حين فرضها- ركعتين ركعتين، ثم أتمها فى الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى (٣) . رواه __________ (١) صحيح: وقد تقدم. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٦٨٧) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (١) ، وأبو داود (١٢٤٧) فى الصلاة، باب: من قال يصلى بكل طائفة ركعة ولا يقضون، والنسائى (٣/ ١١٨) فى أول كتاب تقصير الصلاة فى السفر. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٠) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة فى الإسراء، وأطرافه (١٠٩٠ و ٣٩٣٥) ، ومسلم (٦٨٥) فى أول صلاة المسافرين. البخارى. وعنده- فى كتاب الهجرة- من طريق معمر عن الزهرى، عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر- صلى اللّه عليه وسلم- ففرضت أربعا. فعيّن فى هذه الرواية أن الزيادة فى قوله فى الحديث الذى قبله (وزيد فى صلاة الحضر) وقعت بالمدينة. وقد أخذ بظاهر هذا الحديث الحنفية، وبنوا عليه: أن القصر فى السفر عزيمة لا رخصة. واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ (١) ، لأن نفى الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شئ أطول منه، ويدل على أنه رخصة أيضا قوله- عليه الصلاة والسلام-: (صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته) (٢) رواه مسلم. وأما خبر: فرضت الصلاة ركعتين، أى فى السفر فمعناه: لمن أراد الاقتصار عليهما، جمعا بين الأخبار. قاله فى المجموع. الفصل الثانى فى ذكر تعيين الأوقات التى صلى فيها- صلى اللّه عليه وسلم- الصلوات الخمسعن جابر: أن جبريل- عليه الصلاة والسلام- أتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم-، فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل ظل شخصه، فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فصلى العصر، ثم أتاه جبريل حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فصلى المغرب، ثم تاه جبريل حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدمجبريل ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فصلى الغداة. __________ (١) سورة النساء: ١٠١. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٦٨٥) فى أول صلاة المسافرين، من حديث عمر- رضى اللّه عنه-. ثم أتاه فى اليوم الثانى حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثلى شخصه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة وصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة. ثم قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت (١) . رواه النسائى. وفى رواية قال: خرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فصلى الظهر حين زالت الشمس، وكان الفئ قدر الشراك، ثم صلى العصر حين كان الفئ قدر الشراك، وظل الرجل مثله، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين الفجر، ثم صلى الغداة- أى الظهر- حين كان الظل طول الرجل، ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل- شك أحد رواته- ثم صلى الفجر فأسفر. وعن ابن عباس: قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أمّنى جبريل عند البيت مرتين، فصلى بى الظهر فى الأولى حين كان الفئ مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم) (٢) . __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (١٥٠) فى الصلاة، باب: ما جاء فى مواقيت الصلاة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والنسائى (١/ ٢٥١- ٢٥٢) فى المواقيت، باب: أول وقت العصر، و (١/ ٢٥٥- ٢٥٦) ، باب: آخر وقت العصر، و (١/ ٢٦١) باب: آخر وقت المغرب، و (١/ ٢٦٣) باب: أول وقت العشاء، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٣٣٠ و ٣٥١). (٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٩٣) فى الصلاة، باب: فى المواقيت، والترمذى (١٤٩) فى الصلاة، باب: ما جاء فى مواقيت الصلاة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأحمد فى (المسند) (١/٣٣٣). وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شئ مثله كوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثليه، ثم صلى المغرب كوقت الأولى، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت إلى جبريل ف قال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين، رواه الترمذى وغيره. وقوله: (صلى بى الظهر حين كان ظل كل شئ مثله) أى فرغ منها حينئذ، كما شرع فى العصر فى اليوم الأول، وحينئذ فلا اشتراك بينهما فى وقت، ويدل له حديث مسلم (وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم تحضر العصر) . وقوله فى حديث جابر (فصلى الظهر حين زالت الشمس) يقتضى جواز فعل الظهر إذا زالت الشمس، ولا ينتظر بها وجوبا ولا ندبا مصير الفئ، مثل الشراك، كما اتفقت عليه أئمتنا ودلت عليه الأخبار الصحيحة، وأما حديث ابن عباس فالمراد به أنه حين زالت الشمس كان الفئ حينئذ مثل الشراك، لا أنه أخر إلى أن صار مثل الشراك. ذكره فى المجموع. وقد بيّن ابن إسحاق فى المغازى أن صلاة جبريل به- صلى اللّه عليه وسلم- كانت صبيحة الليلة التى فرضت الصلاة فيها، وهى ليلة الإسراء. ولفظه: قال نافع ابن جبير وغيره: لما أصبح- صلى اللّه عليه وسلم- من الليلة التى أسرى به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت (الأولى) - أى صلاة الظهر- فأمر فصيح بأصحابه: (الصلاة جامعة) ، فاجتمعوا فصلى به جبريلوصلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بأصحابه فذكر الحديث. وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وإنما دعاهم بقوله: (الصلاة جامعة) لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ. واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره. ويجاب عنه بما يجاب عن قصة أبى بكر فى صلاته خلف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغا فقط، كما سيأتى تقريره- إن شاء اللّه تعالى-. وقد صلى- صلى اللّه عليه وسلم- العصر والشمس فى حجرة عائشة لم يظهر الفئ من حجرتها (١) . رواه البخارى ومسلم. وقال أنس: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالى فيأتيهم والشمس مرتفعة (٢) ، وبعض العوالى من المدينة على أربعة أميال. رواه البخارى. وفى ذلك دليل على تعجيله- صلى اللّه عليه وسلم- بصلاة العصر، لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضى مسافة أربعة أميال، والمراد بالشمس ضوؤها وعن سلمة بن الأكوع أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يصلى المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب (٣) . رواه البخارى ومسلم والترمذى. وعن رافع بن خديج: كنا نصلى المغرب معه- صلى اللّه عليه وسلم- فينصرف أحدنا، وإنه ليرى مواقع نبله (٤) . رواه البخارى ومسلم. والنبل- بفتح النون-: السهام العربية: أى يبصر مواقع سهامه إذا رمى بها، ومقتضاه المبادرة بالمغرب فى أول وقتها، بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باق. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل (٥) . رواه __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٤٥) فى المواقيت، باب: وقت العصر، ومسلم (٦١١) فى المساجد، باب: أوقات الصلوات الخمس. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٤٨ و ٥٥٠ و ٥٥١) فى المواقيت، باب: وقت العصر، ومسلم (٦٢١) فى المساجد، باب: استحباب التبكير بالعصر. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦١) فى المواقيت، باب: وقت المغرب، ومسلم (٦٣٦) فى المساجد، باب: بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس، وأبو داود (٤١٧) فى الصلاة، باب: فى وقت المغرب، والترمذى (١٦٤) فى الصلاة، باب: ما جاء فى وقت المغرب، وابن ماجه (٦٨٨) فى الصلاة، باب: وقت صلاة المغرب. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٥٩) فى المواقيت، باب: وقت المغرب، ومسلم (٦٣٧) فى المساجد، باب: بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس. (٥) صحيح: أخرجه النسائى (١/ ٢٤٨) فى المواقيت، باب: تعجيل الظهر فى البرد، وللبخارى نحوه أخرجه برقم (٥٦٠) من حديث جابر- رضى اللّه عنه-. النسائى من حديث أنس. ويؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية (١) . رواه أبو داود من رواية على بن شيبان. وقال- عليه الصلاة والسلام-: (إذا قدّم العشاء فابدؤوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم) (٢) ، رواه البخارى ومسلم. وعند أبى داود: (ولا تؤخروا الصلاة لطعام ولا غيره) (٣) . واعتم- صلى اللّه عليه وسلم- بالعشاء ليلة، حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: (ما ينتظرها من أهل الأرض أحد غيركم) ، قال: ولا تصلى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول (٤) . زاد فى رواية: وذلك قبل أن يفشوا الإسلام. وفى رواية: فخرج ورأسه تقطر ماء يقول: (لولا أن أشق على أمتى، أو على الناس، لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة) (٥) . رواه البخارى ومسلم. وفى رواية أبى داود من حديث أبى سعيد: فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، ف قال: (خذوا مقاعدكم) ، فأخذنا مقاعدنا، ف قال: (إن الناس قد صلوها وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتم الصلاة، __________ (١) أخرجه أبو داود (٤٠٨) فى الصلاة، باب: فى وقت صلاة العصر. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٧٢) فى الأذان، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم (٥٥٧) فى المساجد، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذى يريد أكله فى الحال، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. (٣) أخرجه أبو داود عن جابر كما فى (..... الجامع) (٦١٨٢) . (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٦) فى المواقيت، باب: فضل العشاء، وأطرافه (٥٦٩ و ٨٦٢ و ٨٦٤) ، ومسلم (٦٣٨) فى المساجد، باب: وقت العشاء وتأخيرها، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (٧٢٣٩) فى التمنى، باب: ما يجوز من اللّهو، ومسلم (٦٣٩) فى المساجد، باب: وقت العشاء وتأخيرها، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. ولولا ضعف ال.....، وسقم السقيم لآخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل) (١) . وفى حديث أبى هريرة: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه) (٢) ، صححه الترمذى. فعلى هذا: من وجد به قوة على تأخيرها ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمورين فالتأخير فى حقه أفضل. وقد قرر النووى ذلك فى شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث منالشافعية وغيرهم. وقال الطحاوى: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعى فى الجديد. وقال فى القديم: التعجيل أفضل. وكذا قال فى (الإملاء) وصححه النووى فى جماعة، وقالوا: إنه مما يفتى به على القديم. وتعقب: بأنه ذكره فى (الإملاء) وهو من كتبه الجديدة. والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، قاله فى فتح البارى. الفصل الثالث فى ذكر كيفية صلاته ص وفيه فروع:الفروع الأول: فى صفة افتتاحه صلى اللّه عليه وسلم روى أبو داود أنه- عليه الصلاة والسلام- سمع بلالا يقيم الصلاة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال: (أقامها اللّه وأدامها) (٣) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٢٢) في الصلاة، باب: فى وقت العشاء الآخرة. (٢) صحيح: أخرجه الترمذى (١٦٧) فى الصلاة، باب: ما جاء فى تأخير صلاة العشاء الآخرة، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح، وهو كما قال. (٣) أخرجه أبو داود (٥٢٨) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع الإقامة، والبيهقى فى (الكبرى) (١/ ٤١١) من حديث أبى أمامة أو بعض أصحاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، بسند فيه محمد بن ثابت العبدى، ..... الحديث، وشهر بن حوشب وقد تكلم فيه غير واحد، وكذا الرجل الذى بينهما مجهول، وانظر (الإرواء) (٢٤١) . يفتتح الصلاة بالتكبير. رواه عبد الرزاق من حديث عائشة. وروى البخارى عن ابن عمر قال: رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- افتتح التكبير فى الصلاة (١) . واستدل بهما على تعيين لفظ (التكبير) دون غيره من ألفاظ التعظيم، وهو قول الجمهور، ووافقهم أبو يوسف. وعن الحنفية: تنعقد بكل لفظ يقصد به التعظيم. وقد روى البزار بإسناد صحيح، على شرط مسلم، عن على أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا قام إلى الصلاة قال: (اللّه أكبر) . ولأحمد والنسائى من طريق واسع بن حبان أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: اللّه أكبر كلما وضع ورفع (٢) . وليعلم أن تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل شرط، وهو مذهب الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقيل سنة، قال ابن المنذر: ولم يقل به أحد غير الزهرى. ولم يختلف أحد فى إيجاب النية فى الصلاة. قال البخارى- فى أواخر الإيمان-: باب ما جاء فى قوله- صلى اللّه عليه وسلم- الأعمال بالنية، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة (٣) . وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة قال: اللّه أكبر، ولم يقل شيئا قبلها، ولا تلفظ بالنية، ولا قال: أصلى صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما، ولا أداء ولا قضاء، ولا فرض الوقت. قال: وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ..... ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة البتة، بل ولا عن أحد من الصحابة، ولا استحبه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة. وقالالشافعى: (إنها ليست كالصيام فلا يدخل أحد فيها إلا بذكر) أى تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعى أمرا لم يفعله- صلى اللّه عليه وسلم- فى صلاة واحدة، ولا أحد من أصحابه. انتهى. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٧٣٩) فى الأذان، باب: رفع اليدين إذا قام من الركعتين. (٢) صحيح: أخرجه النسائى (٣/ ٦٢) فى السهو، باب: كيف السلام على اليمين، وأحمد فى (المسند) (٢/ ٧١ و ١٥٢). (٣) انظر الباب رقم (٣٩) ، من كتاب الإيمان. وعبارة الشافعى فى كتاب المناسك: (ولو نوى الإحرام بقلبه، ولم يلب أجزأة، وليس كالصلاة، لأن فى أولها نطقا واجبا) ، هذا نصه. وقد قال الشيخ أبو على السنجى فى شرح التلخيص، وابن الرفعة فى المطلب، والزركشى فى الديباج وغيرهم: إنما أراد الشافعى بذلك تكبيرة الإحرام فقط، انتهى. وبالجملة: فلم ينقل أحد أنه- صلى اللّه عليه وسلم- تلفظ بالنية، ولا علّم أحدا من أصحابه التلفظ بها، ولا أقره على ذلك. بل المنقول عنه فى السنن أنه قال: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) (١) . وفى الصحيحين أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما علم المسئ صلاته قال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ) فلم يأمره بالتلفظ بشئ قبل التكبير. نعم اختلف العلماء فى التلفظ بها: فقال قائلون: هو بدعة لأنه لم ينقل فعله. وقال آخرون: هو مستحب، لأنه عون على استحضار النية القلبية، وعبادة للسان، كما أنه عبودية للقلب، والأفعال المعنوية عبودية الجوارح. وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقى الدين السبكى والحافظ عماد الدين بن كثير. وأطنب ابن القيم- فى غير الهدى- فى رد الاستحباب، وأكثر فى الاستدلال بما فى ذكره طول يخرجنا عن المقصود، لا سيما والذى استقر عليه أصحابنا استحباب النطق بها. وقاسه بعضهم على ما فى الصحيحين، من حديث أنس: أنه سمع __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٦١) فى الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذى (٣) فى الطهارة، باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (٢٧٥) فى الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٢٠٣) من حديث على- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: وحديث المسئ صلاته عند البخارى (٧٥٧) فى الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام المأموم، وأطرافه (٧٩٣ و ٦٢٥١ و ٦٦٦٧) ، ومسلم (٣٩٧) فى الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يلبى بالحج والعمرة جميعا، يقول: (لبيك عمرة وحجّا) (١) وفى البخارى من حديث عمر: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول- وهو بوادى العقيق-:(أتانى الليلة آت من ربى ف قال: صل فى هذا الوادى المبارك وقل: عمرة فى حجة) (٢) . وهذا تصريح باللفظ، والحكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس. ولكن تعقب هذا بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال ذلك فى ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ويقصدونه من النسك، وامتثالا للأمر الذى جاءه من ربه تعالى فى ذلك الوادى، ولقد صلى- صلى اللّه عليه وسلم- أكثر من ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال: نويت أصلى صلاة كذا وكذا، وتركه سنة، كما أن فعله سنة، فليس لنا أن نسوى بين ما فعله وتركه، فنأتى من القول فى الموضع الذى تركه بنظير ما أتى به فى الموضع الذى فعله، والفرق بين الحج والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما على الآخر. انتهى ما قاله هذا المتعقب فليتأمل. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، فإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك. وفى رواية: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا، و قال: (سمع اللّه لمن حمده ربنا ولك الحمد) . وفى أخرى: نحوه و قال: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع من السجود (٣) . رواه البخارى ومسلم. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٥١) فى الحج، باب: التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإحلال، ومسلم (١٢٥١) فى الحج، باب: إحلال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهديه، واللفظ له. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٣٤) فى الحج، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (العقيق واد مبارك) . (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٧٣٥) فى الأذان، باب: رفع اليدين فى التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، وأطرافه (٧٣٦ و ٧٣٨ و ٧٣٩) ، ومسلم (٣٩٠) فى الصلاة، باب: استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. وعند أبى داود من حديث علقمة: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قام من سجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح (١) . وهو قطعة من حديث رواه أيضاالترمذى. وكان يكبر فى كل خفض ورفع. رواه مالك. وقال النووى: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا فيما سواها: فقال الشافعى وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة: يستحب أيضا رفعهما عند الركوع، وعند الرفع منه. وهو رواية عن مالك. وللشافعى قول: أنه يستحب رفعهما فى موضع رابع وهو: إذا قام من التشهد الأول. وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر عنه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه كان يفعله (٢) . رواه البخارى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يضع يده اليمنى على اليسرى (٣) ، رواه أبو داود. ومذهب الشافعى والأكثرين: أن المصلى إذا وضع يديه حطهما تحت صدره فوق سرته. وقال أبو حنيفة وبعض الشافعية: تحت سرته. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة، فقال له أبو هريرة: يا رسول اللّه، بأبى أنت وأمى، إسكاتتك بين التكبير وبين القراءة ما تقول؟ قال: (أقول اللّهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللّهم نقنى من خطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللّهم اغسل خطاياى بالماء والثلج والبرد) (٤) . رواه البخارى ومسلم. __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٧٣٠) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، والترمذى (٣٠٤) فى الصلاة، باب: منه، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى اللّه عنه-، ولم أقف على حديث علقمة. (٢) صحيح: وقد تقدم حديث ابن عمر قبل حديث. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٤٠١) فى الصلاة، باب: وضع اليد اليمنى على اليسرى، وأبو داود (٧٢٣) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الصلاة، وأطرافه (٧٢٦ و ٧٢٧ و ٩٥٧) من حديث وائل بن حجر- رضى اللّه عنه- (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٧٤٤) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (٥٩٨) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام. وعن على: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة- وفى رواية: إذا افتتح الصلاة- كبر، ثم قال: (وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى للّه رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللّهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربى وأنا عبدك، ظلمت نفسى، واعترفت بذنبى فاغفر لى ذنوبى جميعا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدنى لأحسن الأخلاق، لا يهدى لأحسنها إلا أنت، واصرف عنى سيئها، لا يصرف عنى سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله فى يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك) (١) ، الحديث رواه مسلم. وعن عائشة: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا افتتح الصلاة قال: (سبحانك اللّهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) (٢) . رواه الترمذى وأبو داود. وعن جبير بن مطعم أنه رأى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى صلاة قال: (اللّه أكبر كبيرا ثلاث مرات (٣) ، والحمد للّه كثيرا، وسبحان اللّه بكرة وأصيلا، __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٧٧١) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه. (٢) أخرجه أبو داود (٧٧٦) فى الصلاة، باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك اللّهم وبحمدك، والترمذى (٢٤٣) فى الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة، وابن ماجه (٨٠٦) فى إقامة الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، بسند رجاله ثقات إلا أنه منقطع حيث إن الراوى عن عائشة أبو الجوزاء، لم يسمع منها شيئا على الراجح، وهو عند مسلم (٣٩٩) فى الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة، عن عمر موقوفا عليه، إلا أن الراوى عنه عبدة بن أبى لبابة، لا يعرف له سماع عنه أيضا، وإنما سمع من ابنه عبد اللّه بن عمر، ويقال رأى عمر رؤية، ولذلك قال الشوكانى فى (النيل) (٢/٢٨٠) : ولا يخفى أن ما صح عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أولى بالإيثار والاختيار. وأصح ما روى فى الاستفتاح حديث أبى هريرة المتقدم ثم حديث على، وأما حديث عائشة فقد عرفت ما فيه من المقال. ا. هـ. (٣) زيادة من مصدر التخريج. أعوذ باللّه من الشيطان، من نفخه ونفثه وهمزه) (١) . قال عمرو (٢) : نفخه الكبر، ونفثه الشعر، وهمزه الموتة (٣) . رواه أبو داود. وعن محمد بن مسلمة (٤) قال: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا قام يصلى تطوعا قال: (اللّه أكبر، وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) (٥) . وذكر الحديث مثل حديث جابر إلا أنه قال: وأنا من المسلمين، ثم قال: (اللّهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك) ، ثم يقرأ. رواه النسائى. الفرع الثانى: فى ذكر قراءته ص البسملة فى أول الفاتحة روى عن ابن عباس قال: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يفتتح الصلاة ببسم اللّه __________ (١) مرفوعا: أخرجه أبو داود (٧٦٤) فى الصلاة، باب: ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وابن ماجه (٨٠٧) فى إقامة الصلاة، باب: الاستعاذة فى الصلاة، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٨٠) بسند فيه عاصم العنزى، قال البخارى: لا يصلح، قاله الحافظ فى (التهذيب) (٥/ ٤٨) إلا أنه عند مسلم (٦٠١) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام عن ابن عمر قال: بينما نحن نصلى مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذ قال رجل من القوم: اللّه أكبر كبيرا والحمد للّه كثيرا وسبحان اللّه بكرة وأصيلا فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (من القائل كلمة كذا وكذا) ، قال رجل من القوم: أنا يا رسول اللّه. قال: (عجبت لها فتحت لها أبواب السماء) . قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول ذلك. (٢) فى الأصل: (ابن عمر) ، والصواب عمرو، وهو عمرو بن برة أحد رواة الحديث. (٣) الموتة: بضم الميم، ضرب من الجنون. (٤) هو الصحابى الجليل، محمد بن مسلمة الأوسى الأنصارى الحارثى، أبو عبد الرحمن المدنى حليف بنى عبد الأشهل، أسلم قديما على يد مصعب بن عمير، شهد المشاهد كلها بدرا وما بعدها إلا غزوة تبوك وتخلف عنها بإذن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، كان من فضلاء الصحابة، وممن اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفين، كان عمر يرسله فى المعضلات لبيان الأمر، كما حدث فى قصة سعد بن أبى وقاص حين بنى القصر بالكوفة، مات سنة ٤٣ هـ بالمدينة، وله ٧٧ سنة. (٥) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (١٩/ ٢٢١) . الرحمن الرحيم (١) . رواه أبو داود. وقال الترمذى: ليس إسناده بذاك. ورواه الحاكم عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم (٢) . ثم قال: صحيح. وفى صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قرأ البسملة أول الفاتحة فى الصلاة، وعدها آية (٣) ، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخى، وفيه ضعف عن ابن جريج عن ابن أبى مليكة عنها. وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه فى تفسيره عن أبى هريرة قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (الحمد للّه رب العالمين سبع آيات، بسم اللّه الرحمن الرحيم إحداهن، وهى السبع المثانى والقرآن العظيم، وهى أم الكتاب) ورواه الدار قطنى عن أبى هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله (٤) ، وقال: رواته كلهم ثقات. وروى البيهقى عن على وابن عباس وأبى هريرة أنهم فسروا قوله سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي (٥) بالفاتحة، وأن البسملة هى الآية السابعة منها (٦) . وعن شعبة عن قتادة عن أنس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة ب الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ (٧) (٨) . رواه البخارى، أى كانوا __________ (١) أخرجه الترمذى (٢٤٥) فى الصلاة، باب: من رأى الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، و قال: ليس إسناده بذاك، وهو كما قال. (٢) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (١/ ٣٢٦) ، وهو مخالف لما فى الصحيحين. (٣) إسناده ..... لضعف عمر بن هارون البلخى، كما ذكر المصنف. (٤) مرفوعا: أخرجه الدار قطنى فى (سننه) (١/ ٣١٢) وقال: قال أبو بكر الحنفى: ثم لقيت نوحا فحدثنى عن سعيد بن أبى سعيد المقبرى عن أبى هريرة بمثله، ولم يرفعه. ا. هـ. قلت: والذى رفعه عبد الحميد بن جعفر، صدوق له أوهام، ولعل ذلك منها. (٥) سورة الحجر: ٨٧. (٦) انظر سنن البيهقى (الكبرى) (٢/ ٤٥) . (٧) سورة الفاتحة: ١. (٨) صحيح: أخرجه البخارى (٧٤٣) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (٣٩٩) فى الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة. يفتتحون بالفاتحة. وفى رواية مسلم: فلم أسمع أحدا منهم قرأ ببسم اللّه الرحمن الرحيم (١) . كذا أخرجه مسلم وغيره. لكنه معلول أعله الحفاظ، كما هو فى كتب علوم الحديث. وفى شرح ألفية العراقى لشيخنا الحافظ أبى الخير السخاوى- أمتع اللّه بوجوده- فى باب العلل ما نصه: وعلة المتن القادحة فيه كحديث نفى قراءة البسملة فى الصلاة المروى عن أنس، إذ ظن راو من رواته حين سمع قول أنس: صليت خلف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان- رضى اللّه عنهم- فكانوا يستفتحون بالحمد للّه رب العالمين، نفى البسملة، فنقله مصرحا بما ظنه و قال: لا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم فى أول القراءة ولا فى آخرها. وفى لفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم اللّه الرحمن الرحيم. وصار بمقتضى ذلك حديثا مرفوعا. والراوى لذلك مخطئ فى ظنه (٢) . __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٣٩٩) (٥٠) فيما سبق. (٢) قلت: قال الحافظ الزيلعى فى معرض رده على من يردون رواية أنس التى فى صحيح مسلم حيث يقول فى (نصب الراية) (١/ ٣٣٠- ٣٣١) : كيف يجوز العدول عنه- أى رواية مسلم- بغير موجب ويؤكده قوله فى رواية مسلم لا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا فى آخرها، لكنه محمول على نفى الجهر، لأن أنسا إنما ينفى ما يمكنه العلم بانتفائه، فإنه إذا لم يسمع مع القرب علم أنهم لم يجهروا، وأما كون الإمام لم يقرأها فهذا لا يمكن إدراكه، إلا إذا لم يكن بين التكبير والقراءة سكوت يمكن فيه القراءة سرّا، ولهذا استدل بحديث أنس هذا على عدم قراءتها من لم ير هنا سكوتا كمالك وغيره لكن ثبت فى الصحيحين من أبى هريرة أنه قال: يا رسول اللّه أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: (أقول كذا وكذا إلى آخره) ، وفى السنن عن سمرة وأبى وغيرهما أنه كان يسكت قبل القراءة وأنه كان يستعيذ وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسا أن ينفى قراءتها فى ذلك السكوت فيكون نفيه للذكر والاستفتاح والسماع مرادا به الجهر، بذلك يدل عليه قوله: (فكانوا لا يجهرون) وقوله فلم أسمع أحدا منهم يجهر، ولا تعرض فيه للقراء، سرّا ولا على نفيها إذ لا علم لأنس بها حتى يثبتها أوينفيها، وكذلك قال لمن سأله إنك تسألنى عن شئ ما أحفظه، فإن العلم بالقراءة السرية إنما يحصل بإخبار أو سماع عن قرب، وليس فى الحديث شئ منها، ورواية من روى (فكانوا يسرون) كأنها مروية بالمعنى من لفظ (لا يجهرون) واللّه أعلم، وأيضا عمل الافتتاح بالحمد للّه رب العالمين على السورة لا الآية مما تستبعده القريحة وتمجه الأفهام- ولذا قال الشافعى- رحمه اللّه- فى الأم، ونقله عنه الترمذى فى جامعه: المعنى أنهم يبدؤون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، لا أنهم يتركون البسملة أصلا. ويتأيد بثبوت تسمية أم القرآن بجملة الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ (١) فى صحيح البخارى، وكذا بحديث قتادة قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-؟ قال: كانت مدّا، ثم قرأ: بسم اللّه الرحمن الرحيم، يمد (بسم اللّه) ويمد (الرحمن) ويمد (الرحيم) (٢) . كذا أخرجه البخارى فى __________ - الصحيحة لأن هذا من العلم الظاهر الذى يعرفه العام والخاص كما يعلمون أن الفجر ركعتان وأن الظهر أربع، وأن الركوع قبل السجود، والتشهد بعد الجلوس إلى غير ذلك، فليس فى نقل مثل هذا فائدة، فكيف يجوز أن أنسا قصد تعريفهم بهذا وأنهم سألوه عنه وإنما مثل هذا مثل من يقول: فكانوا يركعون قبل السجود أو فكانوا يجهرون فى العشاءين والفجر ويخافتون فى صلاة الظهر والعصر واللّه أعلم، وأيضا فلو أريد الافتتاح بسورة الحمد لقيل كانوا يفتتحون القراءة بأم القرآن أو بفاتحة الكتاب أو بسورة الحمد، هذا هو المعروف فى تسميتها عندهم وأما تسميتها بالحمد للّه رب العالمين فلم ينقل عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد يحتج بقوله، وأما تسميتها بالحمد فقط فعرف متأخر، يقولون فلان قرأ الحمد، وأين هذا من قوله (فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد للّه رب العالمين) فإن هذا لا يجوز أن يراد به السورة إلا بدليل صحيح، وأن للمخالف ذلك. ا. هـ ومما سبق يتبين أن رواية مسلم صحيحة، وليست بمعلولة، وأن الصحيح عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، أنه ما كان يجهر ب بسم اللّه الرحمن الرحيم، وكذا الخلفاء من بعده، ثم لا ينتشر فى المدينة موطن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أو فى مكة موطن الحج. (١) سورة الفاتحة: ١. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٠٤٦) فى فضائل القرآن، باب: مد القراءة، وقد علق الحافظ فى (الفتح) (٨/ ٧١٠) على من يستدل بذلك على رد حديث أنس بنفى الجهر بالبسملة وقراءتها فى أول الفاتحة حيث قال: وفى الاستدلال بحديث الباب نظر، وقد أوضحته فيما كتبته من النكت على علوم الحديث لابن الصلاح، وحاصله أنه لا يلزم من وصفه بأنه كان إذا قرأ البسملة يمد فيها أن يكون قرأ البسملة فى أول الفاتحة فى كل ركعة، ولأنه إنما ورد بصورة المثال فلا تتعين البسملة، والعلم عند اللّه تعالى. ا. هـ. قلت: ومن الممكن أن يحمل ذلك على قراءته خارج الصلاة، كما أن هذا الحديث عام ويقابله حديث أنس الآخر الذى يخصص القراءة فى الفاتحة بعدم الجهر بالبسملة فيقدم عليه، واللّه أعلم. صحيحه، وكذا صححه الدار قطنى والحازمى و قال: إنه لا علة له، لأن الظاهر- كما أشار إليه أبو شامة- أن قتادة لما سأل أنسا عن الاستفتاح فى الصلاة بأى سورة وأجابه ب (الحمد للّه) ، سأله عن كيفية قراءته فيها، وكأنه لم ير إبهام السائل مانعا من تعيينه بقتادة خصوصا وهو السائل أولا. وقد أخرج ابن خزيمة فى صحيحه، وصححه الدار قطنى أن أبا مسلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا: أكان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يستفتح ب الْحَمْدُ للّه أو ب بِسْمِ اللّه؟ ف قال: لا أحفظ فيه شيئا. قال: وهذا مما يتأيد به خطأ النافى (١) . ولكن قد روى هذا الحديث عن أنس جماعة منهم حميد وقتادة، والتحقيق أن المعل رواية حميد خاصة، إذ رفعها وهم من الوليد بن مسلم عن مالك عنه، بل ومن بعضه أصحاب حميد عنه، فإنها فى سائر الموطات عن مالك: صليت وراء أبى بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، لا ذكر للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- فيه، وكذا الذى عند سائر حفاظ أصحاب حميد عنه، إنما هو فى الوقف خاصة. وبه صرح ابن معين عن ابن أبى عدى حيث قال: إن حميدا كان إذا رواه عن أنس لم يرفعه، وإذا قال فيه: عن قتادة عن أنس رفعه. وأما رواية قتادة، وهى من رواية الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعى: أن قتادة كتب إليه ليخبره أن أنسا حدثه قال: صليت ... فذكره بلفظ: لا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم لا فى أول قراءة ولا فى آخرها، فلم يتفق أصحابه عنه على هذا اللفظ، بل أكثرهم لا ذكر عندهم للنفى فيه، وجماعة منهم بلفظ: فلم يكونوا يجهرون ب بسم اللّه الرحمن الرحيم. وممن اختلف عليه فيه من أصحابه شعبة، فجماعة منهم (غندر) لا ذكر عندهم فيه للنفى، وأبو داود الطيالسى فقط حسبما وقع من طريق غير واحد عنه بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ب(بسم اللّه) وهى موافقة للأوزاعى. __________ (١) تقدم الرد على هذا الحديث فى الهامش قبل السابق. وأبو عمر الدورى وكذا الطيالسى وغندر أيضا بلفظ: فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ب (بسم اللّه) . بل كذا اختلف غير قتادة من أصحاب أنس، فإسحاق بن أبى طلحة وثابت البنانى باختلاف عليهما، ومالك بن دينار ثلاثتهم عن أنس بدون نفى، وإسحاق وثابت أيضا ومنصور بن زاذان وأبو قلابة وأبو نعامة كلهم عنه باللفظ النافى للجهر خاصة. ولفظ إسحاق منهم: يفتتحون القراءة بالحمد للّه رب العالمين فيما يجهر فيه. وحينئذ فطريق الجمع بين هذه الروايات- كما قال شيخنا، يعنى شيخ الإسلام ابن حجر- رحمه اللّه- ممكن بحمل نفى القراءة على نفى السماع، ونفى السماع على نفى الجهر. ويؤيده: أن لفظ رواية منصور بن زاذان: فلم يسمعنا قراءة بسم اللّه. وأصرح منها رواية الحسن عن أنس- كما عند ابن خزيمة- كانوا يسرون ببسم اللّه. وبهذا الجمع زالت دعوى الاضطراب. كما أنه ظهر أن الأوزاعى- الذى رواه عن قتادة مكاتبة مع أن قتادة ولد أكمه، وكاتبه مجهول لعدم تسميته- لم ينفرد به، وحينئذ فيجاب عن قول أنس:(لا أحفظه) بأن المثبت مقدم على النافى، خصوصا وقد تضمن النفى عدم استحضار أنس- صلى اللّه عليه وسلم- لأهم شئ يستحضره. وبإمكان نسيانه حين سؤال أبى مسلمة له وتذكره له بعد، فإنه ثبت أن قتادة أيضا سأله: أيقرأ الرجل فى الصلاة بسم اللّه؟ ف قال: صليت وراء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأبى بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم اللّه. ويحتاج إذا استقر محصل حديث أنس على نفى الجهر إلى دليل له، وإن لم يكن من مباحثنا. وقد ذكر له الشارح دليلا، وأرشد شيخنا- يعنى الحافظ ابن حجر- لما يؤخذ منه ذلك. بل قال: إن قول نعيم المجمر (صليت وراء أبى هريرة فقرأ ب بسم اللّه الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين، وقال الناس: آمين، وكان كلما سجد وإذا قام من الجلوس فى الاثنتين يقول اللّه أكبر، ويقول إذا سلم: والذى نفسى بيده إنى لأشبهكم صلاة برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (١) ) ، أصح حديث ورد فيه، ولا علة له. وممن صححه ابن خزيمة وابن حبان، ورواه النسائى والحاكم، وقد بوب عليه النسائى: الجهر ب بسم اللّه الرحمن الرحيم. ولكن تعقب الاستدلال به، لاحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله(أشبهكم) فى معظم الصلاة لا فى جميع أجزائها، لا سيما وقد رواه عنه جماعة غير نعيم بدون ذكر البسملة. وأجيب: بأن نعيما ثقة، فزيادته مقبولة، والخبر ظاهر فى جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصه. ومع ذلك فيطرقه أن يكون سماع نعيم لها من أبى هريرة حال مخافتته لقربه منه. وقد قال الإمام فخر الدين الرازى فى تصنيف له فى الفاتحة: روى الشافعى بإسناده وكذا رواه الحاكم فى مستدركه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية سرقت الصلاة، أين بسم اللّه الرحمن الرحيم، أين التكبير عند الركوع والسجود، فأعاد الصلاة مع التسمية والتكبير (٢) . ثم قال الشافعى: وكان معاوية سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية والتكبير كان كالأمر المقرر عن كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب تركه. انتهى. وهو حديث حسن أخرجه الحاكم فى صحيحه والدار قطنى و قال: إن رجاله ثقات. __________ (١) الإسناد: أخرجه النسائى (٢/ ١٣٤) الافتتاح، باب: قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم، وابن حبان فى (صحيحه) (١٧٩٧ و ١٨٠١) ، وابن خزيمة فى (صحيحه) (٤٩٩ و ٦٨٨) ، والدار قطنى فى (سننه) (١/ ٣٠٥) قلت: وهو فى الصحيحين من طريق آخر عن أبى هريرة ليس فيه هذه الزيادة. (٢) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (١/ ٣٥٧) ، والدار قطنى فى (سننه) (١/ ٣١١) بسند حسن، إلا أنه عند الحاكم (أنه قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم للسورة التى بعد أم القرآن) وعلى ذلك فلا حجة فيه. ثم قال الإمام بعد: وقد بينا أن هذا- يعنى الإنكار المتقدم- يدل على أن الجهر بهذه الكلمة كالأمر المتواتر فيما بينهم. وكذا قال الترمذى عقب إيراده، بعد أن ترجم بالجهر بالبسملة حديث معتمر بن سليمان عن إسماعيل بن حماد بن أبى سليمان عن أبى خالد الوالبى الكوفى عن ابن عباس قال: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يفتتح الصلاة ب بسم اللّه الرحمن الرحيم (١) . ووافقه على تخريجه الدار قطنى، وأبو داود وضعفه. بل وقال الترمذى: ليس إسناده بذاك. والبيهقى فى المعرفة، واستشهد له بحديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم يمد بها صوته الحديث (٢) ، وهو عند الحاكم فى مستدركه أيضا، ما نصه: وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- منهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، ومن بعدهم من التابعين رووا الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، وبه يقول الشافعى، انتهى (٣) . وقال الشيخ أبو أمامة بن النقاش: والذى يروم تحقيق هذه المسألة ينبغى أن يعرف أن هذه المسألة بعلم القراآت أمس، وذلك أن من القراء الذين صحت قراءتهم وتواترت عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من كان يقرأ بها آية من الفاتحة وهم: حمزة وعاصم والكسائى وابن كثير وغيرهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من لا يعدها آية من الفاتحة كابن عامر، وأبى عمرو، ونافع فى رواية عنه. وحكم قراءتها فى الصلاة حكم قراءتها خارجها، فمن قرأ على قراءة من جعلها من أم القرآن لزمه فرضا أن يقرأ بها. ومن قرأ على قراءة من لم __________ (١) الإسناد: أخرجه الترمذى (٢٤٥) فى الصلاة، باب: من رأى الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، والدار قطنى فى (سننه) (١/ ٣٠٤) ، وقال الترمذى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وهو كما قال. (٢) أخرجه الدار قطنى فى (سننه) (١/ ٣٠٣) بسند فيه أبو الصلت الهروى، هو عبد السلام بن صالح، ..... الحديث. (٣) هذا الكلام قاله الترمذى عقب حديثه السابق. يرها من أم القرآن فهو مخير بين القراءة والترك. فحينئذ الخلاف فيها كالخلاف فى حرف من حروف القرآن، وكلا القولين صحيح ثابت لا مطعن على مثبته ولا على منفيه. ولا ريب أن النبى-صلى اللّه عليه وسلم- تارة قرأ بها، وتارة لم يقرأ بها، هذا هو الإنصاف. ثم قال: والمستيقن الذى يجب المصير إليه، أن كلّا من العملين ثابت، لأنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام أن هذه القراآت السبع كلها حق مقطوع بها من عند اللّه، وليست هذه أول كلمة ولا أول حرف اختلف فى إثباته وحذفه، وقلّ سورة من القرآن ليس فيها ذلك، كلفظ (هو) فى سورة الحديد لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١) ، ولفظ (من) فى سورة التوبة، فى قوله تعالى: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ (٢) ، وألفات عديدة، وواوات، وهاآت كذلك، وكل هذا من نتيجة كون القرآن أنزل على سبعة أحرف، وهذا هو الذى يدلك على بطلان قول من لم يجعلها من الفاتحة لموضع اختلاف الناس فيها، وقوله: إن الاختلاف لا يثبت معه قرآن (٣) ، فما أدرى ما هذا الظن. وهذا الذى ذكرناه هو الذى يريحك من تلك التقريرات من الجانبين. ثم قال: ولا ريب أن الواقع من النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كلا الأمرين، من الجهر والإسرار، فجهر وأسر، غير أن إسراره كان أكثر من جهره، وقد صح فى الجهر أحاديث، لا مطعن فيها لمنصف نحو ثلاثة أحاديث، كما أنه قد صح فى الإسرار بها أحاديث لا مطعن فيها لعار من العصبية، ولا يلتفت لمن يقول: إن الواقع من النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان الجهر فقط، انتهى. وقيللبعض العارفين: بماذا ترى ظهر اسم الإمام الشافعى وغلب ذكره؟ أرى ذلك بإظهار اسم اللّه فى البسملة لكل صلاة. انتهى. __________ (١) سورة الحديد: ٢٤. (٢) سورة التوبة: ٧٢. (٣) يشير إلى أبى بكر بن العربى، صاحب تفسير أحكام القرآن. الفرع الثالث: فى ذكر قراءته ص الفاتحة وقوله آمين بعدها كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قرأ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (١) قال: (آمين) ، ومد بها صوته، وفى رواية: وخفض بها صوته (٢) ، رواه الترمذى. وفى رواية أبى داود: ورفع بها صوته، وفى رواية له: جهر بامين. وقال ابن شهاب: وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قال: وَلَا الضَّالِّينَ (٣) جهر بامين، أخرجه السراج. ولابن حبان من رواية الزبيدى عن ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن، رفع صوته و قال: (آمين) . وللحميدى من طريق سعيد المقبرى عن أبى هريرة بنحوه بلفظ: إذا قال: وَلَا الضَّالِّينَ (٤) ولأبى داود، وصححه ابن حبان من حديث وائل بن حجر نحو رواية الزبيدى. وفيه رد على من أومأ إلى النسخ ف قال: إنما كان- صلى اللّه عليه وسلم- يجهر بامين فى ابتداء الإسلام ليعلمهم، فإن وائل بن حجر إنما أسلم فى أواخر الأمر. الفرع الرابع: فى ذكر قراءته ص بعد الفاتحة فى صلاة الغداة عن أبى برزة: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ فى صلاة الغداة ما بين الستين إلى المائة (٥) . رواه النسائى. وعن عمرو بن حريث: أنه سمع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ __________ (١) سورة الفاتحة: ٧. (٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٩٣٢) فى الصلاة، باب: التأمين وراء الإمام، والترمذى (٢٤٨) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التأمين، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٣١٦ و ٣١٧) ، من حديث وائل بن حجر، - رضى اللّه عنه-. (٣) سورة الفاتحة: ٧. (٤) سورة الفاتحة: ٧. (٥) قلت: بل هو عند البخارى (٧٧١) فى الأذان، باب: القراءة فى الفجر، ومسلم (٤٦١) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح، و (٦٤٧) فى المساجد، باب: استحباب التبكير بالصبح فى أول وقتها. وقوله (صلاة الغداة) : هى الفجر. فى الفجر وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١) (٢) رواه مسلم. وفى رواية النسائى: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قرأ فى الفجر إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (٣) (٤) وعن جابر بن سمرة كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ فى الفجر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (٥) ونحوها، وكانت قراءته بعد تخفيفا (٦) . رواه مسلم. وعن عبد اللّه بن السائب قال: صلى- صلى اللّه عليه وسلم- الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى- شك الراوى، أو اختلف عليه- أخذت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- سعلة فركع. الحديث (٧) رواه مسلم. قال النووى: فيه جواز قطع القراءة، وجواز القراءة ببعض السورة. وكرهه مالك. انتهى. وتعقب: بأن الذى كرهه مالك أن يقتصر على بعض السورة مختارا، والمستدل به ظاهر فى أنه كان للضرورة فلا يرد عليه. وكذا يرد على من استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذا منقوله: حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى، لأن كلّا من الموضعين يقع فى وسط آية، نعم الكراهة لا تثبت إلا بدليل. وأدلة الجواز كثيرة: وفى حديث زيد بن ثابت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قرأ الأعراف فى الركعتين (٨) ، وأمّ أبو بكر بالصحابة فى صلاة الصبح بسورة البقرة قرأها __________ (١) سورة التكوير: ١٧. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٤٥٦) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح. (٣) سورة التكوير: ١. (٤) صحيح: أخرجه النسائى (٢/ ٢٥٧) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الصبح ب إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، من حديث عمرو بن حريث- رضى اللّه عنه-، . (٥) سورة ق: ١. (٦) صحيح: أخرجه مسلم (٤٥٨) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح. (٧) صحيح: أخرجه مسلم (٤٥٥) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح. (٨) صحيح: أخرجه البخارى (٧٦٤) فى الأذان، باب: القراءة فى المغرب، بلفظ: (كان يقرأ بطولى الطوليين) ، وقد حصل الاتفاق على تفسير الطولى بالأعراف. فى الركعتين. وهذا إجماع منهم. وقرأ فى الصبح إِذا زُلْزِلَتِ (١) فى الركعتين كلتيهما، قال الراوى: فلا أدرى أنسى أم قرأ ذلك عمدا (٢) . رواه أبو داود. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ فى صبح الجمعة الم (١) تَنْزِيلُ (٣) ، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ (٤) (٥) . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى من حديث أبى هريرة. وإنما كان يقرؤهما كاملتين، وقراءة بعضهما خلاف السنة. وإنما كان يقرأ بهما لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم، ودخول الجنة والنار، وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك يقع يوم الجمعة. ذكره ابن دحية فى (العلم المشهور) وقرره تقريرا حسنا، كما أفاده ابن حجر. قال: وقد ورد فى حديث ابن مسعود التصريح بمداومته- صلى اللّه عليه وسلم- على قراءتهما فى صبح الجمعة (٦) . أخرجه الطبرانى، ولفظه (يديم ذلك) وأصله فى ابن ماجه لكن بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوب أبو حاتم إرساله. __________ (١) سورة الزلزلة: ١. (٢) حسن: أخرجه أبو داود (٨١٦) فى الصلاة، باب: الرجل يعيد سورة واحدة فى الركعتين، من حديث رجل من جهينة سمع النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ولا يضر جهالته لعدالة الصحابة، . (٣) سورة السجد: ١، ٢. (٤) سورة الإنسان: ١. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (٨٩١) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الفجر يوم الجمعة، ومسلم (٨٨٠) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الجمعة، والنسائى (٢/ ١٥٩) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الصبح يوم الجمعة، وابن ماجه (٨٢٣) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة الفجر يوم الجمعة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، وهو ليس عند أبى داود والترمذى كما ذكر المصنف، إلا أنه عندهما ولكن من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٦) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٨٢٤) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة الفجر يوم الجمعة، بنحوه، بسند رجاله ثقات. قال: وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه فقال فى الكلام على حديث الباب: (ليس فى الحديث ما يقتضى فعل ذلك دائما اقتضاء قويّا) ، وهو كما قال بالنسبة لحديث الباب، فإن الصيغة ليست نصّا فى المداومة، لكن الزيادة المذكورة نص فى ذلك، ولهذه الزيادة شاهد من حديث ابن عباس بلفظ: (كل جمعة) أخرجه الطبرانى فى الكبير. وأما تعيين السورة للركعة فورد من حديث على- عند الطبرانى- بلفظ: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ فى الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة الم (١) تَنْزِيلُ (١) ، وفى الركعة الثانية هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ (٢) . وقد اختلف تعليل المالكية لكراهة قراءة السجدة فى الصلاة.
فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود فى الفرض. قال القرطبى: وهو تعليل فاسد، بشهادة هذا الحديث. وقيل لخشية التخليط على المصلين، ومن ثم فرق بعضهم بين الجهرية والسرية، لأن الجهرية يؤمن معها التخليط لكن صح من حديث ابن عمر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قرأ سورة فيها سجدة فى صلاة الظهر فسجد بهم فيها (٣) . رواه أبو داود والحاكم، فبطلت التفرقة. ومنهم من علل الكراهة بخشية اعتقاد العوام أنها فرض. قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهية مطلقا فيأباه الحديث، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغى أن تترك أحيانا لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهو يحصل بالترك فى بعض الأوقات. انتهى. وقال صاحب (المحيط) من الحنفية: يستحب قراءتها فى صبح يوم __________ (١) سورة السجدة: ١، ٢. (٢) سورة الإنسان: ١. (٣) لعله يشير إلى الحديث الذى أخرجه أبو داود (١٤١١) في الصلاة، باب: فى الرجل يسمع السجدة وهو راكب وفى غير الصلاة، وابن خزيمة فى (صحيحه) (٥٥٦) ، والحاكم فى (المستدرك) (٧٩٨) إلا أنه فيه أن قرأ عام الفتح سجدة، ولم أقف على رواية صلاة الظهر هذه. الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره. قال الحافظ ابن حجر: ولم أر فى شئ من الطرق التصريح بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- سجد لما قرأ سورة الم (١) تَنْزِيلُ (١) فى هذا المحل، إلا فى كتاب (الشريعة) لابن أبى داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غدوت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الجمعة فى صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة فسجد، الحديث، وفى إسناده من ينظر فى حاله. انتهى. وعن على عند الطبرانى فى الأوسط: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سجد فى الصبح يوم الجمعة فى الم (١) تَنْزِيلُ (٢) ، وهذه الزيادة حسنة تدفع احتمال أن يكون قرأ السورة ولم يسجد. الفرع الخامس: فى ذكر قراءته- صلى اللّه عليه وسلم- فى صلاتى الظهر والعصر عن أبى قتادة قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ فى الظهر فى الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفى الركعتين الآخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانا، ويطول فى الركعة الأولى ما لا يطول فى الركعة الثانية، وهكذا فى العصر، وهكذا فى الصبح (٣) . رواه البخارى ومسلم. قال الشيخ تقى الدين السبكى: كأن السبب فى تطويله الأولى على الثانية أن النشاط فى الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف فى الثانية حذرا من الملل. انتهى. وروى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى فى آخر هذا الحديث: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. وعن أبى سعيد الخدرى قال: كنا نحزر أى نقدر- قيام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الظهر والعصر، فحزرنا قيامه فى الركعتين الأوليين من الظهر قدر الم (١) تَنْزِيلُ (٤) ، وفى __________ (١) سورة السجدة: ١، ٢. (٢) سورة السجدة: ١، ٢. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٧٥٩) فى الأذان، باب: القراءة فى الظهر، ومسلم (٤٥١) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر. (٤) سورة السجدة: ١، ٢. رواية: فى كل ركعة قدر ثلاثين آية، وحزرنا قيامه فى الآخريين قدر النصف من ذلك، وحزرناه فى الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه فى الآخريين من الظهر، وفى الآخريين من العصر على النصف من ذلك (١) . رواه مسلم. وعن جابر بن سمرة: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ فى الظهر بالليل إذا يغشى، وفى رواية ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (٢) وفى العصر نحو ذلك (٣) . الحديث رواه مسلم. وعنه: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ فى الظهر والعصر بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق (٤) ، رواه أبو داود والترمذى. وعن البراء: كنا نصلى خلفه- صلى اللّه عليه وسلم- الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من لقمان والذاريات (٥) . رواه النسائى. قال ابن دقيق العيد: فيه جواز الاكتفاء بظاهر الحال فى الأخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة فى السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان فى الجهرية. وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على باقيها. ويحتمل أن يكون الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدّا. انتهى. وعن أنس: قرأ- صلى اللّه عليه وسلم- فى الظهر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (٦) __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٤٥٢) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر. (٢) سورة الأعلى: ١. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٤٥٩) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح. (٤) صحيح: أخرجه أبو داود (٨٠٥) فى الصلاة، باب: قدر القراءة فى صلاة الظهر والعصر، والترمذى (٣٠٧) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى الظهر والعصر، وقال الترمذى: حديث جابر بن سمرة حديث حسن صحيح، وهو كما قال. (٥) أخرجه النسائى (٢/ ١٦٣) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الظهر. (٦) سورة الأعلى: ١. وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) (٢) رواه النسائى. وعن أبى سعيد: كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته، ثم يأتى أهله فيتوضأ ويدرك النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى الركعة الأولى (٣) . رواه مسلم. الفرع السادس: فى ذكر قراءته ص فى صلاة المغرب عن أم الفضل بنت الحارث قالت: سمعته- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ فى المغرب بالمرسلات عرفا (٤) رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى وصرح عقيل فى روايته عن ابن شهاب: أنها آخر صلاته-صلى اللّه عليه وسلم- ولفظه: ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه اللّه تعالى. أورده البخارى فى باب الوفاة. وعنده فى باب (إنما جعل الإمام ليؤتم به) من حديث عائشة: أن الصلاة التى صلاها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بأصحابه فى مرض موته كانت الظهر. وجمع بينهما: بأن الصلاة التى حكتها عائشة كانت فى المسجد، والتى حكتها أم الفضل كانت فى بيته، كما رواه النسائى. لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب فى هذا الحديث بلفظ: خرج إلينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو عاصب رأسه فى مرضه فصلى المغرب. الحديث رواه الترمذى. ويمكن حمل قوله: (خرج إلينا) أى من مكانه الذى هو راقد فيه إلى من فى البيت فصلى بهم فتلتئم الروايات. __________ (١) سورة الغاشية: ١. (٢) الإسناد: أخرجه النسائى (٢/ ١٦٣) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الظهر. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٤٥٤) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر. (٤) صحيح: أخرجه مالك (١/ ٧٨) فى الصلاة، باب: القراءة فى المغرب والعشاء، والبخارى (٧٦٣) فى الأذان، باب: القراءة فى المغرب، ومسلم (٤٦٢) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح، وأبو داود (٨١٠) فى الصلاة، باب: قدر القراءة فى المغرب، والترمذى (٣٠٨) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى المغرب، والنسائى (٢/ ١٦٨) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب بالمرسلات. وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ فى المغرب بالطور (١) . رواه البخارى ومسلم. زاد مسلم فى (الجهاد) : وكان جبير بن مطعم جاء فى أسارى بدر. وزاد الإسماعيلى: وهو يومئذ مشرك. وللبخارى فى (المغازى) : وذلك أول ما وقر الإيمان فى قلبى. وللطبرانى: وأخذنى من قراءته الكرب، ولسعيد بن منصور: فكأنما صدع قلبى. وفى قوله: (سمعته- صلى اللّه عليه وسلم-) دليل على الجهر بها، واللّه أعلم. وعن مروان بن الحكم قال: قال لى زيد بن ثابت: ما لك تقرأ فى المغرب بقصار المفصل؟ وقد سمعت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ بطولى الطوليين (٢) . رواه البخارى. زاد أبو داود: قلت وما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف. وفى رواية النسائى من حديث عائشة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى المغرب بسورة الأعراف فرقها فى ركعتين (٣) . وعن عبد اللّه بن عتبة: قرأ- صلى اللّه عليه وسلم- فى صلاة المغرب ب (حم) الدخان (٤) . رواه النسائى. وهذه الأحاديث فى القراءة مختلفة المقادير، لأن (الأعراف) من السبع الطوال، و (الطور) من طوال المفصل، و (المرسلات) من أوساطه قال الحافظ ابن حجر: ولم أر حديثا مرفوعا فيه التنصيص على القراءة فيها بشئ من قصار المفصل، إلا حديثا فى ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون والإخلاص (٥) . ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدار قطنى: أخطأ بعض رواته فيه، __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٧٦٥) فى الأذان، باب: الجهر فى المغرب، وأطرافه (٣٠٥٠ و ٤٠٢٣ و ٤٨٥٤) ، ومسلم (٤٦٣) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح. (٢) صحيح: وقد تقدم. (٣) صحيح: أخرجه النسائى (٢/ ١٧٠) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب- (المص) . . (٤) أخرجه النسائى (٢/ ١٦٩) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب ب (حم الدخان) . (٥) شاذ: أخرجه ابن ماجه (٨٣٣) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة المغرب : شاذ والمحفوظ أنه كان يقرأ بهما فى سنة المغرب. وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعد بن السماك وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما فى الركعتين بعد المغرب. واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار عن أبى هريرة قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من فلان، قال سليمان: فكان يقرأ فى الصبح بطوال المفصل، وفى المغرب بقصار المفصل (١) . رواه النسائى، وصححه ابن خزيمة وغيره. وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك، لكن فى الاستدلال به نظر، نعم حديث رافع أنهم كانوا ينتضلون (٢) بعد صلاة المغرب يدل على تخفيف القراءة فيها. وطريق الجمع بين هذه الأحاديث: أنه-صلى اللّه عليه وسلم- كان أحيانا يطيل القراءة فى المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، وليس فى حديث جبير دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرد زيد منه- فيما يظهر- المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وفى حديث أم الفضل إشعاره بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقرأ فى الصحة بأطول من المرسلات، لكونه كان فى حال شدة مرضه، وهو مظنة التخفيف. وهو يرد على أبى داود ادعاء نسخ التطويل فى المغرب، لأنه روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ فى المغرب بالقصار قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد ولم يبين وجه الدلالة. وكيف تصح دعوى النسخ وأم __________ (١) صحيح: أخرجه النسائى (٢/ ١٦٧) فى الافتتاح، باب: تخفيف القيام والقراءة، باب: القراءة فى المغرب بقصار المفصل، وأحمد فى (المسند) (٢/ ٥٣٢) ، وابن حبان (١٨٣٧) ، وابن خزيمة(٥٢٠) فى (صحيحيهما). (٢) ينتضلون: أى يلعبون بالنضال، وهى السهام، وفى رواية (يتنضلون) ، ورجح الزرقانى فى الشرح الرواية الأولى. الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات. قال ابن خزيمة فى صحيحه: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلى أن يقرأ فى المغرب وفى الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما أستحب له أن يخفف القراءة. انتهى. والراجح عند النووى: أن المفصل من الحجرات إلى آخر القرآن، واللّه أعلم. الفرع السابع: فى ذكر ما كان ص يقرأ فى صلاة العشاء عن البراء: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقرأ فى العشاء وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه- صلى اللّه عليه وسلم- (٢) . رواه البخارى ومسلم. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا أتى على آية عذاب وقف وتعوذ (٣) ، رواه الترمذى من حديث حذيفة. وكان إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (٤) قال: سبحان ربى الأعلى (٥) ، رواه أحمد وأبو داود من رواية ابن عباس. وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (من قرأ منكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فانتهى إلى أَلَيْسَ اللّه بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٦) فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ __________ (١) سورة التين: ١. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٧٦٧) فى الأذان، باب: الجهر فى العشاء، ومسلم (٤٦٤) فى الصلاة، باب: القراءة فى العشاء. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٧٧٢) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل، وأبو داود (٨٧١) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، والترمذى (٢٦٢) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التسبيح فى الركوع والسجود. (٤) سورة الأعلى: ١. (٥) أخرجه أبو داود (٨٨٣) فى الصلاة، باب: الدعاء فى الصلاة، وأحمد فى (المسند) (١/ ٢٣٢) ، وأعله أبو داود بالوقف عن ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٦) سورة التين: ١- ٨. لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى قوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (١) فليقل: بلى، ومن قرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٢) فليقل: آمنا باللّه) (٣) رواه أبو داود، والترمذى إلى قوله (وأنا على ذلك من الشاهدين) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة وعنها سأله أبو هريرة (٤) ، ويسكت بعد الفاتحة، ويسكت ثالثة بعد قراءة السورة، وهى سكتة لطيفة جدّا حتى يترادّ إليه النفس، ولم يكن يصل القراءة بالركوع. وأما السكتة الأولى، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح، وأما الثانية فلأجل قراءة المأموم الفاتحة، فينبغى تطويلها بقدرها. ذكره فى زاد المعاد. وعن سمرة بن جندب: سكتتان حفظتهما من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: إذا دخل فى صلاته، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قرأ وَلَا الضَّالِّينَ (٥) قال: وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يترادّ إليه نفسه (٦) . رواه الترمذى. الفرع الثامن: فى ذكر صفة ركوعه صلى اللّه عليه وسلم عن أبى حميد الساعدى: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة __________ (١) سورة القيامة: ١- ٤٠. (٢) سورة المرسلات: ١- ٥٠. (٣) أخرجه أبو داود (٨٨٧) فى الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود، والترمذى (٣٣٤٧) فى التفسير، باب: ومن سورة التين، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، بسند فيه مجهول. (٤) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٧٤٤) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (٥٩٨) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام والقراءة. (٥) سورة الفاتحة: ٧. (٦) أخرجه الترمذى (٢٥١) فى الصلاة، باب: ما جاء فى السكتتين فى الصلاة، وهو عند أبى داود (٧٧٧) ، وابن ماجه (٨٤٤ و ٨٤٥) ، وقال الترمذى: حديث سمرة حديث حسن. ا. هـ. قلت: إن سلم من صحة سماع الحسن منه، فهو كما قال. رفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، فذكر الحديث، إلى أن قال: ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يصوب رأسه ولا يقنع (١) رواه أبو داود والدارمى. الفرع التاسع: فى مقدار ركوعه صلى اللّه عليه وسلم عن ابن جبير قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أشبه صلاة برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من هذا الفتى- يعنى عمر بن عبد العزيز- قال: فخررنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات (٢) . رواه أبو داود. وعن البراء: كان ركوع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع، ما خلا القيام والقعود، قريبا من السواء (٣) . رواه البخارى ومسلم. قال النووى: هذا حديث محمول على بعض الأحوال، وإلا فقد ثبت فى الحديث تطويل القيام، فإنه كان يقرأ فى الصبح بالستين آية إلى المائة، وفى الظهر ب الم السجدة، وأنه كانت تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته ثم يرجع إلى أهله فيتوضأ ثم يأتى المسجد فيدرك الركعة الأولى، وأنه قرأ سورة المؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون، وأنه قرأ فى المغرب بالطور والمرسلات. وفى البخارى: بالأعراف (٤) ، فكل هذا يدل أنه كانت فى إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات. انتهى. وقال ابن القيم: مراد البراء أن صلاته- صلى اللّه عليه وسلم- كانت معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال القيام والركوع والسجود، وإذا خفف خفف الركوع والسجود، وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام، وهديه- صلى اللّه عليه وسلم- الغالب تعديل الصلاة وتناسبها. انتهى. __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٧٣٠) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، بسند صحيح. (٢) أخرجه أبو داود (٨٨٨) فى الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود بسند رجاله ثقات. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٧٩٢) فى الأذان، باب: حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، ومسلم (٤٧١) فى الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها فى التمام. (٤) تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك. الفرع العاشر: فى ذكر ما كان ص يقوله فى الركوع والرفع منه عن عائشة: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يكثر أن يقول فى ركوعه وسجوده: سبحانك اللّهم ربنا وبحمدك، اللّهم اغفر لى، يتأول القرآن (١) . رواه البخارى ومسلم. ومعنى (يتأول القرآن) : يعمل بما أمر به فى قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٢) فكان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول هذا الكلام البديع فى الجزالة المستوفى ما أمر به فى الآية. وعنها: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول فى ركوعه: سبوح قدوس رب الملائكة والروح (٣) . رواه البخارى. وعن حذيفة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقول فى ركوعه: سبحان ربى العظيم، وفى سجوده سبحان ربى الأعلى، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا رفع ظهره من الركوع قال: سمع اللّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد (٤) . رواه مسلم. قال النووى: يبدأ- يعنى المصلى- بقوله: (سمع اللّه لمن حمده) حين الشروع فى الرفع من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائما، ثم يشرع فى ذكر الاعتدال وهو: ربنا ولك الحمد إلخ. قال: وفى هذا الحديث دلالة للشافعى وطائفة: أنه يستحب لكل مصل من إمام ومأموم ومنفرد أن يجمع بين (سمع اللّه لمن حمده) و (ربنا ولك الحمد) فى حال انتصابه فى الاعتدال. لأنه ثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- فعلهما جميعا. وقد قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (صلوا كما رأيتمونى أصلى) (٥) رواه البخارى. انتهى. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٧ ٨) فى الأذن، باب: التسبيح والدعاء فى السجود، ومسلم (٤٨٤) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود. (٢) سورة النصر: ٣. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٤٨٧) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، والحديث ليس في البخارى كما قال المصنف، بل عند مسلم. (٤) صحيح: أخرجه مسلم (٧٧٢) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣١) فى الأذان، باب: الأذان للمسافر، من حديث مالك ابن الحويرث- رضى اللّه عنه-. وقال ابن القيم: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا استوى قائما قال: ربنا ولك الحمد، وربما قال: وربنا لك الحمد، وربما قال: اللّهم ربنا لك الحمد. صح عنه ذلك كله، وأما الجمع بين (اللّهم ) و (الواو) فلم يصح. انتهى. قلت: وقع فى صحيح البخاري من حديث أبى هريرة- فى رواية الأصيلى- مرفوعا: (إذا قال الإمام: سمع اللّه لمن حمده، فقولوا: اللّهم ربنا ولك الحمد) (١) فجمع بين (اللّهم ) و (الواو) وهو يرد على ابن القيم كما ترى. وقال الشيخ تقى الدين فى شرح العمدة: كأن إثبات (الواو) دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير: ربنا استجب، أو ما قارب ذلك، ولك الحمد، فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء، ومعنى الخبر، وإذا قيل بإسقاط (الواو) دل على أحد هذين. انتهى. وقال ابن العراقى: إسقاط (الواو) حكاه عن الشافعى ابن قدامة و قال: لأن (الواو) للعطف، وليس هنا شئ يعطف عليه. وعن مالك وأحمد فى ذلك خلاف. وقال النووى: كلاهما جاءت به روايات كثيرة، والمختار أنه على وجه الجواز وأن الأمرين جائزان، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر. انتهى. وعن أبى سعيد الخدرى قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع قال: (اللّهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد- وكلنا لك عبد- اللّهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (٢) رواه مسلم. قوله: (ملء السماوات وملء الأرض) : أى حمدا لو كان أجساما لملأ السماوات والأرض. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٧٣٤) فى الأذان، باب: إيجاب التكبير. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٤٧٧) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. ومعنى سمع اللّه لمن حمده) أى أجاب، يعنى: أن من حمد اللّه تعالى متعرضا لثوابه استجاب اللّه له، فأعطاه ما تعرض له، فأنا أقول ربنا لك الحمد ليحصل ذلك. وقوله (أهل) : منصوب على النداء. وقوله: (وكلنا لك عبد) بالواو، يعنى: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت إلخ. واعترض بينهما قوله: (وكلنا لك عبد) ، ومثل هذا الاعتراض قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللّه أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى (١) على قراءة من قرأ (وضعت) بفتح العين وإسكان التاء. و (الجد) بفتح الجيم، الغنى أى: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة، وقيل غير ذلك واللّه أعلم. وفى رواية ابن أبى أوفى- عند مسلم-: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول بعد قوله (من شئ) : (اللّهم طهرنى بالثلج والبرد والماء البارد) (٢) . الفرع الحادى عشر: فى ذكر صفة سجوده ص وما يقول فيه كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا انتهى من ذكر قيامه عن الركوع يكبر، ويخرّ ساجدا، ولا يرفع يديه. وقد روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يرفع يديه أيضا، وصححه بعض الحفاظ كابن حزم، والذى غره أن الراوى غلط من قوله: (كان يكبر فى كل خفض ورفع) إلى قوله: (كان يرفع يديه فى كل خفض ورفع) وهو ثقة، ولم يفطن لسبب غلطه، ووهم فصححه. نبه عليه فى زاد المعاد. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يضع يديه قبل ركبتيه (٣) . رواه أبو داود، ثم جبهته __________ (١) سورة آل عمران: ٣٦. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٤٧٦) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٨٤٠) فى الصلاة، باب: كيف يضع ركبتيه قبل يديه، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. وأنفه. وقال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين) (١) . رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عباس. قال النووى: فينبغى للساجد أن يسجد على هذه الأعضاء كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا، فأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض، ويكفى بعضها، والأنف مستحب، فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز، هذا مذهب الشافعى ومالك والأكثرين، وقال أبو حنيفة عليهما معا لظاهر الحديث، وقال الأكثرون: بل ظاهر الحديث أنهما فى حكم عضو واحد، لأنه قال فيه (سبعة) فلو جعلا عضوين لصارت ثمانية. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا سجد فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه (٢) . رواه الشيخان. وقالت ميمونة: جافى بين يديه، حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت (٣) . رواه مسلم. ولم يذكر عنه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه سجد على كور عمامته، ولم يثبت عنه ذلك فى حديث صحيح ولا حسن، ولكن روى عبد الرزاق فى المصنف عن أبى هريرة: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يسجد على كور عمامته (٤) ، وهو من رواية عبد اللّه بن محرز. وذكر أبو داود فى المراسيل أنه- صلى اللّه عليه وسلم- رأى رجلا يصلى فسجد بجبينه وقد اعتم فحسر- صلى اللّه عليه وسلم- عن جبهته (٥) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول فى سجوده: (اللّهم اغفر لى ذنبى كله، دقه وجله، أوله وآخره، علانيته وسره) (٦) رواه مسلم من حديث أبى هريرة. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٨٠٩ و ٨١٠) فى الأذان، باب: السجود على سبعة أعظم، ومسلم (٤٩٠) فى الصلاة، باب: أعضاء السجود، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٩٠) فى الصلاة، باب: يبدى ضبعيه ويجافى فى السجود، ومسلم (٤٩٥) فى الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، من حديث عبد اللّه بن بحينة- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٤٩٦) في الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة. (٤) أخرجه عبد الرزاق فى (مصنفه) (١٥٦٤) بسند فيه متروك كما قال المصنف. (٥) أخرجه أبو داود فى (المراسيل) (٨٣) عن صالح بن حيوان السبانى مرسلا. (٦) صحيح: أخرجه مسلم (٤٨٣) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. وقوله: (دقه وجله) بكسر أولهما، أى قليله وكثيره. وعن عائشة قالت: فقدت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدى على بطن قدميه وهو فى السجود، وهما منصوبتان، وهو يقول: (اللّهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) (١) رواه مسلم. قال الخطابى: فى هذا الحديث معنى لطيف، وذلك أنه- صلى اللّه عليه وسلم- استعاذ باللّه وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمعاقبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو اللّه تعالى استعاذ به منه، ومعناه: الاستغفار من التقصير فى بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه. وقوله: (لا أحصى ثناء عليك) أى لا أطيقه ولا آتى عليه، وقيل: لا أحيط به، وقال مالك: لا أحصى نعمتك وإحساناتك والثناء بهما عليك وإن اجتهدت فى الثناء عليك. وقوله: (أنت كما أثنيت على نفسك) اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، فإنه لا يقدر على بلوغ حقيقته، ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والإحصاء والتعيين، فوكل ذلك كله للّه تعالى المحيط بكل شئ جملة وتفصيلا، وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه، لأن الثناء تابع للمثنى عليه، فكل شئ أثنى به عليه- وإن كثر وطال وبولغ فيه- فقدر اللّه أعظم وسلطانه أعز، وصفاته أكثر وأكبر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ. انتهى. وهاهنا فائدة لطيفة ذكرها بعض المحققين، فى نهيه- صلى اللّه عليه وسلم- عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود (٢) ، وهى أن القرآن أشرف الكلام، وحالتا الركوع __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٤٨٦) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود. (٢) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه مسلم (٤٧٩) فى الصلاة، باب: النهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام اللّه تعالى أن لا يقرأ فى هاتين الحالتين، وتكون حالة القيام والانتصاب أولى به واللّه أعلم. وروى أبو داود: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- سجد على الماء والطين (١) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يرفع رأسه من السجود مكبرا غير رافع يديه، ثم يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يجلس للاستراحة جلسة لطيفة، بحيث تسكن جوارحه سكونا بينا، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، كما فى صحيح البخارى (٢) وغيره. قال النووى: ومذهبنا استحبابها عقب السجدة الثانية من كل ركعة يقوم عنها، ولا تستحب فى سجود التلاوة فى الصلاة. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول بين السجدتين: (اللّهم اغفر لى وارحمنى واهدنى وعافنى وارزقنى) (٣) . رواه أبو داود والدارمى من حديث ابن عباس. الفرع الثانى عشر: فى ذكر جلوسه ص للتشهد كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا جلس للتشهد يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى (٤) . رواه مسلم. قال النووى: معناه يجلس مفترشا، وفيه حجة لأبى حنيفة ومن وافقه: أن الجلوس فى الصلاة يكون مفترشا سواء فيه جميع الجلسات. وعند مالك: يسن متوركا بأن يخرج رجله اليسرى من تحته ويفضى بوركه إلى الأرض. __________ (١) قلت: بل هو عند البخارى (٦٦٩) فى الأذان، باب: هل يصلى الإمام بمن حضر، ومسلم (١١٦٧) فى الصيام، باب: فضل ليلة القدر، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-. (٢) يشير إلى الحديث الذى أخرجه البخارى (٨٢٣) فى الأذان، باب: من استوى قاعدا فى وتر من صلاته ثم نهض، من حديث مالك بن الحويرث- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٨٥٠) فى الصلاة، باب: الدعاء بين السجدتين، والترمذى (٢٨٤) فى الصلاة، باب: ما يقول بين السجدتين، وابن ماجه (٨٩٨) فى إقامة الصلاة، باب: ما يقول بين السجدتين، ولم أقف عليه عند الدارمى، وسنده صحيح. (٤) صحيح: أخرجه مسلم (٤٩٨) فى الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. وقال الشافعى- رحمه اللّه-: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشا إلا الجلسة التى يعقبها السلام. والجلسات عند الشافعى أربع: الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة فى كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير، والجميع يسن مفترشا إلا الأخيرة، ولو كان على المصلى سجود سهو فالأصح أن يجلس مفترشا فى تشهده فإذا سجد سجدتى السهو تورك ثم سلم. هذا تفصيل مذهب الشافعى. واحتج أبو حنيفة: بإطلاق حديث عائشة هذا. واحتج الشافعى: بحديث أبى حميد الساعدى فى صحيح البخارى، وفيه التصريح بالافتراش فى الجلوس الأول والتورك فى آخر الصلاة، وحمل حديث عائشة هذا على الجلوس فى غير التشهد الأخير ليجمع بين هذه الأحاديث. انتهى. فليتأمل مع قول ابن القيم فى الهدى: إنه لم ينقل أحد عنه- صلى اللّه عليه وسلم- أن هذا كان صفة جلوسه فى التشهد الأول، ولا أعلم أحدا قال به. انتهى. وقال أبو حميد الساعدى فى عشرة من أصحابه- صلى اللّه عليه وسلم-: أنا أعلمكم بصلاة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، قالوا: فاعرض.. فذكر الحديث إلى أن قال: حتى إذا كانت السجدة التى فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر ثم سلم، قالوا صدقت هكذا كان يصلى (١) ، رواه أبو داود والدارمى. وفى رواية لأبى داود: فإذا قعد فى الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا كان فى الرابعة أفضى بوركه إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة. الحديث (٢) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قعد فى التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين وأشار بالسبابة (٣) . __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٧٣٠) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، والدارمى فى (سننه) (١٣٥٦) بسند صحيح. (٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٧٣١) فيما سبق. (٣) أخرجه البزار عن ابن عمر، كما فى (كنز العمال) (٢٢٣٤٨) . وفى رواية مسلم: وضع يديه على ركبتيه، ورفع أصبعه اليمنى التى تلى الإبهام ويدعو بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها (١) . وفى حديث ابن الزبير عنده أيضا: كان يشير بها ولا يحركها. الحديث (٢) . وعند أبى داود من حديث وائل بن حجر: مد مرفقه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها ويدعو. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يستقبل بأصابعه القبلة فى رفع يديه وركوعه وفى سجوده وفى التشهد، ويستقبل بأصابع رجليه القبلة فى سجوده (٣) . الفرع الثالث عشر: فى ذكر تشهده صلى اللّه عليه وسلم كان- صلى اللّه عليه وسلم- يتشهد دائما فى هذه الجلسة الأخيرة، ويعلم أصحابه أن يقولوا: (التحيات المباركات، الصلوات الطيبات للّه، السلام عليك أيها النبى ورحمة اللّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) (٤) رواه مسلم من رواية ابن عباس. وهو الذى اختاره الشافعى لزيادة (المباركات) لا تشهد ابن مسعود (٥) ، وإن قاله القاضى عياض- رحمه اللّه تعالى- وعبارة الشافعى فيما أخرجه البيهقى بسنده إلى الربيع بن سليمان أخبرناالشافعى جوابا لمن سأله بعد ذكر حديث ابن عباس: (فإنا نرى الرواية اختلفت فيه عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فروى __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٥٨٠) فى المساجد، باب: صفة الجلوس فى الصلاة، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٥٧٩) فيما سبق، من حديث عبد اللّه بن الزبير- رضى اللّه عنهما-. (٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٧٢٦) فى الصلاة، باب: رفع اليدين في الصلاة . (٤) صحيح: أخرجه مسلم (٤٠٣) فى الصلاة، باب: التشهد فى الصلاة، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (٨٣١) فى الأذان، باب: التشهد فى الآخرة، ومسلم (٤٠٢) فى الصلاة، باب: التشهد فى الصلاة. ابن مسعود خلاف هذا، فساق الكلام إلى أن قال: فلما رأيته واسعا وسمعته- يعنى حديث ابن عباس- صحيحا، ورأيته أكثر لفظا من غيره- يعنى من المرفوعات- أخذت به غير معنف لمن أخذ بغيره (هذا آخر كلامه، وليس فيه تصريح بالأفضلية، والعلم عند اللّه. وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث: تشهد ابن مسعود أفضل لأنه عند المحدثين أشد صحة. وقال مالك- رحمه اللّه- تشهد عمر بن الخطاب (١) الموقوف عليه أفضل، لأنه علمه للناس على المنبر ولم ينازعه أحد فدل على تفضيله، ومذهب الشافعى أن التشهد الأول سنة والثانى واجب. وجمهور المحدثين: أنهما واجبان. وقال أحمد: الأول واجب يجبر تركه بالسجود، والثانى ركن تبطل الصلاة بتركه. وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان. وعن مالك رواية بوجوب الأخير. وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يأتى بالتشهدين. وفى الغيلانيات عن القاسم بن محمد قال: علمتنى عائشة قالت: هذا تشهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: التحيات للّه والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبى ورحمة اللّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وهو مثل حديث ابن مسعود سواء. رواه البيهقى بإسناد جيد. قال النووى: فى هذا الحديث فائدة حسنة وهى أن تشهده- صلى اللّه عليه وسلم- بلفظ تشهدنا (٢) . انتهى. __________ (١) صحيح موقوفا: الحديث أخرجه مالك فى (الموطأ) (١/ ٩٠) ، وعنه الشافعى فى (مسنده) (ص ٢٣٧) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٣٩٨) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٢/ ١٣٩ و ١٤٢) ، والدار قطنى فى (سننه) (١/ ٣٥١) بسند ..... مرفوعا، والصحيح أنه موقوف عليه، وإن كان لنا فيه أسوة حسنة لقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى) ، وفى رواية: (اقتدوا باللذين من بعدى، أبى بكر وعمر) . (٢) أى يقول: (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) بدلا من (وأشهد أنى رسول اللّه) . قال الحافظ ابن حجر: وكأنه (١) يشير إلى رد ما وقع فى الرافعى: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقول فى التشهد: (وأشهد أنى رسول اللّه) ، وتعقبوه بأنه لم يرو كذلك صريحا. نعم وقع فى البخارى من حديث سلمة بن الأكوع قال: خفّت أزواد القوم فذكر الحديث وفيه: فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنى رسول اللّه) (٢) . ومن لطائف التشهد ما قاله البيضاوى: علمهم أن يفردوه- صلى اللّه عليه وسلم- بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، فإن قيل: كيف يشرع هذا اللفظ، وهو خطاب لبشر مع كونه منهيّا عنه فى الصلاة؟ فالجواب: أن ذلك من خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم-. فإن قلت: ما الحكمة فى العدول عن الغيبة إلى الخطاب فى قوله: (السلام عليك أيها النبى) مع أن لفظ الغيبة هو الذى يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبى، فينتقل من تحية اللّه إلى تحية النبى، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين؟. أجاب الطيبى بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذى علمه للصحابة. ويحتمل أن يقال على طريق أهل المعرفة باللّه: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات، أذن لهم فى الدخول فى حريم الحى الذى لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة، فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبى الرحمة وبركة متابعته، فالتفتوا (فإذا الحبيب فى حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبى ورحمة اللّه وبركاته. انتهى) . وقال الترمذى الحكيم: فى قوله: (السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين) : من أراد أن يحظى بهذا السلام الذى يسلمه الخلق فى صلاتهم فليكن عبدا صالحا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم. __________ (١) الضمير عائد إلى الإمام النووى- رحمه اللّه-. (٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٢٤٨٤) فى الشركة، باب: الشركة فى الطعام. وقال القفال فى فتاويه: وترك الصلاة يضر جميع المسلمين، لأن المصلى يقول: اللّهم اغفر لى وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بد أن يقول فى التشهد: السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين، فيكون التارك للصلاة مقصرا فى خدمة اللّه وفى حق رسوله، وفى حق نفسه، وفى حق كافة المسلمين. ولذلك عظمت المعصية بتركها. واستنبط منه السبكى: أن فى الصلاة حقّا للعباد مع حق اللّه تعالى، وأن من تركها أخل بجميع حق المؤمنين، من مضى ومن يجئ إلى يوم القيامة، لوجوب قوله فيها: (السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين) . انتهى. وتقدم الكلام على وجوب الصلاة عليه- صلى اللّه عليه وسلم- بعد التشهد الأخير، وما فى ذلك من المباحث فى فضل الصلاة- صلى اللّه عليه وسلم-. وعن الطبرانى مرفوعا، عن سهل بن سعد: (لا صلاة لمن لم يصل على نبيه) (١) وكذا عن ابن ماجه والدار قطنى. وعن أبى مسعود الأنصارى- عند الدار قطنى-: (من صلى صلاة لم يصل فيها علىّ وعلى أهل بيتى لم تقبل منه) (٢) . وعن ابن مسعود: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (إذا تشهد أحدكم فى الصلاة فليقل: اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) (٣) . رواه الحاكم. واغتر قوم بتصحيحه فوهموا، فإنه من رواية يحيى بن السباق، وهو مجهول عن رجل مبهم، وبالغ ابن العربى فى إنكار ذلك ف قال: حذار مما ذكره ابن أبى زيد من زيادة وترحم، فإنه قريب من __________ (١) أخرجه الدار قطنى فى (سننه) (١/ ٣٥٥) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٢/ ٣٧٩) وقال الدار قطنى: عبد المهيمن- أحد رواته- ليس بالقوى. (٢) أخرجه الدار قطنى فى (سننه) (١/ ٣٥٥) من حديث أبى مسعود الأنصارى، وليس ابن مسعود كما فى النسخ، والتصويب من المصدر السابق، وقال الدار قطنى جابر- أحد رواته- .....، وقد اختلف عنه. (٣) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (١/ ٤٠٢) ، من حديث ابن مسعود، وليس أبى مسعود، كما فى النسخ، والتصويب من المصدر السابق، وفى سنده جهالة، وضعف. البدعة، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- علمهم كيفية الصلاة بالوحى، ففى الزيادة على ذلك استدراك عليه. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وابن أبى زيد ذكر ذلك فى الرسالة فى صفة التشهد، لما ذكر ما يستحب فى التشهد، ومنه: اللّهم صل على محمد وآل محمد، فزاد: وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد إلخ. فإن كان إنكاره ذلك لكونه لم يصح فمسلم، وإلا فدعوى من ادعى أنه لا ي قال: وارحم محمدا، مردودة لثبوت ذلك فى عدة أحاديث أصحها فى التشهد: (السلام عليك أيها النبى ورحمة اللّه وبركاته) . قال: ثم وجدت لابن أبى زيد مستندا، فأخرج الطبرى فى تهذيبه (١) ، من طريق حنظلة بن على عن أبى هريرة رفعه: (من قال اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة وشفعت له) ورجال سنده رجال الصحيح، إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاصى، الراوى له عن حنظلة بن على فإنه مجهول، وهذا كله فيما يقال مضموما إلى السلام أو الصلاة. وقد وافق ابن العربى الصيدلانى من الشافعية على المنع. ونقل القاضى عياض عن الجمهور الجواز مطلقا، وقال القرطبى فى (المفهم) : إنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره. ففى (الذخيرة)من كتب الحنفية عن محمد: يكره ذلك لإيهامه النقص، لأن الرحمة غالبا إنما تكون لفعل ما يلام عليه. وجزم ابن عبد البر بمنعه، ف قال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يقول: رحمه اللّه، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (من صلى على) ولم يقل: من __________ (١) هو كتاب (تهذيب الآثار) لابن جرير الطبرى، لو تم لكان من خير ما كتب فى بابه، حيث أن ابن جرير كان إماما مجتهدا مستقلا لم يتقيد بمذهب معين فكان سيكون كتابه فقها مستقلا قائما على الكتاب والسنة الصحيحة. ترحم على، ولا من دعا لى، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص بهذا اللفظ تعظيما له، فلا يعدل عنه إلى غيره. انتهى. وأخرج أبو العباس السراج عن أبى هريرة: أنهم قالوا: يا رسول اللّه كيف نصلى عليك؟ قال: (قولوا اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم، وآل إبراهيم إنك حميد مجيد) . وفى حديث بريدة رفعه: (اللّهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) . ووقع فى حديث ابن مسعود عند أبى داود والنسائى: (على محمد النبى الأمى) (١) . وفى حديث أبى سعيد: (على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم) (٢) ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم. وعند أبى داود من حديث أبى هريرة: (اللّهم صل على محمد النبى وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته) (٣) . ووقع فى آخر حديث ابن مسعود: (فى العالمين إنك حميد مجيد) (٤) . قال النووى فى شرح المهذب: ينبغى أن يجمع ما فى الأحاديث الصحيحة، فيقول: اللّهم صل على محمد النبى الأمى وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك ... مثله، ويزيد فى آخره: فى العالمين. وقال فى (الأذكار) مثله، وزاد: عبدك ورسولك بعد قوله: محمد فى (صل) ولم يزدها فى (بارك) . وقال فى (التحقيق والفتاوى) مثله، إلا أنه أسقط النبى الأمى. __________ (١) حسن: أخرجه أبو داود (٩٨١) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد التشهد، من حديث عقبة بن عمر، ولم أقف على هذه الرواية من حديث ابن مسعود، . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٧٩٨) فى التفسير، باب: رقم (٢٨٢) . (٣) إسناده ..... أخرجه أبو داود (٩٨٢) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد التشهد، . (٤) صحيح: وقد تقدم تخريجه. وقد تعقبه الإسنوى فقال: لم يستوعب ما ثبت فى الأحاديث مع اختلاف كلامه. وقال الأذرعى: لم يسبق إلى ما قاله، والأظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتى بأكمل الروايات، ويقول- كما ثبت- هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة فى التشهد لم ترد مجموعة، وسبقه إلى معنى ذلك ابن القيم. وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يدعو فى الصلاة: (اللّهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللّهم وأعوذ بك من المأثم والمغرم) . فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، ف قال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) (١) . رواه البخارى ومسلم من رواية عائشة. قال ابن دقيق العيد: (فتنة المحيا) : ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها- والعياذ باللّه تعالى- أمر الخاتمة عند الموت، و (فتنة الممات) : يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويجوز أن يكون المراد بها: فتنة القبر: ولا يكون مع هذا الوجه متكررا مع قوله: (عذاب القبر) ، لأن العذاب مرتب على الفتنة، والسبب غير المسبب. وروى الحكيم الترمذى فى (نوادر الأصول) عن سفيان الثورى: أن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه، إنى أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له حين يسأل. وقد استشكل دعاؤه- صلى اللّه عليه وسلم- بما ذكر مع أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وأجيب بأجوبة، منها أن قصد التعليم لأمته، ومنها: أن المراد السؤال منه لأمته، فيكون المعنى هنا: أعوذ باللّه لأمتى، ومنها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية والتزام خوف اللّه، وإعظامه والافتقار إليه، وامتثال أمره فى __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٨٣٢) فى الأذان، باب: الدعاء قبل السلام، ومسلم (٥٨٩) فى المساجد، باب: ما يستعاذ منه فى الصلاة، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرير الطلب مع تحقيق الإجابة، لأن فى ذلك تحصيل الحسنات، ورفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك، لأنه إذا كانت مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع، فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدجال، مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يتحقق عدم إدراكه ويدل عليه قوله فى الحديث الآخر عند مسلم: (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه) (١) ، الحديث، واللّه أعلم. وعن ابن عباس: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقول بعد التشهد: (اللّهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الدجال الأعور، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) (٢) . رواه أبو داود. وعن على بن أبى طالب: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقول ما بين التشهد والتسليم: (اللّهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) (٣) . رواه مسلم وغيره. وفى رواية له: وإذا سلم قال: (اللّهم اغفر لى ما قدمت) ... إلخ. ويجمع بينهما: بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام، لأن مخرج الطريقين واحد. وأورده ابن حبان بلفظ: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم، وهذا ظاهر فى أنه بعد السلام، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده، وسيأتى الجواب عما استشكل فى دعائه- صلى اللّه عليه وسلم- بهذا الدعاء فى أدعيته- صلى اللّه عليه وسلم- إن شاء اللّه تعالى-. وحاصل ما ثبت عنه- صلى اللّه عليه وسلم- من المواضع التى كان يدعو بها فى داخل صلاته ستة مواطن: __________ (١) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (٢٩٣٧) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفة ما معه، من حديث النواس بن سمعان- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٥٩٠) فى المساجد، باب: ما يستعاذ منه فى الصلاة. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٧٧١) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه. الأول: عقب تكبير الإحرام، كما فى حديث أبى هريرة فى الصحيحين: (اللّهم باعد بينى وبين خطاياى) (١) الحديث ونحوه. الثانى: فى الركوع، كما فى حديث عائشة عند الشيخين: كان يكثر أن يقول فى ركوعه وسجوده: (سبحانك اللّهم وبحمدك اللّهم اغفر لى) (٢) . الثالث: فى الاعتدال من الركوع، كما فى حديث ابن أبى أوفى عند مسلم: أنه كان يقول بعد قوله: (من شئ بعد) (اللّهم طهرنى بالثلج والبرد والماء البارد) (٣) . الرابع: فى سجوده، وهو أكثر ما كان يدعو فيه، وأمر به. الخامس: بين السجدتين: (اللّهم اغفر لى) (٤) ... إلخ. السادس: فى التشهد. وكان أيضا يدعو فى القنوت، وفى حال القراءة إذا مر باية رحمة سأل، وإذا مر باية عذاب استعاذ، وتقدم كل ذلك، واللّه أعلم. الفرع الرابع عشر: فى ذكر تسليمه ص من الصلاة كان- صلى اللّه عليه وسلم- يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده (٥) . رواه __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٧٤٤) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (٥٩٨) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام والقراءة. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٧٩٤) فى الأذان، باب: الدعاء فى الركوع، ومسلم (٤٨٤) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٤٧٦) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (٤) صحيح: أخرجه أبو داود (٨٧٤) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، وقد تقدم فى الصلاة. (٥) صحيح: أخرجه مسلم (٥٨٢) فى المساجد، باب: السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها، والنسائى (٣/ ٦١) فى السهو، باب: السلام، من حديث عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبى وقاص- رضى اللّه عنه-، وليس عبد اللّه بن عامر بن ربيعة كما ذكر المصنف، ولعله تصحيف. مسلم والنسائى من حديث عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه. وفى حديث ابن مسعود: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يسلم عن يمينه وعن يساره، السلام عليكم ورحمة اللّه (١) . رواهالترمذى، وزاد أبو داود: حتى يرى بياض خده، وفى رواية النسائى: حتى يرى بياض خده من هاهنا، وبياض خده من هاهنا. الحديث. وهذا كان فعله الراتب. رواه عنه خمسة عشر صحابيّا، وهم: عبد اللّه ابن مسعود، وسعد بن أبى وقاص، وسهل بن سعد، ووائل بن حجر، وأبو موسى الأشعرى، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعبد اللّه بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعرى، وطلق بن على، وأوس بن أوس، وأبو ثور، وعدى بن عمرو. هذا مذهب الشافعى وأبى حنيفة وأحمد والجمهور. ومذهب مالك فى طائفة: المشروع تسليمه. ودليل مذهبنا ما تقدم. وأما ما روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه (٢) ، فلم يثبت من وجه صحيح، وأجود ما فى ذلك حديث عائشة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة، السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يوقظنا (٣) ، وهو حديث معلول، وهو فى السنن، لكنه فى قيام الليل، والذين رووا عنه التسليمتين رووا ما شاهدوا فى الفرض والنفل، وحديث عائشة ليس هو صريحا فى الاقتصار على تسليمة واحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها، ولم تنف الآخرى بل سكتت عنها، وليس سكوتها عنها مقدما __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٩٩٦) فى الصلاة، باب: فى السلام، والترمذى (٢٩٥) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التسليم فى الصلاة، والنسائى (٣/ ٦٣) فى السهو، باب: كيف السلام على الشمال، وقال الترمذى: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وهو كما قال. (٢) أخرجه الترمذى (٢٩٦) فى الصلاة، باب: منه أيضا، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-، وأشار إلى ت.....ه. (٣) أخرجه أبو داود (١٣٤٦ و ١٣٤٧) فى الصلاة، باب: فى صلاة الليل، بسند فى رجاله كلام. على رواية من حفظها وضبطها، وهم أكثر عددا وأحاديثهم أصح، واللّه أعلم. واختلف فى التسليم: فقال مالك والشافعى وأحمد، وجمهور العلماء: إنه فرض لا تصح الصلاة إلا به. وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى: سنة، لو ترك صحت صلاته، وقال أبو حنيفة: لو فعل منافيا للصلاة من حدث أو غيره فى آخرها صحت صلاته، واحتج بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يعلمه الأعرابى حين علمه واجبات الصلاة. واحتج الجمهور بحديث أبى داود (مفتاح الصلاة الطهور وتحليلها التسليم) (١) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قام فى الصلاة طأطأ رأسه. رواه أحمد. وكان لا يجاوز بصره إشارته (٢) . وكان قد جعل اللّه قرة عينه فى الصلاة كما قال: (وجعلت قرة عينى فى الصلاة) (٣) رواه النسائى. ولم يكن يشغله- صلى اللّه عليه وسلم- ما هو فيه عن مراعاة أحوال المأمومين، مع كمال إقباله وقربه من ربه وحضور قلبه بين يديه. وكان يدخل فى الصلاة فيريد إطالتها فيسمع بكاء الصبى فيتجوز فى صلاته مخافة أن يشق على أمه (٤) . رواه البخارى وأبو داود والنسائى. وكان يؤم الناس وهو حامل أمامة بنت أبى العاص بن الربيع على __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٦١) فى الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذى (٣) فى الطهارة، باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (٢٧٥) فى الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، من حديث على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه-. (٢) أى: أصبع السبابة الذى يشير به. (٣) صحيح: أخرجه النسائى (٧/ ٦١) فى عشرة النساء، باب: حب النساء، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، بسند صحيح. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٧٠٧) فى الأذان، باب: من أخف الصلاة عند بكاء الصبى، وأبو داود (٧٨٩) فى الصلاة، باب: تخفيف الصلاة للأمر يحدث، والنسائى (٢/ ٩٥) فى الإمامة، باب: ما على الإمام من التخفيف، من حديث أبى قتادة- رضى اللّه عنه-، وهو فى الصحيحين من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. عاتقه (١) . رواه مسلم وغيره. قال النووى: وهذا يدل لمذهب الشافعى- رحمه اللّه- ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبى والصبية وغيرهما من الحيوان فى صلاة الفرض والنفل للإمام والمأموم والمنفرد. وحمله أصحاب مالك- رحمه اللّه- على النافلة، ومنعوا جواز ذلك فى الفريضة. وهذا التأويل فاسد، لأن قوله: (يؤم الناس) صريح أو كالصريح فى أنه كان فى الفرض. وادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وبعضهم أنه خاص به- صلى اللّه عليه وسلم-، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكلها مردودة ولا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح فى جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف الشرع، لأن الآدمى طاهر، وما فى جوفه من النجاسة معفو عنها لكونه فى معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا، والأفعال فى الصلاة لا تبطلها إذا قلّت أو تفرقت، وفعله- صلى اللّه عليه وسلم- للجواز، وتنبيها على هذه القواعد التى ذكرتها. وهذا يرد ما ادعاه أبو سليمان الخطابى: أن هذا الفعل يشبه أن يكون بغير تعمد لحملها فى الصلاة، لكنها كانت تتعلق به- صلى اللّه عليه وسلم- فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه، قال: ولا يتوهم أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى، لأنه عمل كثير، ويشغل القلب، وإذا كان علم الخميصة شغله (٢) فكيف لا يشغله هذا؟ هذا كلام الخطابى، وهو باطل، ودعوى مجردة، ومما يرده قوله فى صحيح مسلم: (فإذا قام حملها، وإذا رفع من السجود أعادها) وقوله فى رواية غير مسلم: (خرج حاملا أمامة وصلى) وذكر الحديث. وأما قصة __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٥٤٣) فى المساجد، باب: جواز حمل الصبيان فى الصلاة، وهو فى الصحيحين أيضا بلفظ: كان يصلى وهو حامل أمامة، ورواية (يؤم) عند مسلم كما ذكرنا. (٢) صحيح: وحديث الخميصة أخرجه البخارى (٣٧٣) فى الصلاة، باب: إذا صلى فى ثوب له أعلام، ومسلم (٥٥٦) فى المساجد، باب: كراهة الصلاة فى ثوب له أعلام، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. الخميصة فإنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد، وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة. والصواب الذى لا يعدل عنه أن الحديث كان للبيان والتنبيه على هذه القواعد، فهو جائز لنا وشرع مستمر إلى يوم القيامة، واللّه أعلم انتهى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى فيجئ الحسن أو الحسين فيركب على ظهره، فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره. وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو فى الصلاة. قال جابر: بعثنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لحاجة، فأدركته وهو يصلى فسلمت عليه، فأشار إلى (١) ، رواه مسلم. وقال عبد اللّه ابن مسعود: لما قدمت من الحبشة أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يصلى، فسلمت عليه، فأومأ برأسه (٢) ، رواه البيهقى. وكان يصلى وعائشة معترض بينه وبين القبلة، فإذا سجد غمزها بيده فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما (٣) . رواه البخارى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- لا يلتفت فى صلاته. وفى البخارى عن عائشة قالت: سألت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن الالتفات فى الصلاة ف قال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) (٤) . وروى أبو داود من حديث سهل بن الحنظلية: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال يوم حنين: (من يحرسنا الليلة) ؟ قال أنس بن أبى مرثد الغنوى: أنا يا رسول اللّه، قال: (اركب) ، فركب فرسا له، ف قال: (استقبل هذا الشعب حتى تكون فى أعلاه) ، فلما أصبحنا توّب (٥) بالصلاة، فجعل- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى وهو __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٥٤٠) فى المساجد، باب: تحريم الكلام فى الصلاة. (٢) أخرجه البيهقى فى (الكبرى) (٢/ ٢٦٠) مرسلا ومسندا، وقال عن المرسل: هو المحفوظ. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٨٢: ٣٨٤) فى الصلاة، باب: الصلاة على الفراش، ومسلم (٥١٢) فى الصلاة، باب: الاعتراض بين يدى المصلى، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٧٥١) فى الأذان، باب: الالتفات فى الصلاة. (٥) أى: نودى. يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى الصلاة قال: (أبشروا قد جاء فارسكم) (١) . فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد فى الصلاة، وهو يدخل فى مداخل العبادات، كصلاة الخوف، وقريب منه قول عمر- رضى اللّه عنه- إنى لأجهز الجيش وأنا فى الصلاة، فهذا جمع بين الصلاة والجهاد، ونظيره التفكير فى معانى القرآن واستخراج كنوز العلم منه. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى فعرض له الشيطان ليقطع عليه صلاته، فأخذه وخنقه حتى سال لعابه على يديه (٢) . وروى مطرف بن عبد اللّه بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يصلى، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل (٣) ، يعنى يبكى، وفى رواية: ولصدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. رواه أحمد. ولم يكن- صلى اللّه عليه وسلم- يغمض عينيه فى صلاته. وعن أنس قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أميطى عنا قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لى فى صلاتى) (٤) . رواه البخارى. ولو كان يغمض عينيه لما عرضت له فى صلاته، وقد اختلف الفقهاء فى كراهيته، والحق أن ي قال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع كأن يكون فى قبلته زخرفة أو غيرها __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٥٠١) فى الجهاد، باب: فضل الحرس فى سبيل اللّه تعالى، والحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٩٣) و قال: صحيح على شرط الشيخين، وهو كما قال. (٢) رجاله ثقات: أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ٨٢) ، من حديث أبى سعيد الخدرى بسند رجاله ثقات، وهو فى الصحيحين بنحوه. (٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٩٠٤) فى الصلاة، باب: البكاء فى الصلاة، والنسائى (٣/ ١٣) فى السهو، باب: البكاء فى الصلاة، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٢٥). (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٤) فى الصلاة، باب: إن صلى فى ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. مما يشغل قلبه فلا يكره التغميض قطعا بل ينبغى أن يكون مستحبّا فى هذه الحالة. وقد كانت صلاته- صلى اللّه عليه وسلم- متوسطة، عارية عن الغلو كالوسوسة فى عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التى شرعت سرّا، وتطويل ما السنة تخفيفه، كالتشهدالأول، إلى غير ذلك مما يفعله كثير ممن ابتلى بداء الوسوسة، عافانا اللّه منها. وهى نوع من الجنون، وصاحبها بلا ريب مبتدع مستنبط فى أفعاله وأقواله شيئا لم يفعله النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ولا أحد من أصحابه. وقد قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن خير الهدى هدى محمد- صلى اللّه عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها) (١) وعنه: (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار) (٢) . ومما نسب لإمام الحرمين: الوسوسة نقص فى العقل، أو جهل بأحكام الشرع. ومن غرائب ما يقع لهؤلاء الموسوسين، أن بعضهم يشتغل بتكرير الطهارة حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ومنهم من يشتغل بالنية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما تفوته ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أن لا يزيد على هذه التكبيرة ثم يكذب. ثم من العجب أن بعضهم يتوسوس فى حال قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشى فوات الركوع كبر سريعا وأدركه، فمن لم يحصل له النية فى القيام الطويل حال فراغ باله، فكيف حصلت له فى الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة. ومنهم من يكثر التلفظ بالتكبير، حتى يشوش على غيره من المأمومين، ولا ريب أن ذلك مكروه، ومنهم من يزعج أعضاءه، ويحنى جبهته، ويقيم __________ (١) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه مسلم (٨٦٧) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٤٦) فى المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-، وللحديث شواهد من حديث العرباض بن سارية أخرجه أصحاب السنن. عروق عينيه، ويصرح بالتكبير كأنه يكبر على العدو ومنهم من يغسل عضوه غسلا يشاهده ويبصره، ويكبر ويقرأ بلسانه، ويسمع بأذنه، ويعلمه بقلبه، ومع ذلك يصدق الشيطان فى إنكاره يقين نفسه وجحده لما رآه ببصره، وسمعه بأذنه. وقد سأل رجل أبا الوفاء بن عقيل ف قال: إنى أكبر وأقول ما كبرت، وأغسل العضو فى الوضوء وأقول ما غسلته، فقال ابن عقيل: دع الصلاة فإنها لا تجب عليك، فقال له: كيف ذلك؟ فقال لأن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (رفع القلم عن المجنون حتى يفيق) (١) ، ومن يكبر ثم يقول ما كبرت فليس بعاقل، والمجنون لا تجب عليه الصلاة. فمن أراد التخلص من هذه البلية فليتبع سنة نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- السنية، ويقتدى بملته الحنيفية، فإن غلبه الأمر وضاقت عليه المسالك فليتضرع إلى اللّه ويبتهل إليه فى كشف ذلك. الفرع الخامس عشر: فى ذكر قنوته صلى اللّه عليه وسلم ليعلم أن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء والتسبيح، والخضوع. كما قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢) وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً (٣) الآية. وقال تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (٤) . والمراد به هنا: الدعاء فى محل مخصوص من القيام. __________ (١) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود (٤٣٩٩) فى الحدود، باب: فى المجنون يسرق أو يسب أحدا من حديث على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه- . (٢) سورة الروم: ٢٦. (٣) سورة الزمر: ٩. (٤) سورة التحريم: ١٢. وعن أنس قال: بعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم- سبعين رجلا يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من سليم، رعل وذكوان، عند بئر يقال لها بئر معونة فقتلوهم، فدعا عليهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شهرا فى صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت، قال عبد العزيز بن صهيب: فسأل رجل أنسا عن القنوت أبعد الركوع أو عند فراغ القراءة؟ قال: بل عند فراغ القراءة (١) . وفى أخرى: قنت شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب (٢) وفيأخرى قنت شهرا بعد الركوع في الصلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان، ويقول: (عصية عصت اللّه ورسوله) (٣) . وفى أخرى: بعث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سرية يقال لهم: (القراء) فأصيبوا، فما رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وجد على شئ ما وجد عليهم. فقنت شهرا فى صلاة الفجر (٤) . هذه روايات البخارى ومسلم. وللبخارى: كان القنوت فى المغرب والفجر (٥) . وفى رواية أبى داود والنسائى: قنت فى صلاة الصبح بعد الركوع (٦) ، وفى أخرى: قنت شهرا ثم تركه (٧) . وفى أخرى للنسائى: قنت شهرا يلعن رعلا وذكوان ولحيان (٨) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٠٨٨) فى المغازى، باب: غزوة الرجيع، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه أحمد (٣/ ١٨٤) والنسائى (٢/ ٢٠٣) فى التطبيق باب: اللعن فى القنوت من حديث أنس- رضى اللّه عنه- . (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٦٧٧) فى المساجد، باب: استحباب القنوت فى جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، والنسائى (٢/ ٢٠٠) فى التطبيق، باب: القنوت بعد الركوع. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٩٤) فى الدعوات، باب: الدعاء على المشركين، وانظر ما قبله. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (٧٩٨) فى الأذان، باب: فضل اللّهم ربنا لك الحمد، وانظر ما قبله. (٦) تقدم. (٧) صحيح: أخرجه أبو داود (١٤٤٥) فى الصلاة، باب: القنوت فى الصلاة من حديث أنس وقد تقدم. (٨) تقدم. وعن ابن عباس: قنت- صلى اللّه عليه وسلم- شهرا متتابعا، فى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، فى دبر كل صلاة، إذا قال (سمع اللّه لمن حمده) من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه (١) . رواه أبو داود. وعن ابن عمر: أنه سمع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع فى الركعة الأخيرة من الفجر يقول: (اللّهم العن فلانا وفلانا وفلانا) ، بعد ما يقول: (سمع اللّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد) فأنزل اللّه عليه لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، إلى قوله: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (٢) (٣) رواه البخارى. وعن أبى هريرة: لما رفع- صلى اللّه عليه وسلم- رأسه من الركعة الثانية، قال: (اللّهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين بمكة، اللّهم اشدد وطأتك على مضر، اللّهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف) (٤) . وفى رواية: فى صلاة الفجر (٥) . وفى رواية: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل اللّه تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ (٦) (٧) رواه البخارى ومسلم. وعن البراء: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقنت فى الصبح والمغرب (٨) . رواه مسلم __________ (١) أخرجه أبو داود (١٢٣١) فى الصلاة، باب القنوت فى الصلوات. (٢) سورة آل عمران: ١٢٨. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٦٢) فى المغازى، باب: ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٩٤) فى التفسير، باب: ليس لك من الأمر شئ من حديث أبى هريرة. (٥) تقدم قبله. (٦) سورة آل عمران: ١٢٨. (٧) تقدم. (٨) تقدم فى الذى قبله. والترمذى. ولأبى داود: فى صلاة الصبح ولم يذكر المغرب (١) . وعن أبى مالك الأشجعى قال: قلت لأبى: يا أبت، قد صليت خلف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى بن أبى طالب- هاهنا بالكوفة خمس سنين- أكانوا يقنتون؟ قال: أى بنى، محدث (٢) . رواه الترمذى. وعن سعيد ابن جبير قال: أشهد أنى سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت فى صلاة الفجر بدعة. رواه الدار قطنى (٣) . قال بعض العلماء (٤) : والصواب أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قنت وترك، وكان تركه للقنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، والدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم وخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم فجاؤا تائبين، وكان قنوته لعارض. فلما زال العارض ترك القنوت. ولم يكن مختصّا بالفجر، بل كان يقنت فى صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخارى فى صحيحه عن أنس، وذكره مسلم عن البراء، وصح عن أبى هريرة أنه قال: واللّه لأنا أقربكم صلاة من صلاة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إنه كان يقنت فى الركعة الأخيرة من الصبح بعد ما يقول: (سمع اللّه لمن حمده) (٥) ، __________ (١) قال أبو داود (١٢٢٩) فى الصلاة، باب: القنوت فى الصلوات، حدثنا أبو الوليد ومسلم بن إبراهيم وحفص بن عمر، وحدثنا ابن معاذ حدثنى أبى قالوا كلهم حدثنا شعبة عن عمرو بن مرّة عن ابن أبى ليلى عن البراء أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقنت فى صلاة الصبح زاد ابن معاذ وصلاة المغرب. (٢) أخرجه الترمذى (٢٤٤) فى الصلاة، باب: ما جاء فى ترك القنوت من حديث أبى مالك الأشجعى عن أبيه- رضى اللّه عنه-. (٣) أخرجه البيهقى فى (الكبرى) (٢/ ٢١٣) و قال: إنه لا يصح وأبو ليلى الكوفى متروك وقد روينا عن ابن عباس أنه قنت فى صلاة الصبح. (٤) هو ابن القيم- رحمه اللّه تعالى- ذكر ذلك فى (زاد المعاد) (١/ ٢٧٢) تحت فصل ذكر فيه هديه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الصلاة. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (٦٨٩) فى الأذان، باب: اللّهم ربنا لك الحمد، ومسلم (٣٩٢) فى الصلاة، باب: إتيان التكبير فى كل خفض ورفع فى الصلاة إلا رفعه من الركوع فيقول سمع اللّه لمن حمده. وقال ابن أبى فديك: ولا ريب أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فعل ذلك ثم تركه. فهذا رد على القائل بكراهة القنوت فى الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها ويقولون هو منسوخ وفعله بدعة. وأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه، ويقولون فعله سنة، وتركه سنة، ولا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفا للسنة، من قنت فقد أحسن ومن ترك فقد أحسن. انتهى. ومذهب الشافعى- رحمه اللّه تعالى- أن القنوت مشروع فى صلاة الصبح دائما، فى الاعتدال من ثانية صلاة الصبح، لما رواه أنس: ما زال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقنت فى الفجر حتى فارق الدنيا (١) . رواه أحمد وغيره. قال ابن الصلاح: قد حكم بصحته غير واحد من الحفاظ، منهم الحاكم والبيهقى وأبو عبد اللّه محمد بن على البلخى، وفى البيهقى العمل بمقتضاه عن الخلفاء الأربعة. وقال بعضهم: أجمعوا على أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قنت فى الصبح، ثم اختلفوا: هل تركه؟ فيتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه. انتهى. وأما حديث ابن أبى فديك عن عبد اللّه بن سعيد بن أبى سعيد المقبرى عن أبيه عن أبى هريرة قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع فى الركعة الثانية من صلاة الصبح يرفع يديه ويدعو بهذا الدعاء: (اللّهم اهدنى فيمن هديت) إلخ ... فقال ابن القيم- فى زاد المعاد- ما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحا أو حسنا، ولكن لا يحتج بعبد اللّه هذا، وإن كان الحاكم صحح حديثه فى القنوت، انتهى. وهذا الحديث رواه الحاكم وصححه، وردّ عليه، كما قاله ابن القيم، وقد اتفقوا على ضعف عبد اللّه بن سعيد. __________ (١) أخرجه أحمد (٣/ ١٦٢) ، والدار قطنى (١/ ١٧١) من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. وعن ابن عباس: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقنت فى صلاة الصبح وفى وتر الليل بهؤلاء الكلمات: (اللّهم اهدنى فيمن هديت) ، أخرجه محمد بن نصر فى كتاب قيام الليل. والصحيح: أنه لا يتعين فيه دعاء مخصوص، بل يحصل بكل دعاء. وفيه وجه أنه لا يحصل إلا بالدعاء المشهور وهو: (اللّهم اهدنى فيمن هديت وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت، وقنى شر ما قضيت، فإنك تقضى ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تبارك ربنا وتعاليت)رواه أبو داود والترمذى والنسائى من حديث الحسن بن على قال: علمنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كلمات أقولهن فى الوتر فذكره (١) . وإسنادهم صحيح، قال البيهقى: قد صح أن تعليم هذا الدعاء وقع لقنوت صلاة الصبح وقنوت الوتر، انتهى. وقوله: (فإنك تقضى) بالفاء. وبالواو فى قوله: (وإنه لا يذل) (وربنا) قبل و (تعاليت) إلا أن الفاء لم تقع فى رواية أبى داود. وزاد البيهقى بعد قوله: (إنه لا يذل من واليت) : ولا يعز من عاديت. وزاد ابن أبى عاصم فى كتاب التوبة: نستغفرك اللّهم ونتوب إليك. وتسن الصلاة على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى آخره، لأن النسائى قد رواه من حديث الحسن بسند صحيح أو حسن، كما قاله فى شرح (المهذب) ولفظه- أى النسائى- وصلى اللّه على النبى. وجزم فى (الأذكار) باستحباب الصلاة على الآل والسلام. وخالفه صاحب (الإقليد) ف قال: أما ما وقع فى كتب أصحابنا من زيادة (وسلم) وما يعتاده الأئمة الآن من ذكر الآل والأزواج والأصحاب فكل ذلك ........ قلت: وعبارة النووى فى (الأذكار) : يستحب أن يقول عقب هذا __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٤٢٥) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (٤٦٤) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر. الدعاء: اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم. فقد جاء فى حديث النسائى بإسناد حسن، وصلى اللّه على النبى. انتهى. وتعقب: بأن لفظ الدعوى خلاف الدليل، ويزيد عليه ذكر الآل والتسليم. نعم وقعت الزيادة عند (الرافعى) و (الرويانى) معزوة لحديث الحسن ابن على، عند النسائى لكنها ليست عنده فى رواية أحد من الرواة عنه، على أن لفظ (وصلى اللّه على النبى) زائد على رواية الترمذى، وهى زيادة غريبة غير ثابتة لأجل عبد اللّه بن على، أحد رواته، لأنه غير معروف، وعلى تقدير أن يكون هو عبد اللّه بن على بن الحسن بن على، فهو منقطع، لأنه لم يسمع من جده الحسن بن على، فقد تبين أنه ليس من شرط (الحسن) لانقطاعه أو لجهالة راويه، ولم تجبر الزيادة بمجيئها من وجه آخر، وحينئذ فقد تبين شذوذها على ما لا يخفى. نعم: أصل الحديث إلى آخر (وتعاليت) حسن لاعتضاده برواية الترمذى وغيره، بخلاف الزيادة، إذ لم تجئ فى غيره، وحيث سننا الصلاة على الآل على ما جزم به النووىفينبغى عدها فى القنوت بعضا. قال فى (المجموع) عن البغوى: ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، وهو ظاهر على ما صححه فيه، وفى تحقيقه فى باب (سجود السهو) من أن الاعتدال ركن طويل، أما على ما صححه فيهما فى (صلاة الجماعة) من أنه قصير، وهو ما فى (المنهاج) و (الروضة) فقد يقال القياس البطلان، لأن تطويل الركن القصير عمدا مبطل. ويجاب: يحمل ذلك على غير محل القنوت، إذ البغوى نفسه القائل بكراهة الإطالة قائل بأن تطويل الركن القصير مبطل عمده. ويسن للمنفرد والإمام برضى المحصورين، الجمع فى قنوت الوتر بين القنوت السابق وبين قنوت عمر، وهو: (اللّهم إنا نستعينك) (١) إلخ، والأولى تأخيره عن القنوت السابق. ويسن رفع يديه، رواه البيهقى بإسناد جيد. __________ (١) أخرجه اليبهقى (٢/ ٢١٠) فى الكبرى عن عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه-. قال فى (المجموع) : وفى سن مسح وجهه بهما وجهان: أشهرهما: نعم، وأصحهما، لا، قال البيهقى: ولا أحفظ فى مسحه هنا عن أحد من السلف شيئا. وإن روى عن بعضهم فى الدعاء خارج الصلاة. ومسح غير الوجه كالصدر مكروه. وقال النووى فى (الأذكار) : اختلف أصحابنا فى رفع اليدين فى القنوت، ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه: أصحها: يستحب رفعهما ولا يمسح الوجه، والثانى: يرفع ويمسح، والثالث: لا يمسح ولا يرفع، واتفقوا على أنه لا يمسح غير الوجه من الصدر ونحوه، بل قالوا ذلك مكروه. انتهى. ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت وإن كانت الصلاة سرية للاتباع. رواه البخارى. قال الماوردى: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة، فإن سمعه المأموم أمن كما كانت الصحابة يؤمنون خلف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى ذلك. رواه أبو داود بإسناد حسن. ويوافقه فى الثناء سرّا أو يسكت، لأنه ثناء أو ذكر لا يليق به التأمين، والدعاء يشمل الصلاة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فيؤمن فيها: صرح به الطبرى. وإن لم يسمع المأموم قنوت الإمام قنت معه سرّا كبقية الأذكار والدعوات، ولا قنوت لغير وتر وصبح، إلا لنازلة من خوف أو قحط أو وباء أو جراد أو نحوها، فيستحب أن يقنت فى مكتوبة غير الصبح. لا منذورة، وصلاة جنازة ونافلة. وفى البخارى من حديث أبى هريرة أنه- صلى اللّه عليه وسلم-. جهر بالقنوت فى النازلة. انتهى ملخصا من شرح البهجة لشيخ الإسلام أبى يحيى زكريا الأنصارى، مع زيادة من غيره، واللّه أعلم. الفصل الرابع فى سجوده ص للسهو فى الصلاةاعلم أن السهو هو الغافلة عن الشئ، وذهاب القلب إلى غيره، قاله الأزهرى. وفرق بعضهم- فيما حكاه القاضى عياض- بين السهو والنسيان من حيث المعنى، وزعم أن السهو جائز فى الصلاة على الأنبياء، - عليهم الصلاة والسلام-، بخلاف النسيان، قال: لأن النسيان غفلة وآفة، والسهو إنما هو شغل، فكان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يسهو فى الصلاة ولا يغافل عنها، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما هو فى الصلاة شغلا بها لا غفلة عنها، انتهى. قال ابن كيكلدى: وهو ..... من جهة الحديث ومن جهة اللغة، أما من جهة الحديث فلما ثبت فى الصحيحين من قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون) (١)، وأما من جهة اللغة فقول الأزهرى الماضى، ونحوه قول الجوهرى وغيره. وقال فى النهاية: السهو فى الشئ: تركه من غير علم، والسهو عنه: تركه مع العلم، وهو فرق حسن دقيق، وبه يظهر الفرق بين السهو الذى وقع من النبى- صلى اللّه عليه وسلم- غير مرة، والسهو عن الصلاة الذى ذم اللّه فاعله. وقد كان سهوه- صلى اللّه عليه وسلم- من إتمام نعم اللّه تعالى على أمته، وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذى فى الموطأ- الآتى التنبيه عليه إن شاء اللّه تعالى- إنما أنسى أو أنسى لأسن (٢) ، فكان- صلى اللّه عليه وسلم- ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجرى على سهو أمته إلى يوم القيامة. واختلف فى حكمه: فقال الشافعيةوالمالكية: مسنون كله، وعن المالكية قول آخر: السجود للنقص واجب دون الزيادة. وعن الحنابلة: التفصيل بين الواجبات، فيجب لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٠١) فى الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (٥٧٢) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له. (٢) أخرجه مالك فى الموطأ (٢٢٥) فى السهو، باب: العمل فى السهو. وعن الحنفية: واجب كله، وحجتهم قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى حديث ابن مسعود عند البخارى (ليسجد سجدتين) (١) والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله- صلى اللّه عليه وسلم-، وأفعاله فى الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولا سيما مع قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (صلوا كما رأيتمونى أصلى) (٢) انتهى. وقد ورد عنه- صلى اللّه عليه وسلم- السجود على قسمين: الأول: السجود قبل التسليم. فعن الأعرج عن عبد اللّه بن مالك بن بحينة أنه قال: صلى بنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم (٣) . رواه البخارى. وهو رواية له عن يحيى بن سعيد عن عبد اللّه بن بحينة أيضا أنه قال: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قام من اثنتين من الظهر، لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك. وفى روايته أيضا عن الأعرج عنه، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قام فى صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسى من الجلوس. ورواه مسلم أيضا. وزاد الضحاك عن الأعرج- عند ابن خزيمة- بعد قوله: (ثم قام فلم يجلس) فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته. وفى رواية الترمذى: قام فى الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم. __________ (١) تقدم. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣١) فى الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كان جماعة، والدارمى (١٢٥٣) فى الصلاة، باب: من أحق بالإمامة. من حديث مالك بن الحويرث- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٢٥) فى الجمعة، باب: ما جاء فى السهو إذا قام من ركعتى الفريضة، ومسلم (٥٧٠) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، من حديث عبد اللّه بن بحينة- رضى اللّه عنه-. وفى هذا: مشروعية سجود السهو، وأنه سجدتان. فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شئ، أو عامدا بطلت صلاته لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة. وأنه يكبر لهما كما يكبر فى غيرهما من السجود. واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام، ولا حجة فيه، فى كون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية. واستدل به أيضا على أن المأمون يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يسه المأموم. وأن سجود السهود لا تشهد بعده، وأن محله آخر الصلاة، فلو سجد للسهو قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من يوجب التشهد الأخير وهم الجمهور. وفيه أن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة، ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به- صلى اللّه عليه وسلم- كما فى رواية ابن خزيمة- فلم يرجع، فلو تعمد المصلى الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعى. عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: صلى بنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الظهر أو العصر، فسلم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول اللّه أنقصت؟ فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لأصحابه: (أحق ما يقول هذا؟) قالوا: نعم. فصلى ركعتين أخراوين ثم سجد سجدتين. قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم وتكلم ثم صلى ما بقى منها، وسجد سجدتين و قال: هكذا فعل النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. رواه البخارى. وقوله: (صلى بنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-) ظاهر فى أن أبا هريرة حضر القصة. وحمله الطحاوى على المجاز، فقال المراد به: صلى بالمسلمين. وسبب ذلك قول الزهرى: إن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وقبل إسلام أبى هريرة بأكثر من خمس سنين. لكن اتفق أئمة الحديث- كما نقله ابن عبد البر وغيره- على أن الزهرى وهم فى ذلك، وسببه أنه جعل القصة لذى الشمالين، وذو الشمالين هو الذى قتل ببدر، وهو خزاعى، واسمه عمير، وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بمدة لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كما أخرجه الطبرانى وغيره، وهو سلمى، واسمه الخرباق، كما سيأتى، فلما وقع عند الزهرى بلفظ (فقام ذو الشمالين) وهو يعرف أنه قتل ببدر، قال لأجل ذلك: إن القصة وقعت قبل بدر. وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذى الشمالين وذى اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما، وهو قصة ذى الشمالين، وشاهد الآخرى وهى قصة ذى اليدين، وهذا محتمل فى طريق الجمع. وروى البخارى أيضا عن ابن سيرين عن أبى هريرة قال: صلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إحدى صلاتى العشى- قال محمد بن سيرين: وأكثر ظنى العصر- ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة فى مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا قصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ذا اليدين، ف قال: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ ف قال: (لم أنس، ولم تقصر) ، ف قال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع رأسه فكبر وسجد، فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر (١) . وعن ابن عمران بن حصين أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى العصر فسلم من ثلاثة ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان فى يديه طول، فقال: يا رسول اللّه، فذكر صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: (أصدق هذا؟) قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم (٢) . رواه مسلم وهو من أفراده لم يروه البخارى. ورواه أحمد وأبو داود. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٨٢) فى الصلاة، باب: تشبيك الأصابع، وفى الجمعة، باب: من يكبر فى سجدتى السهو، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٥٧٤) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، وأبو داود (١٠١٨) فى الصلاة باب: السهو فى السجدتين، من حديث عمران بن حصين- رضى اللّه عنه-. و (الخرباق) بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء، بعدها موحدة، وآخره قاف، هو اسم ذى اليدين، كما ذهب إليه الأكثر، وطول يديه يمكن أن يحمل على الحقيقة، أو كناية عن طولهما بالعملأو البذل. قال الحافظ ابن حجر: الظاهر فى نظرى توحد حديث أبى هريرة، وإن كان قد جنح ابن خزيمة ومن تبعه إلى تعدد هذه القصة، والحامل لهم على ذلك الخلاف الواقع فى السياقين، ففى حديث أبى هريرة أن السلام وقع من اثنتين، وأنه- صلى اللّه عليه وسلم- قام إلي خشبة فى المسجد، وفى حديث عمران هذا: أنه سلم من ثلاث، وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة. فأما الأول فقد حكى كيكلدى العلائى أن بعض شيوخه حمله على المراد به أنه سلم فى ابتداء الركعة الثالثة، واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، فإنه يلزم منه كون ذى اليدين فى كل مرة استفهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عن ذلك، واستفهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الصحابة عن صحة قوله. وأما الثانى: فلعل الراوى لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله، لكون الخشبة كانت فى جهة منزله، فإن كان كذلك وإلا فرواية أبى هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه، كما أخرجه الشافعى وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة. انتهى. وعن معاوية بن حديج- بضم الحاء المهملة آخره جيم- أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى يوما فانصرف وقد بقى من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال: نسيت من الصلاة ركعة؟ فرجع فدخل المسجد، فأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أو تعرف الرجل؟ قلت: لا، إلا أن أراه، فمر بى فقلت: هو هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد اللّه (١) . رواه أبو داود والبيهقى فى سننهما، وابن خزيمة فى صحيحه، وعين الصلاة المغرب. __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٠٢٣) فى الصلاة، باب: إذا صلى خمسا، والنسائى (٢- ١٢) فى الأذان، باب الإقامة لمن نسى ركعة من الصلاة، من حديث معاوية بن حديج- رضى اللّه عنه-. وقال ابن خزيمة: وهذه القصة غير قصة ذى اليدين، لأن المعلم للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذه القصة طلحة بن عبيد اللّه، ومخبره فى تلك القصة ذو اليدين، والسهو منه- صلى اللّه عليه وسلم- فى قصة ذى اليدين إنما كان فى الظهر أو العصر، وفى هذه القصة إنما كان السهو فى المغرب لا فى الظهر ولا فى العصر. وعن محمد بن سيرين عن أبى هريرة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أصدق ذو اليدين؟) فقال الناس. نعم، فقام- صلى اللّه عليه وسلم- فصلى اثنتين أخريين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده للصلاة أو أطول، ثم رفع. وفى رواية سلمة بن علقمة، قلت لمحمد- يعنى ابن سيرين- فى سجدتى السهو تشهد؟ فقال: ليس فى حديث أبى هريرة. رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى. قال الحافظابن حجر: لم يقع فى غير هذه الرواية لفظ (القيام) وقد استشكل بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان قائما. وأجيب: بأن المراد بقوله: (فقام) أى اعتدل، لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما أمر. وقد يفهم من قول محمد بن سيرين عن التشهد: (ليس فى حديث أبى هريرة) أنه ورد فى حديث غيره. وهو كذلك: فقد رواه أبو داود والترمذى وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء عن أبى قلابة أبى المهلب عن عمران بن حصين أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صلى بهم، فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم. قال الترمذى: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث، وضعفه البيهقى وابن عبد البر وغيرهما. ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فرواية أشعث شاذة. لكن قد ورد فى التشهد فى سجود السهو عن ابن مسعود عند أبى داود والنسائى، وعن المغيرة عند البيهقى، وفى إسنادهما ضعف. فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة فى التشهد باجتماعها ترتقى إلى درجة الحسن، قال العلائى: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله. أخرجه ابن أبى شيبة. انتهى ملخصا من فتح البارى. وفى رواية أبى سفيان عن أبى هريرة عند مسلم: صلى لنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- صلاة العصر، فسلم فى ركعتين، فقام ذو اليدين ف قال: أقصرت الصلاة يا رسول اللّه أم نسيت؟ فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (كل ذلك لم يكن) ، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول اللّه. وفى رواية أبى داود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبى هريرة فى هذا الحديث قال: فكبر ثم كبر وسجد للسهو. وهذا يؤيد من قال لا بد من تكبيرة الإحرام فى سجود السهو بعد السلام، والجمهور على الاكتفاء بتكبيرة السجود، وهو ظاهر غالب الأحاديث. وقال أبو داود: لم يقل أحد: (كبر ثم كبر) إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزيادة. ويحتمل أن تكون الخشبة المذكورة فى هذا الحديث الجذع الذى كان- صلى اللّه عليه وسلم- يستند إليه قبل اتخاذ المنبر. وإنما وقع الاستفهام (هل قصرت الصلاة؟) لأن الزمان كان زمان النسخ. وقوله: فقال: (لم أنس ولم تقصر) صريح فى نفى النسيان ونفى القصر. وفيه تفسير للمراد بقوله فى رواية أبى سفيان المتقدمة (كل ذلك لم يكن) ، وتأييد لما قاله أصحابه المعانى بأن لفظة (كل)إذا تقدمت وعقبها النفى كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت، كأن يقول: لم يكن كل ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين فى رواية أبى سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه فى هذه الرواية بقوله: (بلى قد نسيت) لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابة أن السهو غير جائز عليه فى الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر. وهو حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فيما طريقه التشريع. قال ابن دقيق العيد: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبى السهو، وهذا الحديث يرد عليهم- يعنى حديث ابن مسعود- فإن فيه (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون) . وإن كان القاضى عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو فى الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال. لكنهم تعقبوه. نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه، بل يقع له بيان ذلك، إما متصلا بالفعل أو بعده، كما وقع فى هذا الحديث من قوله: (لم أنس ولم تقصر) ثم تبين أنه نسى. ومعنى قوله: (لم أنس) أى فى اعتقادى، لا فى نفس الأمر، ويستفاد منه: أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين، وفائدة السهو فى مثل ذلك بيان الحكم الشرعى إذا وقع مثله لغيره. وأمامن منع السهو مطلقا، فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة:
فقيل: قوله (لم أنس) نفى للنسيان، ولا يلزم منه نفى السهو، وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم ت.....ه، ويكفى فيه قوله فى هذه الرواية: (بلى قد نسيت) وأقره على ذلك. وقيل: قوله: (لم أنس) على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول. وتعقب: بحديث ابن مسعود عند البخارى ومسلم بلفظ (صلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فزاد أو نقص، شك بعض الرواة، والصحيح أنه زاد، فلما سلم قيل له: يا رسول اللّه أحدث فى الصلاة شئ؟ قال: (وما ذاك؟) قالوا: صليت كذا وكذا، قالوا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: (إنه لو حدث فى الصلاة شئ لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون. فإذا نسيت فذكرونى، وإذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين) (١) . ففيه: إثبات العلة قبل الحكم، بقوله: (إنما أنا بشر مثلكم) ولم يكتف بإثبات وصف النسيان له، حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا فقال: (كما تنسون) . وبهذا الحديث أيضا يرد قول من قال: (معنى قوله لم أنس) إنكار اللفظ الذى نفاه عن نفسه حيث قال: (إنى لأنس أو أنسّى لأسن) (٢) وإنكار للفظ الذى أنكره على غيره حيث قال: (بئسما لأحدكما أن يقول نسيت آية كذا وكذا) (٣) . وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث (لا أنسى) .......، فإنه من بلاغات مالك التى لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وهى أربعة، قاله ابن عبد البر. وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شئ، فإن الفرق بينهما واضح جدّا. وقيل: إن قوله (لم أنس) راجع إلى السلام، أى سلمت قصدا بانيا على اعتقادى أنى صليت أربعا، وهذا جيد، وكأن ذا اليدين فهم العموم ف قال: (بلى قد نسيت) ، وكأن هذا القول أوقع شكّا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين. وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذى اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغايرا لما فى اعتقاده. __________ (١) تقدم. (٢) أخرجه ملك فى الموطأ (٢٢٥) فى السهو، باب: العمل فى السهو. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٠٣٢) فى فضائل القرآن، باب: استذكار القرآن وتعهده، بلفظ (نسيت آية كيت وكيت) ، ومسلم (٧٩٠) فى صلاة المسافرين، باب: الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آية كذا. من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-. وبهذا يجاب من قال: إن من أخبر بأمر حسى بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ، ولا حامل لهم على السكوت، ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به. وفيه: أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا، وامتنع فى العادة غفلتهم عن ذلك أنه لا يقبل خبره. وفيه: جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافى سهوا. وقال سحنون: إنما يا بنى من سلم من ركعتين كما فى قصة ذى اليدين، لأن ذلك وقع على غير القياس، فيقتصر فيه على مورد النص. وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتى العشى، فيمنعه مثلا فى الصبح، والذين قالوا بجواز البناء مطلقا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل. وفيه: أن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة، خلافا للحنفية، واستدل به على أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها. وتعقب: بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يتكلم إلا ناسيا، وأما قول ذى اليدين له: (بلى قد نسيت) وقول الصحابة له: (صدق ذو اليدين) فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ فى وقت يمكن وقوعه، فتكلموا ظنّا أنهم ليسوا فى صلاة. كذا قيل، وهو فاسد، لأنهم تكلموا بعد قوله-صلى اللّه عليه وسلم-: (لم تقصر) . وأجيب: بأنهم لم ينطقوا، وإنما أومؤوا، كما عند أبى داود فى رواية ساق مسلم إسنادها، وهذا اعتمده الخطابى، وقال: حمل القول على الإشارة مجاز سائغ، بخلاف عكسه، فينبغى رد الروايات التى فيها التصريح بالقول إلى هذه الرواية، وهو قوى، أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق وبعضهم قال بالإشارة. لكن يقول قول ذى اليدين: (بلى قد نسيت) . ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا: بأن كلامهم كان جوابا للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وجوابه لا يقطع الصلاة. وتعقب: بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة. وأجيب: بأنه ثبتت مخاطبته فى التشهد، وهو حى، بقولهم: السلام عليك أيها النبى، ولم تفسد الصلاة، والظاهر: أن ذلك من خصائصه. وعن عبد اللّه أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد فى الصلاة؟ ف قال: (وما ذاك؟) قالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم. رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى بهذا اللفظ، إلا أن مسلما لم يقل فيه: (بعد ما سلم) وعبد اللّه هذا هو ابن مسعود. ففى هذه الأحاديث السجود بعد السلام. وقد اختلف فى ذلك. فقال مالك والمزنى، وأبو ثور- من الشافعية- بالتفرقة إذا كان السهو بالنقصان أو بالزيادة، فى الأول يسجد قبل السلام، وفى الزيادة يسجد بعده. وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره، للجمع بين الخبرين، قال: وهو موافق للنظر، لأنه فى النقص جبر، فينبغى أن يكون من أصل الصلاة، وفى الزيادة ترغيم للشيطان، فيكون خارجها. وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ، ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها فيعم الحكم جميع محالها فلا يتخصص إلا بنص. وتعقب بأن كون السجود فى الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص فى المعنى. وقال الخطابى: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح. وأيضا فقصة ذى اليدين وقع فيها السجود بعد السلام وهى عن نقصان. وأما قول النووى: أقوى المذاهب قول مالك ثم أحمد، فقد قال غيره: بل طريق أحمد أقوى، لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما يرد فيه، وما لم يرد فيه شئ يسجد قبل السلام، قال: ولولا ما روى عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى ذلك لرأيت كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعل قبل التسليم. وعند إمامنا الشافعى: سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية: كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث ابن مسعود هذا. وتعقب: بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد فى الصلاة، وقد اتفق العلماء فى هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله، لعدم علمه بالسهو، وإنما تابعه الصحابة لتجويزهم الزيادة فى الصلاة، لأنه كان زمان توقع النسخ. وأجاب بعضهم: بما وقع فى حديث ابن مسعود من الزيادة. وهى: (إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين) (١) . وأجيب: بأنه معارض بحديث أبى سعيد عند مسلم، ولفظه: (إذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدر كم صلى، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم) (٢) . وبه تمسك الشافعية. وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين، ورجح البيهقى طريقة التخيير فى سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردى الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف فى الأفضل، وكذا أطلقالنووى. وتعقب: بأن إمام الحرمين نقل فى (النهاية) الخلاف فى الإجزاء عن المذهب: واستبعد القول بالجواز. ويمكن أن ي قال: الإجماع الذى نقله الماوردى والنووى قبل هذه الآراء فى المذاهب المذكورة واللّه أعلم، قاله الحافظ ابن حجر- رحمه اللّه-. ولو سها سهوين فأكثر، كفاه عند الشافعى ومالك وأبى حنيفةوأحمد سجدتان للجميع. والجمهور: أنه يسجد للسهو فى التطوع كالفرض. __________ (١) تقدم. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٥٧١) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. الفصل الخامس فيما كان ص يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة انفتاله بعدهاعن ثوبان: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال: (اللّهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) (١) رواه مسلم. ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك. وقد ثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا صلى أقبل على أصحابه. فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقول بعد أن يقبل على أصحابه بوجهه الشريف، فقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يسرع الانفتال إلى المأمومين، وكان ينفتل عن يمينه وعن شماله. وقال ابن مسعود: رأيته- صلى اللّه عليه وسلم- كثيرا ينصرف عن يساره (٢) ، رواه الشيخان. وقالت أم سلمة: كان إذا سلم مكث فى مكانه يسيرا (٣) ، قالت (٤) : فنرى- واللّه أعلم- لكى ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. رواه البخارى. وقالت عائشة: كان لم يقعد إلا بمقدار ما يقول: (اللّهم أنت السلام __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٥٩١) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته من حديث ثوبان وعائشة، والترمذى (٢٩٨) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سلم من الصلاة، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٨٥٢) فى الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، ومسلم (٧٠٧) فى صلاة المسافرين، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٨٥٠) فى الأذان، باب: مكث الإمام فى مصلاه بعد الصلاة، وابن ماجه (٩٣٢) فى إقامة الصلاة، باب: الانصراف من الصلاة من حديث أم سلمة- رضى اللّه عنها-. (٤) القائل هو الزهرى وليست أم سلمة كما ذكر المصنف. ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام) (١) . رواه مسلم. وهذا الحديث يتمسك به من قال إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع. والجواب: إن المراد بالنفى المذكور نفى استمراره- صلى اللّه عليه وسلم- جالسا على هيئته قبل السلام إلا بمقدار أن يقول ما ذكر. وكان يقول: (لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللّهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (٢) . رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة. وكان يقول بأعلى صوته: (لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا حول ولا قوة إلا باللّه، لا إله إلا اللّه ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن الجميل، لا إله إلا اللّه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) (٣) ، رواه مسلم من حديث عبد اللّه بن الزبير. وعن سعد أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات ويقول: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يتعوذ بهن دبر الصلوات (اللّهم إنى أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر) (٤) رواه البخارى. __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٥٩٢) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والترمذى (٢٩٨) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سلم من الصلاة، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٨٤٤) فى الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة، من حديث المغيرة ابن شعبة- رضى اللّه عنه-، ومسلم (٤٧٧) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٥٩٤) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والنسائى (١٣٤٠) فى السهو، باب: عدد التهليل والذكر بعد التسليم، من حديث عبد اللّه بن الزبير- رضى اللّه عنه-. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٢٢) فى الجهاد، باب: ما يتعوذ من الجبن، والترمذى (٣٥٦٧) فى الدعوات، باب: دعاء النبى وتعوذه فى دبر كل صلاة، من حديث سعد بن أبى وقاص- رضى اللّه عنه-. وعن زيد بن أرقم: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يقول دبر كل صلاة: (اللّهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللّهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك، اللّهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة، اللّهم ربنا ورب كل شئ، اجعلنى مخلصا لك وأهلى فى كل ساعة فى الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب، اللّه أكبر اللّه أكبر، اللّه نور السموات والأرض، اللّه أكبر حسبى اللّه ونعم الوكيل، اللّه أكبر اللّه أكبر) (١) . رواه أبو داود وأحمد. ورأيت فى كتاب (الهدى) لابن القيم: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، سواء للمنفرد والإمام والمأموم، فلم يكن ذلك من هدى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أصلا، ولا روى عنه بإسناد صحيح، ولا حسن، وخصص بعضهم بصلاتى الفجر والعصر، ولم يفعله النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا عن السنة بعدهما. قال: وغاية الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، قال: وهذا هو الأليق بحال المصلى، فإنه مقبل على ربه مناجيه، فإذا سلم منها انقطعت المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله فى حال مناجاته والقرب منه وهو مقبل عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه. ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلى على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد أن يفرغ منها، ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، وهى الذكر الوارد بعد المكتوبة، لا لكونه دبر المكتوبة، انتهى. وقد كان فى خاطرى من دعواه (النفى مطلقا) شئ لما سيأتى، ثم رأيت شيخ مشايخنا إمام الحفاظ أبا الفضل ابن حجر تعقبه __________ (١) أخرجه أحمد (٤/ ٣٦٩) ، وأبو داود (١٥٠٨) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا سلم، من حديث زيد بن أرقم- رضى اللّه عنه- . فقال: وما ادعاه من النفى مطلقا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال له: (يا معاذ واللّه إنى لأحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللّهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) (١) . أخرجه أبو داود والنسائى. وحديث زيد بن أرقم: سمعته- صلى اللّه عليه وسلم- يدعو فى دبر الصلاة: (اللّهم ربنا ورب كل شئ) (٢) . أخرجه أبو داود والنسائى. وحديث صهيب رفعه: كان يقول إذا انصرف من الصلاة: (اللّهم أصلح لى دينى) (٣) . أخرجه النسائى وصححه ابن حبان. وغير ذلك. ثم قال: فإن قيل: المراد بدبر الصلاة قرب آخرها وهو التشهد، قلنا: قد ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة، والمراد به السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه، وقد أخرج الترمذى من حديث أمامة: قيل يا رسول اللّه أى الدعاء أسمع؟ قال: (جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات) (٤) ، وقال: حسن، وأخرج الطبرانى من رواية جعفر بن محمد الصادق قال: (الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة، كفضل المكتوبة على النافلة) . __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٥٢٢) فى الصلاة، باب: الاستغفار، من حديث معاذ بن جبل- رضى اللّه عنه-. (٢) أخرجه أبو داود (١٥٠٨) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا سلم. من حديث زيد بن أرقم- رضى اللّه عنه- . (٣) الإسناد: أخرجه النسائى (٣/ ٧٣) فى السهو، باب: نوع آخر من الدعاء عند الانصراف من الصلاة، من طريق عطاء بن أبى مروان عن أبيه قال: وحدثنى كعب أن صهيبا حلف أن محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقولهن عند انصرافه من صلاته. (٤) حسن: أخرجه الترمذى (٣٤٩٩) فى الدعوات، باب: ما جاء فى عقد التسبيح باليد، من حديث أبى أمامة- رضى اللّه عنه-، وقال الترمذى: حديث حسن. قال: وفهم كثير من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفى الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلى القبلة، وإيراده عقب السلام، وأما إذا انفتل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ. انتهى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- حين تقام الصلاة فى المسجد إذا رآهم قليلا جلس، وإذا رآهم جماعة صلى. رواه أبو داود. وقال أبو مسعود البدرى: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يمسح مناكبنا فى الصلاة ويقول: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلنى منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم) (١) رواه مسلم. وقال ابن عباس: قام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى فقمت عن يساره، فأخذ بيدى من وراء ظهره فعدلنى كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن (٢) . رواه البخارى ومسلم. قال أنس: سقط- صلى اللّه عليه وسلم- عن فرس، فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا، فصلينا وراءه قعودا، فلما قضى الصلاة قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا) ، حتى قال: (وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون) (٣) . زاد بعض الرواة: وإذا صلى قائما فصلوا قياما. رواه البخارى ومسلم. قال الحميدى: ومعانى سائر الروايات متقاربة وزاد البخارى: قوله: __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٤٣٢) فى الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، وأبو داود (٦٧٤) فى الصلاة، باب: من يستحب أن يلى الإمام فى الصف وكراهية التأخير. والنسائى (٢/ ٨٧) فى الإمامة، باب: من يلى الإمام ثم الذى يليه، من حديث أبى مسعود وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١١٧) فى العلم، باب: السمر فى العلم، ومسلم (٧٦٣) فى صلاة المسافرين، فى الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٨٨) فى الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، من حديث عائشة- رضى اللّه عنهما-، ومسلم (٤١١) فى الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. (وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا) (١) هو فى مرضه القديم. وقد صلى فى مرضه الذى مات فيه جالسا والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمره- صلى اللّه عليه وسلم- انتهى. وقال الشافعى وأبو حنيفة وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلى خلف القاعد إلا قائما، واحتجوا بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى فى مرض موته بعد هذا قاعدا، وأبو بكر والناس خلفه قياما. وإن كان بعض العلماء زعم أن أبا بكر- رضى اللّه عنه- كان هو الإمام، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- مقتد به، لكن الصواب أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان هو الإمام. |