Geri

   

 

 

İleri

 

 ٩-١ النوع الأول فى الطهارة وفيه فصول:

الفصل الأول: فى ذكر وضوئه ص وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به

اعلم أن الوضوء، بالضم: الفعل، وبالفتح: الماء الذى يتوضأ به، على المشهور فيهما، وهو مشتق من الوضاءة، وسمى به لأن المصلى يتنظف به فيصير وضيئا. وقد استنبط بعض العلماء- كما حكاه فى فتح البارى- إيجاب النية فى الوضوء من

قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا (٣) لأن التقدير: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها. ومثله قوله: إذا رأيت الأمير فقم، أى، لأجله.

وقال ابن القيم: لم يرو أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقول فى أول وضوئه نويت رفع الحدث ولا غيرها، لا هو ولا أصحابه البتة، ولم يرو عنه لا بسند صحيح ولا ...... انتهى.

__________

(١) القال هنا: شيخ الإسلام البلقينى أحد شراح البخارى.

(٢) أخرجه ابن أبى الدنيا فى الفرج، وابن عساكر عن على، كما فى (..... الجامع) (١٣٣١) وانظر رقمى (١٣٢٩ و ١٣٣٠) .

(٣) سورة المائدة: ٦.

قال: أما التلفظ بالنية فلا نعلم أنه روى عنه- صلى اللّه عليه وسلم وأما كونه أتى بها فقد قال الإمام فخر الدين الرازى فى (المعالم) : اعلم أنا إذا أردنا أن نقول فى أمر من الأمور: هل فعله الرسول- صلى اللّه عليه وسلم-؟ قلنا فى إثباته طرق:

الأول: أنا إذا أردنا أن نقول إنه- صلى اللّه عليه وسلم- توضأ مع النية والترتيب، قلنا:

لا شك أن الوضوء مع النية والترتيب أفضل، والعلم الضرورى حاصل بأن أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوى، ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العارى عن النية والترتيب، والشك لا يعارض اليقين، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوى، فوجب أن يجب علينا مثله.

والطريق الثانى: أن نقول: لو أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ترك النية والترتيب وجب علينا تركه للدلائل الدالة على وجوب الاقتداء به، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه، بل فعله. وفى الصحيحين وغيرهما من حديث عمر مرفوعا (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (١) . قال البخارى:

(فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام) .

وأشار بذكر الوضوء إلى خلاف من لم يشترط فيه النية، كما نقل عن الأوزاعى وأبى حنيفة وغيرهما. وحجتهم: أنه ليس عبادة مستقلة، بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة. ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية فيه النية. واستدل الجمهور على اشتراط النية فى الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه فلا بد من قصد يميزه ليحصل الثواب الموعود به.

وقوله: (إنما الأعمال بالنيات) ليس المراد منه نفى ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفى أحكامها كالصحة والكمال. ولكن الحمل على نفى الصحة أولى لأنه أشبه بنفى الشئ نفسه، ولأن اللفظ دل على نفى الذات بالصريح وعلى نفى الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفى الذات بقيت دلالته على نفى الصفات مستمرة.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١) فى بدء الوحى، باب: بدء الوحى، ومسلم (١٩٠٧) فى الإمارة، باب: قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنية) .

قال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية، قدروا: صحة الأعمال، والذين لم يشترطوها قدروا: كمال الأعمال. ورجح الأول لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى.

وفى هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى اشتراط النية، وليس الخلاف بينهم فى ذلك إلا فى الوسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم فى اشتراط النية لها. ومن ثم خالف الحنفية فى اشتراطها للوضوء كما تقدم، وخالف الأوزاعى فى اشتراطها فى التيمم أيضا. نعم بين العلماء اختلاف فى اقتران النية بأول العمل كما هو معروف فى مبسوطات الفقه.

وأما قوله- أى البخارى- (فدخل فيه الإيمان) ، فتوجيه دخول النية فى الإيمان على طريقة البخارى: أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب، من خشية اللّه وتعظيمه ومحبته والتقرب إليه، لأنها متميزة للّه فلا تحتاج إلى نية تميزها، لأن النية إنما تميز العمل للّه عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم عن الحمية.

وقوله أيضا: (والأحكام) أى المعاملات التى يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فتشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، وكل صورة لم تشترط فيها النية فذلك لدليل خاص.

وقد ذكر ابن المنير ضابطا- لما تشترط فيه النية مما لا تشترط فيه- ف

قال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتقاضته الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب.

قال: وإنما اختلف العلماء فى بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة.

قال: وأما ما كان من المعانى المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويّا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلى.

وأما الأقوال، فتحتاج إلى النية فى ثلاثة مواطن: أحدها: التقرب إلى اللّه تعالى فرارا من الرياء،

والثانى: التمييز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود.

والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. انتهى، ذكره الحافظ ابن حجر فى فتح البارى.

وقد اختلف العلماء فى الوقت الذى وجب فيه الوضوء:

فقال بعضهم: أول ما فرض بالمدينة، وتمسك بقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (١) الآية. ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض عليه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو بمكة، كما افترضت الصلاة، وأنه لم يصل قطّ إلا بوضوء، و

قال: وهذا مما لا يجهله عالم.

وقال الحاكم فى المستدرك: أهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس:

دخلت فاطمة- رضى اللّه عنها- على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهى تبكى

فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، ف

قال: (ائتونى بوضوء فتوضأ) (٢) . قال الحافظ ابن حجر: وذا يصلح أن يكون ردّا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ.

وقد جزم ابن الجهم المالكى بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة. ورد عليه بما أخرجه ابن لهيعة فى المغازى التى يرويها عن أبى الأسود عن عروة أن جبريل- عليه السّلام- علم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الوضوء عند نزوله عليه بالوحى. وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا، لكن

قال: عن الزهرى عن عروة، عن أسامة بن زيد عن أبيه،

وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهرى نحوه،

__________

(١) سورة المائدة: ٦.

(٢) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (١/ ٢٦٨) ، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، وقال الحاكم: حديث صحيح ولا أعلم له علة. قلت: إن مولد ابن عباس- رضى اللّه عنهما- كان فى الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، فمتى تحمل رواية هذا الخبر فى مكة قبل الهجرة!.

لكن لم يذكر زيد بن حارثة فى السند،

وأخرجه الطبرانى فى الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا. ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة.

وعن أنس

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة. قيل له:

كيف كنتم تصنعون؟

قال: يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث (١) . رواه البخارى وأبو داود والترمذى. وعن عثمان- رضى اللّه عنه- أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يتوضأ لكل صلاة. رواه الدارمى. وروى مسلم عن بريدة

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى صلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: فعلت شيئا لم تكن تفعله،

فقال: (عمدا فعلته يا عمر) (٢) يعنى لبيان الجواز. وفى رواية أحمد وأبى داود، من حديث عبد اللّه بن أبى عامر الغسيل، أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة)

ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. واختلف العلماء فى موجب الوضوء:

 

فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا.

وقيل: به وبالقيام إلى الصلاة معا، ورجحه جماعة من الشافعية.

وقيل: بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس مرفوعا: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة. وقد تمسك بحديث عبد اللّه بن أبى عامر هذا من قال بوجوب السواك عليه- صلى اللّه عليه وسلم-، لكن فى إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس، والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢١٤) فى الوضوء، باب: الوضوء من غير حدث، وأبو داود (١٧١) فى الطهارة، باب: الرجل يصلى الصلوات بوضوء واحد، والترمذى (٦٠) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء لكل صلاة.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٧) فى الطهارة، باب: جواز الصلوات كلها بوضوء واحد.

(٣) حسن: أخرجه أبو داود (٤٨) فى الطهارة، باب: السواك، والدارمى (٦٥٨) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٢٥٨) .

وأخرج الطبرانى فى الأوسط والبيهقى فى السنن عن عائشة مرفوعا:

(ثلاث هن علىّ فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك وقيام الليل) (١) . وقد روى أحمد فى مسنده بإسناد حسن من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على) (٢) . وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس بواجب علينا. لكن حكى عن بعض الشافعية أنه أوجبه للصلاة ونوزع فيه. واتفقوا على أنه مستحب مطلقا، ويتأكد بأحوال:

منها: عند الوضوء وإرادة الصلاة.

ومنها: عند القيام من النوم، لما ثبت فى الصحيحين من حديث حذيفة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- (كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) (٣) لكن قد يقال: المراد، قام من الليل للصلاة، فيكون المراد السواك للصلاة وعند الوضوء.

ومنها: قراءة القرآن، كما جزم به الرافعى.

ومنها: تغير الفم، سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون، كصفرة الأسنان، كما ذكره الرافعى.

ومنها: دخول المنزل، جزم به النووى فى زيادة الروضة، لما روى مسلم وأبو داود والنسائى وابن ماجه، من حديث عائشة، أنه- صلى اللّه عليه وسلم- (كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك) (٤) .

__________

(١) أخرجه أحمد فى (المسند) (١/ ٢٣١) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٤٤١) ، والدار قطنى فى (سننه) (٢/ ٢١) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٢/ ٤٦٨) و (٩/ ٢٦٤) ، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، بسند فيه أبو جناب الكلبى، اسمه يحيى بن أبى حية، ..... الحديث، ولم يتابع عليه.

(٢) أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ٤٩٠) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢٢/ ٧٦) ، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٢/ ٩٨) و

قال: وفيه ليث بن أبى سليم، وهو ثقة مدلس، وقد عنعنه.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٤٦) فى الوضوء، باب: السواك، ومسلم (٢٥٥) فى الطهارة، باب: السواك.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٥٣) فى الطهارة، باب: السواك.

ومنها: إرادة النوم، كما ذكره الشيخ أبو حامد (١) فى (الرونق) (٢) ، وروى فيه ما رواه ابن عدى فى الكامل من حديث جابر: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يستاك إذا أخذ مضجعه (٣) . وفيه: حرام بن عثمان، متروك.

ومنها: الانصراف من صلاة الليل، لما روى ابن ماجه من حديث ابن عباس بإسناد صحيح

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك (٤) .

ويجزئ بكل خشن، ولو بأصبع غيره الخشنة، وقد جزم النووى فى شرح المهذب ودقائق المنهاج أنه يجزئ بها قطعا. قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما أدرى ما وجه التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره وكونه جزآ منه لا يظهر منه ما يقتضى منعه، بل كونها أصبعه أبلغ فى الإزالة، لأنه يتمكن بها أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه لا جرم.

قال النووى فى شرح المهذب: المختار أجزاؤه مطلقا.

قال: وبه قطع القاضى حسين والمحاملى فى اللباب والبغوى واختاره فى البحر. انتهى.

ولقد أطبق أصحاب الشافعى على استحباب (الأراك) فروى الطبرانى من حديث أبى خيرة الصنابحى- وله صحبة- حديثا قال فيه: ثم أمر لنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بأراك

فقال: (استاكوا بهذا) (٥) .

__________

(١) هو: الشيخ أبو حامد الإسفرايينى الفقيه الشافعى المعروف، المتوفى سنة ٤٠٦ هـ.

(٢) الرونق: مختصر فى فروع الشافعية على طريقة اللباب للمحاملى، وقد اختلف فى مؤلفه، قيل إنه منسوب إلى الشيخ أبى حامد الإسفرايينى، وقيل إنه من تصانيف أبى حاتم القزوينى كذا فى طبقات السبكى، قال ابن السبكى: وهذا غير مستبعد فإن أبا حاتم قرأ على المحاملى والرونق أشبه شئ بكلام المحاملى فى اللباب، انظر كشف الظنون (١/ ٩٣٤) .

(٣) ل..... راويه.

(٤) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٢٨٨) فى الطهارة، باب: السواك.

(٥) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٦١- ٦٢) وقال: رواه الطبرانى، وفيه جماعة لم أعرفهم.

وفى مستدرك الحاكم من حديث عائشة فى دخول أخيها عبد الرحمن ابن أبى بكر فى مرضه- صلى اللّه عليه وسلم- ومعه سواك من أراك، فأخذته عائشة فطيبته ثم أعطته رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فاستاك به (١) . والحديث فى الصحيح وليس فيه ذكر الأراك. وفى بعض طرقه عند البخارى: ومعه سواك من جريد النخل.

وقد روى أبو نعيم فى كتاب السواك، من حديث عائشة

قالت: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يستاك عرضا (٢) ، وروى البيهقى أيضا من حديث ربيعة بن أكثم

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يستاك عرضا الحديث.

قال أصحابنا: والمراد بقوله (عرضا) : عرض الأسنان فى طول الفم.

وهل الأولى أن يباشر المستاك بيمينه أو شماله؟ قال بعضهم بيمينه، لحديث:

كان يعجبه التيمن فى ترجله وتنعله وطهره وسواكه. وبناه بعضهم على أنه هل هو من باب التطهير والتطيب، أو من باب إزالة القاذورات. فإن قلنا بالأول استحب أن يكون باليمنى، وإن قلنا بالثانى فبشماله لحديث عائشة:

كانت يد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- اليمين لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى (٣) . رواه أبو داود بإسناد صحيح.

قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما استدل به على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة، فإن المراد منه بالشق الأيمن فى الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى فى التطهير، والبداءة بالجانب الأيمن فى الاستياك، وأما كونه يفعل ذلك بيمينه فيحتاج إلى نقل، والظاهر أنه من باب إزالة الأذى

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٨) ، وهو فى صحيح البخارى (٨٩٠) فى الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره، بدون ذكر (الأراك) ورواية (جريد النخل) عند البخارى (٤٤٥١) .

(٢) أخرجه البغوى وابن قانع والطبرانى فى الكبير وابن السنى وأبو نعيم فى الطب عن بهز، والبيهقى فى السنن عن ربيعة بن أكثم، كما فى (..... الجامع) (٤٥٥٢) .

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٣ و ٣٤) فى الطهارة، باب: كراهية مس الذكر باليمين فى الاستبراء، وأحمد فى (المسند) (٦/ ١٥٦ و ١٧٠ و ٢٦٥).

كالامتخاط ونحوه فيكون باليسرى. وقد صرح بذلك أبو العباس أحمد القرطبى فقال فى (المفهم) حكاية عن مالك: أنه لا يتسوك فى المساجد لأنه من باب إزالة القذر واللّه أعلم.

وأما مقدار ما كان- صلى اللّه عليه وسلم- يتوضأ أو يغتسل به من الماء:

فعن أنس

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد، وفى رواية: كان يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك (١) . رواه البخارى ومسلم وأبو داودوعنده: يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع. ورواه الترمذى وعنده: أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (يجزئ فى الوضوء رطلان من الماء) (٢) . وعن عائشة

قالت: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد (٣) . رواه أبو داود. وعن ابن عباس، أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد (٤) . والصاع: خمسة أرطال وثلث، برطل بغداد، وهو على ما قاله النووى مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم.

وحذر- صلى اللّه عليه وسلم- أمته من الإسراف فيه.

ومر بسعد وهو يتوضأ،

فقال: (ما هذا السرف يا سعد؟)

قال: أفى الوضوء سرف؟

قال: (نعم، وإن كنت على نهر جار) (٥) ، رواه أحمد بإسناد لين، من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠١) فى الوضوء، باب: الوضوء بالمد، ومسلم (٣٢٥) فى الحيض، باب: القدر المستحب من الماء فى غسل الجنابة، وأبو داود (٩٥) فى الطهارة، باب: ما يجزئ من الماء من الوضوء.

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٦٠٩) فى الجمعة، باب: قدر ما يجزئ من الماء فى الوضوء .

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٩٢) فى الطهارة، باب: ما يجزئ من الماء فى الوضوء.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٢٥٣) فى الغسل، باب: الغسل بالصاع ونحوه، ومسلم (٣٢٢) فى الحيض، باب: القدر المستحب من الماء فى غسل الجنابة.

(٥) أخرجه أحمد فى (المسند) (٢/ ٢٢١) ، من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص- رضى اللّه عنه-، بسند فيه ضعف.

وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء) (١) . رواه الترمذى من حديث أبى بن كعب.

الفصل الثانى فى وضوئه ص مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا

عن ابن عباس

قال: توضأ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مرة مرة (٢) . رواه البخارى وأبو داود وغيرهما. وهو بيان لمجمل

قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا (٣) الآية. إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة ولا يتعين بعدد، فبين الشارع أن المرة الواحدة، للإيجاب، وما زاد عليها للاستحباب. وأما حديث أبى بن كعب أنه- صلى اللّه عليه وسلم- دعا بماء فتوضأ مرة مرة و

قال: (هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به) (٤) ، ففيه بيان القول والفعل معا، لكنه حديث ..... أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها .....ة، كما قال فى فتح البارى.

وعن عبد اللّه بن زيد أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- توضأ مرتين مرتين و قال: (نور على نور) (٥) ذكره رزين، وعن عثمان- رضى اللّه عنه- أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) جدّا: أخرجه الترمذى (٥٧) فى الطهارة، باب: ما جاء فى كراهية الإسراف فى الوضوء بالماء، وابن ماجه (٤٢١) فى الطهارة، باب: ما جاء فى القصد فى الوضوء وكراهة التعدى فيه، وأحمد فى (المسند) (٥/ ١٣٦) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٧) فى الوضوء، باب: الوضوء مرة مرة.

(٣) سورة المائدة: ٦.

(٤) أخرجه ابن ماجه (٤٢٠) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، والدار قطنى في (سننه) (١/ ٨١) ، وقال البوصيرى فى الزوائد. فى إسناده زيد هو العمى، .....، وكذا الراوى عنه، ورواه الإمام أحمد فى مسنده عن أبى إسرائيل عن زيد العمى عن نافع عن ابن عمر.

(٥) صحيح دون طرفه الأخير: والحديث أخرجه البخارى (١٥٨) فى الوضوء، باب: الوضوء مرتين مرتين، ولم أقف على زيادة (نور على نور) .

توضأ ثلاثا ثلاثا (١) . رواه أحمد ومسلم. وعنه أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- توضأ ثلاثا و

قال: (هذا وضوئى ووضوء الأنبياء من قبلى ووضوء إبراهيم) (٢) .

ذكره رزين، وضعفه النووى فى شرح مسلم كما حكاه فى مشكاة المصابيح.

ولم يأت فى شئ من الأحاديث المرفوعة فى صفة وضوئه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه زاد على ثلاث، بل روى عنه أنه نهى عن الزيادة على الثلاث.

فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم

قال: (من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم) (٣) ، رواه أبو داود بإسناد جيد، لكن عده مسلم فى جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب، لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة.

وأجيب: بأنه أمر نسبى، والإساءة تتعلق بالنقص والظلم بالزيادة،

وقيل: فيه حذف تقديره: من نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه أبو نعيم عن حماد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعا: (الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، فإن نقص من واحدة أو زاد على الثلاث فقد أخطأ) (٤) وهو مرسل رجاله ثقات.

وأجيب عن الحديث أيضا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم يقتصر على قوله: فمن زاد فقط، كذا رواه ابن خزيمة فى صحيحه. قال الشافعى: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد أكرهه، أى لم أحرمه، لأن قوله: لا أحب، يقتضى الكراهة وهذا هو الأصح عند الشافعية أنه يكره كراهة تنزيه.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٠) فى الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه.

(٢) أخرجه ابن ماجه (٤١٩) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، والدار قطنى فى (سننه) (١/ ٧٩- ٨١) ، من حديث ابن عمر، ولم أجده من حديث عثمان، وقال البوصيرى فى (الزوائد) فى الإسناد زيد العمى وهو .....، وعبد الرحيم متروك، بل كذاب، ومعاوية بن قرة لم يلق ابن عمر، قاله أبو حاتم فى العلل وصرح به الحاكم فى المستدرك.

(٣) أخرجه أبو داود (١٣٥) فى الطهارة، باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا.

(٤) المطلب بن حنطب، مختلف فى صحبته بين من أثبتها وبين من نفاها، وعلى ذلك فمن الممكن أن يكون حديثه موصولا.

وحكى الدارمى من الشافعية عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء، كالزيادة فى الصلاة، وهو قياس فاسد. وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث. وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم.

ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق.

الفصل الثالث فى صفة وضوئه صلى اللّه عليه وسلم

عن عثمان بن عفان- رضى اللّه عنه- أنه دعا بإناء فأفرغ على يديه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه فى الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا إلى المرفقين، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من توضأ نحو وضوئى هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه) (١) رواه البخارى.

وقد استدل بعضهم بقوله: (ثم أدخل يمينه) على عدم اشتراط نية الاغتراف. ولا دلالة فيه نفيّا ولا إثباتا، وأما اشتراط نية الاغتراف فليس فى هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها. قال الغزالى: مجرد الاغتراف لا يصيّر الماء مستعملا، لأن الاستعمال إنما يقع فى المغترف منه. وبهذا قطع البغوى.

وقد ذكروا فى حكمة تأخير غسل الوجه، أنه لاعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم يدرك بالفم، والريح بالأنف. فقدمت المضمضة والاستنشاق قبل الوجه، وهو مفروض احتياطا للعبادة.

وقال النووى فى قوله: (نحو وضوئى) ، إنما لم يقل- صلى اللّه عليه وسلم-: مثل، لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره. لكن تعقبه فى (فتح البارى) بأنه ثبت

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٠) فى الوضوء، باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا.

التعبير بها فى رواية البخارى فى الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران بن عثمان ولفظه: (من توضأ مثل وضوئى هذا) . وفى الصيام من رواية معمر: (من توضأ وضوئى هذا) ،

قال: وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة، لأنها تطلق على المثلية مجازا، ولأن (مثل) وإن كانت تقتضى المساواة ظاهرا، لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود، انتهى.

وعن عبد اللّه بن زيد بن عاصم الأنصارى، أنه قيل له: توضأ لنا وضوء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فدعا بإناء، فأكفأ على يديه فغسلهما ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فتمضمض واستنشق من كف واحد ففعل ذلك ثلاثا (١) . ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا. ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح رأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم

قال: هكذا كان وضوء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وفى رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذى بدأ منه (٢) . رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى. وفى رواية لأبى داود: ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه فى صماخى أذنيه.

وفى رواية أبى داود والترمذى والنسائى عن عبد خير، أبى عمارة بن زيد بن خولى- بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وتشديد الياء- الهمدانى،

__________

(١) زيادة من مصادر التخريج.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٥) فى الوضوء، باب: مسح الرأس كله، ومسلم (٢٣٥) فى الطهارة، باب: وضوء النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأبو داود (١١٨- ١٢٠) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والترمذى (٣٢) فى الطهارة، باب: ما جاء فى مسح الرأس أنه يبدأ بمقدم الرأس إلى مؤخره، والنسائى (١/ ٧١) فى الطهارة، باب: حد الغسل، وباب: صفة مسح الرأس، وابن ماجه (٤٣٤) فى الطهارة، باب: ما جاء فى مسح الرأس، ومالك (١/ ١٨) فى الطهارة، باب: العمل فى الوضوء.

من كبار أصحاب على بن أبى طالب،

قال: أتانا على وقد صلى، فدعا بطهور، فقلنا ما يصنع بالطهور وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا، فأتى بإنا فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر ثلاثا، فمضمض ونثر من الكف الذى يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده اليسرى ثلاثا، ثم جعل يده اليمنى فى الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله اليسرى ثلاثا،

وقال: من سره أن يعلم وضوء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فهو هذا (١) .

وقال ابن القيم: والصحيح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يكرر مسح رأسه، انتهى.

وقال النووى: والأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة وفى بعضها الاقتصار على قوله: مسح. واحتج الشافعى بحديث عثمان- رضى اللّه عنه- فى صحيح مسلم أنه- صلى اللّه عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا، وبالقياس على باقى الأعضاء، انتهى.

وأجيب: بأنه مجمل مبين فى الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب ويخص بالمغسول، وبأن المسح مبنى على التخفيف فلا يقاس على الغسل الذى المراد منه المبالغة فى الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر فى المسح لصار فى صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء.

واحتج الشافعية أيضا بما رواه أبو داود فى سننه عن عثمان من وجهين، صحح أحدهما ابن خزيمة: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- مسح رأسه ثلاثا (٢) . وفى رواية أبى داود والترمذى من حديث الربيع بنت معوذ: فغسل كفيه ثلاثا، ووضأ وجهه ثلاثا، وتمضمض واستنشق مرة، ووضأ يديه ثلاثا، ومسح رأسه مرتين بدأ

__________

(١) حسن: أخرجه أبو داود (١١٦) مختصرا فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والترمذى (٤٨) فى الطهارة، باب: ما جاء فى وضوء النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والنسائى (١/ ٧٠) فى الطهارة، باب: عدد غسل اليدين، وأحمد فى (المسند) (١/ ١٢٧) بسند حسن.

(٢) أخرجه أبو داود (١١٠) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، بسند فيه عامر بن شقيق بن جمرة، ..... الحديث.

بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه كليهما ظهورهما وبطونهما، ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا) .

وقد أجاب العلماء عن أحاديث المسح مرة واحدة بأن ذلك لبيان الجواز، ويؤيده رواية مرتين هذه. وقال ابن السمعانى- كما حكاه فى فتح البارى- اختلاف الرواية يحمل على التعدد، فيكون مسح تارة مرة، وتارة ثلاثا، فليس في رواية مسح مرة حجة على منع التعدد، ويحتج للتعدد بالقياس على المغسول، لأن الوضوء طهارة حكمية، ولا فرق فى الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح.

قال (٢) : ومن أقوى الأدلة على عدم التعدد، الحديث المشهور الذى صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد اللّه بن عمرو بن العاصى فى صفة الوضوء بعد أن فرغ: (من زاد على هذا فقد أساء وظلم) (٣) فإن فى رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة فى مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من الأحاديث فى تثليث المسح، إن صحت- على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس، جمعا بين الأدلة. انتهى.

وفى حديث عبد اللّه بن زيد- عند البخارى- الذى ذكرته قبل: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر. وفى رواية: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما فى المكان الذى بدأ منه. وزاد ابن الطباع بعد قوله:

(ثم مسح رأسه) كله، كما هو فى رواية ابن خزيمة. وفى رواية غيره- كما

__________

(١) أخرجه أبو داود (١٢٦- ١٣١) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والترمذى (٣٣) فى الطهارة، باب: ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس، وابن ماجه (٣٩٠) فى الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، و (٤٣٨) باب: ما جاء فى مسح الرأس، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٣٧٩) بسند فيه عبد اللّه بن محمد بن عقيل، وفيه مقال مشهور، ولا سيما إذا عنعن.

(٢) القائل هنا: هو الحافظ ابن حجر صاحب فتح البارى.

(٣) تقدم: وفيه ضعف بهذه الزيادة.

قدمته-: (برأسه) بزيادة الباء، موافقة لقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ (١) .

قال البيضاوى: (الباء) أى فى الآية مزيدة،

وقيل: للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك، مسحت المنديل وبالمنديل، ووجه أن يقال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فلكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم، وذلك لا يقتضى الاستيعاب، بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله:

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، انتهى.

وقال الشافعى: احتمل

قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ (٢) جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ، والفرق بينه وبين

قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ (٣) فى التيمم، أن المسح فيه بدل عن الغسل، ومسح الرأس أصل فافترقا. ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجل، لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع.

وقد روى من حديث عطاء أنه- صلى اللّه عليه وسلم- توضأ، فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه، وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس (٤) ، وفى إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، لكن اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة وهذا مثال لما ذكره الشافعى من أن المرسل يعضد بمرسل آخر أومسند.

وفى الباب أيضا عن عثمان فى صفة الوضوء

قال: ومسح مقدم رأسه،

__________

(١) سورة المائدة: ٦.

(٢) سورة المائدة: ٦.

(٣) سورة المائدة: ٦.

(٤) حديث أنس أخرجه أبو داود (١٤٧) فى الطهارة، باب: المسح على العمامة وابن ماجه (٥٦٤) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على العمامة، والحديث فى إسناده أبو معقل الراوى عن أنس مجهول، والراوى عنه عبد العزيز بن مسلم مقبول الحديث، قاله الحافظ فى (التقريب) (٤١٢٣) .

أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبى مالك مختلف فيه.

وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك قاله ابن حزم. قال الحافظ ابن حجر:

وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره. انتهى.

واختلف فى القدر الواجب فى مسح الرأس، فذهب الشافعى وجماعة إلى أن الواجب ما ينطلق عليه الاسم ولو شعرة واحدة أخذا باليقين. وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب استيعابه أخذا بالاحتياط. وقال أبو حنيفة فى رواية: الواجب ربعه، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- مسح على ناصيته وهو قريب من الربع. واللّه أعلم.

وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده

قال: دخلت على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق (١) . رواه أبو داود. وعنه أيضا

قال: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- توضأ، فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد (٢) . رواه ابن ماجه.

وفى حديث مسلم أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه فى الإناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات. وفى حديث عبد اللّه بن زيد عند البخارى: ثم غسل ومضمض واستنشق من كف واحد ثم

قال: هكذا وضوء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٣) .

قال النووى: فيه أن السنة فى المضمضة والاستنشاق، أن يأخذ الماء لهما بيمينه،

قال: وفى الأفضل فى كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه:

__________

(١) أخرجه أبو داود (١٣٩) فى الطهارة، باب: فى الفرق بين المضمضة والاستنشاق، والبيهقى فى (الكبرى) (١/ ٥١) و

قال: قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: أن ابن عيينة كان ينكره ويقول: أيش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده.

(٢) قلت: هو عند ابن ماجه (٤٠٤) فى الطهارة، باب: المضمضة والاستنشاق من كف واحد، من حديث على- رضى اللّه عنه-، وذكر حديثان معه فى نفس الباب ليس فيها أحد من طريق طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده.

(٣) تقدم حديثى عثمان وعبد اللّه بن زيد- رضى اللّه عنهما-.

الأصح: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق.

والثانى: يجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثا ثم يستنشق منها ثلاثا.

والثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها ثم يستنشق.

والرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من إحداهما ثلاثا، ثم يستنشق من الآخرى ثلاثا.

والخامس: يفصل بست غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات.

قال: والصحيح الأول: وبه جاءت الأحاديث الصحيحة. وقد ذهب الإمام أحمد وأبو ثور إلى وجوب الاستنشاق، وهو أن يبلغ الماء إلى خياشمه، مستدلين بقوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى حديث أبى هريرة: (إذا توضأ أحدكم فليجعل فى أنفه ماء ثم ليستنثر) (١) لظاهر الأمر. وحمله الجمهور ومالك والشافعى وأهل الكوفة على الندب، لقوله- صلى اللّه عليه وسلم- للأعرابى: (توضأ كما أمر اللّه) (٢) ، وليس فى الآية المائدة: ٦ ذكر الاستنشاق، واللّه أعلم.

وعند أبى داود: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يمسح الماقين (٣) . وعن عثمان أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٢) فى الوضوء، باب: الاستجمار وترا، ومسلم (٢٣٧) فى الطهارة، باب: الإيتار فى الاستنثار والاستجمار.

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٨٦١) فى الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود، من حديث رفاعة بن رافع- رضى اللّه عنه-.

(٣) أخرجه أبو داود (١٣٤) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وابن ماجه (٤٤٤) فى الطهارة، باب: الأذنان من الرأس، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٢٥٨ و ٢٦٤) ، من حديث أبى أمامة- رضى اللّه عنه-، والراوى عنه شهر بن حوشب، وفيه مقال مشهور.

كان يخلل لحيته (١) ، رواه الترمذى وابن ماجه. وعنده من حديث ابن عمر:

كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا توضأ عرك (٢) عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها (٣) . وعن أنس كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا توضأ أخذ كفّا من ماء فيدخله تحت حنكه ويخلل به لحيته ويقول: (بهذا أمرنى ربى عز وجل) (٤) رواه أبو داود. وعن أبى رافع: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا توضأ حرك خاتمه (٥) . رواه ابن ماجه والدار قطنى وضعفه. وعن المستورد بن شداد: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره (٦) ، رواه الترمذى وأبو داود وابن ماجه.

وعن عائشة: كانت يد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- اليمنى لطهوره وطعامه. وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى (٧) .

وعن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى سفر، وأنه ذهب لحاجة له وأن المغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ (٨) . رواه

__________

(١) حسن: أخرجه الترمذى (٣١) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، وابن ماجه (٤٣٠) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح.

(٢) عرك: أى دلك.

(٣) أخرجه ابن ماجه (٤٣٢) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية .

(٤) صحيح: أخرجه أبو داود (١٤٥) فى الطهارة، باب: تخليل اللحية.

(٥) أخرجه ابن ماجه (٤٤٩) فى الطهارة، باب: تخليل الأصابع، والدار قطنى فى (سننه) (١/ ٨٣) وقال البوصيرى فى (الزوائد) : إسناده .....، لضعف معمر وأبيه محمد بن عبيد اللّه.

(٦) حسن: أخرجه أبو داود (١٤٨) فى الطهارة، باب: غسل الرجلين، والترمذى (٤٠) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل الأصابع، وابن ماجه (٤٤٦) فى الطهارة، باب: تخليل الأصابع، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٢٢٩) ، وقال الترمذى: حديث حسن غريب، وهو كما قال.

(٧) صحيح: وقد تقدم.

(٨) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٢) فى الطهارة، باب: الرجل يوضئ صاحبه، ومسلم (٢٧٤) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.

البخارى ومسلم. وعن صفوان بن عسال: صببت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الماء فى السفر والحضر فى الوضوء (١) . رواه ابن ماجه. وفى ذلك جواز استعانة الرجل بغيره فى صب الماء فى الوضوء من غير كراهة، وكذا إحضار الماء من باب أولى، ولا دليل فى هذين الحديثين لجواز الإعانة المباشرة.

وقد روى الحاكم فى المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها

قالت: أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بوضوء

فقال: (أمسكى) ، فمسكت عليه. وهذا أصرح فى عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه فى الحضر، ولكونه بصيغة الطلب، واللّه أعلم.

وفى الترمذى، من حديث معاذ بن جبل: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه (٢) . وعن عائشة: كانت له- صلى اللّه عليه وسلم- خرقة ينشف بها بعد الوضوء(٣) . قال الترمذى: هذا الحديث ليس بالقائم، وأبو معاذ الراوى ..... عند أهل الحديث.

وقد احتجم- صلى اللّه عليه وسلم- ولم يتوضأ، ولم يزد، على غسل محاجمه (٤) ، رواه الدار قطنى. وأكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ (٥) . رواه البخارى ومسلم. وللنسائى: قال كان آخر الأمرين من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ترك الوضوء

__________

(١) أخرجه ابن ماجه (٣٩١) فى الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، وفى إسناده حذيفة بن أبى حذيفة، لم يعرف إلا بهذا الحديث، ولذا قال عنه الحافظ فى (التقريب) (١١٥٥) : مقبول، أى: عند المتابعة.

(٢) إسناده ..... أخرجه الترمذى (٥٤) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المنديل بعد الوضوء.

(٣) أخرجه الترمذى (٥٣) فيما سبق، وقال الترمذى: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذا الباب شئ، وهو كما قال.

(٤) أخرجه الدار قطنى فى (سننه) (١/ ١٥١، ١٥٢) وضعفه.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٧) فى الوضوء، باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، ومسلم (٣٥٤) فى الحيض، باب: نسخ الوضوء مما مست النار، من حديث عبد اللّه بن عباس- رضى اللّه عنهما-.

مما غيرت النار (١) . وشرب- صلى اللّه عليه وسلم- لبنا ولم يتمضمض ولم يتوضأ وصلى (٢) . رواه أبو داود، وأتى بالسويق فأمر به فثرى فأكل منه، ثم قام إلى المغرب فتمضمض (٣) . رواهالبخارى ومالك والنسائى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا قام من النوم ربما توضأ، وربما لم يتوضأ، لأن عينه تنام ولا ينام قلبه (٤) كما فى البخارى وغيره. وفيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث، فلو أحدث لعلم بذلك فتكون الخصوصية شعوره بالوقوع بخلاف غيره. قال الخطابى: وإنما منع قلبه النوم ليعى الوحى الذى يأتيه فى منامه.

الفصل الرابع فى مسحه ص على الخفين

اعلم أنه قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة،

وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه قد روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وقد أشار الشافعى فى الأم إلى إنكار ذلك على المالكية، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقا،

__________

(١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٩٢) فى الطهارة، باب: فى ترك الوضوء مما مست النار، والنسائى (١/ ١٠٨) فى الطهارة، باب: ترك الوضوء مما غيرت النار، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-، .

(٢) حسن: أخرجه أبو داود (١٩٧) فى الطهارة، باب: الرخصة فى ذلك، وهو فى الصحيحين عن ابن عباس بلفظ: (ثم دعا بماء فتمضمض) .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٩) فى الوضوء، باب: من مضمض من السويق ولم يتوضأ، والنسائى (١/ ١٠٨) فى الطهارة، باب: المضمضة من السويق، ومالك فى (الموطأ) (١/ ٢٦) ، من حديث سويد بن النعمان- رضى اللّه عنه-.

(٤) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٣٥٦٩) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- تنام عيناه ولا ينام قلبه، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

وثانيهما: للمسافر دون المقيم، وهذا الثانى مقتضى ما فى (المدونة) ، وبه جزم ابن الحاجب.

وقال ابن المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل، المسح على الخفين أو نزعهما وغسل الرجلين؟ والذى اختاره: أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض. و

قال النووى: مذهب أصحابنا أن الغسل أفضل لكونه الأصل، لكن بشرط أن لا يترك المسح.

وقد تمسك من اكتفى بالمسح بقوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ (١) عطفا على وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ (٢) . فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين، وحكى عن ابن عباس فى رواية .....ة، والثابت عنه خلافه.

وعن عكرمة والشعبى وقتادة: الواجب الغسل أو المسح. وعن بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بينهما. وحجة الجمهور: الأحاديث الصحيحة من فعله- صلى اللّه عليه وسلم- كما سيأتى- إن شاء اللّه تعالى-، فإنه بيان للمراد، وأجابوا عن الآية بأجوبة.

منها: أنه قرئ وَأَرْجُلَكُمْ)

بالنصب عطفا على أيديكم.

وقيل: إنه معطوف على محل بِرُؤُسِكُمْ (٤) ، كقوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ (٥) بالنصب.

وقيل: المسح فى الآية محمول على مشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة (الجر) على مسح الخفين، وقراءة (النصب) على غسل الرجلين. وجعل البيضاوى (الجر) على الجوار،

قال: ونظيره فى القرآن كقوله تعالى:

__________

(١) سورة المائدة: ٦.

(٢) سورة المائدة: ٦.

(٣) سورة المائدة: ٦.

(٤) سورة المائدة: ٦.

(٥) سورة سبأ: ١٠.

عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (١) وَحُورٌ عِينٌ (٢) بالجر فى قراءة حمزة والكسائى. وقولهم (جحر ضب خرب) وللنحاة باب فى ذلك. وفائدته:

التنبيه على أنه ينبغى أن يقتصد فى صب الماء عليهما ويغسلا غسلا يقرب من المسح. انتهى.

وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- غزوة تبوك، فتبرز رسول اللّه قبل الغائط فحملت معه إداوة- قبل الفجر- فلما رجع أخذت أهريق على يديه من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يده من تحت الجبة؛ وألقى الجبة على منكبيه وغسل ذراعيه، ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، ثم أهويت لأنزع خفيه ف

قال: (دعهما فإنى أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما، ثم ركب وركبت) (٣) . الحديث رواه مسلم.

وعند الترمذى من حديث المغيرة أيضا أنه- صلى اللّه عليه وسلم- مسح على الخفين على ظاهرهما (٤) . وعند أبى داود من حديثه أيضا: ومسح- عليه الصلاة والسلام- على الجوربين والنعلين(٥) . وعنه

قال: مسح رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على الخفين، فقلت: يا رسول اللّه، نسيت، ف

قال: (بل أنت نسيت، بهذا أمرنى ربى عز وجل) (٦) . رواه أبو داود وأحمد. وعن عمرو بن أمية

__________

(١) سورة هود: ٢٦.

(٢) سورة الواقعة: ٢٢.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٣) فى الصلاة، باب: الصلاة فى الجبة الشامية، ومسلم (٢٧٤) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٩٨) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على الخفين ظاهرهما .

(٥) صحيح: أخرجه أبو داود (١٥٩) فى الطهارة، باب: المسح على الجوربين.

(٦) أخرجه أبو داود (١٥٦) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين، وأحمد فى (المستدرك) (٤/ ٢٥٣) من حديث المغيرة بن شعبة- رضى اللّه عنه-.

الضمرى

قال: رأيته- صلى اللّه عليه وسلم- يمسح على عمامته وخفيه (١) . رواه البخارى.

وقال على بن أبى طالب: جعل- صلى اللّه عليه وسلم- المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم (٢) . رواه مسلم.

الفصل الخامس فى تيممه صلى اللّه عليه وسلم

اعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو من خصائص هذه الأمة. وأجمعوا على أن التيمم لا يكون إلا فى الوجه واليدين، سواء كان عن حدث أكبر، أو عن حدث أصغر، وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها. واختلفوا فى كيفيته: فمذهبنا ومذهب الأكثرين، أنه لا بد من ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين (٣) .

وعن حذيفة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (فضلنا على الناس بثلاث:

جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) (٤) رواه مسلم. وفى رواية أبى أمامة عند البخارى: (جعلت الأرض كلها لى ولأمتى مسجدا وطهورا) (٥) . وهذا

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٥) فى الوضوء، باب: المسح على الخفين، وابن ماجه (٥٦٢) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على العمامة، وأحمد فى (المسند) (١/ ٢٠٤ و ٢٠٥) .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٦) فى الطهارة، باب: التوقيت فى المسح على الخفين.

(٣) واعلم أنه قد روى هذا الحديث عن عمار بلفظ ضربتين، كما وقع فى بعض طرقه إلى المرفقين، وكل ذلك معلول لا يصح، قال الحافظ فى (التلخيص) (١/ ١٥٣) : وقال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روى عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وقد جمع البيهقى طرق حديث عمار فأبلغ.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٥٢٢) فى المساجد، باب: رقم (١) .

(٥) قلت: الحديث عند أحمد فى (المسند) (٥/ ٢٤٨) ، وليس فى البخارى كما قال المصنف.

عام، وحديث حذيفة خاص، فينبغى أن يحمل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب. ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ (التربة) على خصوصية التيمم بالتراب، بأن

قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره.

وأجيب: بأنه ورد فى الحديث بلفظ التراب، أخرجه ابن خزيمة وغيره.

وفى حديث على (وجعل لى التراب طهورا) أخرجه أحمد والبيهقى بإسناد حسن. وعن عمار: قال رجل لعمر بن الخطاب: إنى أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار لعمر: أما تذكر أنا كنا فى سفر، أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: (إنما كان يكفيك هكذا) ، وضرب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه (١) رواه البخارى ومسلم.

واستدل بالنفخ على استحباب تخفيف التراب، وسقوط استحباب التكرار فى التيمم لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف. وعن أبى الجهيم بن الحارث بن الصمة

قال: مررت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد على، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد على، رواه البغوى فى شرح السنة وقال: حديث حسن. وهذا محمول على أن الجدار كان مباحا، أو مملوكا لإنسان كان يعرف رضاه.

الفصل السادس فى غسله صلى اللّه عليه وسلم

والغسل- بضم الغين- اسم للاغتسال.

وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح، حكاه ابن سيده وغيره.

وقيل: المصدر بالفتح، والاغتسال بالضم.

وقيل: الغسل- بالفتح-: فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذى يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٣٨) فى التيمم، باب: المتيمم هل ينفخ فيهما، ومسلم (٣٦٨) فى الحيض، باب: التيمم.

كالإشنان. وحقيقة الغسل: جريان الماء على الأعضاء. وحقيقة الاغتسال:

غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية.

ووجوب الغسل على الجنب مستفاد من

قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (١) وقوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (٢) . ففى الآية الأولى إجمال، وهو

قوله تعالى: فَاطَّهَّرُوا (٣) بينه قوله فى الآية الثانية: حَتَّى تَغْتَسِلُوا (٤) . ويؤيده قوله تعالى فى الحائض: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ (٥) المفسر ب (اغتسلن) . اتفاقا.

وقد كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يطوف على نسائه بغسل واحد (٦) . رواه مسلم من حديث أنس. وعن أبى رافع: طاف- صلى اللّه عليه وسلم- ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه، وعند هذه،

قال: قلت له: يا رسول اللّه، ألا تجعله غسلا واحدا آخرا،

قال: (هذا أزكى وأطيب وأطهر) (٧) . رواه أحمد وأبو داود والنسائى.

وقد أجمع العلماء على أنه لا يجب الغسل بين الجماعين وأما الوضوء

__________

(١) سورة المائدة: ٦.

(٢) سورة النساء: ٤٣.

(٣) سورة المائدة: ٦.

(٤) سورة النساء: ٤٣.

(٥) سورة البقرة: ٢٢٢.

(٦) صحيح: أخرجه مسلم (٣٠٩) فى الحيض، باب: جواز نوم الجنب، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٧) حسن: أخرجه أبو داود (٢١٩) فى الطهارة، باب: الوضوء لمن أراد أن يعود، والنسائى فى (الكبرى) كما فى (التحفة) (٩/ ٢٠٦) ، وابن ماجه (٥٩٠) فى الطهارة، باب: فيمن يغتسل عند كل واحدة غسلا، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٨) ، قلت: وقد رد البعض هذا الحديث بحديث أنس السابق، والأمر أنه ليس بينه وبين حديث أنس اختلاف، بل كان يفعل هذا مرة وذاك أخرى، ليدل الحديث على استحباب الغسل قبل المعاودة ولا خلاف فى ذلك.

فاستحبه الجمهور، وقال أبو يوسف إنه لا يستحب، وأوجبه ابن حبيب من المالكية، وأهل الظاهر، لحديث: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوآ) (١) رواه مسلم. وحمله بعضهم على الوضوء اللغوى، ف

قال: المراد به غسل الفرج، انتهى. وقالت عائشة: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه فى الماء فيخلل بها أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جسده كله (٢) . رواه البخارى.

ويحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم. ويدل عليه زيادة ابن عيينة فى هذا الحديث عن هشام (قبل أن يدخلهما فى الإناء) (٣)رواه الشافعى والترمذى وزاد أيضا: (ثم يغسل فرجه) (٤) وكذا لمسلم وأبى داود. وهى زيادة جليلة، لأن تقديم غسله يحصل به الأمن من مسه فى أثناء الغسل.

ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد، ويحتمل أن يكتفى بغسلها فى الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة فى أول عضو.

وإنما قدم أعضاء الوضوء تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى. ونقل ابن بطال: الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل.

وهو مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث.

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٣٠٨) فى الحيض، باب: جواز نوم الجنب، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٤٨) فى الغسل، باب: الوضوء قبل الغسل، ومسلم (٣١٦) فى الحيض، باب: صفة غسل الجنابة.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (١٠٤) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الغسل من الجنابة.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٣١٦) فى الحيض، باب: صفة غسل الجنابة، والنسائى (١/ ١٣٣) فى الطهارة، باب: ذكر عدد غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء.

وقوله: (فيخلل بها أصول الشعر) أى شعر رأسه، ويدل عليه رواية حماد بن سملة عن هشام- عند البيهقى-: يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك. وقال القاضى عياض:

احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية فى الغسل. إما لعموم قوله:

(أصول الشعر) وإما بالقياس على شعر الرأس. وفائدة التخليل، إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء، وهذا التخليل غير واجب اتفاقا، إلا إن كان الشعر متلبدا بشئ يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله.

واختلف فى وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر. ونقل عن مالك والمزنى: وجوبه، واحتج له ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب ذلك فى الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما.

وتعقب: بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد فى الماء للمتوضئ من غير إمرار، فبطل الإجماع وانتفت الملازمة.

وفى قوله فى هذا الحديث: (ثلاث غرفات) استحباب التثليث فى الغسل.

قال النووى: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما انفرد به الماوردى، فإنه

قال: لا يستحب التكرار فى الغسل. قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى- ومنه لخصت ما ذكرته- قلت: وكذا قال الشيخ أبو على السنجى وكذا قال القرطبى. وقالت ميمونة: وضعت له-صلى اللّه عليه وسلم- ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثا، ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه (١) . رواه البخارى. ولم يقيد فى هذه الرواية بعدد، فيحمل على أقل مسمى الغسل، وهو مرة واحدة لأن الأصل عدم الزيادة عليها. وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق فى غسل الجنابة، لقوله: (ثم مضمض واستنشق) وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما. وتعقب: بأن الفعل

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٥٧) فى الغسل، باب: الغسل مرة واحدة.

المجرد لا يدل على الوجوب، إلا إذا كان بيانا لمجمل تعلق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك.

وعنها (توضأ- صلى اللّه عليه وسلم- وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء ثم نحى رجليه فغسلهما) (١) رواه البخارى. وفيه التصريح بتأخير الرجلين فى وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة. ويمكن الجمع بينهما، إما بحمل رواية عائشة على المجاز، وإما بحمله على حالة أخرى. وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء. فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين.

وعن مالك: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعية: فى الأفضل قولان،

قال النووى: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه.

قال: ولم يقع فى شئ من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس فى هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن الوضوء للغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفى عنه بغسلها. وعن جبير بن مطعم

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أما أنا فأفيض على رأسى ثلاثا، وأشار بيديه كلتيهما) (٢) رواه البخارى. وفيه عن أبى هريرة

قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فلما قام فى مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: (مكانكم) ، ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه (٣) . وقوله: (ذكر) أى تذكر، لا أنه قال ذلك لفظا، وعلم

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٤٩) فى الغسل، باب: الوضوء قبل الغسل، من حديث ميمونة- رضى اللّه عنها-، وهو رواية للحديث السابق.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٥٤) فى الغسل، باب: من أفاض على رأسه ثلاثا، ومسلم (٣٢٧) فى الحيض، باب: استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثا، واللفظ للبخارى، ولعله اقتصر فى العزو للبخارى فقط لذلك.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٧٥) فى الغسل، باب: إذا ذكر فى المسجد أنه جنب، ومسلم (٦٠٥) فى المساجد، باب: متى يقوم الناس للصلاة.

الراوى ذلك من قرائن، أو بإعلامه له بعد ذلك. وظاهر قوله: (فكبر) الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول فى الصلاة. وعنده أيضا من حديث ميمونة: وضعت للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- غسلا وسترته بثوب، وصب على يديه فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فتمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صب على رأسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته ثوبا فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه (١) . وقد استدل بعضهم بقولها: (فناولته ثوبا فلم يأخذه) على كراهة التنشيف بعد الغسل. ولا حجة فيه، لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة أو غير ذلك. قال المهلب (٢) : يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة بلل الماء، وللتواضع، أو لشئ رآه فى الثوب من حرير أو وسخ. وقد وقع عند أحمد فى هذا الحديث عن الأعمش

قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعى

فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة.

وقال التيمى فى شرحه: فى هذا الحديث دليل على أنه كان ينشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة فى التنشيف لأن كلّا منهما إزالة.

وقال النووى: اختلف أصحابنا فيه على خمسة أوجه، أشهرها: أن المستحب تركه، وقيل مكروه، وقيل مباح، وقيل مستحب، وقيل مكروه فى الصيف مباح فى الشتاء. وفي هذا الحديث جواز نفض اليدين من ماء الغسل، وكذا ماء الوضوء، ولكن فيه حديث ..... أورده الرافعى وغيره، ولفظه: (تنفضوا أيديكم فى الوضوء فإنها مراوح الشيطان) قال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووى.

وقالت عائشة: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل. رواه البخارى.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٦٦) فى الغسل، باب: من أفرغ بيمينه على شماله فى الغسل.

(٢) هو: المهلب بن أحمد بن أبى صفرة، وقد تقدمت ترجمته.

فرجه وتوضأ للصلاة)

وفيه رد على من حمل الوضوء هنا على التنظيف. وقوله: (وتوضأ للصلاة) أى وضوآ كما للصلاة، أى وضوآ شرعيّا لا لغويّا، وليس المراد أنه توضأ لأداء الصلاة.

والحكمة فيه أنه يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبى شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابى

قال: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة.

وقيل: الحكمة فيه أنه أحد الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه، وقد روى البيهقى بإسناد حسن عن عائشة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا أجنب وأراد أن ينام توضأ أو تيمم. ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء، وقيل غير ذلك. انتهى ملخصا من فتح البارى.