٩ - المقصد التاسع وفيهفى لطيفة من عباداته قال اللّه تعالى مخاطبا له- صلى اللّه عليه وسلم-: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (١) . فأمره تعالى بعبادته حتى يأتيه الموت، وهو المراد ب (اليقين) ، وإنما سمى الموت باليقين لأنه أمر متيقن. فإن قلت: ما الفائدة فى قوله: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) وكان قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ (٣) كافيا فى الأمر بالعبادة؟ أجاب القرطبى تبعا لغيره: بأنه لو قال: وَاعْبُدْ رَبَّكَ (٤) مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا، ولما قال: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٥) أى اعبد ربك فى جميع زمان حياتك ولا تمل ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من هذه العبادة. كما قال العبد الصالح: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٦) . وهذا مصير منه إلى أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، وهى مسألة معروفة فى الأصول اختلف فيها. وهى: هل الأمر المطلق يفيد التكرار، أو المرة الواحدة، أو لا يفيد شيئا منها؟ على مذاهب: الأول: أنه لا يفيد التكرار ولا ينافيه، بل إنما يفيد طلب فعل المأمور به من غير إشعار بالمرة أو المرات، لكن المرة ضرورية لأجل تحقيق الامتثال، إذ __________ (١) سورة الحجر: ٩٧- ٩٩. (٢) سورة الحجر: ٩٩. (٣) سورة الحجر: ٩٩. (٤) سورة الحجر: ٩٩. (٥) سورة الحجر: ٩٩. (٦) سورة مريم: ٣١. لا توجد الماهية بأقل منها، وهذا مختار الإمام (١) مع نقله له على الأقلين، ورجحه الآمدى وابن الحاجب وغيرهما. الثانى: أنه يفيد التكرار مطلقا، كما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراينى وأبو حاتم القزوينى، فإن عيّن للتكرار أمدا استوعبه، وإلا استوعب زمان العمر، لكن بحسب الإمكان، فلا يستوعب زمن قضاء الحاجة والنوم وغيرهما من الضروريات. الثالث: أنه يدل على المرة، حكاه الشيخ أبو إسحاق فى شرح (اللمع) عن أكثر أصحابنا وأبى حنيفة وغيرهم. وإن علق بشرط أو صفة اقتضى التكرار بحسب تكرار المعلق به، نحو وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (٢) والزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (٣) ، انتهى ملخصا من شرح العلامة أبى الحسن الأشمونى لنظمه جمع الجوامع للعلامة ابن السبكى. وقد روى جبير بن نفير (٤) مرسلا أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (ما أوحى إلىّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إلى أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) (٥) . رواه البغوى فى شرح السنة وأبو نعيم فى الحلية عن أبى مسلم الخولانى (٦) . وقد أمر اللّه نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذه الآية بأربعة أشياء: التسبيح والتحميد والسجود والعبادة. واختلف العلماء فى أنه كيف صار الإقبال على مثل هذه الطاعات سببا لزوال ضيق القلب والحزن. __________ (١) يقصد إمام الحرمين، الإمام الجوينى- رحمه اللّه-. (٢) سورة المائدة: ٦. (٣) سورة النور: ٢. (٤) ممن أسلم قديما، إلا أنه لم يهاجر إلا فى زمن عمر بن الخطاب، ولذلك فروايته عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مرسلا، لأنها لا تكون إلا بواسطة. (٥) أخرجه الحاكم فى تاريخه، عن أبى ذر، كما فى (كنز العمال) (٦٣٧٤) . (٦) كالذى قبله، أسلم قديما، إلا أنه لم يدرك زمن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، حيث أنه لما رحل إليه، وجده قد مات، فعلى ذلك فحديثه مرسل أيضا. فحكى الإمام فخر الدين الرازى عن بعض المحققين أنه قال: إذا اشتغل الإنسان بمثل هذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية، ومتى حصل ذلك الانكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها، فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها، وعند ذلك يزول الحزن والغم. وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات، كأنه يقول: تجب على عبادتك سواء أعطيتنى الخيرات أو ألقيتنى فى المكروهات. وقال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ (١) . فأمره تعالى- صلى اللّه عليه وسلم- بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف فى الإنذار والإبلاغ. فإن قلت: لم لم يقل: واصبر على عبادته، بل قال: وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ (٢) . فالجواب: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن فى قولك للمحارب: اصطبر لقرنك أى: اثبت له فيما يورده عليك من مشاقه. والمعنى: أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها قاله الفخر الرازى وكذا البيضاوى. وقال تعالى: وَللّه غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ (٣) . فأول درجات السير إلى اللّه عبودية اللّه تعالى، وآخرها التوكل عليه، وإذا كان العبد لا يزال مسافرا إلى ربه لا ينقطع سيره إليه ما دام فى قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة لا يستغنى عنه البتة، ولو أتى بأعمال الثقلين جميعا، وكلما كان العبد إلى ربه أقرب كان جهاده إلى اللّه أعظم، قال تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللّه حَقَّ جِهادِهِ (٤) ولهذا كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أعظم الخلق اجتهادا (٥) وقياما بوظائف العبادة، ومحافظته عليها إلى أن توفاه اللّه تعالى. وتأمل أصحابه- رضى اللّه عنهم- فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب مقاما عظم جهادهم واجتهادهم. __________ (١) سورة مريم: ٦٥. (٢) سورة مريم: ٦٥. (٣) سورة هود: ١٢٣. (٤) سورة الحج: ٧٨. (٥) لعل الصواب: جهادا. ولا يلتفت إلى ما يظنه بعض المنتسبين إلى التصوف حيث قال: (القرب الحقيقى ينقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة ويريح الجسد والجوارح من كد العمل) . زاعما بذلك سقوط التكليف عنه. وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا، حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التى هى أمانى النفس وخدع الشيطان. فلو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة ما دام قادرا عليه. وقد اختلف العلماء: هل كان- صلى اللّه عليه وسلم- قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله أم لا؟ فقال جماعة: لم يكن متعبدا بشئ، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأنه لو كان كذلك لنقل، ولما أمكن كتمه وستره فى العادة، إذ كان من مهم أمره، وأولى ما اهتبل به من سيرته، ولفخر به أهل تلك الشريعة ولا حتجوا به عليه، ولم يؤثر بشئ من ذلك. وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا، قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا. والتعليل الأول المستند إلى النقل أولى. وذهب آخرون إلى الوقف فى أمره- صلى اللّه عليه وسلم- وترك قطع الحكم عليه بشئ من ذلك، إذ لم يحل الوجهين منها العقل، وهذا مذهب الإمام أبى المعالى إمام الحرمين وكذا الغزالىوالآمدى. وقال آخرون: كان عاملا بشرع من قبله. ثم اختلفوا: هل يتعين ذلك الشرع أم لا؟ فوقف بعضهم عن التعيين وأحجم، وجسر بعضهم على التعيين وصمم، ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع فقيل نوح، وقيل إبراهيم، وقيل موسى، وقيل عيسى. فهذه جملة المذاهب فى هذه المسألة. والأظهر فيها ما ذهب إليه القاضى أبو بكر، وأبعدها مذاهب التعيين، إذ لو كان شئ من ذلك لنقل- كما قدمناه- ولم يخف جملة، ولا حجة لهم فى أن عيسى- عليه السّلام- آخر الأنبياء فلزمت شريعته من جاء بعده، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى، بل الصحيح أنه لم يكن لنبى دعوة عامة إلا لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم-. انتهى ملخصا من كلام القاضى عياض، وهو كلام حسن بديع، لكن قوله: فهذه جملة المذاهب، فيه نظر، لأنه بقى منها شئ، فقد قيل شريعة آدم أيضا، وهو محكى عن ابن برهان، وقيل جميع الشرائع. حكاه صاحب (المحصول) من المالكية. وأما قول من قال: إنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع منفرد به، وأن المقصود من بعثته- صلى اللّه عليه وسلم- إحياء شرع إبراهيم، وعول فى إثبات مذهبه على قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (١) فهذا قول ساقط مردود، لا يصدر مثله إلا عن سخيف العقل كثيف الطبع. وإنما المراد بهذه الآية الاتباع فى التوحيد، لأنه لما وصف إبراهيم- عليه السّلام- فى هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال: إِنْ أَتَّبِعُ (٢) كان المراد منه ذلك. ومثله قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (٣) وقد سمى اللّه تعالى فيهم من لم يبعث ولم يكن له شريعة تخصه كيوسف بن يعقوب. على قول من يقول إنه ليس برسول (٤) . وقد سمى اللّه تعالى جماعة منهم فى هذه الآية وشرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها، فدل على أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة اللّه تعالى. فإن قيل: النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إنما نفى الشرك وثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد، فيمتنع حمل قوله: إِنْ أَتَّبِعُ (٥) على هذا المعنى، فوجب حمله على الشرائع التى يصح حصول المتابعة فيها. __________ (١) سورة النحل: ١٢٣. (٢) سورة النحل: ١٢٣. (٣) سورة الأنعام: ٩٠. (٤) وذلك على اعتبار من يفرق بين (الرسول) و (النبى) على أن الرسول من أوحى إليه بشئ وأمر بتبليغه، والنبى من جاء بإحياء شريعة رسول سبقته. (٥) سورة النحل: ١٢٣. أجاب الفخر الرازى: بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته فى كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة، على ما هو الطريقة المألوفة فى القرآن. وقد قال صاحب الكشاف (١) : لفظة (ثم) فى قوله: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (٢) تدل على تعظيم منزلة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وإجلال محله، فإن أشرف ما أوتى خليل اللّه من الكرامة وأجل ما أوتى من النعمة اتباع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ملته، من قبل أن هذه اللفظة دلت على تباعد النعت فى المرتبة على سائر المدائح التى مدحه اللّه بها، انتهى. ومراده بالمدائح: المذكورة فى قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً للّه حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٣) . وقال ابن العراقى فى شرح تقريب الأسانيد: وليت شعرى كيف تلك العبادة؟ وأى أنواعها هى؟ وعلى أى وجه فعلها؟ يحتاج ذلك لنقل. ولا أستحضره الآن. انتهى. وقال شيخ الإسلام البلقينى فى شرح البخارى: لم تجئ فى الأحاديث التى وقفنا عليها كيفية تعبده- صلى اللّه عليه وسلم-، لكن روى ابن إسحاق وغيره أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يخرج إلى حراء فى كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه، وكان من تنسك قريش فى الجاهلية أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة، وحمل بعضهم التعبد على التفكر. __________ (١) هو: الإمام المعتزلى الكبير، أبو القاسم، محمود بن عمر الزمخشرى الخوارزمى، الذى ولد بها، كان رأسا فى البلاغة والعربية والمعانى والبديع، كما كان داعيا إلى الاعتزال- سامحه اللّه-، مات ليلة عرفة سنة ٥٣٨ هـ. (٢) سورة النحل: ١٢٣. (٣) سورة النحل: ١٢٠- ١٢٢. قال (١) : وعندى أن هذا التعبد يشتمل على أنواع: وهى الانعزال عن الناس، كما صنع إبراهيم- عليه السّلام- باعتزاله قومه والانقطاع إلى اللّه تعالى، فإن (انتظار الفرج عبادة) (٢) ، كما رواه على بن أبى طالب مرفوعا، وينضم إلى ذلك الأفكار، وعن بعضهم: كانت عبادته- صلى اللّه عليه وسلم- فى حراء التفكر. انتهى. وقد آن أن أشرع فيما قصدته على النحو الذى أردته. وقد اقتصرت من عباداته على سبعة أنواع: |