Geri

   

 

 

İleri

 

 ٨-٤ الفصل الثانى فى تعبيره ص الرؤيا

يقال: عبرت الرؤيا بالتخفيف: إذا فسرتها، وعبرتها بالتشديد للمبالغة فى ذلك. وأما (الرؤيا) بوزن فعلى- وقد تسهل الهمزة- فهى ما يراه الشخص فى منامه.

قال القاضى أبو بكر بن العربى: الرؤيا إدراكات يخلقها اللّه تعالى فى قلب العبد على يد ملك أو شيطان، إما بأسمائها، أى حقيقتها، وإما بكناها أى بعبارتها، وإما تخليطا. وذهب أبو بكر بن الطيب: إلى أنها اعتقادات، واحتج بأن الرائى قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا، لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد. قال ابن العربى: والأول أولى، والذى ذكره ابن الطيب من قبيل المثل فالإدراك يتعلق به لا بأصل الذات.

وقال المازرى: كثر كلام الناس فى حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع (١) ، فاضطربت أقاويلهم، فمن ينتمى إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط، فيقول:

من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح فى الماء ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود فى الجو وهكذا إلى آخره، وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجرى اللّه العادة به لكنه لم يقم عليه دليل، ولا اطردت به عادة، والقطع فى موضع التجويز غلط.

__________

(١) الدليل السمعى: أى الكتاب والسنة لأنهما تلقيا عن طريق السماع من الوحى، بخلاف الدليل العقلى الذى لا يستمد منهما.

ومن ينتمى إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجرى فى الأرض هى فى العالم العلوى كالنقوش، فما حاذى بعض النفوس منها انتقش فيها.

قال: وهذا أشد فسادا من الأول، لكونه تحكما لا برهان عليه. والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجرى فى العالم العلوى الأعراض، والأعراض لا ينتقش فيها.

قال: والصحيح ما عليه أهل السنة، أن اللّه تعالى يخلق فى النائم اعتقادات قل يخلقها فى قلب اليقظان فإذا خلقها جعلها علما على أمور أخرى خلقها أو يخلقها فى ثانى الحال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن اللّه تعالى خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف. وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسره، وتارة بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضره، والعلم عند اللّه.

وأخرج الحاكم والعقيلى من رواية محمد بن عجلان عن سالم بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه

قال: لقى عمر عليّا ف

قال: يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب،

قال: نعم، سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلئ نوما إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذى لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التى صدق، والذى يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التى تكذب) (١) . قال الذهبى فى تلخيصه: هذا حديث .......، ولم يصححه المؤلف.

وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو: أن رؤيا المؤمن كلام يكلمه ربه به فى المنام. ووجد الحديث للترمذى (٢) فى (نوادر الأصول) من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه فى الأصل الثامن والسبعين، وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبى عمر، وهو واه، وفى سنده جند بن ميمون عن حمزة بن الزبير عن عبادة.

__________

(١) ..: أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٤٣٩) ، ولم يصححه، وتعقبه الذهبى قائلا: بل ........

(٢) هو: الحكيم الترمذى، صاحب نوادر الأصول وغير ذلك، وليس الإمام الترمذى صاحب السنن المعروف.

قال الحكيم (١) : قال بعض أهل التفسير فى

قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّه إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ (٢) أى فى المنام. ورؤيا الأنبياء وحى بخلاف غيرهم، فالوحى لا يدخله خلل لأنه محروس، بخلاف رؤيا غير الأنبياء فإنه قد يحضرها الشيطان.

وقال الحكيم أيضا: وكل اللّه بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بنى آدم من اللوح المحفوظ فينسخ منها، ويضرب لكل على قصته مثلا، فإذا نام مثلت له تلك الأشياء على طريق الحكمة الإلهية لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والآدمى قد يسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلبس عليه رؤياه إما بتغليطه فيها أو بغافلته عنها.

الرؤيا الصالحة جزء من النبوة:

وفى البخارى من حديث أنس: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة) (٣) .

والمراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث، ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم، فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلطه عليهم. وقد استشكل كون الرؤيا جزآ من النبوة، مع أن النبوة انقطعت بموته- صلى اللّه عليه وسلم-.

وأجيب: بأن الرؤيا إن وقعت منه- صلى اللّه عليه وسلم- فهى جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبى فهى جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز.

وقيل: المعنى أنها جزء من علم النبوة، لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باق. وتعقب بقول مالك- كما حكاه ابن عبد البر- أنه سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ ف

قال: أبالنبوة يلعب. ثم

قال: الرؤية جزء من النبوة.

__________

(١) هو السابق.

(٢) سورة الشورى: ٥١.

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٩٨٣) في التعبير، باب: رؤيا الصالحين.

وأجيب: بأنه لم يرد أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغى أن تكلم فيها بغير علم، فليس المراد أن الرؤيا الصالحة نبوة، لأن المراد تشبيه الرؤية بالنبوة، وجزء الشئ لا يستلزم ثبوت وصفه، كمن

قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه رافعا صوته لا يسمى مؤذنا، وفى حديث أم كرز الكعبية عند أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان: (ذهبت النبوة وبقيت المبشرات) (١) . وعند أحمد من حديث عائشة مرفوعا: (لم يبق بعدى من المبشرات إلا الرؤيا) (٢) وفى حديث ابن عباس عند مسلم وأبى داود: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كشف الستارة ورأسه معصوب فى مرضه الذى مات فيه، والناس صفوف خلف أبى بكر ف

قال: (يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له) (٣) ، والتعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهى صادقة يريها اللّه للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه.

وقوله: (من الرجل الصالح) لا مفهوم له، فإن المرأة الصالحة كذلك، وحكى ابن بطال الاتفاق عليه. وقوله: (جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة) كذا فى أكثر الأحاديث. وروى مسلم من حديث أبى هريرة (جزء من خمسة وأربعين جزآ من النبوة) (٤) ، وعنده أيضا من حديث ابن عمر (جزء من سبعين جزآ) (٥) ، وعند الطبرانى: (جزء من ستة وسبعين) (٦) ، وسنده

__________

(١) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٣٨٩٦) فى تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٣٨١) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٠٤٧) ، ولم أجده فى الجزء المطبوع من صحيح ابن خزيمة .

(٢) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٦/ ٨٢٩) بسند صحيح.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٤٧٩) فى الصلاة، باب: النهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، وأبو داود (٨٧٦) فى الصلاة، باب: فى الدعاء فى الركوع والسجود.

(٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٦٣) (٦) فى الرؤيا.

(٥) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٦٥) فى الرؤيا.

(٦) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (١٠/ ٢٢٣) ، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-، بسند فيه الركين، هو: الربيع بن سهل الفزارى، ..... الحديث.

.....، وعنه عن عبد البر من طريق عبد العزيز بن المختار عن ثابت عن أنس مرفوعا: (جزء من ستة وعشرين جزآ) . ووقع فى شرح مسلم للنووى وفى رواية عبادة: (أربعة وعشرين) . والذى يتحصل من الروايات عشرة، أقلها ما عند النووى، وأكثرها: من ستة وسبعين، وأضربنا عن باقيها خوف الإطالة.

قال القاضى أبو بكر بن العربى: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبى، وإنما القدر الذى أراده النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة فى الجملة، لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة.

وقال المازرى: لا يلزم العالم أن يعرف كل شئ جملة وتفصيلا، فقد جعل اللّه للعالم حدّا يقف عنده، فمنه ما يعلم به المراد جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلمه جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل.

وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة وأبدى لها مناسبة، فنقل ابن بطال عن أبى سعيد السفاقسى أن بعض أهل العلم ذكر أن اللّه تعالى أوحى إلى نبيه فى المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك فى اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها إلى الوحى فى المنام جزء من ستة وأربعين جزآ، لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح. قال ابن بطال: هذا التأويل بعيد من وجهين:

أحدهما: أنه قد اختلف فى قدر المدة التى بعد بعثته- صلى اللّه عليه وسلم-.

والثانى: أنه يبقى حديث السبعين جزآ بغير معنى.

وهذا الذى قاله من الإنكار فى هذه المسألة سبقه إليه الخطابى ف

قال: كان بعض أهل العلم يقولون فى تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أقام بعد الوحى ثلاثا وعشرين سنة، وكان يوحى إليه فى منامه ستة أشهر، وهى نصف سنة، فهى جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة. قال الخطابى: وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب

على من قاله أن يثبت ما ادعاه خبرا، ولم نسمع فيه أثرا ولا ذكر مدعيه فى ذلك خبرا، فكأنه قاله على سبيل الظن، والظن لا يغنى من الحق شيئا.

وليس كل ما خفى علينا علمه يلزمنا حجته، كأعداد الركعات وأيام الصيام، ورمى الجمرات، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك فى موجب اعتقادنا للزومها. وقد ذكروا فى المناسبات غير ذلك ما يطول ذكره.

وعن أبى سعيد عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (أصدق الرؤيا بالأسحار) (١) رواه الترمذى والدارمى. وروى مسلم من حديث أبى هريرة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا) (٢) . قال الخطابى فى (المعالم) فى قوله: (إذا اقترب الزمان) قولان:

أحدهما: أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار، وهو وقت استهوائهما، أيام الربيع، وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا،

قال: والمعبرون يقولون: أصدق الرؤيا ما كان عند اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار.

والثانى: أن اقتراب الزمان انتهاء مدته، إذا دنا قيام الساعة.

وتعقب الأول: بأنه يبعده التقييد بالمؤمن، فإن الوقت الذى تعتدل فيه الطبائع لا يختص به. وجزم ابن بطال بأن الثانى هو الصواب، واستند إلى ما أخرجه الترمذى من طريق معمر عن أيوب فى هذا الحديث بلفظ: فى آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن.

وقيل: المراد بالزمان المذكور زمان المهدى عند بسط العدل وكثرة الأمن وبسط الخير والرزق، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه.

__________

(١) أخرجه الترمذى (٢٢٧٤) فى الرؤيا، باب: قوله لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، والدارمى (٢١٤٦) ، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٢٩، ٦٨) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٤٣٤) ، بسند ......

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٦٣) فى الرؤيا، وطرفه الأول عند البخارى (٧٠١٧) فى التعبير، باب: القيد فى المنام.

وقال القرطبى فى (المفهم) : المراد- واللّه أعلم- باخر الزمان المذكور فى الحديث، زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم- عليهما السلام- بعد قتله الدجال، فأهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول.

وأصدقهم أقوالا، فكانت رؤياهم لا تكذب، ومن ثم قال عقب هذا:

وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، وإنما كانت كذلك لأن من كثر صدقه تنور قلبه وقوى إدراكه، وانتقشت فيه المعانى على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب أحواله الصدق فى يقظته فإنه يستصحب ذلك فى نومه فلا يرى إلا صدقا، وهذا بخلاف الكاذب والمخلط، فإنه يفسد قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا وأضغاثا، وقد يندر المنام أحيانا، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم. انتهى ملخصا.

وعن أبى سعيد الخدرى

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هى من اللّه، فليحمد اللّه عليها وليتحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هى من الشيطان فليستعذ باللّه من شرها ولا يذكرها، فإنها لا تضره) (١) رواه البخارى. وفى رواية لمسلم: (ورؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا وكره منها شيئا فلينفث عن يساره وليتعوذ باللّه من الشيطان، ولا يخبر بها أحدا، فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر بها إلا من يحب) (٢) . وقوله: (فليبشر) بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة، من البشرى.

وفى حديث أبى رزين عند الترمذى: (ولا يقصها إلا على وادّ) (٣) - بتشديد الدال، اسم فاعل من الود- (أو ذى رأى) وفى أخرى: (ولا يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا) وفى أخرى: (لا تقص رؤياك إلا على عالم أو ناصح) .

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٩٨٥) فى التعبير، باب: الرؤيا من اللّه.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٦١) فى الرؤيا، من حديث أبى قتادة- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٥٠٢٠) فى الأدب، باب: ما جاء فى الرؤيا، والترمذى (٢٢٧٨) فى الرؤيا، باب: ما جاء فى تعبير الرؤيا، وابن ماجه (٣٩١٤) فى تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا إذا عبرت وقعت فلا يقصها إلا على وادّ، والدارمى (٢١٤٨) ، وأحمد فى (المسند) (٤/ ١٠ و ١١ و ١٢ و ١٣) .

وفى حديث أبى سعيد عند مسلم: (فليحمد اللّه عليها وليحدث بها) (١) .

وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء: أن يحمد اللّه عليها، وأن يبشر بها، وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره.

وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ باللّه من شرها، ومن شر الشيطان، ويتفل حين يهب من نومه، ولا يذكرها لأحد أصلا. فى البخارى من حديث أبى هريرة خامسة: وهى الصلاة، ولفظه:

(فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل) (٢) . لكن لم يصرح البخارى بوصله، وصرح به مسلم، وزاد مسلم سادسة: وهى التحول من جنبه الذى كان عليه ف

قال: عن جابر رفعه: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ باللّه من الشيطان ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذى كان عليه) (٣) .

قال النووى: وينبغى أن تجمع هذه الروايات كلها، ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأ فى رفع ضررها كما صرحت به الأحاديث. وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه لم ير فى شئ من الأحاديث الاقتصار على واحد، ثم

قال: لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية فى دفع شرها. انتهى.

ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله كما قاله القرطبى، لأنه إذا قام يصلى تحول عن جنبه، وبصق ونفث عند المضمضة فى الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا اللّه فى أقرب الأحوال إليه، فيكفيه اللّه شرها. وذكر بعضهم سابعة: وهى قراءة آية الكرسى، ولم يذكر لذلك مستندا، فإن أخذه من

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٩٨٥) فى التعبير، باب: الرؤيا من اللّه، والحديث عند البخارى كما تقدم، وليس في مسلم، كما قال المصنف.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٧٠١٧) فى التعبير، باب: القيد فى المنام، ومسلم (٢٢٦٣) فى الرؤيا.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٦٢) فى الرؤيا.

عموم قوله فى حديث أبى هريرة: (ولا يقربك شيطان) فيتجه،

قال: وينبغى أن يقرأها فى صلاته المذكورة.

وحكمة التفل- كما قال القاضى عياض- أمر به طردا للشيطان الذى حضر الرؤيا المكروهة، تحقيرا له واستقذارا، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها، والتثليث للتأكيد. وقد ورد التفل والنفث والبصق،

قال النووى فى الكلام على النفث على الرقية- تبعا للقاضى عياض-: اختلف فى التفل والنفث،

فقيل: هما بمعنى واحد لا يكونان إلا بريق. وقال أبو عبيد:

يشترط فى التفل ريق يسير، ولا يكون فى النفث، وقيل عكسه. وسئلت عائشة عن النفث فى الرقية

فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه.

قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة بغير قصد.

قال: وقد جاء فى حديث أبى سعيد فى الرقية بفاتحة الكتاب: فجعل يجمع بزاقه.

قال القاضى: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء.

وقال النووى أيضا: وأكثر الروايات فى الرؤية (فلينفث) وهو النفخ اللطيف بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا. وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن المطلوب فى الموضعين مختلف، لأن المطلوب فى الرقية التبرك برطوبة الذكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان، وإظهار احتقاره واستقذاره كما نقله هو عن عياض كما تقدم.

فالذى يجمع الثلاثة، الحمل على التفل، فإنه نفخ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له نفث، وبالنظر إلى الريق قيل له بصق. وأما قوله:

(فإنها لا تضره) فمعناه- كما قاله النووى-: أن اللّه تعالى جعل ما ذكر سبب للسلامة من المكروه المرتب على الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال، وأما التحول، فللتفاؤل بتحول تلك الحال التى كان عليها.

والحكمة فى قوله فى الرؤيا الحسنة: (ولا يخبر بها إلا من يحب) لأنه إذا حدث بها من لا يحب قد يفسرها له بما لا يحب، إما بغضا وإما حسدا، فقد تقع على تلك الصفة، أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك.

وقد روى من حديث أنس مرفوعا: (الرؤيا لأول عابر) (١) . وهو حديث .....، فيه يزيد الرقاشى، ولكن له شاهد أخرجه أبو داود والترمذى وابن ماجه، بسند حسن، وصححه الحاكم عن أبى رزين العقيلى رفعه:

(الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت) (٢) .

وعند الدارمى بسند حسن عن سليمان بن يسار عن عائشة

قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف فى التجارة، فأتت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

فقالت: إن زوجى غائب، وتركنى حاملا، فرأيت فى منامى أن سارية بيتى انكسرت وأنى ولدت غلاما أعور، ف

قال: (خير يرجع زوجك إن شاء اللّه تعالى صالحا، وتلدين غلاما برّا) ، فذكرت ذلك ثلاثا، فجاءت ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- غائب، فسألتها فأخبرتنى بالمنام، فقلت لها: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك، وتلدين غلاما فاجرا، فقعدت تبكى، فجاء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: (مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها) (٣) .

وعند سعيد بن منصور بن مرسل عطاء بن أبى رباح: جاءت امرأة إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

فقالت: إنى رأيت كأن جائزة بيتى انكسرت، وكان زوجها غائبا،

قال: (رد اللّه عليك زوجك، فرجع سالما) (٤) الحديث. قال أبو عبيد وغيره: معنى قوله: (الرؤيا لأول عابر) إذا كان العابر الأول عالما، فعبر وأصاب وجه التعبير، وإلا فهى لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب فى تعبير المنام ليتوصل بذلك إلى مراد اللّه تعالى فيما ضربه من المثل، فإن أصاب فلا ينبغى أن يسأل غيره، وإن لم يصب فليسأل الثانى، وعليه أن يخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول. هكذا قال، وفيه بحث يطول ذكره.

__________

(١) أخرجه ابن ماجه (٣٩١٥) فى تعبير الرؤيا، باب: علام تعبر به الرؤيا، من حديث أنس، وفيه يزيد بن أبان الرقاشى، وهو ......

(٢) صحيح: وقد تقدم، وطرفه (ولا يقصها إلا على واد) .

(٣) أخرجه الدارمى (٢١٦٣) ، وذكره الحافظ فى (الفتح) (١٢/ ٤٣٣) وقال: سنده حسن.

(٤) ذكره الحافظ فى (الفتح) (١٢/ ٤٣٣) وقال: سنده صحيح عن عطاء.

ومن آداب المعبر، ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر أنه كتب إلى أبى موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا فقصها على أخيه فليقل: خير لنا وشر لأعدائنا. ورجاله ثقات، ولكن سنده منقطع. وفى حديث ابن زمل (١) عند الطبرانى والبيهقى فى الدلائل: لما قص على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- رؤياه، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (خير تتلقاه وشر تتوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد للّه رب العالمين اقصص على رؤياك) (٢) الحديث، وسنده ..... جدّا، ويأتى- إن شاء اللّه تعالى-. ومن آداب المعبر أن لا يعبرها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا فى الليل، وأن لا يقصها على امرأة، لكن ثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا صلى الغداة يقول: (هل رأى أحد الليلة رؤيا) (٣) ، فيقص عليه ما شاء اللّه أن يقص، ويعبر لهم ما يقصون، وبوب عليه البخارى: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.

قالوا: وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم

قال: لا تقص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس، وفيه إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير: إن المستحب أن يكون التعبير من بعد طلوع الشمس إلى الرابعة، ومن العصر إلى قبل الغروب، فإن الحديث دل على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس، فلا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها فى أوقات كراهة الصلاة.

قال المهلب (٤) : تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات، لحفظ صاحبها لها لقرب عهده بها، وقبل ما يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه، وليعرف الرائى

__________

(١) ذكره الحافظ فى (اللسان) (٣/ ٢٨٧) وقال: تابعى أرسل ولا يكاد يعرف، ليس بمعتمد، وقال ابن حبان فى الثقات، يقال له صحبة.

(٢) وهو جزء من حديث طويل أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (٨/ ٣٠٢) ، والبيهقى فى (الدلائل) (٧/ ٣٦- ٣٨) .

(٣) الحديث أخرجه البخارى (٧٠٤٧) فى التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.

(٤) هو: المهلب بن أحمد بن أبى صفرة الأسدى الأندلسى المريى، مصنف (شرح صحيح البخارى) ، كان أحد الأئمة الفصحاء الموصوفين بالذكاء، وتوفى سنة ٤٣٥ هـ.

ما يعرض له بسبب رؤياه، فيستبشر بالخير ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك، فربما كان فى الرؤيا تحذير من معصية فيكف عنها، وربما كانت إنذارا لأمر فيكون له مترقبا.

قال: فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أول النهار. قاله فى فتح البارى.

وذكر أئمة التعبير أن من آداب الرائى أن يكون صادق اللّهجة، وأن ينام على وضوء، على جنبه الأيمن، وأن يقرأ عند نومه والشمس، والليل، والتين، وسورة الإخلاص والمعوذتين وأن يقول:

اللّهم إنى أعوذ بك من سيئ الأحلام، وأستجير بك من تلاعب الشيطان فى اليقظة والمنام،

اللّهم إنى أسألك رؤيا صالحة صادقة نافعة حافظة غير منسية،

اللّهم أرنى فى منامى ما أحب. وأن لا يقصها على عدو ولا جاهل. إذا علمت هذا، فاعلم أن جميع المرائى تنحصر فى قسمين:

* أضغاث أحلام وهى لا تنذر بشئ وهى أنواع:

الأول: تلاعب الشيطان ليحزن الرائى. كأنه يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو رأى أنه واقع فى هول ولا يجد من ينجده ونحو ذلك. وروى مسلم عن جابر: جاء أعرابى ف

قال: يا رسول اللّه، إنى حلمت أن رأسى قطع وأنا أتبعه، فزجره- صلى اللّه عليه وسلم-

وقال: (لا تخبر بتلعب الشيطان بك فى المنام) (١) .

الثانى: أن يرى أن بعض الملائكة يأمره أن يفعل المحرمات ونحوه من المحال عقلا.

الثالث: ما يحدث به نفسه فى اليقظة أو يتمناه، فيراه كما هو فى المنام، وكذا رؤية ما جرت به عادته فى اليقظة، أو ما يغلب على مزاجه ويقع على المستقبل غالبا، وعن الحال كثيرا، وعن الماضى قليلا.

* القسم الثانى: الرؤيا الصادقة، وهى رؤيا الأنبياء، ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور، وهى التى تقع فى اليقظة على وفق ما

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٦٨) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (من رآنى فى المنام فقد رآنى) .

وقعت فى النوم، وقد وقع لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- من الرؤيا الصادقة التى كفلق الصبح ما لا يعد ولا يحد. قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) . الحديث رواه البخارى. وفى رواية: الرؤيا الصالحة.

وهما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة فى حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة فى الأصل أخص. فرؤيا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كلها صادقة، وقد تكون صالحة وهو الأكثر، وغير صالحة بالنسبة إلى الدنيا، كما وقع فى الرؤيا يوم أحد، فإنه- صلى اللّه عليه وسلم- رأى بقرا تذبح، ورأى فى سيفه ثلما، فأول البقر ما أصاب أصحابه يوم أحد، والثلم الذى فى سيفه برجل من أهل بيته يقتل، ثم كانت العاقبة للمتقين، وكان بعد ذلك النصر والفتح على الخلق أجمعين.

وأما رؤيا غير الأنبياء، فبينهما عموم وخصوص إن فسرنا الصادقة بأنها التى لا تحتاج إلى تفسير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث فالصالحة أخص مطلقا.

وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينورى فى (التعبير القادرى) :

الرؤيا الصالحة ما يقع بعينه، أو ما يعبر فى المنام، أو يخبر به من لا يكذب، والصالحة ما فسر. واعلم أن الناس فى الرؤيا على ثلاث درجات:

الأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير.

والصالحون: والأغلب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير.

ومن عداهم: يقع فى رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم على ثلاثة أقسام: مستورون، فالغالب استواء الحال فى حقهم، وفسقة فالغالب على

__________

(١) صحيح: الحديث أخرجه البخارى (٣) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-.

رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق، وكفار: ويندر فى رؤياهم الصدق جدّا، ويشير إلى ذلك قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا) (١) ، أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة.

وقد وقعت الصادقة من بعض الكفار كما فى رؤيا صاحبى السجن مع يوسف- عليه السّلام-، ورؤيا ملكهما وغير ذلك. وقد روى الإمام أحمد مرفوعا وصححه ابن حبان من حديث أبى سعيد: أصدق الرؤيا بالأسحار. وذكر الإمام نصر بن يعقوب الدينورى أن الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها، ومن النصف الثانى يسرع بتفاوت أجزاء الليل، وإن أسرعها تأويلا رؤيا السحر، ولا سيما عند طلوع الفجر، وعن جعفر الصادق أسرعها تأويلا رؤيا القيلولة، وعن محمد بن سيرين: رؤيا النهار مثل رؤيا الليل، والنساء بمثل الرجال، وعن القيروانى: أن المرأة إذا رأت ما ليست له أهلا فهو لزوجها، وكذا حكم العبد لسيده، كما أن رؤيا الطفل لأبويه.

ومن مرائيه الكريمة- صلى اللّه عليه وسلم-: شربه اللبن وتعبره بالعلم، كما فى حديث ابن عمر عند البخارى

قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه، حتى إنى لأرى الرى يخرج من أظفارى، ثم أعطيت فضلى- يعنى عمر-) ، قالوا: فما أولته يا رسول اللّه؟

 

قال: (العلم) (٢) . وفى رواية الكشميهنى: من أظافرى، وفى رواية صالح بن كيسان: من أطرافى.

وهذه الرؤية يحتمل بأن تكون بصرية، وهو الظاهر، ويحتمل أن تكون علمية، ويؤيد الأول: ما أخرجه الحاكم والطبرانى من طريق أبى بكر بن عبد اللّه بن عمر عن أبيه عن جده فى هذا الحديث:(فشربت حتى رأيته

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٨١) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب أبى حفص القرشى العدوى- رضى اللّه عنه-، ومسلم (٢٣٩١) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى اللّه عنه-.

يجرى فى عروقى بين الجلد واللحم) (١) ، على أنه محتمل أيضا. قال بعض العارفين: الذى خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، وهو كما قال، لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم والذى ذكره قد يكون خارقا للعادة فيكون من باب الكرامة.

وقال العارف ابن أبى جمرة: تأول النبى- صلى اللّه عليه وسلم- اللبن بالعلم اعتبارا بما بين له أول الأمر حين أتى بقدح خمر وقدح لبن، فأخذ اللبن فقال له جبريل: أخذت الفطرة، انتهى. وقد جاء فى بعض الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة، كما أخرجه البزار من حديث أبى هريرة رفعه: اللبن فى المنام فطرة.

وذكر الدينورى: أن اللبن المذكور فى هذا يختص بلبن الإبل، وأنه لشاربه مال حلال وعلم،

قال: ولبن البقر خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضا، ولبن الشاة مال وسرور وصحة جسم، وألبان الوحش شك فى الدين، وألبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللبوة مال مع عداوة لذى أمر، وفى الحديث: أن علم النبى- رضى اللّه عنه- باللّه لا يبلغ أحد درجته فيه، لأنه شرب حتى رأى الرى يخرج من أطرافه. وأما إعطاؤه فضله لعمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم باللّه بحيث كان لا تأخذه فى اللّه لومة لائم، ووجه التعبير فى الحديث بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم فى كثرة النفع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدنى، والعلم للغذاء المعنوى.

ومن ذلك رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- القميص وتعبيره بالدين. وعن أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-، عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علىّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدى، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرّ علىّ عمر وعليه قميص يجره) . قالوا: ما أولته يا رسول اللّه؟

قال: (الدين) (٢) ، رواه البخارى. وفى رواية الترمذى الحكيم من طريق أخرى فى هذا الحديث، فقال أبو بكر: علام تؤول هذا يا رسول اللّه؟

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٩٢) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٢/ ٢٩٣) ، وفى (فضائل الصحابة) (١/ ٢٥٣) ، من الطريق المذكور.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٣) فى الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان فى الأعمال، ومسلم (٢٣٩٠) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى اللّه عنه-.

و (الثدى) بضم المثلاثة وكسر الدال وتشديد الياء، جمع ثدى، بفتح ثم سكون، والمعنى: أن القميص قصير جدّا بحيث لا يستر من الحلق إلى نحو السرة بل فوقها. وقوله: (ومنها ما يبلغ دون ذلك) يحتمل أن يريد به من جهة السفل، وهو الظاهر فيكون أطول، ويحتمل أن يكون دونه من جهة العلو فيكون أقصر، ويؤيد الأول ما فى رواية الترمذى الحكيم المذكورة:

فمنهم من كان قميصه إلى سرته، ومنهم من كان قميصه إلى ركبته، ومنهم من كان قميصه إلى أنصاف ساقيه.

ويجوز النصب فى قوله (الدين) والتقدير: أولته الدين، ويجوز الرفع.

وفى رواية الحكيم المذكورة: على الإيمان. وقد قيل فى وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة فى الدنيا، والدين يسترها فى الآخرة ويحجبها عن كل مكروه، والأصل فيه

قوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ (١) .

واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده. وقال ابن العربى: إنما أول- صلى اللّه عليه وسلم- القميص بالدين، لأن الدين يستر عورة الجهل، كما يستر القميص عورة البدن.

قال: وأما غير عمر فالذى كان يبلغ الثدى هو الذى يستر قلبه عن الكفر ولو كان يتعاطى المعاصى، والذى كان يبلغ أسفل من ذلك وفرجه باد هو الذى لم يستر رجله عن المشى إلى المعصية، والذى يستر رجله هو الذى احتجب بالتقوى من جميع الوجوه، والذى يجر قميصه زاد على ذلك بالعمل الصالح الخالص.

وأشار العارف ابن أبى جمرة: إلى أن المراد بالناس فى الحديث:

المؤمنون، لتأويله القميص بالدين،

قال: والذى يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمدية، بل بعضها، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهى، وكان لعمر فى ذلك المقام العالى.

__________

(١) سورة الأعراف: ٢٦.

قال: ويؤخذ من هذا الحديث، أن كل ما يرى فى القميص من حسن أو غيره فإنه يعبر بدين لابسه، والنكتة فى القميص أن لابسه إذا اختار نزعه، وإذا اختار أبقاه، فلما ألبس اللّه المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل فى ذلك سابغ الأثواب، ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان، وقد يكون بسبب نقص العمل. وفى الحديث: أن أهل الدين يتفاضلون فى الدين بالقلة والكثرة، وبالقوة والضعف، وهذا من أمثلة ما يحمد فى المنام ويذم فى اليقظة شرعا، أعنى جر القميص، لما روى من الوعيد فى تطويله.

ومن ذلك رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- السوارين الذهب فى يده الشريفة وتعبيرهما بالكذابين. روى البخارى عن عبيد اللّه بن عبد اللّه

قال: سألت عبد اللّه بن عباس عن رؤيا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- التى ذكر فقال ابن عباس ذكر لى أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (بينا أنا نائم إذ رأيت أنه وضع فى يدىّ سواران من ذهب فقطعتهما وكرهتهما، فأذن لى فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان) (١) . فقال عبيد اللّه: أحدهما العنسى الذى قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة.

وفى رواية أبى هريرة عند الشيخين: (بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع فى يدىّ سواران من ذهب، فكبرا على وأهمانى، فأوحى إلىّ أن أنفخهما، فأولتهما الكذابين أنا بينهما، صاحب صنعاء وصاحب اليمامة) (٢) . قال المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها، وإنما هى ضرب من المثل، وإنما أول النبى- صلى اللّه عليه وسلم- السوارين بالكذابين لأن الكذب وضع الشئ فى غير موضعه، فلما رأى فى يديه سوارين من ذهب وليسا من لبسه، لأنهما من حلية النساء، عرف أنه سيظهر من يدعى ما ليس له.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٧٥) فى المغازى، باب: وفد بنى حنيفة، ومسلم (٢٢٧٣) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٧٠٣٧) فى التعبير، باب: النفخ فى المنام، ومسلم (٢٢٧٤) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

وأيضا: ففى كونهما من ذهب، والذهب منهى عن لبسه، دليل على الكذب، وأيضا: فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شئ يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له فى نفخهما فطارا، فعرف أنه ينسب إليهما أمر، وأن كلامه بالوحى الذى جاء به يزيلهما من موضعهما.

وقال ابن العربى: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يتوقع بطلان أمر مسيلمة والعنسى، فأول الرؤيا عليهما ليكونا ذلك، إخراجا للمنام عليهما، فإن الرؤيا إذا عبرت خرجت. ويحتمل أن يكون بوحى. والمراد ب (خزائن الأرض) التى ذكر، ما فتح على أمته من الغنائم ومن ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التى فيها الذهب والفضة.

وقال القرطبى: إنما كبر عليه السواران لكون الذهب من حلية النساء، ومما حرم على الرجال، وفى طيرانهما إشارة إلى اضمحلال أمرهما، ومناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا، أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانوا أسلموا، فكانوا كالساعدين للإسلام، فلما ظهر الكذابان، وبهرجا على أهلهما بزخرف أقوالهما ودعاويهما الباطلة انخدع أكثرهم بذلك، فكأن اليدين بمنزلة البلدين، والسوارين بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفا، والزخرف من أسماء الذهب.

وقال أهل التعبير: من رأى أنه يطير فإن كان إلى جهة السماء تعريجا ناله ضرر، فإن غاب فى السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه، وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه.

ومن ذلك: رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- المرأة السوداء الثائرة الرأس، تعبيرها بنقل وباء المدينة إلى الجحفة. روى البخارى من حديث عبد اللّه بن عمر، أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة- وهى الجحفة- فأولت أن وباء المدينة نقل إليها) (١) .

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٧٠٣٨) فى التعبير، باب: إذا رأى أنه أخرج الشئ من كورة فأسكنه موضعا آخر، وأطرافه (٧٠٣٩ و ٧٠٤٠) .

وهذا من قسم الرؤيا المعبرة، وهى مما ضرب به المثل، ووجه التمثيل أنه شق من اسم السوداء: السوء والداء، فتأول خروجها بما جمع اسمها، وتأول من ثوران شعرها أن الذى يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة.

وقال القيروانى من أهل التعبير: كل شئ غلبت عليه السوداء فى أكثر وجوهها فهو مكروه، وقال غيره: ثوران الرأس يؤول بالحمى لأنها تثير البدن بالاقشعرار وبارتفاع الرأس، لا سيما من السوداء فإنها أكثر استيحاشا.

ومن ذلك: رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- أنه فى درع حصينة وبقرا تنحر وتعبير ذلك.

عن أبى موسى عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (رأيت فى المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلى إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هى المدينة يثرب، ورأيت فيه بقرا، واللّه خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء اللّه به من الخير بعد، وثواب الصدق الذى أتانا اللّه (١) بعد يوم بدر) (٢) رواه البخارى ومسلم. وروى الإمام أحمد وغيره عن جابر: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (رأيت كأنى فى درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأولت الدرع الحصينة بالمدينة، والبقر بقرا) (٣) . وهذه اللفظة الأخيرة وهى (بقر) بفتح الموحدة، وسكون القاف مصدر بقره يبقره بقرا.

ولهذا الحديث سبب جاء بيانه فى حديث ابن عباس عند أحمد أيضا والنسائى والطبرانى، وصححه الحاكم من طريق أبى الزناد عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة عن ابن عباس فى قصة أحد، وإشارة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عليهم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج لطلب الشهادة، ولبسه اللأمة وندامتهم على ذلك، وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها

__________

(١) سقط من الأصل، وزدناها من مصادر التخريج.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٢٢) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (٢٢٧٢) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

(٣) حسن: أخرجه الدارمى (٢١٥٩) ، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٣٥١) ، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد (١/ ٢٧١) ، والحاكم (٢/ ١٤١) و (٣/ ٤١) يحسن به.

حتى يقاتل) وفيه: (إنى رأيت أنى فى درع حصينة) (١) الحديث، بنحو حديث جابر، وأتم منه، وقد تقدمت الإشارة إليه فى غزوة أحد من المقصد الأول.

والمراد بقوله: (وإذا الخير ما جاء اللّه به من الخير وثواب الصدق الذى أتانا اللّه بعد يوم بدر) فتح خيبر ثم مكة، أى ما جاء اللّه به بعد بدر الثانية من تثبيت قلوب المؤمنين.

قال فى فتح البارى: وفى هذا السياق إشعار بأن قوله فى الخبر (واللّه خير) من جملة الرؤيا.

قال: والذى يظهر لى أن لفظة (واللّه خير) لم يتحرر إيراده، وأن رواية ابن إسحاق هى المحررة، وأنه رأى بقرا ورأى خيرا. فأول البقر على من قتل من الصحابة يوم أحد، وأول الخير على ما حصل لهم من ثواب الصدق فى القتال والصبر على الجهاد يوم بدر وبعده إلى فتح مكة، والمراد بالبعدية على هذا لا يختص بما بين بدر وأحد نبه عليه ابن بطال.

ومن ذلك رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- أنه أتى برطب. روى مسلم عن أنس

قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (رأيت الليلة فيما يرى النائم، كأنى فى دار عقبة بن رافع، وأتيت برطب من رطب ابن طاب (٢) ، فأولته بأن الرفعة لنا فى الدنيا، والعاقبة فى الآخرة، وأن ديننا قد طاب) (٣) .

ومن ذلك: رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- سيفا يهزه، وتعبيره ما روى فى حديث أبى موسى المتقدم أنه

قال: (ورأيت فى رؤياى هذه أنى هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب به المؤمنون يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان. فإذا هو ما جاء اللّه به من الفتح واجتماع المؤمنين) (٤)رواه الشيخان.

وهذه أيضا من ضرب المثل، ولما كان- صلى اللّه عليه وسلم- يصول بالصحابة عبر عن

__________

(١) حسن: وقد تقدم فى الشاهد الذى قبله.

(٢) رطب ابن طاب، هو نوع من أنواع تمر المدينة منسوب إلى ابن طاب، رجل من أهلها. النهاية فى غريب الحديث مادة (طيب) .

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٧٠) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

(٤) صحيح: وقد تقدم قبل حديثين.

السيف بهم، وبهزه عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم، وفى الهزة الآخرى لما عاد إلى حالته من الاستواء عبر به عن اجتماعهم والفتح عليهم.

وقال أهل التعبير: السيف يصرف على أوجه؛ منها أن من نال سيفا فإنه ينال سلطانا، وإما ولاية وإما وديعة، وإما زوجة، وإما ولدا، فإن سله من غمده فانثلم سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف فبالعكس، فإن سلما أو عطبا فكذلك. وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات، ونعله بالأم وذوى الرحم، وإن جرد السيف وأراد قتل شخص فهو لسانه يجرده فى خصومة. وربما عبر السيف بسلطان جائر.

وقال بعض أهل التعبير أيضا: من رأى أنه أغمد سيفا فإنه يتزوج، أو ضرب شخصا بسيف فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه، ومن رأى سيفا عظيما فهو فتنة، ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره.

ومن ذلك: رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- أنه على قليب. عن أبى هريرة- رضى اللّه عنه- أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (بينا أنا نائم، رأيتنى على قليب، وعليها دلو، فنزعت منها ما شاء اللّه، ثم أخذها ابن أبى قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفى نزعه ضعف، واللّه يغفر له، ثم استحالت غربا فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقريّا من الناس ينزع نزع ابن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن) (١) .

وعبقرى القوم: سيدهم وكبيرهم وقويهم. وفى رواية: فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجر. وفى رواية: فأتانى أبو بكر فأخذ الدلو من يدى ليريحنى. وفى رواية موسى عن سالم عن أبيه: رأيت الناس اجتمعوا فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفى نزعه ضعف واللّه يغفر له، ثم قام

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٦٤) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو كنت متخذا خليلا) ، ومسلم (٢٣٩٢) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى اللّه عنه-.

عمر بن الخطاب فاستحالت غربا، فما رأيت من الناس يفرى فرية حتى ضرب الناس بعطن. رواه البخارى.

قال النووى: قالوا هذا المنام مثال لما جرى للخليفتين، من ظهور آثارهما الصالحة، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، لأنه صاحب الأمر، فقام به أكمل مقام، وقرر به قواعد الدين، ثم خلفه أبو بكر فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم، ثم خلفه عمر فاتسع الإسلام فى زمنه. فشبه أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذى فيه حياتهم وصلاحهم، وأميرهم المستقى لهم منها، وفى قوله: (فأخذ الدلو من يدى ليريحنى) إشارة إلى خلافة أبى بكر بعد موته- صلى اللّه عليه وسلم-، لأن الموت راحة من كد الدنيا وتعبها، فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم. وأماقوله: (وفى نزعه ضعف) فهو إخبار عن حاله فى قصر مدة ولايته، وأما ولاية عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين، وليس فى قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (واللّه يغفر له) نقض، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب، إنما هى كلمة كانوا يقولونها. وقوله: (فاستحالت فى يده غربا) أى تحولت الدلو غربا- بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة- أى: دلوا عظيما.

وأخرج أحمد وأبو داود عن سمرة بن جندب أن رجلا

قال: يا رسول اللّه، رأيت كأن دلوا عظيما دلى من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا .....ا، ثم جاء عمر فأخذ فعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء على فانتشطت وانتضح عليه منها شئ. والعراقى: جمع عرقوة الدلو، وهى الخشبة المعروضة على فم الدلو، وهما عرقوتان كالصليب، وقد ي

قال: عرقيت الدلو إذا ركبت العرقوة فيها. وانتشطت: أى جذبت ورفعت. فهذه نبذة من مرائيه الكريمة- صلى اللّه عليه وسلم- مع تعبيرها.

وأما ما رآه غيره فعبر- صلى اللّه عليه وسلم- له بما يخص ويعم من أمور الدنيا والآخرة. فقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا انفتل من صلاة الصبح أقبل على الصحابة

فيقول: (من رأى منكم الليلة رؤيا فليقصها على أعبرها له، فيقص الناس عليه مرائيهم) (١) . وروى البخارى والترمذى عن سمرة بن جندب

قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يكثر أن يقول لأصحابه: (هل رأى أحد منكم رأيا؟) فيقص عليه من شاء اللّه أن يقص، وأنه قال ذات غداة: (هل رأى أحد منكم رؤيا) وقالوا:ما منا أحد رأى شيئا،

قال: (لكنى أتانى الليلة آتيان، وإنهما ابتعثانى فقالا لى: انطلق، فانطلقت فأتيت على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوى بالصخرة لرأسه فتثلغ رأسه) (٢) الحديث.

وأقام- صلى اللّه عليه وسلم- يسأل أصحابه: (هل رأى منكم الليلة أحد رؤيا، ما شاء اللّه) ثم ترك السؤال فكان يعبر لمن قص متبرعا. واختلف النقلة فى سبب تركه السؤال:

 

فقيل: سبب ذلك حديث أبى بكرة- عند الترمذى وأبى داود- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال ذات يوم: (من رأى منكم الرؤيا؟) فقال رجل: أنا يا رسول اللّه، رأيت كأن ميزانا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبى بكر، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهة فى وجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. انتهى.

قالوا: فمن حينئذ لم يسأل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحدا عن رؤيا.

قال بعضهم: وسبب كراهته- صلى اللّه عليه وسلم- إيثاره لستر العواقب وإخفاء المراتب، فلما كانت هذه الرؤيا كاشفة لمنازلهم مبينة لفضل بعضهم على بعض فى التعيين خشى أن يتواتر ويتوالى ما هو أبلغ فى الكشف من ذلك، وللّه فى ستر خلقه حكمة بالغة ومشيئة نافذة.

وقال ابن قتيبة- فيما ذكره ابن المنير-: سبب تركه السؤال فى حديث ابن زمل: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا صلى الصبح قال- صلى اللّه عليه وسلم- وهو ثان

__________

(١) صحيح: وقد تقدم من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٧٠٤٧) فى التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، والترمذى (٢٢٩٤) فى الرؤيا، باب: ما جاء فى رؤيا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الميزان والدلو، ولكنه عند الترمذى مختصرا.

رجليه: (سبحان اللّه وبحمده وأستغفر اللّه، إن اللّه كان توابا، سبعين مرة) ثم يقول: (سبعون بسبعمائة، لا خير فيمن كانت ذنوبه فى يوم أكثر من سبعمائة) ثم يستقبل الناس بوجهه فيقول: (هل رأى أحد منكم شيئا؟) قال ابن زمل: فقلت ذات يوم أنا يا رسول اللّه،

قال: (خير تتلقاه وشر تتوقاه، وخير لنا وشر لأعدائنا، والحمد للّه رب العالمين اقصص رؤياك) .

قال: رأيت جميع الناس على طريق رحب لاحب سهل، والناس على الجادة منطلقون، فبينما هم كذلك أشفى ذلك الطريق بهم على مرج لم تر عينى مثله، يرف رفيفا، يقطر نداه، فيه من أنواع الكلأ، فكأنى بالرعلة الأولى حين أشرفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم فى الطريق فلم يضلوه يمينا وشمالا، ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدهم، وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشرفوا على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم فى الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ومضوا على ذلك.

قال: ثم قدم عظم الناس، فلما أشرفوا على المرج كبروا وقالوا: هذا خير المنزل، فمالوا فى المرج يمينا وشمالا، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى أتيت أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول اللّه على منبر فيه سبع درجات، وأنت فى أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل أقنى آدم (١) ، إذا هو تكلم يسمو، يكاد يفزع الرجال طولا، وإذا عن يسارك رجل ربعة (٢) تارّ أحمر، كثير خيلان الوجه (٣) ، إذا هو تكلم أصغيتم إليه إكراما له، وإذا أمام ذلك شيخ كأنكم تقتدون به، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت كأنك تبعثها يا رسول اللّه.

قال: فانتقع لون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ساعة، ثم سرى عنه،

فقال: (أما ما رأيت من الطريق الرحب اللاحب السهل، فذلك ما حملتكم عليه من الهدى، فأنتم عليه، وأما المرج الذى رأيت فالدنيا وغضارة عيشها، لم نتعلق بها ولم تردنا ولم نردها، وأما

__________

(١) أقنى الأنف: ارتفاع أعلاه واحد يداب وسطه وسبوع طرفه، أو نتوء وسط القصبة، و (آدم) : أى أسمر.

(٢) التار: الممتلئ البدن.

(٣) خيلان: جمع خال، وهو الشامة فى الجسد.

الرعلة الثانية والثالثة- وقص كلامه- فإنا للّه وإنا إليه راجعون، وأما أنت فعلى طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقانى، وأما المنبر فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا فى آخرها ألفا، وأما الرجل الطويل الآدم فذلك موسى، نكرمه بفضل اللّه إياه، وأما الرجل الربعة التار الأحمر، فذلك عيسى- عليه السّلام- نكرمه بفضل منزلته من اللّه، وأما الشيخ الذى رأيت كأننا نقتدى به فذلك إبراهيم- عليه السّلام-، وأما الناقة العجفاء الشارف التى رأيتنى أبعثها فهى الساعة عليها، أى على الأمة تقوم، لأنه لا نبى بعدى ولا أمة بعد أمتى) . قال الراوى: فما سأل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بعد هذا أحدا عن رؤيا، إلا أن يجئ الرجل متبرعا فيحدثه بها) (١) رواه ابن قتيبة والطبرانى والبيهقى فى الدلائل، وسنده ..... جدّا.

ومن غريب ما نقل عنه- صلى اللّه عليه وسلم- من التعبير، أن زرارة بن عمرو النخعى قدم على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى وفد النخع، فقال: يا رسول اللّه، إنى رأيت فى طريقى هذا رؤيا، رأيت أتانا (٢) تركتها فى الحى ولدت جديا أسفع أحوى، فقال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (هل لك من أمة تركتها مصرة حملا؟)

قال: نعم تركت أمة أظنها قد حملت،

قال: (فقد ولدت غلاما وهو ابنك) ،

قال: فما باله أسفع أحوى؟

قال: (ادن منى) ، فدنا منه،

قال: (هل بك برص تكتمه؟)

قال: نعم والذى بعثك بالحق ما رآه مخلوق ولا علم به أحد،

قال: (فهو ذاك) .

فقال: ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان ودملجان ومسكتان،

قال: ذلك ملك العرب عاد إلى أفضل زيه وبهجته.

قال: ورأيت عجوزا شمطاء تخرج من الأرض،

قال: تلك بقية الدنيا.

قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لى يقال له عمرو، ورأيتها تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، آكلكم وأهلكم ومالكم فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (تلك فتنة تكون فى آخر الزمان) ،

__________

(١) وقد تقدم حديث ابن زمل.

(٢) الأتان: أنثى الحمار.

قال: وما الفتنة يا رسول اللّه؟

قال: (يفتك الناس بإمامهم ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس) ، وخالف- صلى اللّه عليه وسلم- بين أصابعه، يحسب المسئ أنه محسن، ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء البارد.

فانظر إلى هذا التعبير البارز من مشكاة النبوة، محشوّا حلاوة الحق، مكسوّا طلاوة الصدق مجلوّا بأنوار الوحى. والأسفع: الذى أصاب جسده لون آخر. والأحوى: الأسود الذى ليس بالشديد. والمسكتان: السواران من ذهب. وأطبق الرأس: عظامه. والاشتجار: الاختلاف والاشتباك.

فإن قلت: تعبيره- صلى اللّه عليه وسلم- السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما بالكذابين فيما مر.

أجيب: بأن النعمان بن المنذر كان ملك العرب، وكان مملكا من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك ويحلونهم، وكان السواران من زى النعمان ليسا بمنكرين فى حقه، ولا .......ين فى غير موضعهما عرفا، وأما النبى فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته فجدير أن يهمه ذلك لأنه ليس من زيه، فاستدل به على أمر يوضع فى غير موضعه، ولكن حمدت العاقبة بذهابهما، وللّه الحمد.

ومن ذلك: ما روى عن قيس بن عباد- بضم العين وتخفيف الموحدة-

قال: كنت فى حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد اللّه بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا،

قال: سبحان اللّه، ما كان ينبغى لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عمود وضع فى روضة خضراء، فنصب فيها، وفى رأسها عروة، وفى أسفلها منصف- والمنصف الوصيف-

فقال: ارقه، فرقيته حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: (يموت عبد اللّه وهو آخذ بالعروة الوثقى) (١) . رواه البخارى.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٧٠١٠) فى التعبير، باب: الخضر فى المنام والروضة الخضراء، ومسلم (٢٤٨٤) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد اللّه بن سلام- رضى اللّه عنه-.

وفى رواية خرشة: بينما أنا نائم أتانى رجل فقال لى قم، فأخذ بيدى فانطلقت معه، فإذا أنا بجوادّ- بجيم ودال مشددة، جمع جادة وهى الطريق المسلوك- عن شمالى،

قال: فأخذت لآخذ فيها- أى أسير

فقال: لا تأخذ فيها فإنها طريق أهل الشمال.

وفى رواية النسائى من طريقه: فبينا أنا أمشى إذ عرض لى طريق عن شمالى، فأردت أن أسلكها، ف

قال: إنك لست من أهلها.

وفى رواية مسلم: فإذا منهج عن يمينى، فقال لى خذها هنا، فأتى بى جبلا فقال لى: اصعد، قال فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت، حتى فعلت ذلك مرارا.

وفى رواية ابن عون: فقال تلك الروضة روضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة، العروة الوثقى، لا تزال متمسكا بالإسلام حتى تموت.

وفى رواية خرشة عند النسائى وابن ماجه

قال: رأيت خيرا، أما المنهج فالمحشر وأما الجبل فهو منزل الشهداء، زاد مسلم: ولن تناله.

وهذا علم من أعلام نبوة نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فإن عبد اللّه بن سلام لم يمت شهيدا، وإنما مات على فراشه فى أول خلافة معاوية بالمدينة.

وقولهم إنه من أهل الجنة، أخذوه من قوله لما ذكر طريق الشمال: إنك لست من أهلها. وإنما

قال: (ما كان ينبغى لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم) (١) على سبيل التواضع وكراهية أن يشار إليه بالأصابع، خشية أن يدخله العجب، عافانا اللّه من سائر المكاره.

وقال القيروانى: الروضة التى لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها، وتعبر أيضا بكل مكان فاضل، وقد تعبر بالمصحف وكتب العلم والعالم ونحو ذلك انتهى. وقال غيره من المعبرين: الحلقة والعروة المجهولة، تدل لمن تمسك بها على قوته فى دينه، وإخلاصه فيه.

__________

(١) هى فى رواية مسلم السابقة.

ومن ذلك، ما رواه البخارى عن أم العلاء، وهى امرأة من نسائهم، بايعت رسول اللّه: وأريت لعثمان بن مظعون بعد موته فى النوم عينا تجرى، فجئت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فذكرت ذلك له، ف

قال: (ذاك عمله يجري له) (١) .

وقد قيل: يحتمل أنه كان لعثمان شئ من عمله بقى له ثوابه جاريا كالصدقة، وأنكره مغلطاى و

قال: لم يكن له شئ من الأمور الثلاثة التى ذكرها مسلم فى حديث أبى هريرة رفعه: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) (٢) .

وتعقبه شيخ الحفاظ ابن حجر: بأنه كان له ولد صالح شهد بدرا وما بعدها، وهو السائب، مات فى خلافة أبى بكر، فهو أحد الثلاث.

قال: وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن يكون له صدقة استمرت بعد موته.

وقال المهلب: العين الجارية تحتمل وجوها، فإن كان ماؤها صافيا عبرت بالعمل الصالح، وإلا فلا. وقال غيره: العين الجارية عمل جار من صدقة أو معروف لحى أو ميت. وقال آخر: عين الماء نعمة وبركة وخير، وبلوغ أمنية إن كان صاحبها مستورا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة يبكى لها أهل داره، واللّه أعلم.

فهذا طرف من تعبيره- صلى اللّه عليه وسلم-، يهدى إلى غيره مما يشبهه، وإلا فالذى نقل عنه- صلى اللّه عليه وسلم- من غرائب التأويل، ولطائف التعبير- كما قاله ابن المنير- لا تحصره المجلدات.

وأنت إذا تأملت أن كل كرامة أوتيها واحدة من هذه الأمة فى علم أو عمل، هى من آثار معجزة نبيه- صلى اللّه عليه وسلم-، وسر تصديقه، وبركات طريقه، وثمرات الاهتداء بهديه وتوفيقه، واستحضرت ما أوتيه الإمام محمد بن سيرين من لطائف التعبير، مما شاع وذاع، وامتلأت به الأسماع، طبق الأرض صدقا وصوابا، وعجبا عجابا، بل بحرا عبابا، قضيت بأن ما منحه- صلى اللّه عليه وسلم-

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٦٨٧) فى الشهادات، باب: القرعة فى المشكلات.

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٦٣١) فى الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.

من العلوم والمعارف، لا تحيط به العبارات، ولا تدرك حقيقة كنهه الإشارات، وإذا كان هذا ابن سيرين واحد من أمته- صلى اللّه عليه وسلم- نقل عنه فى فن التعبير ما لا يعد لكثرته، فكيف به- صلى اللّه عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه، وأفاض علينا من سحائب علومه ومعارفه، وتعطف علينا بعواطفه.

الفصل الثالث فى إنبائه ص بالأنباء المغيبات

اعلم أن الغيب يختص به تعالى، وما وقع منه على لسان رسوله- صلى اللّه عليه وسلم- وغيره فمن اللّه تعالى، إما بوحى أو إلهام، والشاهد لهذا

قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ (١) ليكون معجزة له. واستدل به على إبطال الكرامات.

وأجيب: بتخصيص الرسول بالملك، والإظهار بما يكون بغير توسطه، وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون برؤيا الملائكة، كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء، وفى حديث مرّ: أنه-صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (واللّه إنى لا أعلم إلا ما علمنى ربى) (٢) فكل ما ورد عنه- صلى اللّه عليه وسلم- من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام اللّه له به، إعلاما على ثبوت نبوته، ودلائل على صدق رسالته، وقد اشتهر وانتشر أمره- صلى اللّه عليه وسلم- بين أصحابه بالاطلاع على الغيوب، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه: اسكت فو اللّه لو لم يكن عندنا من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء، ويشهد له قول ابن رواحة:

وفينا رسول اللّه يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع

وقال حسان بن ثابت:

__________

(١) سورة الجن: ٢٦، ٢٧.

(٢) تقدم.

نبى يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب اللّه فى كل مشهد

فإن قال فى يوم مقالة غائب ... فتصديقها فى ضحوة اليوم أو غد

وهذا الفصل ينقسم قسمين:

الأول: فيما أخبر به- صلى اللّه عليه وسلم- مما نطق به القرآن. من ذلك: فى

قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إلى قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (١) فقوله وَلَنْ تَفْعَلُوا إخبار عن غيب تقضى العادة بخلافه.

ومن ذلك:

قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (٢) الآية، فإنه قد كان لقريش قافلتان: إحداهما ذات غنيمة دون الآخرى، فأخبر اللّه تعالى عما فى ضمائرهم، وأنجز ما وعد، ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشئ بعد وقوعه غير جائز.

ومن ذلك:

قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)

، وهذا إخبار عن المستقبل، لأن (السين) بمعنى الاستقبال، يعنى كفار قريش يوم بدر، وقد كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف، وكانوا مستعدين بالمال والسلاح، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وليس معهم إلا فرسان، إحداهما للزبير بن العوام، والآخرى للمقداد، فهزم اللّه المشركين ومكن المسلمين من قتل أبطالهم واغتنام أموالهم.

ومن ذلك: قوله تعالى فى كفار قريش سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللّه ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً (٤) ، يريد ما قذف اللّه فى قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب، ونادى أبو سفيان: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن شاء اللّه) ،

__________

(١) سورة البقرة: ٢٣، ٢٤.

(٢) سورة الأنفال: ٧.

(٣) سورة القمر: ٤٥.

(٤) سورة آل عمران: ١٥١.

وقيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم، فألقى اللّه فى قلوبهم الرعب.

ومن ذلك:

قوله تعالى: الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ إلى قوله: لا يُخْلِفُ اللّه وَعْدَهُ (١) ، سبب نزول هذه الآية أن كسرى وقيصر تقاتلا فغلب كسرى قيصر، فساء المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب، ولتعظيم قيصر كتاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وتمزيق كسرى كتابه، وفرح المشركون به، فأخبر اللّه تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون فى بضع سنين، والبضع ما بين الثلاثة إلى العشر، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية،

وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين (٢) .

ومن ذلك:

قوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً (٣) فأخبر أنهم لا يتمنون الموت بالقلب ولا بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا، فأخبر فوجد مخبره كما أخبر، فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت لسارعوا إلى تكذيبه بالتمنى، ولو لم يعلم ذلك لخشى أن يجيبوا إليه فيقضى عليه بالكذب، قال البيضاوى: وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت لنقل واشتهر، فإن التمنى ليس من عمل القلب فيخفى. وروى مرفوعا: (لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات وما بقى يهودى على وجه الأرض) (٤) .

ومن ذلك:

قوله تعالى: وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا

__________

(١) سورة الروم: ١- ٦.

(٢) قلت: عند الترمذى (٣١٩٣) فى التفسير، باب: ومن سورة الروم، إلا أنه ذكر أن انتصار الفرس على الروم كان فى مكة، وانتصار الروم على الفرس كان مع بدر، فكان ذلك الفرح لأنهم أهل كتاب وأقرب إلى المسلمين من أهل الأوثان الذين هم أقرب إلى كفار قريش، ولا أظن ذلك يرجع إلى سبب معاملة كسرى وقيصر لرسل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، لأن ذلك كان بعد غزوة بدر بكثير.

(٣) سورة الجمعة: ٦، ٧.

(٤) الذى فى تفسير ابن كثير، أن المقصود بتمنى الموت هنا المباهلة كما جاء فى سورة آل عمران، بمعنى أنه إن كنتم على هدى وأن محمدا وأصحابه على ضلالة فادعوا بالموت على الضال من الفئتين إن كنتم صادقين فيما تزعمون.

الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (١) الآية. هذا وعد من اللّه لرسوله بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، وأئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل تعالى ذلك وللّه الحمد والمنة، فإنه لم يمت- صلى اللّه عليه وسلم- حتى فتح اللّه عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشى ملك الحبشة الذى تملك بعد أصحمة- رحمه اللّه-.

ثم لما مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- واختار اللّه له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق- رضى اللّه عنه- فلمّ شعث ما وهى عند موته- صلى اللّه عليه وسلم- ووطد جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ففتحوا طرفا منها، وجيشا آخر صحبة أبى عبيدة إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاص إلى بلاد مصر، ففتح اللّه للجيش الشامى فى أيامه بصرى ودمشق ومخاليفها من بلاد حوران وما والاها. وتوفاه اللّه تعالى واختار له ما عنده. ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق.

فقام فى الأمر بعده قياما تامّا، لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله فى قوة سيره وكمال عدله، وتم فى أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزاع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية، وأنفق أموالهما فى سبيل اللّه، كما أخبر بذلك ووعد به رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-(٢) .

__________

(١) سورة النور: ٥٥.

(٢) يشير إلى الحديث الصحيح الذى أخرجه البخارى (٣٠٢٨) فى الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة، ومسلم (٢٩١٨) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه- بلفظ: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذى نفس محمد بيده، لتنفقن كنوزهما فى سبيل اللّه) صدقت يا رسول اللّه.

ثم لما كانت الدولة العثمانية (١) امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدّا، وجئ بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه للأمة على حفظ القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا اللّه ورسوله، وصدق اللّه ورسوله.

ومن ذلك:

قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ (٢) ، فاليهود أذل الكفار فى كل مكان وزمان كما أخبر.

ومن ذلك:

قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣) ، وهذا ظاهر فى العباد بأن دين الإسلام كما أخبر عال على سائر الأديان.

ومن ذلك،

قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ (٤) إلى آخرها، فكان كما أخبر، دخل الناس فى الإسلام أفواجا، فما مات- صلى اللّه عليه وسلم- وفى بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام. إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه.

القسم الثانى: فيما أخبر به- صلى اللّه عليه وسلم- من الغيوب سوى ما فى القرآن العزيز فكان كما أخبر به فى حياته وبعد مماته. أخرج الطبرانى عن ابن عمر

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن اللّه قد رفع لى الدنيا، فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفى هذه) (٥) .

__________

(١) نسبة إلى عثمان بن عفان- رضى اللّه عنه-، فالسياق هنا يشير إلى ذلك.

(٢) سورة البقرة: ٦١.

(٣) سورة التوبة: ٣٣.

(٤) سورة النصر: ١.

(٥) ذكر الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٨٧) وقال: رواه الطبرانى ورجاله وثقوا على ضعف كثير فى سعيد بن سنان الرهاوى.

وعن حذيقة

قال: قام فينا رسول اللّه قائما، فما ترك شيئا يكون فى مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابه هؤلاء، وإنه ليكون منه الشئ قد نسيته فأراه فأعرفه (١) فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه (٢) ثم قال حذيفة: ما أدرى أنسى أصحابى أم تناسوه، واللّه ما ترك رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من قائد فتنة إلى أن تنقضى الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا وقد سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته رواه أبو داود.

وروى مسلم من حديث ابن مسعود فى الدجال: فيبعثن عشرة فوارس طليعة، قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، وهم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ) (٣) . فوضح من هذا الخبر وغيره مما يأتى من الأخبار، وسنح من خواطر الأبرار الأخيار أنه- صلى اللّه عليه وسلم- عرفهم بما يقع فى حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه فلا سبيل إلى فوته. وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وما يحرك طائر جناحه فى السماء إلا ذكرنا منه علما. ولا شك أن اللّه تعالى قد أطلعه على أزيد من ذلك، وألقى عليه علم الأولين والآخرين. وأما علم عوارف المعارف الإلهية فتلك لا يتناهى عددها، وإليه- صلى اللّه عليه وسلم- ينتهى مددها.

ومن ذلك: ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- نعى النجاشى للناس فى اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى وصف بهم وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات) (٤). وفى حديث أنس عند أحمد والبخارى:

__________

(١) ليست هذه العبارة فى سنن أبى داود.

(٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٢٤٠) فى الفتن والملاحم، باب: ذكر الفتن ودلائلها، وهو عند البخارى (٦٦٠٤) فى القدر، باب: وَكانَ أَمْرُ اللّه قَدَراً مَقْدُوراً، ومسلم (٢٨٩١) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: إخبار النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فيما يكون إلى قيام الساعة، بلفظ قريب منه.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٨٩٩) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: إقبال الروم فى كثرة القتل عند خروج الدجال.

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٤٥) فى الجنائز، باب: الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، ومسلم (٩٥١) فى الجنائز، باب: فى التكبير على الجنازة.

أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- صعد أحدا، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله وقال له: (أثبت أحد، فإنما عليك نبى، وصديق وشهيدان) (١) فكان كما أخبر-صلى اللّه عليه وسلم-.

ومن ذلك: ما رواه الشيخان من حديث أبى هريرة أنه- رضى اللّه عنه-

قال: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذى نفسى بيده لتنفقن كنوزهما فى سبيل اللّه) (٢)

قال النووى قال الشافعى وسائر العلماء: معناه لا يكون كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام، كما كان فى زمنه- صلى اللّه عليه وسلم-، فأعلمنا- صلى اللّه عليه وسلم- بانقطاع ملكهما من هذين الإقليمين، وكان كما قال، فأما كسرى فانقطع ملكه وزال بالكلية من جميع الأرض، وتمزق ملكه كل ممزق، واضمحل بدعوة النبى- صلى اللّه عليه وسلم وأما قيصر فانهزم من الشام ودخل أقصى بلاده، فافتتح المسلمون بلاده واستقرت للمسلمين وللّه الحمد، انتهى.

وقد وقع ذلك فى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب كما قدمته، وقال- صلى اللّه عليه وسلم- لسراقة: (كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟) فلما أتى بهما عمر ألبسهما إياه و

قال: (الحمد للّه الذى سلبهما كسرى وألبسهما سراقة) (٣) .

ومن ذلك: إخباره- صلى اللّه عليه وسلم- بالمال الذى تركه عمه العباس عند أم الفضل، بعد أن كتمه، ف

قال: ما علمه غيرى وغيرها وأسلم كما تقدم ذلك فى غزوة بدر من المقصد الأول. وإخباره بشأن كتاب حاطب إلى أهل مكة.

وبموضع ناقته حين ضلت وكيف تعلقت بخطامها فى الشجرة.

ولما رجع المشركون يوم الأحزاب، قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (الآن نغزوهم

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٧٥) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو كنت متخذا خليلا) .

(٢) صحيح: وقد تقدم قريبا.

(٣) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقى وابن عساكر، عن الحسن مرسلا، كما فى (كنز العمال) (٣٥٧٥٢) .

ولا يغزونا) (١) ، فلم يغز- صلى اللّه عليه وسلم- بعدها. وبعث- صلى اللّه عليه وسلم- جيشا إلى مؤتة، وأمر عليهم زيد بن حارثة ثم

قال: (فإن أصيب فجعفر بن أبى طالب، فإن أصيب فعبد اللّه بن رواحة) ، فلما التقى المسلمون بمؤتة جلس النبى- صلى اللّه عليه وسلم- على المنبر، فكشف له حتى نظر إلى معركتهم ف

قال: (أخذ الراية زيد بن حارثة حتى استشهد) ، فصلى عليه ثم

قال: (استغفرو له، ثم أخذ الراية جعفر بن أبى طالب حتى استشهد) ، فصلى عليه ثم

قال: (استغفروا لأخيكم جعفر، ثم أخذ الراية عبد اللّه بن رواحة فاستشهد) فصلى عليه، ثم

قال: (استغفروا لأخيكم) (٢) . فأخبر أصحابه بقتلهم فى الساعة التى قتلوا فيها، ومؤتة دون دمشق بأرض البلقاء.

وعن أسماء بنت عميس

قالت: دخل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- صبيحة اليوم الذى قتل فيه جعفر وأصحابه ف

قال: (يا أسماء، أين بنو جعفر) فجئت بهم، فضمهم وشمهم ثم ذرفت عيناه بالدموع فبكى، فقلت: يا رسول اللّه، أبلغك عن جعفر شئ؟

قال: (نعم قتل اليوم) (٣) ، رواه يعقوب الإسفراينى فى كتاب دلائل الإعجاز، وخرجه ابن إسحاق والبغوى.

ومن ذلك، قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (زويت لى الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها) (٤) ، فكان كذلك امتدت فى المشارق والمغارب ما بين أقصى الهند إلى أقصى المشرق إلى بحر طنجة حيث لا عمارة وراءه، وذلك ما لم تملكه أية أمة من الأمم.

ومن ذلك: إعلامه قريشا بأكل الأرضة ما فى صحيفتهم التى تظاهروا

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤١١٠) فى المغازى، باب: غزوة الخندق، وهى الأحزاب، من حديث سليمان بن حدد- رضى اللّه عنه-.

(٢) انظر القضية فى (دلائل النبوة) للبيهقى (٤/ ٣٦١- ٣٦٢) .

(٣) أخرجه ابن سعد فى (الطبقات) (٨/ ٢٢٠) .

(٤) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٣٩٥٢) فى الفتن، باب: ما يكون من الفتن، وهو عند مسلم (٢٨٨٩) بنحوه فى الفتن، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، من حديث ثوبان- رضى اللّه عنه-.

بها على بنى هاشم، وقطعوا بها رحمهم، وأنها أبقت فيها كل اسم للّه، فوجدوها كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-.

ومن ذلك: ما رواه الطبرانى فى الكبير، والبزار من حديث ابن عمر

قال: كنت جالسا مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى مسجد منى، فأتى رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما ثم قالا: يا رسول اللّه، جئنا نسألك

فقال: (إن شئتما أن أخبركما بما جئتما تسألانى عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألانى فعلت) فقالا: أخبرنا يا رسول اللّه، فقال الثقفى للأنصارى: سل، ف

قال: أخبرنى يا رسول اللّه،

قال: (جئتنى تسألنى عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام، ومالك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف ومالك فيهما، وعن سعيك بين الصفا والمروة ومالك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة ومالك فيه، وعن رميك الجمار ومالك فيه، وعن نحرك ومالك فيه، وعن حلاقك رأسك ومالك فيه مع الإفاضة) .

فقال: والذى بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك (١) .

ومن ذلك: ما روى عن واثلة بن الأسقع

قال: أتيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وهو فى نفر من أصحابه يحدثهم، فجلست وسط الحلقة، فقال بعضهم: يا واثلة قم عن هذا المجلس، فقد نهينا عنه، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (دعونى وإياه فإنى أعلم بالذى أخرجه من منزله) قلت: يا رسول اللّه ما الذى أخرجنى؟

قال: (أخرجك من منزلك لتسأل عن البر وعن الشك)

قال: قلت والذى بعثك بالحق ما أخرجنى غيره، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (البر ما استقر فى الصدر، واطمأن إليه القلب، والشك ما لم يستقر فى الصدر، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن أفتاك المفتون) (٢) .

__________

(١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٢/ ٢٧٤- ٢٧٥) و

قال: رواه البزار والطبرانى فى (الكبير) بنحوه، ورجال البزار موثقون.

(٢) قلت: القصة بنحوها عند مسلم (٢٥٥٣) فى البر والصلة، باب: تفسير البر والإثم، والترمذى (٢٣٨٩) فى الزهد، باب: ما جاء فى البر والإثم، وأحمد فى (المسند) (٤/ ١٨٢) من حديث النواس بن سمعان، ولم أقف على هذه القصة عن واثلة بن الأسقع، لا صاحب الطبقات ولا صاحب الإصابة وعديد غيرهم.

ومن ذلك: قوله لفاطمة- رضى اللّه عنها- فى مرضه: (إنك أول أهلى لحوقا بى) (١) فعاشت بعده ثمانية أشهر، وقيل ستة أشهر. وقوله- صلى اللّه عليه وسلم- لنسائه:

(أسرعكن بى لحوقا، أطولكن يدا) فكانت زينب بنت جحش لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق (٢) .

ومن ذلك، قوله- صلى اللّه عليه وسلم- لعلى: (أتدرى من أشقى الآخرين) قلت:

اللّه ورسوله أعلم،

قال: قاتلك. أخرجه أحمد فى المناقب. وعند ابن أبى حاتم (الذى يضربك على هذا) وأشار إلى يافوخه، وعند المحاملى: قال على: عهد إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، لتخضبن هذه من هذه، وأشار إلى لحيته ورأسه، وعند الضحاك: (الذى يضربك على هذه فتبتل منها هذه) وأخذ بلحيته. فضربه عبد الرحمن بن ملجم. وعند الطبرانى وأبى نعيم، من حديث جابر مرفوعا: إنك مؤمر مستخلف، وإنك مقتول، وإن هذه مخضوبة من هذه.

وقال- صلى اللّه عليه وسلم- لمعاوية: (أما إنك ستلى أمر أمتى من بعدى، فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم) . قال معاوية: فما زلت أرجوها حتى قمت مقامى هذا (٣) . رواه ابن عساكر.

وأخرج ابن عساكر أيضا من حديث عروة بن رويم مرفوعا: لن يغلب معاوية أبدا، وإن عليّا قال يوم صفين: لو ذكرت هذا الحديث ما قاتلت معاوية.

ومن ذلك قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (يقتل هذا مظلوما) وأشار إلى عثمان

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٢٤) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (٢٤٥٠) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى- عليهما الصلاة والسلام- من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٢٠) فى الزكاة، باب: أى الصدقة أفضل ومسلم (٢٤٥٢) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل زينب أم المؤمنين- رضى اللّه عنها-، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٣) رواه الطبرانى فى الأوسط، كما فى (مجمع الزوائد) (٩/ ٣٥٦) .

- رضى اللّه عنه- (١) . خرجه البغوى فى المصابيح من الحسان والترمذى وقال حسن غريب، وخرجه أحمد، فكان كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-، فاستشهد فى الدار وبين يديه المصحف، فنضح الدم على هذه الآية فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢) .

وفى الشفاء (٣) أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (يقتل عثمان وهو يقرأ فى المصحف، وإن اللّه عسى أن يلبسه قميصا، وإنهم يريدون خلعه وإنه سيقطر دمه على قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وقد أخرجه الحاكم عن ابن عباس بلفظ: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة فتقع قطرة من دمك) على قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

لكن قال الذهبى: إنه حديث ........

وقد روى مسلم عن أسامة بن زيد أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أشرف على أطم من آطام المدينة ثم

قال: (هل ترون ما أرى، إنى لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر) (٥) فوقعت فتنة قتلة عثمان وتتابعت الفتن إلى فتنة الحرة وكانت لثلاث بقين من ذى الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، وجرت فيها مواقع كثيرة موجودة فى كتب التواريخ.

وأخرج البيهقى عن الحسن (٦)

قال: لما كان يوم الحرة قتل أهلى، حتى لا يكاد ينفلت منهم أحد.

وأخرج أيضا عن أنس بن مالك

قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، منهم ثلاثمائة من الصحابة، وذلك فى

__________

(١) حسن الإسناد: أخرجه الترمذى (٣٧٠٨) فى المناقب، باب: رقم (٧٧) ، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- وقال الترمذى: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال.

(٢) سورة البقرة: ١٣٧.

(٣) هو الشفاء للقاضى عياض.

(٤) سورة البقرة: ١٣٧.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٧٨) فى فضائل المدينة، باب: آطام المدينة، ومسلم (٢٨٨٥) فى الفتن، باب: نزول الفتن كمواقع القطر، وقد قصر المصنف فى عزوه إلى مسلم فقط، وهو عند البخارى أيضا. و (الأطم) : هو القصد والحصن، وجمعه آطام.

(٦) هو: الحسن البصرى، من خيار أئمة التابعين.

خلافة يزيد.

وأخرج أيضا عن مغيرة

قال: انتهب أبو مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام وافتض فيها ألف عذراء.

وقال- صلى اللّه عليه وسلم- لأبى موسى وهو قاعد على قف بئر (١) أريس، لما طرق عثمان الباب (ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه) (٢) إشارة إلى ما تقدم من استشهاده يوم الدار بل أصرح من ذلك كله ما رواه أحمد عن ابن عمر قال ذكر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فتنة، فمر رجل ف

قال: (يقتل فيها هذا يومئذ ظلما) ،

قال: فنظرت فإذا هو عثمان (٣) . وإسناده صحيح.

وأخبر- صلى اللّه عليه وسلم- بوقعة الجمل وصفين وقتال عائشة والزبير عليّا، كما أخرجه الحاكم وصححه البيهقى عن أم سلمة

قالت: ذكر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة ف

قال: (انظرى يا حميراء أن لا تكونى أنت) ، ثم التفت إلى على فقال له: (إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها) (٤) .

وعن ابن عباس مرفوعا: (أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب (٥) ، ويقتل حولها قتلى كثيرة، تنجو بعدما كادت) (٦) . رواه البزار وأبو نعيم.

__________

(١) قف البئر: أى حافتها.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٧٤) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو كنت متخذا خليلا) ، ومسلم (٢٤٠٣) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان- رضى اللّه عنه-.

(٣) حسن: أخرجه الترمذى (٣٧٠٨) فى المناقب، باب: رقم (٧٧) ، وأحمد فى (المسند) (٢/ ١١٥) ، وقد تقدم قريبا.

(٤) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ١٢٩) .

(٥) الحوأب: الواسع من الأودية، وهو هنا منزل بين مكة والبصرة، وهو الذى نزلته عائشة لما جاءت إلى البصرة فى وقعة الجمل.

(٦) رجاله ثقات: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٧/ ٢٣٤) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. اهـ. قلت: وهو عند أحمد (٦/ ٥٢ و ٩٧) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٧٣٢) ، والحاكم فى (المستدرك) (٣/ ١٢٩) من حديث عائشة- رضى اللّه عنها- بسند صحيح.

وأخرج الحاكم وصححه البيهقى عن أبى الأسود

قال: شهدت الزبير خرج يريد عليّا فقال على: أنشدك اللّه، هل سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (تقاتله وأنت له ظالم) (١) ، فمضى الزبير منصرفا. وفى رواية أبى يعلى والبيهقىقال الزبير: بلى ولكن نسيت.

ومن ذلك قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحسن بن على: (إن ابنى هذا سيد، وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) (٢) رواه البخارى، فكان كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-، لأنه لما قتل على بن أبى طالب بايع الحسن أكثر من أربعين ألفا، فبقى سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراء النهر من خراسان، ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه، فلما تراء الجمعان بموضع يقال له بستكين بناحية الأنبار من أرض السواد، فعلم أن لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الآخرى، فكتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه دون غيره على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشئ مما كان فى أيام أبيه، فأجابه معاوية إلا عشرة، فلم يزل يراجعه حتى بعث إليه برق أبيض و

قال: اكتب فيه ما شئت فأنا ألتزمه، واصطلحا على ذلك، فكان الأمر كما قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أن اللّه سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) .

وأخرج الدولابى أن الحسن (٣)

قال: كانت جماجم العرب بيدى يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه اللّه تعالى وحقن دماء المسلمين.

ومن ذلك: إعلامه- صلى اللّه عليه وسلم- بقتل الحسين بالطف،

وأخرج بيده تربة و

قال: فيها مضجعه، رواه البغوى فى معجمه من حديث أنس بن مالك بلفظ: استأذن ملك القطر ربه أن يزور النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأذن له وكان فى يوم

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٤١٣) ، والبيهقى فى (دلائل النبوة) (٦/ ٤١٥) .

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٧٠٤) فى الصلح، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم- للحسن بن على- رضى اللّه عنهما- ابنى هذا سيد من حديث أبى بكرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) الحسن هنا هو: الحسن بن على- رضى اللّه عنهما- الذى قيل فيه نص الحديث السابق.

أم سلمة، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (يا أم سلمة احفظى علينا الباب لا يدخل علينا أحد) فبينما هى على الباب إذ دخل الحسين فاقتحم فوثب على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فجعل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يلثمه ويقبله، فقال له الملك: أتحبه؟

قال: (نعم) ،

قال: إن أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك المكان الذى يقتل فيه، فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر، فأخذته أم سلمة فجعلته فى ثوبها.

قال: ثابت: كنا نقول: إنها كربلاء. وخرجه أبو حاتم فى صحيحه ورواه أحمد بنحوه. والسهلة- بالكسر-: رمل خشن ليس بالدقاق الناعم.

وفى رواية الملاء، قالت ثم ناولنى كفّا من تراب أحمر،

وقال: إن هذا من تربة الأرض التى يقتل بها فمتى صار دما فاعلمى أن قد قتل. قالت أم سلمة: فوضعته فى قارورة عندى وكنت أقول: إن يوما يتحول فيه دما ليوم عظيم. الحديث.

فاستشهد الحسين كما قال- صلى اللّه عليه وسلم- بكربلاء من أرض العراق، بناحية الكوفة، ويعرف الموضع بالطف، وقتله سنان بن أنس النخعى وقيل غيره، ولما قتلوه بعثوا برأسه إلى يزيد، فنزلوا أول مرحلة فجعلوا يشربون بالرأس، فبينما هم كذلك إذ خرجت عليهم من الحائط يد معها قلم من حديد فكتبت سطرا بدم:

أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب

فهربوا وتركوا الرأس. أخرجه منصور بن عمار وذكر أبو نعيم الحافظ فى كتاب دلائل النبوة عن نضرة الأزدية أنها

قالت: لما قتل الحسين بن على أمطرت السماء دما فأصبحنا وجبابنا وجرارنا مملوءة دما. وكذا روى فى أحاديث غير هذا وقال- صلى اللّه عليه وسلم- لعمار: (تقتلك الفئة الباغية) (١) . رواهالبخارى فكان كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٧) فى المساجد، باب: التعاون فى بناء المسجد، ومسلم (٢٩١٥) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، من حديث أبى سعيد الخدرى عن أبى قتادة الأنصارى- رضى اللّه عنهما-.

ومن ذلك: ما رواه أبو عمر بن عبد البر أن عبد اللّه بن عمر رأى رجلا مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فلم يعرفه، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أرأيته؟)

قال: نعم.

قال: (ذاك جبريل، أما إنك ستفقد بصرك) ، فعمى فى آخر عمره.

ومن ذلك: قوله- صلى اللّه عليه وسلم- لثابت بن قيس بن شماس: (تعيش حميدا وتقتل شهيدا) (١) رواه الحاكم وصححه، والبيهقى وأبو نعيم، فقتل يوم مسيلمة الكذاب باليمامة.

ومن ذلك: قوله لعبد اللّه بن الزبير: (ويل لك من الناس، وويل للناس منك) (٢) . فكان من أمره مع الحجاج ما كان.

ومن ذلك: حديث أبى هريرة أنه- رضى اللّه عنه-

قال: (إن هذا الدين بدأ نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا عضوضا، ثم يكون سلطانا وجبرية) (٣) . وقوله: ملكا عضوضا أى يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضّا.

وفى حديث سفينة عند أبى داود والترمذى

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (الخلافة فى أمتى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك) (٤) . قال سعيد بن جمعان: أمسك خلافة أبى بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وخلافة على فوجدناها ثلاثين سنة، فقيل له: إن بنى أمية يزعمون أن الخلافة فيهم ف

قال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك (٥) .

__________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٢٦٠ و ٢٦١) وصححهما.

(٢) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٦٣٨) ، وابن أبى عاصم فى (الآحاد والمثانى) (١/ ٤١٤) ، وسكت عنه الحافظان الحاكم والذهبى.

(٣) أخرجه أبو يعلى فى (مسنده) (٨٧٣) ، وأبو داود فى (مسنده) (٢٢٨) ، والطبرانى فى (الكبير) (١/ ١٥٦) و (٢٠/ ٥٣) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٨/ ١٥٩) من حديث أبى عبيدة ابن الجراح ومعاذ بن جبل- رضى اللّه عنهما-، ولم أقف عليه من حديث أبى هريرة.

(٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٢٢٦) فى الفتن، باب: ما جاء فى الخلافة، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٢٢٠ و ٢٢١).

(٥) ذكره الترمذى عقب الحديث السابق.

وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس أن أم الفضل مرت به- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتنى به،

قالت: فلما ولدته أتيته به فأذن فى أذنه اليمنى وأقام فى اليسرى وألبأه من ريقه وسماه عبد اللّه و

قال: اذهبى بأبى الخلفاء فأخبرت العباس فأتاه فذكر له ذلك ف

قال: هو ما أخبرتك، هذا أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدى، حتى يكون منهم من يصلى بعيسى ابن مريم.

وأخرج أبو يعلى عن معاوية سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول:

(لتظهرن الترك على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم) (١) .

ومن ذلك: إخباره- صلى اللّه عليه وسلم- بعالم المدينة، أخرج الحاكم وصححه عن أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلم يجدوا عالما أعلم من عالم المدينة) (٢) . قال سفيان بن عيينة: نرى هذا العالم مالك بن أنس، وقال عبد الرزاق: ولم يعرف بهذا الاسم غيره ولا ضربت أكباد الإبل إلى أحد مثل ما ضربت إليه، وقال أبو مصعب: كان الناس يزدحمون على باب مالك ويقتتلون عليه من الزحام، يعنى لطلب العلم. وممن روى عنه من الأئمة المشهورين: محمد بن شهاب الزهرى (٣) ، والسفيانان والشافعى والأوزاعى إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الإمام (٤) ، وصاحباه: أبو يوسف ومحمد ابن الحسن وعبد الرحمن بن مهدى شيخ الإمام أحمد ويحيى بن يحيى شيخ

__________

(١) لم أقف عليه فيه.

(٢) أخرجه الترمذى (٢٦٨٠) بنحوه فى العلم، باب: ما جاء فى عالم المدينة، وأحمد فى (المسند) (٢/ ٢٩٩) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ١٦٨) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: رجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن جريج وأبى الزبير، وهما مدلسان.

(٣) قلت: محمد بن شهاب الزهرى، من طبقة شيوخ مالك، فقد روى عنه مالك، كما روى عن مالك من باب رواية الأكابر عن الأصاغر، وغالبا ما يكون ذلك من باب اعتراف الشيخ بالتلميذ.

(٤) قلت: الإمام أبو حنيفة، أسن من الإمام مالك، كما لم يثبت عنهما أنهما التقيا، فلا أظن أنه روى عنه شيئا، وكذلك صاحباه.

البخارى، وأبو رجاء قتيبة بن سعيد شيخ البخارى، وذو النون المصرى، والفضيل بن عياض، وعبد اللّه بن المبارك، وإبراهيم بن أدهم. كما نقله العلامة عيسى بن مسعود الزواوى فى كتابه (المنهج السالك إلى معرفة قدر الإمام مالك) .

وإخباره بعالم قريش؛ عن ابن مسعود

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما) (١) . رواه أبو داود الطيالسى فى مسنده، وفيه الجارود مجهول، لكن له شواهد عن أبى هريرة فى تاريخ بغداد للخطيب وعن على وابن عباسفى المدخل للبيهقى. قال الإمام أحمد وغيره: هذا العالم هو الشافعى، لأنه لم ينتشر فى طباق الأرض من علم عالم قريش من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعى، وما كان الإمام أحمد ليذكر حديثا .......ا يحتج أو يستأنس به فى أمر شيخه الشافعى. وأما قوله: (وروى عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه قالت عالم قريش) إلخ، بصيغة التمريض احتياطا للشك فى ضعفه، فإن إسناده لا يخلو من ضعف.

قاله العراقى ردّا على الصغانى فى زعمه أنه .......، وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه فى كتابه سماه: لذة العيش فى طرق حديث الأئمة من قريش، كما أفاده شيخنا.

وأخبر- صلى اللّه عليه وسلم- بأن طائفة من أمته لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر اللّه (٢) . رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة وبأن اللّه تعالى يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها (٣) . رواه الحاكم من حديث أبى هريرة. وبذهاب الأمثال فالأمثل رواه الحاكم وصححه

__________

(١) أخرجه الطيالسى فى (مسنده) (٣٠٩) بسند ......

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٧٣١١) فى الاعتصام، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق) . وهم أهل العلم، ومسلم (١٩٢١) فى الإمارة، باب: قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتى) من حديث المغيرة بن شعبة- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٢٩١) فى الملاحم، باب: ما يذكر فى الملاحم، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٥٦٧ و ٥٦٨).

بلفظ: تذهبون الخير فالخير (١) . وبالخوارج رواه الشيخان من حديث أبى سعيد الخدرى بلفظ: بينما نحن عند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة، ف

قال: يا رسول اللّه، (اعدل) ف

قال: (ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل، خبت وخسرت إن لم أعدل) فقال عمر: يا رسول اللّه دعنى أضرب عنقه، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدى المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس) (٢) .

قال أبو سعيد: فأشهد أنى سمعت هذا من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وأشهد أن على بن أبى طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الذى نعته.

وأخبر- صلى اللّه عليه وسلم- أيضا بالرافضة، أخرجه البيهقى عن على

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (يكون فى أمتى قوم يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام) (٣) .

وأخبر أيضا بالقدرية والمرجئة و

قال: هم مجوس هذه الأمة (٤) ، رواه الطبرانى فى الأوسط عن أنس.

__________

(١) حسن: أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٤٨٠) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٧٢٢٥) ، والطبرانى فى (الكبير) (٥/ ٢٩) ، من حديث رويفع بن ثابت الأنصارى- رضى اللّه عنه-، والحديث حسنه لغيره الشيخ الأرناؤوط فى صحيح ابن حبان.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦١٠) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (١٠٦٤) فى الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-، وقد ذكر البخارى ومسلم تتمة كلام أبى سعيد عقب حديثه السابق.

(٣) حسن: أخرجه أحمد فى (المسند) (١/ ١٠٣) ، والبيهقى فى (الدلائل) (٦/ ٥٤٧) بسند فيه يحيى بن المتوكل، وهو ..... الحديث، إلا أن للحديث شواهد أخرجها أبو يعلى فى (مسنده) (٦٧٤٩) من حديث فاطمة بنت النبى- عليهما السلام-، والطبرانى فى (الكبير) (١٢/ ٢٤٢) ، وعبد بن حميد (٦٩٨) من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- بأسانيد حسنها الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٢٢) .

(٤) أخرجه ابن ماجه (٩٢) فى المقدمة، باب: فى القدر، والطبرانى فى (الصغير) (١/ ٣٦٨) ، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-، من طريق بقية عن الأوزاعى عن ابن جريج عن أبى الزبير عنه، وهذا إسناد ...... ولم أقف عليه من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

وقد أخبر- صلى اللّه عليه وسلم- أصحابه بأشياء بين موته وبين الساعة وحذر من مفاجأتها، كما يحذر من حاد عن الطاعة، وأن الساعة لا تقوم حتى تظهر جملة الأمارات فى العالم، فإذا جاءت الطامة الكبرى، يطيش منها الجاهل والعالم. كما روى من رفع الأمانة والقرآن، واشتهار الخيانة وحسد الأقران وقلة الرجال، وكثرة النسوان، إلى غير ذلك مما شهدت بصحته الأخبار، وقضى بحقيقة وقوعه الاعتبار. وقد تعين أن نلمّ بذكر طرف من الآثار الصحاح والحسان: فروى البخارى من حديث أبى هريرة: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول اللّه، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج- وهو القتل- وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم الرجل من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذى يعرضه عليه: لا أرب لى فيه، وحتى يتطاول الناس فى البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول:

يا ليتنى مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانهم لم تكون آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ولا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها) (١) .

فهذه ثلاث عشرة علامة جمعها أبو هريرة فى حديث واحد، ولم يبق بعد هذا ما ينظر من صحيح العلامات والأشراط. وقد ظهر أكثر هذه العلامات:

فأما قوله: (حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة) يريد فتنة معاوية وعلى بصفين. قال القاضى أبو بكر بن العربى: وهذا أول خطب طرق الإسلام.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٧١٢١) فى الفتن، باب: خروج النار.

وتعقبه القرطبى بأن أول أمر دهم الإسلام موت النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ثم بعد موته موت عمر، لأن بموته- صلى اللّه عليه وسلم- انقطع الوحى وكان أول ظهور الشر ارتداد العرب وغير ذلك، وبموت عمر سل سيف الفتنة بقتل عثمان. وكان من قضاء اللّه وقدره ما كان وما يكون.

وأما قوله: (دجالون كذابون قريب من ثلاثين) فقد جاء عددهم معينا من حديث حذيفة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (يكون فى أمتى دجالون كذابون سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة. وأنا خاتم النبيين لا نبى بعدى) .

أخرجه الحافظ أبو نعيم و

قال: هذا حديث غريب قال القاضى عياض: هذا الحديث قد ظهر، فلو عدّ من تنب من زمن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الآن من اشتهر بذلك لوجد هذا العدد، ومن طالع كتب التاريخ عرف صحة هذا.

وقوله: (حتى يقبض العلم) فقد قبض ولم يبق إلا رسمه.

وأما: (الزلازل) فوقع منها شئ كثير، وقد شاهدنا بعضها.

وأما قوله: (حتى يكثر فيكم المال فيفيض وحتى يهم رب المال من يقبل صدقته) فهذا مما لم يقع.

وقوله: (حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتنى مكانه) لما يرى من عظيم البلاء ورياسة الجهلاء وخمول العلماء وغير ذلك، مما ظهر كثير منه.

وفى حديث أبى هريرة عند الشيخين أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز تضئ لها أعناق الإبل ببصرى) (١) .

وقد خرجت نار عظيمة على قرب مرحلة من المدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة فى ليلة الأربعاء بعد العشاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، وفى يوم الثلاثاء اشتدت حركتها، وعظمت رجفتها، وتتابعت حطمتها، وارتجت الأرض بمن عليها، وعجت الأصوات لباريها، ودامت الحركة إثر الحركة، حتى أيقن أهل المدينة بوقوع الهلكة، وزلزلوا زلزالا شديدا، من جملة ثمانية عشر حركة فى يوم واحد دون ليلته.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٧١١٨) فى الفتن، باب: خروج النار، ومسلم (٢٩٠٢) فى الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز.

قال القرطبى: وكان يأتى المدينة ببركته- صلى اللّه عليه وسلم- نسيم بارد، وشوهد من هذه النار غليان كغليان البحر، وانتهت إلى قرية من قرى اليمن فأحرقتها.

قال: وقال لى بعض أصحابنا: ولقد رأيتها صاعدة فى الهواء من مسيرة خمسة أيام.

قال: وسمعت أنها رؤيت من مكة ومن جبال بصرى.

وقال الشيخ قطب الدين القسطلانى: أقامت اثنين وخمسين يوما، وكان انطفاؤها فى السابع والعشرين من رجب ليلة الإسراء والمعراج به- صلى اللّه عليه وسلم-.

وبالجملة فاستيفاء الكلام على هذه النار يخرج عن المقصود، وقد نبه عليه القرطبى فى التذكرة، وأفردها بالتأليف قطب الدين القسطلانى فى كتاب سماه (جمل الإيجاز فى الإعجاز بنار الحجاز) فأتى فيه من دقائق الحقائق بالعجب العجاب، واللّه الموفق للصواب.