٨-٢ النوع الثانى طبه ص بالأدوية الطبيعيةذكر ما كان ص يعالج به الصداع والشقيقة:اعلم أن الصداع ألم فى بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه فى أحد جانبى الرأس لازما سمى شقيقة- بوزن عظيمة- وسببه أبخرة مرتفعة، أو أخلاط حارة أو باردة ترتفع إلى الدماغ، فإن لم تجد منفذا أحدثت الصداع، فإن مال إلى أحد شقى الرأس أحدث الشقيقة، وإن ملك كل الرأس أحدث داء البيضة تشبيها ببيضة السلاح تشتمل على الرأس كله. وأسباب الصداع كثيرة: منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم فى المعدة أو فى عروقها، أو ريح غليظة فيها، أو لامتلائها، ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقئ والاستفراغ والسهر وكثرة الكلام، ومنها ما يحدث من الأعراض النفسانية كالهم والحزن والجوع والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث فى الرأس كضربة تصيبه أو ورم فى صفاق الدماغ، أو حمل شئ __________ (١) أخرجه ابن السنى فى (عمل اليوم والليلة) (٦١٧) . ثقيل يضغط الرأس، أو تسخينه بشئ خارج عن الاعتدال، أو بتبريده بملاقاة الهواء أو الماء فى البرد. وأما الشقيقة: فهى فى شرايين الرأس وحدها، أو تختص بالموضع الأضعف من الرأس. وعلاجها بشد العصابة. وقد أخرج الإمام أحمد من حديث بريدة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان ربما أخذته الشقيقة فيمكث اليوم واليومين لا يخرج (١) . وفى الصحيح أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال فى مرض موته: (وارأساه) (٢) وأنه خطب وقد عصب رأسه (٣) . فعصب الرأس ينفع فى الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس. وفى البخارى من حديث ابن عباس: احتجم- صلى اللّه عليه وسلم- وهو محرم فى رأسه من شقيقة كانت به (٤) . وقد جاءت مقيدة فى بعض طرق ابن عباس نفسه، فعند أبى داود الطيالسىفى مسنده من حديث ابن عباس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- احتجم فى وسط رأسه (٥) . وقد قال الأطباء إنها نافعة جدّا. وورد أنه- صلى اللّه عليه وسلم- احتجم أيضا فى الأخدعين والكاهل(٦) . أخرجه الترمذى وحسنه، وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم. __________ (١) ذكره ابن القيم فى (زاد المعاد) (٤/ ٨٧) وعزاه لأبى نعيم فى (الطب النبوى) . (٢) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (٥٦٦٦) فى المرضى، باب: قول المريض: إنى وجع أو وارأساه، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) ذكره ابن القيم فى (زاد المعاد) (٤/ ٨٧) وعزاه لأبى نعيم فى (الطب النبوى) . (٤) أخرجه البخارى (٥٧٠١) تعليقا فى الطب، باب: الحجامة من الشقيقة والصداع، وقال الحافظ فى (الفتح) (١٠/ ١٦٢) : وقد وصله الإسماعيلى وقد اتفقت هذه الطرق عن ابن عباس أنه احتجم- صلى اللّه عليه وسلم- وهو محرم فى رأسه. ا. هـ. قلت: وهى رواية البخارى الموصولة دون تعيين سبب العلة. (٥) قلت: بل هى عند البخارى (٥٧٠٠) فيما سبق. (٦) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٨٦٠) فى الطب، باب: ما جاء فى موضع الحجامة، والترمذى (٢٠٥١) فى الطب، باب: ما جاء فى الحجامة، وابن ماجه (٣٤٨٣) فى الطب، باب: موضع الحجامة، وأحمد فى (المسند) (٣/ ١٩٢) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٠٧٧) و (الأخدعان) : عرقان فى جانبى العنق، و (الكاهل) : ما بين الكتفين، وهو مقدم الظهر. وقد قال الأطباء: الحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه والأذنين والعينين والأسنان والأنف. وقد ورد فى حديث ..... جدّا، أخرجه ابن عدى من طريق عمر بن رباح عن عبد اللّه بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رفعه: الحجامة فى الرأس تنفع فى سبع، من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين (١) . وعمر متروك، رماه الفلاس وغيره بالكذب. وروى ابن ماجة فى سننه أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا صدع غلف رأسه بالحناء، ويقول: إنه نافع بإذن اللّه من الصداع (٢) . وفى صحته نظر. وهو علاج خاص بما إذا كان الصداع من حرارة ملتهبة، ولم يكن من مادة يجب استفراغها، وإذا كان كذلك نفع فيه الحناء نفعا ظاهرا. قالوا: وإذا دق وضمدت به الجبهة مع الخل سكن الصداع، وهذا لا يختص بوجع الرأس بل يعم جميع الأعضاء. وفى تاريخ البخارى وسنن أبى داود: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما شكا إليه أحد وجعا فى رأسه إلا قال له (احتجم) ، ولا شكا وجعا فى رجليه إلا قال له: (اختضب بالحناء) (٣) . وفى الترمذى عن على بن عبد اللّه عن جدته- وكانت تخدم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قالت: ما كان يكون برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قرحة ولا نكتة إلا أمرنى أن أضع عليها الحناء (٤) . ذكر طبه ص للرمد:وهو ورم حار يعرض فى الطبقة الملتحمة من العين، وهو بياضها، __________ (١) جدّا: أخرجه ابن عدى فى (الكامل) (٥/ ٥١) فى ترجمة عمر بن رباح، وضعفه. (٢) وهو عند البزار، وليس ابن ماجه كما ذكر المصنف، وفيه الأحوص بن حكيم، وقد وثق وفيه ضعف كثير، وأبو عون، ولم أعرفه، قاله الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٩٥) . (٣) أخرجه أبو داود (٣٨٠٨) فى الطب، باب: فى الحجامة، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٤٦٢) ، من حديث سلمى مولاة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وفى إسناده ضعف. (٤) أخرجه الترمذى (٢٠٥٤) فى الطب، باب: ما جاء فى التداوى بالحناء، وابن ماجه (٣٥٠٢) فى الطب، باب: الحناء، من حديث سلمى مولاة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وسنده ...... وسببه: انصباب أحد الأخلاط أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ، فإن اندفع إلى الخياشيم (١) أحدث الزكام، أو إلى العين أحدث الرمد، أو إلى اللّهاة (٢) والمنخرين أحدث الخنان- بالخاء المعجمة والنون-، أو إلى الصدر أحدث النزلة، أو إلى القلب أحدث الشوصة (٣) ، وإن لم ينحدر وطلب نفاذا فلم يجد أحدث الصداع، كما تقدم. وروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يعالج الرمد بالسكون والدعة وترك الحركة. وفى سنن ابن ماجه عن صهيب قال: قدمت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وبين يديه خبز وتمر فقال: (ادن وكل) ، فأخذت تمرا فأكلت، فقال: (تأكل تمرا وبك رمد؟) فقلت: يا رسول اللّه، أمضغ من الناحية الآخرى، فتبسم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (٤) . وقد روى أنه حمى عليّا من الرطب لما أصابه الرمد. وفى البخارى من حديث سعيد بن زيد قال: سمعت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين) (٥) . والكمأة: نبات لا ورق لها ولا ساق، يوجد فى الأرض من غير أن يزرع. وروى الطبرانى من طريق المنكدر عن جابر قال: كثرت الكمأة على عهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فامتنع قوم من أكلها وقالوا: هو جدرى الأرض، فبلغه ذلك ف قال: (إن الكمأة ليست جدرى الأرض، ألا إن الكمأة من المن) (٦) . واختلف فى قوله: (من __________ (١) يقصد: الأنف. (٢) اللّهاة: اللحمة التى فى أقصى الحلق. (٣) الشوصة: وجع فى البطن من ريح تنعقد تحت الأضلاع. (النهاية فى غريب الحديث) مادة (شوص) . (٤) حسن: أخرجه ابن ماجه (٣٤٤٣) فى الطب، باب: الحمية، وقال البوصيرى فى (الزوائد) : إسناده صحيح، رجاله ثقات. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٧٨) فى التفسير، باب: وقوله تعالى: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، ومسلم (٢٠٤٩) فى الأشربة، باب: فضل الكمأة ومداواة العين بها. (٦) قلت: هو عند الترمذى (٢٠٦٨) بنحوه فى الطب، باب: ما جاء فى الكمأة والعجوة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، وقال الترمذى: هذا حديث حسن، وهو كما قال. المن) ، فقيل: من المن الذى أنزل اللّه على بنى إسرائيل، وهو الطل الذى يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوا، ومنه الترنجبيل فكأنه يشبه الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوا بغير علاج. وقال الخطابى: ليس المراد أنها نوع من المن الذى أنزل اللّه على بنى إسرائيل، فإن الذى أنزل على بنى إسرائيل كان كالترنجبيل الذى يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شئ ينبت من غير تكلف ببذر ولا سقى، وإنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لأنها من الحلال المحض، الذى ليس فى اكتسابه شبهة، ويستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر. وقال ابن الجوزى: فى المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنها لا تستعمل صرفا فى العين، لكن اختلفوا كيف يصنع بها على رأيين: أحدهما أن يختلط فى الأدوية التى يكتحل بها، حكاه أبو عبيد، ثانيهما: أن تؤخذ فتشق وتوضع على الجمر حتى يغلى ماؤها ثم يؤخذ الميل (١) فيجعل فى ذلك الشق وهو فاتر، فيكتحل بمائها، لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة ويبقى النافع منه، ولا يجعل الميل فى مائها وهى باردة يابسة فلا ينجع. وقال آخر: تجعل الكمأة فى قدر جديدة ويصب عليها الماء، ولا يطرح فيها ملح، ثم يؤخذ غطاء جديد نقى فيجعل على القدر، فما جرى على الغطاء من بخار الكمأة فذلك الماء الذى يكتحل به. وقال ابن واقد: إن ماء الكمأة إذا عصر وربى به الإثمد كان ذلك من أصلح الأشياء للعين إذا اكتحل به يقوى أجفانها، ويزيد الروح الباصرة قوة وحدة، ويدفع عنها نزول النوازل. وقال أيضا: إذا اكتحل بماء الكمأة وحده بميل من ذهب تبين للفاعل لذلك قوة عجيبة وحدة فى البصر كثيرة. وقال ابن القيم: اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسيحى وابن سينا وغيرهما، قال: والذى يزيل الإشكالات عن هذا __________ (١) الميل: العود الذى يكتحل به. الاختلاف أن الكمأة وغيرها خلقت فى الأصل سليمة من المضار، ثم عرضت لها الآفات بأمور أخرى، من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من الأسباب التى أرادها اللّه تعالى، فالكمأة فى الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها بأنها من اللّه، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع اللّه عنه الضر لنيته والعكس بالعكس واللّه أعلم. ذكر طبه ص من العذرة:وهى- بضم المهملة وسكون الذال المعجمة- وجع فى الحلق يعترى الصبيان غالبا، وقيل: هى قرحة تخرج بين الأذن والحلق، أو فى الخرم الذى بين الأنف والحلق، وهو الذى يسمى سقوط اللّهاة، وقيل هو اسم اللّهاة والمراد وجعها سمى باسمها، وقيل: هو موضع قريب من الهاة، واللّهاة- بفتح اللام- اللحمة التى فى أقصى الحلق. وفى البخارى، من حديث أم قيس بنت محصن الأسدية- أسد خزيمة- وهى أخت عكاشة، أنها أتت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بابن لها قد علقت عليه من العذرة، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (علام تدغرن أولادكن بهذا العلاق؟ عليكم بهذا العود الهندى فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب) (١) يريد الكست وهو العود الهندى. قوله: (تدغرن) خطاب للنسوة، وهو بالغين المعجمة والدال المهملة، والدغر: غمز الحلق. وعن جابر بن عبد اللّه قال: دخل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على عائشة وعندها صبى يسيل منخراه دما، ف قال: (ما هذا؟) فقالوا: به العذرة، أو وجع فى رأسه، ف قال: (ويلكن لا تقتلن أولادكن، أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع فلتأخذ قسطا هنديا فلتحله بماء ثم تسعطه إياه) فأمرت عائشة __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٩٣) فى الطب، باب: السعوط بالقسط الهندى، ومسلم (٢٨٧) فى السلام، باب: التداوى بالعود الهندى وهو الكست. فصنع ذلك للصبى فبرئ. الحديث (١) . وفى القسط تجفيف يشد اللّهاة ويرفعها إلى مكانها، وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللّهاة، وبالعلاق: وهو شئ يعلقونه على الصبيان، فنهاهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عن ذلك وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم. والسعوط: ما يصب فى الأنف. وقد استشكل معالجتها- أى العذرة- بالقسط الهندى مع كونه حارّا، والعذرة إنما تعرض فى زمن الحر بالصبيان، وأمزجتهم حارة، لا سيما وقطر الحجارة حار؟ وأجيب: بأن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم، وفى القسط تجفيف للرطوبة وقد يكون نفعه فى هذا الداء بالخاصية، وأيضا فالأدوية الحارة قد تنفع فى الأمراض الحارة بالعرض كثيرا، بل وبالذات أيضا، وقد ذكر ابن سينا فى معالجة سقوط اللّهاة بالقسط مع الشب اليمانى، على أنا لو لم نجد شيئا من التوجيهات لكان المعجز خارجا من القواعد الطبية. ذكر طبه ص لداء استطلاق البطن (٢) :فى الصحيحين من حديث أبى المتوكل عن أبى سعيد الخدرى: أن رجلا أتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: إن أخى يشتكى بطنه- وفى رواية: استطلق بطنه- فقال: (اسقه عسلا) ، فسقاه فقال: إنى سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال: (صدق اللّه وكذب بطن أخيك) (٣) . وفى رواية مسلم فقال له ثلاث مرات، __________ (١) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ٣١٥) وإسناده صحيح، وهو عند مسلم (٢٢١٤) فى السلام، باب: التداوى بالعود الهندى بنحوه من حديث أم قيس- رضى اللّه عنها-. (٢) أى: الإسهال. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٨٤) فى الطب، باب: الدواء بالعسل، ومسلم (٢٢١٧) فى الطب، باب: التداوى بسقى العسل، والترمذى (٢٠٨٢) فى الطب، باب: ما جاء فى التداوى بالعسل، وأحمد فى (المسند) (٣/ ١٩ و ٩٢) ، واستدركه الحاكم (٤/ ٤٤٥) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ثم جاء الرابعة فقال: (اسقه عسلا) ، فقال: سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال: (صدق اللّه) . وفى رواية أحمد عن يزيد بن هارون فقال فى الرابعة: (اسقه عسلا) ، قال فأظنه فسقاه فبرأ، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (صدق اللّه وكذب بطن أخيك) . قال الخطابى وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب فى موضع الخطأ، يقال: كذب سمعك، أى زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى: كذب بطن أخيك، أى لم يصلح لقبول الشفاء بل زل عنه. وقال الإمام فخر الدين الرازى: لعله- صلى اللّه عليه وسلم- علم بنور الوحى أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه فى الحال مع كونه- صلى اللّه عليه وسلم- كان عالما بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك كان جاريا مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ. وقد اعترض بعض الملاحدة فقال: العسل مسهل، فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال؟ وأجيب: بأن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ (١) . فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف، والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع: منها الهيضة التى تنشأ عن تخمة، واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه من تخمة أصابته فوصف له- صلى اللّه عليه وسلم- العسل لدفع الفضول المجتمع فى نواحى المعدة من أخلاط لزجة تمنع من استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شئ فى ذلك مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم يفده أول مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء، إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية، وإن __________ (١) سورة يونس: ٣٩. جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررا آخر، فكأنه شرب منه أولا مقدارا لا يفى بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن اللّه تعالى. وفى قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (وكذب بطن أخيك) إشارة إلى أن هذا الدواء نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء فى الشفاء، ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها. وقال بعضهم: إن العسل تارة يجرى سريعا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء ويدر البول فيكون قابضا، وتارة يبقى فى المعدة فيهيجها بلذعة لها حتى تدفع ويسهل البطن فيكون مسهلا، فإنكار وصفه بالمسهل مطلقا قصور من المنكر. وقال ابن الجوزى: فى وصفه- صلى اللّه عليه وسلم- العسل لهذا المسهل أربعة أقوال: أحدها: أن حمل الآية على عمومها فى الشفاء أولى، وإلى ذلك أشار بقوله: صدق اللّه، أى فى قوله: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ (١) فلما نبه على هذه الحكمة تلقاها بالقبول فشفى بإذن اللّه تعالى. الثانى: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوى بالعسل من الأمراض كلها. الثالث: أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة، كما تقدم تقريره. الرابعة: يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه، فإنه يعقد البلغم، فلعله شربه أولا بغير طبخ، انتهى. والثانى والرابع .....ان: ويؤيد الأول حديث ابن مسعود: (عليكم بالشفاءين العسل والقرآن) (٢) أخرجه ابن ماجه والحاكم مرفوعا، وأخرجه __________ (١) سورة النحل: ٦٩. (٢) أخرجه ابن ماجه (٣٤٥٢) فى الطب، باب: العسل، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٢٢٢ و ٢٢٣ و ٤٤٧) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٩/ ٣٤٤) وقال البيهقى: رفعه غير معروف، والصحيح موقوف، ورواه وكيع عن سفيان موقوفا. ا. هـ. قلت: ولعل ذلك هو الصواب. ابن أبى شيبة والحاكم موقوفا، ورجاله رجال الصحيح. وأثر على: إذا اشتكى أحدكم فليستوهب من امرأته شيئا من صداقها فليشتر به عسلا، ثم يأخذ ماء السماء، فيجمع هنيئا مريئا مباركا، أخرجه ابن أبى حاتم فى التفسير بسند حسن. وروينا عنه- رضى اللّه عنه- أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب اللّه فى صحفة وليغسلها بماء السماء وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلا فليشربه فإنه شفاء: قال الحافظ ابن كثير، بعد أن ذكره، أى من وجوه: قال اللّه تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) وقال: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً (٢) وقال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٣) وقال فى العسل: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ (٤) . ذكر طبه ص فى يبس الطبيعة بما يمشيه ويلينه:روى الترمذى وابن ماجه فى سننه من حديث أسماء بنت عميس قالت: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (بماذا كنت تستمشين؟) قالت: بالشبرم، قال: (حار حار ضار ضار) ثم قالت: استمشيت بالسنا، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو أن شيئا كان فيه شفاء من الموت لكان فى السنا) (٥) . قال أبو عيسى هذا حديث غريب، وقد ذكر البخارى فى تاريخه الكبير من حديث أسماء بنت عميس مثل ما ذكره الترمذى. وذكر أبو محمد الحميدى فى كتاب (الطب) له أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (إياكم والشبرم فإنه حار حار، ضار ضار، __________ (١) سورة الإسراء: ٨٢. (٢) سورة ق: ٩. (٣) سورة النساء: ٤. (٤) سورة النحل: ٦٩. (٥) أخرجه الترمذى (٢٠٨١) فى الطب، باب: ما جاء فى السنا، وابن ماجه (٣٤٦١) فى الطب، باب: دواء المشى، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٣٦٩) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٢٢٤ و ٤٤٨) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٩/ ٣٤٦). وعليكم بالسنا فتداووا به، فلو دفع الموت شئ لدفعه السنا) . وحكى عبد الحق الإشبيلى فى كتاب (الطب النبوى) له أن المحاسبى ذكر فى كتابه المسمى ب (القصد إلى اللّه) أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شرب السنا بالتمر. وفى سنن ابن ماجه، من حديث إبراهيم بن أبى عبلة قال: سمعت عبد اللّه بن أم حرام، وكان ممن صلى مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى القبلتين، يقول: (عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام) ، قيل: يا رسول اللّه وما السام؟ قال: (الموت) (١) . قالوا: والشبرم: قشر عرق شجرة، وهو حار يابس فى الدرجة الرابعة، وهو من الأدوية التى منع الأطباء من استعمالها لخطرها وفرط إسهالها. وأما السنا: فهو نبت حجازى، وأفضله المكى، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الاعتدال، حار يابس فى الدرجة الأولى، يسهل الصفراء أو السوداء، ويقوى جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة، ومن خاصيته النفع فى الوسواس السوداوى. قال الرازى: السنا والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة وينفعان فى الجرب والحكة، قال والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم. وأما السنوت، فقيل هو العسل، وقيل: رب عكة السمن يخرج خطوطا سودا على السمن، وقيل: حب يشبه الكمون وليس به، وقيل: هو الكمون الكرمانى، وقيل: إنه الرازيانج، وقيل إنه الشبث، وقيل إنه العسل الذى يكون فى زقاق السمن. قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب، أى: يخلط السنا مدقوقا بالعسل المخالط للسمن، ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردا، لما فى العسل والسمن من إصلاح السنا وإعانته على الإسهال. __________ (١) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٣٤٥٧) فى الطب، باب: السنا والسنوت. ذكر طبه ص للمفؤود:وهو الذى أصيب فؤاده، فهو يشتكيه كالمبطون. روى أبو داود عن سعد قال: مرضت مرضا، فأتانى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يعودنى، فوضع يده بين ثديىّ حتى وجدت بردها على فؤادى، وقال لى: (إنك رجل مفؤود، فائت الحارث ابن كلدة (١) من ثقيف فإنه رجل متطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلد بهن الفؤاد) (٢) . وهذا الحديث من الخطاب العام الذى أريد به الخاص، كأهل المدينة ومن جاورهم. والتمر لأهل المدينة كالحنطة لغيرهم، و (اللدود) : ما يسقاه الإنسان من أحد جانبى الفم. وفى التمر خاصية عجيبة لهذا الداء، سيما أهل المدينة، ولا سيما العجوة، وفى كونها سبعا خاصية أخرى تدرك بالوحى. وفى الصحيحين (من تصبح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية لم يضره فى ذلك اليوم سم ولا سحر)(٣) . ذكر طبه ص لذات الجنب:فى البخاري مرفوعا: (عليكم بهذا العود الهندى، فإن فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب) (٤) . وفى الترمذى من حديث زيد بن أرقم قال: قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (تداووا من ذات الجنب بالقسط البحرى والزيت) (٥) . واعلم أن ذات الجنب هو ورم حار يعرض فى الغشاء المستبطن للأعضاء، وقد يطلق على ما يعرض فى نواحى الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات __________ (١) هو: أحد حكماء العرب وكان طبيبا مشهورا فى عصره، عاصر عهد النبوة. (٢) أخرجه أبو داود (٣٨٧٥) فى الطب، باب: فى تمرة العجوة، وإسناده ...... (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٤٤٥) فى الأطعمة، باب: العجوة، ومسلم (٢٠٤٧) فى الأشربة، باب: فضل تمر المدينة، من حديث سعد- رضى اللّه عنه-. (٤) صحيح: وقد تقدم من حديث أم قيس- رضى اللّه عنه-. (٥) أخرجه الترمذى (٢٠٧٩) فى الطب، باب: ما جاء فى دواء ذات الجنب. والعضل الذى فى الصدر والأضلاع، فيحدث وجعا. فالأول هو ذات الجنب الحقيقى، الذى تكلم عليه الأطباء، قالوا: ويحدث بسببه خمسة أمراض: الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشارى. ويقال لذات الجنب أيضا: وجع الخاصرة، وهو من الأمراض المخوفة لأنها تحدث بين القلب والكبد، وهو من سئ الأسقام. والمراد بذات الجنب هنا الثانى، لأن القسط وهو العود الهندى هو الذى يداوى به الريح الغليظة. وقد حكى الإمام ابن القيم عن المسيحى أنه قال: العود حار يابس قايض، محبس للبطن، ويقوى الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح ويفتح السدد، ويذهب فضل الرطوبة، نافع من ذات الجنب، جيد للدماغ. قال: ويجوز أن ينفع من ذات الجنب الحقيقية أيضا إذا كانت ناشئة عن مادة بلغمية، ولا سيما فى وقت انحطاط العلة. ذكر طبه ص لداء الاستسقاء:عن أنس قال: قدم رهط من عرينة وعكل على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فاجتووا المدينة فشكوا ذلك إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: (لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من ألبانها وأبوالها) ، فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل، وحاربوا اللّه ورسوله، فبعث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى آثارهم، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم فى الشمس حتى ماتوا (١) . رواه الشيخان. واعلم أن الاستسقاء مرض مادى، سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو بها، إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع الخالية من النواحى التى فيها تدبير الغذاء والأخلاط. وأقسامه ثلاثة: لحمى، وهو أصعبها، وهو الذى يربو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشو مع الدم فى __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٢٣٣) فى الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم، ومسلم (١٦٧١) فى القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين. الأعضاء. وزقى: وهو الذى يجتمع منه فى البطن الأسفل مادة مائية رديئة يسمع لها عند الحركة خضخضة كالماء فى الزق، وهو أردأ أنواعه عند أكثر الأطباء، وطبلى: وهو الذى ينتفخ معه البطن بمادة ريحية، إذا ضربت عليه سمعت له صوتا كصوت الطبل. وإنما أمرهم- صلى اللّه عليه وسلم- بشرب ذلك، لأن فى لبن اللقاح جلاء وتليينا وإدرارا وتلطيفا وتفتيحا للسدد، إذ كان أكثر رعيها الشيح والقيصوم والبابونج والأقحوان والإذخر وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء خصوصا إذا استعمل بحرارته التى يخرج بها من الضرع، مع بول الفصيل، وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك ما يزيد فى ملوحة اللبن وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن. وأما ضعف المعدة فذكر ابن الحاج فى المدخل: أن بعض الناس مرض بمعدته، فرأى الشيخ الجليل أبو محمد المرجانى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء، وهو أن يأخذ كل يوم على الريق وزن درهم من الورد المربى، ويكون ملتوتا بالمصطكى بعد دقها ويجعل فيها سبع حبات من الشونيز (١) ، يفعل ذلك سبعة أيام ففعله فبرئ. ومرض بعض الناس ببرد المعدة فرأى الشيخ المرجانى أيضا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء: أوقية ونصف أوقية عسل نحل، ودر همين شونيز، ومثلها أنيسون، ونصف أوقية من النعنع الأخضر، ومن القرنفل نصف درهم، ومن القرفة نصف درهم، وشئ من قشر الليمون، مع قليل من الخل، ويعقد ذلك على النار، فاستعمله فبرئ. ومرض آخر بسلس الريح، فرأى الشيخ المرجانى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء: شونيز ثلاثة دراهم، ومن خزامى در همين ونصف، ومن الكمون الأبيض ثلاثة دراهم، ومثله من السعتر الشامى ومثله من الغليا، ووزن درهم من البلوط وهو ثمرة الفؤاد، وأوقية من الزيت المرقى تجعل فيه من عسل النحل ما يعقد به وهو ربع رطل، ويؤخذ منه غدوة النهار وزن __________ (١) الشونيز: الحبة السوداء. در همين على الريق، وعند النوم وزن درهم ونصف، فاستعمله فبرئ. ثم إنه- صلى اللّه عليه وسلم- بعد ذلك قال فى النوم لذلك الشخص الذى أخبره بهذا الدواء إنه ينفع لأدواء هى: الريح، وسلسل الريح، والمعدة وبرودتها، ووجع الفؤاد وألم الحيض، وألم النفاس، وتعقد الرياح. والزيت المرقى: صفته أن تأخذ شيئا من الزيت الطيب، وتجعله فى إناء نظيف وتحركه بعود، وتقرأ عليه سورة الإخلاص والمعوذتين، ولَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (١) إلى آخر السورة وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ (٣) إلى آخر السورة. وحصل لآخر قولنج، فرأى الشيخ المرجاني النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأشار بهذا الدواء: وهو أن يأخذ ثلاثة دراهم من عسل النحل، ووزن درهم ونصف من الزيت المرقى، وإحدى وعشرين حبة من الشونيز ويخلط الجميع ثم يفطر عليه، ويفعل مثله عند النوم، يفعل ذلك حتى يبرأ، وتعمل له التلبينة ويستعملها بعد إن يفطر على ذلك، والتلبينة حساء يعمل من دقيق أو نخالة، وربما عمل فيها عسل، ويكون غذاؤه مصلوقة الدجاج أو لحم الضأن، ففعله فبرئ بعد أن أعيا الأطباء. ومرض آخر بوجع الظهر، فشكا ذلك للشيخ فرأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء، وهو عسل نحل وشونيز ودهن الألية والزيت المرقى، ورقيق البيضة، ويخلط ذلك كله، ويمده على الموضع ويدر عليه دقيق العدس بقشرة مع الحرمل بعدما يدق دقّا ناعما حتى يعود مثل الدقيق. ففعله فبرئ. وشكا بعض الناس الدوخة فى رأسه فرأى الشيخ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى النوم فأشار إلى هذا الدواء: قرنفل وزنجبيل وقرفة وجوزة طيب وسنبل، من __________ (١) سورة التوبة: ١٢٨. (٢) سورة الإسراء: ٨٢. (٣) سورة الحشر: ٢١. كل واحد درهم ونصف، وشونيز درهمين، يدق الجميع ثم يطبخ ويعقد بعسل النحل، فإذا قرب استواؤه عصر عليه قليل ليمون، فيكون عسل النحل غالبا عليه، ففعله فبرأ، انتهى. وهذا وإن كان مناما فقد عضدته التجربة مع إرشاد الشيخ المرجانى لذلك. ذكر طبه ص من داء عرق النسا:وهو بفتح النون والمهملة، المرض الحال بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشئ إلى محله. قيل: وسمى بذلك لأن ألمه ينسى ما سواه. وهذا العرق ممتد من مفصل الورك وينتهى إلى آخر القدم وراء الكعب. وعن أنس أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق فى كل يوم جزآ) (١) رواه ابن ماجه. وهذا الدواء خاص بالعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم، وهو أنفعه لهم، لأن هذا المرض يحدث عن يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال. والألية فيها الخاصيتان: الإنضاج والتليين. وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين. وفى تعيين الشاة الأعرابية، قلة فضولها وصغر مقدارها ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها، لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيح والقيصوم ونحوهما، وهذه إذا تغذى بها الحيوان صار فى لحمه من طبعها، بعد أن يلطفه تغذية، ويكسبها مزاجا ألطف منها ولا سيما الألية. ذكر طبه ص من الأورام والخراجات:بالبط والبزل (٢) ، يذكر عن على- رضى اللّه عنه- قال: دخلت مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على رجل يعوده، بظهره ورم، فقالوا: يا رسول اللّه، هو بهذه مدة، __________ (١) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٣٤٦٣) فى الطب، باب: دواء عرق النسا، وقال البوصيرى فى الزوائد: إسناده صحيح، وهو كما قال. (٢) البط: هو القطع والشق، والبزل: كذلك. فقال: (بطوا عنه) قال على: فما برحت حتى بطت، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- شاهد (١) . ذكر طبه ص بقطع العروق والكى:روى البخارى ومسلم من حديث جابر بن عبد اللّه، أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعث إلى أبى بن كعب طبيبا، فقطع له عرقا وكواه عليه (٢) . وأخرج مسلم عن جابر: لما رمى سعد بن معاذ فى أكحله، حسمه النبى- صلى اللّه عليه وسلم- (٣) . وروى الطحاوى، وصححه الحاكم عن أنس قال: كوانى أبو طلحة فى زمن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- (٤) . وعند الترمذى: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كوى أسعد بن زرارة من الشوكة (٥) . وروى مسلم عن عمران بن حصين قال: كان يسلّم على حتى اكتويت فتركت، ثم تركت فعاد (٦) . وفى رواية: إن الذى كان انقطع عنى رجع إلى، يعنى تسليم الملائكة. وروى أحمد وأبو داود والترمذى عن عمران: نهى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن الكى، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا، الحديث (٧) . __________ (١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ٩٩) و قال: رواه أبو يعلى، وفيه أبو الربيع السمان، وهو ...... (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٠٧) فى السلام، باب: لكل داء دواء، والحديث ليس فى البخارى، كما قال المصنف. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٠٨) فيما سبق. (٤) صحيح: أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٤٦٣) ، والطحاوى فى (شرح معانى الآثار) (٤/ ٣٢١) ، وهو عند البخارى (٥٧١٩- ٥٧٢١) فى الطب، باب: ذات الجنب، وأحمد فى (المسند) (٣/ ١٣٩) ، إلا أنه عند البخارى لم يرفعه إلى عهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بل اكتفى بقوله (كواه أبو طلحة بيده) . (٥) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٠٥٠) فى الطب، باب: ما جاء فى الرخصة فى ذلك من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. (٦) صحيح: أخرجه مسلم (١٢٢٦) فى الحج، باب: جواز التمتع. (٧) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٨٦٥) فى الطب، باب: فى الكى، والترمذى (٢٠٤٩) فى الطب، باب: ما جاء فى كراهية الكى، وابن ماجه (٣٤٩٠) فى الطب، باب: الكى، وسنده صحيح. وإنما يستعمل الكى فى الخلط الباغى الذى لا تحسم مادته إلا به، ولهذا وصفه- صلى اللّه عليه وسلم- ثم نهى عنه (١) ، وإنما كرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم، ولهذا كانت العرب تقول فى أمثلتها: آخر الدواء الكى. والنهى فيه محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى، لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل: إنه خاص بعمران لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطرا فنهاه عن كيه، فلما اشتد عليه كواه فلم ينجح. وقال ابن قتيبة: الكى نوعان: كى الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذى قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى. لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع، والثانى: كى الجرح إذا فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذى شرع التداوى له، فإن كان الكى لأمر محتمل فهو خلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق. وحاصل الجمع: أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، ولذا وقع الثناء على تاركه، وأما النهى عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإماعما لا يتعين طريقا إلى الشفاء. وقال بعضهم: إنما نهى عنه مع إثباته الشفاء فيه إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم الداء بطبعه فكرهه لذلك، ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء لظنهم أنه يحسم الداء، فيتعجل الذى يكتوى التعذيب بالنار لأمر مظنون. قال فى فتح البارى: ولم أر فى أثر صحيح أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- اكتوى، إلا أن القرطبى نسب إلى كتاب آداب النفوس للطبرى أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- اكتوى، وذكره الحليمى بلفظ: وروى أنه أكوى للجرح الذى أصابه بأحد. قال الحافظ ابن حجر: والثابت فى الصحيح فى غزوة أحد أن فاطمة أحرقت حصيرا فحشت به جرحه. وليس هذا الكى المعهود. __________ (١) صحيح: وهو يشير إلى الحديث الذى عند البخارى (٥٦٨٠ و ٥٦٨١) فى الطب، باب: الشفاء فى ثلاث. ذكر طبه ص من الطاعون:قال الخليل (١) : الطاعون الوباء، وقال ابن الأثير: الطاعون المرض العام والوباء الذى يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان، وقال القاضى أبو بكر بن العربى: الطاعون، الوجع الغالب الذى يطفئ الروح، سمى بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله، وقال أبو الوليد الباجى: وهو مرض يعم الكثير من الناس فى جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس. وقال القاضى عياض: أصل الطاعون القروح الخارجة فى الجسد، والوباء عموم الأمراض فسميت طاعونا تشبيها بها فى الهلاك. وقال النووى فى تهذيبه: هو بثر وورم مؤلم جدّا ويخرج مع لهب، ويسود ما حوله أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان وقئ، ويخرج غالبا فى المراق والآباط، وقد يخرج فى الأيدى والأصابع وسائر البدن. وقال ابن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث ورما قتالا يحدث فى المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط، أو خلف الأذن، أو عند الأربية، وسببه ورم ردئ يستحيل إلى جوهر سمى يفسد العضو، ويغير ما يليه، ويؤدى إلى القلب كيفية رديئة تحدث القئ والغثيان والغشى والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع فى الأعضاء الرئيسة، والأسود منه قلّ من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر، والطواعين تكثر عن الوباء فى البلاد الوبيئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، وأما الوباء: فهو فساد جواهر الهواء الذى هو مادة الروح ومدده. والحاصل: أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم وانصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء، يسمى طاعونا بطريق المجاز، لاشتراكهما فى عموم المرض أو كثرة الموت. __________ (١) هو: الخليل بن أحمد الفراهيدى، اللغوى المشهور، عنه أخذ سيبويه علم اللغة، وإليه ينسب نشأة علم العروض. والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء، أن الطاعون لم يدخل المدينة النبوية، وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهى أوبأ أرض اللّه، وقال بلال: أخرجونا إلى أرض الوباء. والطاعون: من طعن الجن، وإنما لم يتعرض له الأطباء لكونه من طعن الجن، لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما عرف من الشارع، فتكلموا فى ذلك على ما اقتضته قواعدهم، وإنما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالبا فى أعدل الفصول، وفى أصح البلاد هواء، وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام فى الأرض لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، والطاعون يذهب أحيانا ويجئ أحيانا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم ممن هو فى مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع دون موضع من الجسد لا يجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضى تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا فى الغالب يقتل غالبا بلا مرض، فدل على أنه من طعن الجن. كما ثبت فى الأحاديث الواردة فى ذلك. منها حديث أحمد والطبرانى عن أبى بكر بن أبى موسى الأشعرى عن أبيه قال: سألت عنه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: (هو وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة) (١) . وقال الشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: يقع فى الألسنة، وهو فى النهاية تبعا لغريبى الهروى بلفظ (وخز إخوانكم) ولم أره بلفظ (إخوانكم) بعد التتبع الطويل البالغ فى شئ من طرق الحديث المسندة، لا فى الكتب المشهورة، ولا فى الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد الطبرانى أو كتاب الطواعين لابن أبى الدنيا، ولا وجود لذلك فى واحد منها واللّه أعلم. انتهى. __________ (١) أخرجه أحمد فى (المسند) (٤/ ٣٩٥ و ٤١٣) ، والطبرانى فى (الصغير) (٣٥١) ، و (الأوسط) (١٤١٨) . وفى الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (الطاعون رجز أرسل على طائفة من بنى إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه) (١) . وقد ذكر العلماء فى النهى عن الخروج حكما: منها: أن الطاعون: فى الغالب يكون عاما فى البلد الذى يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن هو بها، فلا يفيده الفرار، لأن المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثا فلا يليق بالعاقل. ومنها: أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو بغيره ضائع المصلحة، لفقد من يتعهده حيّا وميتا. وأيضا: لو شرع الخروج. فخرج الأقوياء لكان فى ذلك كسر قلوب الضعفاء، وقد قالوا: إن حكمة الوعيد فى الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر، وإدخال الرعب عليه بخلافه. وقد جمع الغزالى بين الأمرين فقال: الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق، فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر فى الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير فى الباطن، فالخارج من البلد الذى يقع فيه لا يخلص غالبا مما استحكم به، وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء فى الخروج لبقى المرضى لا يجدون من يتعاهدهم فتضيع مصالحهم. ومنها: ما ذكره بعض الأطباء: أن المكان الذى يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة فتألفها وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم توافقهم، بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التى حصل تكيف بدنها بها فأفسدته فمنع من الخروج لهذه النكتة. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤٧٣) فى أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (٢٢١٨) فى السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها. ومنها: أن الخارج يقول: لو أقمت لأصبت، والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقع اللوم المنهى عنه. وقال العارف ابن أبى جمرة: البلاء إنما يقصد به أهل البقعة، لا البقعة نفسها، فمن أراد اللّه تعالى إنزال البلاء به فهو واقع به لا محالة، فأينما توجه يدركه، فأرشدنا الشارع إلى عدم النصب. وقال ابن القيم: جمع- صلى اللّه عليه وسلم- للأمة فى نهيه عن الدخول إلى الأرض التى هو بها، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه، كمال التحرز منه، فإن فى الدخول فى الأرض التى هو فيها تعرضا للبلاء وموافاة له فى محل سلطانه، وإعانة الإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التى أرشد اللّه تعالى إليها، وهى حمية من الأمكنة والأهوية المؤذية، وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه معنيان: أحدهما: حمل النفوس على الثقة باللّه تعالى والتوكل عليه، والصبر على أقضيته والرضا. والثانى: ما قاله أئمة الطب أنه يجب على من كان يحترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويقلل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه، والخروج من أرض الوباء والسفر منها لا يكون إلا بحركة شديدة، وهى مضرة جدّا. هذا كلام أفضل المتأخرين من الأطباء، فظهر المعنى الطبى من الحديث النبوى، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما، انتهى. ذكر طبه ص من السلعة (١) :أخرج البخارى فى تاريخه، والطبرانى والبيهقى عن شرحبيل الجعفى قال: أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وبكفى سلعة، فقلت يا رسول اللّه قد آذتنى، تحول بينى وبين قائم السيف أن أقبض عليه وعنان الدابة، فنفث فى كفى، ووضع كفه على السلعة فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها عنها وما أرى أثرها. __________ (١) السّلعة: الغدة. ومسح- صلى اللّه عليه وسلم- وجه أبيض بن حمال وكان به القوباء فلم يمس من ذلك اليوم ومنها أثر (١) ، رواه البيهقى وغيره. ذكر طبه ص من الحمى:روى البخارى من حديث ابن عمر عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء البارد) (٢) واختلف فى نسبتها إلى جهنم. فقيل: حقيقة، واللّهب الحاصل فى جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر اللّه ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها فى هذه الدار عبرة ودلالة. وقيل: الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى: أن حر الحمى شبيه بحر جهنم، تنبيها للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها. قوله(فأطفئوها) بهمزة قطع، أمر من: أطفأ. وروى الطبرانى (الحمى حظ المؤمن من النار) ) . وفى رواية نافع عن ابن عمر، عند الشيخين: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) بهمزة وصل والراء مضمومة على المشهور وحكى كسر الراء. وفى رواية ابن ماجه (بالماء البارد) (٤) . وفى رواية أبى جمرة- بالجيم- عند البخارى، قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتنى الحمى، فاحتبست أياما، فقال: ما حبسك؟ فقلت: الحمى، قال: أبردها بماء زمزم، فإن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء، أو بماء زمزم) (٥) شك. __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٦/ ١٧٦- ١٧٧) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٢٦٤) فى بدء الخلق، باب: صفة النار، ومسلم (٢٢٠٩) فى السلام، باب: لكل داء دواء واستحباب التداوى. (٣) أخرجه الطبرانى فى (الصغير) (٣١٤) ، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٤) هى عند ابن ماجه (٣٤٧٢) فى الطب، باب: الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء. (٥) هى عند البخارى (٣٢٦١) فى بدء الخلق، باب: صفة النار، وأحمد فى (المسند) (١/ ٢٩١) . قال ابن القيم: قوله (بالماء) فيه قولان: أحدهما: أنه كل ماء، وهو الصحيح، والثانى: أنه ماء زمزم. ثم قال بعد أن روى حديث أبى جمرة هذا، وراوى هذا قد شك فيه، ولو جزم به لكان أمرا لأهل مكة بماء زمزم، إذ هو متيسر عندهم، وأخبرهم بما عندهم من الماء، انتهى. وتعقب: بأنه وقع فى رواية أحمد عن عفان بن همام: (فأبردوها بماء زمزم) ولم يشك، وكذا أخرجه النسائى، وابن حبان والحاكم. وقال ابن القيم: واختلف من قال إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله على قولين، والصحيح أنه استعماله، وأظن أن الذى حمل من قال إن المراد به الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد فى الحمى ولم يفهم وجهه. مع أن لقوله وجها حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمان بالماء البارد أخمد اللّه لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا، انتهى. وقال الخطابى وغيره: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث، بأن اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك، لأنه يجمع المسام، ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببا للتلف. وقد غلط بعض من ينسب إلى العلم (١) ، فانغمس فى الماء لما أصابته الحمى، فاحتنقت الحرارة فى باطن بدنه، فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه فى ذلك جهله بمعنى الحديث. والجواب: أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب فى صدق الخبر، فيقال له أولا، من أين حملت الأمر على الاغتسال، وليس فى الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل، وإنما فى الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء، فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم فى الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصده- صلى اللّه عليه وسلم- استعمال الماء على وجه ينفع فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل __________ (١) فى الأصل (العمل) ، والصواب ما أثبتناه، وكذا فى (فتح البارى) (١٠/ ١٨٦) . الانتفاع به، وهذا كما وقع فى أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى بالماء ما صنعته أسماء بنت أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنهما-: فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه، فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابى ولا سيما مثل أسماء بنت أبى بكر التى هى كانت تلازم بيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أعلم بالمراد من غيرها. وقد ذكر أبو نعيم وغيره، من حديث أنس يرفعه: (إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر) (١) . وقال المازرى: لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل حتى إن المريض يكون الشئ دواءه فى ساعة فيكون داءه فى الساعة التى تليها لعارض يعرض له من غضب يحمى مزاجه مثلا فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير. فإذا فرض وجود الشفاء لشخص لشئ فى حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره فى سائر الأحوال. والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف، وقوة الطباع. ويحتمل أن يكون هذا فى وقت مخصوص فيكون من الخواص التى اطلع عليها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بالوحى، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب. وجعل ابن القيم خطابه- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذا الحديث خاصّا لأهل الحجاز وما والاهم، إذ كان أكثر الحميات التى تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية، الحادثة من شدة حرارة الشمس. قال: هذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا، لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل فى القلب، وتنشر منه بتوسط الروح والدم فى العروق إلى جميع البدن وهى قسمان: عرضية وهى الحادثة عن ورم أو حركةأو إصابة حرارة الشمس، أو القيظ الشديد ونحو ذلك، __________ (١) صحيح: أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٢٢٣ و ٤٤٧) ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وهو كما قال. ومرضية وهى ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهى حمى يوم، لا تقلع غالبا فى يوم ونهايتها إلى ثلاث، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهى حمى دق، وهى أخطرها، وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفينية، وهى بعدد الأخلاط الأربعة: أعنى صفراوية، سوداوية، بلغمية، دموية، وتحت هذا الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الأفراد والتركيب. انتهى. وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول. فإنها تسكن بالانغماس فى الماء البارد، وشرب الماء المبرد بالثلج وبغيره، ولا يحتاج إلى علاج آخر. وقد قال جالينوس: لو أن شابّا خشن اللحم خصب البدن ليس فى أحشائه ورم استحم بماء بارد وسبح فيه فى وقت القيظ عند منتهى الحمى لانتفع بذلك. وقد تكرر فى الحديث استعماله- صلى اللّه عليه وسلم- الماء البارد فى علته، كما فى الحديث: (صبوا على من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن) (١) . وفى المسند وغيره من حديث الحسن عن سمرة يرفعه (الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد) وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل (٢) وصححه الحاكم، ولكن قال فى إسناده راو ...... وعن أنس رفعه: (إذا حم أحدكم فليشن عليه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال) (٣) أخرجه الطحاوى وأبو نعيم فى الطب. وأخرج الطبرانى من حديث عبد الرحمن بن المرقع، رفعه: (الحمى رائد الموت، وهى سجن اللّه فى __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (١٩٨) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب والقدح، وأحمد فى (المسند) (٦/ ١٥١) من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٤٤٧) ، هكذا وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه الزيادة، وطرفه الأول عند أحمد فى (المسند) (٥/ ٢٨١) ، من حديث ثوبان- رضى اللّه عنه-، ولم أقف عليه فيه من حديث سمرة. (٣) صحيح: وقد تقدم قبل حديثين. الأرض، فبردوا لها الماء فى الشنان وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء) (١) قال ففعلوا فذهب عنهم. وقد أخرج الترمذى من حديث ثوبان مرفوعا: (إذا أصاب أحدكم الحمى وهى قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء، يستنقع فى نهر جار، ويستقبل جريته، وليقل: بسم اللّه، اللّهم اشف عبدك، وصدق رسولك، بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاثة غمسات، ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ فخمس، وإلا فسبع، وإلا فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن اللّه) (٢) قال الترمذى: غريب، وفى سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه. ذكر طبه ص من حكة الجسد وما يولد القمل:لما كانت الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة رخص- صلى اللّه عليه وسلم- للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف فى لبس الحرير لحكة كانت بهما، كما فى البخارى عن قتادة أن أنسا حدثهم أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير فى قميص من حرير من حكة كانت بهما. وفى رواية أن عبد الرحمن والزبير شكيا إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يعنى القمل- فأرخص لهما فى الحرير، فرأيته عليهما فى غزاة. وفى رواية رخص النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام فى الحرير. وفى رواية رخص النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، أو رخص لحكة كانت بهما (٣) . ويحتمل أن تكون إحدى العلتين بأحد الرجلين، أو أن الحكة حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب وتارة إلى المسبب. قال النووى: هذا __________ (١) أخرجه القضاعى فى مسند الشهاب (١/ ٦٩) ، عن عبد الرحمن بن المرقع، وأخرجه ابن الدنيا فى (المرض والكفارات) (ص ٧٣) ، والقضاعى فى مسند الشهاب (١/ ٦٩) عن الحسن مرسلا. (٢) أخرجه الترمذى (٢٠٨٤) فى الطب، باب: ما جاء فى التداوى بالغسل، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٢٨١). (٣) صحيح: وانظر هذه الروايات عند البخارى (٢٩١٩- ٢٩٢٢) فى الجهاد والسير، باب: الحرير فى الحرب، وطرفه (٥٧٩٥) . الحديث صريح فى الدلالة لمذهب الشافعى وموافقيه: أنه يجوز لبس الحرير للرجل إذا كانت به حكة لما فيه من البرودة، وكذا للقمل وما فى معنى ذلك. وقال مالك: لا يجوز، وهذا الحديث حجة عليه، انتهى. وتعقب قوله: (لما فيه من البرودة) بأن الحرير حار. والصواب: أن الحكمة فيه إنما هى لخاصية فيه تدفع الحكة والقمل. وقال ابن القيم: وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة فى مزاجه، مسخنا للبدن، وربما برد البدن بتسمينه إياه. وقال الرازى: الإبريسم أسخن من الكتان وأبرد من القطن، يربى اللحم، وكل لباس خشن فإنه يهزل ويصلب البشرة، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ وملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن، فثياب الكتان باردة يابسة، وثياب الصوف حارة يابسة، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من ثياب القطن وأقل حرارة منه، ولما كانت ثياب الحرير ليس فيها من اليبس والخشونة كغيرها صارت نافعة من الحكة، لأن الحكة- كما قدمته- لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، فلذلك رخص- صلى اللّه عليه وسلم- لهما فى الحرير لمداواة الحكة. ذكر طبه صلى اللّه عليه وسلم- من السم الذى أصابه بخيبر:تقدم فى غزوتها قصة اليهودية التى أهدت إليه الشاة المسمومة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن امرأة يهودية أهدت للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- شاة مصلية بخيبر، ف قال: (ما هذه؟) قالت: هدية، وحذرت أن تقول صدقة فلا يأكل. فأكل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأكل أصحابه، ثم قال: (أمسكوا) ثم قال للمرأة: (هل سميت هذا الشاة؟) قالت من أخبرك؟ قال: (هذا العظم، لساقها) وهو فى يده، قالت: نعم قال: (لم؟) قالت: أردت إن كنت كاذبا أن يستريح منك الناس، وإن كنت نبيّا لم يضرك. قال: فاحتجم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ثلاثا على كاهله (١) . __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٤/ ٢٦٠- ٢٦١) من هذا الطريق، وهى فى (صحيح البخارى) (٣١٦٩) فى الجزية والموادعة، باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، بسياق آخر. وقد ذكروا فى علاج السم أنه يكون بالاستفراغات وبالأدوية التى تعارض فعل السم وتبطله، إما بكيفياتها وإما بخواصها، فمن عدم الدواء فليبادر إلى الدواء الكلى، وأنفعه الحجامة، ولا سيما إذا كان البلد حارا، فإن القوة السمية تسرى فى الدم، فتبعثه فى العروق والمجارى، حتى تصل إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسموم وأخرج الدم خرجت معه تلك الكيفية السمية التى خالطته، فإن كان استفراغا تاما لم يضره السم، بل إما أن يذهب، وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة فتبطل فعله، أو تضعفه. ولما احتجم- صلى اللّه عليه وسلم- احتجم على الكاهل، لأنه أقرب إلى القلب، فخرجت المادة السمية مع الدم، لا خروجا كليّا بل بقى أثرها مع ضعفه لما يريد اللّه تعالى من تكميل مراتب الفضل كلها له بالشهادة زاده اللّه فضلا وشرفا. |