٨-١ الفصل الأول فى طبه صلّى اللّه عليه وسلم لذوى الأمراض والعاهاتاعلم أنه قد ثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يعود من مرض من أصحابه، حتى لقد عاد غلاما كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمه وهو مشرك، وعرض عليهما الإسلام، فأسلم الأولوكان يهوديّا، كما روى البخارى وأبو داود من حديث أنس: أن غلاما من اليهود كان يخدم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فمرض فعاده- صلى اللّه عليه وسلم- فقعد عند رأسه، فقال: (أسلم) ، فنظر إلى أبيه وهو عنده ف قال: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يقول: (الحمد للّه الذى أنقذه من النار) (١) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يدنو من المريض، ويجلس عند رأسه، ويسأل عن حاله ويقول: (كيف تجدك؟) (٢) . وفى حديث جابر عند البخارى ومسلم والترمذى وأبى داود، قال: مرضت فأتانى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يعودنى وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجدانى أغمى على، فتوضأ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ثم صب وضوءه على فأفقت، فإذا النبى-صلى اللّه عليه وسلم-، وعند أبى داود: فنضح فى وجهى فأفقت. وفيه: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا) (٣) . __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (١٣٥٦) فى الجنائز، باب: إذا أسلم الصبى، وأبو داود (٣٠٩٥) فى الجنائز، باب: فى عيادة الذمى، وأحمد فى المسند (٣/ ١٧٥، ٢٥٧، ٢٦٠ و ٢٨٠) . (٢) حسن: أخرجه الترمذى (٩٨٣) فى الجنائز، باب: رقم (١٠) ، وابن ماجه (٤٢٦١) فى الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له، وأبو يعلى فى (مسنده) (٦/ ٥٧) من حديث أنس- رضى اللّه عنه- ، وهو فى صحيح البخارى (٣٩٢٦) فى فضائل الصحابة، من قول عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٨٨٧) فى الفرائض، باب: من كان ليس له ولد وله أخوات، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٣٧٢). وفى حديث أبى موسى عند البخارى مرفوعا: (أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العانى) (١) . وعنده من رواية البراء: أمرنا- صلى اللّه عليه وسلم- بسبع، وذكر منها عيادة المريض (٢)وعند مسلم: خمس تجب للمسلم على المسلم، فذكرها منها (٣) . قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب، يعنى الكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب على التواصل والألفة. وعند الطبرى: يتأكد فى حق من ترجى بركته، ويسن فيمن يراعى حاله، ويباح فيما عدا ذلك. وهو فرض كفاية عند أبى حنيفة، كما قاله أبو الليث السمرقندى (٤) فى (مقدمته) . واستدل بعموم قوله: (عودوا المريض) على مشروعية العيادة فى كل مرض، واستثنى بعضهم: الأرمد، وردّ: بأنه قد جاء فى عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن الأرقم، قال: عادنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من وجع كان بعينى (٥) ، رواه أبو داود وصححه الحاكم. وأما ما أخرجه البيهقى والطبرانى مرفوعا: (ثلاثة ليس لهم عيادة، الرمد والدمل والضرس) (٦) ، __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٤٦) فى الجهاد والسير، باب: فكاك الأسير، وأبو داود (٣١٠٥) فى الجنائز، باب: الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٣٩٤ و ٤٠٦) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٣٣٢٤) . (٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (١٢٣٩) فى الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، ومسلم (٢٠٦٦) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (٣) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (١٢٤٠) فى الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، ومسلم (٢١٦٢) فى السلام، باب: حق المسلم للمسلم والسلام، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٤) هو: الإمام الفقيه المحدث الزاهد، أبو الليث، نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندى الحنفى، صاحب كتاب (تنبيه الغافلين) وغير ذلك، توفى سنة ٣٧٥ هـ. (٥) حسن: أخرجه أبو داود (٣١٠٢) فى الجنائز، باب: فى العيادة فى الرمد، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٤٩٢) ، والبيهقى فى (السنن الكبرى) (٣/ ٣٨١) . (٦) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٢/ ٣٠٠) عن أبى هريرة وقال: رواه الطبرانى فى (الأوسط) وفيه سلمة بن على الحبشى، وهو ...... فصحح البيهقى أنه موقوف على يحيى بن أبى كثير، ويؤخذ من إطلاقه عدم التقييد بزمان يمضى من ابتداء مرضه. وهو قول الجمهور، وجزم الغزالى فى (الإحياء) : بأنه لا يعاد إلا بعد ليال ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس: كان- صلى اللّه عليه وسلم- لا يعود مريضا إلا بعد ثلاثة (١) وهذا حديث ..... تفرد به مسلمة بن على، وقال أبو حاتم هو حديث باطل. ولا نطيل بإيراد ما ورد فى فضل العيادة، ويكفى حديث أبى هريرة، مما حسنه الترمذى مرفوعا: (من عاد مريضا ناداه مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا) (٢) وهذا لفظ ابن ماجه. وفى سنن أبى داود عن أنس مرفوعا: (من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسبا، بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفا) (٣) . وفى حديث أبى سعيد عند ابن حبان فى صحيحه مرفوعا: (خمس من عملهن فى يوم كتبه اللّه من أهل الجنة: من عاد مريضا وشهد جنازة وصام يوما، وراح إلى الجمعة وأعتق رقبة) (٤) . وعند أحمد، عن كعب مرفوعا: من عاد مريضا، خاض فى __________ (١) أخرجه ابن ماجه (١٤٣٧) فى الجنائز، باب: ما جاء فى عيادة المريض، وقال البوصيرى فى (الزوائد) : فى إسناده سلمة بن على، قال فيه البخارى وأبو حاتم وأبو زرعة: ....... الحديث، ومن منكراته (كان لا يعود مريضا إلا بعد ثلاثة أيام) قال فيه أبو حاتم: هذا ....... باطل وقال ابن عدى: أحاديثه غير محفوظة، واتفقوا على ت.....ه. اهـ. (٢) حسن: أخرجه الترمذى (٢٠٠٨) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى زيارة الإخوان، وابن ماجه (١٤٤٣) فى الجنائز، باب: ما جاء فى ثواب من عاد مريضا، وأحمد فى (المسند) (٢/ ٣٢٦ و ٣٤٤ و ٣٥٤) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٢٩٦١). (٣) أخرجه أبو داود (٣٠٩٧) فى الجنائز، باب: فى فضل العيادة على وضوء . (٤) إسناده قوى: أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٢٧٧١) ، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى. الرحمة، فإذا جلس عنده استنقع فيها (١) . زاد الطبرانى: وإذا قام من عنده فلا يزال يخوض فيها حتى يرجع من حيث خرج. ولم يكن- صلى اللّه عليه وسلم- يخص يوما من الأيام بعيادة المريض، ولا وقتا من الأوقات، فترك العيادة يوم السبت المخالفة للسنة، ابتدعه يهودى طبيب لملك قد مرض وألزمه بملازمته، فأراد يوم الجمعة أن يمضى لسبته فمنعه، فخاف على استحلال سبته، ومن سفك دمه، ف قال: إن المريض لا يدخل عليه يوم السبت، فتركه الملك، ثم أشيع ذلك، وصار كثير من الناس يعتمده، ومن الغريب ما نقله ابن الصلاح عن الفراوى: أن العيادة تستحب فى الشتاء ليلا. وفى الصيف نهارا، ولعل الحكمة فى ذلك أن المريض يتضرر بطول الليل فى الشتاء، وبطول النهار فى الصيف، فتحصل له بالعيادة استراحة. وينبغى اجتناب التطبب بأعداء الدين، من يهودى أو نحوه، فإنه مقطوع بغشه سيما إن كان المريض كبيرا فى دينه أو علمه، خصوصا إن كان هذا العدو يهوديّا، لأن قاعدة دينهم: أن من نصح منهم مسلما فقد خرج عن دينه، وأن من استحل السبت فهو مهدر الدم عندهم، حلال لهم سفك دمه، ولا ريب أن من خاطر بنفسه يخشى عليه أن يدخل فى عموم النهى فيمن قتل نفسه بشئ. وقد كثر الضرر فى هذا الزمن بأهل الذمة، فلا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم، واللّه تعالى يرحم القائل: لعن النصارى واليهود فإنهم ... بلغوا بمكرهم بنا الآمالا خرجوا أطباء وحسابا لكى ... يتقسموا الأرواح والأموالا) ومما كان يفعله- صلى اللّه عليه وسلم- ويأمر به تطييب نفوس المرضى وتقوية قلوبهم، __________ (١) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ٤٦٠) ، وهو عنده أيضا (٣/ ٣٠٤) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٢٩٥٦) من حديث جابر- رضى اللّه عنه- بنحوه وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. (٢) قلت: رحم اللّه المسلمين الآن، فأين هم من هذه النصائح، وللأسف نجد من بيننا الآن من يدافع عنهم وعن عقائدهم الباطلة ويقربهم إلينا، ويقولون: إن العلم ليس له دين ولا وطن، وقد كذبوا فى قولهم، ولو فاقوا إلى أنفسهم لعرفوا الحق الذى لا مرية فيه. ففى حديث أبى سعيد الخدرى، قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له فى أجله، فإن ذلك يطبب نفسه) (١) ، مثل أن يقول له: لا بأس عليك، طهور إن شاء اللّه، ووجهك الآن أحسن، وما أشبه ذلك. وقد يكون من هذا أن يذكر له الأجور الداخلة عليه فى مرضه، وأن المرض كفارة، فربما أصلح ذلك قلبه، وأمن من خوف ذلك ونحوه. وقال بعضهم: فى هذا الحديث نوع شريف جدّا من أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذى تقوى به الطبيعة، وتنتعش به القوة، وينبعث به الحار الغريزى، ويساعد على دفع العلة أو تخفيفها الذى هو غاية تأثير الطبيب. وفى تفريج نفس المريض، وتطييب قلبه، وإدخال السرور عليه تأثير عجيب فى شفاء علته وخفتها، فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذى. وقد شاهد الناس كثيرا من المرضى تنتعش قواهم بعيادة من يحبونه ويعظمونه، ورؤيتهم له، ولطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم. قال فى الهدى (٢) : وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يسأل المريض عن شكواه، وكيف يجد، وعما يشتهيه، فإن اشتهى شيئا وعلم أنه لا يضره أمر له به، ويضع يده على جبهته، وربما وضعها بين ثدييه، ويدعو له، ويصف له ما ينفعه فى علته، وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه، كما فى حديث جابر المتقدم، وربما كان يقول للمريض: لا بأس عليك، طهور إن شاء اللّه (٣) ، وربما كان يقول: كفارة وطهور (٤) . وقالت عائشة: كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا عاد __________ (١) إسناده ..... أخرجه الترمذى (٢٠٨٧) فى الطب، باب: رقم (٣٤) ، وابن ماجه (١٤٣٨) فى الجنائز، باب: ما جاء فى عيادة المريض. (٢) يقصد كتاب (زاد المعاد فى هدى خير العباد) للعلامة ابن القيم، فانظره بتحقيقنا، فهو كتاب قيم فى بابه، جامع لأبوابه. (٣) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث صحيح أخرجه البخارى (٥٦٥٦) فى المرضى، باب: عيادة الأعراب، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنها-. (٤) شاذ: وقد ورد ذلك فى حديث رواه أحمد بسند رجاله ثقات من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، قال الهيثمى فى (المجمع) (٢/ ٢٩٩) اهـ. قلت: وسياقه هو سياق البخارى السابق إلا فى مقولة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- التى بها أعللت رواية أنس عند أحمد- رحمه اللّه-. مريضا يضع يده على المكان الذى يألم ثم يقول: بسم اللّه (١) . رواه أبو يعلى بسند صحيح. وأخرج الترمذى من حديث أبى أمامة- بسند لين- رفعه: تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته فيسأله كيف هو (٢) ، وعند ابن السنى بلفظ: كيف أصبحت أو كيف أمسيت؟ وإذا علمت هذا، فاعلم أن المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان. فأما طب القلوب ومعالجتها فخاص بما جاء به الرسول الكريم- صلى اللّه عليه وسلم- عن ربه تعالى، لا سبيل إلى حصوله إلا من جهته، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لرضاه ومحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقى ذلك إلا من جهة سيدنا محمد- صلى اللّه عليه وسلم-. وأما طب الأجساد، فمنه ما جاء فى المنقول عنه- صلى اللّه عليه وسلم-، ومنه ما جاء عن غيره، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- إنما بعث هاديا وداعيا إلى اللّه وإلى جنته، ومعرفا باللّه، ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها، ومواقع سخطه وناهيا لهم عنها، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم، وأخبار تخليق العالم، وأمر المبدأ والمعاد، وكيف شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك. وأما طب الأجساد فجاء من تكميل شريعته، ومقصودا لغيره، بحيث إنما يستعمل للحاجة إليه، فإذا قدر الاستغناء عنه كان صرف الهمم إلى علاج القلوب وحفظ صحتها، ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بإصلاح الجسد، وإصلاح الجسد بدون إصلاح القلب لا ينفع، وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدّا، وهى مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة. __________ (١) رجاله موثقون: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٢/ ٢٩٩) و قال: رواه أبو يعلى ورجاله موثقون. (٢) أخرجه الترمذى (٢٧٣١) فى الاستئذان والآداب، باب: ما جاء فى المصافحة، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٢٥٩) ، والطبرانى فى (الكبير) (٨/ ٢١١) وقال الترمذى: هذا إسناد ليس بالقوى، وهو كما قال. وإذا علمت هذا، فاعلم أن ضرر الذنوب فى القلوب كضرر السموم فى الأبدان، على اختلاف درجاتها فى الضرر. وهل فى الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصى، فللمعاصى من الآثار القبيحة المذمومة والمضرة بالقلب والبدن والدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا اللّه. فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه اللّه فى القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، وللإمام الشافعى- رضى اللّه عنه-: شكوت إلى وكيع سوء حفظى ... فأرشدنى إلى ترك المعاصى وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور اللّه لا يؤتاه عاصى ومنها: حرمان الرزق، ففى المسند: وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (١) . ومنها: وحشة يجدها العاصى فى قلبه، بينه وبين اللّه، لا يوازيها ولا يقاربها لذة. ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه، أو متعسرا عليه. ومنها: ظلمة يجدها فى قلبه حقيقة يحس بها، كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهم، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع فى البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر، ثم تقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه وتصير سوادا فيه، يراها كل أحد. ومنها: أنها توهن القلب والبدن. ومنها: حرمان الطاعة، وتقصير العمر، ومحق البركة، ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب، كما ينقص بأسباب، وقيل: بتأثير المعاصى فى محق العمر إنما __________ (١) حسن: أخرجه أحمد فى (المسند) (٥/ ٢٧٧ و ٢٨٠ و ٢٨٢) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٨٧٢) من حديث ثوبان- رضى اللّه عنه-، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن. اهـ. وانظر (..... الجامع) (١٤٥٢) . هو بأن حقيقة الحياة هى حياة القلب، فليس عمر المرء إلا أوقات حياته باللّه، فتلك ساعات عمره، فالبر والتقوى والطاعات تزيد فى هذه الأوقات التى هى حقيقة عمره، ولا عمر له سواها.وبالجملة: فالعبد إذا أعرض عن اللّه، واشتغل بالمعاصى ضاعت عليه أيام حياته الحقيقة. ومنها: أن المعصية تورث الذل. ومنها: أنها تفسد العقل، فإن للعقل نورا، والمعصية تطفئ نور العقل. ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (١) وقد أحسن القائل: إذا كنت فى نعمة فارعها ... فإن الذنوب تزيل النعم وحطها بطاعة رب العباد ... فرب العباد سريع النقم ومن عقوباتها أنها تستجلب مواد هلاك العبد فى دنياه وآخرته، فإن الذنوب هى أمراض متى استحكمت قتلت ولابد، وكما أن البدن لا يكون صحيحا إلا بغذاء يحفظ قوته، واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة الأخلاط الرديئة التى متى غلبت عليه أفسدته، وحمية يمتنع بها من تناول من يؤذيه ويخشى ضرره فكذلك القلب، لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة يحفظ قوته، واستفراغ بالتوبة النصوح يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة التى متى غلبت عليه أفسدته، وحمية توجب له حفظ الصحة، وتجنب ما يضادها، وهى عبارة عن ترك استعمال ما يضاد الصحة، والتقوى اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة، فما فات منها فات من التقوى بقدره. وإذا تبين هذا فالذنوب مضادة لهذه الأمور الثلاثة، فإنها تستجلب المواد المؤذية، وتوجب التخليط المضاد للحمية، وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح. __________ (١) سورة الشورى: ٣٠. فانظر إلى بدن عليل قد تراكمت عليه الأخلاط ومواد المرض، وهو لا يستفرغها ولا يحتمى لها، كيف تكون صحته وبقاؤه، وقد أحسن القائل: جسمك بالحمية حصنته ... مخافة من ألم طارى وكان أولى بك أن تحتمى ... من المعاصى خشية النار فمن حفظ القوة بامتثال الأوامر، واستعمل الحمية باجتناب النواهى، واستفرغ التخليط بالتوبة النصوح، لم يدع للخير مطلبا، ولا للشر مهربا، وفى حديث أنس: (ألا أدلكم على دائكم ودوائكم، ألا إن داءكم الذنوب، ودواءكم الاستغفار) (١) . فقد ظهر لك أن طب القلوب ومعالجتها لا سبيل إلى معرفته إلا من جهة الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- بواسطة الوحى. وأما طب الأجساد فغالبه يرجع إلى التجربة. ثم هو نوعان: نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر، بل فطر اللّه على معرفته الحيوانات، مثل ما يدفع الجوع والعطش والبرد والتعب، وهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب. ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر، كدفع ما يحدث فى البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما حرارة أو برودة، وكل منهما: إما إلى رطوبة أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما، وغالب ما يقاوم الواحد منها بضده، والدفع قد يقع من خارج البدن، وقد يقع داخله وهو من أعسرهما، والطريق إلى معرفته بتحقيق السبب والعلامة. فالطبيب الحاذق هو الذى يسعى فى تفريق ما يضر بالبدن جمعه، أو عكسه، وفى تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء: حفظ الصحة. والاحتماء عن المؤذى واستفراغ المادة الفاسدة. وقد أشير إلى الثلاثة فى القرآن: فالأول: فى قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ __________ (١) أخرجه الديلمى فى مسند الفردوس عن أنس، كما فى (كنز العمال) (٢٠٩٢) . أَيَّامٍ أُخَرَ (١) وذلك أن السفر مظنة النصب، وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر، وكذلك القول فى المرض. والثانى: وهو الحمية، من قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (٢) فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد (٣) ، وقال تعالى فى آية الوضوء: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِأَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (٤) فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهو تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج. والثالث: من قوله تعالى: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ (٥) فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذى منع منه المحرم، لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن فى الرأس تحت الشعر، لأنه إذا حلق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها. فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذى انحباسه. فقد أرشد تعالى عباده إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده. وفى الصحيحين من حديث عطاء عن أبى هريرة قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما أنزل اللّه داء إلا وأنزل له شفاء) (٦) . وأخرجه النسائى وابن حبان وصححه الحاكم عن ابن مسعود بلفظ (إن اللّه لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء __________ (١) سورة البقرة: ١٨٤. (٢) سورة النساء: ٢٩. (٣) كما ورد فى قصة عمرو بن العاص حينما أصبح جنبا وهو فى إحدى الغزوات فخشى من الغسل بالماء البارد فتيمم وصلى بأصحابه، والقصة أخرجها أبو داود (٣٣٤ و ٣٣٥) فى الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، وابن حبان فى (صحيحه) (١٣١٥) ، وانظر (الإرواء) (١٥٤) . (٤) سورة النساء: ٤٣. (٥) سورة البقرة: ١٩٦. (٦) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٧٨) فى الطب، باب: ما أنزل اللّه داء إلا أنزل له شفاء، وابن ماجه (٣٤٣٩) فى الطب، باب: ما أنزل اللّه داء إلا أنزل له شفاء، والحديث ليس فى مسلم كما قال المصنف- رحمه اللّه-. فتداووا) (١) وعند أحمد من حديث أنس: (إن اللّه حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا) (٢) . وعند البخارى فى (الأدب المفرد) ، وأحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذى وابن خزيمة والحاكم عن أسامة بن شريك، رفعه: (تداووا يا عباد اللّه، فإن اللّه لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا وهو الهرم) (٣) وفى لفظ (إلا السام) - وهو بمهملة مخففة- الموت، يعنى إلا داء الموت، أى المرض الذى قدر على صاحبه الموت فيه واستثنى الهرم فى الرواية الأولى إما لأنه جعله شبيها بالموت، والجامع بينهما نقص الصحة، أو تقربه من الموت وإفضائه إليه، ويحتمل أن يكون استثناء منقطعا، والتقدير: لكن الهرم لا دواء له. ولأبى داود، عن أبى الدرداء، رفعه: (إن اللّه جعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام) (٤) . وفى البخارى: إن اللّه تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم (٥) ، فلا يجوز التداوى بالحرام. وروى مسلم عن جابر، مرفوعا: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء __________ (١) صحيح: أخرجه النسائى فى (الكبرى) (٦٨٦٣- ٦٨٦٥) ، وابن ماجه (٣٤٣٨) فى الطب، باب: ما أنزل اللّه داء إلا أنزل له شفاء، وأحمد فى (المسند) (١/ ٣٧٧ و ٤١٣ و ٤٤٣ و ٤٤٦ و ٤٥٣) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٠٦٢ و ٦٠٧٥) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٢١٨) ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وهو كما قال. (٢) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ١٥٦) بسند صحيح. (٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٨٥٥) فى الطب، باب: فى الحمية، والترمذى (٢٠٣٨) فى الطب، باب: ما جاء فى الدواء والحث عليه، وابن ماجه (٣٤٣٦) فى الطب، باب: ما أنزل اللّه داء إلا أنزل له شفاء، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٢٧٨) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٠٦٤) . (٤) أخرجه أبو داود (٣٨٧٤) فى الطب، باب: فى الأدوية المكروهة . (٥) أخرجه البخارى (١٠/ ٨١) تعليقا فى الأشربة، باب: شراب الحلوى والعسل، عن ابن مسعود من قوله، ونسبه صاحب (الجامع الصغير) للطبرانى فى الكبير عن أم سلمة- رضى اللّه عنها-. برئ بإذن اللّه تعالى) (١) . فالشفاء متوقف على إصابة الدواء بالداء بإذن اللّه تعالى. وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد فى الكيفية أو الكمية فلا ينجح، بل ربما أحدث داء آخر. وفى رواية على عند الحميدى فى كتابه المسمى بطب أهل البيت: ما من داء إلا وله دواء، فإذا كان كذلك بعث اللّه عز وجل ملكا ومعه ستر فجعله بين الداء والدواء، فكلما شرب المريض من الدواء لم يقع على الداء، فإذا أراد برأه أمر الملك فرفع الستر، ثم يشرب المريض الدواء فينفعه اللّه تعالى به. وفى حديث ابن مسعود رفعه: (إن اللّه لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله) (٢) رواه أبو نعيم وغيره. وفيه إشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد. وأما قوله(لكل داء دواء) فيجوز أن يكون على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التى لا يمكن طبيب معرفتها، ويكون اللّه قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليها سبيلا، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم اللّه. ولهذا علق- صلى اللّه عليه وسلم- الشفاء على مصادفة الدواء للداء، وقد يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من دائه بدوائه فيبرأ، ثم يعتريه بعد ذلك الداء، والدواء بعينه فلا ينجح، والسبب فى ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء، فرب مرضين تشابها، ويكون أحدهما مركبا، لا ينجح فيه ما ينجح فى الذى ليس مركبا، فيقع الخطأ من هناك، وقد يكون متحدا لكن يريد اللّه أن لا ينجح، وهنا تخضع رقاب الأطباء. وفى مجموع ما ذكرناه من الأحاديث الإشارة إلى إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافى التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات، والدعاء بطلب الشفاء ودفع المضار وغير ذلك. وقد سئل الحارث المحاسبى فى كتاب (القصد) من تأليفه: هل يتداوى المتوكل؟ __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٠٤) فى السلام، باب: لكل داء دواء، واستحباب التداوى. (٢) صحيح: حديث ابن مسعود قد تقدم، إلا أن صاحب الجامع الصغير عزاه للحاكم من حديث أبى سعيد. قال: نعم، قيل له من أين ذلك؟ قال: من وجود ذلك عن سيد المتوكلين، الذى لم يلحقه لا حق، ولا يسبقه فى التوكل سابق، محمد خير البرية- صلى اللّه عليه وسلم-. قيل له: ما تقول فى خبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم-:(من استرقى أو اكتوى برئ من التوكل) (١) ؟ قال: برئ من توكل المتوكلين الذين ذكرهم فى حديث آخر ف قال: (يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب) (٢) ، وأما سواهم من المتوكلين فمباح لهم الدواء والاسترقاء. فجعل المحاسبى التوكل بعضه أفضل من بعض. وقال فى (التمهيد) : إنما أراد بقوله: (برئ من التوكل) إذا استرقى الرقى المكروهة فى الشريعة، أو اكتوى وهو يعلق رغبته فى الشفاء بوجود الكى، وكذلك قوله (لا يسترقون) الرقى المخالفة للشريعة، (لا يكتوون) وقلوبهم معلقة بنفع الكى ومعرضة عن فعل اللّه تعالى وأن الشفاء من عنده. وأما إذا فعل ذلك على ما جاء فى الشريعة، وكان ناظرا إلي رب الدواء، وتوقع الشفاء من اللّه تعالى، وقصد بذلك استعمال بدنه إذا صح للّه تعالى، وإتعاب نفسه وكدها فى خدمة ربه، فتوكله باق على حاله لا ينقص منه الدواء شيئا، استدلالا بفعل سيد المتوكلين إذ عمل بذلك فى نفسه وفى غيره انتهى. فقد تبين أن التداوى لا ينافى التوكل، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التى نصبها اللّه تعالى مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح فى نفس التوكل، كما يقدح فى الأمر والحكمة. __________ (١) أخرجه الترمذى (٢٠٥٥) فى الطب، باب: ما جاء فى كراهية الرقية، وابن ماجه (٣٤٨٩) فى الطب، باب: الكى، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٢٤٩ و ٢٥٣) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٠٨٧) ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٧٠٥) فى الطب، باب: من اكتوي أو كوى غيره وفضل من لم يكتو، ومسلم (٢٢٠) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. وحكى ابن القيم: أنه ورد فى خبر إسرائيلى، أن الخليل- عليه الصلاة والسلام- قال: يا رب ممن الداء؟ قال: منى، قال: فممن الدواء؟ قال: منى. قال: فما بال الطبيب؟ قال: رجل أرسل الدواء على يديه. قال: وفى قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لكل داء دواء) تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب ذلك الدواء، والتفتيش عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء، وبرد من حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، وقويت نفسه وانبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التى هى حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته. انتهى. فإن قلت: ما المراد بالإنزال فى قوله فى الأحاديث السابقة (إلا أنزل له دواء) وفى الرواية الآخرى (شفاء) فالجواب: أنه يحتمل أن يكون عبر بالإنزال عن التقدير، ويحتمل أن يكون المراد إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وأين يقع طب حذاق الأطباء، الذى غايته أن يكون مأخوذا من قياس أو مقدمات وحدس وتجربة، من الوحى الذى يوحيه اللّه تعالى إلى رسوله- صلى اللّه عليه وسلم- بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عند حذاق الأطباء من الطب إلى هذا الوحى كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاء به- صلى اللّه عليه وسلم-. بل هاهنا من الأدوية التى تشفى من الأمراض ما لم تهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجربتهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على اللّه تعالى والتوكل عليه والانكسار بين يديه، والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق والتفريج عن المكروب. فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللّها، فوجدوا لها من التأثير فى الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء، وقد جربت ذلك- واللّه- مرات، فوجدته يفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية. ولا ريب أن طب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- متيقن البرء، لصدوره عن الوحى ومشكاة النبوة، وطب غيره أكثره حدس وتجربة، وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك لمانع قام بالمستعمل، من ضعف اعتقاد الشفاء به وتلقيه بالقبول. وأظهر الأمثلة فى ذلك القرآن، الذى هو شفاء لما فى الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره به لقصوره فى الاعتقاد والتلقى بالقبول، بل لا يزيد المنافق إلا رجسا إلى رجسه، ومرضا إلى مرضه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، والقلوب الحية. فإعراض الناس عن طب النبوة لإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الكريم الذى هو الشفاء النافع. وكان علاجه- صلى اللّه عليه وسلم- للمريض على ثلاثة أنواع: أحدها: بالأدوية الإلهية الروحانية. والثانى: بالأدوية الطبيعية. والثالث: بالمركب من الأمرين. النوع الأول فى طبه ص بالأدوية الإلهيةاعلم أن اللّه تعالى لم ينزل من السماء شفاء قط أعم- ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع فى إزالة الداء- من القرآن، فهو للداء شفاء، ولصدأ القلوب جلاء، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (١) . ولفظه (من) - كما قال الإمام فخر الدين (٢) - ليست للتبعيض بل للجنس، والمعنى: وننزل من هذا الجنس الذى هو القرآن شفاء من الأمراض الروحانية وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية.أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر، وذلك لأن المرض الروحانى نوعان: __________ (١) سورة الإسراء: ٨٢. (٢) هو: الإمام العلامة، فخر الدين، محمد بن عمر بن الحسين القرشى البكرى الطبرستانى الأصولى المفسر كبير الأذكياء والحكماء المصنفين، إلا أنه بدت له فى تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، واللّه يعفو عنه، فإنه توفى على طريقة حميدة، له التفسير الكبير، وغير ذلك، مات بهراة سنة ٦٠٦ هـ، وله بضع وستون سنة. الاعتقادات الباطلة: وأشدها فسادا الاعتقادات الفاسدة فى الإلهية والنبوات والمعاد والقضاء والقدر، والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق فى هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة. ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ فى هذه المطالب، والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة فى هذه المذاهب الباطلة من العيوب لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحانى. وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريفها وما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة، فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض. فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية. وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته ينفع كثيرا من الأمراض. وإذا اعتبر الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقى المجهولة والعزائم التى لا يفهم منها شئ آثارا عظيمة فى تحصيل المنافع ودفع المفاسد، أفلا تكون قراءة القرآن العظيم المشتمل على ذكر جلال اللّه تعالى وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة والشياطين سببا لحصول النفع فى الدين والدنيا. ويتأيد ما ذكرناه بما روى أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه اللّه) (١) ونقل عن الشيخ أبى القاسم القشيرى- رحمه اللّه- أن ولده مرض مرضا شديدا حتى أشرف على الموت، فاشتد عليه الأمر، قال: فرأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى المنام فشكوت إليه ما بولدى ف قال: أين أنت من آيات الشفاء؟ فانتبهت فأفكرت فيها فإذا هى فى ستة مواضع من كتاب اللّه، وهى قوله تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (٢) . __________ (١) أخرجه الدار قطنى فى (الأفراد) عن أبى هريرة، كما فى (كنز العمال) (٢٨١٠٦) . (٢) سورة التوبة: ١٤. وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ (١) . يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ (٢) . وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) . وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) . قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ (٥) . قال: فكتبتها ثم حللتها بالماء وسقيته إياها فكأنما نشط من عقال، أو كما قال: وانظر رقية اللديغ ب (الفاتحة) وما فيها من السر البديع والبرهان الرفيع. وتأمل قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى بعض أدعيته: (وأن تجعل القرآن ربيع قلبى وجلاء حزنى، وشفاء صدرى) (٦)فيكون له بمنزلة الدواء الذى يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله. وفى حديث عند ابن ماجه مرفوعا: (خير الدواء القرآن) (٧) . وها هنا أمر ينبغى أن يتفطن له، نبه عليه ابن القيم: وهو أن الآيات والأذكار والأدعية التى يستشفى بها، ويرقى بها، هى فى نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعى قبول المحل، وقوة همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء __________ (١) سورة يونس: ٥٧. (٢) سورة النحل: ٦٩. (٣) سورة الإسراء: ٨٢. (٤) سورة الشعراء: ٨٠. (٥) سورة فصلت: ٤٤. (٦) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (١/ ٣٩١ و ٤٥٢) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٩٧٢) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٦٩٠) ، من حديث عبد اللّه بن مسعود- رضى اللّه عنه-، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد اللّه عن أبيه، فإنه مختلف فى سماعه عن أبيه. ا. هـ. وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح. (٧) أخرجه ابن ماجه (٣٥٠١ و ٣٥٣٣) فى الطب، باب: الاستشفاء بالقرآن، من حديث على- رضى اللّه عنه-، وقال البوصيرى فى (الزوائد) : فى إسناده الحارث الأعور، وهو ...... كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المحل المنفعل، أو لمانع قوى فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء كما يكون ذلك فى الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون المانع قوى يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان الدواء فى نفس فعالة، وهمة مؤثرة أثر فى إزالة الداء. وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب فى رفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه، إما لضعفه فى نفسه بأن يكون دعاء لا يجيبه اللّه لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على اللّه وجمعيته عليه وقت الدعاء، وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغافلة والسهو واللّهو، وقد روى الحاكم حديث: (واعلموا أن اللّه لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه) (١) . ومن أنفع الأدوية الدعاء، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وإذا جمع من الدعاء حضور القلب، والجمعية بالكلية على المطلوب، وصادف وقتا من أوقات الإجابة كثلث الليل الأخير، مع الخضوع والانكسار، والذل والتضرع، واستقبال القبلة، والطهارة ورفع اليدين، والبداءة بالحمد والثناء على اللّه تعالى، والصلاة والتسليم على سيدنا محمد-صلى اللّه عليه وسلم- بعد التوبة والاستغفار والصدقة، واللح فى المسألة، وأكثر التملق والدعاء، والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، والتوجه إليه بنبيه- صلى اللّه عليه وسلم- فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا، لا سيما إن دعاه بالأدعية التى أخبر- صلى اللّه عليه وسلم- أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم. ولا خلاف فى مشروعية الفزع إلى اللّه تعالى، والالتجاء إليه فى كل ما ينوب الإنسان. __________ (١) حسن: أخرجه الترمذى (٣٤٧٩) فى الدعوات، باب: فى جامع الدعوات عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٦٧٠) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. وأما الرقى (١) ، فاعلم أن الرقى بالمعوذات من أسماء اللّه تعالى، هو الطب الروحانى، وإذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن اللّه تعالى، لكن لما عزّ هذا النوع، فزع الناس إلى الطب الجسمانى. وفى البخارى، من حديث عائشة، (أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان ينفث على نفسه فى المرض الذى مات فيه بالمعوذات وهى الفلق والناس والإخلاص) (٢) فيكون من باب التغليب، أو المراد الفلق والناس. وكذلك كل ما ورد فى التعويذ فى القرآن، كقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٣) . وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائى من حديث ابن مسعود: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يكره عشر خصال، فذكر منها الرقى إلا بالمعوذات (٤) ، ففى سنده عبد الرحمن بن حرملة، قال البخارى: لا يصح حديثه. وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالإذن فى الرقية بالفاتحة. وأما حديث أبى سعيد عند النسائى: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فأخذ بهما وترك ما سواهما (٥) ، وحسنه __________ (١) الرقى: جمع رقية، وهى العوذة، أى الاعتياذ من جنون أو مرض، وأصل العوذ: اللجوء والاعتصام ولا يكون ذلك إلا باللّه عز وجل، ولا يكون ذلك إلا بكلمات نافعة وردت فى كتابه أو على لسان رسوله- صلى اللّه عليه وسلم-. (٢) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (٥٧٣٥) فى الطب، باب: الرقى والقرآن والمعوذات، ومسلم (٢١٩٢) فى السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) سورة المؤمنون: ٩٧. (٤) أخرجه أبو داود (٤٢٢٢) فى الخاتم، باب: ما جاء فى خاتم الذهب، والنسائى (٨/ ١٤١) فى الزينة، باب: الخضاب بالصفرة، وأحمد فى (المسند) (١/ ٣٨٠) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/٢١٦) قلت: ولم يرو هذا الحديث عن عبد اللّه بن مسعود إلا عبد الرحمن بن حرملة، ولم يرو عبد الرحمن بن حرملة إلا عن ابن أخيه القاسم بن حسان، وكلاهما جهلهما الحافظ ابن حجر فى (التقريب) ، حيث قال عند كل واحد منها: مقبول، وهى تعنى عنده الجهالة. (٥) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٠٥٨) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقية بالمعوذتين، والنسائى (٨/ ٢٧١) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من عين الجان، وابن ماجه (٣٥١١) فى الطب، باب: من استرقى من العين. الترمذى، فلا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل على الأولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما. وإنما اجتزأ بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا. وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: - أن تكون بكلام اللّه تعالى، أو بأسمائه وصفاته. - وباللسان العربى، أو بما يعرف معناه من غيره. - وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير اللّه تعالى. واختلفوا فى كونها شرطا، والراجح أنه لا بد من اعتبارها. وفى صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك: كنا نرقى فى الجاهلية، فقلنا يا رسول اللّه، كيف ترى فى ذلك؟ ف قال: (اعرضوا على رقاكم، لا بأس بالرقى إذا لم يكن فيه شرك) (١) . وله من حديث جابر: (نهى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم، فقالوا: يا رسول اللّه، إنها كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب، قال: (فاعرضوها على) ، قال: فعرضوا عليه، قال: (ما أرى بأسا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه) (٢) وقد تمسك قوم بهذا العموم، فأجازوا كل رقية جربت منفعتها، ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقى يؤدى إلى الشرك فإنه يمتنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدى إلى الشرك فيمنع احتياطا. والشرط الأخير لا بد منه. وقال قوم: لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة، لحديث عمران بن حصين: (لا رقية إلا من عين أو حمة) (٣) . وأجيب: بأن معنى الحصر فيه __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٠٠) فى السلام، باب: لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، وأبو داود (٣٨٨٦) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢١٩٩) فى السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، وابن ماجه (٣٥١٥) فى الطب، باب: ما رخص فيه من الرقى. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٧٠٥) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره، وهو عند مسلم (٢٢٠) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب من حديث بريدة- رضى اللّه عنه-. أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مسّ ونحو ذلك، لا شتراكهما فى كونهما ينشان عن أحوال شيطانية من إنس أو جن، ويلحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية. وقد وقع عند أبى داود من حديث أنس مثل حديث عمران وزاد: (أو دم) (١) وفى مسلم من حديث أنس أيضا (رخص رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الرقى من العين والحمة والنملة)(٢) وفى حديث آخر (والأذن) (٣) ، ولأبى داود من حديث الشفاء بنت عبد اللّه أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (ألا تعلمين هذه- يعنى حفصة- رقية النملة؟) (٤) . والنملة: قروح تخرج فى الجنب وغيره من الجسد. وقيل: المراد بالحصر يعنى الأفضل، أى لا رقية أنفع، كما قيل: لا سيف إلا ذو الفقار، وقال قوم: المنهى عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكر ابن عبد البر والبيهقى وغيرهما. وروى أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم عن ابن مسعود، رفعه (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) (٥) . والتمائم: جمع تميمة وهى خرزة أو قلادة تعلق فى الرأس، كانوا فى الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات. والتولة: بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا- شئ كانت المرأة تستجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع __________ (١) أخرجه أبو داود (٣٨٨٩) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى . (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢١٩٦) فى السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة. (٣) لم أقف على زيادة (والأذن) . (٤) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (٣٨٨٧) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى، وأحمد فى (المسند) (٦/ ٣٧٢). (٥) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٨٨٣) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى، وابن ماجه (٣٥٣٠) فى الطب، باب: تعليق التمائم، وأحمد فى (المسند) (١/ ٣٨١) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/٤٦٣) ، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهو كما قال. المضار وجلب المنافع من عند غير اللّه، ولا يدخل فى ذلك ما كان بأسماء اللّه وكلامه. فقد ثبت فى الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه، كما سيأتى- إن شاء اللّه تعالى-. ولا خلاف فى مشروعية الفزع إلى اللّه سبحانه وتعالى، والالتجاء إليه سبحانه فى كل ما يقع وكل ما يتوقع. وقال بعضهم: المنهى عنه من الرقى هو الذى يستعمله المعزم وغيره ممن يدعى تسخير الجن له، فيأتى بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل، يجمع إلى ذكر اللّه تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم، والتعوذ من مردتهم، ويقال إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بنى آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذلك اللديغ إذا رقى بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر اللّه وأسمائه خاصة، وباللسان العربى الذى يعرف معناه ليكون بريئا من الشرك. وعلى كراهة الرقى بغير كتاب اللّه علماء الأمة. وقال القرطبى: الرقى ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان يرقى به فى الجاهلية، مما لا يعقل معناه، فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدى إلى الشرك. الثانى: ما كان بكلام اللّه أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورا فيستحب. الثالث: ما كان بأسماء غير اللّه من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذى يتضمن الالتجاء إلى اللّه تعالى به والتبرك بأسمائه، فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغى أن يجتنب كالحلف بغير اللّه تعالى. وقال الربيع (١) : سألت الشافعى عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب اللّه تعالى، وبما يعرف من ذكر اللّه تعالى. فقلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب اللّه وبذكر اللّه. انتهى. __________ (١) هو: الربيع بن سليمان، أبو محمد المرادى، مولاهم المصرى، صاحب الإمام الشافعى، وناقل علمه، أفنى عمره فى العلم ونشره، مات فى شوال سنة ٢٧٠ هـ. وفى الموطأ: أن أبا بكر قال لليهودية التى كانت ترقى عائشة: ارقيها بكتاب اللّه (١) . قال النووى وقال القاضى عياض: واختلف قول مالك فى رقية اليهودى والنصرانى المسلم، وبالجواز قال الشافعى واللّه أعلم. وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط، والذى يكتب خاتم سليمان، و قال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم. رقية الذى يصاب بالعين:روى مسلم عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (العين حق، ولو كان شئ سابق القدر لسبقته العين) (٢) . أى الإصابة بالعين شئ ثابت موجود، وهى من جملة ما تحقق كونه. قال المازرى: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى، لأن كل شئ ليس محالا فى نفسه، ولا يؤدى إلى قلب حقيقة، ولا إلى فساد دليل، فهو من مجوزات العقول. فإذا أخبر الشارع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى. وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة. وقد استشكل بعض الناس هذه الإصابة ف قال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟ وأجيب: بأن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن فى الهواء إلى بدن المعيون، وقد نقل عن بعض من كان معيانا أنه قال: إذا رأيت شيئا يعجبنى وجدت حرارة تخرج من عينى. ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها فى إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد. ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد. وقال المازرى: زعم بعض الطبائعيين أن العائن تنبعث من عينيه قوة __________ (١) أخرجه مالك فى (الموطأ) (٢/ ٩٤٣) بسند منقطع بين عمرة بنت عبد الرحمن الراوية للقصة لأنها لم تدرك أبا بكر- رضى اللّه عنه-، إلا أنها من أحد الثقات فى عائشة، فلعلها سمعته منها. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢١٨٨) فى السلام، باب: الطب والمرض والرقى. سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد. وهو كإصابة السم من نظر الأفعى، وأشار إلى منع الحصر فى ذلك مع تجويزه. وإن الذى يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها اللّه تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص آخر، وهل ثم جواهر حقيقة أو لا؟ هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه. ومن قال ممن ينتمى إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بالقطع بأن ثم جواهر لطيفة غير مرئية تنبعث من العائن فتتصل بالمعيون، وتتخلل مسام جسمه، فيخلق البارى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم فقد أخطأ بدعوى القطع، ولكنه جائز أن تكون عادة ليست ضرورية ولا طبيعية، انتهى. وهو كلام سديد. وليس المراد بالتأثير المعنى الذى تذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى اللّه به العادة من حصول الضرر للمعيون. وقد أخرج البزار بسنده عن جابر رفعه: (أكثر من يموت بعد قضاء اللّه وقدره بالنفس) (١) . قال الراوى: يعنى العين. وقد أجرى اللّه تعالى العادة بوجود كثير من القوى والخواص فى الأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيرى فى وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه. وكثير من الناس يسقم بمجرد النظر إليه وتضعف قواه. وكل ذلك بواسطة ما خلق اللّه تعالى فى الأرواح من التأثيرات لشدة ارتباطها بالعين، وليست هى المؤثرة، وإما التأثير للروح، والأرواح مختلفة فى طبائعها وكيفياتها وخواصها، فمنها ما يؤثر فى البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة. والحاصل: أن التأثير بإرادة اللّه تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتصال الجسمانى، بل يكون تارة به، وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية، وأخرى بتوجه الروح، كالذى يحدث من الأدعية والرقى والالتجاء إلى اللّه __________ (١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ١٠٦) وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح خلا طالب بن حبيب بن عمرو، وهو ثقة. تعالى، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذى يخرج من عين العائن سهم معنوى، إن صادف البدن- لا وقاية له- أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم بل ربما عاد على صاحبه كالسهم الحسى. انتهى ملخصا من فتح البارى وغيره. قال ابن القيم: والغرض العلاج النبوى لهذه العلة، فمن التعوذات والرقى: الإكثار من قراءة المعوذتين والفاتحة وآية الكرسى، ومنها التعوذات النبوية نحو: أعوذ بكلمات اللّه التامة من شر كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامة. ونحو: أعوذ بكلمات اللّه التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ فى الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان (١) . وإذا كان يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين فليدفع شرها بقوله: اللّهم بارك عليه. كما قال- صلى اللّه عليه وسلم- لعامر بن ربيعة لما عاين سهل بن حنيف: (ألا برّكت عليه) (٢) . ومما يدفع به إصابة العين: قول ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه (٣) . ومنها رقية جبريل للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- كما رواه مسلم: (بسم اللّه أرقيك من شر كل شئ يؤذيك، من شر كل ذى نفس أو عين حاسد. اللّه يشفيك، __________ (١) قلت: قد ورد هذا الدعاء مرفوعا، من حديث خالد بن الوليد، وقد رواه الطبرانى فى الأوسط وفيه زكريا بن يحيى بن أيوب الضرير المدائنى ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ١٢٦) ، وأورده أيضا فى (١٠/ ١٢٧) من حديث عبد الرحمن بن حنيش- رضى اللّه عنه- وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبرانى بنحوه، ورجال أحد إسنادى أحمد وأبى يعلى وبعض أسانيد الطبرانى رجال الصحيح وكذا رجال الطبرانى، وفى المصدر السابق أيضا عن عبد اللّه بن مسعود- رضى اللّه عنه-، وقال: رواه الطبرانى فى الصغير، وفيه من لم أعرفه. (٢) صحيح: وقد ورد ذلك عند مالك فى (الموطأ) (٢/ ٩٣٨) فى أول كتاب العين بسند رجاله ثقات، وانظر ابن ماجه (٣٥٠٩) فى الطب، باب: العين. (٣) لعله يشير إلى قول الرجل الصالح فى سورة الكهف: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللّه لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللّه الآية: ٣٩. بسم اللّه أرقيك) (١) . وعنده أيضا من حديث عائشة: كان جبريل يرقى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إذا اشتكى: بسم اللّه يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر كل حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذى عين (٢) . وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه: (العين حق، ولو كان شئ سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) (٣) . وظاهر الأمر الوجوب، وحكى فيه المازرى خلافا وصحح الوجوب، وقال: متى خشى الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجب بذل الطعام للمضطر، وهذا أولى. ولم يبين فى حديث ابن عباس صفة الاغتسال. قال الحافظ ابن حجر: وقد وقعت فى حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائى وصححه ابن حبان من طريق الزهرى عن أبى أمامة بن سهل (٤) : أن أباه حدثه أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الحرار من الجحفة، اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة ف قال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة (٥) ، فلبط سهل- أى صرع- وسقط إلى الأرض. فأتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: (هل تتهمون من أحد؟) قالوا: عامر بن ربيعة، فدعا عامرا، فتغيظ عليه، فقال: (علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برّكت) . ثم قال: اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره فى قدح، ثم صب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره، ثم كفأ القدح ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس (٦) . __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٢١٨٦) فى السلام، باب: الطب والمرض والرقى. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢١٨٥) فيما سبق. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢١٨٨) فيما سبق، وقد تقدم. (٤) ما بين المعقوفتين مستدرك من (فتح البارى) للحافظ ابن حجر (١٠/ ٢٥٠) . (٥) المخبأة: الفتاة فى خدرها، وهو كناية عن شدة بياضه. (٦) صحيح: وقد تقدمت القصة، وهى عند ابن ماجه (٣٥٠٩) كما تقدم. قال المازرى: المراد ب (داخلة إزاره) الطرف المتدلى الذى يلى حقوه الأيمن، قال: وظن بعضهم أنه كناية عن الفرج. انتهى. وزاد القاضى عياض: أن المراد ما يلى جسده من الإزار. وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد، وقيل أراد وركه لأنه معقد الإزار. رأيت مما عزى لخط شيخنا الحافظ أبى الخير السخاوى: قال ابن بكير عن مالك: أنه كناية عن الثوب الذى يلى الجسد. وقال ابن الأثير فى النهاية: كان من عادتهم أن الإنسان إذا أصابته عين من أحد جاء للعائن بقدح فيه ماء فيدخل كفه فيه فيتمضمض ثم يمجه فى القدح ثم يغسل وجهه فيه، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على يده اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على يده اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب علي قدمه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخلة إزاره ولا يوضع القدح بالأرض، ثم يصب ذلك الماء المستعمل على رأس المصاب بالعين من خلفه صبة واحدة فيبرأ بإذن اللّه تعالى، انتهى. قال المازرى: وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه. وقال ابن العربى: إن توقف فيه متشرع قلنا له: قل اللّه ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة، أو متفلسف؛ فالرد عليه أظهر، لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله: الخواص. قال ابن القيم: ومن علاج ذلك والاحتراز منه، ستر محاسن من يخاف عليه العين، بما يردها عنه، كما ذكره البغوى فى كتاب شرح السنة: أن عثمان بن عفان رأى صبيّا مليحا، ف قال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين، ثم قال فى تفسيره، ومعنى دسموا نونته: أى سودوا نونته، والنونة: النقرة التى تكون فى ذقن الصغير (١) . __________ (١) انظر ذلك فى (شرح السنة) (١٣/ ١١٦) للإمام البغوى. وذكر عن أبى عبد اللّه الساجى أنه كان فى بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة، فكان فى الرقة رجل عائن قل ما نظر إلى شئ إلا أتلفه، فقيل لأبى عبد اللّه: احفظ ناقتك من العائن، فقال ليس له إلى ناقتى سبيل، فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبى عبد اللّه، فجاء إلى رحله فنظر إلى الناقة فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد اللّه فأخبر أن العائن قد عانها وهى كما ترى. ف قال: دلونى عليه، فوقف عليه فقال: بسم اللّه حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير. فخرجت حدقتا العائن وقامت الناقة لا بأس بها) . انتهى. وفى حديث هذا الباب من الفوائد: أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح، وأن الذى يعجبه الشئ يبادر إلى الدعاء للذى يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الإصابة بالعين قد تقتل. عقوبة العائن:وقد اختلف فى جريان القصاص بذلك: فقال القرطبى: لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو فى ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا. انتهى. ولم تتعرض الشافعيةللقصاص فى ذلك، بل منعوه وقالوا: إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا. و قال النووى فى (الروضة) : ولا دية فيه ولا كفارة، لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام، دون ما يختص ببعض الناس وبعض الأحوال مما لا انضباط لها، كيف ولم يقع منه فعل __________ (١) قلت: وقد ذكر أيضا هذه القصة ابن القيم فى (زاد المعاد) (٤/ ١٧٤) بتحقيقنا، ولم يعقب عليها. أصلا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال النعمة، وأيضا: فالذى ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه فى زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين، انتهى. قال الحافظ ابن حجر: ولا يعكر عليه إلا الحكم بقتل الساحر، فإنه فى معناه، والفرق بينهما عسر. ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم: أنه ينبغى للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس، وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذى منعه عمر من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم الذى منع الشارع أكله من حضور الجماعة. قال النووى: وهذا القول صحيح متعين لا يعرف من غيره تصريح بخلافه. ذكر رقية النبى ص التى كان يرقى بهاعن عبد العزيز قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا أبا حمزة اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-؟ قال: بلى، قال: قل اللّهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافى لا شافى إلا أنت، شفاء لا يغادر سقما (١) . رواه البخارى. وقوله: (مذهب الباس) : بغير همزة للمواخاة، أصله الهمز. وفى قوله (لا شافى إلا أنت) إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوى إن لم يصادف تقدير اللّه وإلا فلا ينجع. وقوله (لا يغادر- بالعين المعجمة- أى لا يترك) . وفى البخارى أيضا عن مسروق عن عائشة أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: (اللّهم رب الناس أذهب الباس، واشفه وأنت الشافى لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما) (٢) . وقوله (يمسح يده) أى على الوجع. وقوله (إلا شفاؤك) بالرفع بدل من موضع: لا شفاء. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٧٤٢) فى الطب، باب: رقية النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٥٧٤٣) فى الطب، باب: رقية النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وعن عائشة- رضى اللّه عنها- أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يرقى ويقول: (امسح الباس رب الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت) (١) . رواه البخارى أيضا. وفى صحيح مسلم، عن عثمان بن أبى العاص، أنه شكا إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وجعا يجده فى جسده منذ أسلم، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (ضع يدك على الذى تألم من جسدك وقل: بسم اللّه، ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة اللّه وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) (٢) . وإنما كرره ليكون أنجح وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة. ذكر طبه ص من الفزع والأرق المانع من النوم:عن بريدة قال: شكا خالد إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: يا رسول اللّه، ما أنام الليل من الأرق، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إذا أويت إلى فراشك فقل: اللّهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت، كن لى جارا من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط على أحد منهم أو يبغى على، عزّ جارك، وجل ثناؤك ولا إله غيرك) (٣) رواه الترمذى. ذكر طبه ص من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى اللّه تعالى:فى المسند مرفوعا: (ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون، اللّهم آجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرا منها، إلا آجره اللّه فى مصيبته وأخلف له خيرا منها) (٤) . قال فى الهدى النبوى (٥) : وهذه الكلمة __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٧٤٤) فيما سبق. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٠٣) فى السلام، باب: استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء. (٣) أخرجه الترمذى (٣٥٢٣) فى الدعوات، باب: منه، وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوى، والحكم بن ظهير قد ترك حديثه بعض أهل الحديث ويروى هذا الحديث عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مرسلا من غير هذا الوجه. (٤) صحيح: أخرجه أحمد (٦/ ٣١٧ و ٣٢١) ، وهو عند مسلم (٩١٨) فى الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة، من حديث أم سلمة- رضى اللّه عنها-. (٥) يقصد (زاد المعاد فى هدى خير العباد) ، وانظر هذا النقل عنده فى (٤/ ١٨٩) . من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له فى عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن المصيبة: أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك للّه عز وجل حقيقة، وقد جعله اللّه عند العبد عارية، فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير. الثانى: أن مصير العبد ومرجعه إلى اللّه [مولاه الحق] ، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجئ ربه فردا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد ونهايته فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء. قال: ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسى بأهل المصائب، وأنه لو فتش العالم لم ير فيه إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، وإن سرور (١) الدنيا أحلام نوم، أو ظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما أساءت دهرا، وإن متعت قليلا منعت طويلا، وما ملأت دارا حبرة (٢) إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور، إلا خبأت له يوم شرور. قال ابن مسعود: لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحا إلا ملئ ترحا. ذكر طبه ص من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب:عن ابن عباس أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا اللّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللّه رب السموات ورب العرش الكريم)(٣) . وقوله (عند الكرب) أى عند حلول الكرب. وعند مسلم: كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب. وعنده أيضا: __________ (١) فى مطبوع (زاد المعاد) (٤/ ١٩٠) (شرور) وهى هنا أصوب. (٢) فى مطبوع (زاد المعاد) (٤/ ١٩٠) (خيرة) وهى هنا أصوب. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٣٤٥ و ٦٣٤٦) فى الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، ومسلم (٢٧٣٠) فى الذكر والدعاء، باب: دعاء الكرب. (كان إذا حزبه أمر) - وهى بفتح المهملة والزاى وبالموحدة- أى هجم عليه أو غلبه. قال الطبرى: معنى قول ابن عباس (يدعو) ، وإنما هو تهليل وتعظم، يحتمل أمرين: أحدهما، أن المراد تقديم ذلك قبل الدعاء، كما عند عبد بن حميد (كان إذا حزبه أمر قال ... ) فذكر الذكر المأثور، وزاد: ثم دعا. قال الطبرى: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب له، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. ثانيهما: ما أجاب به ابن عيينة وقد سئل عن الحديث الذى فيه (أكثر ما كان يدعو به النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعرفة: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له) (١) الحديث. فقال سفيان: هو ذكر وليس فيه دعاء، ولكن قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عن ربه عز وجل: من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين (٢) . وقال أمية ابن أبى الصلت فى مدح عبد اللّه بن جدعان: أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إن شبمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضك الثناء فهذا مخلوق حين نسبه إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال، فكيف بالخالق. ثم إن حديث ابن عباس هذا- كما قاله ابن القيم- قد اشتمل على توحيد الإلهية والربوبية ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز، ووصفه __________ (١) وقد ورد ذلك فى حديث ..... أخرجه أحمد فى (المسند) (٢/ ٢١٠) من حديث عبد اللّه بن عمرو- رضى اللّه عنهما-. (٢) أخرجه الترمذى (٢٩٢٦) فى فضائل القرآن، باب: رقم (٢٤) ، والدارمى فى (سننه) (٣٣٥٦) ، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-. بكمال ربوبيته الشاملة للعالم العلوى والسفلى والعرش الذى هو سقف المخلوقات وأعظمها، والربوبية التامة تستلزم توحيده، وأنه الذى لا تنبغى العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له، وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له، وسلب كل نقص وتمثيل عنه، وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه. فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوى نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسى، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى. ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى تضمنها هذا الحديث وجدته فى غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخرج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور. وإنما يصدق هذه الأمور من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها. قال ابن بطال حدثنى أبو بكر الرازى قال: كنت بأصبهان عند أبى نعيم فقال له شيخ: إن أبا بكر بن على قد سعى به إلى السلطان فسجن، فرأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قل لأبى بكر بن على يدعو بدعاء الكرب الذى فى صحيح البخارى (١) حتى يفرج اللّه عنه، قال: فأصبحت فأخبرته فدعا به، فلم يمكث إلا قليلا حتى أخرج. وفى حديث على عند النسائى وصححه الحاكم: لقننى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- هذه الكلمات وأمرنى إن نزل بى كرب أو شدة أن أقولها: (لا إله إلا اللّه الكريم العظيم، سبحان اللّه تبارك اللّه رب العرش العظيم، والحمد للّه رب العالمين) وفى لفظ: (الحليم الكريم) فى الأولى، وفى لفظ لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له العليم العلى العظيم، لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له __________ (١) هو حديث ابن عباس المتقدم قبل قليل. الحليم الكريم، وفى لفظ لا إله إلا اللّه الحليم الكريم سبحانه، تبارك وتعالى رب العرش العظيم، الحمد للّه رب العالمين (١) . أخرجها كلها النسائى. وروى الترمذى عن أبى هريرة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا أهمه أمر رفع طرفه إلى السماء ف قال: (سبحان اللّه العظيم) وإذا اجتهد فى الدعاء
قال: (يا حى يا قيوم) (٢) وعنده أيضا من حديث أنس: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر قال: (يا حى يا قيوم، بك أستغيث) (٣) . قال العلامة ابن القيم: وفى تأثير قوله: (يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث) فى دفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإن صفة (الحياة) متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة (القيومية) متضمنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا كان اسم اللّه الأعظم الذى إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى هو اسم الحى القيوم، والحياة التامة تضاد جميع الآلام والأسقام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقها هم ولا غم ولا حزن ولا شئ من الآفات. فالتوسل بصفة (الحياة والقيومية) له تأثير فى إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال. فلهذا الاسم (الحى القيوم) تأثير عظيم خاص فى إجابة الدعوات وكشف الكربات. ولهذا كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا اجتهد فى الدعاء قال: يا حى يا قيوم. وروى أبو داود عن أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنه-، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (دعوات المكروب: اللّهم رحمتك أرجو فلا تكلنى إلى نفسى طرفة __________ (١) صحيح: أخرجه النسائى فى (الكبرى) (٧٦٧٣ و ٧٦٧٧ و ٧٦٧٨ و ٨٤١٠- ٨٤١٥ و ١٠٤٦٣- ١٠٤٨٢) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٦٨٨ و ٦٨٩) و (٣/ ١٤٩) وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين. اهـ. قلت: وهو فى الصحيحين بنحوه، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٢) جدّا: أخرجه الترمذى (٣٤٣٦) فى الدعوات، باب: ما جاء ما يقول عند الكرب. (٣) أخرجه الترمذى (٣٥٢٤) فى الدعوات، والنسائى فى (الكبرى) (٧٦٨٢ و ٧٦٨٣ و ١٠٤٤٨) ، وأبو يعلى فى (مسنده) (٦٥٤٥) بسند ...... عين، وأصلح لى شأنى كله، لا إله إلا أنت) (١) . وفى هذا الدعاء- كما قاله فى زاد المعاد- من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيده، والاعتماد عليه وحده، وتفويض الأمر إليه والتضرع إليه أن يتولى إصلاح شأنه ولا يكله إلى نفسه، والتوسل إليه بتوحيده، مما له تأثير فى دفع هذا الداء. وكذا قوله فى حديث أسماء بنت عميس عند أبى داود أيضا مرفوعا: (كلمات الكرب: اللّه ربى لا أشرك به شيئا) (٢) . وفى مسند الإمام أحمد من حديث ابن مسعود عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: ما أصاب عبدا همّ ولا حزن ف قال: (اللّهم إنى عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتى بيدك، ماض فىّ حكمك عدل فىّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك أو أعلمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبى، ونور صدرى، وجلاء حزنى، وذهاب همى، إلا أذهب اللّه همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا) (٣) . وإنما كان هذا الدعاء بهذه المنزلة لاشتماله على الاعتراف بعبودية الداعى وعبودية آبائه وأمهاته، وأن ناصيته بيده، يصرفها كيف يشاء، وإثبات القدر، وأن أحكام الرب نافذة فى عبده، ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له فى دفعها، وأنه سبحانه وتعالى عدل فى هذه الأحكام غير ظالم لعبده، ثم __________ (١) حسن: أخرجه أبو داود (٥٠٩٠) فى الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، وأحمد فى (مسنده) (٥/ ٤٢) ، والبخارى فى (الأدب المفرد) (٧٠١) والحديث من طريق عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبى فلعل بكرة تصحفت عنده لبكر ثم أضاف من أضاف من عنده الصديق باعتباره أبى بكر الصديق، ولعل ذلك نتيجة نقله من الإمام ابن القيم فى (زاد المعاد) حيث وقع فى نفس الوهم- رحمهما اللّه-. (٢) صحيح: أخرجه أبو داود (١٥٢٥) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار، والنسائى فى (الكبرى) (١٠٤٨٤) ، وابن ماجه (٢٨٨٢) فى الدعاء، باب: الدعاء عند الكرب . (٣) صحيح: وقد تقدم. توسله بأسماء الرب تعالى التى سمى بها نفسه، ما علم العباد منها، وما لم يعلموا، ومنها ما استأثر به فى علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيّا مرسلا، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى اللّه، وأقربها تحصيلا للمطلوب، ثم سؤاله أن يجعل القرآن لقلبه ربيعا، أى كالربيع الذى يرتع فيه الحيوان، وأن يجعله لصدره كالنور الذى هو مادة الحياة، وبه يتم معاش العباد وأن يجعله شفاء همه وغمه فيكون بمنزلة الدواء الذى يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذى يجلو الطبوع (١) والأصدية، فإذا صدق العليل فى استعما لهذا الدواء أعقبه شفاء تامّا. وفى سنن أبى داود، عن أبى سعيد الخدرى قال: دخل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، ف قال: (يا أبا أمامة ما لى أراك فى المسجد فى غير وقت الصلاة) ف قال: هموم لزمتنى وديون يا رسول اللّه، ف قال: (ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب اللّه عز وجل همك، وقضى دينك) قال: قلت: بلى يا رسول اللّه، قال: (قل إذا أصبحت وإذا أمسيت، اللّهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) قال: ففعلت ذلك فأذهب اللّه همى، وقضى دينى (٢) . وقد تضمن هذا الحديث الاستعاذة من ثمانية أشياء، كل اثنين منها قرينان مزدوجان: فالهم والحزن أخوان، والجبن والبخل أخوان، والعجز والكسل أخوان وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان، فحصلت الاستعاذة من كل شر. __________ (١) الطبوع: جمع طبع، وهى السجية التى جبل عليها الإنسان، كما تأتى بمعنى الدنس والصدأ، ولعلها المقصودة هنا. (٢) أخرجه أبو داود (١٥٥٥) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة وفى إسناده غسان بن عوف، هو البصرى، قال عنه الحافظ فى (التقريب) : لين الحديث. وفى سنن أبى داود- أيضا- عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من لزم الاستغفار جعل اللّه له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب) (١) . وإنما كان الاستغفار له تأثيرا فى دفع الهم والضيق لأنه قد اتفق أهل الملل وعقلاء كل ملة على أن المعاصى والفساد يوجبان الهم والغم والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب، وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام فى القلوب فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار. وعن ابن عباس عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (من كثرت همومه فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا باللّه) . وثبت فى الصحيحين أنها كنز من كنوز الجنة (٢) ، وفى الترمذى: أنها باب من أبواب الجنة (٣) ، وفى بعض الآثار: أنه ما ينزل ملك من السماء ولا يصعد إلا بلا حول ولا قوة إلا باللّه. وروى الطبرانى من حديث أبى هريرة: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (ما كربنى أمر إلا تمثل لى جبريل فقال لى: يا محمد قل توكلت على الحى الذى لا يموت، والحمد للّه الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك، ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا). وفى كتاب ابن السنى من حديث أبى قتادة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (من قرأ آية الكرسى وخواتيم سورة البقرة عند __________ (١) أخرجه أبو داود (١٥١٨) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار، وابن ماجه (٣٨١٩) في الأدب، باب: الاستغفار وأحمد فى (المسند) (١/ ٢٤٨) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٢٩١) ، بسند فيه الحكم بن مصعب، قال عنه الحافظ ابن حجر فى (التقريب) مجهول، وهو كما قال، وليس له إلا حديثين أحدهما ليس له أصل، والثانى مثله بهذا اللفظ، والراوى عنه الوليد بن مسلم، وهو ما فيه. (٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٦٣٨٤) فى الدعوات، باب: الدعاء إذا علا عقبة، ومسلم (٢٧٠٤) فى الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، من حديث أبى موسىالأشعرى- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٥٨١) فى الدعوات، باب: فى فضل لا حول ولا قوة إلا باللّه، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٤٢٢) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٣٢٣) من حديث سعد بن عباد، - رضى اللّه عنه-، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. اهـ. قال: قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج اللّه عنه، كلمة أخى يونس: فنادى فى الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين) (١) . وعندالترمذى: (لم يدع بها رجل مسلم فى شئ قط إلا استجيب له) (٢) . وروى الديلمى فى مسند الفردوس، عن جعفر بن محمد- يعنى الصادق- قال: حدثنى أبى عن جدى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر دعا بهذا الدعاء: (اللّهم احرسنى بعينك التى لا تنام، واكنفنى بكنفك الذى لا يرام، وارحمنى بقدرتك على فلا أهلك وأنت رجائى، فكم من نعمة أنعمت بها على قلّ لك بها شكرى، وكم من بلية ابتليتنى بها قلّ لك بها صبرى، فينا من قلّ عند نعمته شكرى فلم يحرمنى، ويا من قلّ عند بليته صبرى فلم يخذلنى، ويا من رآنى على الخطايا فلم يفضحنى، يا ذا المعروف الذى لا ينقضى أبدا، ويا ذا النعمة التى لا تحصى عددا، أسألك أن تصلى على محمد وعلى آل محمد وبك أدرأ فى نحور الأعداء والجبارين، اللّهم أعنى على دينى بالدنيا، وعلى آخرتى بالتقوى واحفظنى فيما غبت عنه، ولا تكلنى إلى نفسى فيما حظرته على، يا من لا تضره الذنوب، ولا ينقصه العفو، هب لى ما لا ينقصك، واغفر لى ما لا يضرك، إنك أنت الوهاب، أسألك فرجا قريبا وصبرا جميلا، ورزقا واسعا، والعافية من البلايا، وشكر العافية- وفى رواية: وأسألك الشكر على العافية- وأسألك الغنى عن الناس، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم. __________ (١) رجاله ثقات: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٧/ ٦٨) و قال: رواه أحمد ورجال رجال الصحيح غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبى وقاص وهو ثقة. (٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٥٠٥) فى الدعوات، باب: رقم (٨٥) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٦٨٤ و ٦٨٥) و (٢/ ٦٣٧ و ٦٣٩). ذكر طبه ص من داء الفقر:عن ابن عمر: أن رجلا قال: يا رسول اللّه، إن الدنيا أدبرت عنى وتولت، قال له: (فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبه يرزقون، قل عند طلوع الفجر: سبحان اللّه وبحمده، سبحان اللّه العظيم، استغفر اللّه مائة مرة تأتيك الدنيا صاغرة) فولى الرجل فمكث ثم عاد ف قال: يا رسول اللّه لقد أقبلت على الدنيا فما أدرى أين أضعها. رواه الخطيب فى رواة مالك. ذكر طبه ص من داء الحريق:عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إذا رأيتم الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئه) (١) . فإن قلت ما وجه الحكمة فى إطفاء الحريق بالتكبير، أجاب صاحب زاد المعاد: بأنه لما كان الحريق سببه النار، وهى مادة الشيطان التى خلق منها، وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله، وكان للشيطان إعانة عليه وتنفيذ له، وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد، وهما هدى الشيطان، وإليهما يدعو، وبهما يهلك بنى آدم، فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو فى الأرض والفساد، وكبرياء اللّه تعالى تقمع الشيطان وفعله، فلهذا كان تكبير اللّه له أثر فى إطفاء الحريق، فإن كبرياء اللّه تعالى لا يقوم لها شئ، فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبره فى خمود النار التى هى مادة الشيطان. وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك. انتهى. وقد جربت ذلك بطيبة فى سنة خمس وتسعين وثمانمائة فوجدت له أثرا عظيما لم أجده لغيره. ولقد شاع وذاع رؤية طيور بحريق طيبة الواقع فى ثالث عشر رمضان سنة ست وثمانين وثمانمائة معلنة بالتكبير. وفيه يقول قاضى القضاة شمس الدين السخاوى: __________ (١) جدّا: أخرجه ابن السنى فى (عمل اليوم والليلة) (٢٨٩- ٢٩٢) ، وفى سنده القاسم بن عبد اللّه بن عمر بن حفص بن عاصم العمرى نسبة إلى عمر بن الخطاب، قال عنه الحافظ فى (التقريب) (٥٤٦٨) : متروك رماه أحمد بالكذب. فظن كلّ بأن النار تحرقه ... فما ترى من جواها غير منهزم فجاءت الطير روتها بأجنحة ... عن البيوت رآها غير متهم وقال أيضا فى قصيدة أخرى: فكل شخص تولى خائفا حذرا ... فجاءت الطير للنيران تطردها عن البيوت ولا يخفى لمن بصرا ذكر ما كان ص يطب به من داء الصرع:فى الصحيحين أن امرأة أتت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقالت: إنى أصرع، وإنى أتكشف، فادع اللّه لى، ف قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت اللّه لك أن يعافيك) فقالت: أصبر، قالت: فإنى أتكشف فادع اللّه أن لا أتكشف فدعا لها (١) . قال ابن القيم: الصرع صرعان، صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثانى هو الذى يتكلم فيه الأطباء. فأما علاج صرع الأرواح فيكون بأمرين: أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج، فالذى من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذى قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحا فى نفسه جيدا، وأن يكون الساعد قويّا. والثانى: من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا، حتى إن من المعالجين من يكتفى بقوله: اخرج منه، أو يقول: بسم اللّه الرحمن الرحيم، أو يقول: لا حول ولا قوة إلا باللّه. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٦٥٢) فى المرضى، باب: فصل من يصرع من الريح، ومسلم (٢٥٧٦) فى البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. قال: وقد كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (اخرج عدو اللّه أنا رسول اللّه) (١) وكان بعضهم يعالج ذلك باية الكرسى ويأمر بكثرة قراءتها للمصروع ومن يعالجه بها وبقراءة المعوذتين. قال: ومن حدث له الصرع وله خمسة وعشرون سنة وخصوصا بسبب دماغى أيس من برئه، وكذلك إذا استمر به إلى هذه السن. قال: فهذه المرأة التى جاء الحديث أنها تصرع وتتكشف يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بصبرها على هذا المرض بالجنة. ولقد جربت الإقسام بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- على اللّه تعالى (٢) مع قوله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ (٣) إلى آخر سورة الفتح فى ابنتين صغيرتين صرعتا فشفيتا. ومن الغريب قصة غزالة الحبشية خادمتنا لما صرعت بدرب الحجاز الشريف واستغثت به- صلى اللّه عليه وسلم-) فى ذلك، فجئ إلى بصارعها فى المنام بأمره- صلى اللّه عليه وسلم- فوبخته وأقسم أن لا يعود إليها، فاستيقظت وما بها قلبة ومن ثم لم يعد إليها فللّه الحمد. ذكر دوائه ص من داء السحر:قال النووى: السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد يكون __________ (١) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٤/ ١٧٠ و ١٧١) من حديث يعلى بن مرة- رضى اللّه عنه-، وهو عند ابن ماجه (٣٥٤٨) فى الطب، باب: الفزع والأرق وما يتعوذ منه، من حديث عثمان بن أبى العاص- رضى اللّه عنه-. (٢) قلت: الإقسام لا يكون إلا باللّه عز وجل، لا بنبى مرسل، ولا ملك مقرب، لحديث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من أراد أن يحلف فليحلف باللّه) . (٣) سورة الفتح: ٢٩. كفرا، وقد لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضى الكفر كفر، وإلا فلا، وأما تعليمه وتعلمه فحرام، وإذا لم يكن فيه ما يقتضى الكفر عزر فاعله واستتيب منه، ولا يقتل عندنا، وإن تاب قبلت توبته. وقال مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله. والمسألة مبنية على الخلاف فى قبول توبة الزنديق، لأن الساحر عنده كافر، كما ذكرناه، وعندنا: ليس بكافر (١) ، وعندنا تقبل توبة المنافق والزنديق. قال القاضى عياض: وبقول مالك قال أحمد بن حنبل وهو مروى عن جماعة من الصحابة والتابعين. قال أصحابنا: فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبا لزمه القصاص. فإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص وتجب الدية والكفارة، وتكون الدية فى ماله لا على عاقلته، لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجانى. قال أصحابنا: ولا يتصور ثبوت القتل بالسحر بالبينة، وإنما يتصور باعتراف الساحر. انتهى. واختلف فى السحر:
فقيل: هو تخييل فقط، ولا حقيقة له، وهو اختيار أبى جعفر الاستراباذى من الشافعية، وأبى بكر الرازى من الحنفية وطائفة. قال النووى: والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة. قال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلانى: لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال إنه تخييل فقط منع ذلك، والقائلون بأن له حقيقة اختلفوا: هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض، أو ينتهى إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه، فالذى عليه الجمهور هو الأول. __________ (١) قلت: الذى أعرفه عن الإمام الشافعى- رحمه اللّه- أنه لا يكفر الساحر، بل يتوقف فى أمره حتى يستبين له أن ما يأتيه سحر أم لا، حيث إن بعض الدجالين يأتون بأعمال ليست من السحر، فلا يكفرون بها، أما الساحر الحقيقى فكافر كما قال مالك وأحمد- رحمهما اللّه- مستدلين على ذلك بقول اللّه تعالى ... وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ... وليس بعد كلام اللّه كلام. وقال المازرى: جمهور العلماء على إثبات السحر، لأن العقل لا ينكر أن اللّه قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق، أو تركيب أجسام، أو مزج قوى على ترتيب مخصوص. ونظير ذلك ما وقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده فيصير بالتركيب نافعا. وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر اللّه فى قوله: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ (١) ، لكون المقام مقام تهويل. فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره اللّه تعالى. وقال المازرى: والصحيح من جهة العقل أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصّا فى منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة فى ذلك. ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة، أن السحر يكون معاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدى. ونقل إمام الحرمين: الإجماع على أن السحر لا يقع إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على يد فاسق. ونقل نحوه النووى فى (زيادة الروضة) عن المتولى. وينبغى أن يعتبر حال من يقع منه الخارق، فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا للموبقات، فإن الذى يظهر على يديه من الخوارق كرامة وإلا فهو سحر. وقال القرطبى: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجود تركيبها وأوقاتها، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك، كما قال تعالى عن سحرة فرعون وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (٢) مع أن حبالهم وعصيهم لم يخرجوها عن كونها حبالا وعصيّا. __________ (١) سورة البقرة: ١٠٢. (٢) سورة الأعراف: ١١٦. وقال أبو بكر الرازى فى (الأحكام) : أخبر اللّه تعالى أن الذى ظنه موسى أنها تسعى لم يكن سعيّا، وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة وقد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا وملؤوها نارا، فلما طرحت على ذلك الموضع وحمى الزئبق حركا، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصى صارت تتحرك بحركته، فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة، انتهى. قال القرطبى: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا فى القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفى الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكر أن ينقلب الجماد حيوانا، أو عكسه، بسحر الساحر. وقد ثبت فى البخارى من حديث عائشة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سحر، حتى إن كان ليخيل إليه أنه يفعل الشئ وما فعله، حتى إذا كان ذات ليلة عند عائشة دعا ودعا ثم قال: (يا عائشة، أشعرت أن اللّه أفتانى فيما استفتيته؟ أتانى رجلان، فقعد أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلى، فقال أحدهما: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب (١) ، قال من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فى أى شئ؟ قال: فى مشط ومشاقة (٢) وجف طلع (٣) نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: فى بئر ذروان (٤) ) ، فأتاه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى ناس من أصحابه، فجاء ف قال: (يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء (٥) ، وكان رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، فقلت يا رسول اللّه أفلا استخرجته؟ قال: قد عافانى اللّه، فكرهت أن أثور على الناس فيه شرّا، فأمر بها فدفنت) . وفى رواية للبخارى أيضا: (فأتى البئر حتى استخرجه فقال: هذه البئر التى رأيتها) ، قالت عائشة: __________ (١) مطبوب: أى مسحور. (٢) المشاقة: ما يسقط من الشعر حين يمشط. (٣) جف الطلعة: وعاء الطلع وغشاؤه إذا جف. (٤) بئر ذروان: بئر فى المدينة فى بستان لأحد اليهود. (٥) نقاعة الحناء: أى الماء الذى ينقع فيه الحناء، والحناء معروف، وهو الذى يتخذ للخضاب. أفلا تنشرت (١) ؟ قال: (أما اللّه شفانى، وأكره أن أثير على الناس شرّا) (٢) . وفى حديث ابن عباس عند البيهقى- بسند .....- فى آخر قصة السحر الذى سحر به النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنهم وجدوا وترا فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت الفلق والناس، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة. وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس أن عليّا وعمارا لما بعثهما النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة فذكر نحوه. وفى رواية ذكرها فى فتح البارى: فنزل رجل فاستخرجه وأنه وجد فى الطلعة تمثالا من شمع تمثال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وإذا فيه أبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألما، ثم يجد بعدها راحة. وقد بين الواقدى السنة التى وقع فيها السحر، كما أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن عبد الحكم مرسلا قال: لما رجع- صلى اللّه عليه وسلم- من الحديبية فى ذى الحجة ودخل المحرم سنة سبع جاءت رؤوس اليهود إلى لبيد بن الأعصم، وكان حليفا إلى بنى زريق، وكان ساحرا، فقالوا: أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير. ووقع فى رواية أبى ضمرة عند الإسماعيلى: فأقام أربعين ليلة، وفى رواية وهيب عن هشام عند أحمد: ستة أشهر. ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يوما من استحكامه. وقال السهيلى: لم أقف فى شئ من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التى مكث- صلى اللّه عليه وسلم- فيها فى السحر، حتى ظفرت به فى جامع معمر عن الزهرى: أنه لبث سنة. قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدناه موصولا بالإسناد الصحيح، فهو المعتمد. وقال المازرى: أنكر بعض المبتدعة __________ (١) عند مسلم: أفلا أحرقته. (٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٣٢٦٨) فى بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، وأطرافه (٥٧٦٣ و ٥٧٦٥ و ٥٧٦٦ و ٦٠٦٣ و ٦٣٩١) ، ومسلم (٢١٨٩) فى السلام، باب: السحر. هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة، ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا: أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحمل على هذا أنه يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثمّ، وأنه يوحى إليه بشئ ولم يوح إليه بشئ. قال المازرى: وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فيما يبلغه عن اللّه تعالى، وعلى عصمته فى التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التى لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو فى ذلك عرضة لما يعرض لبشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه فى أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك فى أمور الدين، انتهى. وقال غيره: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشئ ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة. وقال القاضى عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور، أنه يظهر له من نشاطه ومن سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقور، ويكون قوله فى الرواية الآخرى (حتى كاد ينكر بصره) أى كالذى ينكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشئ يخيل إليه أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم: أنه لم ينقل عنه فى خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به. قال بعضهم: وقد سلك النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذه القصة مسلكى التفويض وتعاطى الأسباب، ففى أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه، واحتسب الأجر فى صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشى من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوى. فقد أخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: احتجم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- على رأسه، يعنى حين طب، ثم جنح إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية فى الكمال. وقال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يؤخذ من النشرة (١) مقاومة السحر الذى هو من تأثير الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية من الذكر والدعاء والقراءة، فالقلب إذا كان ممتلئا من اللّه مغمورا بذكره، وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به، كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له، قال: وسلطان تأثير السحر هو فى القلوب ال.....ة، ولهذا كان غالب ما يؤثر فى النساء والصبيان والجهال، لأن الأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لما يناسبها، انتهى ملخصا. ويعكر عليه حديث الباب، وجواز السحر على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مع عظم مقامه، وصدق توجهه وملازمة ورده، ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذى ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به- صلى اللّه عليه وسلم- لبيان تجويز ذلك عليه. وأما ما يعالج به من النشرة المقاومة للسحر، فذكر ابن بطال: أن فى كتب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر (٢) أخضر، فتدق بين حجرين ثم يضرب ذلك بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسى والقلاقل (٣) ثم يحسو منه ثلاث حسيات ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه ما كان به، وهو جيد للرجل إذا احتبس عن أهله. وممن صرح بجواز النشرة، المزنى عن الشافعى، وأبو جعفر الطبرى وغيرهما. انتهى. وقال ابن الحاج (٤) فى (المدخل) : كان الشيخ أبو محمد المرجانى أكثر تداويه بالنشرة يعملها لنفسه ولأولاده ولأصحابه فيجدون على ذلك الشفاء، __________ (١) النشرة: بضم النون، ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسّا من الجن، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أى: يكشف ويزال، (النهاية) فى غريب الحديث، مادة (نشر) . (٢) السدر: شجر النبق. (٣) يقصد: قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ، والمعوذتين. (٤) هو: الإمام العالم، أبو عبد اللّه، محمد بن محمد بن محمد العبدرى الفاسى المالكى الشهير بابن الحاج، كان فاضلا عارفا يقتدى به، له التاليف النافعة من أجلها هذا الكتاب المسمى (بمدخل الشرع الشريف على المذاهب) ، ذكر فيه بدع يفعلها الناس ويتساهلون فيها، وأكثرها مما ينكر وبعضها مما يحتمل، توفى بالقاهرة سنة ٧٣٧ هـ. وأخبر- رحمه اللّه- أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أعطاها له فى المنام، و قال: إنه مرة رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وقال له: ما تعلم ما عمل معك ومع أصحابك فى هذه النشرة، نقله عنه خادمه، وهى هذه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ (١) إلى آخر السورة، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً (٣) إلى آخر السورة، وسورة الإخلاص والمعوذتين، ثم يكتب: اللّهم أنت المحيى وأنت المميت، وأنت الخالق البارئ وأنت المبلى، وأنت المعافى، وأنت الشافى، خلقتنا من ماء مهين، وجعلتنا فى قرار مكين إلى قدر معلوم، اللّهم إنى أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، يا من بيده الابتلاء والمعافاة، والشفاء والدواء أسألك بمعجزات نبيك محمد- صلى اللّه عليه وسلم- حبيبك، وبركات خليلك إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، وحرمة كليمك موسى- عليه الصلاة والسلام-، اللّهم اشفه. ذكر رقية لكل شكوى: عن أبى الدرداء قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (من اشتكى منكم شيئا فليقل: ربنا اللّه الذى فى السماء تقدس اسمك، أمرك فى السماء والأرض، كما رحمتك فى السماء فاجعل رحمتك فى الأرض واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين أنزل رحمة من عندك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ بإذن اللّه) (٤) رواه أبو داود فى سننه. رقيته ص من الصداع:روى الحميدى فى (الطب) عن يونس بن يعقوب عن عبد اللّه قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يتعوذ من الصداع، بسم اللّه الرحمن الرحيم، بسم اللّه __________ (١) سورة التوبة: ١٢٨. (٢) سورة الإسراء: ٨٢. (٣) سورة الحشر: ٢١. (٤) أخرجه أبو داود (٣٨٩٢) فى الطب، باب: كيف الرقى. الكبير وأعوذ باللّه العظيم من كل عرق نعار (١) ومن شر حر النار (٢) . ورواه ابن السنى من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. وأصاب أسماء بنت أبى بكر- رضى اللّه عنهما- ورم فى رأسها، فوضع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يده على ذلك من فوق الثياب ف قال: (بسم اللّه أذهب عنها سوءه وفحشه بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك، بسم اللّه) صنع ذلك ثلاث مرات، وأمرها أن تقول ذلك، فقالت ثلاثة أيام. فذهب الورم (٣) رواه الشيخ ابن النعمان بسنده والبيهقى. رقيته ص من وجع الضرس:روى البيهقى أن عبد اللّه بن رواحة شكا إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وجع ضرسه، فوضع- صلى اللّه عليه وسلم- يده على خده الذى فيه و قال: (اللّهم أذهب عنه سوء ما يجد وفحشه، بدعوة نبيك المكين المبارك عندك) سبع مرات، فشفاه اللّه قبل أن يبرح. وروى الحميدى أن فاطمة- رضى اللّه عنها- أتت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- تشكو ما تلقى من ضربان الضرس، فأدخل سبابته اليمنى فوضعها على السن الذى تألم، ف قال: (بسم اللّه وباللّه، أسألك بعزتك وجلالك وقدرتك على كل شئ، فإن مريم لم تلد غير عيسى من روحك وكلمتك، أن تكشف ما تلقى فاطمة بنت خديجة من الضر كله، فسكن ما بها) . ومن الغريب: ما شاع وذاع عن شيخنا المحب الطبرى إمام مقام الخليل بمكة، ورأيته يفعله غير مرة، وضع يده على رأس الموجوع ضرسه، ويسأل __________ (١) قال ابن الأثير فى (النهاية) مادة (نعر) : نعر العرق بالدم، إذا ارتفع وعلا، وجرح نعار ونعور، إذا صوت دمه عند خروجه. (٢) أخرجه الترمذى (٢٠٧٥) فى الطب، باب: رقم (٢٦) ، وابن ماجه (٣٥٢٦) فى الطب، باب: ما يعوذ به من الحمى، وأحمد فى (المسند) (١/ ٣٠٠) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٤٥٩) من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، وقال الترمذى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن أبى حبيبة، وإبراهيم يضعف فى الحديث، وهو كما قال. (٣) أخرجه ابن أبى الدنيا فى (المرض والكفارات) (ص ١٢٤) من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-، وذكر فيه أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أمر عائشة بوضع يدها وأن تقول الدعاء. عن اسمه واسم أمه وعن المدة التى يريد المألوم أن لا يألمه فيها، فيقول: سبع سنين أو تسع سنين مثلا بالوتر، قالوا: فما يرفع يده إلا وقد سكن ألمه، ويمكث المدة المذكورة لا يألمه، كما أشيع ذلك واشتهر. ومما جرب أن يكتب على الخد الذى يلى الوجع: بسم اللّه الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (١) ، وإن شاء كتب وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢) . رقية لعسر البول:روى النسائى عن أبى الدرداء أنه أتاه رجل يذكر أن أخاه احتبس بوله، فأصابه حصاة البول، فعلمه رقية سمعها من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: ربنا اللّه الذى فى السماء تقدس اسمك، أمرك فى السماء والأرض، كما رحمتك فى السماء فاجعل رحمتك فى الأرض، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، أنت رب المتطببين فأنزل شفاء من شفائك، ورحمة من رحمتك على هذا الوجع فيبرأ. وأمره أن يرقيه بها، فرقاه بها فبرئ (٣) . وقد تقدم هذا فى رقية الشكوى العامة من حديث أبى الدرداء. رقية الحمى:عن أنس قال: دخل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على عائشة وهى موعوكة، وهى تسب الحمى، ف قال: (لا تسبيها فإنها مأمورة ولكن إن شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهبها اللّه عنك) قالت: علمنى، قال: (قولى اللّهم ارحم جلدى الرقيق وعظمى الدقيق من شدة الحريق، يا أم ملدم (٤) ، إن كنت آمنت باللّه العظيم فلا تصدعى الرأس، ولا تنتنى الفم، ولا تأكلى اللحم، ولا تشربى __________ (١) سورة الملك: ٢٣. (٢) سورة الأنعام: ١٣. (٣) أخرجه النسائى فى (الكبرى) (١٠٨٧٦ و ١٠٨٧٧) . (٤) أم ملدم: كنية الحمى. الدم، وتحولى عنى إلى من اتخذ مع اللّه إلها آخر) فقالتها فذهبت عنها (١) ، رواه البيهقى. وقد جرب ذلك- كما رأيته بخط شيخنا- ولفظه: اللّهم ارحم عظمى الدقيق وجلدى الرقيق، وأعوذ بك من فورة الحريق، يا أم ملدم، إن كنت آمنت باللّه واليوم الآخر، فلا تأكلى اللحم، ولا تشربى الدم، ولا تفورى على الفم، وانتقلى إلى من يزعم أن مع اللّه إلها آخر، فإنى أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله. ويكتب للحمى المثلاثة- مما ذكره صاحب الهدى- على ثلاث ورقات لطاف: بسم اللّه فرّت، بسم اللّه مرّت. بسم اللّه قلّت، ويأخذ كل يوم ورقة ويجعلها فى فمه ويبلعها بماء. وقد رخص جماعة من السلف فى كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذى جعله اللّه فيه. قال ابن الحاج فى (المدخل) : وقد كان الشيخ أبو محمد المرجانى لا تزال الأوراق للحمى وغيرها على باب الزاوية، فمن كان به ألم أخذ ورقة منها فاستعملها فيبرأ بإذن اللّه تعالى، وكان المكتوب فيها: أزلى لم يزل، ولا يزال، يزيل الزوال، وهو لا يزال، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) . وقال المروزى: بلغ أبا عبد اللّه أنى حممت فكتب لى من الحمى رقعة فيها: بسم اللّه الرحمن الرحيم، بسم اللّه وباللّه ومحمد رسول اللّه، يا نار كونى بردّا وسلاما على إبراهيم، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، اللّهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك، إله الحق آمين. * ومما جرب للخراج، ونقله صاحب زاد المعاد، أن يكتب عليه __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٦/ ١٦٩) بسند ...... (٢) سورة الإسراء: ٨٢. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١) . * ومما يكتب لعسر الولادة ما روى الخلال عن عبد اللّه بن الإمام أحمد ابن حنبل قال: رأيت أبى يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها فى جام (٢) أبيض، أو شئ نظيف، حديث ابن عباس: لا إله إلا اللّه الحليم الكريم، سبحان اللّه رب العرش العظيم، الحمد للّه رب العالمين، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها. قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزى أن أبا عبد اللّه جاءه رجل فقال: يا أبا عبد اللّه اكتب لامرأة قد عسر عليها الولادة منذ يومين فقال: قل له يجئ بجام واسع وزعفران. قال المروزى: ورأيته يكتب لغير واحد. وفى (المدخل) : يكتب فى آنية جديدة: اخرج أيها الولد من بطن ضيق إلى سعة هذه الدنيا، اخرج بقدرة الذى جعلك فى قرار مكين إلى قدر معلوم، لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، إلى آخر السورة، وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. وتشربها النفساء، ويرش منها على وجهها. قال الشيخ المرجانى: أخذته عن بعض السادة، فما كتبته لأحد إلا نجح فى وقته. انتهى. وروى عن عكرمة عن ابن عباس قال: مر عيسى- عليه السّلام- على امرأة وقد اعترض ولدها فى بطنها فقالت: يا كلمة اللّه ادع اللّه لى أن يخلصنى مما أنا فيه ف قال: يا خالق النفس من النفس، ويا مخلص النفس من النفس، ويا مخرج النفس من النفس خلصها، قال: فرمت بولدها وإذا هى قائمة. قال: فإذا عسر على المرأة ولدها فاكتبه لها. __________ (١) سورة طه: ١٠٥- ١٠٧. (٢) الجام: إناء أو طاسة. ومما يكتب أيضا لذلك، ويكون فى إناء نظيف: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (١) وتشرب الحامل منه وترش على بطنها. * ومما يكتب للرعاف (٢) على جبهة المرعوف وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ، ولا يجوز كتابتها بدم الرعاف كما يفعله بعض الجهال، فإن الدم نجس فلا يجوز أن يكتب به كلام اللّه. * ومما يكتب لعرق النسا: بسم اللّه الرحمن الرحيم، اللّهم رب كل شئ، ومليك كل شئ، وخالق كل شئ، أنت خلقتنى وخلقت عرق النسا فىّ فلا تسلطه علىّ بأذى، ولا تسلطنى عليه بقطع، واشفنى شفاء لا يغادر سقما، لا شافى إلا أنت. وأما حفيظة رمضان: لا آلاء إلا آلاؤك يا اللّه، إنك سميع عليم محيط به علمك كعسلهون، وبالحق أنزلناه وبالحق نزل إلى آخرها ... فقال شيخنا: اشتهرت ببلاد اليمن ومكة ومصر والمغرب وجملة بلدان أنها حفيظة رمضان، تحفظ من الغرق والسرق والحرق وسائر الآفات، وتكتب فى آخر جمعة منه، وجمهورهم يكتبها والخطيب يخطب على المنبر، وبعضهم بعد صلاة العصر. وهذه بدعة .......ا، وإن وقعت فى كلام غير واحد من الأكابر، بل أشعر كلام بعضهم إلى ورودها فى حديث .....، وكان الحافظ ابن حجر ينكرها جدّا، حتى وهو قائم على المنبر فى أثناء خطبته حين يرى من يكتبها. ذكر ما يقى من كل بلاء:عن أبان بن عثمان عن أبيه قال: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (من قال بسم اللّه الذى لا يضر مع اسمه شئ فى الأرض ولا فى السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات حين يمسى لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن __________ (١) سورة الانشقاق: ١- ٤. (٢) الرعاف: نزول الدم من الأنف. (٣) سورة هود: ٤٤. قالها حين يصبح لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسى) . قال: فأصاب أبان بن عثمان الفالج (١) ، فتجعل الذى سمع منه الحديث ينظر إليه، ف قال: ما لك تنظر فو اللّه ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ولكن اليوم الذى أصابنى فيه ما أصابنى غضبت فنسيت أن أقولها (٢) . رواه أبو داود، ورواه الترمذى و قال: حديث حسن صحيح. وعنده: فكان أبان أصابه طرف فالج فجعل الرجل ينظر إليه فقال له أبان: ما لك تنظر إلى، أما إن الحديث كما حدثتك ولكن لم أقله يومئذ ليمضى اللّه أمرا قدره. ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء:وذكر أبو محمد عبد اللّه بن محمد المالكى الإفريقى، فى كتابه (أخبار أفريقية) عن أنس بن مالك مرفوعا: (من قال بسم اللّه الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم عشر مرات برئ من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وعوفى من سبعين بلاء من بلايا الدنيا، منها الجنون والجذام والبرص والريح) . ويشهد له ما رواه الترمذى عن أبى هريرة قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أكثروا من ذكر لا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم فإنها من كنز الجنة) . قال مكحول: من قال لا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم، ولا ملجأ من اللّه إلا إليه، كشف اللّه عنه سبعين بابا من الضر أدناها الفقر (٣) . __________ (١) الفالج: داء معروف يرخى بعض البدن، وكذلك تباعد الأعضاء كالقدمين والأسنان. (٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٥٠٨٨) فى الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، والترمذى (٣٣٨٨) فى الدعوات، باب: ما جاء فى الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى، وابن ماجه (٣٨٦٩) فى الدعاء، باب: ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى، وأحمد فى (المسند) (١/ ٦٢ و ٦٦ و ٧٢) ، وابن حبان فى صحيحه (٨٥٢ و ٨٦٢) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٦٩٥) ، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال. (٣) أخرجه الترمذى (٣٦٠١) فى الدعوات، باب: فضل لا حول ولا قوة إلا باللّه، وقال الترمذى: ليس إسناده بمتصل مكحول لم يسمع من أبى هريرة، وهو كما قال إلا أن لطرفه المرفوع شواهد يصحح بها. وروى الطبرانى عن أبى هريرة قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من قال لا حول ولا قوة إلا باللّه كان دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم) (١) . ومن ذلك فى الأمان من الفقر: عن أبى موسى قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من قال لا حول ولا قوة إلا باللّه مائة مرة فى كل يوم لم يصبه فقر أبدا) . رواه ابن أبى الدنيا. وروى الطبرانى عن أبى هريرة قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من أبطأ عليه رزقه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا باللّه) (٢) . وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على بن أبى طالب يرفعه: من قال كل يوم وليلة: لا إله إلا اللّه الملك الحق المبين، مائة مرة كان له أمانا من الفقر وأنسا من وحشة القبر، واستفتح به باب الغنى، واستقرع به باب الجنة. قال بعض رواته: لو رحلتم فى هذا الحديث إلى الصين ما كان كثيرا. ذكره عبد الحق فى كتاب الطب النبوى. ذكر دواء داء الطعام:روى البخارى فى تاريخه عن عبد اللّه بن مسعود: من قال حين يوضع الطعام: بسم اللّه خير الأسماء فى الأرض وفى السماء، لا يضر مع اسمه داء، اجعل فيه رحمة وشفاء. لم يضره ما كان (٣) . ذكر دواء أم الصبيان:عن على قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من ولد له مولود فأذن فى أذنه __________ (١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (١٠/ ٩٨) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه بشر بن رافع الحارثى، وهو .....، وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح، إلا أن النسخة من الطبرانى الأوسط سقط منها عجلان والد محمد الذى بينه وبين أبى هريرة واللّه أعلم، ا. هـ. قلت: وبشر هذا ..... الحديث، قاله الحافظ فى (التقريب) (٦٨٥) ، وعلى ذلك فالحديث ...... (٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ٢٠١) و قال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط وفيه يونس بن تميم ضعفه الذهبى بهذا الحديث. (٣) أخرجه البخارى فى (التاريخ الكبير) (٤/ ٢١) . اليمنى وأقام فى اليسرى لم تضره أم الصبيان) (١) رواه ابن السنى، وذكره عبد الحق فى (الطب النبوى) . وأم الصبيان: هى الريح التى تعرض لهم، فربما يخشى عليهم منها. وسر التأذين- كما قاله صاحب تحفة المودود بأحكام المولود- أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التى أول ما يدخل بها فى الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها. مع ما فى ذلك من فائدة أخرى، وهى هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه للمحنة التى قدرها اللّه وشاءها، فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أو أوقات تعلقه به. |