Geri

   

 

 

İleri

 

 ٦-٢ النوع الرابع فى التنويه به ص فى الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل

قال اللّه تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ (١) . وهذا يدل على أنه لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله، لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن قبول مقاله، فلما قال لهم- صلى اللّه عليه وسلم- هذا دل على أن ذلك النعت كان مذكورا فى التوراة والإنجيل. وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته.

لكن أهل الكتب كما

قال اللّه تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٢) ويُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (٣) ، وإلا فهم- قاتلهم اللّه- قد عرفوا محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- كما عرفوا أبناءهم، ووجدوه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل، لكنهم حرفوهما وبدلوهما ليطفئوا نور اللّه بأفواههم، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

فدلائل نبوة نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فى كتابيهما- بعد تحريفهما- طافحة، وأعلام شريعته ورسالته فيهما لائحة، وكيف يغنى عنهم إنكارهم، وهذا اسم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بالسريانية (مشفح) ، فمشفح، محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولن (شفحا لاها) إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد للّه، وإذا كان الحمد، شفحا، فمشفح: محمد، ولأن الصفات التى أقروا بها هى وفاق لأحواله وزمانه، ومخرجه ومبعثه وشريعته- صلى اللّه عليه وسلم-، فليدلونا على من هذه الصفات له، ومن خرجت له الأمم من بين يديه، وانقادت له واستجابت لدعوته. ومن صاحب الجمل الذى هلكت بابل وأصنامها به؟

__________

(١) سورة الأعراف: ١٥٧.

(٢) سورة البقرة: ١٤٦.

(٣) سورة المائدة: ١٣.

على أنا لو لم نأت بهذه الأنباء والقصص من كتبهم، ألم يك فيما أودع اللّه عز وجل القرآن دليل على ذلك؟ وفى تركهم جحد ذلك وإنكاره- وهو يقرعهم به- دليل على اعترافهم له؟

فإنه يقول: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ (١) ويقول حكاية عن المسيح: إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (٢) . ويقول: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٣) ويقول: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ (٤) ، وكانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا نبى قد أظل مولده، ويذكرون من صفته ما يجدون فى كتابهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدا وخوفا على الرياسة. ويحتمل أنهم كانوا يظنون أنه من بنى إسرائيل فلما بعثه اللّه من العرب، من نسل إسماعيل عظم ذلك عليهم، وأظهروا التكذيب، فلعنة اللّه على الكافرين.

وقد كان- صلى اللّه عليه وسلم- يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه، فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم وما فى أيديهم، ويقول من علامة نبوتى وصدقى أنكم تجدونى عندكم مكتوبا وهم لا يجدونه كما ذكر؟! أو ليس ذلك مما يزيدهم عنه بعدا، وقد كان غنيّا أن يدعوهم بما ينفرهم، ويستميلهم بما يوحشهم. وقد أسلم من أسلم من علمائهم كعبد اللّه بن سلام، وتميم الدارى، وكعب، وقد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوى.

وقد روى ابن عساكر فى تاريخ دمشق من طريق محمد بن حمزة بن عبد اللّه بن سلام عند جده عبد اللّه بن سلام: أنه لما سمع بمخرج النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بمكة، خرج فلقيه، فقال له النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنت ابن سلام عالم أهل يثرب؟)

قال: نعم،

قال: (ناشدتك اللّه الذى أنزل التوراة على موسى، هل تجد صفتى فى كتاب اللّه)

__________

(١) سورة الأعراف: ١٥٧.

(٢) سورة الصف: ٦.

(٣) سورة آل عمران: ٧١.

(٤) سورة البقرة: ١٤٦.

قال: انسب ربك يا محمد، فارتج النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال له جبريل: قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ (١) اللّه الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (١) ، فقال ابن سلام: أشهد أنك رسول اللّه، وإن اللّه مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإنى لأجد صفتك فى كتاب اللّه: يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، أنت عبدى ورسولى، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه اللّه حتى يقيم به الملة المعوجة، حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا وقلوبا غلفا.

فصل

وقوله: (ليس بفظ ولا غليظ) موافق لقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (٢) ولا يعارض قوله:

وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (٣) لأن النفى محمول على طبعه الكريم الذى جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة، أو النفى بالنسبة إلى المؤمنين والأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين كما هو مصرح به فى نفس الآية. و (قلوبا غلفا) : أى مغشاة مغطاة،

واحدها: أغلف، ومنه غلاف السيف وغيره.

وأخرج البيهقى وأبو نعيم عن أم الدرداء- امرأة أبى الدرداء-

قالت: قلت لكعب، كيف تجدون صفة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى التوراة؟

قال: كنا نجده موصوفا فيها: محمد رسول اللّه اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، وأعطى المفاتيح، ليبصر اللّه به أعينا عورا، ويسمع به آذانا صمّا، ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه من أن يستضعف.

وفى البخارى: عن عطاء بن يسار

قال: لقيت عبد اللّه بن عمرو بن

__________

(١) سورة الإخلاص: ١- ٤.

(٢) سورة آل عمران: ١٥٩.

(٣) سورة التوبة: ٧٣.

العاص، فقلت: أخبرنى عن صفة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (أجل، واللّه إنه لموصوف فى التوراة ببعض صفته فى القرآن: يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين. أنت عبدى ورسولى، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه اللّه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا اللّه، ويفتح به أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا) (١) .

وعند ابن إسحاق: ولا صخب فى الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال للخنا، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به الخمالة، وأسمى به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس.

وأخرج البيهقى عن ابن عباس

قال: قدم الجارود فأسلم

فقال: والذى بعثك بالحق لقد وجدت وصفك فى الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول.

وأخرج ابن سعد

قال: لما أمر إبراهيم بإخراج هاجر حمل على البراق، فكان لا يمر بأرض عذبة سهلة إلا

قال: انزل ها هنا يا جبريل، فيقول: لا، حتى أتى مكة فقال جبريل: انزل يا إبراهيم،

قال: حيث لا ضرع ولا زرع؟

قال: نعم، هاهنا يخرج النبى الذى من ذرية ابنك الذى تتم به الكلمة العليا. وفى التوراة- مما اختاره بعد الحذف والتبديل والتحريف، مما ذكره ابن ظفر فى (البشر) وابن قتيبة فى (أعلام النبوة) -: تجلى اللّه من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. و (سينا) هو الجبل الذى كلم اللّه فيه موسى. و (ساعير) هو الجبل الذى كلم اللّه فيه عيسى، وظهرت فيه نبوته.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٨٣٨) فى التفسير، باب: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً.

وجبال (فاران) هو اسم عبرانى- وليست ألفه الأولى همزة- هى جبال بنى هاشم التى كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يتحنث فى أحدها وفيه فاتحة الوحى، وهو أحد ثلاثة جبال، أحدها:أبو قبيس، والمقابل له قعيقعان إلى بطن الوادى،

والثالث: الشرقى فاران، ومنفتحه الذى يلى قعيقعان إلى بطن الوادى، وهو شعب بن هاشم، وفيه مولده- صلى اللّه عليه وسلم- على أحد الأقوال.

قال ابن قتيبة: وليس بهذا غموض، لأن تجلى اللّه من سينا، إنزاله التوراة على موسى- عليه السّلام- بطور سيناء، ويجب أن يكون إشراقه من (ساعير) إنزاله على عيسى الإنجيل، وكان المسيح يسكن من ساعير أرض الخليل، بقرية تدعى ناصرة، وباسمها سمى من اتبعه نصارى، فكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإنجيل فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران بإنزاله القرآن على محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، وهى جبال مكة، وليس بين المسلمين وأهل الكتاب فى ذلك اختلاف فى أن فاران هى مكة.

وإن ادعى أنها غير مكة قلنا: أليس فى التوراة: إن اللّه أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا: دلونا على الموضع الذى استعلن اللّه منه واسمه فاران، والنبى الذى أنزل عليه كتابا بعد المسيح، أو ليس(استعلن) و (علن) بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف. فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام، وفشا فى مشارق الأرض ومغاربها فشوه.

وفى التوراة أيضا- مما ذكره ابن ظفر- خطابا لموسى، والمراد به الذين اختارهم لميقات ربه الذين أخذتهم الرجفة خصوصا، ثم بنى إسرائيل عموما:

واللّه ربك يقيم نبيّا من إخوتك، فاستمع له كالذى سمعت ربك فى حوريت يوم الاجتماع حين قلت لا أعود أسمع صوت اللّه ربى لئلا أموت، فقال اللّه لى: نعم ما قالوا، وسأقيم لهم نبيّا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامى فى فمه فيقول لهم كل شىء أمرته به، وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمى فإنى أنتقم منه.

قال: وفى هذا الكلام أدلة على نبوة محمد- صلى اللّه عليه وسلم-.

فقوله: (نبيّا من إخوتهم) وموسى وقومه من بنى إسحاق، وإخوتهم بنو إسماعيل، ولو كان هذا النبى الموعود به من بنى إسحاق، لكان من أنفسهم لا من إخوتهم.

وأما قوله: (نبيّا مثلك) وقد قال فى التوراة: لا يقوم فى بنى إسرائيل أحد مثل موسى، وفى ترجمة أخرى: مثل موسى لا يقوم فى بنى إسرائيل أبدا. فذهبت اليهود إلى أن هذا النبى الموعود به هو يوشع بن نون، وذلك باطل، لأن يوشع لم يكن كفؤا لموسى- عليهما السلام-، بل كان خادما له فى حياته، ومؤكدا لدعوته بعد وفاته، فتعين أن يكون المراد به محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- فإنه كفؤ موسى لأنه مماثله فى نصب الدعوة، والتحدى بالمعجزة، وشرع الأحكام، وإجراء النسخ على الشرائع السالفة.

وقوله تعالى: (أجعل كلامى فى فمه) فإنه واضح فى أن المقصود به محمد- صلى اللّه عليه وسلم- لأن معناه أوحى إليه بكلامى، فينطق به على نحو ما سمعه، ولا أنزل صحفا ولا ألواحا لأنه أمى، لا يحسن أن يقرأ المكتوب.

وفى الإنجيل- مما ذكره ابن طغر بك فى (الدر المنظم) قال يوحنا فى إنجيله عن المسيح أنه

قال: أنا أطلب من الأب أن يعطيكم (فار قليط) آخر يثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذى لن يطيق العالم أن يقتلوه.

وهو عند ابن ظفر بلفظ: إن أحببتمونى فاحافظوا وصيتى، وأنا أطلب إلى أبى فيعطيكم (فار قليط) (١) آخر يكون معكم الدهر كله.

قال: فهذا صريح بأن اللّه تعالى سيبعث إليهم من يقوم مقامه، فينوب عنه فى تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا، فهل هذا إلا محمد- صلى اللّه عليه وسلم-؟ انتهى. ولم يذكر فصول (الفارقليط) - كما أفاده ابن طغر بك- سوى يوحنا، دون غيره من نقله الأناجيل. وقد اختلف النصارى فى تفسير (الفارقليط) . فقيل هو: الحامد،

وقيل: المخلص.

فإن وافقناهم على أنه المخلص أفضى بنا الأمر إلى أن المخلص رسول يأتى لخلاص العالم، وذلك من غرضنا، لأن كل نبى مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح فى الإنجيل: إنى قد جئت لخلاص العالم، فإذا ثبت أن المسيح هو الذى وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذى سأل الأب أن يعطيهم (فارقليط) آخر، ففى مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتى آخر.

__________

(١) كذا بالأصل، وقد شرحها المصنف بالحامد أو المخلص.

وإن تنزلنا معهم على القول بأنه: الحامد، فأى لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا؟

قال ابن ظفر: وفى الإنجيل- مما ترجموه- ما يدل على أن الفارقليط:

الرسول، فإنه

قال: إن هذا الكلام الذى تسمعونه ليس هو لى، بل الأب أرسلنى بهذا الكلام لكم، وأما (الفارقليط) روح القدس الذى يرسله أبى باسمى، فهو يعلمكم كل شىء، وهو يذكركم كلما قلته لكم.

فهل بعد هذا بيان؟ أليس هذا صريحا فى أن (الفارقليط) رسول يرسله اللّه، وهو روح القدس، وهو يصدق بالمسيح، ويظهر اسمه أنه رسول حق من اللّه، وليس بإله، وهو يعلم الخلق كل شىء، ويذكرهم كل ما قاله المسيح- عليه السّلام- لهم، وكل ما أمرهم به من توحيد اللّه.

وأما قوله (أبى) فهذه اللفظة مبدلة محرفة، وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين، إشارة إلى الرب سبحانه، لأنها عندهم لفظة تعظيم، يخاطب بها المتعلم معلمه الذى يستمد منه العلم. ومن المشهور مخاطبة النصارى عظاماء دينهم بالآباء الروحانية، ولم تزل بنو إسرائيل وبنو عيصو يقولون نحن أبناء اللّه بسوء فهمهم عن اللّه تعالى.

وأما قوله (يرسله أبى باسمى) فهو إشارة إلى شهادة المصطفى- صلى اللّه عليه وسلم- له بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه عما افترى فى أمره. وفى ترجمة أخرى للإنجيل، أنه

قال: (الفارقليط) إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث. وهو عند ابن طغر بك لفظ: فإذا جاء روح الحق، ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتى، وهو يمجدنى لأنه يأخذ مما هو لى ويخبركم. فقوله (ليس ينطق من عنده) وفى الرواية الآخرى: (ولا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بكل ما يسمع) أى: من اللّه الذى أرسله، وهذا كما قال تعالى فى حقه- صلى اللّه عليه وسلم-: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (١) .

__________

(١) سورة النجم: ٣، ٤.

وقوله: (وهو يمجدنى) فلم يمجده حق تمجيده إلا محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، لأنه وصفه بأنه رسول اللّه، وبرأه وبرأ أمه- عليهما السلام- مما نسب إليهما، وأمر أمته بذلك.

قال ابن ظفر: فمن ذا الذى وبخ العلماء على كتمان الحق وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس، ومن ذا الذى أنذر بالحوادث وأخبر بالغيوب إلا محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، وللّه در أبى محمد عبد اللّه الشقراطيسى حيث قال فى قصيدته المشهورة:

توراة موسى أتت عنه فصدقها ... إنجيل عيسى بحق غير مفتعل

أخبار أحبار أهل الكتب قد وردت ... عما رأوا ورووا فى الأعصر الأول

ويعجبنى قول العارف الربانى أبى عبد اللّه بن النعمان:

هذا النبى محمد جاءت به ... توراة موسى للأنام تبشر

وكذاك إنجيل المسيح موافق ... ذكرا لأحمد معرب ومذكر

ويرحم اللّه ابن جابر حيث

قال:

لمبعثه فى كل جيل علامة ... على ما جلته الكتب من أمره الجلى

فجاء به إنجيل عيسى باخر ... كما قد مضت توراة موسى بأول

وفى الدلائل للبيهقى عن الحاكم- بسند لا بأس به- عن أبى أمامة الباهلى عن هشام بن العاص الأموى

قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر الحديث، وأنه أرسل إليهم ليلا،

قال: فدخلنا عليه، فدعا بشىء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح واستخرج حريرة سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، فإذا رجل ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق اللّه تعالى،

قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا،

قال: هذا آدم- عليه السّلام-، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية، ف

قال: أتعرفون

هذا؟ قلنا: لا،

قال: هذا نوح- عليه السّلام

قال: ثم فتح بابا آخر

وأخرج حريرة فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا فيها. واللّه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم

قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول اللّه ونبينا،

قال: واللّه إنه لهو، ثم قام قائما ثم جلس و

قال: إنه لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو كأنك تنظر إليه فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم

قال: أما واللّه إنه لآخر البيوت، ولكنى عجلته لكم لأنظر ما عندكم. الحديث، وفيه ذكر الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى وسليمان وغيرهم.

قال: فقلنا له: من أين لك هذه الصور؟ ف

قال: إن آدم- عليه السّلام- سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل اللّه عليه صورهم، فكان فى خزانة آدم- عليه السّلام- عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال.

وفى زبور داود- عليه السّلام-، من مزمور أربعة وأربعين: فاضت النعمة من شفتيك، من أجل هذا باركك اللّه إلى الأبد، تقلد أيها الجبار بالسيف، فإن شرائعك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، وجميع الأمم يخرون تحتك.

فهذا المزمور ينوه بنبوة محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، فالنعمة التى فاضت من شفتيه هى القول الذى يقوله، وهو الكتاب الذى أنزل عليه والسنة التى سنها.

وفى قوله: (تقلد سيفك أيها الجبار) دلالة على أنه النبى العربى، إذا ليس يتقلد السيوف أمة من الأمم سوى العرب، فكلهم يتقلدونها على عواتقهم. وفى قوله (فإن شرائعك وسنتك) نص صريح على أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه. و (الجبار) الذى يجبر الخلق بالسيف على الحق ويصرفهم عن الكفر جبرا.

وعن وهب بن منبه

قال: قرأت فى بعض الكتب القديمة، قال اللّه تبارك وتعالى: وعزتى وجلالى، لأنزلنّ على جبال العرب نورا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولآخرجن من ولد إسماعيل نبيّا أميّا يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بى ربّا، وبه رسولا، ويكفرون بملل آبائهم

ويفرون منها، قال موسى: سبحانك وتقدست أسماؤك، لقد كرمت هذا النبى الكريم وشرفته، قال اللّه: يا موسى، إن أنتقم من عدوه فى الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة، وأذل من خالف شريعته، بالعدل زينته، وللقسط أخرجته، وعزتى لأستنقذن به أمما من النار، فتحت الدنيا بإبراهيم وأختمها بمحمد، فمن أدركه ولم يؤمن به ولم يدخل فى شريعته فهو من اللّه برىء. ذكره ابن ظفر وغيره.

النوع الخامس فى آيات تتضمن إقسامه تعالى على تحقيق رسالته وثبوت ما أوحى إليه من آياته وعلو رتبته الشريفة ومكانته

وهذا النوع- أعزك اللّه- لخصت أكثره من كتاب أقسام القرآن للعلامة ابن القيم، مع زيادات من فرائد الفوائد.

فاعلم أنه تعالى أقسم بأمور على أمور، وإنما أقسم بنفسه الموصوفة بصفاته، وآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وأقسامه ببعض مخلوقاته دليل على أنه من عظيم آياته. ثم إنه تعالى تارة يذكر جواب القسم وهو الغالب. وتارة يحذفه. وتارة يقسم على أن القرآن حق. وتارة على أن الرسول حق. وتارة على أن الجزاء والوعد والوعيد حق.

فالأول: كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (١) .

والثانى: كقوله تعالى: يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢) .

والثالث: كقوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً إلى قوله: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٣) .

__________

(١) سورة الواقعة: ٧٥- ٧٧.

(٢) سورة يس: ١- ٣.

(٣) سورة الذاريات: ١- ٦.

وهذه الأمور الثلاثة متلازمة، فمتى ثبت أن الرسول حق، ثبت أن القرآن حق، وثبت المعاد، ومتى ثبت أن القرآن حق ثبت صدق الرسول الذى جاء به، ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدق الرسول الذى جاء به.

وفى هذا النوع خمسة فصول.

الفصل الأول فى قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه من الفضل العميم

قال اللّه تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (١) .

ن (٢) من أسماء الحروف ك الم (٣) والمص (٤) وق (٥) .

واختلف فيها، فقيل هى أسماء للقرآن،

وقيل: أسماء للسور.

وقيل: أسماء للّه، ويدل عليه أن عليّا- رضى اللّه عنه- كان يقول: يا كهيعص (٦) ، يا حم (١) عسق (٧) كما قيل، ولعله أراد يا منزلهما.

وقيل: إنه سر استأثر اللّه بعلمه، وقد روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين اللّه ورسوله، لم يقصد بها إفهام غيره، إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد.

وهل المراد بقوله تعالى: (ن) اسم الحوت، وهل المراد به الجنس، أو البهموت وهو الذى عليه الأرض؟

__________

(١) سورة القلم: ١- ٤.

(٢) سورة القلم: ١.

(٣) سورة البقرة: ١.

(٤) سورة الأعراف: ١.

(٥) سورة ق: ١.

(٦) سورة مريم: ١.

(٧) سورة الشورى: ١، ٢.

وقيل: المراد به الدواة وهو مروى عن ابن عباس، ويكون هذا قسما بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة، فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق، وتارة بالكتابة.

وقيل: إن (ن) لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يأمرهم به اللّه. رواه معاوية بن قرة مرفوعا. والحق أنه اسم للسورة، وأقسم اللّه تعالى بالكتاب وآلته وهو القلم الذى هو إحدى آياته وأول مخلوقاته الذى جرى به قدره وشرعه، وكتب به الوحى، وقيد به الدين، وأثبتت به الشريعة، وحفظت به العلوم، وقامت به مصالح العباد فى المعاش والمعاد، وقام فى الناس أبلغ خطيب وأفصحه وأنفعه لهم وأنصحه، وواعظا تشفى مواعظه القلوب من السقم، وطبيبا يبرئ بإذن بارئه من أنواع الألم على تنزيه نبيه ورسوله محمد المحمود فى كل أفعاله وأقواله مما غمصته أعداؤه الكفرة به، وتكذيبهم له بقوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (١) .

وكيف يرمى بالجنون من أتى بما عجزت العقلاء قاطبة عن معارضته، وكلّت عن مماثلته، وعرّفهم من الحق ما لا تهتدى إليه عقولهم، بحيث أذعنت له عقول العقلاء، وخضعت له ألباب الألباء، وتلاشت فى جنب ما جاء به، بحيث لم يسعها إلا التسليم له، والانقياد والإذعان طائعة مختارة، فهو الذى كمل عقولها كما يكمل الطفل برضاع الثدى.

ثم أخبر تعالى عن كمال حالتى نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- فى دنياه وآخرته

فقال: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٢) أى: ثوابا غير منقطع، بل هو دائم مستمر، ونكر الأجر للعظيم، أى أجرا عظيما لا يدركه الوصف ولا يناله التعبير.

ثم أثنى عليه بما منحه

فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٣) وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته، ولقد سئلت عائشة- رضى اللّه عنها- عن خلقه- صلى اللّه عليه وسلم-

فقالت: (كان خلقه القرآن) ومن ثم قال ابن عباس وغيره: أى على دين

__________

(١) سورة القلم: ٢.

(٢) سورة القلم: ٣.

(٣) سورة القلم: ٤.

عظيم، وسمى الدين خلقا لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات فتكتسب النفس بها أخلاقا هى أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها. وهذه كانت أخلاقه- صلى اللّه عليه وسلم- المقتبسة من القرآن، فكان كلامه مطابقا للقرآن تفصيلا وتبيينا، وعلومه علوم القرآن، وإراداته وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه وتركه لما منع منه القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه فى تنفيذ أوامره، فترجمت أم المؤمنين- لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن تعبيرها- عن هذا كله بقولها: (كان خلقه القرآن) ، وفهم السائل عنها هذا المعنى فاكتفى به واشتفى.

ولما وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم

قال: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (١) أى فسترى يا محمد وسيرى المشركون كيف عاقبة أمرك، فإنك تصير معظما فى القلوب، ويصيرون أذلاء مغلوبين، وتستولى عليهم بالقتل والنهب.

الفصل الثانى فى قسمه تعالى على ما أنعم به عليه وأظهره من قدره العلى لديه

قال اللّه تعالى: وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٢) السورة. أقسم تعالى على إنعامه على رسوله- صلى اللّه عليه وسلم- وإكرامه له وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته، وعلى جزائه فى الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد. وأقسم تعالى بايتين عظيمتين من آياته دالتين على ربوبيته ووحدانيته، وحكمته ورحمته، وهما الليل والنهار، وفسر بعضهم- كما حكاه الإمام فخر الدين- الضحى بوجهه- صلى اللّه عليه وسلم- والليل بشعره،

قال: ولا استبعاد فيه.

وتأمل مطابقة هذا القسم، وهو نور الضحى الذى يوافى بعد ظلام

__________

(١) سورة القلم: ٥، ٦.

(٢) سورة الضحى: ١- ٣.

الليل، للمقسم عليه وهو نور الوحى الذى وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدا ربّه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحى ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه.

وأيضا فإن الذى اقتضت رحمته أن لا يترك عباده فى ظلمة الليل سرمدا بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم لا يتركهم فى ظلمة الجهل والغى بل يهداهم بنور الوحى والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط المقسم به بالمقسم عليه. وتأمل هذه الجزالة والرونق الذى على هذه الألفاظ، والجلالة التى على معانيها.

ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيه أو قلاه، والتوديع: الترك، والقلى:

البغض، أى: ما تركك منذ اعتنى بك، ولا أبغضك منذ أحبك، وحذف (الكاف) من (قلا) اكتفاء بكاف ودعك، ولأن رؤوس الآيات بالياء فأوجب اتفاق الفواصل حذفها.

وهذا يعم كل أحواله، وإن كل حالة يرقيه إليها هى خير له مما قبلها، كما أن الدار الآخرة خير له مما قبلها، ثم وعده بما تقربه عينه وتفرح به نفسه، وينشرح له صدره، وهو أن يعطيه فيرضى. وهذا يعم ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر والظفر بأعدائه يوم بدر وفتح مكة، ودخول الناس فى الدين أفواجا، والغلبة على بنى قريظة والنضير، وبث عساكره وسراياه فى بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين فى أقطار الأرض من المدائن، وقذف فى قلوب أعدائه من الرعب، ونشر الدعوة، ورفع ذكره وإعلاء كلمته، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه فى موقف القيامة من الشفاعة والمقام المحمود، وما يعطيه فى الجنة من الوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر. وقال ابن عباس:

يعطيه ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابها المسك وفيها ما يليق بها.

وبالجملة: فقد دلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه- صلى اللّه عليه وسلم- كل ما يرضيه. وأما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى واحد من أمته فى النار، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم، فإنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- يرضى بما يرضى به ربه تبارك

وتعالى، وهو سبحانه يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، ثم يحد لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حدّا يشفع فيهم- كما سيأتى فى المقصد الأخير- إن شاء اللّه تعالى- ورسوله-صلى اللّه عليه وسلم- أعرف به وبحقه من أن يقول: لا أرضى أن تدخل أحدا من أمتى النار أو تدعه فيها، بل ربه تبارك وتعالى يأذن له فيشفع فيمن شاء اللّه أن يشفع فيه، ولا يشفع فى غير من أذن له ورضيه.

ثم ذكره سبحانه نعمه عليه من إيوائه بعد يتمه،

فقال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (١) وذهب بعضهم إلى أن معنى اليتيم من قولهم: درة يتيمة، أى: ألم يجدك واحدا فى قريش عديم النظير فاواك إليه وأغناك بعد الفقر.

ثم أمره سبحانه أن يقابل هذه النعم الثلاث بما يليق بها من الشكر فنهاه أن يقهر اليتيم، وأن ينهر السائل، وأن يكتم النعمة، بل يحدث بها، فإن من شكر النعمة الحديث بها. وقيل المراد بالنعمة النبوة، والتحدث بها: تبليغها.

الفصل الثالث فى قسمه تعالى على تصديقه ص فيما أتى به من وحيه وكتابه وتنزيهه عن الهوى فى خطابه

قال اللّه تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٢) . أقسم تعالى بالنجم على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغى. واختلف المفسرون فى المراد بالنجم بأقاويل معروفة. منها: (النجم) على ظاهره، وتكون (أل) لتعريف العهد فى قول، ولتعريف الجنس فى آخر، وهى النجوم التى يهتدى بها.

فقيل: الثريا إذا سقطت وغابت، وهو مروى عن ابن عباس فى رواية على بن أبى طلحة وعطية. والعرب إذا أطلقت النجم تريد به الثريا. وعن ابن عباس فى رواية

__________

(١) سورة الضحى: ٦.

(٢) سورة النجم: ١- ٣.

عكرمة: النجوم التى ترمى بها الشياطين إذا سقطت فى آثارها عند استراق السمع، وهذا قول الحسن، وعن السدى الزهرى، وعن الحسن أيضا النجوم إذا سقطت يوم القيامة.

وقيل المراد به النبت الذى لا ساق له، و (هوى) أى سقط على الأرض.

وقيل: القرآن، رواه الكلبى عن ابن عباس، لأنه نزل نجوما على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو قول مجاهد ومقاتل والضحاك. وقال جعفر بن محمد بن على ابن الحسين: هو محمد-صلى اللّه عليه وسلم- (إذا هوى) أى نزل من السماء ليلة المعراج.

وأظهر الأقوال- كما قاله ابن القيم- أنها النجوم التى ترمى بها الشياطين، ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التى نصبها اللّه تعالى آية وحفظا للوحى من استراق الشياطين. على أن ما أتى به رسوله حق وصدق لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه، بل قد حرس بالنجم إذا هوى رصدا بين يدى الوحى، وحرسا له، وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه فى غاية الظهور. وفى المقسم به دليل على المقسم عليه. وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله: بالنجم إذا هوى، ولا تسمية نزوله هويا، ولا عهد فى القرآن بذلك، فيحمل هذا اللفظ عليه. وليس بالبين تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت. وليس بالبين أيضا القسم بالنجوم عند انتشارها يوم القيامة. بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه باياته، فلا يجعله نفسه دليلا لعدم ظهوره للمخاطبين ولا سيما منكرو البعث، فإنه سبحانه إنما يستدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه، ثم إن بين المقسم به والمقسم عليه من المناسبة ما لا يخفى.

فإن قلنا إن المراد النجوم التى هى للاهتداء فالمناسبة ظاهرة، وإن قلنا إن المراد الثريا فلأنه أظهر النجوم عند الرائى، لأنه لا يشتبه بغيره فى السماء، بل هو ظاهر لكل أحد، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- تميز عن الكل بما منح من الآيات البينات، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق حان إدراك الثمار، وإذا ظهرت من المغرب قرب أواخر الخريف فتقل الأمراض، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما ظهر قل الشرك، والأمراض القلبية.

وإن قلنا إن المراد بها القرآن فهو استدلال بمعجزته- صلى اللّه عليه وسلم- على صدقه وبراءته، وأنه ما ضل ولا غوى، وإن قلنا إن المراد النبات، فالنبات به نبات القوى الجسمانية وصلاحها، والقوى العقلية أولى بالصلاح، وذلك بالرسل وإيضاح السبل. وتأمل كيف

قال تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ (١) ولم يقل:

ما ضل محمد، تأكيدا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم، وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غى ولا ضلال، ولا ينقمون عليه أمرا واحدا قط، وقد نبه تعالى على هذا المعنى بقوله عز وجل:

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ (٢) . ثم نزه نطق رسوله- صلى اللّه عليه وسلم- أن يصدر عن هوى

فقال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٣) ولم يقل:

وما ينطق بالهوى، لأن نفى نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به، فيتضمن هو الأمرين: نفى الهوى عن مصدر النطق، ونفيه عن النطق نفسه، فنطقه بالحق ومصدره الهدى والرشاد، لا الغى والضلال.

ثم قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤) فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أى: ما نطقه إلا وحى يوحى، وهذا أحسن من جعل الضمير عائدا إلى القرآن، فإن نطقه بالقرآن والسنة، وإن كليهما وحى،

قال اللّه تعالى: وَأَنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ (٥) وهما القرآن والسنة.

وذكر الأوزاعى عن حسان بن عطية

قال: كان جبريل ينزل على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن يعلمه إياها.

ثم أخبر تعالى فى وصف من علمه الوحى والقرآن بما يعلم أنه مضاد لأوصاف الشيطان معلم الضلال والغواية ف

قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٦)

__________

(١) سورة النجم: ٢.

(٢) سورة المؤمنون: ٦٩.

(٣) سورة النجم: ٣، ٤.

(٤) سورة النجم: ٤.

(٥) سورة النساء: ١١٣.

(٦) سورة النجم: ٥.

وهو جبريل، أى قواه العلمية والعملية كلها شديدة، ولا شك أن مدح المعلم مدح للمتعلم. فلو

قال: علمه جبريل ولم يصفه لم يحصل للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- به فضيلة ظاهرة. وهذا نظير

قوله تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (١) كما سيأتى البحث فيه- إن شاء اللّه تعالى-.

ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه. وأن القلب صدق العين، وليس كمن رأى شيئا على خلاف ما هو به، فكذب فؤاده بصره، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك. وفى حديث قصة الإسراء مزيد لما ذكرته هنا، واللّه الموفق والمعين.

وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ إلى قوله:

وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢) . أى: لا أقسم إذا الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم. أقسم، و (لا) مزيدة للتأكيد، وهذا قول أكثر المفسرين بدليل

قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٣) . قال الزمخشرى:

والوجه أن يقال هى للنفى، أى أنه لا يقسم بالشىء إلا إعظاما له، فكأنه بإدخال حرف النفى يقول: إن إعظامى بإقسامى كلا إعظام، يعنى أنه يستأهل فوق ذلك.

أقسم سبحانه وتعالى بالنجوم فى أحوالها الثلاثة: فى طلوعها وجريانها وغروبها، وبانصرام الليل وإقبال النهار عقيبه من غيره فصل، فذكر سبحانه وتعالى حالة ضعف هذا وإدباره، وحالة قوة هذا وتنفسه وإقباله، يطرد ظلمة الليل بتنفسه، فكلما تنفس هرب الليل وأدبر بين يديه، وذلك من آياته ودلائل ربوبيته أن القرآن قول رسول كريم، وهو هنا جبريل، لأنه ذكر صفته قطعا بعد ذلك بما يعينه به.

وأما رَسُولٍ كَرِيمٍ فى (الحاقة) ٤٠ فهو محمد- صلى اللّه عليه وسلم-. فأضافه

__________

(١) سورة التكوير: ٢٠.

(٢) سورة التكوير: ١٥- ٢٥.

(٣) سورة الواقعة: ٧٦.

إلى الرسول الملكى تارة، وإلى البشرى أخرى، وإضافته إليهما إضافة تبليغ، لا إضافة إنشاء من عندهما، ولفظ (الرسول) يدل على ذلك، فإن الرسول هو الذى يبلغ كلام من أرسله، فهذا صريح فى أنه كلام من أرسل جبريل ومحمدا- صلى اللّه عليه وسلم-، فجبريل تلقاه عن اللّه، ومحمد- صلى اللّه عليه وسلم- تلقاه عن جبريل.

وقد وصف اللّه تعالى رسوله الملكى فى هذه السورة بأنه كريم يعطى أفضل العطايا، وهى العلم والمعرفة والهداية والبر والإرشاد، وهذا غاية الكرم. (ذو قوة) كما قال فى النجم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى(١) فيمنع بقوته الشياطين أن يدنوا منه وأن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، وروى أنه رفع قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحه حتى سمع أهل السماء نباح كلابها وأصوات بنيها.

عند ذى العرش مكين، أى متمكن المنزلة، وهذه العندية عندية الإكرام والتشريف والتعظيم. مطاع ثم، فى ملائكة اللّه المقربين، يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه، أمين على وحى اللّه ورسالته، فقد عصمه اللّه من الخيانة والزلل.

فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن، وأنه سماع محمد- صلى اللّه عليه وسلم- من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علوّا وجلالة، فقد تولى اللّه تزكيته بنفسه، ثم نزه رسوله البشرى وزكاه مما يقول فيه أعداؤه، ف

قال: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢) وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كاذبون.

ثم أخبر عن رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- لجبريل- عليه السّلام-، وهذا يتضمن أنه ملك موجود فى الخارج يرى بالعيان ويدرك بالبصر، خلافا لقوم؛ فحقيقته عندهم أنه خيال موجود فى الأذهان لا فى العيان، وهذا مما خالفوا فيه جميع الرسل وأتباعهم، وخرجوا به عن جميع الملل، ولهذا كان تقرير رؤية النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لجبريل أهم من تقرير رؤيته لربه تبارك وتعالى، فإن رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- لجبريل هى

__________

(١) سورة النجم: ٥.

(٢) سورة التكوير: ٢٢.

أصل الإيمان الذى لا يتم إلا باعتقادها، ومن أنكرها كفر قطعا، وأما رؤيته لربه تعالى فغايتها أن تكون مسألة نزاع لا يكفر جاحدها بالاتفاق. وقد صرح جماعة من الصحابة بأنه لم يره، فنحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب سبحانه أعظم من رؤية جبريل، فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة.

ثم نزه تعالى رسوليه كليهما- صلى اللّه عليهما وسلم-، أحدهما بطريق النطق، والثانى بطريق اللزوم عما يضاد مقصود الرسالة من الكتمان الذى هو الضنة والبخل والتبديل والتغيير الذى يوجب التهمة، ف

قال: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (١) فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين: أدائها من غير كتمان وأدائها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان. والقراءتان كالآيتين، تضمنت إحداهما- وهى قراءة الضاد- تنزيهه عن البخل، فإن الضنين: البخيل،

يقال: ضننت به أضن، بوزن: بخلت أبخل ومعناه، وقال ابن عباس: ليس ببخيل بما أنزل اللّه، وقال مجاهد: لا يضن عليهم بما يعلم.

وأجمع المفسرون على أن الغيب هاهنا: القرآن والوحى. قال الفراء:

يقول اللّه تعالى: يأتيه غيب من السماء وهو منفوس فيه، فلا يضنن به عليكم. وهذا معنى حسن جدّا، فإن عادة النفوس الشح بالشىء النفيس، ولا سيما عمن لا يعرف قدره، ومع هذا فالرسول- صلى اللّه عليه وسلم- لا يبخل عليكم بالوحى الذى هو أنفس شىء وأجله. وقال أبو على الفارسى: المعنى يأتيه الغيب فيبينه ويخبر به ويظهره ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه حتى يأخذ عليه حلوانا.

وأما قراءة من قرأ (بظنين) بالظاء فمعناه: المتهم،

يقال: ظننت زيدا بمعنى اتهمته وليس هو من الظن الذى هو الشعور والإدراك، فإن ذلك يتعدى إلى مفعولين، والمعنى: وما هذا الرسول على القرآن بمتهم، بل هو أمين فيه لا يزيد فيه ولا ينقص منه. وهذا يدل على أن الضمير فيه يرجع إلى محمد

__________

(١) سورة التكوير: ٢٤.

- صلى اللّه عليه وسلم-، لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكى بالأمانة ثم قال وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (١) ثم

قال: وما هو: أى وما صاحبكم بمتهم وبخيل فنفى سبحانه عن رسوله- صلى اللّه عليه وسلم- ذلك كله، وزكى سند القرآن أعظم تزكية. واللّه يقول الحق وهو يهدى السبيل.

وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٢) الآية. أقسم تعالى بالأشياء كلها، ما يبصرون منها وما لا يبصرون، وهذا أعمّ قسم وقع فى القرآن، فإنه يعم العلويات والسفليات، والدنيا والآخرة، وما يرى وما لا يرى ويدخل فى ذلك الملائكة كلهم والجن والإنس والعرش والكرسى وكل مخلوق، وذلك من آيات قدرته وربوبيته، ففى ضمن هذا القسم أن كل ما يرى وما لا يرى آية ودليل على صدق رسوله- صلى اللّه عليه وسلم-، وأن ما جاء به هو من عند اللّه تعالى وهو كلامه تعالى، لا كلام شاعر ولا مجنون، ولا كاهن، وأنه حق ثابت كما أن سائر الموجودات ما يرى منها وما لا يرى حق، كما

قال تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٣) فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إن القرآن حق كما أن ما تشاهدونه من الخلق وما لا تشاهدونه حق موجود، ويكفى الإنسان من جميع ما يبصره (نفسه) ومبدأ خلقه ونشأته وما يشاهد من أحواله ظاهرا وباطنا، ففى ذلك أبين دلالة على وحدانية الرب سبحانه وثبوت صفاته وصدق ما أخبر به رسوله- صلى اللّه عليه وسلم-، ومن لم يباشر قلبه ذلك حقيقة لم يخالط بشاشة الإيمان قلبه.

ثم أقام سبحانه البرهان القاطع على صدق رسوله، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله، وأنه لو تقول عليه وافترى لما أقره ولعاجله بالإهلاك، فإن كمال علمه وقدرته وحكمته تأبى أن يقر من تقول عليه وافترى عليه، وأضل عباده

__________

(١) سورة التكوير: ٢٢.

(٢) سورة الحاقة: ٣٨- ٤٠.

(٣) سورة الذاريات: ٢٣.

واستباح دماء من كذبه وحريمهم وأموالهم، فكيف يليق بأحكم الحاكمين وأقدر القادرين أن يقر على ذلك، بل كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره ويظفره بهم، فيسفك دماءهم ويستبيح أموالهم وأولادهم وبلادهم ونساءهم قائلا إن اللّه أمرنى بذلك، وأباحه لى؟ بل كيف يليق به أن يصدق بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره، وبالآيات المستلزمة لصدقه، ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية على انفرادها مصدقة له، ثم يقيم الدلائل القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله، فمن أعظم المحال وأبطل الباطل، وأبين البهتان أن يجوز على أحكم الحاكمين أن يفعل ذلك.

والمراد بالرسول الكريم هنا محمد- صلى اللّه عليه وسلم- كما قدمته- لأنه لما

قال: إنه لقول رسول كريم ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن، والمشركون ما كانوا يصفون جبريل- عليه السّلام- بالشعر والكهانة.

ومن ذلك

قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (١) . قيل المراد ب (الكتاب المكنون) اللوح المحفوظ.

قال ابن القيم: والصحيح أنه الكتاب الذى بأيدى الملائكة، وهو المذكور فى

قوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (٢) قال مالك: أحسن ما سمعت فى هذه أنها مثل الذى فى (عبس) ،

قال: ومن المفسرين من

قال: إن المراد أن المصحف لا يمسه إلا طاهر، والأول أرجح لأن الآية سيقت تنزيها للقرآن أن تتنزل به الشياطين، أن محله لا تصل إليه، كما

قال تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٣) وأيضا:

__________

(١) سورة الواقعة: ٧٥- ٧٩.

(٢) سورة عبس: ١٣- ١٦.

(٣) سورة الشعراء: ٢١٠، ٢١١.

فإن قوله لا يَمَسُّهُ (١) بالرفع، فهذا خبر لفظا ومعنى، ولو كان نهيا لكان مفتوحا. ومن حمل الآية على النهى احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهى، والأصل فى الخبر والنهى حمل كل منهما على حقيقته، وليس هاهنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهى، انتهى ملخصا.

وهذا الذى قاله ابن القيم قد تمسك به جماعة منهم داود، بأنه يجوز مس المصحف للمحدث. وقد أجاب ابن الرفعة فى (الكفاية) عن أدلتهم المزخرفة فقال ما نصه: القرآن لا يصح مسه، فعلم أن المراد به الكتاب الذى هو أقرب المذكورين، ولا يتوجه النهى إلى اللوح المحفوظ لأنه غير منزل، ومسه غير ممكن، ولا يمكن أن يكون المراد بالمطهرين الملائكة،. لأنه قد نفى وأثبت فكأنه

قال: يمسه المطهرون ولا يمسه غير المطهرين، والسماء ليس فيها غير مطهر بالإجماع، فعلم أن المراد: المطهرين من الآدميين، ويبين ذلك ما روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال فى كتاب عمرو بن حزم المروى فى الدار قطنى وغيره: (ولا تمس القرآن إلا وأنت على طهر) (٢) ثم قال، فإن قيل: قد قال الواحدى أن أكثر أهل التفسير على أن المراد اللوح المحفوظ، وأن المطهرين الملائكة، ثم لو صح ما قلتم لم يكن فيها دليل لأن قوله لا يَمَسُّهُ (٣) بضم السين، ليس ينهى عن المراد ولو كان نهيا لكان بفتح السين، فهو إذا خبر.

قلنا: أما قول (أكثر المفسرين) فهو معارض بقول الباقين، والمرجع إلى الدليل، وأما كون المراد بالآية الخبر، فجوابه: أنا نقول: اللفظ لفظ الخبر ومعناه النهى، وهو كثير فى القرآن،

قال اللّه تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها (٤) ، وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ (٥) . انتهى.

__________

(١) سورة الواقعة: ٧٩.

(٢) صحيح: أخرجه مالك فى (الموطأ) (١/ ١٧٧) مرسلا: ووصله الدار قطنى فى (سننه) (١/ ١٢٢).

(٣) سورة الواقعة: ٧٩.

(٤) سورة البقرة: ٢٣٣.

(٥) سورة البقرة: ٢٢٨.

وأجاب العلامة البساطى فى شرحه لمختصر الشيخ خليل: بأن (يمسه) مجزوم، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح به جماعة، وقالوا: إنه مذهب البصريين، ومنهم ابن الحاجب فى (شافيته)انتهى.

وقد ذكر هذا العلامة شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد بن مسعود الحلبى الشافعى، المشهور ب (السمين) ، مع زيادة إيضاح وفوائد فقال فى (لا) هذه وجهان، الثانى: أنها ناهية، والفعل بعدها مجزوم، لأنه لو فكّ عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ (١) ولكنه أدغم، ولما أدغم حرك آخره بالضمة لأجل (هاء) ضمير المذكور الغائب، ولم يحفظ سيبويه فى نحو هذا إلا الضم. وفى الحديث (إنا لم نردّه عليك إلا أنا حرم) (٢) وإن كان القياس جواز فتحه تخفيفا.

قال: وبهذا الذى ذكرته يظهر فساد رد من رد بأنه لو كان نهيا لكان ي

قال: (لا يمسّه) بالفتح، لأنه خفى عليه جواز ضم ما قبل الهاء فى هذا النحو، لا سيما على رأى سيبويه فإنه لا يجيز غيره.

الفصل الرابع: فى قسمه تعالى على تحقيق رسالته

قال اللّه سبحانه وتعالى: يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) الآية

 اعلم أن كل سورة بدأ اللّه تعالى فيها بحروف التهجى كان فى أوائلها الذكر أو الكتاب أو القرآن إلا (نون) . ثم إن فى ذكر هذه الحروف فى أوائل السور أمورا تدل على أنها غير خالية عن الحكمة، لكن علم الإنسان لا يصل إليها إلا إن كشف اللّه له سر ذلك. واختلف المفسرون فى معنى (يس) على أقوال:

__________

(١) سورة آل عمران: ١٧٤.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٢٥) فى الحج، باب: إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيّا حيّا لم يقبل، ومسلم (١١٩٣) فى الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، من حديث الصعب بن جثامة- رضى اللّه عنه-.

(٣) سورة يس: ١- ٣.

أحدها: أنه يا إنسان، بلغة طىء، وهذا قول ابن عباس والحسن وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير،

وقيل: بلغة الحبشة،

وقيل: بلغة كلب، وحكى الكلبى أنها بالسريانية.

قال الإمام فخر الدين: وتقريره هو أن تصغير إنسان: أنيسين، وكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال (يس) ، وعلى هذا فيكون الخطاب مع محمد- صلى اللّه عليه وسلم- ويدل عليه قوله تعالى إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١) .

وتعقبه أبو حيان: بأن الذى نقل عن العرب فى تصغير إنسان: أنيسيان- بياء بعدها ألف- فدل على أن أصله: إنسيان، لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، لا يعلم أنهم قالوا فى تصغيره أنيسين، وعلى تقدير أنه يصغر كذلك فلا يجوز ذلك إلا أن يا بنى على الضم لأنه منادى مقبل عليه، ومع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير، ويمتنع ذلك فى حق النبوة. انتهى.

قال السمين: وهذا الاعتراض الأخير صحيح، فقد نصوا على أن التصغير لا يدخل فى الأسماء المعظمة شرعا، ولذلك يحكى أن ابن قتيبة لما قال فى (المهيمن) إنه مصغر من (مؤمن) والأصل: مؤتمن، فأبدلت الهمزة هاء، قيل له: هذا يقرب من الكفر، فليتق اللّه قائله، انتهى.

وقيل معنى (يس) يا محمد، قاله ابن الحنفية والضحاك.

وقيل: يا رجل، قاله أبو العالية.

وقيل: هو اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وعن أبى بكر الوراق: يا سيد البشر. وعن جعفر الصادق: أنه أراد يا سيد، مخاطبة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وفيه من تعظيمه وتمجيده ما لا يخفى، وعن طلحة عن ابن عباس: أنه قسم أقسم اللّه تعالى به، وهو من أسمائه. وعن كعب: أقسم اللّه به قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفى عام: يا محمد إنك لمن المرسلين. ثم

قال: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢) وهو رد على الكفار حيث قالوا: لَسْتَ مُرْسَلًا (٣) فأقسم اللّه تعالى باسمه وكتابه:

__________

(١) سورة يس: ٣.

(٢) سورة يس: ٢، ٣.

(٣) سورة الرعد: ٤٣.

إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده وعلى طريق مستقيم من إيمانه، أى طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش: لم يقسم اللّه تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة فى كتابه إلا له- صلى اللّه عليه وسلم-.

الفصل الخامس فى قسمه تعالى بمدة حياته صلى اللّه عليه وسلم وعصره وبلده

قال اللّه تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (١) . والعمر والعمر واحد، ولكنه فى القسم يفتح لكثرة الاستعمال، فإذا أقسموا قالوا:

لعمرك القسم. قال النحويون: ارتفع قوله (لعمرك) بالابتداء، والخبر محذوف، والمعنى: قسمى، فحذف الخبر لأن فى الكلام دليلا عليه، وباب القسم يحذف منه الفعل نحو: تاللّه لأفعلن، والمعنى: أحلف باللّه، فتحذف (أحلف) لعلم المخاطب بأنك حالف.

قال الزجاجى:

من قال: لعمر اللّه كأنه حلف ببقاء اللّه، ومن ثم قال المالكية والحنفية: ينعقد بها اليمين، لأن بقاء اللّه من صفات ذاته. وعن مالك: لا يعجبنى الحلف بذلك.

وقال الإمام الشافعى وإسحاق: لا يكون يمينا إلا بالنية، وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عنه كالشافعى. واختلف فيمن المخاطب فى الآية على قولين:

أحدهما: أن الملائكة قالت للوط- عليه السّلام- لما وعظ قومه و

قال: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٢) : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٣) ، أى يتحيرون فكيف يعقلون قولك، ويلتفتون إلى نصيحتك؟!

والثانى: أن الخطاب لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وأنه تعالى أقسم بحياته،

__________

(١) سورة الحجر: ٧٢.

(٢) سورة الحجر: ٧١.

(٣) سورة الحجر: ٧٢.

وفى هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض. قال ابن عباس: ما خلق اللّه، وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، وما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد غيره،

قال اللّه تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (١) يقول: وحياتك وعمرك وبقائك فى الدنيا إنهم لفى سكرتهم يعمهون. رواه ابن جرير.

ومراده بقوله: (وما سمعت اللّه) ؛ سمعت كلامه المتلو فى الكتب المنزلة. ورواه البغوى فى تفسيره بلفظ: وما أقسم اللّه بحياة أحد إلا بحياته، وما أقسم بحياة أحد غيره، وذلك يدل على أنه أكرم خلق اللّه على اللّه، وعلى هذا فيكون قسمه تعالى بحياة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- كلاما معترضا فى قصة لوط.

قال القرطبى: وإذا أقسم اللّه تعالى بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا: أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته.

وقد قال الإمام أحمد فيمن أقسم بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- ينعقد به يمينه وتجب الكفارة بالحنث، واحتج بكونه- صلى اللّه عليه وسلم- أحد ركنى الشهادة. وقال ابن خويز منداد: واستدل من جوز الحلف به- صلى اللّه عليه وسلم- بأن أيمان المسلمين جرت من عهده- صلى اللّه عليه وسلم- أن يحلفوا به- صلى اللّه عليه وسلم- حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا خاصم أحدهم صاحبه قال له: احلف لى بحق ما حواه صاحب القبر، أو بحق صاحب هذا القبر، أو بحق ساكن هذا القبر، يعنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- (٢) .

__________

(١) سورة الحجر: ٧٢.

(٢) قلت: وقد ذكر القرطبى أيضا فى موضع آخر عند تفسيره لسورة المائدة، آية: (٨٩) ، فى معرض رده على من يجوز الحلف بغير اللّه فقال: وهذا يرده ما ثبت فى الصحيحين وغيرهما عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه أدرك عمر بن الخطاب فى ركب، وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (ألا إن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بابائكم، فمن كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت) وهذا حسر فى عدم الحلف بكل شىء سوى اللّه تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا، وبما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائى وغيرهما عن أبى هريرة- رضى اللّه عنه-،

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تحلفوا بابائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا باللّه إلا وأنتم صادقون) . اه. قلت: ولا يوجد تخصيص لهذا النهى، إلا ما-

وقال اللّه تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (١)

الآية. أقسم تعالى بالبلد الأمين، وهى مكة أم القرى بلده- صلى اللّه عليه وسلم-، وقيده بحلوله- صلى اللّه عليه وسلم- فيه إظهارا لمزيد فضله، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. قاله البيضاوى. ثم أقسم بالوالد وما ولد، وهو فيما قيل: إبراهيم وإسماعيل، وما ولد: محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، وعلى هذا فتتضمن السورة القسم به فى موضعين، وقيل المراد به آدم وذريته، وهو قولالجمهور من المفسرين.

وإنما أقسم تعالى بهم لأنهم أعجب خلق اللّه على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنظر واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى اللّه تعالى والأنصار لدينه، وكل ما فى الأرض من مخلوق خلق لأجلهم، وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة، ومرجع العباد إلى آدم.

وقوله: وَأَنْتَ حِلٌّ (٢) هو من: الحلول، ضد الظعن، فيتضمن إقسامه تعالى ببلده المشتمل على عبده ورسوله، فهو خير البقاع واشتمل على خير العباد فقد جعل اللّه بيته هدى للناس، ونبيه إماما وهاديا لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه.

وقيل: المعنى أنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذى يأمن فيه الطير والوحش، وقد استحل فيه قومك حرمتك. وهذا مروى عن شرحبيل بن سعد.

وعن قتادة: وَأَنْتَ حِلٌّ (٣) أى لست باثم، وحلال لك أن تقتل بمكة

__________

- ورد فى كتاب اللّه عز وجل أنه قسم ببعض آياته، ولو علمنا بهذه القاعدة، لجوزنا الحلف بهذه الآيات كما يجوز الحلف بذات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، إلا أنا نقول ما قاله العلماء من قبلنا أن لها تأويلان: إحداهما: أن هناك محذوف مقدر، تقديره رب ثم ذكر الشىء المحلف به مثل رب الشمس، رب الضحى، رب حياتك، أو أن هذا القسم خاص باللّه عز وجل فقط، حيث يجوز له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، واللّه أعلم.

(١) سورة البلد: ١، ٢.

(٢) سورة البلد: ٢.

(٣) سورة البلد: ٢.

من شئت. وذلك أن اللّه تعالى يفتح عليه مكة وأهلها، وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، فقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وغيره، وحرم دار أبى سفيان.

فإن قلت: هذه السورة مكية، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (١) إخبار عن الحال، والواقعة التى ذكرت فى آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين؟

أجيب: بأنه قد يكون اللفظ للحال، والمعنى مستقبل، كقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٢) . وعلى كل حال فهذا متضمن للقسم ببلد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ولا يخفى ما فيه من زيادة التعظيم، وقد روى أن عمر ابن الخطاب- رضى اللّه عنه- قال للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-: بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه، لقد بلغ من فضيلتك عند اللّه أن أقسم بحياتك دون سائر الأنبياء، ولقد بلغ من فضيلتك عنده أن أقسم بتراب قدميك ف

قال: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (٣) .

وقال تعالى: وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٤) . اختلف فى تفسير العصر على أقوال.

 

فقيل: هو الدهر، لأنه مشتمل على الأعاجيب، لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم وغير ذلك.

وقيل: ذكر العصر الذى بمضيه ينقضى عمرك، فإذا لم يكنى فى مقابلته كسب صار ذلك عين الخسران، وللّه در القائل:

إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى نقص من الأجل

وفى تفسير الإمام فخر الدين والبيضاوى وغيرهما: أنه أقسم بزمان الرسول- صلى اللّه عليه وسلم-. قال الإمام الرازى: واحتجوا له بقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنما مثلكم

__________

(١) سورة البلد: ٢.

(٢) سورة الزمر: ٣٠.

(٣) سورة البلد: ١.

(٤) سورة العصر: ١، ٢.

ومثل من كان قبلكم مثل رجل استأجر أجراء،

فقال: من يعمل لى من الفجر إلى الظهر بقيراط، فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لى من الظهر إلى العصر بقيراط، فعملت النصارى، ثم

قال: من يعمل لى من العصر إلى المغرب بقيراطين فعملتم، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل أجرا، فقال اللّه تعالى: وهل نقصت من أجركم شيئا؟ قالوا: لا،

قال: فذلك فضلى أوتيه من أشاء، فكنتم أقل عملا وأكثر أجرا) (١) رواه البخارى.

قالوا: فهذا الحديث دل على أن العصر هو عصره- صلى اللّه عليه وسلم- الذى هو فيه، فيكون على هذا أقسم تعالى بزمانه فى هذه الآية، وبمكانه فى قوله:

وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) ، وبعمره فى قوله لَعَمْرُكَ (٣) ، فكأنه

قال: وعصرك وبلدك وعمرك، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب تعظيم الظرف فكيف حال المظروف،

قال: ووجه القسم كأنه تعالى

قال: ما أعظم خسرانهم إذا أعرضوا عنك. انتهى.