٦-١ النوع الأول فى آيات تتضمن تعظيم قدره ورفعة ذكره وجليل رتبته وعلو درجته على الأنبياء وتشريف منزلتهقال اللّه تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّه (١) . قال المفسرون: يعنى موسى- عليه السّلام-، كلمه بلا واسطة، وليس نصّا فى اختصاص موسى- عليه السّلام- بالكلام، فقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- أيضا كما مر. فإن قلت: إذا ثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كلمه ربه وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم، كما اشتق لموسى؟ أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق كاسم الفاعل فيطرد، بمعنى أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم وجوبا، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة فلا يطرد، وحينئذ فلا يلزم فى كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضى عضد الدين، وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله الموسى سعد الدين التفتازانى. انتهى. وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ (٢) يعنى محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- رفعه اللّه تعالى من ثلاثة أوجه: بالذات فى المعراج. وبالسيادة على جميع البشر. وبالمعجزات لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- أوتى من المعجزات ما لم يؤته نبى قبله. قال الزمخشرى: وفى هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذى لا يشتبه، والمتميز الذى لا __________ (١) سورة البقرة: ٢٥٣. (٢) سورة البقرة: ٢٥٣. يلتبس، انتهى. وقد بينت هذه الآية وكذا قوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ (١) . أن مراتب الرسل والأنبياء متفاوتة، خلافا للمعتزلة القائلين: بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفى هاتين الآيتين رد عليهم. وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة. وتوقف بعضهم فقال: السكوت أفضل. والمعتمد الذى عليه جماهير السلف والخلف: أن الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما. قال بعض أهل العلم- فيما حكاه القاضى عياض-: والتفضيل المراد لهم هنا فى الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال: أن تكون آياته ومعجزاته أظهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأكثر، أو يكون فى ذاته أفضل وأظهر، وفضله فى ذاته راجع إلى ما خصه اللّه تعالى به من كرامته واختصاصه: من كلام أو خلة أو ما شاء اللّه من ألطافه وتحف ولايته واختصاصه، انتهى. فلا مرية أن آيات نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- ومعجزاته أظهر وأبهر وأكثر وأبقى وأقوى، ومنصبه أعلى ودولته أعظم وأوفر وذاته أفضل وأظهر، وخصوصياته على جميع الأنبياء أشهر من أن تذكر، فدرجته أرفع من درجات جميع المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين. وتأمل حديث الشفاعة فى المحشر، وانتهائها إليه، وانفراده هناك بالسؤدد، كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة) (٢) رواه ابن ماجه. وفى حديث أنس عند الترمذى: (أنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربى ولا فخر) (٣) . لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته- صلى اللّه عليه وسلم- على الأنبياء كلهم ...... واستدل الشيخ سعد __________ (١) سورة الإسراء: ٥٥. (٢) صحيح: وقد تقدم. (٣) إسناده ..... أخرجه الترمذى (٣٦١٠) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. الدين التفتازانى لمطلق أفضليته- صلى اللّه عليه وسلم- بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (١) قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمة بحسب كمالهم فى الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذى يتبعونه. واستدل الفخر الرازى- فى المعالم- بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم قال لمحمد- صلى اللّه عليه وسلم-: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (٢) ، فأمره أن يقتدى بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبا، وإلا فيكون تاركا للأمر، وإذا أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة فقد اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم، فيكون أفضل منهم، وبأن: دعوته- صلى اللّه عليه وسلم- فى التوحيد والعبادة وصلت إلى أكثر بلاد العالم بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته- صلى اللّه عليه وسلم- أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى. وقد روى الترمذى عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى) (٣) . وفى حديث أبى هريرة مرفوعا- عند البخارى-: (أنا سيد الناس يوم القيامة) (٤) وهذا يدل على أنه أفضل من آدم- عليه السّلام- ومن كل أولاده بل أفضل من الأنبياء، بل أفضل الخلق كلهم. وروى البيهقى فى فضائل الصحابة، أنه ظهر على بن أبى طالب من البعد، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (هذا سيد العرب) فقالت عائشة: ألست بسيد العرب؟ فقال: (أنا سيد العالمين وهو سيد العرب) (٥) وهذا يدل على أنه أفضل __________ (١) سورة آل عمران: ١١٠. (٢) سورة الأنعام: ٩٠. (٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٣١٤٨) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، و (٣٦١٥) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- . (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٤٧١٢) فى التفسير، باب: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً. (٥) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ١٣٤) بنحوه. الأنبياء، بل أفضل خلق اللّه كلهم. وقد روى هذا الحديث- أيضا- الحاكم فى صحيحه عن ابن عباس، لكن بلفظ: (أنا سيد ولد آدم، وعلى سيد العرب) (١) . وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه. وله شاهد من حديث عروة عن عائشة، وساقه من طريق أحمد بن عبيد عن ناصح قال: حدثنا الحسين عن علوان- وهما .....ان- عن هشام ابن عروة عن أبيه، عن عائشة بلفظ: (ادعوا لى سيد العرب) قالت: فقلت: يا رسول اللّه ألست سيد العرب؟ ف قال: وذكره (٢) . وكذا أورده من حديث عمر بن موسى الوجيهى- وهو ..... أيضا- عن أبى الزبير عن جابر مرفوعا: (ادعوا لى سيد العرب) فقالت عائشة: ألست بسيد العرب وذكره. قال شيخنا: وكلها .....ة. بل جنح الذهبى إلى الحكم على ذلك بالوضع. انتهى. ولم يقل- صلى اللّه عليه وسلم-: أنا سيد الناس عجبا وافتخارا على من دونه، حاشاه اللّه من ذلك، وإنما قاله- صلى اللّه عليه وسلم- إظهارا لنعمة اللّه تعالى عليه، وإعلاما للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند اللّه تعالى، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة اللّه عليه وعليهم. وكذا العبد إذ لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه فى كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين أنشأ له ذلك فى قلبه سحائب السرور، فإذا انبسطت هذه السحائب فى سماء قلبه وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل الطرب بما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل فطل، وحينئذ يجرى على لسانه الافتخار من غير عجيب ولا فخر، بل فرح بفضل اللّه وبرحمته، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا (٣) فالافتخار على ظاهره، والافتخار والانكسار فى باطنه، ولا ينافى أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف الربانى سيد على الوفائى فى قصيدته التى أولها: __________ (١) هو الحديث السابق. (٢) انظر ما قبله. (٣) سورة يونس: ٥٨. من أنت مولاه حاشا ... علاه أن يتلاشا واللّه يا روح قلبى ... لا مات من بك عاشا قوم لهم أنت ساق ... لا يرجعون عطاشا لا قص دهر جناحا ... له وفاؤك راشا بك النعيم مقيم ... لمن وهبت انتعاشا ومن بحولك يقوى ... لن يضعف الدهر جاشا عبد له بك عز ... فكيف لا يتحاشا حاشا وفاؤك يرمى ... من أنت مولاه حاشا فإن قلت: فما الجمع بين هاتين الآيتين، وبين قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللّه وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(١) . والحديث الثابت فى الصحيحين، عن أبى هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودى فى قسمه: لا والذى اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم اليهودى وقال: أى خبيث، وعلى محمد؟ فجاء اليهودى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- واشتكى على المسلم فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تفضلونى على الأنبياء) وفى رواية (لا تفضلوا بين الأنبياء) (٢) . وحديث أبى سعيد الخدرى عند البخارى ومسلم أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (لا تخيروا بين الأنبياء) (٣) . وحديث ابن عباس عند البخارى ومسلم مرفوعا (ما ينبغى __________ (١) سورة البقرة: ١٣٦. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤١٤) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول اللّه تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، ومسلم (٢٣٧٣) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى اللّه عليه وسلم-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٤١٢) فى الخصومات، باب: ما يذكر فى الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودى، ومسلم (٢٣٧٤) فيما سبق. لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) (١) . وحديث أبى هريرة عند الشيخين، (من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) (٢) . أجاب العلماء: بأن قوله عز وجل: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (٣) يعنى: فى الإيمان بما أنزل إليهم والتصديق بهم، والإيمان بأنهم رسل اللّه وأنبياؤه، والتسوية بينهم فى هذا لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض. وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة: فقال بعضهم: أن نعتقد أن اللّه تعالى فضل بعضهم على بعض فى الجملة. ونكف عن الخوض فى تفصيل التفضيل بارائنا، قال ابن طغر بك: فإن أراد هذا القائل أن نكف عن الخوض فى تفصيل التفضيل بارائنا فصحيح، وإن أراد أنا لا نذكر فى ذلك ما فهمناه من كتاب اللّه وروى لنا من حديث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فسقيم. وقال آخر: تفضل من رفع درجته بخصائص الحظوة والزلفى، ولا نخوض فى تفضيل بعضهم على بعض فى سياسة المنذرين والصبر على الدين، والنهضة فى أداء الرسالة، والحرص على هدى الضلّال، فإن كلا منهم قد بذل فى ذلك وسعه الذى لا يكلفه اللّه تعالى أكثر منه. وقال آخر- مما حكاه القاضى عياض-: إن نهيه- صلى اللّه عليه وسلم- عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فنهى عن التفضيل إذ يحتاج إلى توقيف، وإن من فضل بلا علم فقد كذب. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وفى هذا نظر. انتهى. ولعل وجه النظر من جهة معرفة المتقدم تاريخا من ذلك. ثم رأيت فى تاريخ ابن كثير أن وجه النظر- من جهة- أن هذا من رواية أبى سعيد وأبى هريرة، وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر متأخرا، فيبعد أنه لم __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤١٦) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول اللّه تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، ومسلم (٢٣٧٣) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى اللّه عليه وسلم-. (٢) صحيح: وقد تقدم حديث أبى هريرة قبل قليل. (٣) سورة البقرة: ١٣٦. يعلمه بهذا إلا بعد هذا. وقال آخر: إنما قاله- صلى اللّه عليه وسلم- عن طريق التواضع ونفى التكبر والعجب. قال القاضى عياض: وهذا لا يسلم من الاعتراض. وقيل: لا يفضل بينهم تفضيلا يؤدى إلى تنقيص بعضهم أو الغض منه. وقيل: منع التفضيل فى حق النبوة والرسالة، فإن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فيها على حد واحد، لا يتفاضل. وإنما التفاضل فى زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب، وأما النبوة فى نفسها فلا تتفاضل، وإنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، انتهى، وهذا قريب من القول الثانى. وقال ابن أبى جمرة فى حديث يونس: يريد بذلك نفى التكييف والتحديد على ما قاله ابن خطيب الرى، لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما فى عالم الحس، لأن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أسرى به إلى فوق السبع الطباق، ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (آدم ومن دونه تحت لوائى) وقد اختص-صلى اللّه عليه وسلم- بالشفاعة الكبرى التى لم تكن لغيره من الأنبياء- عليهم السلام-. فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن يكون قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تفضلونى على يونس بن متى) إلا بالنسبة إلى القرب من اللّه سبحانه وتعالى والبعد، فمحمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- وإن أسرى به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس- عليه الصلاة والسلام- وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب والبعد من اللّه سبحانه وتعالى على حد واحد. انتهى. وهو مروى عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس وعزى نحوه لإمام الحرمين. وقال ابن المنير: إن قلت إن لم يفضل على يونس باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق تعالى، فقد فضله باعتبار تفاوت الجهتين فى تفضيل الحق فإنه تعالى فضل الملأ الأعلى على الحضيض الأدنى، فكيف لا يفضله- عليه الصلاة والسلام- على يونس، فإن لم يكن التفضيل بالمكان فهو بالمكانة بلا إشكال. ثم قال: قلت لم ينه عن مطلق التفضيل، وإنما نهى عن تفضيل مقيد بالمكان يفهم منه القرب المكانى فعلى هذا يحمل جمعا بين القواعد، انتهى. واختلف هل البشر أفضل من الملائكة؟ فقال جمهور أهل السنة والجماعة: خواص بنى آدم، وهم الأنبياء، أفضل من خواص الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، والمقربون والكروبيون والروحانيون. وخواص الملائكة أفضل من عوام بنى آدم- قال التفتازانى: بالإجماع بل بالضرورة- وعوام بنى آدم أفضل من عوام الملائكة. فالمسجود له أفضل من الساجد، فإذا ثبت تفضيل الخواص على الخواص ثبت تفضيل العوام على العوام، فعوام الملائكة خدم عمال الخير، والمخدوم له فضل على الخادم، ولأن المؤمنين ركب فيهم الهوى والعقل، مع تسليط الشيطان عليهم بوسوسته، والملائكة ركب فيهم العقل دون الهوى لا سبيل للشيطان عليهم. فالإنسان- كما قاله فى شرح العقائد- يحصل الفضائل والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق والموانع من الشهوة والغضب وسنوح الحاجات الضرورية الشاغلة عن اكتساب الكمالات، ولا شك أن العبادة والكمالات مع الشواغل والصوارف أشق وأدخل فى الإخلاص فتكون أفضل. والمراد بعوام بنى آدم- هنا- الصلحاء لا الفسقة، كما نبه عليه العلامة كمال الدين بن أبى شريف المقدسى، قال: ونص البيهقى عليه فى الشعب وعبارته: قد تكلم الناس قديما وحديثا فى الملائكة والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، وأن الأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. انتهى. وذهب المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة إلى تفضيل الملائكة. وهو اختيار القاضى أبى بكر الباقلانى، وأبى عبد اللّه الحليمى، وتمسكوا بوجوه: الأول: أن الملائكة أرواح مجردة كاملة بالفعل مبرأة عن مبادئ الشرور والآفات كالشهوة والغضب، وعن ظلمات الهيولى والصورة، قوية على الأفعال العجيبة عالمة بالكوائن ماضيها وآتيها من غير غلط. والجواب: أن مبنى ذلك على الأصول الفلسفية دون الأصول الإسلامية. الثانى: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر يتعلمون ويستفيدون منهم بدليل قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (١) وقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ (٢) ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم. والجواب: أن التعليم من اللّه تعالى والملائكة إنما هم مبلغون. الثالث: أنه أطرد فى الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على ذكر الأنبياء، وما ذلك إلا لتقدمهم فى الشرف والرتبة. والجواب: أن ذلك لتقدمهم فى الوجود، أو لأن وجودهم أخفى فالإيمان بهم أقوى وبالتقديم أولى. الرابع: قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للّه وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ (٣) ، فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة على عيسى، إذ القياس فى مثله الترقى من الأدنى إلى الأعلى، ي قال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان، ولا يقال: السلطان ولا الوزير. ثم لا قائل بالفصل بين عيسى- عليه السّلام- وغيره من الأنبياء- عليهم السلام-. والجواب: أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يترفع أن يكون عبدا من عباد اللّه، بل ينبغى أن يكون ابنا له، لأنه مجرد لا أب له، وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بخلاف سائر العباد من بنى آدم، فرد عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك المسيح ولا من هو أعلى منه فى هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم، ويقدرون بإذن اللّه على أفعال أقوى وأعجب من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن اللّه تعالى فالترقى __________ (١) سورة النجم: ٥. (٢) سورة الشعراء: ١٩٣، ١٩٤. (٣) سورة النساء: ١٧٢. والعلو إنما هو فى أمر التجرد وإظهار الآثار القوية لا فى مطلق الشرف والكمال، فلا دلالة على أفضلية الملائكة، انتهى. ثم الملائكة بعضهم أفضل من بعض، وأفضلهم الروح الأمين جبريل، المزكى من رب العالمين، المقول فيه من ذى العزة إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (١) فوصفه بسبع صفات، فهو أفضل الملائكة الثلاثة- الذين هم أفضل الملائكة على الإطلاق- وهم: ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وكذلك الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض، ومحمد- صلى اللّه عليه وسلم- أفضل الأنبياء والرسل، كما تقدم. وأول الأنبياء آدم وآخرهم نبينا محمد- صلى اللّه عليه وسلم-. فأما نبوة آدم فبالكتاب الدال على أنه قد أمر ونهى، مع القطع بأنه لم يكن فى زمنه نبى آخر، فهو بالوحى لا غير، وكذا السنة والإجماع، فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرا. وقد اختلف فى عدد الأنبياء والمرسلين، والمشهور فى ذلك ما فى حديث أبى ذر عند ابن مردويه فى تفسيره، قال: قلت يا رسول اللّه، كم الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا) قلت: يا رسول اللّه، كم الرسل منهم؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير) ، قلت: يا رسول اللّه، من كان أولهم؟ قال: (آدم) ثم قال: (يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيت ونوح وخنوخ) - وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم-، (وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر، وأول نبى من بنى إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك) (٢) ، وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان فى كتاب (الأنواع والتقاسيم) وقد وسمه بالصحيح. وخالفه ابن الجوزى فذكره فى ال.......ات واتهم به إبراهيم بن هشام. قال الحافظ ابن كثير: ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح __________ (١) سورة التكوير: ١٩- ٢١. (٢) أخرجه أبو نعيم فى (الحلية) (١/ ١٦٧) . والتعديل من أجل هذا الحديث، فاللّه أعلم. وروى أبو يعلى عن أنس مرفوعا: كان من خلى من إخوانى من الأنبياء ثمانية آلاف نبى، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا والذين نص اللّه تعالى على أسمائهم فى القرآن: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم، ولوط وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب، وموسى وهارون ويونس، وداود وسليمان وإلياس واليسع، وزكريا ويحيى وعيسى. وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين واللّه أعلم. وقال اللّه تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (١) . روى ابن جرير من حديث أبى سعيد، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (أتانى جبريل عليه السلام) ف قال: إن ربى وربك يقول: أتدرى كيف رفعت ذكرك؟ قلت: (اللّه أعلم) قال: إذا ذكرت ذكرت معى (٢) . وذكره الطبرانى، وصححه ابن حبان: وروينا عن الإمام الشافعى قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبى نجيح: معناه لا أذكر إلا ذكرت معى، أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه، قال الإمام الشافعى يعنى- واللّه أعلم- ذكره عند الإيمان باللّه، والأذان، قال: ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية انتهى. وقيل: رفعه بالنبوة. قاله يحيى بن آدم. وعن ابن عطاء: جعلتك ذكرا من ذكرى. فمن ذكرك ذكرنى، وعنه أيضا: جعلت تمام الإيمان بذكرى معك. وعن جعفر بن محمد الصادق: لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرنى بالربوبية. قال البيضاوى: وأى رفعة مثل أن قرن اسمه باسمه فى كلمتى الشهادة، وجعل طاعته طاعته، انتهى، يشير إلى قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّه (٣) وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (٤) وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ (٥) وَأَطِيعُوا اللّه وَالرَّسُولَ (٦) . __________ (١) سورة الشرح: ٤. (٢) أخرجه أبو يعلى وابن حبان والضياء، كما فى (..... الجامع) (٧١) . (٣) سورة النساء: ٨٠. (٤) سورة التوبة: ٦٢. (٥) سورة النساء: ١٣. (٦) سورة آل عمران: ١٣٢. وقول قتادة: رفع اللّه ذكره فى الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، انتهى. فهو مذكور معه فى الشهادة والتشهد، ومقرون ذكره بذكره فى القرآن والخطب والآذان، ويؤذن باسمه فى موقف القيامة. وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن أبى هريرة رفعه: لما نزل آدم- عليه السّلام- بالهند استوحش فنزل جبريل- عليه السّلام- فنادى بالأذان: اللّه أكبر، اللّه أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا اللّه مرتين، أشهد أن محمدا رسول اللّه مرتين، الحديث. وكتب اسمه الشريف على العرش وعلى كل سماء، وعلى الجنان وما فيها. رواه ابن عساكر. وأخرج البزار عن ابن عمر مرفوعا: لما عرج بى إلى السماء، ما مررت بسماء إلا وجدت اسمى مكتوبا فيها: محمد رسول اللّه. وفى الحلية عن ابن عباس رفعه: ما فى الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه. وأخرج الطبرانى من حديث جابر مرفوعا: كان نقش خاتم سليمان بن داود- عليهما السلام- لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه. وعزاه الحافظ ابن رجب فى كتاب أحكام الخواتيم لجزء أبى على الخالدى، و قال: إنه باطل ........ وشق اسمه الكريم من اسمه تعالى، كما قال حسان: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وسماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين اسما، كما بينت ذلك فى أسمائه- صلوات اللّه وسلامه عليه-، وصلى عليه فى ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه، فقال تعالى: إِنَّ اللّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (١) فأخبر عباده بمنزلة نبيه عنده فى الملأ الأعلى بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلى عليه، ثم أمر العالم السفلى بالصلاة والتسليم عليه، فيجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوى والسفلى جميعا. __________ (١) سورة الأحزاب: ٥٦. وكتبه نبيّا وآدم بين الروح والجسد (١) ، وختم به النبوة والرسالة، وأعلن بذكره الكريم فى الأولين والآخرين، ونوه بقدره الرفيع حين أخذ الميثاق على جميع النبيين، وجعل ذكره فى فواتح الرسائل وخواتمها، وشرف به المصاقع على المنابر، وزين بذكره أرباب الأقلام والمحابر، ونشر ذكره فى الآفاق شرقا وغربا، برّا وبحرا، حتى فى السماوات السبع وعند المستوى وصريف الأقلام، والعرش والكرسى، وسائر الملائكة المقربين من الكروبيين والروحانيين والعلويين والسفليين، وجعله فى قلوب المؤمنين بحيث يستطيعون ذكره فترتاح أرواحهم، وربما تميل من طرب سماع اسمه أشباحهم: وإذا ذكرتكم أميل كأننى ... من طيب ذكركم سقيت الراحا كأنه تعالى يقول: أملأ الوجود كله من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة، فهم متمسكون فى الفريضة بأمرى، وفى السنة بأمرك، وجعلت طاعتى طاعتك، وبيعتى بيعتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معانى فرقانك، والوعاظ يبلغون بليغ وعظك، والملوك والسلاطين يقفون فى خدمتك ويسلمون من وراء الباب عليك، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق إلى أبد الآبدين، والحمد للّه رب العالمين. وقال تعالى: طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) اعلم أن للمفسرين فى (طه) قولين، أحدهما: أنها من حروف التهجى، والثانى أنها كلمة مفيدة. وعلى الأولى: قيل معناها، يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادى الخلق إلى الملة، وقيل: (الطاء) فى الحساب بتسعة والهاء بخمسة، فالجملة أربعة عشر، ومعناه: يا أيها البدر، وهذه الأقوال لا يجب أن يعتمد عليها إذ هى، __________ (١) تقدم الحديث الدال على ذلك. (٢) سورة طه: ١، ٢. كما قاله المحققون، من بدع المفسرين، ومثلها قول الواسطى، فيما حكاه القاضى عياض فى (الشفاء) ، أراد: يا طاهر يا هادى. وأما على قول من قال: إنها كلمة مفيدة، ففيه وجهان : أحدهما ، أن معناه: يا رجل، وهو مروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة. قال سعيد بن جبير: بلسان النبطية، وقال قتادة: بلسان السريانية، وقال عكرمة: بلسان الحبشية. وقال البيضاوى: إن صح إن معناه: يا رجل فلعل أصله: يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار، انتهى. وقال الكلبى (١) : لو قلت فى (عكّ) (٢) يا رجل، لم يجبك حتى تقول: طه. وقال السدى: معنى طه يا فلان. وقال الزمخشرى: لعل (عكا) تصرفوا فى (يا هذا) كأنهم فى لغتهم قالبون (الياء)(طاء) فقالوا: فى (يا طاء) واختصروا هذا فاقتصروا على (ها) ، وأثر الصيغة ظاهر لا يخفى فى البيت المستشهد به: إن السفاهة طه فى خلائقكم ... لا قدس اللّه أخلاق الملاعين قال فى البحر: وقد كان قدم أن (طه) فى لغة (عك) فى معنى يا رجل، ثم تخوض وتجرأ على (عك) بما لا يقوله نحوى، وهو أنهم قلبوا (الياء) (طاء) وهذا لا يوجد فى لسان العرب قلب (الياء) التى للنداء (طاء) وكذلك حذف اسم الإشارة فى النداء وإقرار (ها) التى للتنبيه، انتهى. وقيل: معناه يا إنسان. وقرئ (طه) بإسكان الهاء، على أنه أمر له- صلى اللّه عليه وسلم- بأن يطأ الأرض بقدميه. وقد روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقوم فى تهجده على إحدى رجليه، فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا، وأن الأصل (طاء) فقلبت همزته هاء، كما قالوا (هياك) فى: (إياك) ، و (هرقت) فى: أرقت. ويجوز أن يكون الأصل من وطئ على ترك الهمزة، فيكون أصله (طا) __________ (١) الكلبى: .....، وكذلك السدى الذى بعده. (٢) هو: عك بن عدنان أخو معد، قبائل باليمن إليهما تنسب، والمقصد إذا قلت باليمن. يا رجل ثم أثبتت الهاء فيها للوقف. وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل (طه) : طاها، والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية عن الأرض. لكن يرد ذلك: كتبهما على صورة الحرف. وأما قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (١) فذكروا فى سبب نزولها أقوالا: أحدها: أن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدى قالوا لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (بل بعثت رحمة للعالمين)فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ردّا عليهم، وتعريفا له- صلى اللّه عليه وسلم- بأن دين الإسلام والقرآن هو السلّم إلى نيل كل فوز، والسبب فى إدراك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وثانيها: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل: أبق على نفسك، فإن لها عليك حقّا. أى ما أنزلناه عليك لتنتهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحاء. وروى أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام. وقال بعضهم: كان يسهر طول الليل. وتعقب: بأنه بعيد، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- إن فعل شيئا من ذلك فلابد أن يكون قد فعله بأمر اللّه تعالى، وإذا فعله عن أمره فهو من باب السعادة لا من باب الشقاوة. وثالثها: قال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد، لا تشق على نفسك وتعذبها بالأسف على كفر هؤلاء، فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به من آمن، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، فما عليك إلا البلاغ، وهذا كقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢) فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ (٣) . __________ (١) سورة طه: ٢. (٢) سورة الشعراء: ٣. (٣) سورة لقمان: ٢٣. رابعها: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفى ذلك الوقت كان- صلى اللّه عليه وسلم- مقهورا مع أعدائه، فكأنه تعالى قال: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة، بل يعلو أمرك ويظهر قدرك، فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقيّا، بل تصير معظما مكرما، زاده اللّه تعالى تعظيما وتكريما وتشريفا. وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) السورة. قال الإمام فخر الدين ابن الخطيب: فى هذه السورة كثير من الفوائد، منها: أنها كالتتمة لما قبلها من السور، وذلك لأن اللّه تعالى جعل سورة(والضحى) فى مدح نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-، وتفصيل أحواله، فذكر فى أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته وهى قوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٢) ثم ختمها كذلك بأحوال ثلاثة فيما يتعلق بالدنيا، وهى قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا (٣) أى عن علم الحكم والأحكام فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (٤) . ثم ذكر فى سورة أَلَمْ نَشْرَحْ (٥) أنه تعالى شرفه- صلى اللّه عليه وسلم- بثلاثة أشياء وهى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ أى: ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٦) أىعناءك الثقيل الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ وهكذا سورة سورة، حتى قال: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (٧) أى أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة التى كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها. وإذ أنعمنا عليك بهذه النعم فاشتغل بطاعتنا ولا تبال بقولهم. ثم إن الاشتغال بالعبادة إما أن يكون بالنفس وهو قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وإما بالمال وهو قوله: وَانْحَرْ (٨) . __________ (١) سورة الكوثر: ١. (٢) سورة الضحى: ٣- ٥. (٣) سورة الضحى: ٦، ٧. (٤) سورة الضحى: ٧، ٨. (٥) سورة الشرح: ١. (٦) سورة الشرح: ٢. (٧) سورة الكوثر: ١. (٨) سورة الكوثر: ٢. وتأمل قوله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ (١) كيف ذكر بلفظ الماضى، ولم يقل: سنعطيك، ليدل على أن هذا الإعطاء حصل فى الزمان الماضى، قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد) (٢) ولا شك أن من كان فى الزمان الماضى عزيزا مرعى الجانب أشرف ممن سيصير كذلك، كأنه تعالى يقول: يا محمد قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك فى هذا الوجود، فكيف أمرك بعد وجودك واشتغالك بعبوديتنا يا أيها العبد الكريم، إنا لم نعطك هذا الفضل العميم لأجل طاعتك، وإنما اخترناك بمجرد فضلنا وإحساسنا من غير موجب. واختلف المفسرون فى تفسير (الكوثر) على وجوه: منها: أنه نهر فى الجنة، وهذا هو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف، فروى أنس أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (بينا أنا أسير فى الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر) (٣) رواه البخارى. وقيل: الكوثر أولاده، لأن هذه السورة إنما نزلت ردّا على من عابه- صلى اللّه عليه وسلم- بعدم الأولاد، وعلى هذا فالمعنى: أنه يعطيه نسلا يبقون على ممر الزمان. فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يتفق ذلك لنبى من الأنبياء غيره. وقيل: الكوثر الخير الكثير. وقيل: النبوة، وهى الخير الكثير. وقيل: علماء أمته، وقيل الإسلام، ولا ريب أنهما من الخير الكثير، فالعلماء ورثة الأنبياء (٤) ، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذى، وأما (علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل) (٥) فقال الحافظ ابن حجر، ومن قبله __________ (١) سورة الكوثر: ١. (٢) صحيح: وقد تقدم. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٥٨١) فى الرقاق، باب: فى الحوض. (٤) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٦٤١) فى العلم، باب: الحث على طلب العلم، والدارمى فى (سننه) (٣٤٢) ، من حديث أبى الدرداء- رضى اللّه عنه-. (٥) .......: انظر (كشف الخفاء) للعجلونى (١٧٤٤) . الدميرى والزركشى، أنه ........ نعم روى أبو نعيم فى فضل العالم العفيف بسند ..... عن ابن عباس رفعه: أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد. وقيل: الكوثر كثرة الأتباع والأشياع. وعن بعضهم: المراد بالكوثر العلم، وحمله عليه أولى لوجوه: أحدها أن العلم هو الخير الكثير، والثانى: إما أن يحمل الكوثر على نعم الآخرة أو على نعم الدنيا، قال: والأول غير جائز لأنه قال: إن أعطيناك الكوثر، والجنة سيعطيها لا أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه فى الدنيا، وأشرف الأمور الواصلة إليه فى الدنيا هو العلم والنبوة، فوجب حمل اللفظ على العلم، والثالث: أنه لما قال إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) قال عقبه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) والشىء الذى يتقدم على العبادة هو المعرفة، ولأن (الفاء) فى قوله (فصل) للتعقيب، ومعلوم أن الموجب للعبادة ليس إلا العلم. وقيل الكوثر الخلق الحسن كما فى حديث: ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة (٣) . رواه الطبرانى. وعن ابن عباس: جميع نعم اللّه على نبيه- صلى اللّه عليه وسلم-. وبالجملة: فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقى، فوجب حملها على الكل، ولذا روى أن سعيد بن جبير لما روى هذا القول عن ابن عباس قال له بعضهم: إن ناسا يزعمون أنه نهر فى الجنة، فقال سعيد: النهر الذى فى الجنة من الخير الذى أعطاه اللّه إياه. قال الإمام فخر الدين بن الخطيب: قال بعض العلماء: ظاهر قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (٤) يقتضى أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه اللّه من النبوة والقرآن والذكر __________ (١) سورة الكوثر: ١. (٢) سورة الكوثر: ٢. (٣) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٤) و (١٠/ ٤١٨) وعن أم سلمة وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، وفى إسنادهما سليمان بن أبى كريمة، وهو ...... (٤) سورة الكوثر: ١. العظيم والنصر على الأعداء. وأما الحوض وسائر ما أعدّ له من الثواب فهو وإن جاز أن ي قال: إنه داخل فيه لأن ما ثبت بحكم وعد اللّه فهو كالواقع، إلا أن الحقيقة ما قدمناه، لأن ذلك وإن أعدّ له فلا يصح أن يقال على الحقيقة إنه أعطاه الكوثر فى حال نزول هذه السورة بمكة، ويحتمل أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بشىء له، يصح أن ي قال: أعطاه ذلك الشىء مع أن الصبى فى ذلك الحال ليس أهلا للتصرف. انتهى. وقد روينا فى صحيح مسلم من حديث أنس (بينما رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما يضحكك أضحك اللّه سنك، يا رسول اللّه؟ قال: (نزلت على آنفا سورة فقرأ: بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (١) . ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا اللّه ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربى، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتى عليه يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتى، فيقول: ما تدرى ما أحدث بعدك) (٢) . وهذا تفسير صريح منه- صلى اللّه عليه وسلم- بأن المراد بالكوثر- هنا- الحوض، فالمصير إليه أولى، وهذا هو المشهور كما تقدم. فسبحان من أعطاه هذه الفضائل العظيمة وشرفه بهذه الخصال العميمة، وحباه بما أفاضه عليه من نعمه الجسيمة. وقد جرت عادة اللّه مع أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- أن يناديهم بأسمائهم الأعلام نحو: يا آدَمُ اسْكُنْ (٣) يا نُوحُ اهْبِطْ (٤) يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللّه (٥) يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ(٦) ، وأما نبينا محمد __________ (١) سورة الكوثر: ١- ٣. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٤٠٠) فى الصلاة، باب: حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة. (٣) سورة البقرة: ٣٥. (٤) سورة هود: ٤٨. (٥) سورة القصص: ٣٠. (٦) سورة المائدة: ١١٠. - صلى اللّه عليه وسلم- فناداه بالوصف الشريف من الإنباء والإرسال فقال: (يا أيها الرسول) (يا أيها النبى) . وللّه در القائل: فدعا جميع الرسل كلا باسمه ... ودعاك وحدك بالرسول وبالنبى قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا عبيده بأفضل ما أوجد لهم من الأوصاف العلية والأخلاق السنية ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التى لا تشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم، وهذا معلوم بالعرف: أن من دعى بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة فى تعظيمه واحترامه. انتهى. وانظر ما فى نحو قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (١) من ذكر (الرب) تعالى وإضافته إليه- صلى اللّه عليه وسلم-، وما فى ذلك من التنبيه على شرفه واختصاصه بخطابه، وما فى ذلك من الإشارة اللطيفة، وهى أن المقبل عليه بالخطاب، له الحظ الأعظم، والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها إذ هو فى الحقيقة أعظم خلفائه. ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه، وجعله أفضل أنبيائه، أمّ بهم ليلة إسرائه، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم فى أرضه وسمائه، وفى دار تكليفه وجزائه. وبالجملة: فقد تضمن الكتاب العزيز من التصريح بجليل رتبته، وتعظيم قدره، وعلو منصبه، ورفعة ذكره ما يقضى بأنه استولى على أقصى درجات التكريم ويكفى إخباره تعالى بالعفو عنه وملاطفته قبل ذكر العتاب فى قوله تعالى: عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (٢) . وتقديم ذكره على الأنبياء تعظيما له، مع تأخره عنهم فى الزمان فى قوله تعالى: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (٣) وإخباره بتمنى أهل النار طاعته فى قوله تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللّه وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (٤) ، وهذا بحر لا ينفد وقطر لا يعد. __________ (١) سورة البقرة: ٣٠. (٢) سورة التوبة: ٤٣. (٣) سورة الأحزاب: ٧. (٤) سورة الأحزاب: ٦٦. النوع الثانى فى أخذ اللّه الميثاق له على النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنهقال اللّه تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (١) الآية. أخبر تعالى أنه أخذ الميثاق على كل نبى بعثه، من لدن آدم- عليه الصلاة والسلام- إلى محمد- صلى اللّه عليه وسلم- أن يصدق بعضهم بعضا، قاله الحسن وطاووس وقتادة. وقيل معناه: أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم. وعن على بن أبى طالب وابن عباس: ما بعث اللّه نبيّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد- صلى اللّه عليه وسلم- وهو حى- ليؤمنن به ولينصرنه. وما قاله قتادة والحسن وطاووس لا يضاد ما قاله على وابن عباس، ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه. وقيل معناه: أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد- صلى اللّه عليه وسلم- أن يؤمنوا به وأن ينصروه، واحتج له بأن الذين أخذ اللّه الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد- صلى اللّه عليه وسلم- عند مبعثه، وكان الأنبياء عند مبعث محمد- صلى اللّه عليه وسلم- من جملة الأموات، والميت لا يكون مكلفا، فتعين أن يكون الميثاق مأخوذا على الأمم. وقالوا: ويؤكد هذا، أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق بأنهم لو تولوا لكانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، وإنما يليق بالأمم. وأجاب الفخر الرازى: بأن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا فى الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد- صلى اللّه عليه وسلم-. ونظيره قوله تعالى لَئِنْ __________ (١) سورة آل عمران: ٨١. أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (١) ، وقد علم اللّه تعالى أنه لا يشرك قط، ولكنه خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض، وقال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٢) وقال فى الملائكة: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ (٣) مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ (٤) وبأنهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ (٥) ، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير. وإذا نزلت هذه الآية على أن اللّه تعالى لما أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد- صلى اللّه عليه وسلم- لو كانوا فى الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك لكانوا فى زمرة الفاسقين، فلأن يكون الإيمان بمحمد- صلى اللّه عليه وسلم- واجبا على أممهم من باب أولى. فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى فى تحصيل المقصود. وقال السبكى فى هذه الآية: إنه- صلى اللّه عليه وسلم- على تقدير مجيئهم فى زمانه يكون مرسلا إليهم. فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (وبعثت إلى الناس كافة) لا يختص به الناس فى زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضا، وإنما أخذ له المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المتقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم. وفى أخذ المواثيق- وهى فى معنى الاستحلاف، ولذلك دخلت (لام) القسم فى لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (٦) لطيفة: وهى كأنها أيمان البيعة التى تؤخذ للخلفاء، ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هنا. فانظر إلى هذا التعظيم العظيم للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- من ربه تعالى، فإذا عرف __________ (١) سورة الزمر: ٦٥. (٢) سورة الحاقة: ٤٤- ٤٦. (٣) سورة الأنبياء: ٢٩. (٤) سورة الأنبياء: ٢٧. (٥) سورة النحل: ٥٠. (٦) سورة آل عمران: ٨١. هذا فالنبى محمد- صلى اللّه عليه وسلم- نبى الأنبياء، ولهذا ظهر ذلك فى الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه. وفى الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه فى زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم اتباعه والإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ اللّه الميثاق عليهم، فنبوته عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل لهم فى حياتهم، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه. وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فها هنا لا توقف من جهة الفاعل، ولا من ذات النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد فى عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتى عيسى- عليه السّلام- فى آخر الزمان على شريعته، وهو نبى كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتى واحدا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما قلنا من اتباعه للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وإنما يحكم بشريعة نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- بالقرآن والسنة، وكل ما فيهما من أمر ونهى، فهو متعلق به كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبى كريم على حاله لم ينقص منه شىء. وكذلك لو بعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى زمانه أو فى زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم وكانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- نبى عليهم ورسول إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم. وتتفق مع شرائعهم فى الأصول، لأنها لا تختلف، وتقدم شريعته- صلى اللّه عليه وسلم- فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، وفى هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة الشريفة، والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات، وبهذا بان لنا معنى حديثين كانا خفيا عنا: أحدهما: قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (بعثت إلى الناس كافة) (١) ، كنا نظن أنه من زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنه إلى جميع الناس أولهم وآخرهم. __________ (١) صحيح: وقد تقدم. والثانى: قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد) (١) ، كنا نظن أنه بالعلم، فبان أنه زائد على ذلك، وإنما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده- صلى اللّه عليه وسلم- وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهلهم لسماع كلامه لا بالنسبة إليه ولا إليهم، لو تأهلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف فها هنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل، وهو المبعوث إليهم وقبولهم سماع الخطاب والجسد الشريف الذى يخاطبهم بلسانه. وهذا كما يوكل الأب رجلا فى تزويج ابنته إذا وجدت كفأ، فالتوكيل صحيح وذلك الرجل أهل للوكالة، ووكالته ثابتة، وقد يحصل توقف التصرف على وجود الكفء، ولا يوجد إلا بعد مدة، وذلك لا يقدح فى صحة الوكالة وأهلية الوكيل، انتهى. النوع الثالث فى وصفه له ص بالشهادة وشهادته له بالرسالةقال اللّه تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل- عليهما الصلاة والسلام- عند بناء البيت الحرام رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) . فاستجاب اللّه دعاءهما، وبعث فى أهل مكة رسولا منهم بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذى دعا مع أبيه إبراهيم- عليهما السلام- بهذا الدعاء. فإن قلت: من أين علم أن الرسول هنا المراد به محمد- صلى اللّه عليه وسلم-؟ __________ (١) صحيح: وقد تقدم. (٢) سورة البقرة: ١٢٧- ١٢٩. فالجواب من وجوه: أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة. والثانى: قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى) (١) قالوا: وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى هى ما ذكر فى سورة الصف فى قوله: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (٢) . الثالث: إن إبراهيم إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين كانوا بها وبما حولها، ولم يبعث اللّه تعالى إلى من بمكة إلا محمدا- صلى اللّه عليه وسلم-. وقد امتن اللّه تعالى على المؤمنين يبعث هذا النبى منهم على هذه الصفة فقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ (٣) الآية، فليس للّه منة على المؤمنين أعظم من إرساله محمدا-صلى اللّه عليه وسلم- يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وإنما كانت النعمة على هذه الأمة بإرساله أعظم النعم، لأن النعمة به- صلى اللّه عليه وسلم- تمت بها مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين اللّه الذى رضيه لعباده. وقوله: مِنْ أَنْفُسِهِمْ (٤) يعنى أنه بشر مثلهم، وإنما امتاز عليهم بالوحى. وقرئ فى الشواذ (من أنفسهم) - بفتح الفاء- يعنى من أشرفهم، لأنه من بنى هاشم، وبنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم. ثم قيل: لفظ (المؤمنين) عام، ومعناه خاص فى العرب، لأنه ليس حى من أحياء العرب إلا وقد ولده، وخص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به أكثر، فالمنة عليهم أعظم. __________ (١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٢٣) عن العرباض بن سارية، و قال: رواه أحمد بأسانيد والبزار والطبرانى بنحوه، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان. (٢) سورة الصف: ٦. (٣) سورة آل عمران: ١٦٤. (٤) سورة آل عمران: ١٦٤. فإن قلت: هل العلم بكونه- صلى اللّه عليه وسلم- بشرا، ومن العرب، شرط فى صحة الإيمان، أو هو من فروض الكفاية. أجاب الشيخ ولى الدين بن العراقى: بأنه شرط فى صحة الإيمان. قال: فلو قال شخص: أومن برسالة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- إلى جميع الخلق، ولكنى لا أدرى هل هو من البشر أو الملائكة، أو من الجن، أو لا أدرى أهو من العرب أو العجم، فلا شك فى كفره لتكذيبه للقرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفا عن سلف، وصار معلوما بالضرورة عند الخاص والعام، ولا أعلم فى ذلك خلافا. فلو كان غبيّا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه، فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره. انتهى. فإن قلت: هل هو- صلى اللّه عليه وسلم- باق على رسالته إلى الآن؟ أجاب أبو المعين النفسى: بأن الأشعرى قال: إنه- صلى اللّه عليه وسلم- الآن فى حكم الرسالة، وحكم الشىء يقوم مقام أصل الشىء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح. انتهى. وقال غيره: إن النبوة والرسالة باقية بعد موته- صلى اللّه عليه وسلم- حقيقة، كما يبقى وصف الإيمان بعد موته، لأن المتصف بالنبوة والرسالة، والإيمان هو الروح وهى باقية لا تتغير بموت البدن. انتهى. وتعقب: بأن الأنبياء أحياء فى قبورهم، فوصف النبوة باق للجسد والروح معا. وقال القشيرى: كلام اللّه تعالى لمن اصطفاه: أرسلتك أن تبلغ عنى، وكلامه تعالى قديم، فهو- صلى اللّه عليه وسلم- قبل أن يوجد كان رسولا. وفى حال كونه وإلى الأبد رسولا، لبقاء الكلام وقدمه، واستحالة البطلان على الإرسال الذى هو كلام اللّه تعالى. ونقل السبكى فى طبقاته، عن ابن فورك أنه قال: إنه- صلى اللّه عليه وسلم- حى فى قبره، رسول اللّه أبد الآباد على الحقيقة لا المجاز. انتهى. وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١) . __________ (١) سورة الجمعة: ٢. والمراد بالأميين: العرب، تنبيها لهم على قدر هذه النعمة وعظمها حيث كانوا أميين، لا كتاب لهم، وليس عندهم شىء من آثار النبوة، كما عند أهل الكتاب، فمنّ اللّه تعالى عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم وأعلمهم، وعرفوا ضلالة من ضل قبلهم من الأمم. وفى كونه- صلى اللّه عليه وسلم- منهم فائدتان: إحداهما: أن هذا الرسول كان أيضا أميّا كأميّة المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابا قط ولم يخطه بيمينه، كما قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ (١) ، ولا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم، بل لم يزل أميّا بين أمة أمية لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين، وهذه الشريعة الباهرة، وهذا الدين القيم الذى اعترف حذاق أهل الأرض ونظارها أنه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه، وفى هذا برهان عظيم على صدقه-صلى اللّه عليه وسلم-. والفائدة الثانية: التنبيه على أن المبعوث منهم وهم الأميون، وخصوصا أهل مكة، يعرفون نسبه وشرفه وصدقه وأمانته وعفته، وأنه نشأ بينهم معروفا بذلك، وأنه لم يكذب قط، فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفترى الكذب على اللّه عز وجل؟ هذا هو الباطل. ولذلك سأل هرقل عن هذه الأوصاف واستدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة والرسالة. وقد قال اللّه تعالى خطابا له: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ (٢) . ويروى أن رجلا قال: واللّه يا محمد ما كذبتنا قط فنتهمك اليوم ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وعن مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب. ويروى أن المشركين كانوا إذا رأوه- صلى اللّه عليه وسلم- قالوا: إنه لنبى. وعن على: قال أبو جهل للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-: إنا لا __________ (١) سورة العنكبوت: ٤٨. (٢) سورة الأنعام: ٣٣. نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل اللّه تعالى الآية. والمعنى: أنهم ينكرونه مع العلم بصحته. إذ الجحد هو الإنكار مع العلم. فإن قلت: فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ (١) ؟ أجيب: بأنه على طريق الجحد، وهو يختلف باختلاف أحوالهم فى الجهل، فمنهم من وقع منه ذلك لجهله، فحيث علم آمن، ومنهم من علم وأنكر كفرا وعنادا كأبى جهل. فيكون المراد بقوله فإنهم لا يكذبونك، قوما مخصوصين منهم لا كلهم، وحينئذ فلا تعارض. وروى أن أبا جهل لقيه فصافحه فقيل له: أتصافحه؟ فقال: واللّه إنى لأعلم أنه نبى، ولكن متى كنا تبعا لبنى عبد مناف؟ فأنزل اللّه الآية، رواه أبو حاتم. والقرآن كله مملوء بالآيات الدالة على صدق هذا الرسول الكريم، وتحقيق رسالته، فكيف يليق بكمال اللّه أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده، ويعلى كلمته ويرفع شأنه، ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على يده من الآيات والبراهين والأدلة ما يضعف عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه، مفتر ساع فى الأرض بالفساد؟؟ ومعلوم أن شهادته سبحانه وتعالى على كل شىء، وقدرته على كل شىء، وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء، ومن ظن ذلك به وجوزه عليه فهو من أبعد الخلق عن معرفته إن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة. والقرآن كله مملوء من هذه الطريق، وهذه طريقة الخاصة، بل خاصة الخاصة الذين يستدلون باللّه على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله. وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادى على ذلك ويبديه ويعيده لمن له فهم وقلب واع عن اللّه تعالى. قال اللّه تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٢) ، أفتراه سبحانه وتعالى يخبر أن كماله وحكمه يأبى أن يقرّ من __________ (١) سورة الأنعام: ٣٤. (٢) سورة الحاقة: ٤٤- ٤٧. تقول عليه بعض الأقاويل، بل لابد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سننه فى المتقولين عليه. وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللّه يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ (١) هاهنا انتهى جواب الشرط. ثم أخبر خبرا جازما غير معلق بأنه يمحو الباطل ويحق الحق. وقال تعالى: وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّه عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ (٢) ، فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغى ولا عظمه كما يستحق، فكيف من ظن أن اللّه ينصر الكاذب المفترى عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟ وهذا فى القرآن كثير يستدل تعالى بكماله المقدس وأوصافه وجلاله على صدق رسوله، وعلى وعده ووعيده، ويدعو عباده إلى ذلك. وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللّه بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللّه أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣) ، فأخبر سبحانه أن الكتاب الذى أنزله يكفى من كل آية، ففيه الحجة والدلالة على أنه من اللّه، وأن اللّه سبحانه أرسل به رسوله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب. ثم قال: قُلْ كَفى بِاللّه بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (٤) فإذا كان سبحانه عالما بجميع الأشياء كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام محيد بالمشهود به، وهو سبحانه وتعالى يذكر علمه عند شهادته وقدرته، وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه، وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسله، وحلمه عند ذنوب عباده. فتأمل ورود أسمائه الحسنى __________ (١) سورة الشورى: ٢٤. (٢) سورة الأنعام: ٩١. (٣) سورة العنكبوت: ٥١، ٥٢. (٤) سورة العنكبوت: ٥٢. فى كتابه، وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب. انتهى. وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللّه بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (١) . أى شاهدا على الوحدانية، وشاهدا فى الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهدا فى الآخرة بأحوال الدنيا، وبالطاعة والمعصية والصلاح والفساد، وشاهدا على الخلق يوم القيامة كما قال تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (٢) . كأنه تعالى يقول: يا أيها المشرّف من قبلنا، إنا أرسلناك شاهدا بوحدانيتنا ومشاهدا كمال فردانيتنا، تبشر عبادنا عنا، وتحذرهم مخالفة أمرنا، وتعلمهم مواضع الخوف منا، وداعيا الخلق إلينا، وسراجا يستضيئون بك، وشمسا تبسط شعاعك على جميع من صدقك وآمن بك، ولا يصل إلينا إلا من اتبعك وخدمك وقدمك، فبشر بفضلنا وطولنا عليهم وإحساننا إليهم. ولما كان اللّه تعالى قد جعله- صلى اللّه عليه وسلم- شاهدا على الوحدانية، والشاهد لا يكون مدعيا، فاللّه تعالى لم يجعل النبى فى مسألة الوحدانية مدعيا لها، لأن المدعى من يقول شيئا على خلاف الظاهر، والوحدانية أظهر من الشمس، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- كان ادعى النبوة، فجعل اللّه تعالى نفسه شاهدا له فى مجازاة كونه شاهدا له تعالى فقال سبحانه: وَاللّه يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ(٣) ، ومن هذا قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللّه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤) فاستشهد على رسالته بشهادة اللّه له. وكذلك قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللّه شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ (٥) ، وقوله: لكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللّه __________ (١) سورة الأحزاب: ٤٥، ٤٦. (٢) سورة البقرة: ١٤٣. (٣) سورة المنافقون: ١. (٤) سورة الرعد: ٤٣. (٥) سورة الأنعام: ١٩. شَهِيداً (١) وقوله: وَاللّه يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ (٢) وقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّه (٣) ، فهذا كله منه تعالى شهادة لرسوله قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان بحيث قطع العذر بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم بكونه سبحانه شاهدا لرسوله. وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللّه شَهِيداً (٤) . فيظهر ظهورين: ظهورا بالحجة والبيان، وظهورا بالنصر والغلبة والتأييد حتى يظهر على مخالفيه ويكون منصورا. ومن شهادته تعالى أيضا ما أودعه فى قلوب عباده من التصديق الجازم، واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه ووحيه، فإن اللّه تعالى فطر القلوب على قلوب الحق والانقياد له، والطمأنينة والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطرة على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ولهذا ندب الحق سبحانه إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له علما ضروريّا ويقينا جازما أنه حق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٥) ، فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علما ضروريّا كسائر الأمور الوجدانية باللذة والألم أنه من عند اللّه، تكلم به حقّا، وبلغه رسوله جبريل إلى رسوله محمد- صلى اللّه عليه وسلم-. فهذا الشاهد فى القلب من أعظم الشواهد. انتهى ملخصا من مدارج السالكين. __________ (١) سورة النساء: ١٦٦. (٢) سورة المنافقون: ١. (٣) سورة الفتح: ٢٩. (٤) سورة محمد: ٢٤. (٥) سورة الأعراف: ١٥٨. وقال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (١) . ففى هذه الآية دلالة على أنه- صلى اللّه عليه وسلم- مبعوث إلى كافة الثقلين. وقالت العيسوية من اليهود- وهم أتباع عيسى الأصبهانى-. إن محمدا صادق مبعوث إلى العرب، غير مبعوث إلى بنى إسرائيل. ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآية، لأن قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب يتناول كل الناس، ثم قال: إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (٢) وهذا يقتضى كونه مبعوثا إلى جميع الناس. وأيضا: فلأنا نعلم بالتواتر أنه كان يدعى أنه مبعوث إلى الثقلين. فإما أن تقول: كان رسولا حقّا، أو ما كان كذلك، فإن كان رسولا حقّا امتنع الكذب عليه، ووجب الجزم بكونه صادقا فى كل ما يدعيه، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعى كونه مبعوثا إلى جميع الثقلين، وجب كونه صادقا، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثا إلى العرب فقط، لا إلى بنى إسرائيل. وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (٣) من الناس من يقول إنه عام دخله التخصيص، ومنهم من أنكر ذلك. أما الأولون فقالوا: دخله التخصيص من وجهين: الأول: أنه رسول إلى الناس إذا كانوا من جملة المكلفين، فأما إذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولا إليهم، وذلك لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) (٤) رواه ابن جرير عن ابن عباس. __________ (١) سورة الأعراف: ١٥٨. (٢) سورة الأعراف: ١٥٨. (٣) سورة الأعراف: ١٥٨. (٤) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٣٩٩- ٤٤٠٣) فى الحدود، باب: فى المجنون يسرق أو يصيب حدّا، والترمذى (١٤٢٣) فى الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، وابن ماجه (٢٠٤٢) فى الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغيرة والنائم، من حديث على- رضى اللّه عنه-، وفى الباب عن عائشة- رضى اللّه عنها-. والثانى: أنه رسول إلى من وصله خبر وجوده، وخبر معجزاته وشرائعه، حتى يمكنه عند ذلك متابعته. أما لو قدرنا حصول قوم فى طرف من أطراف الأرض لم يبلغهم خبره وخبر معجزاته وشرائعه حتى لا يمكنهم عند ذلك متابعته فلا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته. وعن أبى هريرة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه قال: (والذى نفسى بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة ولا يهودى ولا نصرانى ومات ولم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) (١) رواه مسلم. ومفهومه: أن من لم يسمع بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- ولم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، على ما تقرر فى الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح. وفى هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-. وقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) . خاطب تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا خاتم النبيين الذى لا نبى بعده ولا رسول. بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال تعالى: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ (٣) أى بعد مدة متطاولة، ما بين إرساله وعيسى ابن مريم. وقد اختلفوا فى مقدار هذه الفترة كم هى؟ فقال النهدى وقتادة فى رواية عنه: ستمائة سنة. ورواه البخارى عن سلمان الفارسى. وعن قتادة: خمسمائة وستون سنة، وقال الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة، وعن الشعبى- فيما ذكره ابن عساكر- تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: والمشهور أنها ستمائة سنة، قال: وكانت هى الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بنى إسرائيل، وبين محمد آخر النبيين من بنى آدم على الإطلاق، كما فى البخارى من حديث أبى هريرة مرفوعا: __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (١٥٣) فى الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد- صلى اللّه عليه وسلم- إلى جميع الناس وفسخ الملل بملة. (٢) سورة المائدة: ١٩. (٣) سورة المائدة: ١٩. (أنا أولى الناس بابن مريم ليس بينى وبينه نبى) (١) وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبى يقال له: خالد بن سنان، كما حكاه القضاعى وغيره. والمقصود: أن اللّه بعث محمدا على فترة من الرسل وطموس من السبل وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم والنفع به أعم. وفى حديث عند الإمام أحمدمرفوعا: (إن اللّه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بنى إسرائيل) (٢) وفى لفظ مسلم (من أهل الكتاب) . فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث اللّه محمدا فهدى به الخلائق، وأخرجهم اللّه به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء، والشريعة الغراء، - صلوات اللّه وسلامه عليه-. وقال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٣) . أى: عزيز عليه عنتكم، أى إثمكم بالشرك والمعاصى، حريص عليكم أن تهتدوا. قال الحسن: عزيز عليه أن تدخلوا النار، حريص عليكم أن تدخلوا الجنة، ومن حرصه- صلى اللّه عليه وسلم- علينا أنه لم يخاطبنا بما يريد إبلاغه إلينا، وفهمنا إياه على قدر منزلته، بل على قدر منزلتنا، وإلى هذا أشار صاحب البردة بقوله: لم يمتحنا بما تعيى العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم أى لم نتحير ولم نشك فيما ألقاه إلينا. و قال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (٤) ولا رحمة مع التكليف بما لا يفهم. ومن حرصه- صلى اللّه عليه وسلم- على هدايتنا أنه كان كثيرا ما يضرب المثل بالمحسوس ليحصل الفهم، وهذه سنة __________ (١) صحيح: وقد تقدم. (٢) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٤/ ١٦٢) ، وهو عند مسلم (٢٨٦٥) فى الجنة، باب: الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار، من حديث عياض بن حمار المجاشعى. (٣) سورة التوبة: ١٢٨. (٤) سورة الأنبياء: ١٠٧. القرآن، ومن تتبع الكتاب والسنة رأى من ذلك العجب العجاب، ولما ساوى اللّه سبحانه وتعالى بين الناس فى حرص رسوله- صلى اللّه عليه وسلم- على إسلامهم، خص المؤمنين برأفته ورحمته لهم. وقال تعالى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ (١) ولم يقل: من أرواحكم، فقيل يحتمل أن يكون مراده: أنه منا بجسده المنفس، لا بروحه المقدس، ويرحم اللّه القائل: إذا رمت مدح المصطفى شغفا به ... تبلد ذهنى هيبة لمقامه فأقطع ليلى ساهر الجفن مطرقا ... هوى فيه أحلى من لذيذ منامه إذا قال فيه اللّه جل جلاله ... رؤوف رحيم فى سياق كلامه فمن ذا يجارى الوحى والوحى معجز ... بمختلفيه نثره ونظامه تنبيه:أما قول القاضى عياض بعد ذكره الآية: (ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة، وأثنى عليه بمحامد كثيرة، من حرصه على هدايتهم، ورشدهم وإسلامهم، وشدة ما يعنتهم ويضربهم فى دنياهم وأخراهم، وعزته على ... ) . فهو وإن كان المقصد صحيحا، ففى ظاهره شىء، لأنه يوهم أن قوله (وشدة ما يعنتهم) معطوف على متعلق المصدر الذى هو (الحرص) فيكون مخفوضا به. ومما يقوى هذا التوهم قوة إعطاء الكلام، أن الضمير الأول من قوله (وعزته عليه) عائد على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والضمير الثانى عائد على اللّه عز وجل، فلا تبقى (الشدة) إلا أن تكون معطوفة على متعلق المصدر. ولا يخفى ما فى هذا. وقد تأوله بعض العلماء على حذف مضاف أى: وكراهة شدة ما يعنتهم، أو نحو ذلك من المضافات. والأولى- أو الصواب، إن شاء اللّه تعالى- أن تكون (الشدة) معطوفة على نفس المصدر الذى هو (الحرص) __________ (١) سورة التوبة: ١٢٨. ويكون قوله (وعزته) معطوفا على (وشدة) والضمير فيه راجع إلى الموصول وهو (ما) فى قوله (ما يعنتهم) والهاء الثانية فى (عليه) عائدة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. انتهى. وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١) . يجوز أن يكون (رحمة) مفعولا له، أى لأجل الرحمة، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة فى أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف أى: ذا رحمة، أو بمعنى: راحم. قاله السمين (٢) . وقال أبو بكر بن طاهر- فيما ذكره القاضى عياض-: زين اللّه تعالى محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شىء من رحمته فهو الناجى فى الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب، انتهى. وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبى إذا كذب أهلك اللّه من كذبه. ومحمد أخّر من كذبه إلى الموت أو إلى القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة فى الدنيا والآخرة. وقال السمرقندى: رحمة للعالمين يعنى: الجن والإنس. وقيل: لجميع الخلق للمؤمن رحمة بالهداية، ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافر بتأخير العذاب. فذاته- صلى اللّه عليه وسلم- كما قيل- رحمة تعم المؤمن والكافر، قال اللّه تعالى: وَما كانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ (٣) ، وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنما أنا رحمة مهداة) (٤) رواه الدارمى والبيهقى فى (الشعب) من حديث أبى هريرة. وقال بعض العارفين: الأنبياء خلقوا كلهم من الرحمة، ونبينا- صلى اللّه عليه وسلم- عين الرحمة، ولقد أحسن القائل: غنيمة عمر الكون بهجة عيشه ... سرور حياة الدهر فائدة الدهر هو النعمة العظمى هو الرحمة التى ... تجلى بها الرحمن فى السر والجهر __________ (١) سورة الأنبياء: ١٠٧. (٢) هو: أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبى، أبو العباس شهاب الدين المعروف بالسمين، توفى سنة (٧٥٦ هـ) . (٣) سورة الأنفال: ٣٣. (٤) تقدم. فبيانه- صلى اللّه عليه وسلم- ونصحه رحمة، ودعاؤه واستغفاره رحمة، فرزق ذلك من قبله، وحرمه من رده. فإن قلت: كيف كان رحمة، وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟ فالجواب: من وجهين: أحدهما: أنه إنما جاء بالسيف، لمن استكبر وعاند، ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف اللّه تعالى: الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة، وقد قال تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً (١) ثم قد يكون سببا للفساد. وثانيهما: أن كل نبى من الأنبياء قبل نبينا إذا كذبه قومه أهلك اللّه المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وقد أخر اللّه تعالى عذاب من كذب نبينا إلى الموت، أو إلى القيامة. لا يقال: إنه تعالى قال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ (٢) ، وقال تعالى: لِيُعَذِّبَ اللّه الْمُنافِقِينَ (٣) ، لأنا نقول: تخصيص العام لا يقدح فيه. وفى (الشفاء) للقاضى عياض: وحكى أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال لجبريل: (هل أصابك من هذه الرحمة شىء؟) قال: نعم، كنت أخشى العاقبة فأمنت، لثناء اللّه تعالى علىّ بقوله عز وجل: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٤) . انتهى. وذكره السمرقندى: فى تفسيره بلفظ. وذكر أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال لجبريل يقول اللّه تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (٥) فهل أصابك من هذه الرحمة شىء؟ قال: نعم، أصابنى من هذه الرحمة شىء، كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت بك، لثناء اللّه تعالى علىّ فى قوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٦) . وهذا يقتضى أن محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- أفضل من جبريل، وهو الذى عليه __________ (١) سورة ق: ٩. (٢) سورة التوبة: ١٤. (٣) سورة الأحزاب: ٧٣. (٤) سورة التكوير: ٢٠، ٢١. (٥) سورة الأنبياء: ١٠٧. (٦) سورة التكوير: ٢٠. الجمهور، خلافا لمن زعم أن جبريل أفضل واستدل: بأن اللّه تعالى وصف جبريل بسبعة أوصاف من صفات الكمال فى قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠)مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (١) ، ووصف محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- بقوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢) . ولو كان محمد- صلى اللّه عليه وسلم- مساويا لجبريل فى صفات الفضل أو مقاربا له لكان وصف محمدا بمثل ذلك. وأجيب: بأنا متفقون على أن لمحمد- صلى اللّه عليه وسلم- فضائل أخرى سوى ما ذكر فى هذه الآية، وعدم ذكر اللّه تعالى لتلك الفضائل هنا لا يدل على عدمها بالإجمال، وإذا ثبت أن لمحمد- صلى اللّه عليه وسلم- فضائل أخر زائدة فيكون أفضل من جبريل. وبالجملة: فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل ألبتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثانى، وإذا ثبت بالدليل القرآنى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- رحمة للعالمين، والملائكة من جملة العالمين، وجب أن يكون أفضل منهم، واللّه أعلم. وقال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّه وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ (٣) . وهذه الآية نص فى أنه لا نبى بعده، وإذا كان لا نبى بعده فلا رسول بطريق الأولى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبى، ولا ينعكس، كما قدمنا ذلك فى أسمائه الشريفة من المقصد الثانى. وبذلك وردت الأحاديث عنه- صلى اللّه عليه وسلم-: فروى أحمد من حديث أبى بن كعب أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (مثلى فى النبيين كمثل رجل بنى دارا، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة فلم يضعها: فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا فى النبيين موضع تلك اللبنة) (٤) ورواه الترمذى عن بندار عن __________ (١) سورة التكوير: ١٩- ٢١. (٢) سورة التكوير: ٢٢. (٣) سورة الأحزاب: ٤٠. (٤) صحيح: وقد تقدم. أبى عامر العقدى، وقال: حديث حسن صحيح. وفى حديث أنس بن مالك مرفوعا: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدى ولا نبى) (١) رواه الترمذى وغيره. وفى حديث جابر مرفوعا: (مثلى ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، وأنا موضع هذه اللبنة، ختم بى الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-) (٢) رواه أبو داود الطيالسى، وكذا البخارى ومسلم. وفى حديث أبى سعيد الخدرى: (فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة) (٣) . رواه مسلم. وفى حديث أبى هريرة عند مسلم: (وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بى النبيون) (٤) . فمن تشريف اللّه تعالى له- صلى اللّه عليه وسلم- ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر اللّه فى كتابه، ورسوله فى السنة المتواترة عنه، أنه لا نبى بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تحذق وتشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات (٥) ، فكلها محال وضلالة عند أولى الألباب. ولا يقدح فى هذا نزول عيسى ابن مريم- عليه السّلام- بعده، لأنه إذا نزل كان على دين نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- ومنهاجه، مع أن المراد: أنه آخر من نبئ. قال أبو حيان: ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولى أفضل من النبى فهو زنديق يجب قتله واللّه أعلم. __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٢٧٢) فى الرؤيا، باب: ذهبت النبوة وبقيت البشرات، وأحمد فى (المسند) (٣/ ٢٦٧) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤٠/ ٤٣٣) . (٢) صحيح: وقد تقدم. (٣) صحيح: وقد تقدم. (٤) صحيح: أخرجه مسلم (٥٢٣) فى المساجد، باب: رقم (١) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٥) النيرنج: شىء كالسحر. |