٤-٩ * ومن خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه كان- صلى اللّه عليه وسلم- يخص من شاء بما شاء من الأحكام.كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين. روى أبو داود عن عمارة بن خزيمة ابن ثابت عن عمه وكان من أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ابتاع من أعرابى فرسا، فاستتبعه ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- المشى، وأبطأ الأعرابى، فطفق رجال يعترضون الأعرابى يساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قد ابتاعه، حتى زادوا على ثمنه.. الحديث فطفق الأعرابى يقول هلم شهيدا يشهد أنى قد بعتك، فمن جاء من المسلمين يقول ويلك، إن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لم يكن ليقول إلا الحق، حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع المراجعة ف قال: أنا أشهد، أنك قد بايعته ... الحديث. وفيه، قال: فجعل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شهادة خزيمة برجلين (١) . وفى البخارى من حديث زيد بن ثابت قال: فوجدتها مع خزيمة الذى جعل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شهادته بشهادتين (٢) . __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (٣٦٠٧) فى الأقضية، باب: إذا علم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، والنسائى (٧/ ٣٠١) فى البيوع، باب: التسهيل فى ترك الإشهاد على البيع، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٢١٥). (٢) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (٢٨٠٧) فى الجهاد والسير، باب: قول اللّه تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ ... وعند الحارث بن أبى أسامة فى مسنده من حديث النعمان بن بشير أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- اشترى من أعرابى فرسا، فجحده الأعرابى، فجاء خزيمة فقال: يا أعرابى أنا أشهد عليك أنك بعته، فقال الأعرابى إذ شهد خزيمة فأعطنى الثمن، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (يا خزيمة إنا لم نشهدك، كيف تشهد؟) قال: أنا أصدقك على خبر السماء، ألا أصدقك على خبر ذا الأعرابى؟! فجعل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (شهادته بشهادة رجلين) فلم يكن فى الإسلام من تعدل شهادته شهادة رجلين غير خزيمة. قال الخطابى: هذا الحديث حمله كثير من الناس على غير محمله، وتذرع به قوم من أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عرف عندهم بالصدق على كل شىء ادعاه، وإنما وجه الحديث أنه-صلى اللّه عليه وسلم- حكم على الأعرابى بعلمه، وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد لقوله، والاستظهار على خصمه، فصار فى التقدير بشهادة اثنين فى غيرها من القضايا، انتهى. ومن ذلك ترخيصه فى النياحة لأم عطية، روى مسلم عنها (قالت: لما نزلت هذه الآية يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللّه شَيْئاً ... وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) (١) قالت: كان منه النياحة، فقلت: يا رسول اللّه إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدونى فى الجاهلية، فلا بد لى من أن أسعدهم، ف قال: (إلا آل فلان) (٢) قال النووى: هذا محمول على الترخيص لأم عطية فى آل فلان خاصة، وللشارع أن يخص من العموم ما شاء. ومن ذلك: ترك الإحداد لأسماء بنت عميس، أخرج ابن سعد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبى طالب، قال لى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (تسلبى ثلاثا ثم اصنعى ما شئت) (٣) . __________ (١) سورة الممتحنة: ١٢. (٢) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (٩٣٦) فى الجنائز باب: التشديد فى النياحة، وأسعدونى: أى ساعدونى وعاونونى. (٣) أخرجه ابن الجعد فى (مسنده) (٢٧١٤) ، وتسلبى: أى البسى ثوب الحداد، وهو السلاب، والجمع سلب، وتسلبت المرأة إذا لبسته. وقيل: هو ثوب أسود تغطى به المحد رأسها. ومن ذلك: الأضحية بالعناق (١) لأبى بردة بن نيار، رواه الشيخان من حديث البراء بن عازب قال: خطبنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم النحر فقال: (من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب السنة، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم) ، فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول اللّه، لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلى وجيرانى، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (تلك شاة لحم) ، قال: فإن عندى عناقا جذعة هى خير من شاتى لحم فهل تجزى عنى؟ قال: (نعم ولن تجزى عن أحد بعدك) (٢) . و (نيار) بكسر النون وتخفيف المثناة التحتية وآخره راء. وقوله (تجزى) بفتح أوله غير مهموز، أى تقضى. و (الجذع) بالجيم والذال المعجمة. وفى هذا الحديث تخصيص أبى بردة بإجزاء الجذع من المعز فى الأضحية. ولكن وقع فى عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبى بردة، ففى حديث عقبة ابن عامر (٣) - عند البيهقى-: ولا رخصة فيها لأحد بعدك. قال البيهقى: إن كانت هذه الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبى بردة. قال الحافظ ابن حجر: وفى هذا الجمع نظر، لأن فى كل منهما صيغة عموم، فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثانى، ويحتمل أن تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثانى، ولا مانع من ذلك، لأنه لم يقع فى السياق استمرار المنع لغيره صريحا. وفى كلام بعضهم: أن الذين ثبتت لهم الرخصة اربعة أو خمسة، واستشكل الجمع وليس بمشكل، فإن الأحاديث التى وردت فى ذلك ليس فيها __________ (١) العناق: الأنثى من المعز. (٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٩٥٥) فى الجمعة، باب: الأكل يوم النحر، ومسلم (١٩٦١) فى الأضاحى، باب: وقتها. (٣) قلت: حديث عقبة بن عامر فى الصحيحين، عند البخارى (٢٣٠٠) فى الوكالة، باب: وكالة الشريك فى القسمة وغيرها، ومسلم (١٩٦٥) فى الأضاحى، باب: سن الأضحية. التصريح بالنفى إلا فى قضية أبى بردة فى الصحيح، وفى قصة عقبة بن عامر عند البيهقى، وأما ما عدا ذلك: فأخرج أبو داود وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أعطاه عتودا جذعا، ف قال: (ضح به) ، فقلت إنه جذع أفأضحى به؟ قال: (ضح به) (١) وفى الأوسط للطبرانى من حديث ابن عباس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أعطى سعد بن أبى وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحى به. وأخرجه الحاكم من حديث عائشة (٢) ، وفى سنده ضعف. فلا منافاة بين ذلك وحديثى أبى بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك فى ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزى، واختص أبو بردة، وعقبة بالرخصة فى ذلك. وإن تعذر الجمع بين حديث أبى بردة وحديث عقبة، فحديث أبى بردة أصح مخرجا. وإن كان حديث عقبة عند البيهقى من مخرج الصحيح واللّه أعلم. ومن ذلك: إنكاح ذلك الرجل بما معه من القرآن (٣) ، فيما ذكره جماعة، وورد به حديث مرسل أخرجه سعيد بن منصور عن أبى النعمان الأزدى، قال: زوج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- امرأة على سورة من القرآن و قال: (لا يكون لأحد بعدك مهرا) (٤) . * ومنها أنه كان يوعك كما يوعك رجلان (٥)لمضاعفة الأجر. __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٧٩٨) فى الضحايا، باب: ما يجوز فى الضحايا من السن، وأحمد فى (المسند) (٥/ ١٩٤). (٢) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٢٥٣) . (٣) قلت: حديث نكاح المرأة بالقرآن ثابت فى الصحيحين، أخرجه البخارى (٥١٤٩) فى النكاح، باب: التزويج على القرآن وبغير صداق، ومسلم (١٤٢٥) فى النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-. (٤) قلت: لم يثبت دليل الخصوصية ذلك، والحديث على عمومه لا مخصص له. (٥) قلت: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (٥٦٤٨) فى المرضى، باب: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثال فالأمثل، ومسلم (٢٥٧١) فى البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-. * ومنها أن جبريل أرسل إليه ثلاثا فى مرضهيسأله عن حاله، ذكره البيهقى وغيره. ومنها: أنه صلى عليه الناس أفواجا أفواجا بغير إمام، وبغير دعاء الجنازة المعروف ذكره البيهقى وابن سعد وغيرهما، وترك بلا دفن ثلاثة أيام كما سيأتى، وفرش له فى لحده- صلى اللّه عليه وسلم- قطيفة (١) ، والأمران مكروهان فى حقنا، وأظلمت الأرض بعد موته كما سيأتى. ومنها: أنه لا يبلى جسده،وكذلك الأنبياء (٢) ، رواه أبو داود وابن ماجه. ومنها: أنه لا يورث (٣) ،فقيل لبقائه على ملكه، وقيل لمصيره صدقة، وبه قطع الرويانى، ثم حكى وجهين فى أنه هل يصير وقفا على ورثته؟ وأنه إذا صار وقفا هل هو الواقف؟ وجهان: قال النووى فى زيادات الروضة: الصواب الجزم بزوال ملكه، وأن ما تركه صدقة على المسلمين، لا يختص به الورثة. انتهى. وقال فى الشرح الصغير: المشهور أنه صدقة. وذكر الرافعى فى قسم الفىء أن الخمس كان له- صلى اللّه عليه وسلم- ينفق منه على نفسه ومصالحه، ولم يكن يملكه ولا ينتقل إلى ورثته. وقال فى باب الخصائص: إنه ملكه، ويجمع بينهما: بأن لجهة الإنفاق مادتين: مملوكة وغير مملوكة، والخلاف جار فى إحداهما. انتهى واللّه أعلم. __________ (١) حديث القطيفة، ..... أخرجه ابن سعد عن الحسن مرسلا، كما فى (..... الجامع) (٩٩٢) . (٢) قلت: الحديث الدال على ذلك أخرجه أبو داود (١٠٤٧) فى الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، و (١٥٣١) باب: فى الاستغفار، وابن ماجه (١٠٨٥) فى إقامة الصلاة، باب: فى فضل الجمعة، و (١٦٣٦) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث شداد بن أوس- رضى اللّه عنه-. (٣) سيأتى الحديث الدال على ذلك بعد قليل. وعلى هذا، فيباح له أن يوصى بجميع ماله للفقراء، ويمضى ذلك بعد موته بخلاف غيره فإنه لا يمضى مما أوصى به إلا الثلث بعد موته. وكذلك الأنبياء لا يورثون، لما رواه النسائى من حديث الزبير مرفوعا: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث) (١) وعلى هذا فيجاب عن قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (٢) . وقوله: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي (٣) . بأن المراد إرث النبوة والعلم. ومنها: أنه حى فى قبره،ويصلى فيه بأذان وإقامة وكذلك الأنبياء، ولهذا قيل: لا عدة على أزواجه. وقد حكى ابن زبالة (٤) ، وابن النجار أن الأذان ترك فى أيام الحرة (٥) ثلاثة أيام وخرج الناس، وسعيد بن المسيب فى المسجد، قال سعيد: فاستوحشت فدنوت إلى القبر فلما حضرت الظهر سمعت الأذان فى القبر فصليت الظهر، ثم مضى ذلك الأذان والإقامة فى القبر لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، ورجع الناس وعاد المؤذنون فسمعت أذانهم كما سمعت الأذان فى قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، انتهى. وقد ثبت أن الأنبياء يحجون ويلبون. فإن قلت: كيف يصلون ويحجون ويلبون وهم أموات فى الدار الآخرة، وليست دار عمل؟ فالجواب: أنهم كالشهداء، بل أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٧٢٨) فى الفرائض، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا نورث) ومسلم (١٧٥٧) فى الجهاد والسير، باب: حكم الفىء، من حديث عمر- رضى اللّه عنه-، وله قصة. (٢) سورة النمل: ١٦. (٣) سورة مريم: ٥، ٦. (٤) هو: محمد بن الحسن بن زبالة المخزومى المدينى، كذبوه، قاله الحافظ فى (التقريب) (٥٨١٥) . (٥) أيام الحرة: موقعة مشهورة، وقعت بظاهر المدينة بين أهلها وبين يزيد بن معاوية سنة ٦٣ هـ حين خلعوه عن الخلافة. يرزقون، فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا، أو نقول: إن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا فى استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وأن المنقطع فى الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف على سبيل التلذذ بها، ولهذا ورد أنهم يسبحون ويقرؤن القرآن، ومن هذا سجود النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وقت الشفاعة. وقد قال صاحب (التلخيص) : إن ماله- صلى اللّه عليه وسلم- بعد موته قائم على نفقته وملكه، وعده من خصائصه. ونقل إمام الحرمين عنه أن ما خلفه بقى على ما كان فى حياته، فكان ينفق منه أبو بكر على أهله وخدمه، وكان يرى أنه باق على ملك النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. فإن الأنبياء أحياء، وهذا يقتضى إثبات الحياة فى أحكام الدنيا، وذلك زائد على حياة الشهيد. والذى صرح به النووى: زوال ملكه- صلى اللّه عليه وسلم- وأن ما تركه صدقة على جميع المسلمين لا يختص به ورثته. فإن قلت: القرآن ناطق بموته- صلى اللّه عليه وسلم-، قال اللّه تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (١) وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى امرؤ مقبوض) (٢) وقال الصديق: فإن محمدا قد مات، وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك. فأجاب الشيخ تقى الدين السبكى، بأن ذلك الموت غير مستمر، وأنه- صلى اللّه عليه وسلم- أحيى بعد الموت، ويكون انتقال الملك ونحوه مشروطا بالموت المستمر، وإلا فالحياة الثانية حياة أخروية، ولا شك أنها أعلى وأكمل من حياة الشهداء، وهى ثابتة للروح بلا إشكال، وقد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى، وعود الروح إلى الجسد ثابت فى الصحيح لسائر الموتى فضلا عن الشهداء، فضلا عن الأنبياء، وإنما النظر فى استمرارها فى البدن، وفى أن البدن يصير حيّا كحالته فى الدنيا، أو حيّا بدونها، وهى حيث شاء اللّه تعالى، فإن ملازمة الروح للحياة أمر عادى لا عقلى، فهذا مما يجوزه العقل، فإن صح به سمع اتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء. __________ (١) سورة الزمر: ٣٠. (٢) إسناده ..... ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٤/ ٢٢٣) عن ابن مسعود وقال: رواه أبو يعلى والبزار وفى إسناده من لم أعرفه. ويشهد له: صلاة موسى فى قبره (١) ، فإن الصلاة تستدعى جسدا حيّا، وكذلك الصفات المذكورة فى الأنبياء ليلة الإسراء، كلها صفات الأجسام، ولا يلزم من كونها حياة حقيقة أن تكون الأبدان معها كما كانت فى الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وغير ذلك من صفات الأجسام التى نشاهدها بل يكون لها حكم آخر، فليس فى العقل ما يمنع إثبات الحياة الحقيقية لهم. وما الإدراكات كالعلم والسماع فلا شك أن ذلك ثابت لهم بل ولسائر الموتى، حكاه الشيخ زين الدين المراغى، و قال: إنه مما يعز وجوده وفى مثله فليتنافس المتنافسون. ومنها: أنه وكل بقبره ملك يبلغه صلاة المصلين عليه.رواه أحمد والنسائى والحاكم وصححه بلفظ (إن للّه ملائكة سياحين فى الأرض يبلغونى عن أمتى السلام) (٢) وعند الأصبهانى عن عمارة، (إن للّه ملكا أعطاه اللّه سمع العباد كلهم، فما من أحد يصلى على إلا أبلغنيها) (٣) . وتعرض أعمال أمته عليه، ويستغفر لهم، روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب (٤) (ليس من يوم إلا وتعرض على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أعمال أمته غدوة وعشيّا فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم) . ومنها: أن منبره- صلى اللّه عليه وسلم- على حوضه (٥)كما فى الحديث __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (٢٣٧٥) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه النسائى (٣/ ٤٣) فى السهو، باب: السلام على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والدارمى فى (سننه) (٢٧٧٤) ، وأحمد فى (المسند) (١/ ٣٨٧ و ٤٥٢) ، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-. (٣) حسن: أخرجه الطبرانى عن عمار بن ياسر- رضى اللّه عنهما-، كما فى (صحيح الجامع) (٢١٧٦) . (٤) سعيد بن المسيب، من كبار التابعين، وعلى ذلك فحديثه مرسل، إلا أن مراسيله من أفضل المراسيل وأقواها. (٥) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (١١٩٦) فى الجمعة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر، وأطرافه (١٨٨٨ و ٦٥٨٨ و ٧٣٣٥) ، ومسلم (١٣٩١) فى الحج، باب: ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. وفى رواية: (ومنبرى على ترعة من ترع الجنة) وأصل الترعة الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كان فى المطمئن فهى روضة. ولم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره وأنه حق محسوس موجود، فإن القدرة صالحة لا عجز فيها، وكل ما أخبر به الصادق- صلى اللّه عليه وسلم- من أمور الغيب فالإيمان به واجب. * ومنها أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة،رواه البخارى بلفظ (ما بين بيتى ومنبرى) وهذا يحتمل الحقيقة والمجاز. أما الحقيقة: فبأن يكون ما أخبر عنه- صلى اللّه عليه وسلم- بأنه من الجنة مقتطعا منها، كما أن الحجر الأسود منها (١) ، وكذلك النيل والفرات من الجنة (٢) ، وكذلك الثمار الهندية من الورق التى هبط بها آدم- عليه السّلام- من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون فى هذه الدار من مياه الجنة، ومن ترابها، ومن حجرها، ومن فواكهها، حكمة حكيم جليل. وأما المجاز: فبأن يكون من إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن ملازمة ذلك المكان للصلاة والعبادة سبب فى نيل الجنة، قاله ابن أبى جمرة، وهو معنى قول بعضهم: لكون العبادة فيه تؤول إلى دخول العابد روضة الجنة. وهذا فيه نظر: إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة على غيرها. وفى كتاب (بهجة النفوس) لابن أبى جمرة أيضا حكاية قول: أن تلك البقعة تنقل بعينها فتكون من الجنة، يعنى روضة من رياضها. قال: والأظهر الجمع بين الوجهين مما يعنى احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، ويأتى مزيد لذلك- إن شاء اللّه تعالى- فى فضل الزيارة من المقصد الأخير- إن شاء اللّه تعالى-. __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (٨٧٧) فى الحج، باب: ما جاء فى فضل الحجر الأسود والركن والمقام، والنسائى (٥/ ٢٢٦) فى المناسك، باب: ذكر الحجر الأسود، وأحمد فى (المسند) (١/ ٣٠٧ و ٣٢٩ و ٣٧٣) ، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، . (٢) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث طويل أخرجه البخارى (٣٢٠٧) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. ومنها: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أول من ينشق عنه القبر.وفى رواية مسلم (أنا أول من تنشق عنه الأرض) (١) . وهو أول من يفيق من الصعقة، قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدرى أفاق قبلى أم جوزى بصعقة الطور) (٢)رواه البخارى. والظاهر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يكن عنده علم بذلك حتى أعلمه اللّه تعالى، فقد أخبر عن نفسه الكريمة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أول من ينشق عنه القبر. وهو أول من يجوز على الصراط (٣) ، رواه البخارى من حديث أبى هريرة. وأنه يحشر فى سبعين ألفا من الملائكة، كما روى عن كعب الأحبار: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألف ملك يحفون بقبره- صلى اللّه عليه وسلم- يضربون بأجنحتهم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج فى سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه- صلى اللّه عليه وسلم- (٤) . الحديث رواه ابن النجارفى تاريخ المدينة. وأنه يحشر راكب البراق، رواه الحافظ السلفى، كما ذكره الطبرى. ويكسى فى الموقف أعظم الحلل من الجنة. رواه البيهقى بلفظ: (فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر) (٥) ، ورواه كعب بن مالك بلفظ: (يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتى على تل، ويكسونى ربى حلة خضراء) (٦) __________ (١) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (٢٤١٢) فى الخصومات، باب: ما يذكر فى الأشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهودى، ومسلم (٢٣٧٤) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- عليه السّلام-، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: وهو ما قبله. (٣) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٨٠٦) فى الأذان، باب: فضل السجود، ومسلم (١٨٢) فى الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٤) كعب الأحبار، كان ممن يروى عن أهل الكتاب، فلعل هذا الأثر من كتبهم، واللّه أعلم. (٥) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ٤٥٦) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٤٧٩) ، والحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٣٩٥) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٩/ ٧٢) ، والحديث صحح إسناده الشيخ شعيب الأرناؤوط. (٦) صحيح: انظر ما قبله، وهو ليس فى البخارى، كما قال، ولعله وهم. رواه البخارى، وهو عند ابن أبى شيبة بلفظ: (يحشر الناس على تل، وأمتى على تل) وعند الطبرانى أيضا حديث ابن عمر فيرقى هو- يعنى محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- وأمته على كوم فوق الناس، وأنه يقوم عن يمين العرش، رواه ابن مسعود عنه- صلى اللّه عليه وسلم- وفيه: لا يقومه غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون. ومنها: أنه يعطى المقام المحمود،قال مجاهد: هو جلوسه- صلى اللّه عليه وسلم- على العرش، وعن عبد اللّه بن سلام، على الكرسى، ذكرهما البغوى، وسيأتى ما قيل فى ذلك فى ذكر تفضيله- صلى اللّه عليه وسلم- بالمقام المحمود- إن شاء اللّه تعالى-. * ومنها أنه يعطى الشفاعة العظمىفى فصل القضاء بين أهل الموقف، حين يفزعون إليه بعد الأنبياء، والشفاعة فى إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفى رفع درجات ناس فى الجنة (١) . كما جوز النووى اختصاص هذه والتى قبلها به. ووردت الأحاديث به فى التى قيل، وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء اللّه تعالى- فى المقصد الأخير، واللّه المعين. ومنها: أنه صاحب لواء الحمد،يوم القيامة (٢) ، آدم فمن دونه تحته. رواه البزار. وأنه أول من يقرع باب الجنة. روى مسلم من حديث المختار بن فلفل عن أنس قال: قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة) (٣) وعنده أيضا عن أنس قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن، بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك) ورواه الطبرانى بزيادة فيه، قال: فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا __________ (١) صحيح: وقد تقدم فى حديث الشفاعة. (٢) ورد ذلك فى حديث أخرجه الترمذى (٣١٤٨) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وابن ماجه (٤٣٠٨) فى الزهد، باب: ذكر الشفاعة، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه- (٣) صحيح: أخرجه مسلم (١٩٦) فى الإيمان، باب: فى قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا أول الناس يشفع فى الجنة) . أقوم لأحد بعدك، وهذه خصوصية أخرى له- صلى اللّه عليه وسلم- وهى: أن خازن الجنة لا يقوم لأحد غيره- صلى اللّه عليه وسلم-، فقيامه له- صلى اللّه عليه وسلم- فيه إظهار لمزيته ومرتبته، ولا يقوم لأحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون فى خدمته وهو كالملك عليهم، وقد أقامه اللّه تعالى فى خدمة عبده ورسوله حتى مشى وفتح له الباب. * ومنها أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أول من يدخل الجنة،قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح اللّه لى فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر) (١) رواه الترمذى. * ومن خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم- الكوثر (٢) ،نهر فى الجنة يسيل من حوضه مجراه على الدر والياقوت، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج. ومنها الوسيلة، وهى أعلى درجة فى الجنة. |