Geri

   

 

 

İleri

 

 ٤-٨ القسم الرابع: فيما اختص به- صلى اللّه عليه وسلم- من الفضائل والكرامات
* منها: أنه أول النبيين خلقا

(٢) ، كما تقرر فى أول هذا الكتاب، وأنه كان نبيّا وآدم بين الروح والجسد، رواه الترمذى من حديث أبى هريرة.

ومنها: أنه أول من أخذ عليه الميثاق

كما مر.

ومنها: أنه أول من
قال: (بلى) يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ

رواه أبو سهل القطان فى جزء من أماليه.

ومنها: أن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجله

(٣) ، رواه البيهقى وغيره.

ومنها: أن اللّه كتب اسمه الشريف على العرش،

وعلى كل سماء، وعلى الجنان وما فيها (٤) . رواه ابن عساكر عن كعب الأحبار.

__________

(١) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه مسلم (٢٦٠٠) فى البر والصلة، باب: من لعنه النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-، و (٢٦٠١) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه الترمذى (٣٦٠٩) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٦٦) و (٥/ ٥٩ و ٣٧٩) من حديث ميسرة الفجر- رضى اللّه عنه-.

(٣) قلت: وفى ذلك مخالفة لقول اللّه عز وجل وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ سورة الذاريات: ٥٦، كما أن الأحاديث التى يستدلون بها فى هذا الأمر .....ة جدّا، بل و.......ة أيضا.

(٤) قلت: وهو مثل ما قبله، ولو كان صحيحا لذكره أصحاب الصحاح أو السنن أو حتى أصحاب المسانيد والمعاجم.

ومنها: أن اللّه تعالى أخذ الميثاق على النبيين، آدم فمن بعده، أن يؤمنوا به وينصروه

،

قال اللّه تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (١) . قال على بن أبى طالب: لم يبعث اللّه نبيّا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد فى محمد- صلى اللّه عليه وسلم- لئن بعث وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على قومه.

ومنها: أنه وقع التبشير به فى الكتب السالفة

كما سيأتى- إن شاء اللّه تعالى-.

ومنها: أنه لم يقع فى نسبه من لدن آدم سفاح

(٢) . رواه البيهقى والطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم فى الدلائل.

ومنها: أنه نكست الأصنام لمولده

رواه الخرائطى- فى الهواتف- وغيره.

ومنها: أنه ولد مختونا مقطوع السرة،

رواه الطبرانى، وتقدم ما فيه من البحث فى أول الكتاب.

ومنها: أنه خرج نظيفا،

ما به قذر، رواه ابن سعد.

ومنها: أنه وقع إلى الأرض ساجدا رافعا أصبعيه كالمتضرع المبتهل.

رواه أبو نعيم من حديث ابن عباس. ورأت أمه عند ولادته نورا خرج منها أضاء له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات الأنبياء. رواه الإمام أحمد، وكان مهده- صلى اللّه عليه وسلم- يتحرك بتحريك الملائكة، كما ذكره ابن سبع فى الخصائص، وكان القمر يحدثه وهو فى مهده، ويميل حيث أشار إليه، رواه ابن طغر بك فى (النطق المفهوم) وغيره. وتكلم فى المهد، رواه الواقدى وابن سبع، وظللته الغمامة فى الحر، رواه أبو نعيم والبيهقى، ومال إليه فىء الشجرة إذ سبق إليه، رواه البيهقى.

__________

(١) سورة آل عمران: ٨١.

(٢) حسن: والحديث أخرجه ابن سعد عن ابن عباس كما فى (صحيح الجامع) (٣٢٢٣) .

ومنها: شق صدره الشريف

(١) . رواه مسلم وغيره.

* وغطه جبريل عند ابتداء الوحى ثلاث غطات.

عدّ هذه بعضهم من خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم- كما نقله الحافظ ابن حجر،

قال: ولم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحى.

ومنها: أن اللّه تعالى ذكره فى القرآن عضوا عضوا،

فقلبه بقوله:

ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (٢) .

وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ (٣) ، ولسانه بقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٤) ،

وقوله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ* (٥) . وبصره بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (٦) ، ووجهه بقوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ (٧) ، ويده وعنقه بقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ(٨) ، وظهره وصدره بقوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ

__________

(١) قلت: ثبت ذلك فى أحاديث صحيحة منها ما أخرجه البخارى (٣٤٩) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة فى الإسراء، ومسلم (١٦٢) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى السماوات، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، وكان ذلك ليلة الإسراء به- صلى اللّه عليه وسلم-، وقد ذكر العلماء مرات أخرى لشق صدره، منها ما كان وهو صغير عند حليمة مرضعته وقد ذكر العلماأ أن الشق الأول كان لنزع العلقة التى قيل له عندها هذا حظ الشيطان منك، والشق الثانى للاستعداد للتلقى الحاصل له ليلة الإسراء، كما روى الطيالسى والحارث فى مسنديهما من حديث عائشة أن الشق وقع مرة أخرى عند مجىء جبريل له بالوحى فى غار حراء، واللّه أعلم، ومناسبته ظاهرة لتلقى الوحى، كما روى أنه شق صدره أيضا وهو ابن عشر سنين أو نحوها فى قصة له مع عبد المطلب أخرجها أبو نعيم فى الدلائل، وروى مرة خامسة، ولكنها لا تثبت، انظر فى ذلك (فتح البارى) لابن حجر (١/ ٤٦٠) .

(٢) سورة النجم: ١١.

(٣) سورة الشعراء: ١٩٣، ١٩٤.

(٤) سورة النجم: ٣.

(٥) سورة مريم: ٩٧.

(٦) سورة النجم: ١٧.

(٧) سورة البقرة: ١٤٤.

(٨) سورة الإسراء: ٢٩.

صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (١) . واشتق اسمه من اسم اللّه (المحمود) ويشهد له ما أخرجه البخارى فى تاريخه الصغير من طريق على بن زيد،

قال: كان أبو طالب يقول:

وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد

وهو مشهور لحسان بن ثابت. وسمى أحمد، ولم يسم به أحد قبله (٢) .

رواه مسلم. ولأحمد من حديث على: أعطيت أربعا لم يعطهن أحد قبلى فذكر منها: وسميت أحمد (٣) .

* ومنها أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يبيت جائعا، ويصبح طاعما

يطعمه ربه ويسقيه من الجنة، كما سيأتى البحث فيه- إن شاء اللّه تعالى- فى صيامه- صلى اللّه عليه وسلم- من مقصد عباداته.

* وكان يرى من خلفه كما يرى أمامه

(٤) ، رواه مسلم.

ويرى فى الليل وفى الظلمة كما يرى بالنهار والضوء (٥) . رواه البيهقى.

* وكانت ريقه يعذب الماء الملح،

رواه أبو نعيم. ويجزى الرضيع، رواه البيهقى.

ومنها: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا مشى فى الصخر غاصت قدماه فيه،

كما هو مشهور قديما وحديثا على الألسنة (٦) ، ونطق به الشعراء فى منظومهم، والبلغاء فى منثورهم، مع اعتضاده بوجود أثر قدمى الخليل إبراهيم- عليه السّلام- فى حجر المقام المنوه به فى التنزيل فى

قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ

__________

(١) سورة الشرح: ١- ٣.

(٢) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (٢٣٥٥) فى الفضائل، باب: فى أسمائه- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: وقد تقدم.

(٤) صحيح: وقد تقدم.

(٥) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٦/ ٧٠) .

(٦) قلت: لم يثبت ذلك فى شىء من كتب السنة أو السير.

إِبْراهِيمَ (١) . وهو البالغ تعيينه- وأنه أثره- مبلغ التواتر، القائل فيه أبو طالب:

وموطئ إبراهيم فى الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل

وبما فى البخارى من حديث أبى هريرة مرفوعا من معجزة تأثير ضرب موسى فى الحجر ستّا أو سبعا إذ فرّ بثوبه لما اغتسل (٢) . إذ ما خص نبى بشىء من المعجزات والكرامات إلا ولنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- مثله، كما نصوا عليه، مع ما يؤيد ذلك: وهو وجود أثر حافر بغلته الشريفة- على ما قيل- فى مسجد بطيبة، حتى عرف المسجد بها، بحيث يقال له مسجد البغلة، وما ذاك إلا من سره السارى فيها ليكون ذلك أقوى فى الآية. وأوضح فى الدلالة على إيتائه- صلى اللّه عليه وسلم- هذه الآية التى أوتيها الخليل فى حجر المقام على وجه أعلى منه.

بل قال الزبير بن بكار فيما نقله المجد الشيرازى فى المغانم المطابة بعد ذكره لأثر البغلة ومسجدها: وفى غربى هذا المسجد أثر كأنه أثر مرفق يذكر أنه- صلى اللّه عليه وسلم- اتكأ عليه ووضع مرفقه عليه، وعلى حجر آخر أثر الأصابع، والناس يتبركون بهما.

وقال السيد نور الدين السمهودى فى كتاب (وفاء الوفا) بعد إيراد ذلك:

قلت ولم أقف فى ذلك على أصل إلا أن ابن النجار قال فى المساجد التى أدركها خرابا بالمدينة ما لفظه: ومسجدان قرب البقيع أحدهما يعرف بمسجد الإجابة، والثانى يعرف بمسجد البغلة، فيه إسطوان واحد، وهو خراب، وحوله نشز من الحجارة، فيه أثر يقولون إنه أثر حافر بغلة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وانتهى.

* وكان إبطه- صلى اللّه عليه وسلم- لا شعر عليه،

قاله القرطبى، وكان أبيض غير متغير اللون، كما ذكره الطبرى وعده من الخصائص، وذكره بعض الشافعية،

__________

(١) سورة آل عمران: ٩٧.

(٢) صحيح: والقصة أخرجها البخارى (٢٧٨) فى الغسل، باب: من اغتسل عريانا وحده فى الخلوة، ومسلم (٣٣٩) فى الحيض، باب: جواز الاغتسال عريانا فى الخلوة، وفى الفضائل، باب: من فضائل موسى- عليه السّلام-.

لحديث أنس (١) - المتفق عليه- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يرفع يديه فى الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه.

وقال الشيخ جمال الدين الإسنوى فى (المهمات) إن بياض الإبط كان من خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم-. انتهى.

قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما ادعاه من كون هذا من الخصائص فيه نظر، إذ لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، بل لم يرد ذلك فى شىء من الكتب المعتمدة، الخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه أن لا يكون له شعر، فإن الشعر إذا نتف بقى المكان أبيض، وإن بقى فيه آثار الشعر، ولذلك ورد فى حديث عبد اللّه بن أقرم الخزاعى، أنه صلى مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف

قال: كنت أنظر إلى عفرة إبطيه إذا سجد (٢) ، خرجه الترمذى، وحسنه، والنسائى وابن ماجه، وقد ذكر الهروى فى (الغريبين) ، وابن الأثير فى (النهاية) أن العفرة بياض ليس بالناصع ولكن كلون عفرة الأرض، وهو وجهها، وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذى جعل المكان أعفر، وإلا فلو كان خاليا من نبات الشعر جملة لم يكن أعفر.

نعم الذى تعتقد فيه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لم يكن لإبطه رائحة كريهة، بل كان نظيفا طيب الرائحة، كما ثبت فى الصحيح.

* وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يبلغ صوته وسمعه

ما لا يبلغه صوت غيره ولا سمعه.

* وكان تنام عينه ولا ينام قلبه

(٣) . رواه البخارى.

* وما تثاءب قط.

رواه ابن أبى شيبة والبخارى فى تاريخه من مرسل

__________

(١) تقدم حديث أنس.

(٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٧٤) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التجافى فى السجود، والنسائى (٢/ ٢١٣) فى الافتتاح، باب: صفة السجود، وابن ماجه (٨٨١) فى إقامة الصلاة، باب: السجود، وأحمد فى (المسند) (٤/ ٣٥) ، .

(٣) صحيح: وقد تقدم.

يزيد بن الأصم

قال: ما تثاءب نبى قط، ويؤيد ذلك. أن التثاؤب من الشيطان (١) رواه البخارى.

* وما احتلم قط،

وكذلك الأنبياء (٢) . رواه الطبرانى. وكان عرقه أطيب من المسك. رواه أبو نعيم وغيره.

وإذا مشى مع الطويل طاله،

رواه البيهقى، ولم يقع له ظل على الأرض، ولا رؤى له ظل فى شمس ولا قمر. ويشهد له أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما سأل اللّه تعالى أن يجعل فى جميع أعضائه وجهاته نورا، ختم بقوله:(واجعلنى نورا) .

وكان- صلى اللّه عليه وسلم- لا يقع على ثيابه ذباب قط.

نقله الفخر الرازى، ولا يمتص دمه البعوض، كذا نقله الحجازى وغيره. وما آذاه القمل، قاله ابن سبع فى (الشفاء) والسبتى فى (أعذب الموارد) .

ومنها: انقطاع الكهنة عند مبعثه،

وحراسة السماء من استراق السمع، والرمى بالشهب، قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها، فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى- عليه السّلام- منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد- صلى اللّه عليه وسلم- منعوا من السماوات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمى بشهاب، وهو الشعلة من النار، فلا يخطئ أبدا، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس فى البرارى، وهذا لم يكن ظاهرا قبل مبعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ولم يذكره أحد قبل زمانه. وإنما ظهر فى بدىء أمره، وكان ذلك أساسا لنبوته.

وقال معمر قلت للزهرى: أكان يرمى بالنجوم فى الجاهلية؟

قال: نعم.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٢٨٩) فى بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، ومسلم (٢٩٩٤) فى الزهد والرقائق، باب: تشميت العاطس وكراهة التثاؤب، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) إسناده ..... وقد تقدم.

قلت: أفرأيت قوله: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ (١) الآية،

قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد- صلى اللّه عليه وسلم-.

وقال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن فى شدة الحراسة إلا بعد مبعثه،

وقيل: إن النجم كان ينقض ويرمى الشياطين ثم يعود إلى مكانه. ذكره البغوى.

ومنها أنه أتى بالبراق ليلة الإسراء مسرجا ملجما،

قيل كانت الأنبياء إنما تركبه عريانا.

ومنها أنه أسرى به- صلى اللّه عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

وعرج به إلى المحل الأعلى، وأراه من آيات ربه الكبرى، وحفظه فى المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى، وأحضر الأنبياء له وصلى بهم وبالملائكة إماما.

وأطلعه على الجنة والنار. وعزيت هذه للبيهقى.

ومنها: أنه رأى اللّه تعالى بعينيه

(٢) ، كما يأتى فى مقصد الإسراء- إن شاء اللّه تعالى-، وجمع اللّه له بين الكلام والرؤية، وكلمه تعالى فى الرفيع الأعلى، وكلم موسى بالجبل.

ومنها أن الملائكة تسير معه حيث سار

يمشون خلف ظهره وقاتلت معه- كما مر- فى غزوة بدر وحنين.

ومنها: أنه يجب علينا أن نصلى ونسلم عليه،

لآية إِنَّ اللّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (٣) إلى آخرها، ولم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم.

ومنها: أنه أوتى الكتاب العزيز، وهو أمى

لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة.

__________

(١) سورة الجن: ٩.

(٢) قلت: لم يثبت هذا، والصحيح أنه رأى جبريل على صورته التى خلقه اللّه عليها مرتين، مرة حين البعثة، والآخرى ليلة الإسراء، كما قال علماء التفسير عند قول اللّه تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى سورة النجم: ١٣.

(٣) سورة الأحزاب: ٥٦.

ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف،

حتى سعى كثير من الملحدة والمعطلة لا سيما القرامطة فى تغييره وتبديل محكمه، فما قدروا على إطفاء شىء من نوره، ولا تغيير كلمة من كلمه، ولا تشكيك المسلمين فى حرف من حروفه،

قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ (١) الآية.

وكتابه يشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب، جامعا لأخبار القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، الذى قطع عمره فى تعلم ذلك.

ويسر اللّه تعالى حفظه لمتعلميه، وقربه على متحفظيه، كما

قال تعالى:

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ (٢) وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منها، فكيف بالجم الغفير على مرور السنين عليهم، والقرآن ميسر حفظه للغلمان فى أقرب مدة.

ومنها: أنه أنزل على سبعة أحرف

(٣) تسهيلا علينا، وتيسيرا وشرفا ورحمة وخصوصية لفضلنا.

ومنها: أنه تعالى تكفل بحفظه،

فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٤) أى من التحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى فى صفة القرآن: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ (٥) ،

وقوله: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٦) .

__________

(١) سورة فصلت: ٤٢.

(٢) سورة القمر: ١٧.

(٣) حديث النزول على سبعة أحرف، أخرجه البخارى (٤٩٩٢) فى فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومسلم (٨١٨) فى صلاة المسافرين، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، من حديث عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه-.

(٤) سورة الحجر: ٩.

(٥) سورة فصلت: ٤٢.

(٦) سورة النساء: ٨٢.

فإن قلت: هذه الآية تنفى الاختلاف فيه، وحديث (أنزل القرآن على سبعة أحرف) المروى فى البخارى عن عمر، يثبته.

فأجاب الجعبرى فى أول شرحه للشاطبية: بأن المثبت اختلاف تغاير، والمنفى اختلاف تناقض، فموردهما مختلف. انتهى.

فإن قلت: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن فى الصحف، وقد وعد اللّه تعالى بحفظه، وما حفظه اللّه تعالى فلا خوف عليه؟

فالجواب: - كما قال الرازى- إن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ اللّه تعالى إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك،

قال: وقال أصحابنا:

وفى هذه الآية دلالة قوية على أن البسملة آية من أول كل سورة، لأن اللّه تعالى قد وعد بحفظ القرآن، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا عن التغيير، وإلا لما كان محفوظا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لوجب أيضا أن يظن بهم النقصان. وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة. واختلف فيه، كيف يحفظ القرآن؟

فقال بعضهم: حفظه بأن يجعله معجزا مباينا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان منه، لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا منه تغير نظم القرآن، فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن.

وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفاده، بل قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف.

وقال آخرون: المراد بالحفظ هو أن أحدا لو حاول أن يغير بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا: هذا كذب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير فى حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا، ولم يتفق لشىء، من الكتب مثل هذا الكتاب، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتغيير والتحريف، وقد صان اللّه تعالى هذا الكتاب العزيز عن جميع التحريف، مع أن دواعى الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده، وقد انقضى الآن ثمانية وتسعون سنة وثمانمائة سنة، وهو بحمد اللّه فى زيادة من الحفظ.

ومنها: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- خص باية الكرسى،

وبالمفصل وبالمثانى، وبالسبع الطوال، كما فى حديث ابن عباس بلفظ: (وأعطيت خواتيم سورة البقرة من كنوز العرش، وخصصت به دون الأنبياء، وأعطيت المثانى مكان التوراة، والمئين مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور، وفضلت بالمفصل) . رواه أبو نعيم فى الدلائل.

وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (١) ، وفى البخارى من حديث أبى هريرة عنه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أم القرآن هى السبع المثانى والقرآن العظيم) (٢) سائرة.

واختلفوا: لم سميت مثانى، فعن الحسن وابن عباس وقتادة لأنها تثنى فى الصلاة، فتقرأ فى كل صلاة، وقيل لأنها مقسومة بين اللّه وبين العبد نصفين، نصفها ثناء ونصفها دعاء، كما فى حديث أبى هريرة عنه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(يقول اللّه تعالى: قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين) (٣) . وقيل لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وعن مجاهد: لأن اللّه استثناها وادخرها لهذه الأمة، فما أعطاها غيرهم.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن السبع المثانى هى السبع الطوال، أولها سورة البقرة، وآخرها سورة الأنفال مع التوبة،

وقال بعضهم:

سورة يونس بدل الأنفال: قال ابن عباس: وإنما سميت السبع الطوال مثانى لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر ثنيت فيها. وقال طاووس:

القرآن كله مثانى،

قال اللّه تعالى: اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ (٤) ، وسمى القرآن مثانى لأن القصص ثنيت فيه واللّه أعلم.

__________

(١) سورة الحجر: ٨٧.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤/ ٤٧) فى التفسير، باب: قوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.

(٣) صحيح: أخرجه مسلم (٣٩٥) فى الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة.

(٤) سورة الزمر: ٢٣.

ومنها: أنه أعطى مفاتيح الخزائن (١)

قال بعضهم: وهى خزائن أجناس العالم ليخرج لهم بقدر ما يطلبونه لذواتهم، فكل ما ظهر من رزق العالم فإن الاسم الإلهى لا يعطيه إلا عن محمد- صلى اللّه عليه وسلم- الذى بيده المفاتيح، كما اختص تعالى بمفاتيح الغيب فلا يعلمها إلا هو، وأعطى هذا السيد الكريم منزلة الاختصاص بإعطائه مفاتيح الخزائن.

ومنها: أنه أوتى جوامع الكلم،

فالكلم جمع كلمة، وكلمات اللّه تعالى لا تنفد، فالكلمة منه كلمات، ولما علم جوامع الكلم أعطى الإعجاز بالقرآن الذى هو كلام اللّه تعالى، وهو المترجم عن اللّه تعالى، فوقع الإعجاز فى الترجمة التى هى له، فإن المعانى المجردة عن المواد لا يتصور الإعجاز بها وإنما الإعجاز ربط هذه المعانى بصور الكلم القائم من نظم الحروف، فهو لسان الحق وسمعه وبصره.

ومنها: أنه بعث إلى الناس كافة،

قال بعضهم: وهو من الكفت، وهو الضم،

قال اللّه تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢) تضم الأحياء على ظهرها، والأموتا فى بطنها، كذلك ضمت شريعته- صلى اللّه عليه وسلم- جميع الناس، فلا يسمع به أحد إلا لزمه الإيمان به، ولما سمع الجن القرآن يتلى قالوا: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللّه وَآمِنُوا بِهِ (٣) الآية، فضمت شريعته الإنس والجن، وعمت رحمته التى أرسل بها العالم،

قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (٤) ، فمن لم تنله رحمته فما ذلك من جهته، وإنما ذلك من جهة القابل. فهو كالنور الشمسى أفاض شعاعه على الأرض، فمن استتر عنه فى كنّ أوظل جدار فهو الذى لم يقبل انتشار النور عليه، وعدل عنه، فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع. انتهى.

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (١٣٤٤) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، ومسلم (٢٢٩٦) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث عقبة بن عامر- رضى اللّه عنه-.

(٢) سورة المرسلات: ٢٥.

(٣) سورة الأحقاف: ٣١.

(٤) سورة الأنبياء: ١٠٧.

فإن قلت: إن نوحا كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، فإنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه، وقد كان مرسلا إليه، وقد جاء فى حديث جابر وغيره (وكان النبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) (١) وفى رواية (إلى الناس كافة) .

أجاب الحافظ ابن حجر، - رحمه اللّه تعالى-: بأن هذا العموم الذى حصل لنوح- عليه السّلام- لم يكن فى أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذى وقع، وهو انحصار الخلق فى الموجودين بعد هلاك سائر الناس. وأما نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك.

وأما قول أهل الموقف لنوح- كما صح فى حديث الشفاعة-: إنه أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى فى عدة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.

واستدل بعضهم لعموم بعثته: بكونه دعا على جميع من فى الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثا إليهم لما أهلكوا، لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (٢) ، وقد ثبت أنه أول الرسل.

وأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم فى أثناء مدة نوح، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم. ف

أجيب: وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ فى زمن نوح غيره. ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فى ذلك بقاء شريعته. انتهى.

وأما قول بعض اليهود: أن نبينا محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- إنما هو مبعوث إلى العرب خاصة، ففاسد. والدليل عليه أنهم- أى اليهود- سلموا أنه رسول صادق إلى العرب، فوجب أن يكون كل ما يقوله حقّا، وقد ثبت بالتواتر أنه

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٣٣٥) فى التيمم، باب: وقول اللّه تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.... ومسلم (٥٢١) فى المساجد، باب: رقم (١) .

(٢) سورة الإسراء: ١٥.

يدعى أنه رسول إلى كل الناس، فلو كذبوه فيه لزم التناقض، أشار إليه صاحب المعالم (١) .

ومنها: نصره- صلى اللّه عليه وسلم- بالرعب مسيرة شهر(٢) ،

والشهر قدر قطع القمر درجات الفلك المحيط، فهو أسرع قاطع، لعموم رعبه فى قلوب أعدائه، فلا يقبل الرعب إلا عدو مقصود ليتميز السعيد من الشقى، ومفهوم هذا: أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب فى هذه المدة، ولا فى أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب: (ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بينى وبينهم مسيرة شهر) (٣) فالظاهر اختصاصه به مطلقا. وإنما جعل الغاية شهرا، لأنه لم يكر بين بلده- صلى اللّه عليه وسلم- وبين أحد من أعدائه أكثر من شهر وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى ولو كان وحده بغير عسكر، وهل هى حاصلة لأمته من بعده، فيه احتمال.

ومنها: إحلال الغنائم ولم تحل لأحد قبله.

وقد كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له فى الجهاد، فلم تكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته (٤) . قال بعضهم: أعطى- صلى اللّه عليه وسلم- ما يوافق شهوة أمته، لأن النفوس لها التذاذ بها، لكونها حصلت لهم عن غير قهر منهم لتحصيلها وغلبة، فلا يريدون أن يفوتهم التنعم بها فى مقابلة ما قاسوه من الشدة والتعب.

ومنها: جعل الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا (٥) ،

والمراد: موضع

__________

(١) يقصد كتاب (معالم السنن) للخطابى.

(٢) صحيح: وقد ثبت ذلك فى حديث أخرجه مسلم (٢٢١) فى المساجد، باب: رقم (١) من حديث جابر- رضى اللّه عنه-.

(٣) حسن: أخرجه أحمد فى (المسند) (٢/ ٢٢٢) ، من حديث عبد اللّه بن عمرو- رضى اللّه عنهما-.

(٤) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (٣١٢٤) فى فرض الخمس، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أحلت لكم الغنائم) ، ومسلم (١٧٤٧) فى الجهاد والسير، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٥) صحيح: وهو جزء من حديث جابر المتقدم قريبا.

سجود، أى لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازا عن المكان المبنى للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة فى جميعها كان كالمسجد فى ذلك.

وقيل المراد: جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، وجعلت لغيرى مسجدا ولم تجعل له طهورا، لأن عيسى كان يسيح فى الأرض، ويصلى حيث أدركته الصلاة، قاله ابن التين ومن قبله الداودى.

وقيل: إنما أبيح لهم فى موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة فأبيح لهم فى جميع الأرض، إلا فيما تيقنوا نجاسته.

والأظهر: ما قاله الخطابى، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة فى أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ (وكان من قبلى إنما كانوا يصلون فى كنائسهم) وهذا نص فى موضع النزاع فتثبت الخصوصية. ويؤيده ما رواه البزار من حديث ابن عباس، نحو حديث جابر وفيه: ولم يكن من الأنبياء أحد يصلى حتى يبلغ محرابه قاله فى فتح البارى (١) .

ومنها: أن معجزته- صلى اللّه عليه وسلم- مستمرة إلى يوم القيامة،

ومعجزات سائر الأنبياء انقرضت لوقتها، فلم يبق إلا خبرها، والقرآن العظيم لم تزل حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة.

ومنها: أنه أكثر الأنبياء معجزة.

قال القاضى عياض: أما كونها كثيرة فهذا القرآن وكله معجز، وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض أئمة المحققين بسورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (٢) أو آية فى قدرها، وذهب بعضهم: إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة، وذهب آخرون إلى أن كل جملة منتظمة منه معجزة، وإن كانت من كلمة أو كلمتين.

قال القاضى: والحق ما ذكرناه أولا، لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (٣) فهو أقل ما تحداهم به، مع ما ينصر هذا القول من نظر وتحقيق

__________

(١) انظر (فتح البارى) (٨/ ٢٥٨) .

(٢) سورة الكوثر: ١.

(٣) سورة البقرة: ٢٣.

يطول بسطه. وإذا كان هذا، ففى القرآن من الكلمات نحو سبع وسبعين ألف كلمة ونيف على عدد بعضهم، وعدد كلمات إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ عشر كلمات، فيتجزأ القرآن على نسبة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أزيد من سبعة آلاف جزء، فكل واحد منها معجز فى نفسه، ثم إعجازه- كما تقدم- بوجهين.

طريق بلاغته، وطريق نظمه، فصار فى كل جزء من هذا العدد معجزتان فتضاعف العدد من هذا الوجه، ثم فيه وجوه إعجاز أخر، من الإخبار بعلوم الغيب، فقد يكون فى السورة الواحدة من هذه التجزئة الإخبار عن أشياء من الغيب، كل خبر منها بنفسه معجز، فتضاعفت العدد كرة أخرى. ثم وجوه الإعجاز الآخر التى ذكرناها توجب الت.....، هذا فى حق القرآن، فلا يكاد يأخذ العدد معجزاته، ولا يحوى الحصر براهينه، انتهى.

ومن ذلك انشقاق القمر وتسليم الحجر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه- صلى اللّه عليه وسلم-، ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك، كما ذكره ابن عبد السلام وغيره، وتقدم ما فيه من المباحث.

ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين،

قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (مثلى ومثل الأنبياء قبلى كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين) (١) . رواه البخارى ومسلم.

ومنها: أن شرعه مؤبد إلى يوم الدين،

وناسخ لجميع شرائع النبيين، وأنه أكثر الأنبياء تابعا كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) (٢) . رواه الشيخان من حديث أبى هريرة.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٣٥) فى المناقب، باب: خاتم النبيين- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٢٨٦) فى الفضائل، باب: ذكر كونه- صلى اللّه عليه وسلم- خاتم النبيين، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٤٩٨١) فى فضائل القرآن، باب: كيف نزل الوحى، ومسلم (١٥٢) فى الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد- صلى اللّه عليه وسلم- إلى جميع الناس.

ومنها: أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه،

كما سيأتى تقريره- إن شاء اللّه تعالى-.

ومنها: أنه أرسل إلى الجن اتفاقا،

والدليل على ذلك قبل الإجماع:

الكتاب والسنة،

قال تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) ، وقد أجمع المفسرون على دخول الجن فى هذه الآية، وهو مدلول لفظها، فلا يخرج عنه إلا بدليل. وإن قيل إن الملائكة خارجون من ذلك فلا يضر، لأن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين، ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة. وقال تعالى فى الأحقاف: أَجِيبُوا داعِيَ اللّه (٢) ، فأمر بعضهم بعضا بإجابته دليل على أنه داع لهم، وهو معنى بعثته إليهم، إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنة، ففى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (فضلت على الأنبياء بست) فذكر منها (وأرسلت إلى الخلق كافة) (٣) فإنه يشمل الإنس والجن، وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل فلا يجوز. والكلام فيه كالكلام فى آية الفرقان [١] .

فإن قلت: إن قوله: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (٤) وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ (٥) ظاهر فى اختصاص رسالته- صلى اللّه عليه وسلم- بالإنس، واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر.

فالجواب: إن هذا إنما يتمشى على مذهب الدقاق القائل بأن مفهوم اللقب حجة، و (الناس) من قبيل اللقب، فإن المسألة المترجمة فى الأصول (بمفهوم اللقب) لا تختص باللقب بل الأعلام كلها وأسماء الأجناس كلها كذلك ما لم تكن صفة. و (الناس) اسم جنس غير صفة فلا مفهوم له. فهذه

__________

(١) سورة الفرقان: ١.

(٢) سورة الأحقاف: ٣١.

(٣) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (٥٢٣٠) فى المساجد، باب: رقم (١) .

(٤) سورة الأعراف: ١٥٨.

(٥) سورة سبأ: ٢٨.

الآية ليس فيها أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم إلا على مذهب الدقاق، بل ولا يتم على مذهب التمسك بهذا المفهوم أيضا لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض آخر سواه فى تخصيص ذلك الاسم، وحيث ظهر غرض لا يقول بالمفهوم، بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض، والغرض فى الآية التعميم فى جميع الناس، وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم، فلا يلزم نفى الرسالة عن غيرهم، لا على مذهب الدقاق ولا على مذهب غيره. وإنما خاطب الناس لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم، فمقصود الآية خطاب الناس، والتعميم فيهم لا النفى عن غيرهم، وهذا إذا قلنا إن لفظ الناس لا يشمل الجن، فإن قلنا إنه يشملهم فواضح.

والخلاف فيه مبنى على الخلاف فى اشتقاق (الناس) ، هل هو من النوس، وهو الحركة، أو من الأنس ضد الوحشة؟ فإذا قلنا بالأول أطلق على الفريقين، ولكن استعماله فى الإنس أغلب، فحيث أطلق فالمراد به ولد آدم، وإذا قلنا بالثانى فلا، لأنا لا نبصر الجن ولا نأنس بهم، فدخول الجن فى الآية إما ممتنع وإما قليل فلا يحمل عليه، وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بها، لكنها لا تدل على خلافه.

وأما قول الضحاك ومن تبعه: أن الرسل إلى الجن منهم، لقوله تعالى:

مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

(١) فهو ظاهر الآية، لكن لم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك فى هذه الملة. وإنما محل الخلاف فى ذلك فى الملل المتقدمة خاصة، وأما فى هذه الملة فنبينا محمد، - صلى اللّه عليه وسلم- هو المرسل إليهم وإلى غيرهم، ولم ينقل أحد عن الضحاك أن رسل الجن منهم مطلقا، ولا ينبغى أن ينسب إليه ما يخالف الإجماع، على أن الأكثرين قالوا: لم تكن الرسل إلا من الإنس، ولم يكن من الجن قط رسول، لكن لما جمعوا مع الجن فى الخطاب صح ذلك. ونظيره: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢) وهما يخرجان من الملح دون العذب، وقيل الرسل من الجن

__________

(١) سورة الأنعام: ١٣٠.

(٢) سورة الرحمن: ٢٢.

رسل الرسل من بنى آدم إليهم لا رسل اللّه، لقوله تعالى: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (١) ، قاله بعض العلماء.

ومنها: أنه أرسل الملائكة فى أحد القولين، ورجحه السبكى.

قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (٢) ولا نزاع أن المراد بالعبد هاهنا محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، والعالم هو ما سوى اللّه تعالى، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، وبطل بذلك قول من

قال: إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض، لأن لفظ (العالمين) يتناول جميع المخلوقات، فتدل الآية على أنه رسول إلى جميع الخلق.

ولو قيل لمدعى (خروج الملائكة من هذا العموم) أقم الدليل عليه ربما عجز عنه، فإنه يحتمل أن يكون من الملائكة من أنذره- صلى اللّه عليه وسلم- إما ليلة الإسراء وإما غيرها. لكن لا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم فى شىء خاص أن يكون بالشريعة كلها.

وإذا قلنا إن الملائكة هم مؤمنو الجن السماوية، فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذى قام الإجماع عليه، لزم عموم الرسالة لهم، لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ.

والجمهور: على أن (العالمين) فى آية الفرقان عام مخصوص بالجن والإنس كما فسر بهما حديث (وأرسلت إلى الخلق كافة) المروى فى مسلم.

وصرح الحليمى والبيهقى- فى الباب الرابع من شعب الإيمان- بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يرسل إلى الملائكة، وفى الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه. وفى تفسير الإمام فخر الدين الرازى، والبرهان للنسفى: حكاية الإجماع فى تفسير آية الفرقان على أنه لم يكن رسولا إليهم، كما حكاه العلامة الجلال المحلى واللّه أعلم.

__________

(١) سورة الأحقاف: ٢٩.

(٢) سورة الفرقان: ١.

وعبارة النسفى: ثم إنهم قالوا هذه الآية تدل على أحكام: أولها: أن قوله: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) يتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة. لكنا أجمعنا على أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يكن رسولا إلى الملائكة، بل يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعا. وهو عبارة الإمام فخر الدين أيضا.

وقد تعقب الجلال المحلى العلامة كمال الدين بن أبى شريف ف

قال: اعلم أن البيهقى نقل ذلك عن الحليمى، فإنه

قال: هذا معنى كلام الحليمى، وفى قوله هذا إشعار التبرى من عهدته، وبتقدير أن لا إشعار فيه فلم يصرح بأنه مرضى عنده. وأما الحليمى فإنه وإن كان من أهل السنة فقد وافق المعتزلة فى تفضيل الملائكة على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-، وما نقله عنه موافق لقوله بأفضلية الملائكة، فلعله بناه عليه.

وأما ما ذكره من حكاية الرازى والنسفى الإجماع على أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يكن مرسلا إليهم، فقد وقع فى نسخ من تفسير الرازى (لكنا بيّنا) بدل (أجمعنا) ، على أن قوله: (أجمعنا)ليس صريحا فى إجماع الأمة، لأن مثل هذه العبارة تستعمل لإجماع الخصمين المتناظرين، بل لو صرح به لمنع، فقد قال الإمام السبكى فى قوله: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً قال المفسرون كلهم فى تفسيرها للجن والإنس، وقال بعضهم وللملائكة، انتهى.

وبالجملة: فالاعتماد على تفسير الرازى والنسفى فى حكاية إجماع انفردا بحكايته أمر لا ينتهض حجة على طريقة علماء النقل، لأن مدارك نقل الإجماع من كلام الأئمة وحفاظ الأمة كابن المنذر وابن عبد البر، ومن فوقهما فى الاطلاع كالأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة ومن يلحق بهم فى سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان لها من الشهرة عند علماء النقل ما يغنى عن بسط الكلام فيها.

واللائق بهذه المسألة التوقف عن الخوض فيها على وجه يتضمن دعوى القطع فى شىء من الجانبين، انتهى.

__________

(١) سورة الفرقان: ١.

ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين،

كما

قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١) قال السمرقندى: يعنى للجن والإنس، وقيل لجميع الخلق، رحمة للمؤمن بالهداية ورحمة للمنافق بالأمان من القتل.

وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبى إذا كذب أهلك اللّه من كذبه، ومحمد- صلى اللّه عليه وسلم- أخر من كذبه إلى الموت أو القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة فى الدنيا والآخرة، فذاته- صلى اللّه عليه وسلم- كما روى- رحمة تعم المؤمن والكافر كما

قال تعالى: وَما كانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ (٢) وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنما أنا رحمة مهداة) (٣) رواه الدارمى والبيهقى من حديث أبى هريرة، وسيأتى فى المقصد السادس مزيد لذلك- إن شاء اللّه تعالى-. واللّه الموفق.

ومنها: أن اللّه تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم فى القرآن،

فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا داود، يا زكريا، يا يحيى، يا عيسى، ولم يخاطب هو فيه إلا ب (يا أيها الرسول) (يا أيها النبى) (يا أيها المزمل) (يا أيها المدثر) .

ومنها: أنه حرم على الأمة نداءه باسمه،

قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً (٤) أى لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول اللّه، يا نبى اللّه، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت،

وقيل: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا فى جواز الإعراض والمساهلة فى الإجابة.

ومنها: أنه يحرم الجهر له بالقول،

قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ

__________

(١) سورة الأنبياء: ١٠٧.

(٢) سورة الأنفال: ٣٣.

(٣) تقدم.

(٤) سورة النور: ٦٣.

آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (١) . قال ابن عباس: لما نزل

قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ (٢) كان أبو بكر لا يكلم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلا كأخى السرار (٣) وروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ما كان يسمع كلام عمر حتى يستفهمه مما يخفض صوته (٤) .

وكان ثابت بن قيس فى أذنه وقر، وكان جهوريّا، فلما نزلت تخلف عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فتفقده ودعاه، ف

قال: يا رسول اللّه لقد أنزلت عليك هذه الآية، وإنى رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملى قد حبط، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة) (٥) . قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشى بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة فى حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الانكشاف وانهزمت طائفة منهم، فقاتل حتى قتل.

ومنها: أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات

قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦) ، إذ العقل يقتضى حسن الأدب ومراعاة الحشمة وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٧)

__________

(١) سورة الحجرات: ٢.

(٢) سورة الحجرات: ٢.

(٣) ذكره الحافظ فى (الفتح) (٨/ ٥٩١) وقال: وهذا مرسل، وقد أخرجه الحاكم موصولا نحوه،

وأخرجه ابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبى بكر، ولم يذكر عن أبيه.

(٤) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٤٨٤٥) فى التفسير، باب: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية من حديث عبد اللّه بن الزبير- رضى اللّه عنهما-.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦١٣) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (١١٩) فى الإيمان، باب: مخافة المؤمن أن يحبط عمله، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٦) سورة الحجرات: ٤.

(٧) سورة الحجرات: ٥.

أى لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- الموجبين للثناء والثواب.

ومنها: أنه حبيب اللّه، وجمع له بين المحبة والخلة،

وسيأتى تحقيق ذلك وما فيه من المباحث فى آخر المقصد السابع، - إن شاء اللّه تعالى-.

ومنها: أنه تعالى أقسم على رسالته وبحياته وببلده وعصره

، كما سيأتى فى المقصد السادس، - إن شاء اللّه تعالى-.

ومنها: أنه كلم بجميع أصناف الوحى،

كما نقل عن ابن عبد السلام وسبق تحقيقه في المبعث من المقصد الأول.

ومنها: أن إسرافيل هبط عليه، ولم يهبط على نبى قبله،

أخرجه الطبرانى من حديث ابن عمر: سمعت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: (لقد هبط علىّ ملك من السماء ما هبط على نبى قبلى، ولا يهبط على أحد بعدى، وهو إسرافيل،

فقال: أنا رسول ربك إليك أمرنى أن أخبرك إن شئت نبيّا عبدا، وإن شئت نبيّا ملكا، فنظرت إلى جبريل فأومأ إلى أن تواضع، فلو أنى قلت نبيّا ملكا، لسارت الجبال معى ذهبا) (١) .

ومنها: أنه سيد ولد آدم،

رواه مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ:

(أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) (٢) وعند الترمذى من حديث أبى سعيد الخدرى (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر) (٣) .

وإنما قال ذلك إخبارا عما أكرمه اللّه تعالى به من الفضل والسؤدد، وتحدثا بنعمة اللّه عنده، وإعلاما لأمته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله: (ولا فخر) أى إن هذه الفضيلة التى نلتها كرامة من اللّه، لم أنلها من قبل نفسى، ولا بلغتها بقوتى، فليس لى أن أفتخر بها.

__________

(١) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (١٢/ ٣٤٨) ، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٩/ ١٩) و

قال: وفيه يحيى بن عبد اللّه البابلتى، وهو ......

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

ومنها: أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،

قال اللّه تعالى:

لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ (١) .

قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه أخبره اللّه تعالى بالمغفرة ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك، ويدل له قولهم فى الموقف: (نفسى نفسى). وقال ابن كثير فى تفسير هذه الآية- يعنى آية الفتح- لم يشاركه فيها غيره. وقد أخرج أبو يعلى والطبرانى والبيهقى عن ابن عباس

قال: إن اللّه فضل محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- على أهل السماء وعلى الأنبياء، قالوا: فما فضله على أهل السماء،

قال: إن اللّه تعالى قال لأهل السماء:

وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ (٢) وقال لمحمد- صلى اللّه عليه وسلم-:

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فقد كتب له براءة، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟

قال: إن اللّه تعالى

قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ (٣) وقال لمحمد: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ (٤) ، فأرسله إلى الإنس والجن.

ومنها: أنه أكرم الخلق على اللّه

، فهو أفضل من كل المرسلين، وجميع الملائكة المقربين، وسيأتى الجواب عن قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى حديث ابن عباس، عند مسلم: (ما ينبغى لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى)(٥) ونحو ذلك فى المقصد السادس- إن شاء اللّه تعالى-.

ومنها: إسلام قرينه.

رواه مسلم من حديث ابن مسعود، والبزار من حديث ابن عباس.

__________

(١) سورة الفتح: ٢.

(٢) سورة الأنبياء: ٢٩.

(٣) سورة إبراهيم: ٤.

(٤) سورة سبأ: ٢٨.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (٣٣٩٦) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول اللّه تعالى وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، ومسلم (٢٣٧٧) فى الفضائل، باب: فى ذكر يونس- عليه السّلام-.

ومنها: أنه لا يجوز عليه الخطأ،

كما ذكره ابن أبى هريرة والماوردى:

وقال قوم: ولا النسيان، حكاه النووى فى شرح مسلم.

ومنها: أن الميت يسأل عنه- ص فى قبره

، فعن عائشة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (وأما فتنة القبر فبى يفتنون وعنى يسألون، فإذا كان الرجل أجلس، فيقال له ما هذا الرجل الذى كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول اللّه) (١) . الحديث رواه أحمد والبيهقى.

ومنها: أنه حرم نكاح أزواجه من بعده،

قال اللّه تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ (٢) أى هن فى الحرمة كالأمهات، حرم نكاحهن عليهم بعده تكرمة له وخصوصية، ولأنهن أزواج له فى الآخرة، وهذا فى غير المخيرات، فمن اختارت منهن الدنيا ففى حلها للأزواج طريقان:

أحدهما طرد الخلاف،

والثانى: القطع بالحل واختاره الإمام (٣) والغزالى.

وأزواجه اللاتى توفى عنهن محرمات على غيره أبدا، وفى جواز النظر إليهن وجهان:

أشهرهما المنع، ويثبت لهن حكم الأمومة فى احترامهن وطاعتهن وتحريم نكاحهن، لا فى جواز الخلوة بهن والنفقة عليهن والميراث.

ولا يتعدى ذلك إلى غيرهن فلا يقال بناتهن أخوات للمؤمنين على الأصح.

وقيل: إنما حرمن لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- حى فى قبره، ولذا حكى الماوردى أنه لا يجب عليهن عدة الوفاة. وفى التى فارقها فى الحياة- كالمستعيذة- والتى رأى بكشحها بياضا- أوجه:أحدها، يحرمن أيضا، وهو الذى نص عليه الشافعى وصححه فى الروضة، لعموم الآية، وليس المراد بمن بعده بعدية الموت بل بعدية النكاح.

وقيل: لا.

والثالث: وصححه إمام الحرمين والرافعى فى الصغير: تحريم المدخول بها فقط، لما روى أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة فى زمن عمر، فهم عمر برجمه فأخبر أنها لم تكن مدخولا بها فكف. وفى أمة فارقها بعد وطئها أوجه ثالثها: تحرم إن فارقها بالموت- كمارية- ولا تحرم إن باعها فى الحياة. انتهى.

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه أحمد فى (المسند) (٦/ ١٣٩) ، وأصله فى الصحيح.

(٢) سورة الأحزاب: ٦.

(٣) يقصد: إمام الحرمين، الإمام الجوينى.

ومنها: ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على اللّه به

وليس ذلك لغيره، قال ابن عبد السلام: وهذا ينبغى أن يكون مقصورا على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على اللّه بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا فى درجته، وأن يكون هذا مما خص به لعلو درجته ومرتبته (١) ، انتهى.

ومنها: أنه يحرم رؤية أشخاص أزواجه فى الأزر،

وكذا يحرم كشف وجوههن وأكفهن لشهادة أو غيرها، كما صرحه به القاضى عياض، وعبارته:

فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف فى الوجه والكفين، فلا يجوز كشف ذلك فى شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستقرات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز، ثم استدل بما فى الموطأ، أن حفصة لما توفى عمر- رضى اللّه عنه- سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها لتستر شخصها. انتهى.

قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، فقد كن بعد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص.

انتهى.

وأما حكم نظر غير أزواجه ففى الروضة وأصلها عن الأكثرين: جواز النظر إلى وجه حرة كبيرة أجنبية وكفيها إذا لم يخف فتنة، مع الكراهة، وقوة كلام الشيخين: الرافعى والنووى تقتضى رجحانه، وصوبه فى (المهمات)

__________

(١) قلت: روى الترمذى (٣٥٧٨) ، وابن ماجه (١٣٨٥) ، وأحمد فى (المسند) (٤/ ١٣٨) عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: ادع اللّه أن يعافينى.

قال: (إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك) ،

قال: فادعه.

قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء:

(اللّهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، إنى توجهت بك إلى ربى فى حاجتى هذه لتقضى لى، اللّهم فشفعه فى) . ا. هـ إلا أن العلماء قد ذكروا أن هذا من خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم- حال حياته، لأن السائل

قال: فشفعه فى، بمعنى: اقبل شفاعته (دعاءه) فى.

لتصريح الرافعى فى الشرح بأن الأكثرين عليه، لكن نقل ابن العراقى أن شيخه البلقينى

قال: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما فى المنهاج، وقد جزم به فى (التدريب) ، وقوة كلام الشرح الصغير تقتضى رجحانه، وعللّه باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات. ونقلا فى (الروضة) و (أصلها) هذا الاتفاق وأقراه.

وعورض: بنقل القاضى عياض عن العلماء مطلقا: أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها فى الطريق، وإنما هو سنة، وعلى الرجال غض البصر، وحكاه عنه النووى فى شرح مسلم وأقره. قاله الشيخ نجم الدين ابن قاضى عجلون فى تصحيح المنهاج واللّه أعلم. وكان النكاح فى حقه- صلى اللّه عليه وسلم- عبادة مطلقا، كما قاله السبكى، وهو فى حق غيره ليس بعبادة عندنا، بل من المباحات، والعبادة عارضة له.

ومنها: أن أولاد بناته ينسبون إليه،

قال- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحسن: (إن ابنى هذا سيد) (١) رواه أبو يعلى.

ومنها: أن كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا سببه ونسبه.

قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببى ونسبى) (٢) . والنسب بالولادة والسبب بالزواج. قيل: إن أمته ينتفعون بالنسبة إليه يوم القيامة بخلاف أمة غيره.

ومنها: أنه لا يتزوج على بناته.

فعن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على المنبر يقول: (إن بنى هاشم بن المغيرة استأذنونى فى أن ينكحوا ابنتهم على بن أبى طالب، فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبى طالب أن طلق ابنتى وينكح ابنتهم، فإنما ابنتى بضعة

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

(٢) صحيح: أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ١٥٣) ، والبيهقى فى (السنن الكبرى) ، (٧/ ٦٣ و ٦٤ و ١١٤) ، والطبرانى فى (الكبير) (٣/ ٤٤ و ٤٥) ، من حديث عمر- رضى اللّه عنه-.

منى يريا بنى ما رابها، ويؤذينى ما آذاها) (١) أخرجه الشيخان، وصححه الترمذى.

وعنه (أن على بن أبى طالب خطب بنت أبى جهل، وعنده فاطمة بنت النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

فقالت: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا على ناكح ابنة أبى جهل. قال المسور: فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فسمعته حين تشهد

قال: (أما بعد فإنى أنكحت أبا العاصى بن الربيع، فحدثنى فصدقنى، وإن فاطمة بنت محمد بضعة منى، وإنما أكره أن يفتنوها، وإنه واللّه لا تجتمع بنت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وبنت عدو اللّه عند رجل واحد أبدا) .

قال: فترك على الخطبة) (٢) : أخرجه الشيخان.

واسم بنت أبى جهل هذه: جويرية، أسلمت وبايعت، وتزوجها عتاب ابن أسيد، ثم أبان بن سعيد بن العاصى. قال أبو داود: حرم اللّه تعالى على على أن ينكح على فاطمة فى حياتها، بقوله عز وجل: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (٣) .

وذكر الشيخ أبو على السنجى، فى شرح التلخيص: أنه يحرم التزوج على بنات النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ويحتمل أن يكون ذلك خاصّا بفاطمة- رضى اللّه عنها-، وقد علل- صلى اللّه عليه وسلم- بأن ذلك يؤذيه، وإذايته- صلى اللّه عليه وسلم- حرام بالاتفاق، وفى هذا تحريم أذى من يتأذى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بتأذيه، لأن إيذاء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حرام اتفاقا، قليله وكثيره. وقد جزم- صلى اللّه عليه وسلم- بأنه يؤذيه ما آذى فاطمة، فكل من وقع منه فى حق فاطمة شىء فتأذت به فهو يؤذى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بشهادة هذا الخبر الصحيح.

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٢٣٠) فى النكاح، باب: ذب الرجل عن ابنته فى الغيرة والإنصاف، ومسلم (٢٤٤٩) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى- عليهما الصلاة والسلام-.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٢٩) فى المناقب، باب: ذكر أصهار النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٤٤٩) فيما تقدم.

(٣) سورة الحشر: ٧.

وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك، مع أن الغيرة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أقرب إلى خشية الافتتان فى الدين، ومع ذلك فكان- صلى اللّه عليه وسلم- يستكثر من الزوجات، وتوجد منهن الغيرة، ومع ذلك ما راعى- صلى اللّه عليه وسلم- ذلك فى حقهن، كما راعاه فى حق فاطمة؟

وأجيب: بأن فاطمة كانت إذ ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها ويزيل وحشتها من أم أو أخت، بخلاف أمهات المؤمنين، فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك، وزيادة عليه وهو زوجهن- صلى اللّه عليه وسلم- لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخواطر، بحيث إن كل واحدة منهن ترضى منه لحسن خلقه وجميل خلقه جميع ما يصدر منه، بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قرب.

ومنها (١) : أنه لا يجتهد فى محراب صلى إليه يمنة ولا يسرة،

وأفتى شيخ الإسلام أبو زرعة ابن العراقى فى شخص امتنع من الصلاة إلى محراب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- و

قال: أنا أجتهد وأصلى، بأنه إن فعل ذلك مع الاعتراف بأنه على ما كان فى زمن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فهو ردة، وإن ذكر تأويلا بأن

قال: ليس هو الآن على ما كان عليه فى زمنه- صلى اللّه عليه وسلم- بل غير عما كان عليه، فهذا سبب اجتهادى، لم يحكم بردته، وإن لم يكن هذا التأويل صحيحا.

ومنها: أن من رآه فى المنام فقد رآه حقّا

فإن الشيطان لا يتمثل به. وفى رواية مسلم (من رآنى فى المنام فسيرانى فى اليقظة أو لكأنما رآنى فى اليقظة، لا يتمثل الشيطان بى) (٢) . قال الحافظ ابن حجر: ووقع عند الإسماعيلى:

(فقد رآنى فى اليقظة) بدل قوله (فسيرانى) ومثله عند ابن ماجه وصححه الترمذى من حديث ابن مسعود (٣) . وفى رواية أبى قتادة- عند مسلم أيضا-

__________

(١) ومنها هنا عائدة على خصائصه- صلى اللّه عليه وسلم- التى هى ....... هذا الباب.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٩٩٣) فى التعبير، باب: من رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى المنام، ومسلم (٢٢٦٦) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (من رآنى فى المنام فقد رآنى) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٢٧٦) فى الرؤيا، باب: ما جاء فى قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (من رآنى فى المنام فقد رآنى) ، وابن ماجه (٣٩٠٠) فى تعبير الرؤيا، باب: رؤية النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى المنام .

(من رآنى فقد رأى الحق) (١) . وله أيضا من حديث جابر (من رآنى فى المنام فقد رآنى، فإنه لا ينبغى للشيطان أن يتمثل فى صورتى) (٢) وفى رواية (من رآنى فى المنام فقد رآنى فإنه لا ينبغى للشيطان أن يتشبه بى) . وفى حديث أبى سعيد عند البخارى (فإن الشيطان لا يتكوننى) (٣) أى لا يتكون كونى، فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل.

وفى حديث أبى قتادة عند البخارى (لا يتراءى بى) (٤) بالراء، بوزن يتعاطى، ومعناه: لا يستطيع أن يتمثل بى، يعنى أن اللّه تعالى وإن أمكنه من التصور فى أى صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور فى صورة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-.

وقد ذهب إلى هذا جماعة، فقالوا فى الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائى على صورته التى كان عليها، ومنهم من ضيق الذرع فى ذلك حتى

قال: لابد أن يراه على صورته التى قبض عليها، حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التى لم تبلغ عشرين شعرة.

وعن حماد بن زيد

قال: كان محمد- يعنى ابن سيرين- إذا قص عليه رجل أنه رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: صف الذى رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها

قال: لم تره، وسنده صحيح. وقد أخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب: حدثنى أبى

قال: قلت لابن عباس، رأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى المنام،

قال: صفه لى،

قال: فذكرت الحسن بن على فشبهته به،

قال: قد رأيته، وسنده جيد.

لكن يعارضه: ما أخرجه ابن أبى عاصم من وجه آخر عن أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من رآنى فى المنام فقد رآنى، فإنى أرى فى كل صورة) (١)

__________

(١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٩٩٦) فى التعبير، باب: من رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى المنام، ومسلم (٢٢٦١) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (من رآنى فى المنام فقد رآنى) .

(٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٦٨) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (من رآنى فى المنام فقد رآنى) .

(٣) صحيح: أخرجه البخارى (٦٩٩٧) فى التعبير، باب: من رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى المنام.

(٤) صحيح: وقد تقدم حديث أبى قتادة قبل حديثين.

وفى سنده ابن التوأمة وهو ..... لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط. قال القاضى أبو بكر بن العربى: رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثال.

قال: وقد شذ بعض القدرية ف

قال: الرؤيا لا حقيقة لها أصلا.

قال وقوله: (فسيرانى) معناه فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق وغيب، وأما قوله (فكأنما رآنى) فهو تشبيه ومعناه: أنه لو رآنى فى اليقظة لطابق ما رآه فى المنام، فيكون الأول حقّا وحقيقة، والثانىحقّا وتمثيلا.

قال: وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة، فإن رآه على خلاف صفته فهى أمثال. فإن رآه مقبلا عليه مثلا فهو خير للرائى، وعلى العكس فبالعكس.

وقال القاضى عياض: يحتمل أن يكون المراد بقوله (فقد رآنى) أو (فقد رأى الحق) أن من رآه على صورته المعروفة فى حياته كانت رؤياه حقّا، ومن رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويل، انتهى. وتعقبه النووى ف

قال: هذا .....، بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها، انتهى. وتعقبه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر ف

قال: لم يظهر لى من كلام القاضى عياض ما ينافى ذلك، بل ظاهر قوله أنه يراه حقيقة فى الحالين، لكن فى الأولى تكون الرؤيا مما لا يحتاج إلى تعبير، والثانية: مما يحتاج إلى التعبير.

وقال بعضهم؛ معناه، أن من رآه [رآه] (٢) على صورته التى كان عليها.

ويلزم من قول من

قال: (إنه لا تكون رؤيته إلا على صورته المعلومة) أن من

__________

(١) إسناده ..... ذكره الحافظ فى (الفتح) (١٢/ ٣٨٤) وقال: وفى سنده صالح مولى التوأمة، وهو ..... لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط، ا. هـ. قلت: والروايات السابقة أيضا ذكرها الحافظ ابن حجر فى نفس الموضع.

(٢) زيادة من المصدر السابق، وهى صحيحة.

رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من أضغاث الأحلام. ومن المعلوم أنه يرى فى النوم على حالة بخلاف حالته فى الدنيا من الأحوال اللائقة به، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشىء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله:

(فإن الشيطان لا يتمثل بى) فالأولى أن ننزه رؤياه، وكذا رؤيا شىء منه، أو مما ينسب إليه عن ذلك، فإنه أبلغ فى الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان فى يقظته، فالصحيح فى تأويل هذا الحديث: أن مقصوده أن رؤيته فى كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثا، بل هى حق فى نفسها، ولو رؤى على غير صورته، فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان، بل هو من قبل اللّه، وهذا قول القاضى أبى بكر الطيب وغيره. ويؤيده قوله: (فقد رأى الحق) أشار إليه القرطبى.

وقال ابن بطال: قوله: (فسيرانى فى اليقظة) يريد تصديق تلك الرؤيا فى اليقظة وصحتها وخروجها على الحق، وليس المراد أنه يراه فى الآخرة، لأنه سيراه يوم القيامة فى اليقظة جميع أمته، من رآه فى النوم ومن لم يره.

وقال المازرى: إن كان المحفوظ (فكأنما رآنى فى اليقظة) فمعناه ظاهر، وإن كان المحفوظ (فسيرانى فى اليقظة) احتمل أن يكون أراد أهل عصره ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذ رآه فى المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك فى اليقظة، وأوحى اللّه بذلك إليه- صلى اللّه عليه وسلم-. وقيل معناه: سيرى تأويل تلك الرؤيا فى اليقظة وصحتها.

وأجاب القاضى عياض: باحتمال أن تكون رؤياه له فى النوم على الصفة التى عرف بها، ووصف عليها، موجبة لتكرمته فى الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه، أو الشفاعة له، بعلو الدرجة ونحو ذلك من الخصوصيات.

قال: ولا يبعد أن يعاقب اللّه بعض المذنبين فى القيامة بمنع رؤية نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- مدة.

وحمله ابن أبى جمرة على محمل آخر، فذكر عن ابن عباس أو غيره، أنه رأى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى النوم، فبقى بعد اليقظة متفكرا فى هذا الحديث،

فدخل على بعض أمهات المؤمنين- لعلها خالته ميمونة- فأخرجت له المرآة التى كانت للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- فنظر فيها صورة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ولم ير صورة نفسه.

وقال الغزالى: ليس معنى قوله: (فقد رآنى) أنه رأى جسمى وبدنى وإنما المراد أنه رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذى فى نفسى إليه، وكذلك قوله: (فسيرانى فى اليقظة) ليس المراد أنه يرى جسمى وبدنى.

قال: والآلة تارة تكون حقيقية وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى- صلى اللّه عليه وسلم- ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق.

قال: ومثل ذلك من يرى اللّه تعالى فى المنام، فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهى تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك المثال آلة حقّا فى كونه واسطة فى التعريف، فيقول الرائى: رأيت اللّه عز وجل فى المنام، لا يعنى أنى رأيت ذات اللّه تعالى، كما يقول فى حق غيره.

وقال الغزالى أيضا فى بعض فتاويه: من رأى الرسول- يعنى فى المنام- لم ير حقيقة شخصه المودع روضة المدينة، وإنما رأى مثاله لا شخصه، ثم

قال: وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة والشكل.

وقال الطيبى: المعنى من رآنى فى المنام بأى صفة كنت فليبشر وليعلم أنه قد رآنى الرؤيا الحق، أى رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله: (فقد رآنى) فالشرط والجزاء إذا اتحدا دل على الغاية فى الكمال،أى فقد رآنى رؤيا ليس بعدها شىء.

والحاصل من الأجوبة:

أنه على التشبيه والتمثيل ويدل عليه قوله (فكأنما رآنى فى اليقظة) .

ثانيها: معناه، سيرى فى اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة.

ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.

رابعها: المراد أنه فى المرآة التى كانت له إن أمكنه ذلك، قال شيخ مشايخنا الحافظ ابن حجر: وهذا من أبعد المحامل.

خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من رآه حينئذ ممن لم يره فى المنام.

والصواب كما قدمناه فى رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- التعميم، على أى حالة رآه الرائى بشرط أن يكون على صورته الحقيقية فى وقت ما، سواء كان فى شبابه أو رجوليته أو كهوليته، أو آخر عمره، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائى، كما قال بعض علماء التعبير: إن من رآه شيخا فهو غاية سلم، ومن رآه شابّا فهو غاية حرب.

وقال أبو سعيد أحمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيّا على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح الرائى وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسا مثلا فذلك دال على سوء حال الرائى.

وقال العارف ابن أبى جمرة: من رآه فى صورة حسنة فذاك حسن فى دين الرائى، وإن كان فى جارحة من جوارحه شين أو نقص فذلك خلل فى الرائى من جهة الدين.

قال: وهذا هو الحق. وقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى فى رؤياه حتى يتبين للرائى هل عنده خلل أو لا؟ لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- نورانى مثل المرآة الصقيلة، ما كان فى الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها، وفى ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها، كذلك يقال فى كلامه- صلى اللّه عليه وسلم- فى النوم: أنه يعرض على سنته، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل فى سمع الرائى، فرؤيا الذات الكريمة حق، والخلل إنما هو فى سمع الرائى له أو بصره،

قال: وهذا غير ما سمعته فى ذلك، انتهى.

وقال بعضهم: ليست رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- رؤيا عين، إنما يرى بالبصائر، وذلك لا يستدعى حصر المرئى بل يرى من المشرق إلى المغرب ومن الأرض إلى العرش، كما ترى الصورة فى المرآة المحاذية لها، وليست الصورة منتقلة إلى جرم المرآة، وعين الناظر مقابلة جميع الكائنات كالمرآة.

واختلاف رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- بأن يراه بعضهم شيخا وآخر شابّا، وآخر ضاحكا وآخر باكيا، يرجع إلى حال الرائين، كاختلاف الصورة الواحدة فى مرائى مختلفة الأشكال والمقادير، ففى الكبيرة يرى وجهه كبيرا، وفى الصغيرة صغيرا، وفى المعوجة معوجّا، وفى الطويلة طويلا، إلى غير ذلك، فالاختلاف راجع إلى اختلاف أشكال المرائى، لا إلى وجه الرائى. كذلك الراؤون له- صلى اللّه عليه وسلم- أحوالهم بالنسبة إليه مختلفة، فمن رآه متبسما إليه دل على أن الرائى متمسك بسنته، واللّه أعلم.

وقد أجاب الشيخ بدر الدين الزركشى عن سؤال رؤية جماعة له- صلى اللّه عليه وسلم- فى آن واحد من أقطار متباعدة، مع أن رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- حق: بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- سراج، ونور الشمس فى هذا العالم، مثال نوره فى العوالم كلها، وكما أن الشمس يراها كل من فى المشرق والمغرب فى ساعة واحدة وبصفات مختلفة فكذلك النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وللّه در القائل:

كالبدر من أى النواحى جئته ... يهدى إلى عينيك نورا ثاقبا

وأما رؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- فى اليقظة بعد موته- صلى اللّه عليه وسلم- فقال شيخنا: لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة، ولا عن من بعدهم.

وقد اشتد حزن فاطمة عليه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى ماتت كمدا بعده بستة أشهر- على الصحيح- وبيتها مجاور لضريحه الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته فى المدة التى تأخرت عنه.

وإنما حكى بعض الصالحين حكايات عن أنفسهم، كما هو فى (توثيق عرى الإيمان) للبارزى و (بهجة النفوس) لأبى محمد عبد اللّه بن جمرة، و (روض الرياحين) للعفيف اليافعى، وغيره من تصانيفه، والشيخ صفى الدين ابن أبى المنصور فى رسالته.

وعبارة ابن أبى جمرة: قد ذكر عن السلف والخلف إلى هلم جرّا عن جماعة كانوا يصدقون بهذا الحديث يعنى (من رآنى فى المنام فسيرانى فى اليقظة) أنهم رأوه- صلى اللّه عليه وسلم- فى النوم فرأوه بعد ذلك فى اليقظة، وسألوه عن

أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التى منها يكون فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص.

ثم قال: والمنكر لهذا لا يخلو إما أن يكون ممن يصدق بكرامات الأولياء، أو لا، فإن كان الثانى فقد سقط البحث معه، فإنه مكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، وإن كان الأول فهذه منها، لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة فى أشياء فى العالمين العلوى والسفلى عديدة مع التصديق بذلك (١) .

وقال الشيخ ابن أبى المنصور فى رسالته، ويقال: إن الشيخ أبا العباس القسطلانى دخل مرة على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أخذ اللّه بيدك يا أحمد) . وعن الشيخ أبى السعود

قال: وكنت أزور شيخنا أبا العباس وغيره من صلحاء مصر فلما انقطعت واشتغلت وفتح على، لم يكن لى شيخ إلا النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأنه كان يصافحه عقب كل صلاة.

وقال الشيخ أبو العباس الحراز: دخلت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مرة فوجدته يكتب مناشير الأولياء بالولاية،

قال: وكتب لأخى محمد معهم منشورا، فقلت: يا رسول اللّه، ما تكتب لى كأخى؟

قال: (أتريد أن تكون فمهارا) وهذه لغة أندلسية، تعنى طريقا، وفهم عنه أن له مقاما غير هذا.

وقال حجة الإسلام الغزالى فى كتابه (المنقذ من الضلال) : وهم- يعنى

__________

(١) قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى (مجموع الفتاوى) (١٣/ ٩١) : وهذه رؤية فى المنام وأما فى اليقظة فمن ظن أن أحدا من الموتى يجىء بنفسه للناس عيانا قبل القيامة فمن جهله أتى، ومن هنا ضلت النصارى حيث اعتقدوا أن المسيح بعد أن صلب- كما يظنون- أنه أتى إلى الحواريين وكلمهم ووصاهم وهذا مذكور فى أناجيلهم وكلها تشهد بذلك، وذاك الذى جاء كان شيطانا

قال: أنا المسيح، ولم يكن هو المسيح نفسه، ويجوز أن يشتبه مثل هذا على الحواريين، كما اشتبه على كثير من شيوخ المسلمين، ولكن ما أخبرهم المسيح قبل أن يرفع بتبليغه فهو الحق الذى يجب عليهم تبليغه، ولم يرفع حتى بلغ رسالات ربه، فلا حاجة إلى مجيئه بعد أن رفع إلى السماء. اه. قلت: وكذلك الحال مع نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- لا يجىء لأحد بعد موته فى الحياة الدنيا، ولو كان ذلك حقّا لجاء إلى أناس لا خلاف على كراماتهم كأصحابه.

أرباب القلوب- فى يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد. انتهى.

ورأيت فى كتاب المنح الإلهية فى مناقب السادة الوفائية عن سيدى على ابن سيدى محمد وفا أنه قال فى بعض مشاهده: كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب، فأتيته يوما فرأيت إنسانا يقرأ عليه سورة الضُّحى (١) وصحبته رفيق له وهو يلوى شدقيه بالإمالة، ورفيقه يضحك إعجابا، فرأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقظة لا مناما وعليه قميص أبيض قطن، ثم رأيت القميص على فقال لى: اقرأ فقرأت عليه سورة وَالضُّحى وأَ لَمْ نَشْرَحْ ثم غاب عنى، فلما بلغت إحدى وعشرين أحرمت بصلاة الصبح بالقرافة فرأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قبالة وجهى فعانقنى فقال لى: وأما بنعمة ربك فحدث، فأوتيت لسانه من ذلك الوقت. انتهى.

وأما ما حكاه الشيخ تاج الدين بن عطاء اللّه فى (لطائف المنن) عن الشيخ أبى العباس المرسى، أنه كان مع الشيخ أبى الحسن الشاذلى بالقيروان فى ليلة الجمعة سابع عشرى رمضان، فذهب معه إلى الجامع.. الحكاية، إلى أن

قال: ورأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يقول: (يا على طهر ثيابك من الدنس تحط بمدد اللّه فى كل نفس إلخ) ، فيحتمل أن يكون مناما.

وكذلك قول الشيخ قطب الدين القسطلانى: كنت أقرأ على أبى عبد اللّه محمد بن عمر بن يوسف القرطبى بالمدينة النبوية، فجئته يوما فى وقت خلوة، وأنا يومئذ حديث السن فخرج إلى وقال لى: من أدبك بهذا الأدب؟

وعاب على،

قال: فذهبت وأنا منكسر الخاطر، فدخلت المسجد وقعدت عند قبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فبينا أنا جالس على تلك الحال، فإذا بالشيخ قد جاءنى

وقال: قم، فقد جاء فيك شفيع لا يرد.

ونحوه: ما حكاه السهروردى فى (عوارف المعارف) عن الشيخ

__________

(١) سورة الضحى: ١.

عبد القادر الكيلانى أنه قال: ما تزوجت حتى قال لى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (تزوج) (١) .

وحكى عن السيد نور الدين الإيجى، والد السيد عفيف الدين، أنه فى بعض زياراته للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- سمع جواب سلامه من داخل القبر الشريف:

عليك السلام يا ولدى.

وقال البدر حسن بن الأهدل فى مسألة الرؤية له: إن وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار، وصار العلم بذلك قويّا، انتفى عنه الشك، ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له شبهة فيه، ولكن يقع لهم ذلك فى بعض غيبة حسّ وغموض طرف، لورود حالة لا تكاد تضبطها العبارة.

ومراتبهم فى الرؤية متفاوتة، وكثيرا ما يغلط فيها رواتها، فقل ما تجد رواية متصلة صحيحة عمن يوثق به. وأما من لا يوثق به فقد يكذب، وقد يرى مناما، أو فى غيبة حس، فيظنه يقظة، وقد يرى خيالا ونورا فيظنه الرسول، وقد يلبس عليه الشيطان فيجب التحرز فى هذا الباب.

وبالجملة: فالقول برؤيته- صلى اللّه عليه وسلم- بعد موته بعين الرأس فى اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول، لاستلزامه خروجه- صلى اللّه عليه وسلم- من قبره، ومشيه فى الأسواق ومخاطبته للناس ومخاطبتهم له، وخلو قبره عن جسده المقدس، فلا يبقى منه فيه شىء، وبحيث يزار مجرد القبر، ويسلم على غائب. أشار إلى ذلك القرطبى فى الرد القائل: بأن الرائى له فى المنام راء حقيقة، ثم يراه كذلك فى اليقظة.

قال: وهذه جهالات لا يقول بشىء منها من له أدنى مسكة من المعقول، وملتزم شىء من ذلك مختل مخبول. و

قال: القاضى أبو بكر بن العربى: وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعينى الرأس حقيقة. وقال فى

__________

(١) قلت: أولم يسمع قول رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... الحديث) ، حتى ينتظر مثل هذا الأمر!.

فتح البارى- بعد أن ذكر كلام ابن أبى جمرة-: وهذا مشكل جدّا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة.

وللشيخ مسلم شيخ الطائفة المسلمية شعر:

فمن يدعى فى هذه الدار أنه ... يرى المصطفى حقّا فقد فاه مشتطا

ولكن بين النوم واليقظة التى ... يباشر هذا الأمر مرتبة وسطا

وقد جعل القاضى أبو بكر بن العربى القول بأن الرؤية فى المنام بعينى الرأس غلو وحماقة، ثم حكى ما نسب لبعض المتكلمين، وهو القول بأنها مدركة بعينين فى القلب، وأنه ضرب من المجاز انتهى.

فلا يمتنع من الخواص، أرباب القلوب القائمين بالمراقبة والتوجه على قدم الخوف، بحيث لا يسكنون بشىء مما يقع لهم من الكرامات، فضلا عن التحدث بها لغير ضرورة، مع السعى فى التخلص من الكدورات، والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أنه يخرج من أهله وماله، وأنه يرى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، كالشيخ عبد القادر الكيلانى: أن يتمثل صورته- صلى اللّه عليه وسلم- فى خاطره، ويتصور فى عالم سره أنه يكلمه، بشرط استقرار ذلك وعدم اضطرابه، فإن تزلزل أو اضطراب كان لمة من الشيطان، وليس ذلك خادشا فى علو مناصبهم لعدم عصمة غير الأنبياء.

فقد قال العلامة التاج ابن السبكى فى جمع الجوامع- تبعا لغيره-: وإن الإلهام ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوما بخواطره، وحينئذ فمن قال- ممن حكينا عنه أو غيرهم- بأن المرئى هو المثال، لا يمتنع حمله على هذا، بل حمل كل من أطلق عليه هو اللائق. وقريب منه قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى رأيت الجنة والنار) (١) مع مزيد استبعاده هناك أن يكون المراد بالرؤية رؤية العلم.

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٧٤٩) فى الأذان، باب: رفع البصر إلى الإمام فى الصلاة، ومسلم (٤٢٦) فى الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوها من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

ويحكى عن الشيخ أبى العباس المرسى أنه

قال: لو حجب عنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- طرفة عين ما عددت نفسى من المسلمين.

وعلى هذا فيكون معنى (فسيرانى فى اليقظة) أى يتصور مشاهدتى وتنزل نفسه حاضرا معى بحيث لا يخرج عن آدابه وسنته- صلى اللّه عليه وسلم- بل يسلك منهاجه ويمشى على شريعته وطريقته. ومنه قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى الإحسان: (أن تعبد اللّه كأنك تراه) (١) ويحمل العموم فى (من رآنى) على الموفقين، وإليه يشير قول بعض المعتمدين: أى من رآنى رؤية معظم لحرمتى ومشتاق لمشاهدتى وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه.

وقريب منه قول شارح المصابيح: أو يراه فى الدنيا حالة الذوق والانسلاخ عن العوائق الجسمانية، كما نقل ذلك عن بعض الصالحين أنه رآه فى حالة الذوق والشوق، وقد قال الأهدل عقب الحكاية عن الشيخ أبى العباس المرسى: وهذا فيه تجوز يقع مثله فى كلام الشيوخ، وذلك أن المراد أنه لم يحجب حجاب غفلة ونسيان لدوام المراقبة واستحضارها فى الأعمال والأقوال، ولم يرد أنه لم يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين، فذلك مستحيل، واللّه أعلم. انتهى.

ومما اختص به- صلى اللّه عليه وسلم- أن التسمى باسمه ميمون ونافع فى الدنيا والآخرة.

روينا عن أنس بن مالك أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (يوقف عبدان بين يدى اللّه تعالى فيؤمر بهما إلى الجنة فيقولان: ربنا بما استأهلنا الجنة ولم نعمل عملا تجازينا به الجنة؟ فيقول اللّه تعالى: ادخلا الجنة، فإنى آليت على نفسى أن لا يدخل النار من اسمه أحمد ولا محمد) (٢) .

__________

(١) صحيح: وهو جزء من حديث جبريل فى سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان، وقد تقدم، إلا أن هذا التأويل بعيد، ولا يصح، واللّه أعلم.

(٢) ذكره صاحب (فيض القدير شرح الجامع الصغير) وعزاه لابن سعد عن عثمان العمرى مرسلا والحديث ذكره ابن الجوزى فى (ال.......ات) (١/ ١٥٧) ، والسيوطى فى (اللآلئ المصنوعة) (١/ ٥٥) .

وروى أبو نعيم عن نبيط بن شريط

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال اللّه تعالى: (وعزتى وجلالى، لا عذبت أحدا تسمى باسمك فى النار) (١) .

وعن على بن أبى طالب

قال: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد إلا قدس اللّه ذلك المنزل كل يوم مرتين، رواه أبو منصور الديلمى. وليس لأحد أن يتكنى بكنيته (أبى القاسم) سواء كان اسمه محمد أم لا، ومنهم: من كره الجمع بين الاسم والكنية، وجوز الإفراد، ويشبه أن يكون هو الأصح. قال النووى فى هذه المسألة مذاهب: الشافعى منع مطلقا، وجوزه مالك،

والثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمدا، ومن جوز مطلقا خص النهى بحياته، وهو الأقرب. انتهى.

ومنها أنه يستحب الغسل لقراءة حديثه والتطيب،

ولا ترفع عنده الأصوات، بل تخفض، كما فى حياته إذا تكلم، فإن كلامه المأثور بعد موته فى الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه الشريف، وأن يقرأ على مكان مرتفع.

روينا عن مطرف

قال: كان الناس إذا أتوا مالكا- رحمه اللّه- خرجت إليهم الجارية فتقول: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل، فإن قالوا المسائل خرج إليهم فى الوقت، وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله فاغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا وتعمم ولبس ساجه، - والساج: الطيلسان- وتلقى له منصة فيخرج ويجلس عليها، وعليه الخشوع، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث.

قال ابن أبى أويس: فقيل له فى ذلك،

فقال: أحب أن أعظم حديث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنا. وي

قال: إنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب. وقد كره قتادة ومالك وجماعة التحديث على

__________

(١) .......: ذكره العلجونى فى (كشف الخفاء) (١٢٤٥) : وقال: وروى أبو نعيم سنده مرفوعا فذكره وقال: كذا ذكره القارى، و........

غير طهارة، حتى كان الأعمش إذا كان على غيرها تيمم. ولا شك أن حرمته- صلى اللّه عليه وسلم- وتعظيمه وتوقيره بعد مماته وعند ذكره، وذكر حديثه وسماع اسمه وسيرته كما كان فى حياته واللّه أعلم.

ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه أن يقوم لأحد،

قال ابن الحاج فى (المدخل) : لأنه قلة أدب مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وقلة احترام وعدم مبالاة أن يقطع حديثه لأجل غيره، فكيف لبدعة، وقد كان السلف لا يقطعون حديثه ولا يتحركون وإن أصابهم الضر فى أبدانهم ويتحملون المشقة التى تنزل بهم إذ ذاك احتراما لحديث نبيهم- صلى اللّه عليه وسلم-.

وحسبك ما وقع لمالك- رحمه اللّه- فى لسع العقرب سبع عشرة مرة، وهو لم يتحرك، وتحمله للسعها توقيرا لجناب حديثه- صلى اللّه عليه وسلم- أن يكون يقرأ وهو يتحرك لضر أصابه، مع أنه معذور فيما وقع، فكيف بالحركة والقيام إذ ذاك لا لضرورة بل للبدعة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك ما لا ينبغى من الكلام المعتاد. انتهى ملخصا.

ومنها أن قراء حديثه لا تزال وجوههم نضرة،

وأن قراء حديثه اختصوا بالتلقيب بالحفاظ، وأمراء المؤمنين من بين سائر العلماء.

ومنها: أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع به- صلى اللّه عليه وسلم- لحظة،

بخلاف التابعى مع الصحابى، فلا تثبت إلا بطول الاجتماع معه على الصحيح عند أهل الأصول، والفرق عظم منصب النبوة ونورها، فبمجرد ما يقع بصره على الأعرابى الجلف ينطق بالحكمة.

ومنها: أن أصحابه كلهم عدول،

لظواهر الكتاب والسنة، فلا يبحث عن عدالة أحد منهم، كما يبحث عن سائر الرواة. قال اللّه تعالى خطابا للموجودين حينئذ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (١) أى عدولا، وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تسبوا أصحابى، فو الذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد

__________

(١) سورة البقرة: ١٤٣.

ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه) (١) ، وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (٢) فى آيات كثيرة وأحاديث تقتضى القول بتعديلهم.

ولذلك: أجمع من يعتد به على ذلك، سواء فى التعديل من لابس الفتنة منهم وغيره، لوجوب حسن الظن بهم، حملا للملابس على الاجتهاد، ونظرا إلى ما تمهد لهم من الماثر، من امتثال أوامره-صلى اللّه عليه وسلم-، وفتحهم الأقاليم، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس، ومواظبتهم على الصلوات والزكوات وأنواع القربات، مع الشجاعة والبراعة والكرم والأخلاق الحميدة التى لم تكن فى أمة من الأمم المتقدمة، ولا تكون لأحد بعدهم مثلهم فى ذلك. كل ذلك بحلول نظره- صلى اللّه عليه وسلم-.

وأفضلهم عند أهل السنة إجماعا: أبو بكر ثم عمر، وأما بعدهما:

فالجمهور على أنه عثمان ثم على. وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء اللّه تعالى- فى المقصد السابع.

ومنها أن المصلى يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبى

، ولا يخاطب غيره.

ومنها أنه كان يجب على من دعاه وهو فى الصلاة أن يجيبه،

ويشهد له حديث أبى سعيد بن المعلى: كنت أصلى فى المسجد، فدعانى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: فلم أجبه.. الحديث، وفيه: ألم يقل اللّه تعالى: اسْتَجِيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ (٣) (٤) ، فإجابته فرض، يعصى المرء بتركها.

__________

(١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٣٦٧٣) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (لو كنت متخذا خليلا) ، ومسلم (٢٥٤٠) فى فضائل الصحابة، باب: تحريم سبب الصحابة- رضى اللّه عنهم-، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-، والنصيف: هو النصف.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٦٥٢) فى الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، ومسلم (٢٥٣٣) فى فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، من حديث عبد اللّه بن مسعود- رضى اللّه عنه-.

(٣) سورة الأنفال: ٢٤.

(٤) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٤٤٧٤) فى التفسير، باب: ما جاء فى فاتحة الكتاب.

وهل تبطل صلاته أم لا؟ صرح جماعة من أصحابنا الشافعية وغيرهم:

أنها لا تبطل، وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقا، سواء كان المخاطب مصليا أو غير مصل. أما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج فليس فى الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جنح بعض الشافعية، واللّه أعلم.

ومنها: أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره

، ومن كذب عليه لم تقبل روايته أبدا وإن تاب، فيما ذكره جماعة من المحدثين.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل عن سعيد بن جبير أن رجلا كذب على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فبعث عليّا والزبير و

قال: (اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه) (١) . ولهذا حكى إمام الحرمين عن أبيه أن من تعمد الكذب على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يكفر. لكن لم يوافقه أحد من الأئمة على ذلك. والحق أنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بها إلا إن استحله. وقال النووى: لم أر له فى أصل المسألة دليلا، ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا وزجرا بليغا عن الكذب عليه- صلى اللّه عليه وسلم- لعظم مفسدته فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة.

ثم قال: وهذا الذى ذكره هؤلاء الأئمة .....، مخالف للقواعد الشرعية. والمختار القطع بصحة توبته وقبول روايته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة.

قال: فهذا هو الجارى على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرا فأسلم،

قال: وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الشهادة والرواية فى هذا.

قال شيخنا: ويمكن أن يقال: فيما إذا كان كذبه فى وضع حديث وحمل

__________

(١) مرسل: أخرجه عبد الرزاق فى (مصنفه) (٩٧٠٧) عن سعيد بن جبير مرسلا، كما فى إسناده رجل مجهول.

عنه ودوّن أن الإثم غير منفك عنه بل هو لاحق له أبدا، فإن من سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والتوبة حينئذ متعذرة ظاهرا وإن وجد مجرد اسمها.

ومنها أنه معصوم من الذنوب كبيرها وصغيرها

، عمدها وسهوها وكذلك الأنبياء.

ومنها أنه لا يجوز عليه الجنون

لأنه نقص، ولا الإغماء الطويل الزمن، فيما ذكره الشيخ أبو حامد فى تعليقه، وجزم به البلقينى فى حواشى الروضة، وكذلك الأنبياء. ونبه السبكى على أن إغماءهم يخالف إغماء غيرهم، وإنما هو غلبة الأوجاع للحواس الظاهرة دون القلب، لأنه قد ورد أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم، فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذى هو أخف من الإغماء، فمن الإغماء بطريق الأولى. قال السبكى: ولا يجوز عليهم العمى، لأنه نقص، ولم يعم نبى قط. وأما ما ذكر عن شعيب أنه كان ضريرا فلم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت، انتهى.

قال الرازى: فى قوله تعالى وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (١) لما

قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ (٢) غلبه البكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء فى العين، فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء،

وقوله: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ (٣) كأنه من غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول: أن تأثير الحزن فى غلبة البكاء لا فى حصول العمى، فلما حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنا، ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى.

ثم قال: واختلفوا،

فقال بعضهم: إنه كان قد عمى بالكلية، فاللّه تعالى جعله بصيرا فى هذا الوقت،

وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والأحزان بحيث صار يدرك إدراكا .....ا، فلما ألقوا القميص على

__________

(١) سورة يوسف: ٨٤.

(٢) سورة يوسف: ٨٤.

(٣) سورة يوسف: ٨٤.

وجهه وبشر بحياة يوسف عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوى بصره وزال النقصان عنه. انتهى. ومنها أن من سبه- صلى اللّه عليه وسلم- أو انتقصه قتل.

واختلف هل يتحتم قتله فى الحال، أو يوقف على استتابته؟ وهل الاستتابة واجبة أم لا؟ فمذهب المالكية: يقتل حدّا لا ردة: ولا تقبل توبته ولا عذره إن ادعى سهوا أو غلطا، وعبارة شيخهم العلامة خليل فى مختصره: (وإن سبب نبيّا أو ملكا، [أو] عرض أو لعنه، أو عابه أو قذفه، أو استخف بحقه، أو غيّر صفته، أو ألحق به نقصا وإن فى [بدنه] أو خصلته أو غص من مرتبته أو وفور علمه أو زهده أو أضاف له ما لا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو قيل له: بحق رسول اللّه، فلعن وقال أردت العقرب قتل- ولم يستتب- حدّا، إلا أن يسلم الكافر، وإن ظهر أنه لم يرد ذمه لجهل أو سكر أو تهور) .

وهذا ذكره القاضى عياض فى الشفاء وغيره، واستدلوا له بالكتاب والسنة والإجماع:

أما الكتاب: فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (١) ، واللعنة من اللّه هى إبعاد الملعون عن رحمته وإحلاله فى وبيل عقوبته، قال القاضى عياض: وإنما يستوجب اللعن من هو كافر، وحكم الكافر القتل.

والأذى: هو الشر الخفيف، فإن زاد كان ضررا، كذا قاله الخطابى وغيره. وإطلاق الأذى فى حقه تعالى إنما هو على سبيل المجاز لتعذر الحقيقة فيه. ويشهد لذلك الحديث الإلهى (يا عبادى إنكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى) (٢) وهذا بخلاف جانب الرسول- صلى اللّه عليه وسلم-.

__________

(١) سورة الأحزاب: ٥٧.

(٢) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (٢٥٧٧) فى البر والصلة، باب: تحريم الظلم، من حديث أبى ذر- رضى اللّه عنه-.

فالأذى فى حقه تعالى وحق رسوله كفر بشهادة هذه الآية، لأن العذاب المهين إنما يكون للكفار، وكذلك العذاب الأليم.

وقال تعالى: قُلْ أَبِاللّه وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ (١) قال القاضى عياض: قال أهل التفسير: كفرتم بقولكم فى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-.

وأما السنة فروى أبو داود والترمذى: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (من لنا بابن الأشرف) وفى أخرى: (من لكعب بن الأشرف) أى من ينتدب لقتله (فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا) وفى رواية: (فإنه يؤذى اللّه ورسوله) (٢) .

قال القاضى عياض: ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل بأذاه له فدل على أن قتله إياه لغير الإشراك بل للأذى.

وفى حديث مصعب بن سعد عند أبى داود: لما كان يوم الفتح أمّن- صلى اللّه عليه وسلم- الناس، إلا أربعة نفر فذكرهم ثم

قال: (وأما ابن سرح) فاختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: يا نبى اللّه بايع عبد اللّه فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك وهو يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه

فقال: (ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدى عن بيعته فيقتله) فقالوا: ما ندرى يا رسول اللّه ما فى نفسك، ألا أو مأت إلينا؟

قال: (إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين) (٣) .

__________

(١) سورة التوبة: ٦٥، ٦٦.

(٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٢٥١٠) فى الرهن، باب: رهن السلاح، ومسلم (١٨٠١) فى الجهاد والسير، باب: قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود، وأبو داود (٢٧٦٨) فى الجهاد، باب: فى العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-.

(٣) صحيح: وقد تقدم.

وفيه: أنه أمر بقتل عبد اللّه بن خطل، لأن ابن خطل كان يقول الشعر يهجو به النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ويأمر جاريتيه أن تغنيا به، وكذلك قتل جاريتيه (١) .

قالوا: فقد ثبت أنه أمر بقتل من آذاه، ومن تنقّصه، والحق له- صلى اللّه عليه وسلم- وهو مخير فيه، فاختار القتل لعدم الاطلاع على العفو، وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه- صلى اللّه عليه وسلم-، فإنه لم يرد عنه الإذن فى ذلك.

وأما الإجماع: فقال القاضى عياض: أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، فقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يقتل، وممن قال ذلك: مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعى، وقال الخطابى: لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف فى وجوب قتله إذا كان مسلما. وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب اللّه وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك فى كفره وعذابه كفر. انتهى.

ومذهب الشافعية: أن ذلك ردة، تخرج من الإسلام إلى الكفر، فهو مرتد كافر قطعا لا نزاع فى ذلك عند الجمهور من أئمتنا، والمرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.

وفى الاستتابة قولان: أصحهما وجوبها، لأنه كان محترما بالإسلام، وإنما عرضت له شبهة، فينبغى إزالتها،

وقيل: تستحب لأنه غير مضمون الدم، فإن قلنا بالأول فتجب فى الحال ولم يؤجل كغيره. وفى الصحيح حديث (من بدل دينه فاقتلوه) (٢) وفى قول: يمهل ثلاثة أيام، فإن لم يتب وأصر- رجلا كان أو امرأة- قتل، وإن أسلم صح إسلامه وترك لقوله تعالى:

فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ (٣) الآية.

__________

(١) ذكر الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ١٧٣) من حديث سعيد بن يربوع، أن إحداهما قتلت، والآخرى أقبلت على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأسلمت، و

قال: رواه الطبرانى وإسناده ثقات.

(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٩٢٢) فى استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٣) سورة التوبة: ٥.

وعن ابن عباس

قال: أيما مسلم سب اللّه أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهى ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل، وأيما معاهد سب اللّه أو سب أحدا من أنبيائه فقد نقض العهد فاقتلوه. (وأجيب) عما تقدم من أدلة المالكية.

فأما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ (١) الآية فليس فيه إلا كفر مؤذيه- صلى اللّه عليه وسلم وأما كونه يقتل بعد التوبة والإسلام فلا دلالة فيه أصلا، وأما ابن خطل فإنما قتل ولم يستتب للكفر والزيادة فيه بالأذى مع ما اجتمع فيه من موجبات القتل، ولأنه اتخذ الأذى ديدنا، فلا يقاس عليه من فرط منه فرطة- وقلنا بكفره بها- وتاب ورجع إلى الإسلام، فالفرق واضح. وكذلك قتل جاريتيه لأنهما جعلتا ذلك ديدنا مع ما قام بهما من صفة الكفر.

وقد روى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبى معيط نادى: يا معشر قريش ما لى أقتل من بينكم صبرا. فقال له النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (بكفرك وافترائك على رسول اللّه) (٢) فذكر له سببين فى تحتم قتله، وهذا فى غاية الظهور. وأما قول الخطابى وغيره: (لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف فى وجوب قتله إذا كان مسلما) فمحمول على التقييد بعدم التوبة.

وأما سياق القاضى عياض لقصة الرجل الذى كذب على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وأنه بعث عليّا والزبير ليقتلاه، فليس يفيد غرضا فى هذا المقام، لأن الظاهر أن هذا كذب، فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين، لا سيما إن كافرا، فيكون من محاربى اللّه ورسوله، مع السعى فى الأرض بالفساد، فيكون متحتم القتل، وإلا فليس مطلق الكذب عليه مما يوجب القتل.

وكذا سياقه حديث ابن عباس: هجت امرأة من خطمة النبى- صلى اللّه عليه وسلم

فقال: (من لى بها) فقال رجل من قومها: أنا يا رسول اللّه فنهض فقتلها

__________

(١) سورة الأحزاب: ٥٧.

(٢) إسناده ..... ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ٨٩) وقال: رواه البزار وفيه يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو .....، ووثقه ابن حبان.

فأخبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بذلك

فقال: (لا ينتطح فيها عنزان) (١) أى لا يجرى فيها خلف ولا نزاع، فإن فى هذه الحكاية ونظائرها نظرا واضحا لقيام الكفر بالمحكى عنهم والزيادة منهم، وقد أخبر- صلى اللّه عليه وسلم- أنه لا عصمة لأحد من الناس بعد دعواهم إلى الإسلام إلا بالإسلام، فكل منهم مهدر الدم إلا من عصم اللّه منهم بالإسلام. وإنما النافع له فى مقام الاستدلال ذكر من طرأ عليه من المسلمين وصمة الارتداد بالسب على القول بكونه ردة، فرجع إلى الإسلام وتاب. هذا هو محل النزاع وموضع الاستدلال لكل من المتنازعين.

وأما ذكر كافر أصلى بلغته دعوة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وامتنع من إجابته وحاربه بيده ولسانه فلا نزاع فى إهدار دمه قطعا، لا سيما وقد نقل عن هذه المرأة الكافرة أنها كانت تعيب الإسلام، وتؤذى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وتحرض عليه، فاجتمع فيها موجبات القتل إجماعا.

فقد تبين مما ساقه القاضى عياض أن أمره- صلى اللّه عليه وسلم- بقتل سابه إنما نقل عن الكفرة، ولم ينقل أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قتل مسلما بسببه، وإنما كان ذلك فى أهل الكفر والعناد، فلو نقل فلا يتعين كونه حدّا، لاحتمال أن يكون قتله كفرا، وقد

قال اللّه تعالى: إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (٢) فأعلمنا أن ما وراء الشرك فى حيز إمكان المغفرة،

وقال تعالى:

إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً (٣) (٤) .

فإن قلت: هذا بالنظر إلى ظلم النفس وحقوق اللّه تعالى لا بالنظر إلى حقوق العباد، لأن حقوق اللّه تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة. وهذا فى حق النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وليس لنا أن نسقطه لأنه لم يرد إذنه فى ذلك بخلافه هو- صلى اللّه عليه وسلم- فإن له ذلك.

__________

(١) ذكره التقى الهندى فى (كنز العمال) (٣٥٤٩١) ، وعزاه لابن عساكر.

(٢) سورة النساء: ٤٨.

(٣) سورة الزمر: ٥٣.

(٤) قلت: قد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية كتاب مستقلا فى هذا ال....... سماه (الصارم المسلول على شاتم الرسول- صلى اللّه عليه وسلم-) أحاط فيه فى هذه المسألة من كل جوانبها، فمن أراد المزيد فعليه به.

فالجواب: لابد لنا من نص على ذلك منه- صلى اللّه عليه وسلم-، كأن يقول مثلا:

من سبنى فاقتلوه، ولا تقبلوا له توبة ولا رجوعا عن سبه، فإن نقل اتبعناه، ثم إنه من جهة النظر ينبغى إلحاق حقوق رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بحقوق اللّه، فكما أن حقوقه تعالى مبناها على المسامحة، كذلك حقوقه- صلى اللّه عليه وسلم-، فإنه متخلق بأخلاق اللّه تعالى.

ومما عد من خصائصه أنه إذا قصده ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه حكاه النووى فى زيادة الروضة عن جماعة من الأصحاب.