Geri

   

 

 

İleri

 

 ٤-١٠ [خصائص أمة النبي ص]

وأما خصائص أمته- صلى اللّه عليه وسلم- وزادها شرفا،

فاعلم أنه لما أنشأ اللّه سبحانه وتعالى العالم على غاية من الإتقان، وأبرز جسد نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- للعيان، وظهرت عنايته بأمته الإنسانية، بحضوره وظهوره فيها، وإن كان العالم الإنسانى والنارى كله أمته، ولكن لهؤلاء خصوص وصف، فجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وجعلهم ورثة الأنبياء، وأعطاهم الاجتهاد فى نصب الأحكام، فيحكمون بما أدى إليه اجتهادهم.

وكل من دخل فى زمان هذه الأمة من الأنبياء بعد نبيها، كعيسى- عليه السّلام أو قدر دخوله كالخضر، فإنه لا يحكم فى العالم إلا بما شرعه محمد- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذه الأمة، فإذا نزل سيدنا عيسى- عليه الصلاة والسلام- فإنما يحكم بشريعة نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- بإلهام أو اطلاع على الروح المحمدى أو بما شاء اللّه تعالى، فيأخذ عنه ما شرع اللّه له أن يحكم به فى أمته، فلا يحكم

__________

(١) أخرجه الترمذى (٣٦١٦) فى المناقب، باب: رقم (٢٢) ، من حديث أنس.

(٢) قلت: وقد ثبت ذلك فى القرآن، فى قول اللّه عز وجل إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [سورة الكوثر: ١] .

فى شىء من تحريم وتحليل إلا بما كان يحكم به نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-، ولا يحكم بشريعته التى أنزلت عليه فى أوان رسالته ودولته، فهو- عليه السّلام- تابع لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم-. وقد نبه على ذلك الترمذى الحكيم فى كتاب ختم الأولياء، وأعرب عنه صاحب (عنقاء مغرب) (١) ، وكذا الشيخ سعد الدين التفتازانى فى شرح عقائد النسفى وصحح أنه يصلى بالناس ويؤمهم ويقتدى به المهدى لأنه أفضل منه، فإمامته أولى. انتهى.

فهو- عليه الصلاة والسلام- وإن كان خليفة فى الأمة المحمدية، فهو رسول ونبى كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتى واحدا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما ذكر من وجوب اتباعه لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- والحكم بشريعته.

فإن قلت: قد ورد فى صحيح مسلم قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية) (٢) وأن الصواب فى معناه: أنه لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو القتل، وهذا خلاف ما هو حكم الشرع اليوم، فإن الكتابى إذا بذل الجزية وجب قبولها ولم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام، وإذا كان كذلك، فكيف يكون عيسى- عليه السّلام- حاكما بشريعة نبينا- صلى اللّه عليه وسلم

فالجواب: أنه لا خلاف أن عيسى- عليه السّلام- إنما ينزل حاكما بهذه الشريعة المحمدية ولا ينزل نبيّا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة.

وأما حكم الجزية وما يتعلق بها فليس حكما مستمرّا إلى يوم القيامة،

__________

(١) هو كتاب (عنقاء مغرب فى معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب) للشيخ محيى الدين محمد بن على، المعروف بابن عربى، الضال المعروف.

(٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٢٢٢٢) فى البيوع، باب: قتل الخنزير، ومسلم (١٥٥) فى الإيمان، باب: نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى، وقد أخبر نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- بنسخه، وليس عيسى- عليه السّلام- هو الناسخ، بل نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- هو المبين للنسخ، فدل على أن الامتناع فى ذلك الوقت من قبول الجزية هو شرح نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-. أشار إليه النووى فى شرح مسلم.

فإن قلت: ما المعنى فى تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى- عليه السّلام- فى عدم قبول الجزية؟

فأجاب ابن بطال: بأنا إنما قبلناها نحن لاحتياجنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى- عليه السّلام- عند خروجه إلى مال، لأنه يفيض فى أيامه المال حتى لا يقبله أحد، فلا يقبل إلا القتل أو الإيمان باللّه وحده. انتهى.

وأجاب الشيخ ولى الدين ابن العراقى: بأن قبول الجزية من اليهود والنصارى لشبهة ما بأيديهم من التوراة والإنجيل. وتعلقهم بزعمهم بشرع قديم، فإذا نزل عيسى- عليه السّلام- زالت تلك الشبهة بحصول معاينته، فصاروا كعبدة الأوثان فى انقطاع شبهتهم وانكشاف أمرهم، فعوملوا معاملتهم فى أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، والحكم يزول بزوال علته.

قال: وهذا معنى حسن مناسب لم أر من تعرض له. قال وهذا أولى مما ذكره ابن بطال. انتهى.

وكذلك من يقول من العلماء بنبوة الخضر، وأنه باق إلى اليوم، فإنه تابع لأحكام هذه الملة. وكذلك إلياس على ما صححه أبو عبد اللّه القرطبى أنه حى أيضا. وليس فى الرسل من يتبعه رسول له كتاب إلا نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-، وكفى بهذا شرفا لهذه الأمة المحمدية زادها اللّه شرفا.

فالحمد للّه الذى خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ علينا هذه النعمة، ومنّ علينا بما عمنا به من الفضائل الجمة، ونوّه بنا فى كتابه العزيز بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ (١) ، فتأمل قوله كُنْتُمْ أى فى اللوح المحفوظ،

وقيل: كنتم فى علم اللّه. فينبغى لمن هو من هذه الأمة المحمدية أن يتخلق بالأخلاق الزكية، ليثبت له ما لهذه الأمة الشريفة من الأوصاف المرضية، ويتأهل لما لها من الخيرية.

__________

(١) سورة آل عمران: ١١٠.

قال مجاهد: كنتم خير أمة أخرجت للناس إذا كنتم على الشرائط المذكورة، أى: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.

وقيل: إنما صارت أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيهم أفشى.

وقيل: هذا لأصحاب محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-:

(خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (١) وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدها. وإلى هذا ذهب معظم العلماء.

وأن من صحبه- صلى اللّه عليه وسلم- ورآه ولو مرة من عمره أفضل من كل من يأتى بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، هذا مذهب الجمهور.

وذهب أبو عمر بن عبد البر: إلى أنه قد يكون فيمن يأتى بعد الصحابة أفضل ممن كان فى جملة الصحابة، وأن قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (خير الناس قرنى) ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه- صلى اللّه عليه وسلم- جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم وعلى بعضهم الحدود، وقد روى أبو أمامة أنه- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (طوبى لمن رآنى وآمن بى، وطوبى سبع مرات لمن لم يرنى وآمن بى) (٢) .

وفى مسند أبى داود الطيالسى عن محمد بن أبى حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر

قال: كنت جالسا عند النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

فقال: (أتدرون أى الخلق أفضل إيمانا؟) قلنا: الملائكة،

قال: (وحق لهم، بل غيرهم) . قلنا: الأنبياء،

قال: (وحق لهم، بل غيرهم) ، قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أفضل الخلق إيمانا قوم فى أصلاب الرجال يؤمنون بى ولم يرونى فهم أفضل الخلق إيمانا) (٣) .

وروى أن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة كتب إلى سالم بن عبد اللّه أن اكتب إلى بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت

__________

(١) صحيح: وقد تقدم قريبا.

(٢) صحيح: أخرجه أحمد فى (المسند) (٥/ ٢٤٨ و ٢٥٧ و ٢٦٤) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٧٢٣٣).

(٣) لم أجده فيه، ولا فى غيره.

بسيرة عمر فأنت أفضل من عمر، لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر،

قال: وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب بمثل قول سالم. قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضى مع تواتر طرقها وحسنها، التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها فى فضل العمل، إلا أهل بدر والحديبية. ومن تدبر هذا الباب بان له الصواب، واللّه يؤتى فضله من يشاء. انتهى.

وإسناد حديث أبى داود الطيالسى عن عمر ..... فلا يحتج به، لكن روى أحمد والدارمى والطبرانى عن أبى عبيدة- أى ابن الجراح-: يا رسول اللّه، أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك؟

قال: (قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بى ولم يرونى) (١) وإسناده حسن وصححه الحاكم.

والحق ما عليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، والدلائل على أفضلية الصحابة على غيرهم كثيرة متظاهرة لا نطيل بذكرها وسيأتى بقية مباحث ذلك فى فضل الصحابة من المقصد السابع- إن شاء اللّه تعالى-.

وقد خص اللّه تعالى هذه الأمة الشريفة بخصائص لم يؤتها أمة قبلهم، أبان بها فضلهم، والأخبار والآثار ناطقة بذلك.

فخرج أبو نعيم عن أبى هريرة

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن موسى- عليه السّلام- لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة،

قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة هم الآخرون السابقون، فاجعلها أمتى،

قال: تلك أمة أحمد،

قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة أناجيلهم فى صدورهم يقرؤنها ظاهرا فاجعلها أمتى،

قال: تلك أمة أحمد،

قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة يأكلون الفىء فاجعلها أمّتى،

قال: تلك أمة أحمد،

قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة يجعلون الصدقة فى بطونهم يؤجرون عليها فاجعلها أمتى،

قال: تلك أمة أحمد،

قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة إذا همّ

__________

(١) أخرجه الدارمى فى (سننه) (٢٧٤٤) ، وأحمد فى (المسند) (٤/ ١٠٦) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ٩٥) ، والطبرانى فى (الكبير) (٤/ ٢٢ و ٢٣) .

أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر حسنات فاجعلها أمتى،

قال: تلك أمة أحمد،

قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة إذا همّ أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة فاجعلها أمتى،

قال: تلك أمة أحمد،

قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر، فيقتلون المسيح الدجال، فاجعلها أمتى،

قال: تلك أمة أحمد،

قال: يا رب فاجعلنى من أمة أحمد، فأعطى عند ذلك خصلتين، ف

قال: يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى، فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين،

قال: قد رضيت يا رب) (١) .

وروى ابن طغر بك فى (النطق المفهوم) (٢) عن ابن عباس رفعه: قال موسى: يا رب، فهل فى الأمم أكرم عليك من أمتى، ظللت عليهم الغمام، وأنزلت عليهم المنّ والسلوى، ف

قال: سبحانه وتعالى: يا موسى، أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر الأمم كفضلى على جميع خلقى؟

قال: يا رب فأرينهم،

قال: لن تراهم، ولكن أسمعك كلامهم، فناداهم اللّه تعالى، فأجابوا كلهم بصوت واحد: لبيك

اللّهم لبيك، وهم فى أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم فقال سبحانه وتعالى: صلاتى عليكم، ورحمتى سبقت غضبى، وعفوى سبق عذابى، أستجيب لكم قبل أن تسألونى، فمن لقينى منكم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه غفرت له ذنوبه. قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (فأراد اللّه أن يمن على بذلك) ف

قال: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا (٣) . أى أمتك حتى أسمعنا موسى كلامهم.

ورواه قتادة، وزاد: فقال موسى: يا رب، ما أحسن أصوات أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- أسمعنى مرة أخرى.

وفى الحلية لأبى نعيم، عن أنس

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

__________

(١) أخرجه أبو نعيم فى (دلائل النبوة) (١/ ١٤) .

(٢) عزاه صاحب (كشف الظنون) (٢/ ١٩٥٩) لأبى الفرج بن الجوزى.

(٣) سورة القصص: ٤٦.

(أوحى اللّه إلى موسى، نبئ بنى إسرائيل أنه من لقينى وهو جاحد بأحمد أدخلته النار.

قال: يا رب، ومن أحمد؟

قال: ما خلقت خلقا أكرم على منه، كتبت اسمه مع اسمى فى العرش قبل أن أخلق السماوات والأرض، إن الجنة محرمة على جميع خلقى حتى يدخلها هو وأمته،

قال: ومن أمته؟

قال: الحمادون، يحمدون صعودا وهبوطا وعلى كل حال. يشدون أوساطهم ويطهرون أطرافهم، صائمون بالنهار، رهبان بالليل، أقبل منهم اليسير، وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا اللّه،

قال: اجعلنى نبى تلك الأمة،

قال: نبيها منها،

قال: اجعلنى من أمة ذلك النبى،

قال: استقدمت واستأخر، ولكن سأجمع بينك وبينه فى دار الجلال) (١) .

وعن وهب بن منبه

قال: أوحى اللّه إلى شعيا: إنى باعث نبيّا أميّا، أفتح به آذانا صما، وقلوبا غلقا، وأعينا عميا، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وملكه بالشام، عبدى المتوكل المصطفى المرفوع الحبيب المنتخب المختار، لا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، رحيما بالمؤمنين، يبكى للبهيمة المثقلة، ولليتيم فى حجر الأرملة، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، ولا متزين بالفحش ولا قوال للخنا، لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشى على القصب الرعراع لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرا ونذيرا.. إلى أن

قال: وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وتوحيدا لى، وإيمانا بى، وإخلاصا لى، وتصديقا لما جاءت به رسلى، وهم رعاة الشمس والقمر، طوبى لتلك القلوب والوجوه والأرواح التى أخلصت لى، ألهمهم التسبيح والتكبير والتحميد والتوحيد، فى مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، ويصفون فى مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشى، هم أوليائى وأنصارى، أنتقم بهم من أعدائى عبدة الأوثان، يصلون لى قياما وقعودا وركعا وسجودا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتى

__________

(١) انظر (الحلية) لأبى نعيم (٦/ ٣٣) .

ألوفا، ويقاتلون فى سبيلى صفوفا، أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان، فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم، ويدخل فى دينهم وشريعتهم فليس منى، وهو منى برىء، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطا شهداء على الناس، إذا غضبوا هللونى، وإذا تنازعوا سبحونى، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب إلى الأنصاف، ويهللون على التلال والأشراف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم فى صدورهم، رهبانا بالليل ليوثا بالنهار، طوبى لمن كان معهم، وعلى دينهم ومنهاجهم وشريعتهم، وذلك فضلى أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. رواه أبو نعيم.

وقد ذكر الإمام فخر الدين: أن من كانت معجزاته أظهر يكون ثواب أمته أقل، قال السبكى: إلا هذه الأمة، فإن معجزات نبيها أظهر وثوابها أكثر من سائر الأمم. ومن خصائص هذه الأمة إحلال الغنائم، ولم تحل لأمة قبلها، وجعلت لهم الأرض مسجدا ولم تكن الأمم تصلى إلا فى البيع والكنائس، وجعل لهم ترابها طهورا وهو التيمم. وفى رواية أبى أمامة عند البخارى: (وجعلت الأرض كلها لى ولأمتى مسجدا وطهورا) (١) وفى رواية مسلم من حديث حذيفة: (وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها طهورا إذا لم نجد الماء) (٢) .

* ومن خصائص هذه الأمة الوضوء،

فإنه لم يكن إلا للأنبياء دون أممهم، ذكره الحليمى، واستدل بحديث البخارى (إن أمتى يدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء) (٣) لكن قال فى فتح البارى: فيه نظر: لأنه ثبت فىالبخارى قصة سارة- عليها السلام- مع الملك الذى أعطاها هاجر:

أن سارة لما همّ الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلى، وفى قصة جريج

__________

(١) صحيح: وقد تقدم.

(٢) صحيح: وقد تقدم.

(٣) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (١٣٦) فى الوضوء، باب: فضل الوضوء، ومسلم (٢٤٦) فى الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

الراهب أيضا: أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام. فالظاهر أن الذى اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء.

وقد صرح بذلك فى رواية لمسلم عن أبى هريرة مرفوعا،

قال: (لكم سيما ليست لأحد غيركم) (١) أى علامة. وغاية التحجيل: استيعاب العضدين والساقين والغرة: غسل مقدمات الرأس وصفحة العنق مع الوجه.

* ومنها مجموع الصلوات الخمس،

ولم تجمع لأحد غيرهم، أخرج الطحاوى عن عبيد اللّه بن محمد بن عائشة

قال: إن آدم لما تيب عليه عند الفجر صلى ركعتين فصارت الصبح، وفدى إسحاق عند الظهر، فصلى أربع ركعات فصارت الظهر، وبعث عزيرا عند العصر، فقيل له: كم لبثت

قال: يوما، فرأى الشمس

فقال: أو بعض يوم فصلى أربع ركعات فصارت العصر، وغفر لداود عند المغرب، فقام يصلى أربع ركعات فجهد فجلس فى الثالثة فصارت المغرب ثلاثا. وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا-صلى اللّه عليه وسلم-.

وأخرج أبو داود فى سننه، وابن أبى شيبة فى مصنفه والبيهقى فى سننه عن معاذ بن جبل

قال: أخر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- صلاة العتمة ليلة حتى ظن الظان أنه قد صلى ثم خرج ف

قال: (أعتموا بهذه الصلاة فإنكم فضلتم بها على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم) (٢) .

* ومنها الأذان والإقامة.
* ومنها البسملة،

قاله بعضهم فيما نقله الشيخ شهاب الدين الحلبى النحوى فى تفسيره،

قال: ولم ينزلها اللّه على أحد من الأمم قبلنا إلا على سليمان بن داود، فهى مما اختصت به هذه الأمة. انتهى.

* ومنها التأمين،

روى الإمام أحمد من حديث عائشة

قالت: بينا أنا

__________

(١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٤٧) فيما تقدم.

(٢) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (٤٢١) فى الصلاة، باب: وقت العشاء الآخرى، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٢٣٧).

عند النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إذ استأذن رجل من اليهود، فذكر الحديث وفيه: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (إنهم لم يحسدونا على شىء كما حسدونا على الجمعة التى هدانا اللّه لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين) (١) .

قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث غريب لا أعرفه بهذه الألفاظ إلا من هذا الوجه، لكن لبعضه متابع حسن فى التأمين، أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة كلاهما من رواية سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن عائشة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-

قال: (ما حسدتنا اليهود على شىء ما حسدتنا على السلام والتأمين) (٢) .

* ومنها الاختصاص بالركوع،

عن على- رضى اللّه عنه-

قال: أول صلاة ركعنا فيها العصر، فقلت: يا رسول اللّه، ما هذا؟

قال: (بهذا أمرت) رواه البزار والطبرانى فى الأوسط.

ووجه الاستدلال منه: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى قبل ذلك الظهر، وصلى قبل فرض الصلوات الخمس قيام الليل، فكون الصلاة السابقة بلا ركوع قرينة لخلو صلاة الأمم السابقة منه. قاله بعض العلماء.

قال: وذكر جماعة من المفسرين فى

قوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٣) . أن مشروعية الركوع فى الصلاة خاص بهذه الأمة، وأنه لا ركوع فى صلاة بنى إسرائيل، ولذا أمرهم بالركوع مع أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم-.

وهذا يعارضه

قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤) . المفسر بأنها أمرت بالصلاة فى الجماعة بذكر أركانها مبالغة

__________

(١) أخرجه أحمد فى (المسند) (٦/ ١٣٤) .

(٢) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٨٥٦) فى إقامة الصلاة، باب: الجهر بامين، والبخارى فى (الأدب المفرد) (٩٨٨).

(٣) سورة البقرة: ٤٣.

(٤) سورة آل عمران: ٤٣.

فى المحافظة عليها. قالوا: وقدم السجود قبل الركوع إما لكونه كذلك فى شريعتهم، أو للتنبيه على أن (الواو) لا توجب الترتيب.

وقيل: المراد بالقنوت إدامة الطاعة، كقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً (١) .

وبالسجود: الصلاة، لقوله: وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٢) ، وبالركوع: الخضوع والإخبات.

* ومنها الصفوف فى الصلاة،

كصفوف الملائكة (٣) ، رواه مسلم من حديث حذيفة.

* ومنها تحية الإسلام

لحديث عائشة السابق.

* ومنها الجمعة،

قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذى فرض اللّه عليهم فاختلفوا فيه فهدانا اللّه له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد) (٤) رواه البخارى.

* ومنها ساعة الإجابة التى فى الجمعة،

واختلف فى تعيينها على أقوال تزيد على الثلاثين ذكرتها فى (لوامع الأنوار فى الأدعية والأذكار) (٥) .

ومنها: أنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر اللّه إليهم،

ومن نظر اللّه إليه لم يعذبه أبدا، وتزيين الجنة فيه، وخلوف أفواه الصائمين أطيب عند اللّه من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة فى كل يوم وليلة حتى يفطروا، وإذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعا. رواه البيهقى بإسناد لا بأس به بلفظ: أعطيت أمتى فى شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبى قبلى..

__________

(١) سورة الزمر: ٩.

(٢) سورة ق: ٤٠.

(٣) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (٥٢٢) فى المساجد، باب: رقم (١) .

(٤) صحيح: أخرجه البخارى (٨٧٦) فى الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (٨٥٥) فى الجمعة، باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٥) وسيأتى فى المجلد الثالث.

الحديث (١) ، و (تستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا) (٢) . رواه البزار. و (تصفد فيه مردة الشياطين) (٣) رواه أحمد والبزار.

* ومنها السحور (٤) ،

وتعجيل الفطر (٥) ، رواه الشيخان. وإباحة الأكل والشرب والجماع ليلا إلى الفجر، وكان محرما على من قبلنا بعد النوم، وكذا كان فى صدر الإسلام ثم نسخ.

ومنها: ليلة القدر،

كما قاله النووى فى شرح المهذب.

وهل صيام رمضان من خصائص هذه الأمة أم لا؟ إن قلنا إن التشبيه الذى دلت عليه كاف (كما) فى

قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (٦) على حقيقته فيكون رمضان كتب على من قبلنا.

وذكر ابن أبى حاتم عن ابن عمر رفعه: (صيام رمضان كتبه اللّه على الأمم قبلكم) وفى إسناده مجهول. وإن قلنا المراد مطلق الصيام دون قدره ووقته فيكون التشبيه واقعا على مطلق الصوم، وهو قول الجمهور.

* ومنها أن لهم الاسترجاع عند المصيبة،

قال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم تعط الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-

__________

(١) ذكره المنذرى فى (الترغيب والترهيب) (٢/ ٩٢) وعزاه للبيهقى.

(٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ١٤٠) عن أبى هريرة، و

قال: رواه أحمد والبزار وفيه هشام بن زياد أبو المقدام، وهو ......

(٣) صحيح: أخرجه النسائى (٤/ ١٢٩) فى الصيام، باب: ذكر الاختلاف على معمر فيه، وأحمد فى (المسند) (٢/ ٢٩٢) ، من حديث أبى هريرة، .

(٤) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (١٩٢٣) فى الصوم، باب: بركة السحور من غير إيجاب، ومسلم (١٠٩٥) فى الصيام، باب: فى فضل السحور، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٥) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (١٩٥٧) فى الصوم، باب: ما جاء فى تعجيل الإفطار، ومسلم (١٠٩٨) فى الصوم، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه، من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-.

(٦) سورة البقرة: ١٨٣.

مثله: إنا للّه وإنا إليه راجعون. ولو أعطيت الأنبياء لأعطيه يعقوب- عليه الصلاة والسلام- إذ قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ (١) .

ومنها: أن اللّه تعالى رفع عنهم الأصرار

الذى كان على الأمم قبلهم،

قال اللّه تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ (٢) . أى: ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة، كتعيين القصاص فى العمد والخطأ وقطع الأعضاء الخاطئة، وقطع موضع النجاسة، وقتل النفس فى التوبة. وقد كان الرجل من بنى إسرائيل يذنب الذنب فيصبح قد كتب على باب بيته: إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما. وأصل الإصر الثقل: الذى بأصر صاحبه، أىيحبسه من الحراك لثقله.

* ومنها أن اللّه تعالى أحل لهم كثيرا مما شدد على من قبلهم

، ولم يجعل عليهم فى الدين من حرج، كما

قال تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (٣) . أى ضيق بتكليف ما اشتد القيام به عليهم، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم فى تركه، يعنى من لم يستطع أن يصلى قائما فليصل قاعدا، وأباح للصائم الفطر فى السفر، والقصر فيه.

وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا، وفتح لهم باب التوبة، وشرع لهم الكفارات فى حقوقه تعالى، والأروش (٤) والديات فى حقوق العباد، قاله البيضاوى.

وروى عن ابن عباس أنه

قال: الحرج ما كان على بنى إسرائيل من الإصر والشدائد، وضعه اللّه عن هذه الأمة. وعن كعب، أعطى اللّه هذه الأمة ثلاثا لم يعطهن إلا الأنبياء: جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم فى الدين من حرج، و

قال: ادعونى أستجب لكم.

__________

(١) سورة يوسف: ٨٤.

(٢) سورة الأعراف: ١٥٧.

(٣) سورة الحج: ٧٨.

(٤) الأروش: جمع أرش، وهو دية الجراحات، ما ليس لها قدر معلوم، وسمى أرشا: لأنه من أسباب النزاع، والتأريش: التحريش، وهو حمل بعضهم على بعض.

ومنها: أن اللّه رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان،

وما استكرهوا عليه، وحديث النفس (١) ، وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطئوا عجلت لهم العقوبة، فحرّم عليهم شىء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب.

وقد قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن اللّه وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (٢) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وابن ماجه.

* ومنها أن الإسلام وصف خاص بهم،

لا يشركهم فيه غيرهم إلا الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-، لقوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا (٣) . وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (٤) . إذ لو لم يكن خاصا بهم لم يكن فى الامتنان عليهم بذلك فائدة.

وقد يجاب: بأن رضى الإسلام دينا لهم، وتسمية إبراهيم أباهم بذلك، لا ينفى اتصاف غيرهم به. وفائدة ذلك: الإعلام بالإنعام عليهم بما أنعم به على غيرهم من الفضائل.

وقيل: لا يختص بهم، بل يطلق على غيرهم أيضا، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعا. كما أجاب به ابن الصلاح لقوله تعالى- حكاية عن وصية يعقوب- فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٥) . فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ

__________

(١) حديث رفع المؤاخذة عن الخطأ والنسيان سيأتى بعد قليل، أما رفع المؤاخذة عن حديث النفس، فصحيح: أخرجه البخارى (٦٦٦٤) فى الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيا فى الأيمان، ومسلم (١٢٧) فى الإيمان، باب: تجاوز اللّه من حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: أخرجه ابن ماجه (٢٠٤٥) فى الطلاق، باب: طلاق المكره والناسى، وابن حبان فى (صحيحه) (٧٢١٩) ، والحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٢١٦) ، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٣) سورة الحج: ٧٨.

(٤) سورة المائدة: ٣.

(٥) سورة البقرة: ١٣٢.

مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١) إلى غير ذلك. ولأن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب كثير من العلماء، وليس خاصا بهذه الأمة، بل يوصف به كل من دخل فى شريعة مقرّا باللّه وبأنبيائه، كما قال الراغب.

ومنها: أن شريعتهم أكمل من جميع شرائع الأمم المتقدمة،

وهذا لا يحتاج إلى بيانه لوضوحه. وانظر إلى شريعة موسى- عليه السّلام-، فقد كانت شريعة جلال وقهر، أمروا بقتل نفوسهم، وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وحرمت عليهم الغنائم، وعجلت لهم من العقوبات ما عجل، وحملوا من الآصار والأغلال ما لم يحمله غيرهم.

وكان موسى- عليه السّلام- من أعظم خلق اللّه هيبة ووقارا وأشدهم بأسا وغضبا للّه، وبطشا بأعداء اللّه، فكان لا يستطاع النظر إليه.

وعيسى- عليه السّلام- كان فى مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، وكان لا يقاتل ولا يحارب، وليس فى شريعته قتال ألبتة، والنصارى يحرم عليهم فى دينهم القتال، وهم به عصاة، فإن الإنجيل يأمر فيه: أن من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك، ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ونحو هذا، وليس فى شريعتهم مشقة ولا إصر ولا أغلال. وأما النصارى فابتدعوا تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ولم تكتب عليهم.

وأما نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فكان مظهر الكمال، الجامع لتلك القوة والعدل والشدة فى اللّه، واللين والرأفة والرحمة فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك تأتى شريعته- صلى اللّه عليه وسلم- بالعدل إيجابا له وفرضا، وبالفضل ندبا إليه واستحبابا، وبالشدة فى موضع الشدة، وباللين فى موضع اللين، ووضع السيف موضعه، ووضع الندى موضعه، فيذكر الظلم ويحرمه، والعدل ويأمره به، والفضل ويندب

__________

(١) سورة الذاريات: ٣٦.

إليه فى بعض آية، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (١) . فهذا عدل فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّه (٢) . فهذا فضل إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٣) . فهذا تحريم للظلم.

وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ (٤) . فهذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (٥) ندب إلى الفضل.

* وكذلك تحريم ما حرم على هذه الأمة صيانة وحمية،

حرم عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، فتحريمه عليهم رحمة، وعلى من كان قبلهم لم يخل من عقوبة، كما أشرت إليه قريبا. وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم كيوم الجمعة، كما سأذكره- إن شاء اللّه تعالى- فى مقصد عباداته- صلى اللّه عليه وسلم-، وتقدم ما يشهد له.

ووهب لهم من علمه وحلمه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه فى الأمم، كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه فى الأنبياء قبله، وكمل فى كتابهم من المحاسن ما فرقه فى الكتب قبله، وكذلك فى شريعته. فهذه الأمة هم المجتبون، كما قال إلههم: هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (٦) . وجعلهم شهداء على الناس، فأقامهم فى ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم، أشار إليه ابن القيم.

ومنها: أنهم لا يجتمعون على ضلالة.

رواه أحمد فى مسنده، والطبرانى فى الكبير، وابن أبى خيثمة فى تاريخه عن أبى بصرة الغفارى مرفوعا فى حديث (سألت ربى أن لا تجتمع أمتى على ضلالة فأعطانيها) (٧)

__________

(١) سورة الشورى: ٤٠.

(٢) سورة الشورى: ٤٠.

(٣) سورة الشورى: ٤٠.

(٤) سورة النحل: ١٢٦.

(٥) سورة النحل: ١٢٦.

(٦) سورة الحج: ٧٨.

(٧) أخرجه أحمد فى (المسند) (٦/ ٣٩٦) من حديث أبى بصرة الغفارى- رضى اللّه عنه-، بسند فيه رجل لم يسم.

ورواه ابن أبى عاصم والطبرانى أيضا من حديث أبى مالك الأشعرى رفعه: (إن اللّه أجاركم من ثلاث) وذكر منها (وأن لا تجتمعوا على ضلالة) (١) .

قال شيخنا: وبالجملة، فهو حديث مشهور [المتن] ، ذو أسانيد كثيرة وله شواهد متعددة فى المرفوع وغيره.

ومنها: أن إجماعهم حجة وأن اختلافهم رحمة،

وكان اختلاف من قبلهم عذابا، روى البيهقى فى المدخل فى حديث من رواية سليمان بن أبى كريمة، عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-:

(واختلاف أصحابى لكم رحمة) (٢) . وجويبر: ..... جدّا، والضحاك عن ابن عباس: منقطع.

وهو كما قال شيخ الإسلام ابن حجر: حديث مشهور على الألسنة، وقد أورده ابن الحاجب فى المختصر فى مباحث القياس بلفظ: اختلاف أمتى رحمة للناس.

قال: وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه .......، لكن ذكره الخطابى فى غريب الحديث مستطردا، و

قال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن والآخر ملحد، وهما: إسحاق الموصلى، وعمرو بن بحر الجاحظ وقالا جميعا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا،

قال: ثم تشاغل الخطابى برد هذا الكلام، ولم يقع فى كلامه نص فى عزو الحديث، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده.

ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد

قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، أشار إليه شيخنا فى المقاصد الحسنة.

__________

(١) أخرجه أبو داود (٤٢٥٣) فى الفتن والملاحم، باب: ذكر الفتن ودلائلها .

(٢) ذكره السيوطى فى (الجامع الصغير) (٢٨٨) وعزاه لنصر المقدس فى الحجة، والبيهقى فى الرسالة الأشعرية بغير سند، وأورده الحليمى والقاضى حسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعله خرج فى بعض كتب لم تصل إلينا. اه.

ومنها أن الطاعون لهم شهادة ورحمة،

وكان على الأمم عذابا. رواه أحمد والطبرانى فى الكبير، عن حديث أبى عسيب مولى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. ورجال أحمد ثقات ولفظه: (الطاعون شهادة لأمتى ورحمة لهم ورجز على الكافرين) (١) .

ومنها: أنهم إذا شهد اثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة

(٢) . وكان الأمم السالفة إذا شهد منهم مائة.

* ومنها أنهم أقل الأمم عملا، وأكثرهم أجرا

وأقصرهم أعمارا، وأوتوا العلم الأول والآخر، وآخر الأمم فافتضحت الأمم عندهم ولم يفتضحوا.

ومنها: أنهم أوتوا الإسناد،

وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة. وقد روينا من طريق أبى العباس الدغولى

قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن اللّه قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هو صحف فى أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التى اتخذوها عن غير الثقات.

وهذه الأمة الشريفة- زادها اللّه شرفا بنبيها- إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف فى زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقصر مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها وأكثر، حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عدّا، فهذا من فضل اللّه على هذه الأمة، فنستودع اللّه تعالى شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه.

__________

(١) أخرجه أحمد فى (المسند) (٥/ ٨١) من حديث عسيب مولى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وطرفه الأول فى الصحيح، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-.

(٢) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (١٣٦٨) فى الجنائز، باب: ثناء الناس على الميت، من حديث عمر- رضى اللّه عنه-.

وقال أبو حاتم الرازى: لم يكن فى أمة من الأمم منذ خلق اللّه تعالى آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا فى هذه الأمة، انتهى.

ومنها: أنهم أوتوا الأنساب والاعراب،

قال أبو بكر محمد بن أحمد: بلغنى أن اللّه خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها:

الإسناد والأنساب والإعراب، انتهى. وهو مروى عن أبى على الجيانى أيضا.

ومنها: أنهم أوتوا تصنيف الكتب،

ذكره بعضهم. ولا تزال طائفة منهم ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر اللّه (١) . رواه الشيخان.

ومنها: أن فيهم أقطابا وأوتادا ونجباء وأبدالا

(٢) . عن أنس مرفوعا:

(الأبدال أربعون رجلا وأربعون امرأة، كلما مات رجل أبدل اللّه رجلا مكانه، وإذا ماتت امرأة أبدل اللّه مكانها امرأة) (٣) رواه الخلال فى (كرامات الأولياء) .

ورواه الطبرانى فى الأوسط بلفظ: (لن تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن- عليه السّلام-، فبهم يسقون وبهم ينصرون، ما مات منهم أحد إلا أبدل اللّه مكانه آخر) (٤) .

ورواه ابن عدى فى كامله بلفظ: (البدلاء أربعون، اثنان وعشرون بالشام وثمانية عشر بالعراق، كلما مات منهم أحد أبدل اللّه مكانه آخر، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة)(٥) .

__________

(١) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (٣٦٤٠) فى المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- آية، فأراهم انشقاق القمر، ومسلم (١٩٢١) فى الإمارة، باب: قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتى) ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى اللّه عنه-.

(٢) قلت: هذا كذب وافتراء، والأحاديث الدالة على ذلك إما .......ة أو .....ة، ولا حجة فيها، وهى من وضع الزنادقة الذين يسيئون إلى الإسلام والمسلمين.

(٣) أخرجه الخلال فى كرامات الأولياء، والديلمى فى مسند الفردوس عن أنس، كما فى (..... الجامع) (٢٦٦٥) .

(٤) أخرجه الطبرانى فى الأوسط عن أنس، كما فى (..... الجامع) (٤٧٧٥) ، وفى (٤٧٧٦) عزاه لابن حبان فى تاريخه من حديث أبى هريرة، وقال: ........

(٥) أخرجه ابن عدى فى (الكامل) (٥/ ٢٢٠) بسند فيه ......

وكذا يروى كما عند أحمد فى المسند، والخلال، من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: (لا يزال فى هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم خليل الرحمن، كلما مات واحد أبدل اللّه تعالى مكانه رجلا)(١) .

وفى لفظ الطبرانى- فى الكبير-: (بهم تقوم الأرض وبهم يمطرون وبهم ينصرون) .

ولأبى نعيم فى الحلية، عن ابن عمر رفعه: (خيار أمتى فى كل قرن خمسمائة، والأبدال أربعون، فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون، كلما مات رجل أبدل اللّه مكانه آخر، وهم فى الأرض كلها)(٢) .

وفى الحلية أيضا عن ابن مسعود رفعه: (لا يزال أربعون رجلا من أمتى، قلوبهم على قلب إبراهيم، يدفع اللّه بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال، إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة) ،

قال: فيم أدركوها يا رسول اللّه؟

قال: (بالسخاء والنصيحة للمسلمين) (٣) .

وعن معروف الكرخى (٤) : من قال

اللّهم ارحم أمة محمد فى كل يوم كتبه اللّه من الأبدال. وهو فى الحلية بلفظ: (من قال فى كل يوم عشر مرات

اللّهم أصلح أمة محمد،

اللّهم فرج عن أمة محمد،

اللّهم ارحم أمة محمد كتب من الأبدال) (٥) .

وعن غيره

قال: من علامة الأبدال أن لا يولد لهم، ويروى فى مرفوع معضل: (علامة أبدال أمتى أنهم لا يلعنون شيئا أبدا) .

وقال يزيد بن هارون: الأبدال هم أهل العلم،

وقال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم؟

__________

(١) لم أقف عليه فى المسند ولا فى غيره بهذا اللفظ.

(٢) أخرجه أبو نعيم فى (الحلية) (١/ ٨) بسند ......

(٣) جدّا: أخرجه أبو نعيم فى (الحلية) (٤/ ١٧٣) بسند ..... جدّا.

(٤) هو أحد أعلام الصوفية المعروفين، توفى ببغداد سنة (٢٠٠ هـ) ، وحديثه مرسل.

(٥) أخرجه أبو نعيم فى (الحلية) (٨/ ٣٦٦) عن معروف الكرخى موقوفا عليه، وهو من طبقة تابعى التابعين.

وفى تاريخ بغداد للخطيب، عن الكتانى

قال: النقباء ثلاثمائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون فى الأرض، والعمد فى زوايا الأرض ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد، فإن أجيبوا وإلّا ابتهل الغوث، فلا يتم مسألته حتى تجاب دعوته، انتهى (١) .

* ومنها أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم، ويخرجون منها بلا ذنوب،

تمحص عنهم باستغفار المؤمنين لهم. رواه الطبرانى- فى الأوسط- من حديث أنس، ولفظه:

قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أمتى أمة مرحومة تدخل قبورها بذنوبها، وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها باستغفار المؤمنين لها) (٢) .

* ومنها أنهم اختصوا فى الآخرة بأنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم.

رواه أبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا بلفظ (وأنا أول من تنشق الأرض عنى وعن أمتى ولا فخر) (٣) .

ومنها: أنهم يدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء

(٤) . رواه البخارى. والغرة: بياض فى وجه الفرس. والتحجيل: بياض فى قوائمه وذلك مما يكسبه حسنا وجمالا.

__________

(١) قلت: هو كلام باطل، يحتوى على شرك والعياذ باللّه، وهذه الألفاظ أصلا (البدلاء والأخيار والعمد والغوث) ليس لها أصل فى كتاب ولا سنة، ولا سلف صالح، بل هى بدع شركية دخلت فى هذه الأمة، كما دخلت فى الأمم من قبلهم، وصدق رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حيث

قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم..) الحديث، وقد فصل شيخ الإسلام فى الرد على هؤلاء الزنادقة، فانظر ذلك فى (مجموع الفتاوى) (١١/ ٤٣٤ و ٤٣٨ و ٤٤٠) ، وغير موضع من مجموع الفتاوى.

(٢) أخرجه الطبرانى فى الأوسط (١٩٠٠) .

(٣) طرفه الأول صحيح: وقد تقدم.

(٤) صحيح: وقد تقدم قريبا.

فشبه- صلى اللّه عليه وسلم- النور الذى يكون يوم القيامة فى أعضاء الوضوء بالغرة والتحجيل، ليفهم أن هذا البياض فى أعضاء الإنسان مما يزينه لا مما يشينه، يعنى أنهم إذا دعوا على رؤوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، أو كانوا على هذه الصفة.

* ومنها أنهم يكونون فى الموقف على مكان عال.

رواه ابن جرير وابن مردويه من حديث جابر مرفوعا بلفظ: (أنا وأمتى على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منا، وما من نبى كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه). وعند ابن مردويه من حديث كعب

قال: (أنا وأمتى على تل) (١) .

ومنها: أن سيماهم فى وجوههم من أثر السجود.

قال تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ (٢) . وهل هذه العلامة فى الدنيا أو فى الآخرة؟ قولان:

أحدهما: أنها فى الدنيا، قال ابن عباس فى رواية ابن أبى طلحة:

السمت الحسن. وفى رواية مجاهد: ليست بالتى ترون، هى سمت الإسلام وسيماه وخشوعه.

وقيل: الصفرة فى الوجه من أثر السهر فتحسبهم مرضى وما هم بمرضى.

والقول الثانى: أنه فى الآخرة يعنى أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشد بياضا يوم القيامة، يعرفون بتلك العلامة أنهم سجدوا فى الدنيا.

رواه العوفى عن ابن عباس. وعن شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر، وقال عطاء الخراسانى: دخل فى هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس.

* ومنها أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم.

رواه أحمد والبزار.

__________

(١) تقدم.

(٢) سورة الفتح: ٢٩.

* ومنها أن نورهم يسعى بين أيديهم (١) .

أخرجه أحمد بإسناد صحيح.

ومنها: أن لهم ما سعوا، وما يسعى لهم

، وليس لمن قبلهم إلا ما سعى، قاله عكرمة. وأما

قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٢) .

ففيها أجوبة:

أحدها: أنها منسوخة، روى ذلك عن ابن عباس، نسخها

قوله تعالى:

وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (٣) . فجعل الولد الطفل فى ميزان أبيه، ويشفع اللّه الآباء فى الأبناء، والأبناء فى الآباء، بدليل

قوله تعالى:

آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً (٤) .

الثانى: أنها مخصوصة بالكافر، وأما المؤمن فله ما سعى غيره. قال القرطبى: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره. وفى الصحيح عن النبى-صلى اللّه عليه وسلم- (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) (٥) وقال- صلى اللّه عليه وسلم- للذى حج عن غيره (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) (٦) ، وعن عائشة أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه.

__________

(١) أخرجه أحمد فى (المسند) (٥/ ١٩٩) ، والحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٥٣٨) ، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

(٢) سورة النجم: ٣٩.

(٣) سورة الطور: ٢١.

(٤) سورة النساء: ١١.

(٥) صحيح: أخرجه البخارى (١٩٥٢) فى الصوم، باب: من مات وعليه صوم، ومسلم (١١٤٧) فى الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-.

(٦) صحيح: أخرجه أبو داود (١٨١١) فى المناسك، باب: الرجل يحج عن غيره، وابن ماجه (٢٩٠٣) فى المناسك، باب: الحج عن الميت، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.

وقال سعد للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-: إن أمى توفيت أفأتصدق عنها؟

قال: (نعم) ،

قال: فأى الصدقة أفضل؟

قال: (سقى الماء) (١) .

وفى الموطأ عن عبد اللّه بن أبى بكر عن عمته أنها حدثته عن جدته:

أنها جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد اللّه بن عباس: أنها تمشى عنها.

ومن المفسرين من

قال: إن (الإنسان) فى الآية، أبو جهل، ومنهم من

قال: عقبة بن أبى معيط، منهم من

قال: الوليد بن المغيرة، ومنهم من

قال: إخبار عن شرع من قبلنا، وقد دل شرعنا أن الإنسان له سعيه، وما سعى له، ومنهم من

قال: الإنسان بسعيه فى الخير وحسن صحبته وعشرته اكتسب الأصحاب، وأسدى لهم الخير وتودد إليهم فصار ثوابهم له بعد موته من سعيه.

ومنهم من قال (الإنسان) فى الآية للحى دون الميت. ومنهم من

قال: لم ينف فى الآية انتفاع الرجل بسعى غيره له، وإنما نفى ملكه لسعى غيره، وبين الأمرين فرق:

فقال الزمخشرى فى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٢) .

فإن قلت: أما صح فى الأخبار الصدقة عن الميت والحج عنه؟ قلت: فيه جوابان.

أحدهما: أن سعى غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعى نفسه، وهو أن يكون مؤمنا مصدقا، كان سعى غيره كأنه سعى نفسه لكونه تبعا له، وقائما مقامه.

والثانى: أن سعى غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه له فهو فى حكم الشرع كالنائب عنه، والوكيل القائم مقامه.

__________

(١) حسن: والحديث أخرجه أبو داود (١٦٧٩) فى الزكاة، باب: فى فضل سقى الماء، والنسائى (٦/ ٢٥٤) فى الخيل، باب: الاختلاف على سفيان، وأحمد فى (المسند) (٥/ ٢٨٤) و (٦/ ٧).

(٢) سورة النجم: ٣٩.

والصحيح من الأجوبة: أن قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (١) .

عام مخصوص بما تقدم من الأجوبة. وقد اختلف العلماء فى ثواب القراءة، وهل يصل للميت؟. فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو المشهور من مذهب الشافعى ومالك، ونقل عن جماعة من الحنفية.

وقال كثير من الشافعية والحنفية: يصل، وبه قال أحمد بن حنبل- رحمه اللّه- بعد أن

قال: القراءة على القبر بدعة، بل نقل عن الإمام أحمد:

يصل إلى الميت كل شىء من صدقة وصلاة وحج واعتكاف وقراءة وذكر غير ذلك.

وذكر الشيخ شمس الدين القطان العسقلانى: أن وصول ثواب القراءة إلى الميت من قريب أو أجنبى هو الصحيح، كما تنفعه الصدقة والدعاء والاستغفار بالإجماع.

وقد أفتى القاضى حسين: بأن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر جائز، كالاستئجار للأذان وتعليما لقرآن.

لكن قال الرافعى وتبعه النووى: عود المنفعة إلى المستأجر شرط فى الإجارة، فيجب عود المنفعة فى هذه الإجارة إلى المستأجر أو لميته، لكن المستأجر لا ينتفع بأن يقرأ الغير له، ومشهور أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة، فالوجه تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة. وذكروا له طريقين:

أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت، فإن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إلى الإجابة وأكثر بركة.

والثانى: ذكر الشيخ عبد الكريم الشالوسى: أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، لكن لو قرأ ثم جعل ما حصل من الأجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت فينتفع الميت.

قال النووى فى زيادات الروضة: ظاهر كلام القاضى حسين صحة

__________

(١) سورة النجم: ٣٩.

الإجارة مطلقا وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزل الرحمة.

وهذا مقصود: ينتفع الميت.

وقال الرافعى وتبعه النووى فى الوصية: الذى يعتاد من قراءة القرآن على رأس القبر قد ذكرنا فى باب الإجارة طريقين فى عودة فائدتها إلى الميت. وعن القاضى أبى الطيب طريق ثالث: وهو أن الميت كالحى الحاضر، فترجى له الرحمة ووصول البركة إذ أهدى الثواب له القارئ.

وقال الشالوسى: إذا نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، إذ جعل ذلك قبل حصوله، وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عن الغير، وإن قرأ ثم جعل ما حصل من الثواب للميت ينفعه، إذ قد جعل من الأجر لغيره، والميت يؤجر بدعاء الغير. لكن إطلاق أن الدعاء ينفع الميت، اعترض عليه بعضهم بأنه موقوف على الإجابة. ويمكن أن يقال: الدعاء للميت مستجاب- كما أطلقوا- اعتمادا على سعة فضل اللّه.

وقال الرافعى وتبعه النووى: يستوى فى الصدقة والدعاء، الوارث والأجنبى. قال الشافعى: وفى وسع اللّه أن يثب المتصدق أيضا. وقال الأصحاب: يستحب أن ينوى المتصدق الصدقة عن أبويه، فإن اللّه ينيلهما الثواب ولا ينقص من أجره شيئا.

وذكر صاحب العدة: أنه لو أنبط عينا أو حفر بئرا، أو غرس شجرا، أو وقف مصحفا فى حال حياته، أو فعل غيره بعد موته، يلحق الثواب بالميت.

وقال الرافعى والنووى: إن هذه الأمور إذا صدرت عن الحى فهى صدقات جارية يلحقه ثوابها بعد الموت، كما ورد فى الخبر، ولا يختص الحكم بوقف المصحف، بل يلحق به كل وقف، وهذا القياس يقتضى جواز التضحية عن الميت، فإنها ضرب من الصدقة، لكن فى التهذيب: أنه لا تجوز التضحية عن الغير بغير أمره، وكذا عن الميت إلا أن يكون أوصى به.

وقد روى عن على أو غيره من الصحابة أنه كان يضحى عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد موته، وعن أبى محمد بن إسحاق السراج

قال: ضحيت عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- سبعين أضحية.

وأما إهداء القراءة إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فلا يعرف فيه خبر ولا أثر، وقد أنكره جماعة منهم الشيخ برهان الدين بن الفركاح لأن الصحابة لم يفعله أحد منهم.

وحكى صاحب (الروح) : أن من الفقهاء المتأخرين من استحبه، ومنهم من رآه بدعة، قالوا: والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- غنى عن ذلك، فإن له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شىء.

قال الشافعى: ما من خير يعمله أحد من أمة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلا والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- أصل فيه.

قال فى تحقيق النصرة (١) : فجميع حسنات المسلمين وأعمالهم الصالحة فى صحائف نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- زيادة على ما له من الأجر، مع مضاعفة لا يحصرها إلا اللّه تعالى، لأن كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة، وللرابع ثمانية وهكذا ت..... كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النبى-صلى اللّه عليه وسلم-.

وبهذا يعلم تفضيل السلف على الخلف. فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، كان للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- من الأجر ألف وأربعة وعشرون، فإن اهتدى بالعاشر حادى عشر صار أجر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ألفين وثمانية وأربعون، وهكذا كلما ازداد واحد يضاعف ما كان قبله أبدا، كما قال بعض المحققين، انتهى. وللّه در القائل، وهو سيدى محمد وفا:

فلا حسن إلا من محاسن حسنه ... ولا محسن إلا له حسناته

وبهذا يجاب عن استشكال دعاء القارئ له- صلى اللّه عليه وسلم- بزيادة التشريف مع العلم بكماله- عليه الصلاة والسلام- فى سائر أنواع الشرف. فكأن الداعى

__________

(١) هو كتاب (تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة) لقاضيها زين الدين أبى بكر بن الحسين بن عمر العثمانى المراغى نزيل طيبة المتوفى سنة (٨١٦ هـ) ، قاله صاحب (كشف الظنون) (١/ ٣٧٨) .

لحظ أن قبول قراءته يتضمن لمعلمه نظير أجره، وهكذا حتى يكون للمعلم الأول- وهو الشارع- صلى اللّه عليه وسلم- نظير جميع ذلك.

ومن ذلك ما شرع عند رؤية الكعبة من قولهم:

اللّهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما (١) ، فثمرة الدعاء بذلك عائد إلى الداعى، لاشتماله على طلب قبول القراءة، وهذا كما قالوا فى الصلاة عليه- زاده شرفا لديه- إن ثمرتها عائدة على المصلى- أشار لنحوه الحافظ ابن حجر.

* ومن خصائص هذه الأمة أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم.

رواه الطبرانى- فى الأوسط- من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا: (حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتى) (٢) .