١-٣ غزوة بنى لحيان (٢)ثم غزوة بنى لحيان- بكسر اللام وفتحها، لغتان- فى ربيع الأول سنة ست من الهجرة. وذكرها ابن إسحاق فى جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من قريظة. قال ابن حزم: الصحيح أنها فى الخامسة. قالوا: وجد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على عاصم بن ثابت وأصحابه وجدا شديدا، فأظهر أنه يريد الشام، وعسكر فى مائتى رجل ومعهم عشرون فرسا. واستخلف على المدينة عبد اللّه بن أم مكتوم. ثم أسرع السير حتى انتهى إلى غران- واد بين أمج وعسفان، وبينها وبين عسفان خمسة أميال- حيث كان مصاب أصحابه أهل الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة، فترحم عليهم ودعا لهم. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٧٢) فى المغازى، باب: وفد بنى حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، ومسلم (١٧٦٤) فى الجهاد والسير، باب: ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٢) انظر هذه الغزوة فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٢٨١ و ٢٨٩) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٨٠- ٨٤) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ٢٨٦- ٢٩٦) . فسمعت به بنو لحيان فهربوا فى رؤس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين يبعث السرايا فى كل ناحية. ثم خرج حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر فى عشرة فوارس لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا كراع الغميم، ثم رجعوا ولم يلقوا أحدا. وانصرف- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المدينة ولم يلق كيدا وهو يقول: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون) (١) وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة. غزوة الغابة (٢)وتعرف بذى قرد- بفتح القاف والراء وبالدال المهملة- وهو ماء على بريد من المدينة. فى ربيع الأول سنة ست، قبل الحديبية. وعند البخارى أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفى مسلم نحوه. قال مغلطاى: وفى ذلك نظر لإجماع أهل السير على خلافهما. انتهى. قال القرطبى شارح مسلم: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذى قرد كانت قبل الحديبية. وقال الحافظ ابن حجر: ما فى الصحيح من التاريخ لغزوة ذى قرد أصح مما ذكر أهل السير (٣) . انتهى. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٨٥ و ٣٠٨٦) فى الجهاد والسير، باب: ما يقول إذا رجع من الغزو، ومسلم (١٣٤٥) فى الحج، باب: ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. (٢) موضع قرب المدينة من ناحية الشام، فيه أموال لهم. (٣) قاله الحافظ فى (الفتح) (٧/ ٤٠٦) وتتمة قوله: ويحتمل فى طريق الجمع أن تكون إغارة عينية بن حصن على اللقاح وقعت مرتين الأولى التى ذكرها ابن إسحاق وهى قبل الحديبية، والثانية بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر، وكان رأس الذين أغاروا عبد الرحمن بن عيينة كما فى سياق سلمة عند مسلم ويؤيده أن الحاكم ذكر فى (الإكليل) أن الخروج إلى ذى قرد تكرر، ففى الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفى الثانية خرج إليها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى ربيع الآخر سنة خمس، والثالثة هذه المختلف فيها. انتهى، فإذا ثبت هذا قوى هذا الجمع الذى ذكرته، واللّه أعلم. وسببها: أنه كان لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عشرون لقحة- وهى ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة- ترعى بالغابة، وكان أبو ذر فيها، فأغار عليهم عيينة ابن حصن الفزارى ليلة الأربعاء، فى أربعين فارسا فاستاقوها، وقتلوا ابن أبى ذر. وقال ابن إسحاق: وكان فيها رجل من بنى غفار وامرأة، فقتلوا الرجل وسبوا المرأة، فركبت ناقة للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- ليلا حين غفلتهم ونذرت لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبى-صلى اللّه عليه وسلم- أخبرته بذلك ف قال: (لا نذر فى معصية، ولا لأحد فيما لا يملك) (١) . ونودى: يا خيل اللّه اركبى، وكان أول ما نودى بها. وركب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى خمسمائة وقيل: سبعمائة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلف سعد بن عبادة فى ثلاثمائة يحرسون المدينة. وكان قد عقد للمقداد بن عمرو لواء فى رمحه وقال له امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك. فأدرك أخريات العدو. وقتل أبو قتادة مسعدة فأعطاه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فرسه وسلاحه. وقتل عكاشة بن محصن أبان بن عمرو. وقتل من المسلمين محرز بن نضلة قتله مسعدة. وأدرك سلمة بن الأكوع القوم، وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل ويقول: خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع يعنى هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع، أى راضع اللؤم فى بطن أمه، وقيل معناه: اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها، ويعرف غيره. __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (١٦٤١) فى النذر، باب: لا وفاء لنذر فى معصية اللّه، ولا فيما لا يملك العبد، من حديث عمران بن حصين- رضى اللّه عنه-. ولحق رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الناس والخيول عشاء، قال سلمة: فقلت يا رسول اللّه إن القوم عطاش، فلو بعثتنى فى مائة رجل استنقذت ما فى أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (ملكت فأسجح) - وهى بهمزة قطع ثم سين مهملة ثم جيم مكسورة ثم حاء مهملة- أى فارفق وأحسن، والسجاحة: السهولة، أى لا تأخذ بالشدة بل ارفق. فقد حصلت النكاية فى العدو وللّه الحمد. ثم قال: (إنهم ليقرون فى غطفان) (١) . وذهب الصريخ إلى بنى عمرو بن عوف فجاءت الأمداد فلم تزل الخيل تأتى والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بذى قرد فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقى وهى عشر. وصلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بذى قرد صلاة الخوف، وأقام يوما وليلة ورجع. وقد غاب خمس ليال، وقسم فى كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها. سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى غمر مرزوق- بالغين المعجمة المفتوحة- وهو ماء لبنى أسد على ليلتين من فيد، فى شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، فى أربعين رجلا، فخرج سريعا، فنذر به القوم- بكسر الذال المعجمة كفرح- فهربوا فنزلوا علياء بلادهم. فاستاقوا مائتى بعير وقدموا على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ولم يلقوا كيدا. ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذى القصة (٢) - بالقاف والصاد المهملة المشددة المفتوحتين- موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، فى شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة. ومعه عشرة إلى بنى ثعلبة. فورد عليهم ليلا فأحدق به القوم، وهم مائة رجل فتراموا ساعة من __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٤١) فى الجهاد والسير، باب: من رأى العدو فنادى بأعلى صوته: يا صبحاه، حتى يسمع الناس، ومسلم (١٨٠٦) فى الجهاد والسير، باب: غزوة ذى قرد وغيرها، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى اللّه عنه-. (٢) انظر ابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٨٥- ٨٦) ، و (شرح المواهب) ، للزرقانى (٢/ ١٥٤) . الليل ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم إلا محمد بن مسلمة فوقع جريحا، وجردوهم من ثيابهم. فمر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة فحمله حتى ورد به المدينة. فبعث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أبا عبيدة بن الجراح فى ربيع الآخر فى أربعين رجلا إلى مصارعهم، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربا فى الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم وتركه، وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه، ورثة من متاعهم وقدم به المدينة فخمسه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وقسم ما بقى عليهم. قال فى القاموس: الرث: السقط من متاع البيت، كالرثة بالكسر. ثم سرية زيد بن حارثة (١) إلى بنى سليم بالجموم- وي قال: الجموح- ناحية ببطن نخل من المدينة على أربعة أميال. فى شهر ربيع الآخر سنة ست، فأصابوا امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من محال بنى سليم، فأصابوا نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنية، فلما قفل زيد بما أصاب، وهب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- للمزينة نفسها وزوجها. ثم سرية زيد بن حارثة (٢) أيضا إلى العيص، موضع على أربع ليال من المدينة، فى جمادى الأولى سنة ست، ومعه سبعون راكبا، لما بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام يتعرض لها، فأخذها وما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسر منهم ناسا، منهم أبو العاصى بن الربيع، وقدم بهم إلى المدينة، فأجارته زوجته زينب ابنة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ونادت فى الناس- حين صلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الفجر- إنى قد أجرت أبا العاصى. فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما علمت بشىء من هذا، وقد أجرنا من أجرت) (٣) ورد عليه ما أخذ منه. __________ (١) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٨٦) ، و (شرح المواهب) للزرقانى (٢/ ١٥٥) . (٢) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٨٧) ، و (شرح المواهب) للزرقانى (٢/ ١٥٥- ١٥٨) . (٣) أخرجه ابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٨٧) . وذكر ابن عقبة: أن أسره كان على يد أبى بصير بعد الحديبية. وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بالنكاح الأول، قيل بعد سنتين وقيل بعد ست سنين، وقيل قبل انقضاء العدة. وفى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (ردها له بنكاح جديد سنة سبع) (١) . ثم سرية زيد بن حارثة أيضا إلى الطرف، وهو ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، فى جمادى الآخرة سنة ست. فخرج إلى بنى ثعلبة فى خمسة عشر رجلا، فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبح زيد بالنعم المدينة، وهى عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال. ثم سرية زيد إلى حسمى (٢) - بكسر المهملة- وهى وراء وادى القرى، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ست. وسببها: أنه أقبل دحية بن خليفة الكلبى من عند قيصر، وقد أجازه وكساه، فلقيه الهنيد فى ناس من جذام بحسمى فقطعوا عليه الطريق، فسمع بذلك نفر من بنى الضبيب فنفروا إليهم فاستنقذوا لدحية متاعه. وقدم دحية على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخبره بذلك فبعث زيد بن حارثة وخمسمائة رجل، ورد معه دحية. فكان زيد يسير الليل ويكمن النهار، فأقبل بهم حتى هجموا مع الصبح على القوم فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم. فأخذوا من النعم ألف شاة، ومائة من النساء والصبيان. فرحل زيد بن رفاعة الجذامى فى نفر من قومه، فدفع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- كتابه الذى كان كتب له ولقومه ليالى قدم عليه فأسلم. __________ (١) انظر المصدر السابق (٢/ ٨٧) . (٢) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٨٩، ٩٠) ، و (شرح المواهب) للزرقانى (٢/ ١٦٢، ١٦٣) . وبعث- صلى اللّه عليه وسلم- عليّا إلى زيد بن حارثة يأمره أن يخلى بينهم وبين حرمهم وأموالهم، فرد عليهم. ثم سرية زيد أيضا إلى وادى القرى أيضا، فى رجب سنة ست، فقتل من المسلمين قتلى، وارتث زيد، أى حمل من المعركة رثيثا، أى جريحا وبه رمق- وهو مبنى للمجهول، قاله فى القاموس. ثم سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل (١) ، فى شعبان سنة ست. قالوا: دعا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عبد الرحمن بن عوف، فأقعده بين يديه، وعممه بيده، و قال: (اغز، باسم اللّه، وفى سبيل اللّه، فقاتل من كفر باللّه، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا) ، وبعثه إلى كلب بدومة الجندل، و قال: (إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم) (٢) . فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبى، وكان نصرانيّا، وكان رئيسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية. وتزوج عبد الرحمن تماضر- بضم المثناة الفوقية، وكسر الضاد المعجمة- بنت الأصبغ، وقدم بها المدينة فولدت له أبا سلمة. ثم سرية على بن أبى طالب (٣) فى شعبان سنة ست من الهجرة، ومعه مائة رجل إلى بنى سعد بن بكر، لما بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر. فأغاروا عليهم بالغمج بين فدك وخيبر، فأخذوا خمسمائة بعير وألفى شاة، وهربت بنو سعد، وقدم علىّ ومن معه المدينة ولم يلقوا كيدا. __________ (١) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٨٩) ، و (شرح المواهب) للزرقانى (٢/ ١٦٠ ١٦٢) . (٢) أخرجه ابن سعد فى الموضع السابق. (٣) انظر هذه السرية فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٨٩ و ٩٠) ، و (شرح المواهب) للزرقانى (٢/ ١٦٢ و ١٦٣) . ثم سرية زيد بن حارثة (١) إلى أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر الفزارية، بناحية وادى القرى، على سبع ليال من المدينة فى رمضان سنة ست من الهجرة. وكان سببها: أن زيد بن حارثة خرج فى تجارة إلى الشام. ومعه بضائع لأصحاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فلما كان بوادى القرى لقيه ناس من فزارة من بنى بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم. وقدم على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخبره، فبعثه- عليه السّلام- إليهم، فكمن هو وأصحابه بالنهار وساروا بالليل، ثم صبحهم زيد وأصحابه، فكبروا وأحاطوا بالحاضر، وأخذوا أم قرفة- وكانت ملكة رئيسة- وأخذوا ابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر. وعمد قيس بن المحسر إلى أم قرفة- وهى عجوز كبيرة- فقتلها قتلا عنيفا، وربط بين رجليها حبلا ثم ربطها بين بعيرين ثم زجرهما فذهبا فقطعاها. وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك، فقرع باب النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فقام إليه عريانا يجر ثوبه، حتى اعتنقه وقبله وسأله فأخبره بما أظفره اللّه به. ثم سرية عبد اللّه بن عتيك (٢) لقتل أبى رافع، عبد اللّه- ويقال سلام- ابن أبى الحقيق اليهودى، وهو الذى حزب الأحزاب يوم الخندق. وكانت هذه السرية فى شهر رمضان سنة ست، كذا ذكره ابن سعد هاهنا وذكر فى ترجمة عبد اللّه بن عتيك: أنه بعثه فى ذى الحجة إلى أبى رافع سنة خمس بعد وقعة بنى قريظة. وقيل فى جمادى الآخرة سنة ثلاث. وفى البخارى: قال الزهرى: بعد قتل كعب بن الأشرف. __________ (١) انظر هذه السرية فى (الطبقات الكبرى) (٢/ ٩٠) ، و (شرح المواهب) للزرقانى (٢/ ١٦٣) . (٢) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٩١) ، و (شرح المواهب) للزرقانى (٢/ ١٦٤) . وأرسل معه أربعة: عبد اللّه بن عتيك، وعبد اللّه بن أنيس، وأبا قتادة والأسود بن خزاعى، ومسعود بن سنان، وأمرهم بقتله. فذهبوا إلى خيبر، فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدموا عبد اللّه بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية، فاستفتح و قال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصبح فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه، فعلوه بأسيافهم. وفى البخارى: وكان أبو رافع يؤذى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ويعين عليه، وكان فى حصن له.. فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال عبد اللّه لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإنى منطلق ومتلطف للبواب لعلى أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضى حاجة، وقد دخل الناس، فهتف البواب: يا عبد اللّه إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنى أريد أن أغلق الباب، فدخلت، فكمنت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد، قال: فقمت إلى الأغاليق فأخذتها ففتحت الباب. وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان فى علالى له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت على من داخل، فانتهيت إليه فإذا هو فى بيت مظلم وسط عياله، لا أدرى أين هو من البيت، فقلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغنيت شيئا، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ ف قال: لأمك الويل، إن رجلا فى البيت ضربنى قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف فى بطنه، حتى أخذ فى ظهره، فعرفت أنى قتلته. وفى رواية له: ثم جئت كأنى أغيثه فقلت: مالك يا أبا رافع؟ - وغيرت الصوت- فقال: لأمك الويل، دخل على رجل فضربنى، قال: فعمدت له أيضا فأضربه أخرى، فلم تغن شيئا، فصاح وقام أهله، قال: ثم جئت وغيرت صوتى، كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف فى بطنه، ثم أنكفىء عليه، فسمعت صوت العظم. فجعلت أفتح الأبواب حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلى وأنا أرى أنى قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت فى ليلة مقمرة فانكسرت ساقى، فعصبتها بعمامة، فلما صاح الديك قام الناعى على السور، فانطلقت إلى أصحابى فقلت: النجاء، فقد قتل اللّه أبا رافع. فانتهيت إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فحدثته ف قال: (ابسط رجلك) ، فمسحها النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فكأنما لم أشتكها قط (١) . هذا لفظ رواية البخارى. وفى رواية محمد بن سعد: أن الذى قتله عبد اللّه بن أنيس. والصواب: أن الذى دخل عليه وقتله عبد اللّه بن عتيك وحده، كما فى البخارى. [سرية ابن رواحة إلى ابن رزام] (٢)وكان سببها أنه لما قتل أبو رافع سلام بن أبى الحقيق، أمرت يهود عليها أسيرا، فسار فى غطفان وغيرهم يجمعهم لحربه- صلى اللّه عليه وسلم-. وبلغه ذلك فوجه عبد اللّه بن رواحة فى ثلاثة نفر، فى شهر رمضان سرّا، فسأل عن خبره وغرته، فأخبر بذلك، فقدم على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخبره. فندب- عليه السّلام- الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، فبعث عليهم عبد اللّه ابن رواحة، فقدموا عليه وقالوا: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بعثنا إليك لتخرج إليه، يستعملك على خيبر ويحسن إليك، فطمع فى ذلك فخرج وخرج معه __________ (١) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (٤٠٣٩ و ٤٠٤٠) فى المغازى، باب: قتل أبى رافع، من حديث البراء بن عازب- رضى اللّه عنه-. (٢) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٩٠) ، و (شرح المواهب) للزرقانى (٢/ ١٧٠) . ثلاثون رجلا من اليهود، مع كل رجل رديف من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة ضربه عبد اللّه بن أنيس- وكان فى السرية- بالسيف فسقط عن بعيره ومالوا على أصحابه فقتلوهم غير رجل، ولم يصب من المسلمين أحد، ثم قدموا على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: (قد نجاكم اللّه من القوم الظالمين) (١) . سرية كرز (٢) - بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاى- ابن جابر الفهرى، إلى العرنيين- بضم العين وفتح الراء المهملتين- حى من قضاعة، وحى من بجيلة، والمراد هذا الثانى، كذا ذكره ابن عقبة فى المغازى. وذكر ابن إسحاق: أن قدومهم كان بعد غزوة ذى قرد، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ست. وذكرها البخارى بعد الحديبية، وكانت فى ذى القعدة منها. وعند الواقدى: فى شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حبان. وفى البخارى- فى كتاب المغازى- عن أنس أن ناسا من عكل- يعنى بضم العين وسكون الكاف- وعرينة قدموا على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وتكلموا بالإسلام، فقالوا يا نبى اللّه، إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها. فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة، كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- واستاقوا الذود. فبلغ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فبعث الطلب فى آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم، وتركوا فى ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم (٣) . __________ (١) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٩١) . (٢) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٩٣) ، و (شرح المواهب) للزرقانى (٢/ ١٧١ و ١٧٧) . (٣) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٢٣٣) فى الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، وأطرافه (١٥٠١ و ٣٠١٨، ٤١٩٢ و ٤١٩٣ و ٤٦١٠ و ٥٦٨٥ و ٥٦٨٩ و ٥٧٢٧ و ٦٨٠٢ و ٦٨٠٣ و ٦٨٠٤ و ٦٨٠٥ و ٦٨٩٩) ، ومسلم (١٦٧١) فى القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. وفى لفظ: وسمر أعينهم، ثم نبذوا فى الشمس حتى ماتوا. وفى لفظ: ولم يحسمهم، أى لم يكو مواضع القطع فينحسم الدم. وقال أنس: إنما سمل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة. رواه مسلم فيكون ما فعل بهم قصاصا. وفى رواية أنهم كانوا ثمانية. وعند البخارى أيضا- فى المحاربين- أنهم كانوا فى الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل. وفى رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه حتى مات (١) . وعند الدمياطى- كابن سعد- أن اللقاح كانت خمسة عشر لقحة- بكسر اللام وسكون القاف- ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر. وفى صحيح مسلم: أن السرية كانت قريبا من عشرين فارسا من الأنصار (٢) . وروى ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مولى يقال له: يسار، فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه فى لقاح له بالحرة، فكان بها. قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاؤا- وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم- وعدوا على يسار فذبحوه وجعلوا الشوك فى عينيه، ثم طردوا الإبل، فبعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابر الفهرى، فلحقهم فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. قال ابن كثير: غريب جدّا (٣) . __________ (١) صحيح: وهى رواية البخارى (٥٦٨٥) فى الطب، باب: الدواء بألبان الإبل، وأبو داود (٤٣٦٧) فى الحدود، باب: ما جاء فى المحاربة، والترمذى (٧٢) فى الطهارة، باب: ما جاء فى بول ما يؤكل لحمه. (٢) تقدم فيما قبله. (٣) قاله الحافظ ابن كثير فى (تفسيره) (٢/ ٥١) . وروى ابن جرير عن محمد بن إبراهيم عن جرير بن عبد اللّه البجلى قال: قدم على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قوم من عرينة الحديث.. وفيه قال جرير: فبعثنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ونفرا من المسلمين حتى أدركناهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول:(النار) ، حتى هلكوا. قال: وكره اللّه عز وجل سمل الأعين، فأنزل اللّه هذه الآية: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ (١) . إلى آخر الآية (٢) . وهو حديث غريب ...... وفيه أن أمير السرية جرير بن عبد اللّه البجلى. قال مغلطاى: وفيه نظر، لأن إسلام جرير كان بعد هذه بنحو أربع سنين. وفى مغازى ابن عقبة: أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، كذا عنده بزيادة ياء- وعند غيره: أنه سعد- بسكون العين- ابن زيد الأشهلى، وهذا أنصارى، فيحتمل أنه كان رأس الأنصار، وكان كرز أمير الجماعة. وأما قوله: فكره اللّه سمل الأعين فأنزل اللّه هذه الآية، فإنه ........ فقد تقدم أن فى صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاة، فكان ما فعل بهم قصاصا واللّه أعلم. تنبيه: قال فى فتح البارى: وزعم ابن التين تبعا للداودى أن عرينة هم عكل وهو غلط، بل هما قبيلتان متغايرتان، عكل من عدنان، وعرينة من قحطان (٣) . ثم سرية عمرو بن أمية الضمرى (٤) إلى أبى سفيان بن حرب بمكة، لأنه أرسل للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- من يقتله غدرا، فأقبل الرجل ومعه خنجر ليغتاله، فلما رآه النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (إن هذا يريد غدرا) . فجذبه أسيد بن حضير بداخلة __________ (١) سورة المائدة: ٣٣. (٢) أخرجه ابن جرير فى (تفسيره) (٦/ ٢٠٧) . (٣) قاله الحافظ فى (الفتح) (١/ ٣٣٧) . (٤) انظرها فى (دلائل النبوة) للبيهقى (٣/ ٣٣٣- ٣٣٧) ، والطبرى فى (تاريخه) (٢/ ٥٤٢- ٥٤٥) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٤/ ٦٩- ٧١) . إزاره فإذا بالخنجر، فسقط فى يده. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أصدقنى ما أنت؟) قال: وأنا آمن؟ قال: (نعم) ، فأخبره بخبره فخلى عنه- صلى اللّه عليه وسلم-. وبعث عمرو بن أمية الضمرى ومعه سلمة بن أسلم، وي قال: جبار بن صخر إلى أبى سفيان و قال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه. ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبى سفيان، فأخبر قريشا بمكانه، فخافوه وطلبوه، وكان فاتكا فى الجاهلية، فحشد له أهل مكة وتجمعوا له. فهرب عمرو وسلمة، فلقى عمرو عبيد اللّه بن مالك التيمى فقتله، وقتل آخر، ولقى رسولين لقريش بعثتهما يتحسسان الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر، فقدم به المدينة. فجعل عمرو يخبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خبره، وهو- عليه السّلام- يضحك. صلح الحديبية (١)ثم الحديبية- بتخفيف الياء وتشديدها- وهى بئر سمى المكان بها، وقيل شجرة وقال المحب الطبرى قريبة من مكة أكثرها فى الحرم، وهى على تسعة أميال من مكة. خرج- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الإثنين هلال ذى القعدة سنة ست من الهجرة للعمرة، وأخرج معه زوجته أم سلمة، فى ألف وأربعمائة. ويقال ألف وخمسمائة وقيل ألف وثلاثمائة. واجمع بين هذا الاختلاف: أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألف وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال: ألف وأربعمائة ألغاه، ويؤيده رواية البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر. __________ (١) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٣٠٨- ٣٢٣) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٩٥- ١٠٥) ، والطبرى فى (تاريخه) (٣/ ٧١) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ٣١٢- ٣٣٧) ، وابن القيم فى (زاد المعاد) (٣/ ٢٨٦- ٣١٦) ، والزرقانى فى (شرح المواهب) (٢/ ١٧٩- ٢١٧) . واعتمد على هذا الجمع النووى. وأما رواية ألف وثلاثمائة فيمكن حملها على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة مائتين لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة. وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة، فلم يوافقه أحد عليه، لأنه قاله استنباطا من قول جابر: نحرنا البدنة عن عشرة، وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا. وجزم موسى بن عقبة: بأنهم كانوا ألفا وستمائة. وعند ابن أبى شيبة من حديث سلمة بن الأكوع: ألف وسبعمائة. وحكى ابن سعد: ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يخرج معه بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف فى القرب. وفى البخارى- فى المغازى- عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عام الحديبية فى بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذى الحليفة قلد الهدى، وأشعر وأحرم منها- وفى رواية: أحرم منها بعمرة- وبعث عينا له من خزاعة. وسار النبى- صلى اللّه عليه وسلم- حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه ف قال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك. فقال: (أشيروا علىّ أيها الناس، أترون أن أميل إلى عيالهم وذرارى هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت..) . وفيه: قال أبو بكر: يا رسول اللّه، خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: (امضوا على اسم اللّه) (١) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٧٨ و ٤١٧٩) فى المغازى، باب: غزوة الحديبية. وزاد أحمد: كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (١) . وفى رواية للبخارى: (حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن خالد بن الوليد بالغميم فى خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين) ، فو اللّه ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش) (٢) . (وسار النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، حتى إذا كان بالثنية التى يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: حل حل فألحت- يعنى تمادت على عدم القيام- فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) (٣) . أى حبسها اللّه عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذلك أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة، وصدتهم قريش لوقع بينهم القتال المفضى إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل، لكن سبق فى علم اللّه أنه سيدخل فى الإسلام منهم خلق، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون. انتهى. ثم قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (والذى نفسى بيده، لا يسألونى خطة يعظمون فيها حرمات اللّه إلا أعطيتهم إياها) . (ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء- يعنى حفرة فيها ماء قليل- يتبرضه الناس تبرضا- أى يأخذونه قليلا قليلا- فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو اللّه ما زال يجيش لهم بالرى حتى صدروا عنه) . __________ (١) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٤/ ٣٢٨) ضمن حديث طويل. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٧٣١ و ٢٧٣٤) فى الشروط، باب: الشروط فى الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب. (٣) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق الذى فى البخارى. (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعى فى نفر من قومه من خزاعة- وكانوا عيبة نصح رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من أهل تهامة- فقال: إنى تركت كعب بن لؤى وعامر بن لؤى نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت) . والعوذ: بالذال المعجمة: جمع عائذ- وهى الناقة ذات اللبن. والمطافيل: الأمهات اللاتى معها أطفالها. يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال. والمراد، أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام ليكون أدعى إلى عدم الفرار. (فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤا ماددتهم مدة ويخلوا بينى وبين الناس إن شاؤا، فإن أظهر فإن شاؤا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا) . يعنى استراحوا- (وإن هم أبوا، فو الذى نفسى بيده لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتى) - أى صفحة العنق، كنى بذلك عن القتل- (ولينفذن اللّه أمره) (١) ) . (فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا ف قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه شىء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-) . (فقام عروة بن مسعود، ف قال: أى قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونى؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أنى استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا على- وهو بالحاء المهملة، __________ (١) صحيح: انظر ما قبله. أى تمنعوا عن الإجابة- جئتكم بأهلى وولدى ومن أطاعنى؟ قالوا بلى قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد- أى خصلة خير وصلاح- اقبلوها، ودعونى آته، قالوا ائته) . (فأتاه، فجعل يكلم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أى محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الآخرى، فإنى واللّه لا أرى وجوها، وإنى لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك) . (فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟) . قال العلماء: وهذا مبالغة من أبى بكر فى سب عروة، فإنه أقام معبود عروة، وهو صنمه مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبته إلى الفرار. والبظر: - بالباء الموحدة المفتوحة والظاء المعجمة الساكنة- قطعة تبقى بعد الختان فى فرج المرأة. واللات: اسم صنم. والعرب تطلق هذا اللفظ فى معرض الذم. انتهى. (فقال- أى عروة-: من هذا؟ قالوا: أبو بكر، ف قال: أما والذى نفسى بيده لولا يد كانت لك عندى لم أجزك بها لأجبتك) . (قال: وجعل يكلم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة ابن شعبة قائم على رأس النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ضرب يده بنعل السيف و قال: أخر يدك عن لحية رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-) . قال العلماء: وقد كانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، لا سيما عند الملاطفة، وفى الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كان صلى اللّه عليه وسلم- يغضى لعروة استمالة له وتأليفا. والمغيرة يمنعه إجلالا للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- وتعظيما. انتهى. قال (فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، ألست أسعى فى غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما فى الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه فى شىء) . (ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعينيه، قال: فو اللّه ما تنخم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له) . قال فى فتح البارى: فيه إشارة إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، فكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحبه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن أنه يفر عنه ويسلمه لعدوه، بل هم أشد اغتباطا به وبدينه ونصره من هذه القبائل التى تراعى بعضها بمجرد الرحم واللّه أعلم. انتهى. قال: (فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم. واللّه لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشى، واللّه ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، واللّه إن يتنخم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها) . فقال رجل من بنى كنانة: دعونى آته، فقالوا ائته، فلما أشرف على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه، قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له) ، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان اللّه ما ينبغى لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. (فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال دعونى آته.. فلما أشرف عليهم قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: هذا مكرز، وهو رجل فاجر. فجعل يكلم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-) . فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، قال معمر فأخبر أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (قد سهل لكم من أمركم) . وفى رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: قد أرادت قريش الصلح حيث بعثت هذا، فلما انتهى إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهم عشر سنين وأن يأمن بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم هذا. (وقال معمر قال الزهرى فى حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الكاتب. فقال له النبى- صلى اللّه عليه وسلم- اكتب: (بسم اللّه الرحمن الرحيم) . فقال سهيل: أما الرحمن الرحيم فو اللّه ما أدرى ما هو، ولكن اكتب باسمك اللّهم ، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: واللّه لا نكتبها إلا بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (اكتب باسمك اللّهم ) . ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه- وفى حديث عبد اللّه بن مغافل عند الحاكم: هذا ما صالح محمد رسول اللّه أهل مكة. الحديث- فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول اللّه ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك. ولكن اكتب: محمد بن عبد اللّه. فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (واللّه إنى لرسول اللّه وإن كذبتمونى) (١) . وفى رواية له- يعنى البخارى- ولمسلم: فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لعلى: (امحه) ، فقال ما أنا بالذى أمحاه (٢) ، وهى لغة فى أمحوه. قال العلماء: وهذا الذى فعله على من باب الأدب المستحب، لأنه لم __________ (١) صحيح: انظر ما قبله، وهو حديث طويل فانظره فى المصدر السابق. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٦٩٨ و ٢٦٩٩) فى الصلح، باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان وإن لم ينسبه إلى قبيلته، ومسلم (١٧٨٣) فى الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية، من حديث البراء بن عازب- رضى اللّه عنه-. يفهم من النبى- صلى اللّه عليه وسلم- تحتم محو علىّ نفسه، ولهذا لم ينكر عليه، ولو حتم محوه لنفسه لم يجز لعلى تركه انتهى. ثم قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أرنى مكانها) فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد اللّه. وفى رواية البخارى- فى المغازى- فأخذ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الكتاب وليس يحسن يكتب- فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه (١) . وكذا أخرجه النسائى وأحمد ولفظه: فأخذ الكتاب- وليس يحسن أن يكتب- فكتب مكان رسول اللّه: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه. قال فى فتح البارى: وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجى. فادعى أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب. فشنع عليه علماء الأندلس فى زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذى قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم: برئت ممن شرى دنيا باخرة ... وقال إن رسول اللّه قد كتبا فجمعهم الأمير فاستظهر الباجى عليهم بما لديه من المعرفة وقال الأمير: فهذا لا ينافى القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنه قيد النفى بما قبل ورود القرآن، قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ (٢) وبعد أن تحققت أميته وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب فى ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم، فيكون معجزة أخرى. وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجى على ذلك، منهم شيخه أبو ذر الهروى وأبو الفتح النيسابورى وآخرون من علماء إفريقية. واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبى شيبة وعمر بن شبة من طريق __________ (١) صحيح: وهى رواية البخارى (٢٦٩٩) فيما تقدم. (٢) سورة العنكبوت: ٤٨. مجالد عن عون بن عبد اللّه قال: ما مات رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى كتب وقرأ. قال مجالد: فذكرته للشعبى فقال صدق، قد سمعت من يذكر ذلك. وقال القاضى عياض: وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط وحسن تصويرها، كقوله لكاتبه: ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك، وقوله لمعاوية: ألق الدواة وحرف القلم وفرق السين ولا تعور الميم إلى غير ذلك. قال: وهذا وإن لم يثبت أنه كتب فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، إنه أوتى علم كل شىء. وأجاب الجمهور. بضعف هذه الأحاديث. وعن قصة الحديبية: بأن القصة واحدة، والكتاب فيها على بن أبى طالب، وقد صرح فى حديث المسور بن مخرمة بأن عليّا هو الذى كتب فيحمل على أن النكتة فى قوله (فأخذ الكتاب، وليس يحسن يكتب) لبيان أن قوله (أرنى إياها) أنه إنما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التى امتنع على من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة. وعلى أن قوله بعد ذلك (فكتب) فيه حذف تقديره: فمحاها فأعادها لعلى فكتب: أو أطلق (كتب) بمعنى: أمر بالكتابة، وهو كثير، كقوله: كتب إلى كسرى وقيصر. وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف فى ذلك اليوم- وهو لا يحسن الكتابة- أن يصير عالما بالكتابة، ويخرج عن كونه أميّا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف صور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميّا ككثير من الملوك. ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها، فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى فى ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميّا. وبهذا أجاب أبو جعفر السمنانى أحد أئمة الأصول من الأشاعرة وتبعه ابن الجوزى. وتعقب ذلك السهيلى وغيره: بأن هذا وإن كان ممكنا، ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميّا لا يكتب، وهى الآية التى قامت بها الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة، وقال المعاند: كان يحسن يكتب لكنه كان يكتم ذلك. قال السهيلى: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا، والحق: أن معنى قوله (فكتب) أمر عليّا أن يكتب انتهى. قال: وفى دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمى نظر كبير، واللّه أعلم، انتهى (١) . وأما قول: اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم وقوله: أما الرحمن فو اللّه ما أدرى ما هو، ولكن اكتب باسمك اللّهم . إلخ. فقال العلماء: وافقهم- صلى اللّه عليه وسلم- فى ترك كتابة بسم اللّه الرحمن الرحيم وكتب: باسمك اللّهم ، وكذا وافقهم فى محمد بن عبد اللّه، وترك كتابة رسول اللّه للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح. مع أنه لا مفسدة فى هذه الأمور: أما البسملة وباسمك اللّهم فمعناهما واحد، وكذا قوله: محمد بن عبد اللّه، هو أيضا رسوله، وليس فى ترك وصف اللّه تعالى فى هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفى ذلك، ولا فى ترك وصفه- صلى اللّه عليه وسلم- عنا بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك. انتهى. (قال فى رواية البخارى: فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) . __________ (١) قاله الحافظ فى (الفتح) (٧/ ٥٠٣- ٥٠٤) . فقال سهيل: واللّه لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة. ولكن ذلك فى العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان اللّه، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟) (١) . والضغطة: بالضم، قال فى القاموس: الضيق والإكراه والشدة. انتهى. فإن قلت: ما الحكمة فى كونه- صلى اللّه عليه وسلم- وافق سهيلا على أنه لا يأتيه منهم رجل وإن كان على دين الإسلام إلا ويرده إلى المشركين. فالجواب: أن المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التى كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم، ودخول الناس فى دين اللّه أفواجا. وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كما هى، ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاؤا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام، قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام. فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم، لما كان قد تمهد لهم من الميل. وكانت العرب من غير قريش فى البوادى ينتظرون بإسلامهم إسلام __________ (١) صحيح: وهى عند البخارى برقم (٢٣٧١) وقد تقدم. قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب فى البوادى. قال اللّه تعالى إِذا جاءَ نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّه أَفْواجاً (١) . فاللّه ورسوله أعلم. انتهى. قال فى رواية البخارى: (فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف فى قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلىّ. فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنا لم نقض الكتاب بعد) . قال: فو اللّه إذا لا أصالحك على شىء أبدا. قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (فأجزه لى) ، قال ما أنا بمجيز ذلك. قال: (بلى فافعل) . قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أى معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب فى اللّه عذابا شديدا) (٢) . زاد ابن إسحاق: فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإنا لا نغدر، وإن اللّه جاعل لك فرجا ومخرجا) . ووثب عمر يمشى إلى جنبه ويقول: اصبر إنما هم المشركون، وإن دم أحدهم كدم كلب. قال الخطابى: تأول العلماء ما وقع فى قصة أبى جندل على وجهين: أحدهما: أن اللّه تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم يمكنه التوراة، فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبى جندل إلى الهلاك، مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية. __________ (١) سورة النصر: ١، ٢. (٢) انظر المصدر السابق. والوجه الثانى: إنما رده لأبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك. وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من اللّه تعالى يبتلى به صبر عبادة المؤمنين. واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم، أم لا؟.
فقيل: نعم، على ما دلت عليه قصة أبى جندل وأبى بصير. وقيل: لا، وإن الذى وقع فى القصة منسوخ. وإن ناسخه حديث (أنا برىء من مسلم بين مشركين) (١) وهو قول الحنفية. وعند الشافعية: تفصيل بين العاقل والمجنون والصبى، فلا يردان. وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب. واللّه أعلم. قاله فى فتح البارى. قال فى رواية البخارى: (فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقلت: ألست نبى اللّه حقّا؟ قال: (بلى) ، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: (بلى) ، قلت: فلم نعطى الدنية فى ديننا إذا؟ قال: (إنى رسول اللّه ولست أعصيه، وهو ناصرى) . قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: (بلى) ، (أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟) قلت: لا، قال: (فإنك آتيه ومطوف به) . قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبى اللّه حقّا؟ ________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٦٤٥) فى الجهاد، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، والترمذى (١٦٠٤) فى السير، باب: ما جاء فى كراهية المقام بين أظهر المشركين، من حديث جرير بن عبد اللّه- رضى اللّه عنه-. قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطى الدنية فى ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول اللّه، وليس يعصى ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فو اللّه إنه على الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به) (١) . قال العلماء: لم يكن سؤال عمر- رضى اللّه عنه- وكلامه المذكور شكّا، بل طلبا لكشف ما خفى عليه، وحثّا على إذلال الكفار، وظهور الإسلام، كما عرف فى خلقه وقوته فى نصرة الدين، وإذلال المبطلين. وأما جواب أبى بكر لعمر- رضى اللّه عنهما- بمثل جواب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فهو من الدلائل الظاهرة على عظم فضله وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه، وزيادته فى ذلك على غيره. وكان الصلح بينهم عشر سنين، كما فى السير، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر. ولأبى نعيم فى مسند عبيد اللّه بن دينار كانت أربع سنين. وكذا أخرجه الحاكم فى البيوع من المستدرك. والأول أشهر. وكان الصلح على وضع الحرب، بحيث يأمن الناس فيها، ويكف بعضهم عن بعض، وألايدخل البيت إلا العام القابل ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، وهو القراب بما فيه. والجلبان- بضم الجيم وسكون اللام- شبه الجراب من الأدم، يوضع فيه السيف مغمودا. ورواه القتيبى: بضم الجيم واللام وتشديد الباء، و قال: هو أوعية السلاح بما فيها. وفى بعض الروايات: لا يدخلها إلا بجلبان السلاح: السيف والقوس. وإنما اشترطوا ذلك ليكون علما وأمارة للسلم، إذ كان دخولهم صلحا. وقال مكى بن أبى طالب القيروانى فى تفسيره: __________ (١) قلت: هو طرف من حديث البخارى المتقدم قبل قليل. وبعث- عليه الصلاة والسلام- بالكتاب إليهم مع عثمان بن عفان. وأمسك سهيل بن عمرو عنده، فأمسك المشركون عثمان فغضب المسلمون. وقال مغلطاى فاحتبسته قريش عندها. فبلغ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن عثمان قد قتل، فدعا الناس إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت، وقيل على أن لا يفروا، انتهى. ووضع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- شماله فى يمينه و قال: هذه عن عثمان. وفى البخارى: فقال- صلى اللّه عليه وسلم- بيده اليمنى: (هذه بيعة عثمان، فضرب بها على يده اليسرى) (١) . ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا وبعثوا عثمان وجماعة من المسلمين. وفى هذه البيعة نزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّه يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (٢) . وحلق الناس مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ونحروا هداياهم بالحديبية، قال مغلطاى: وأرسل اللّه ريحا حملت شعورهم فألقتها فى الحرم. وأقام- صلى اللّه عليه وسلم- بالحديبية بضعة عشر يوما، وقيل عشرين يوما، ثم قفل وفى نفوس بعضهم شىء، فأنزل اللّه سورة الفتح يسليهم بها ويذكرهم نعمه، فقال تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (٣) . قال ابن عباس وأنس والبراء بن عازب: الفتح هنا فتح الحديبية، ووقوع الصلح بعد أن كان المنافقون يظنون أن لم ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، أى حسبوا أنهم لا يرجعون بل يقتلون كلهم. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٩٨) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب عثمان بن عفان أبو عمرو القرشى- رضى اللّه عنه-، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. (٢) سورة الفتح: ١٠. (٣) سورة الفتح: ١. وأما قوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١) . فالمراد فتح خيبر على الصحيح، لأنها وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين. وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية قال: (شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا وجدنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- واقفا عند كراع الغميم، وقد جمع الناس فقرأ عليهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (٢) . فقال رجل: يا رسول اللّه، أو فتح هو؟ ف قال: (إى والذى نفسى بيده إنه لفتح) (٣) . وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الحديبية، وغفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بنصر اللّه. وأما قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ (٤) . وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا هجرة بعد الفتح) (٥) فالمراد فتح مكة باتفاق. قال الحافظ ابن حجر: فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال واللّه أعلم. ثم رجع- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المدينة. وفى هذه السنة كسفت الشمس. وظاهر أوس بن الصامت من امرأته خولة. __________ (١) سورة الفتح: ١٨. (٢) سورة الفتح: ١. (٣) أخرجه أبو داود (٢٧٣٦) فى الجهاد، فيمن أسهم له سهما، وأحمد فى (مسنده) (٣/ ٤٢٠) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ١٤٣ و ٤٩٨) بسند فيه يعقوب بن مجمع، لم يعرف إلا بهذا الحديث. (٤) سورة النصر: ١. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (٢٧٨٣) فى الجهاد والسير، باب: فضل الجهاد والسير، ومسلم (١٣٥٣) فى الحج، باب: تحريم مكة، وفى الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. وفى هذه السنة أيضا استسقى فى رمضان ومطر الناس، فقال النبى صلى اللّه عليه وسلم-: (أصبح الناس مؤمنا باللّه وكافرا بالكواكب) (١) . قال مغلطاى: وجزم الدمياطى فى سيرته: بأن تحريم الخمر كان فى سنة الحديبية. وذكر ابن إسحاق: أنه كان فى وقعة بنى النضير، وهى بعد أحد، وذلك سنة أربع على الراجح. وفيه نظر: لأن أنسا كان الساقى يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادى بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع، لكان أنس يصغر عن ذلك. وأخرج النسائى والبيهقى بسند صحيح عن ابن عباس: إنما نزل تحريم الخمر فى قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى فى وجهه ورأسه الأثر فيقول: صنع هذا أخى فلان- وكانوا أخوة ليس فى قلوبهم ضغائن- فيقول: واللّه لو كان بى رحيما ما صنع بى هذا حتى وقعت فى قلوبهم الضغائن، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ (٢) إلى مُنْتَهُونَ فقال ناس من المتكلفين: هى رجس، وهى فى بطن فلان وفلان وقد قتل يوم أحد، فأنزل اللّه تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى الْمُحْسِنِينَ (٣) (٤) . وآية تحريم الخمر نزلت فى عام الفتح قبل الفتح. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٣٨) في الجمعة، باب: قول اللّه تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، ومسلم (٧١) في الإيمان، باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، من حديث زيد بن خالد الجهنى- رضى اللّه عنه-. (٢) سورة المائدة: ٩٠، ٩١. (٣) سورة المائدة: ٩٣. (٤) أخرجه النسائى فى (الكبرى) (١١١٥١) ، والحاكم فى (المستدرك) (٤/ ١٥٨) ، والبيهقى فى (السنن الكبرى) (٨/ ٢٨٥) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٢/ ٥٦) . والخمر فى الأصل مصدر خمره: إذا ستره، سمى به عصير العنب إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل، كما يسمى مسكرا لأنه يسكره، أى يحجره. وهى حرام مطلقا، وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة: نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر انتهى. وأما الحشيشة وتسمى القنب الهندى والحيدرية والقلندرية فلم يتكلم فيها الأئمة الأربعة ولا غيرهم من علماء السلف، لأنها لم تكن فى زمنهم، وإنما ظهرت فى أواخر المائة السادسة وأول السابعة. واختلف هل هى مسكرة فيجب فيها الحد، أو مفسدة للعقل فيجب التعزير، والذى أجمع عليه الأطباء أنها مسكرة، وبه جزم الفقهاء وصرح به الشيخ أبو إسحاق الشيرازى فى كتاب التذكرة فى الخلاف، والنووى فى شرح المهذب، ولا نعرف فيه خلافا عندنا. ونقل عن ابن تيمية أنه قال: الصحيح أنها مسكرة كالشراب، فإن أكلتها ينشون عنها ولذلك يتناولونها بخلاف البنج وغيره فإنه لا ينشى ولا يشتهى. قال الزركشى: ولم أر من خالف فى هذا إلا القرافى فى قواعده ف قال: نص العلماء بالنبات فى كتبهم أنها مسكرة، والذى يظهر لى أنها مفسدة. فى كلام تعقبه الزركشى يطول ذكره. وقد تضافرت الأدلة على حرمتها: ففى صحيح مسلم (كل مسكر حرام) (١) وقد قال تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ (٢) . وأى خبيث أعظم مما يفسد العقول التى اتفقت الملل والشرائع على إيجاب حفظها. ولا ريب أن متناول الحشيشة يظهر به أثر التغير فى انتظام الفعل والقول المستمد كماله من __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٦١٢٤) فى الأدب، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (يسروا ولا تعسروا) ، ومسلم (١٧٣٣) فى الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى اللّه عنه-. (٢) سورة الأعراف: ١٥٧. نور العقل. وقد روى أبو داود- بإسناد حسن- عن ديلم الحميرى قال: سألت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقلت: يا رسول اللّه، إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: فهل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، قلت: فإن الناس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم) (١) . وهذا منه- صلى اللّه عليه وسلم- تنبيه على العلة التى لأجلها حرم المزر. فوجب أن كل شىء عمل عمله يجب تحريمه، ولا شك أن الحشيشة تعمل ذلك وفوقه. وروى أحمد فى مسنده وأبو داود فى سننه عن أم سلمة قالت: نهى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر) (٢) . قال العلماء: المفتر كل ما يورق الفتور والخدر فى الأطراف. وهذا الحديث أدل دليل على تحريم الحشيشة وغيرها من المخدرات، فإنها إن لم تكن، مسكرة كانت مفترة، ولذلك يكثر النوم من متعاطيها، وتثقل رؤسهم بواسطة تبخيرها فى الدماغ. وقد نقل الإجماع على تحريمها غير واحد، منهم القرافى وابن تيمية و قال: إن من استحلها فقد كفر. وتعقبه الزركشى: بأن تحريمها ليس معلوما من الدين بالضرورة، سلمنا ذلك، لكن لا بد أن يكون دليل الإجماع قطعيّا على أحد الوجهين، وقد ذكر أصحابنا أن المسكر من غير عصير العنب، كعصير العنب فى وجوب الحد، لكن لا يكفر مستحله لاختلاف العلماء فيه. __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٦٨٣) فى الأشربة، باب: النهى عن المسكر، وأحمد فى (مسنده) (٤/ ٢٣١ و ٢٣٢) ، والبيهقى فى الكبرى (٨/ ٢٩٢). (٢) أخرجه أبو داود (٣٦٨٦) فى الأشربة، باب: النهى عن المسكر، وأحمد فى (مسنده) (٦/ ٣٠٩) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٨/ ٢٩٦) ، بسند فيه شهر بن حوشب، وهو مختلف فيه. واختلف: هل يحرم تعاطى اليسير الذى لا يسكر؟ فقال النووى فى شرح المهذب إنه لا يحرم أكل القليل الذى لا يسكر من الحشيش، بخلاف الخمر، حيث حرم قليلها الذى لا يسكر. والفرق أن الحشيش طاهر والخمر نجس فلا يجوز شرب قليله للنجاسة. وتعقبه الزركشى بأنه صح فى الحديث: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) (١) ، قال: والمتجه أنه لا يجوز من الحشيش لا قليل ولا كثير. وأما قول النووى: إنها طاهرة وليست بنجسه، فقطع به ابن دقيق العيد وحكى الإجماع عليه. قال: والأفيون وهو لبن الخشخاش، أقوى فعلا من الحشيش، لأن القليل منه يسكر جدّا، وكذلك السيكران وجوز الطيب مع أنه طاهر بالإجماع. انتهى. وقد جمع بعضهم فى الحشيشة مائة وعشرين مضرة دينية وبدنية، حتى قال بعضهم كل ما فى الخمر من المذمومات موجود فى الحشيش وزيادة. فإن أكثر ضرر الخمر فى الدين لا فى البدن. وضررها فيهما. فمن ذلك: فساد العقل، وعدم المروءة، وكشف العورة، وترك الصلوات، والوقوع فى المحرمات، وقطع النسل، والبرص والجذام والأسقام والرعشة والأبنة، ونتن الفم وسقوط شعر الأجفان، وحفر الأسنان وتسويدها، وتضييق النفس وتصفير الألوان، وتنقيب الكبد، وتجعل الأسد كالجعل، وتورث الكسل والفشل، وتعيد العزيز ذليلا، والصحيح عليلا، والفصيح أبكما، والصحيح أبلما، وتذهب السعادة وتنسى الشهادة، فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة، موعود من اللّه باللعنة إلا أن يقرع من الندم سنه ويحسن باللّه ظنه. ولقد أحسن القائل: __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٦٨١) فى الأشربة، باب: النهى عن المسكر، والترمذى (١٨٦٥) فى الأشربة، باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام، وابن ماجه (٣٣٩٣) فى الأشربة، باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام، وأحمد فى (مسنده) (٣/ ٣٤٣) ، من حديث جابر بن عبد اللّه- رضى اللّه عنهما-. قل لمن يأكل الحشيشة جهلا ... يا خسيسا قد عشت شر معيشة دية العقل بدرة فلماذا ... ياسفيها قد بعتها بحشيشة [غزوة خيبر]وهى مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، على ثمانية برد (١) من المدينة إلى جهة الشام. قال ابن إسحاق: خرج النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى بقية شهر المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها. وقيل: كانت فى آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم. قال الحافظ ابن حجر: والراجح ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناء على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقى وهو ربيع الأول (٢) . وأغرب ابن سعد وابن أبى شيبة فرويا من حديث أبى سعيد الخدرى: خرجنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن، لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت. وتوجيهه: بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج فيها- صلى اللّه عليه وسلم- فى رمضان جزما. قال: وذكر الشيخ أبو حامد فى التعليقة: أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، ولعلها انتقال من الخندق إلى خيبر. وكان معه- صلى اللّه عليه وسلم- ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس، ومعه أم سلمة زوجته. __________ (١) البرد: جمع بريد، وهى وحدة قياسية معروفة عندهم كانت تطلق على ما بين كل منزلين، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع تقريبا. (٢) وذلك على اعتبار أن الهجرة، كانت في ربيع الأول على الراجح، وليست فى محرم أول الأشهر العربية كما يظن كثير من الناس. وفى البخارى من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبى إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول: اللّهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اتقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا وبالصباح عولوا علينا وفى رواية إياس بن سلمة عن أبيه عند أحمد فى هذا الرجز من الزيادة: إن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كما فى رواية البخارى- (من هذا السائق؟) قالوا: عامر بن الأكوع، قال: (يرحمه اللّه) . قال رجل من القوم: وجبت يا نبى اللّه، لولا أمتعتنا به (١) . الحديث. وفى رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل فى السير ينزل بعضهم فيسوقها، ويحدو فى تلك الحال. وقوله: (اللّهم لولا أنت ما اهتدينا) كذا الرواية، قالوا: وصوابه فى الوزن: لا هم، تاللّه، كما فى الحديث الآخر. وقوله: (فداء لك) قال المازرى (٢) : هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٩٦) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (١٨٠٢) فى الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر. (٢) هو: العلامة الشيخ، أبو عبد اللّه، محمد بن على بن عمر التميمى المازرى المالكى، مصنف كتاب (العلم بفوائد شرح مسلم) ، كما أن له تواليف فى الأدب، وله شرح كتاب (التلقين) لعبد الوهاب المالكى، وهو من أنفس الكتب، وكان بصيرا بعلم الحديث، ولد بمدينة المهدية من إفريقية، وبها مات سنة (٥٣٠ هـ) ومازر: بليدة من جزيرة صقلية بفتح الزاى وقد تكسر. للبارى سبحانه: فديتك، لأن ذلك إنما يستعمل فى مكروه يتوقع حلوله بالشخص، فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه. قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه، كما يقال: قاتله اللّه، ولا يريد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله- عليه السّلام-: تربت يداك، وتربت يمينك، وفيه كله ضرب من الاستعارة لأن المفادى مبالغ فى طلب رضا المفدى حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر: أى أبذل نفسى فى رضاك. وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه. قال: وقد يكون المراد بقوله: (فداء لك) رجلا يخاطبه، وفصل بين الكلام بذلك، ثم عاد إلى الأول ف قال: ما اتقينا. وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا اضطرنا إليه تصحيح الكلام. انتهى. وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. والمعنى: لا تؤاخذنا بتقصيرنا فى حقك ونصرك. وعلى هذا فقوله: (اللّهم ) لم يقصد بها الدعاء وإنما افتتح بها الكلام. والمخاطب بقول الشاعر: (لولا أنت) ، النبى، لكن يعكر عليه بعد ذلك: فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا فإنه دعاء للّه تعالى. ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت واللّه أعلم. وقوله: (إذا صيح بنا أتينا) أى إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره أتينا ولم نتأخر عنه. وفى رواية أيضا بالموحدة بدل المثناة، أى أبينا الفرار. وقوله: (وبالصياح عولوا علينا) أى استعانوا بنا واستفزعونا للقتال. قيل: هو من التعويل على الشىء وهو الاعتماد عليه، وقيل: هو من العويل، وهو الصوت. وقوله: (من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه اللّه، قال رجل من القوم وجبت) : أى ثبتت له الشهادة وستقع قريبا، وكان معلوما عندهم أن من دعا له النبى- صلى اللّه عليه وسلم- هذا الدعاء فى هذا الموطن استشهد، فقالوا: هلا أمتعتنا به؟ أى: وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة. وفى البخارى من حديث أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أتى خيبر ليلا- وكان إذا أتى قوما بليل لم يقربهم حتى يصبح- فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد واللّه، محمد والخميس، فقال النبى صلى اللّه عليه وسلم-: (خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) (١) . وفى رواية: فرفع يديه وقال اللّه أكبر خربت خيبر. والخميس: الجيش: سمى به لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب. ومحمد: خبر مبتدأ، أى هذا محمد. قال السهيلى: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما رأى آلة الهدم عرف أن مدينتهم ستخرب، انتهى. ويحتمل- كما قاله فى فتح البارى- أن يكون قال: (خربت خيبر) بطريق الوحى، ويؤيده قوله بعد ذلك: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) . وفى رواية: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: اللّه أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. وقال مغلطاى وغيره: وفرق- صلى اللّه عليه وسلم- الرايات، ولم تكن الرايات إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧١) فى الصلاة، باب: ما يذكر فى الفخذ، وأطرافه (٦١٠ و ٩٤٧ و ٣٦٤٧ و ٣٩٤٤ و ٣٩٤٥ و ٤١٩٧ و ٤١٩٨ و ٤٢٠٠) ، ومسلم (١٣٦٥) فى النكاح، باب: فضيلة إعتاق الأمة ثم يتزوجها، وفى الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر. وقال الدمياطى: وكانت راية النبى- صلى اللّه عليه وسلم- السوداء من برد لعائشة. وفى البخارى: وكان على بن أبى طالب تخلف عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وكان رمدا.. فلحق فلما بتنا الليلة التى فتحت قال: لأعطين الراية غدا- أو ليأخذن الراية غدا- رجل يحبه اللّه ورسوله يفتح اللّه عليه. فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، ف قال: أين على بن أبى طالب؟ فقالوا: هو يا رسول اللّه يشتكى عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتى به، فبصق رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى عينيه ودعا له فبرىء، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية. فقال على: يا رسول اللّه أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ ف قال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللّه فيه، فو اللّه لأن يهدى اللّه بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حمر النعم. الحديث (١) . ولما تصاف القوم، كان سيف عامر قصيرا، فتناول ساق يهودى ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه. فلما قفلوا، قال سلمة: قلت يا رسول اللّه، فداك أبى وأمى، زعموا أن عامرا حبط عمله، قال النبى صلى اللّه عليه وسلم- (كذب من قال، وإن له أجرين) ، وجمع بين إصبعيه، (إنه لجاهد مجاهد) (٢) . رواه البخارىأيضا. وعن يزيد بن أبى عبيد قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة، فقلت ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر ... فأتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة (٣) . أخرجه البخارى. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٩٤٢) فى الجهاد والسير، باب: دعاء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الناس إلى الإسلام والنبوة، ومسلم (٢٤٠٦) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه-، من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه البخارى (٤١٩٦) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٠٦) فى المغازى، باب: غزوة خيبر. وعنده أيضا عن أبى هريرة: شهدنا خيبر فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لرجل ممن معه يدعى الإسلام: (هذا من أهل النار) ، فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال، حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها سهما فنحر نفسه، فاشتد رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول اللّه، صدق اللّه حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. ف قال: (قم يا فلان فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن اللّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) (١) . وفى رواية: فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن ذلك: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة- فيما يبدو للناس- وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار- فيما يبدو للناس- وهو من أهل الجنة) . الحديث. وقاتل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أهل خيبر، وقاتلوه أشد القتال، واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون. وفتحها اللّه حصنا حصنا، وهى: النطاة، وحصن الصعب، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزبير، والشق، وحصن أبى، وحصن البرىء، والقموس والوطيح والسلالم، وهو حصن بنى أبى الحقيق. وأخذ كنز آل أبى الحقيق الذى كان فى مسك الحمار،، وكانوا قد غيبوه فى خربة، فدل اللّه ورسوله عليه فاستخرجه. وقلع علىّ باب خيبر، ولم يحركه سبعون رجلا إلا بعد جهد. وفى رواية ابن إسحاق: سبعة، وأخرجه من طريق البيهقى فى الدلائل، ورواه الحاكم، وعنه البيهقى من جهة ليث بن أبى سليم عن أبى جعفر محمد بن على بن حسين عن جابر: أن عليّا حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا. وليث ...... __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٦٢) فى الجهاد والسير، باب: إن اللّه يؤيد الدين بالرجل الفاجر، ومسلم (١١١) فى الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وأن من قتل نفسه بشىء عذب به فى النار. وفى رواية البيهقى: أن عليّا لما انتهى إلى الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب مكانه. قال شيخنا: وكلها واهية، ولذا أنكره بعض العلماء. انتهى. وفى البخارى: وتزوج- صلى اللّه عليه وسلم- بصفية بنت حيى بن أخطب، وكان قد قتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وكانت عروسا، فذكر له جمالها، فاصطفاها لنفسه فخرج بها حتى بلغت سد الصهباء حلت له- يعنى طهرت من الحيض- فبنى بها- صلى اللّه عليه وسلم- فصنع حيسا فى نطع صغير، ثم قال لأنس: (آذن من حولك) ، فكانت تلك وليمته على صفية. قال: خرجنا إلى المدينة فرأيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يحوى لها وراءه بعباءة. ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب (١) . وفى رواية له: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ قالوا إن حجبها فهى إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهى مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ لها ومد الحجاب (٢). وفى رواية أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قتل المقاتلة وسبى الذرية، وكان فى السبى صفية فصارت إلى دحية الكلبى ثم صارت إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فجعل عتقها صداقها (٣) . وفى رواية: فأعتقها وتزوجها. وفى رواية: قال- صلى اللّه عليه وسلم- لدحية: (خذ جارية من السبى غيرها) (٤) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٢٣٥) فى البيوع، باب: هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها. (٢) صحيح: وهى عند البخارى برقم (٤٢١٣) فى المغازى، باب: غزوة خيبر. (٣) صحيح: وهى عند البخارى برقم (٩٤٧) فى الجمعة، باب: التكبير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب. (٤) صحيح: وهى عند البخارى (٣٧١) فى الصلاة، باب: ما يذكر فى الفخذ. وفى رواية لمسلم: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- اشترى صفية منه بسبعة أرؤس (١) . وإطلاق الشراء على ذلك، على سبيل المجاز، وليس فى قوله سبعة أرؤس ما ينافى قوله فى رواية البخارى: خذ جارية من السبى غيرها، إذ ليس هنا دلالة على نفى الزيادة واللّه أعلم. وإنما أخذ- صلى اللّه عليه وسلم- صفية لأنها بنت ملك من ملوكهم، وليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان من الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان فى السبى مثل صفية فى نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصه- صلى اللّه عليه وسلم- بها، فإن فى ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع فى الهبة فى شىء. انتهى. قال مغلطاى وغيره: وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط فى حجرها، فتؤول بذلك. قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية. وفى هذه الغزوة حرم- صلى اللّه عليه وسلم- لحوم الحمر الأهلية. كما فى البخارى ولفظه: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذى فتحت عليهم- يعنى خيبر- أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما هذه النيران، على أى شىء توقدون؟) قالوا: على لحم، قال: (على أى لحم؟) قالوا: لحم الحمر الإنسية، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (أهريقوها واكسروها) . فقال رجل: يا رسول اللّه، أو نهريقها ونغسلها، قال: (أو ذاك) (٢) . والمشهور فى الإنسية: كسر الهمزة، منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم. وحكى: ضم الهمزة، ضد الوحشية، ويجوز فتحها والنون أيضا، مصدر أنست به، آنس أنسا وأنسة. __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٦٥) فى النكاح، باب: فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٩٦) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (١٨٠٢) فى الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر، وفى الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى اللّه عنه-. وفى رواية: نهى يوم خيبر عن أكل الثوم، وعن لحوم الحمر الأهلية (١) . وفى رواية: نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ورخص فى الخيل (٢) . قال ابن أبى أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة لأنها كانت تأكل العذرة. قال العلماء: وإنما أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة، وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها، وقيل: لأخذها قبل القسمة، وهذان التأويلان للقائلين بإباحة لحومها، والصواب ما قدمناه. وأما قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (اكسروها) فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها قال: (أو ذاك) . فهذا محمول على أنه- صلى اللّه عليه وسلم- اجتهد فى ذلك فرأى كسرها ثم تغير اجتهاده، أو أوحى إليه بغسلها. وأما لحوم الخيل فاختلف العلماء فى إباحتها: فمذهب الشافعى والجمهور من السلف والخلف: أنه مباح لا كراهة فيه، وبه قال عبد اللّه بن الزبير وأنس بن مالك وأسماء بنت أبى بكر. وفى صحيح مسلم عنها قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأكلناه ونحن بالمدينة (٣) ، وفى رواية الدارقطنى: فأكلناه نحن وأهل بيت النبى صلى اللّه عليه وسلم-. قال فى فتح البارى: ويستفاد من قولها: (ونحن بالمدينة) أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢١٥) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (٥٦١) فى المساجد، باب: نهى من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا ونحوها، وفى الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. (٢) صحيح: أخرجه المغازى (٤٢١٩) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (١٩٤١) فى الصيد والذبائح، باب: فى أكل لحم الخيل، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٥٥١٠- ٥٥١٢) فى الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح، ومسلم (١٩٤٢) فى الصيد والذبائح، باب: فى أكل لحوم الخيل، من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى اللّه عنهما-. وفى قولها: (وأهل بيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم-) الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بال أبى بكر أنهم يقدمون على فعل شىء فى زمنه- صلى اللّه عليه وسلم- إلا وعندهم العلم بجوازه لشدة اختلاطهم به- صلى اللّه عليه وسلم- وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله- عليه السّلام- عن الأحكام. ومن ثم كان الراجح أن الصحابى إذا قال: كنا نفعل كذا على عهده صلى اللّه عليه وسلم- كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاعه- صلى اللّه عليه وسلم- على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك فى مطلق الصحابة فكيف بال أبى بكر. وقال الطحاوى: ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما. واحتجوا بالأخبار المتواترة فى حلها. انتهى. وقد نقل بعض التابعين: الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبى شيبة بسند صحيح- على شرط الشيخين- عن عطاء قال: لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريح: قلت له أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: نعم. وأما ما نقل فى ذلك عن ابن عباس من كراهتها: فأخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق بسندين .....ين (١) . وقال أبو حنيفة فى الجامع الصغير: أكره لحوم الخيل، فحمله أبو بكر الرازى على التنزيه، و قال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلى، وصحح أصحاب المحيط والهداية والذخيرة عنه التحريم، وهو قول أكثرهم. وقال القرطبى فى شرح مسلم: مذهب مالك الكراهة، وقال الفاكهانى: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم. __________ (١) ذكر هذه الروايات الحافظ ابن حجر فى (الفتح) (٩/ ٦٥٠) . وقال ابن أبى جمرة: الدليل على الجواز مطلقا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا فى الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله، ولو كثر استعماله لأفضى إلى فنائها، فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذى وقع الأمر به فى قوله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ (١) . فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج، وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضى أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه. انتهى. وأما قول بعض المانعين: لو كانت حلالا لجازت الأضحية بها. فمنتقض بحيوان البر، فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به. وأما حديث خالد ابن الوليد عند أبى داود والنسائى: نهى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن لحوم الخيل والبغال والحمير (٢) ، ف.....، ولو سلم ثبوته، لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء. وقد ضعف حديث خالد ابن الوليد أحمد والبخارى والدار قطنى والخطابى وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون. وزعم بعضهم: أن حديث جابر دال على التحريم لقوله (رخص) لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة التى أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق. وأجيب: بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن، كما رواه مسلم، وفى رواية له: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عن الحمار الأهلى وعند الدار قطنى من حديث ابن عباس: نهانا- صلى اللّه عليه وسلم- عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل (٣) فدل على أن المراد بقوله: (رخص) أذن. __________ (١) سورة الأنفال: ٦٠. (٢) أخرجه أبو داود (٣٧٩٠) فى الأطعمة، باب: فى أكل لحوم الخيل، والنسائى (٧/ ٢٠٢) فى الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الخيل، وابن ماجه (٣١٩٨) فى الذبائح، باب: لحوم البغال . (٣) أخرجه الدار قطنى فى (سننه) (٤/ ٢٩٠) . ونوقض أيضا بالإذن فى أكل الخيل، ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ، فدل على أن الإذن فى أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة. وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم: أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً (١) . وقرروا ذلك بأوجه: أحدها: أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر. فإباحة أكلها تقتضى خلاف ظاهر الآية. ثانيها: عطف البغال والحمير، فدل على اشتراكها معهما فى حكم التحريم، فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليها إلى دليل. ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها فى الأكل لكان الامتنان به أعظم، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل فى المذكورات قبلها. رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة. وأجيب: بأن آية النحل [٨] مكية اتفاقا، والإذن فى أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من الآية المنع لما أذن فى الأكل. وأيضا: فاية النحل [٨] ليست نصّا فى منع الأكل والحديث صريح فى جوازه. وأيضا: فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر فى الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل فى غيرهما، وفى غير الأكل اتفاقا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل. ونظيره حديث البقرة __________ (١) سورة النحل: ٨. المذكورة فى الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث (١) ، فإنه مع كونه أصرح فى الحصر، ما يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهى تؤكد وينتفع بها فى أشياء غير الحرث اتفاقا. وقال البيضاوى: واستدل بها أى باية النحل [٨]- على حرمة لحومها، ولا دليل فيها، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا ألايقصد منه غيره أصلا. انتهى. وأيضا: فلو سلم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به. وأما عطف البغال والحمير، فدلالة العطف إنما هى دلالة اقتران وهى .....ة. وأما أنها سيقت مساق الامتنان إنما قصد به غالب ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل، فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتهم فى بلادهم، بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها أكثر لحمل الأثقال والأكل، فاقتصر فى كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر فى هذا الشق لأضر. وأما قولهم: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها إلخ. فأجيب عنه: بأنه لو لزم من الإذن فى أكلها أن تفنى، للزم مثله فى البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به. وإنما أطلت فى ذلك لأمر اقتضاه، واللّه أعلم. وفى هذه الغزوة أيضا نهى- صلى اللّه عليه وسلم- عن أكل كل ذى ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وألاتوطأ جارية حتى تستبرأ. وفى هذه الغزوة أيضا سمت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- زينب بنت الحارث، امرأة __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٣٢٤) فى المزارعة، باب: استعمال البقرة للحراثة، ومسلم (٢٣٨٨) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنه-، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. سلام بن مشكم، كما فى البخارى من حديث أبى هريرة ولفظه: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- شاة فيها سم، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (اجمعوا لى من كان هاهنا من اليهود) ، فجمعوا له، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى سائلكم عن شىء، فهل أنتم صادقونى عنه؟) فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من أبوكم؟) قالوا: أبونا فلان. فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (كذبتم، بل أبوكم فلان) ، فقالوا: صدقت وبررت، ف قال: (هل أنتم صادقونى عن شىء إن سألتكم عنه؟) فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا، كما عرفته فى أبينا. فقال لهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من أهل النار؟)فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (اخسئوا فيها. واللّه لا نخلفكم فيها أبدا) ، ثم قال لهم: (هل أنتم صادقونى عن شىء إن سألتكم عنه؟) قالوا: نعم. فقال: (هل جعلتم فى هذه الشاة سمّا؟) فقالوا: نعم، فقال: (ما حملكم على ذلك؟) فقالوا: أردنا إن كنت كذابا أن نستريح منك، وإن كنت نبيّا لم يضرك (١) . وفى حديث جابر عند أبى داود: أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فأخذ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (ارفعوا أيديكم) ، وأرسل إلى اليهود ف قال: (سممت هذه الشاة؟) فقالت: من أخبرك؟ قال: (أخبرتنى هذه فى يدى) ، للذراع. قالت: نعم، قلت: إن كان نبيّا فلن يضره، وإن لم يكن نبيّا استرحنا منه. فعفا عنها- صلى اللّه عليه وسلم- ولم يعاقبها، وتوفى أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على كاهله من أجل الذى أكل من الشاة (٢) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٦٩) فى الجزية والموادعة، باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٢) مرسل: أخرجه أبو داود (٤٥١٠) فى الديات، باب: فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟ عن ابن شهاب عن جابر مرسلا، كما فى (جامع التحصيل فى أحكام المراسيل) (٢٦٩٥) . وفى رواية غيره: جعلت زينب بنت الحارث امرأة ابن مشكم تسأل أى الشاة أحب إلى محمد فيقولون الذراع فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يبطىء- يعنى لا يلبث أن يقتل من ساعته- وقد شاورت يهود فى سموم فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت فى الذراعين والكتف، فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه، وفيهم بشر بن البراء، وتناول-صلى اللّه عليه وسلم- الذراع فانتهس منها، وتناول بشر بن البراء عظاما آخر، فلما ازدرد- صلى اللّه عليه وسلم- لقمته، ازدرد بشر بن البراء ما فى يده وأكل القوم، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-:(ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع تخبرنى أنها مسمومة) . وفيه: أن بشر بن البراء مات، وفيه أنه دفعها- صلى اللّه عليه وسلم- إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها. رواه الدمياطى. وقد اختلف هل عاقبها- صلى اللّه عليه وسلم-؟: فعند البيهقى من حديث أبى هريرة: فأعرض عنها، ومن طريق أبى نضرة عن جابر نحوه قال: فلم يعاقبها. وقال الزهرى: أسلمت فتركها (١) . قال البيهقى: يحتمل أن يكون تركها أولا ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها. وبذلك أجاب السهيلى وزاد: أنه تركها لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر قصاصا. ويحتمل أن يكون تركها لكونها أسلمت. وإنما أخر قتلها حتى مات بشر، لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه. وفى مغازى سليمان التيمى: أنها قالت: إن كنت كذابا أرحت الناس منك. وقد استبان لى الآن أنك صادق وأنا أشهدك ومن حضر أنى على دينك وألاإله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت. وفيه: موافقة الزهرى على إسلامها، فاللّه أعلم. وفى هذه الغزوة أيضا: نام- صلى اللّه عليه وسلم- عن صلاة الفجر، لما وكل به بلالا __________ (١) قلت: فى الصحيحين أنه قيل له: ألا نقتلها؟ قال: لا. أخرجه البخارى (٢٦١٧) فى الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، ومسلم (٢١٩٠) فى السلام، باب: السم، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. كما فى حديث أبى هريرة عند مسلم (أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلته حتى أدركه الكرى عرس، وقال لبلال: (اكلأ لنا الليل) ، فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحته، فلم يستيقظ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أولهم استيقاظا، ف قال: (أى بلال!) فقال بلال: أخذ بنفسى الذى أخذ- بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه- بنفسك. قال: (اقتادوا) فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة، قال: (من نسى الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن اللّه قال: أقم الصلاة لذكرى) (١) . وفيها قدم جعفر ومن معه من الحبشة. واختلف فى فتح خيبر هل كان عنوة أو صلحا؟ وفى حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس التصريح بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال فتحت صلحا، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لتحقن دماؤهما، وهو ضرب من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى. ثم فتح وادى القرى، فى جمادى الآخرة بعد ما أقام أربعا يحاصرهم، وي قال: أكثر من ذلك. وأصاب (مدعما) مولاه سهم فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن الشملة التى غلها من خيبر لتشتعل عليه نارا) (٢) . __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٦٨٠) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٦٧٠٧) فى الأيمان والنذور، باب: هل تدخل فى الأيمان والنذور الأرض والغنم والزروع والأمتعة؟ ومسلم (١١٥) فى الأيمان، باب: غلظ تحريم الغلول. وصالحه أهل تيماء على الجزية، قاله الحافظ مغلطاى. ثم سرية عمر بن الخطاب (١) - رضى اللّه عنه- إلى تربة فى شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا فخرج معه دليل من بنى هلال، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر إلى هوازن فهربوا وجاء عمر بن الخطاب، إلى محالهم فلم يلق منهم أحدا، فانصرف راجعا إلى المدينة. ثم سرية أبى بكر الصديق، - رضى اللّه عنه- إلى بنى كلاب بنجد ناحية ضربة، سنة سبع، ويقال إلى فزارة، فسبى منهم جماعة وقتل آخرين (٢) . وفى صحيح مسلم: فزارة وهو الصواب. ثم سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى بنى مرة بفدك، فى شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا، فقتلوا، وقاتل بشير حتى ارتث وضرب كعبه، وقيل قد مات. وقدم علبة بن زيد الحارثى بخبرهم على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ثم قدم بعده بشير بن سعد. ثم سرية غالب بن عبد اللّه الليثى إلى الميفعة بناحية نجد من المدينة، على ثمانية برد، فى شهر رمضان سنة سبع من الهجرة، فى مائتين وثلاثين رجلا، فهجموا عليهم فى وسط محالهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء إلى المدينة. قالوا: وفى هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيك بن مرداس بعد أن قال: لا إله إلا اللّه، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (ألا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟) فقال أسامة: لا أقاتل أحدا يشهد ألاإله إلا اللّه (٣) . __________ (١) انظر شرح المواهب، للزرقانى (٢/ ٢٤٩) . (٢) انظر ما فى (صحيح مسلم) (١٧٥٥) فى الجهاد والسير، باب: التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٦٩) فى المغازى، باب: بعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أسامة بن زيد إلى الحرقات، ومسلم (٩٦) فى الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا اللّه، من حديث أسامة بن زيد- رضى اللّه عنهما-، إلا أنه ليس فيها ذكر اسم المقتول. وفى الإكليل: فعل ذلك أسامة فى سرية كان هو أميرا عليها سنة ثمان. وفى البخارى: (عن أبى ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا اللّه، فكف الأنصارى عنه، وطعنته برمحى حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: (يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا اللّه؟) قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) (١) . ثم سرية بشير بن سعد الأنصارى أيضا إلى يمن وجبار- بفتح الجيم- وهى أرض لغطفان، ويقال لفزارة وعذرة، فى شوال سنة سبع من الهجرة، وبعث معه ثلاثمائة رجل لجمع تجمعوا للإغارة على المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا. وأصاب لهم نعما كثيرة فغنمها، وأسر رجلين وقدم بهما إلى المدينة إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأسلما. عمرة القضاءثم عمرة القضية، وتسمى عمرة القضاء، لأنه قاضى فيها قريشا، لا لأنها قضاء عن العمرة التى صد عنها، لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها، بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عمر النبى-صلى اللّه عليه وسلم- أربعا، كما سيأتى- إن شاء اللّه تعالى-. وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى. وعدوا عمرة الحديبية فى العمر لثبوت الأجر فيها، لا لأنها كملت. وهذا الخلاف مبنى على الاختلاف فى وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت. __________ (١) صحيح: وهو لفظ الحديث السابق تخريجه. فقال الجمهور: يجب عليه الهدى ولا قضاء عليه. وعند أبى حنيفة: عكسه. وعن أحمد رواية أنه لا يلزمه هدى ولا قضاء. وأخرى: يلزمه القضاء والهدى. فحجة الجمهور: قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (١) . وحجة أبى حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء. وحجة من أوجبها: ما وقع للصحابة، فإنهم نحروا الهدى حيث صدوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدى. وحجة من لم يوجبها: أن تحللّهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدى، بل أمر من معه هدى أن ينحر، ومن ليس معه هدى أن يحلق. قال الحاكم فى الإكليل: تواترت الأخبار أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما هلّ ذو القعدة يعنى سنة سبع- أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التى صدهم المشركون عنها بالحديبية، وألايتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا. وخرج معه- صلى اللّه عليه وسلم- من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفارى، وساق- صلى اللّه عليه وسلم- ستين بدنة، وحمل السلاح والبيض والدرع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذى الحليفة قدم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد. وأحرم- صلى اللّه عليه وسلم- ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة فى الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه ف قال: هذا __________ (١) سورة البقرة: ١٩٦. رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصبح هذا المنزل غدا- إن شاء اللّه تعالى-. فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا. ونزل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج كيسمع وينصر ويضرب- موضع بمكة، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصارى فى مائتى رجل. وخرجت قريش من مكة إلى رؤس الجبال. وقدم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الهدى أمامه، فحبس بذى طوى، وخرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على راحلته القصواء، والمسلمون متوشحون السيوف محدقون برسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- يلبون، فدخل من الثنية التى تطلعه على الحجون، وابن رواحة آخذ بزمام راحلته. وفى رواية الترمذى فى الشمائل، من حديث أنس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- دخل مكة فى عمرة القضاء وابن رواحة يمشى بين يديه وهو يقول: خلوا بنى الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال له عمر: يا بن رواحة بين يدى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- تقول شعرا؟ فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (خل عنه يا عمر، فلهى أسرع فيهم من نضح النبل) (١) . ورواه عبد الرزاق من حديث أنس أيضا من وجهين بلفظ خلوا بنى الكفار عن سبيله ... قد أنزل الرحمن فى تنزيله بأن خير القتل فى سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله كما قتلناكم على تنزيله __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٢٨٤٧) فى الأدب، باب: ما جاء فى إنشاد الشعر، والنسائى (٥/ ٢٠٢) فى المناسك، باب: إنشاد الشعر فى الحرم، وابن حبان فى (صحيحه) (٥٧٨٨) ، وابن خزيمة فى (صحيحه) (٢٦٨٠) ، . وأخرجه الطبرانى والبيهقى فى الدلائل وفيه: اليوم نضربكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله ... يا رب إنى مؤمن بقيله (١) وعن ابن عقبة فى المغازى بعد قوله: قد أنزل الرحمن فى تنزيله ... فى صحف تتلى على رسوله لكنه لم يذكر أنسا، وزاد ابن إسحاق بعد قوله: يا رب إنى مؤمن بقيله ... إنى رأيت الحق فى قبوله وقال ابن هشام: إن قوله: نحن ضربناكم على تأويله إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله يوم صفين. قالوا: ولم يزل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يلبى حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم. وفى البخارى، عن ابن عباس ( ... قال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب. فأمرهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) (٢) . وفى رواية: (قال: ارملوا ليرى المشركون قوتكم) (٣) (والمشركون من قبل قعيقعان) (٤) . __________ (١) أخرجه البيهقى فى (السنن الكبرى) (١٠/ ٢٢٨) ، وفى (الدلائل) (٤/ ٣١٥) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٠٢) فى الحج، باب: كيف كان بدء الرمل، ومسلم (١٢٦٦) فى الحج، باب: استحباب الرمل فى الطواف والعمرة وفى الطواف الأول من الحج. (٣) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٣٧٣) بسند صحيح. (٤) صحيح: أخرجه ابن حبان فى (صحيحه) (٣٨١١) من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، وانظر ما قبله. ومعنى قوله: (إلا الإبقاء عليهم) أى لم يمنعه من أمرهم بالرمل فى جميع الطوفات إلا الرفق بهم، والإشفاق عليهم. ثم طاف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه- وقد وقف الهدى عند المروة- قال: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر (١) . فنحر عند المروة. وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون. وأمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ناسا منهم أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج، فيقيموا على السلاح، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا. وأقام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بمكة ثلاثا. وفى البخارى من حديث البراء (.. فلما دخلها- يعنى مكة- ومضى الأجل، أتوا عليّا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل) (٢) . (فخرج النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فتبعته ابنة حمزة تنادى: يا عم يا عم، فتناولها على فأخذ بيدها وقال لفاطمة دونك ابنة عمك، فحملتها، فاختصم فيها على وزيد وجعفر، قال على: أنا أخذتها وهى بنت عمى. وقال جعفر: ابنة عمى وخالتها تحتى، وقال زيد ابنة أخى فقضى بها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لخالتها و قال: (الخالة بمنزلة الأم) (٣) الحديث. وإنما أقرهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- على أخذها مع اشتراط المشركين ألايخرج بأحد من أهلها أراد الخروج، لأنهم لم يطلبوها. __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (١٩٣٧) فى المناسك، باب: الصلاة بجمع، وابن ماجه (٣٠٤٨) فى المناسك، باب: الذبح، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-، وأخرجه أبو داود (٢٣٢٤) فى الصيام، باب: إذا أخطأ القوم الهلال من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: والحديث عند البخارى (٢٧٠٠) فى الصلح، باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان، ومسلم (١٧٨٣) فى الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية فى الحديبية. (٣) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق. وقوله: (الخالة بمنزلة الأم) أى فى هذا الحكم الخاص، لأنها تقرب منها فى الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد. ويؤخذ منه أن الخالة فى الحضانة مقدمة على العمة، لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء، فهى مقدمة على غيرها. ويؤخذ منها تقديم أقارب الأم على أقارب الأب انتهى. قال ابن عباس: وتزوج- صلى اللّه عليه وسلم- ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال (١) . وقد استدرك ذلك على ابن عباس وعد من وهمه، قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها- صلى اللّه عليه وسلم- إلا بعد ما حل (٢) . ذكره البخارى. و (وهم) بكسر الهاء أى غلط. وقال يزيد بن الأصم عن ميمونة: تزوجنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ونحن حلالان بسرف (٣) . رواه مسلم. وسيأتى فى الخصائص من مقصد معجزاته- إن شاء اللّه تعالى-: أن له- صلى اللّه عليه وسلم- النكاح فى حال الإحرام على أصح الوجهين عند الشافعية. ثم سرية ابن أبى العوجاء السلمى (٤) إلى بنى سليم، فى ذى الحجة سنة سبع، فى خمسين رجلا، فأحدق بهم الكفار من كل ناحية، وقاتل القوم قتالا شديدا، حتى قتل عامتهم وأصيب ابن أبى العوجاء جريحا مع القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى أول صفر سنة ثمان. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٥٩) فى المغازى، باب: عمرة القضاء، ومسلم (١٤١٠) فى النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم. (٢) قلت: أثر سعيد بن المسيب ليس عند البخارى، بل عند أبى داود (١٨٤٥) فى المناسك، باب: المحرم يتزوج . (٣) صحيح: أخرجه مسلم (١٤١١) فى النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم، وأبو داود (١٨٤٣) فى المناسك، باب: المحرم يتزوج، واللفظ له. (٤) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٩٤) ، والمنتظم لابن الجوزى (٣/ ٣٠٦) . ثم سرية غالب بن عبد اللّه الليثى (١) إلى بنى الملوح- بالحاء المهملة- بالكديد- بفتح الكاف- قال فى القاموس: الكديد بفتح الكاف ماء بين الحرمين شرفهما اللّه تعالى. والبطن الواسع من الأرض الغليظة، كالكدة بالكسر، ويوم الكديد معروف. فى صفر سنة ثمان من مهاجره، فغنم. وفى هذا الشهر قدم خالد بن الوليد وعثمان بن أبى طلحة وعمرو بن العاصى المدينة فأسلموا. وقال ابن أبى خيثمة: كان ذلك سنة خمس، وقال الحاكم: سنة سبع. ثم سرية غالب (٢) أيضا إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك فى صفر سنة ثمان، ومعه مائتا رجل، فأغاروا عليهم مع الصبح وقتلوا منهم قتلى وأصابوا نعما. ثم سرية شجاع بن وهب الأسدى (٣) إلى بنى عامر، بالسىء، ماء من ذات عرق إلى وجرة على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة، وخمس مراحل من المدينة. فى شهر ربيع الأول سنة ثمان، ومعه أربعة وعشرون رجلا إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبحهم، فأصابوا نعما وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وكانت غيبتهم خمس عشرة ليلة، واقتسموا الغنيمة وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا وعدلوا البعير بعشر من الغنم. ثم سرية كعب بن عمير الغفارى (٤) إلى ذات أطلاح، وراء ذات __________ (١) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٩٤) ، والمنتظم لابن الجوزى (٣/ ٣١٤) . (٢) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٩٦) ، و (المنتظم) لابن الجوزى (٣/ ٣١٥) . (٣) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٩٦) ، و (المنتظم) لابن الجوزى (٣/ ٣١٦) . (٤) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ٩٧) ، و (المنتظم) لابن الجوزى (٣/ ٣١٦) . القرى، فى ربيع الأول سنة ثمان، فى خمسة عشر رجلا، فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، فوجدوا جمعا كثيرا فقاتلهم الصحابة أشد القتال حتى قتلوا، وأفلت منهم رجل جريح فى القتلى. قال مغلطاى: قيل هو الأمير. فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخبره الخبر، فشق ذلك عليه، وهم بالبعث إليه فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم. غزوة مؤتة (١)ثم سرية مؤتة- بضم الميم وسكون الواو- بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم المبرد، وجزم ثعلب والجوهرى وابن فارس بالهمز، وحكى غيرهم الوجهين. وهى من عمل البلقاء بالشام، دون دمشق. فى جمادى الأولى سنة ثمان. وذلك أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان أرسل الحارث بن عمير الأزدى بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى فقتله، ولم يقتل لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- رسول غيره. فأمر- صلى اللّه عليه وسلم- زيد بن حارثة على ثلاثة آلاف و قال: إن قتل فجعفر بن أبى طالب فإن قتل فعبد اللّه بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم (٢) . __________ (١) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٣٧٣- ٣٨٩) ، وابن سعد فى (الطبقات الكبرى) (٢/ ١٢٨) ، والطبرى فى (تاريخه) (٣/ ١٠٧) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ٤٥٥- ٤٩٣) ، وابن القيم فى (زاد المعاد) (٣/ ٣٨١- ٣٨٥) . (٢) انظر صحيح البخارى (٤٢٦١) فى المغازى، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام، من حديث عبد اللّه بن عمر- رضى اللّه عنهما-. وفى حديث عبد اللّه بن جعفر عند أحمد والنسائى. بإسناد صحيح (إن قتل زيد فأميركم جعفر) (١) الحديث. قالوا: وعقد لهم- صلى اللّه عليه وسلم- لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعينوا عليهم باللّه وقاتلوهم. وخرج مشيعا لهم، حتى إذا بلغ ثنية الوداع فوقف وودعهم، فلما ساروا نادى المسلمون: دفع اللّه عنكم وردكم صالحين غانمين، فقال ابن رواحة. لكننى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم، وقام شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه. وقد نزل المسلمون معان- بفتح الميم- موضع من أرض الشام، وبلغ الناس كثرة العدو وتجمعهم، وأن هرقل نزل بأرض البلقاء فى مائة ألف من المشركين. فأقاموا ليلتين لينظروا فى أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- فنخبره الخبر، فشجعهم عبد اللّه بن رواحة على المضى، فمضوا إلى مؤتة. ووافاهم المشركون فجاء منهم ما لا قبل لأحد به من العدد والعدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب. والتقى المسلمون والمشركون. فقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم حتى قتل طعنا بالرماح. __________ (١) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٢٠٤) ، من حديث عبد اللّه بن جعفر- رضى اللّه عنهما-، وهو عند النسائى فى (الكبرى) (٨٢٤٩) ، وأحمد فى (مسنده) (٥/ ٣٠٠- ٣٠١) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٧٠٤٨) من حديث أبى قتادة- رضى اللّه عنه-. ثم أخذ اللواء جعفر بن أبى طالب، فنزل عن فرس له شقراء وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوجد فى أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح. قال فى رواية البخارى: ووجدنا ما فى جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية (١) . وفى رواية: أن ابن عمر وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل قال: فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شىء فى دبره (٢) . وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن، وهو عند أبى داود من طريقه عن رجل من مرة قال: واللّه لكأنى أنظر إلى جعفر بن أبى طالب، حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى قتل (٣) . قالوا: ثم أخذ اللواء عبد اللّه بن رواحة فقاتل حتى قتل. فأخذ اللواء ابن أقرم العجلانى، إلى أن اصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، وانكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين. وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة. وقال ابن سعد: إنما انهزم بالمسلمين. وقال ابن إسحاق: انحازت كل طائفة من غير هزيمة (٤) . ورفعت الأرض لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى نظر إلى معترك القوم. __________ (١) هى عند البخارى (٤٢٦١) وقد تقدم قبل حديث. (٢) هى عند البخارى (٤٢٦٠) فيما سبق. (٣) حسن: أخرجه أبو داود (٢٥٧٣) فى الجهاد، باب: فى الدابة تعرقب فى الحرب . (٤) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٣٧٣- ٣٨٩) . وعن عباد بن عبد اللّه بن الزبير قال: حدثنى أبى الذى أرضعنى- وكان أحد بنى مرة قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبى طالب وأصحابه، فرأيت جعفرا حين التحم القتال اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل، خرجه البغوى فى معجمه. وقطعت فى تلك الوقعة يداه جميعا ثم قتل، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن اللّه أبدله بيديه جناحين يطير بهما فى الجنة حيث شاء) (١) ، أخرجه أبو عمر. وفى البخارى عن عائشة- رضى اللّه عنها-: لما جاء قتل ابن رواحة وابن حارثة وجعفر بن أبى طالب جلس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يعرف فيه الحزن (٢) . وأخرج الطبرانى بإسناد حسن عن عبد اللّه بن جعفر قال: قال لى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة فى السماء) (٣) . وعن أبى هريرة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (رأيت جعفر بن أبى طالب يطير مع الملائكة) (٤) ، أخرجه الترمذى والحاكم وفى إسناده ضعف، لكن له شاهد من حديث على عند ابن سعد. وعن أبى هريرة أيضا عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (مر بى جعفر الليلة فى ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم) (٥) ، أخرجه الترمذى والحاكم بإسناد على شرط مسلم. وأخرج أيضا هو والطبرانى عن ابن عباس مرفوعا: دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبى طالب يطير مع الملائكة (٦) . __________ (١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٩/ ٢٧٣) و قال: رواه الطبرانى بإسنادين أحدهما حسن. (٢) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (٤٢٦٣) فى المغازى، باب: غزوة مؤتة. (٣) إسناده حسن: ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٩/ ٢٧٣) و قال: رواه الطبرانى وإسناده حسن. (٤) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٧٦٣) فى المناقب، باب: مناقب جعفر بن أبى طالب رضى اللّه عنه-، وابن حبان فى (صحيحه) (٧٠٤٧) ، والحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٢٣١) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال. (٥) صحيح: انظر ما قبله. (٦) حسن: أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٢١٧ و ٢٣١) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢/ ١٠٧ و ٣/ ١٤٦) بسند حسن. وفى طريق أخرى عنه: إن جعفرا يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان، عوضه اللّه من يديه (١) . وإسناد هذا جيد. فقد عوضه اللّه تعالى عن قطع يديه فى هذه الوقعة، حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت ثم أخذه بشماله فقطعت ثم احتضنه فقتل. قال السهيلى: له جناحان، ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحى الطائر وريشه، لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، فالمراد بالجناحين صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر. وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا فى قوله تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ (٢) . وقال العلماء فى أجنحة الملائكة إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح، ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر فى بيان كيفيتها فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذى جزم به فى مقام المنع، والذى حكاه عن العلماء ليس صريحا فى الدلالة لما ادعاه. ولا مانع من الحمل على الظاهر، إلا من جهة ما ذكره من المعهود، وهو قياس الغائب على الشاهد وهو ...... وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره، لأن الصورة باقية. وقد روى البيهقى فى الدلائل من مرسل عاصم ابن عمر بن قتادة: أن جناحى جعفر من ياقوت. وجاء فى جناحى جبريل أنهما من لؤلؤ. أخرجه ابن منده فى ترجمة ورقة. وذكر موسى بن عقبة فى المغازى، أن يعلى بن أمية قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن شئت فأخبرنى وإن شئت أخبرتك) قال: أخبرنى، فأخبره خبرهم ف قال: والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره. __________ (١) انظر ما قبله. (٢) سورة طه: ٢٢. وعند الطبرانى من حديث أبى اليسر الأنصارى: أن أبا عامر الأشعرى هو الذى أخبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بمصابهم (١) . ثم سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل (٢) . وسميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا. وقيل لأن بها ماء يقال له السلسل، وراء ذات القرى، من المدينة على عشرة أيام. وكانت فى جمادى الآخرة سنة ثمان، وقيل: كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبى خالد فى كتاب صحيح التاريخ، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة. إلا أن ابن إسحاق قال قبلها. وسببها: أنه بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا للإغارة، فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه فى ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار. ومعهم ثلاثون فرسا. فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب منهم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث- بفتح الميم- الجهنى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح، وعقد له لواء، وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر- رضى اللّه عنهم-، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا. فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت على مددا، وأنا الأمير فأطاع له بذلك أبو عبيدة، فكان عمرو يصلى بالناس. وسار حتى وصل إلى العدو: بلى وعذرة، فحمل عليهم المسلمون، فهربوا فى البلاد وتفرقوا. ثم سرية أبى عبيدة بن الجراح. وسماها البخارى: غزوة سيف البحر، وتعرف بسرية الخبط. __________ (١) قاله الحافظ ابن حجر فى (الفتح) (٧/ ٥١٣) . (٢) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٣١) ، وابن القيم فى (زاد المعاد) (٣/ ٣٨٦ ٣٨٧) . وبعث معه- صلى اللّه عليه وسلم- ثلاثمائة، كما فى الصحيحين وغيرهما (١) وهو المشهور، لكن فى رواية النسائى: وبضع عشرة، فإن صحت هذه الرواية فلعله اقتصر فى الرواية المشهورة على الثلاثمائة استسهالا لأمر الكسر، والأخذ بالزيادة مع صحتها واجب. وكان فيهم عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه-. يتلقى عيرا لقريش. رواه مسلم، وعنده أيضا: إلى أرض جهينة. ولا منافاة بينهما: فالجهة أرض جهينة، والقصد تلقى عير قريش- وهى الإبل المحملة للطعام وغيره-. لكن فى كتب السير: أن البعث إلى حى من جهينة بالقبلية- بفتح القاف والموحدة- مما يلى ساحل البحر، وبينها وبين المدينة خمس ليال. ولعل البعث لمقصدين: رصد عير قريش، ومحاربة حى من جهينة. وقال ابن سعد: وكانت فى رجب سنة ثمان. وفيه نظر: فإن تلقى عير قريش ما يتصور أن يكون فى هذه المدة، لأنهم حينئذ كانوا فى الهدنة، فالصحيح أن تكون هذه السرية سنة ست أو قبلها، قبل هدنة الحديبية. نعم يحتمل أن يكون تلقيهم العير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع فى شىء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا. بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر أو أكثر فى مكان واحد. فاللّه أعلم. قاله الحافظ ابن حجر. لكن قال شيخ الإسلام ابن العراقى فى شرح التقريب، قالوا: وكانت هذه السرية فى شهر رجب سنة ثمان من الهجرة وذلك بعد نكث قريش العهد وقبل الفتح، فإنه كان فى رمضان من السنة المذكورة انتهى. __________ (١) انظر القصة فى صحيح البخارى (٤٣٦٠- ٤٣٦٢) فى المغازى، باب: غزوة سيف البحر، ومسلم (١٩٣٥) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر، والنسائى (٧/ ٢٠٧) فى الصيد والذبائح، باب: ميتة البحر من حديث جابر- رضى اللّه عنه-. قالوا وزودهم- صلى اللّه عليه وسلم- جرابا من التمر، فلما فنى أكلوا الخبط- وهو بفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة- ورق السلم. وفى رواية أبى الزبير: وكنا نضرب بعصينا الخبط ونبله بالماء فنأكله، وهذا يدل على أنه كان يابسا، خلافا لمن زعم أنه كان أخضر رطبا. وقد كان معهم تمر غير الجراب النبوى، ويدل عليه حديث البخارى فى الجهاد- خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا حتى فنى زادنا، حتى كان الرجل منا يأكل تمرة تمرة (١) . وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم (٢) . وأخرج اللّه لهم من البحر دابة تسمى العنبر فأكلوا منها وتزودوا ورجعوا ولم يلقوا كيدا. وفى رواية جابر عند الأئمة الستة: بعثنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ثلاثمائة راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، فأقمنا على الساحل حتى فنى زادنا، حتى أكلنا الخبط ثم إن البحر ألقى لنا دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، حتى صلحت أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعها فنصبه ونظر إلى أطول بعير فجاز تحته (٣) الحديث. زاد الشيخان فى رواية: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فذكرنا ذلك له ف قال: (هو رزق أخرجه اللّه لكم، فهل معكم شىء من لحمه فتطعمونا؟) قال: فأرسلنا إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- منه فأكل (٤) . ثم سرية أبى قتادة بن ربعى الأنصارى إلى خضرة وهى أرض محارب __________ (١) صحيح: وقد تقدم فيما قبله. (٢) صحيح: وقد تقدم فيما قبله. (٣) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٥٤٩٣ و ٥٤٩٤) فى الذبائح والصيد، باب: قول اللّه تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ، ومسلم (١٩٣٥) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٦٢) فى المغازى، باب: غزوة سيف البحر، ومسلم (١٩٣٥) فيما تقدم. بنجد، فى شعبان سنة ثمان، وبعث معه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، فقتل من أشرف منهم، وسبى سبيا كثيرا، واستاق النعم، وكانت الإبل مائتى بعير، والغنم ألفى شاة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة. ثم سرية أبى قتادة أيضا إلى بطن أضم- فيما بين ذى خشب وذى المروة- على ثلاثة برد من المدينة، فى أول شهر رمضان سنة ثمان. وذلك أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما هم أن يغزو أهل مكة، بعث أبا قتادة فى ثمانية نفر، سرية إلى بطن أضم، ليظن ظان أنه- صلى اللّه عليه وسلم- توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار. فلقوا عامر بن الأضبط، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فقتله محلم بن جثامة، فأنزل اللّه تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً (١) إلى آخر الآية (٢) رواه أحمد، وهو عند ابن جرير من حديث ابن عمر بنحوه وزاد: فجاء محلم بن جثامة فى بردين فجلس بين يدى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ليستغفر له، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: لا غفر اللّه لك، فقام يتلقى دموعه ببرديه فما مضت له سابعة حتى مات فلفظته الأرض. وعند غيره: ثم عادوا به فلفظته الأرض، فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه. وفى رواية ابن جرير: فذكروا ذلك لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن اللّه يريد أن يعظكم (٣) . ونسب ابن إسحاق هذه السرية لابن أبى حدرد ومعه رجلان إلى الغابة، لما بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- أن رفاعة بن قيس يجمع لحربه، فقتلوا رفاعة وهزموا عسكره، وغنموا غنيمة عظيمة، حكاه مغلطاى واللّه أعلم. __________ (١) سورة النساء: ٩٤. (٢) انظر القصة بنحوها فى (صحيح البخارى) (٤٥٩١) فى التفسير، باب: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، ومسلم (٣٠٢٥) فى التفسير، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٣) أخرجه ابن جرير فى (تفسيره) (٥/ ٢٢٢) ، كما ذكره الحافظ ابن كثير فى (تفسيره) (١/ ٥٤٠) . ثم فتح مكة زادها اللّه شرفا. وهو كما قال فى زاد المعاد: (الفتح الأعظم، الذى أعز اللّه به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذى جعله هدى للعاملين من أيدى الكفار والمشركين، وهو الفتح الذى استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس فى دين اللّه أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا) (١) . خرج له- صلى اللّه عليه وسلم- بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الذى وقع بالحديبية. فإنه كان قد وقع الشرط: أنه من أحب أن يدخل فى عقد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة فى عقد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعهده. وكان بين بنى بكر وخزاعة حروب وقتلى فى الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الديلى من بنى بكر فى بنى الديل حتى بيت خزاعة وهم على ماء لهم يقال له الوتير، فأصاب منهم رجلا يقال له منبه، واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال. وأمدت قريش بنى بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلا فى خفية. وخرج عمرو بن سالم الخزاعى فى أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يخبرونه بالذى أصابهم ويستنصرونه. فقام وهو يجر رداءه وهو يقول: (لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر منه نفسى) (٢) . وفى المعجم الصغير للطبرانى، من حديث ميمونة أنها سمعته- صلى اللّه عليه وسلم- __________ (١) قاله ابن القيم فى (الهدى) (٣/ ٣٩٤) . (٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ١٦١- ١٦٢) بنحوه عن عائشة و قال: رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عنها، وقد وثقهما ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح. يقول فى متوضئه ليلا: (لبيك لبيك ثلاثا، نصرت نصرت ثلاثا) ، فلما خرج قلت: يا رسول اللّه سمعتك تقول فى متوضئك: لبيك لبيك ثلاثا، نصرت نصرت ثلاثا، كأنك تكلم إنسانا، فهل كان معك أحد؟ فقال: - صلى اللّه عليه وسلم-: (هذا راجز بنى كعب يستصرخنى ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بنى بكر) . ثم خرج- عليه السّلام- فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا. قالت: فدخل عليها أبو بكر ف قال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقالت: واللّه ما أدرى، ف قال: واللّه ما هذا زمان غزو بنى الأصفر، فأين يريد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-؟ قالت: واللّه لا علم لى. قالت فأقمنا ثلاثا ثم صلى الصبح بالناس فسمعت الراجز ينشده: يا رب إنى ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا أن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تدعو أحدا ... فانصر هداك اللّه نصرا أبدا وادع عباد اللّه يأتوا مددا ... فيهم رسول اللّه قد تجردا إن سيم خسفا وجهه تربدا قال فى القاموس: وتربد- يعنى بالراء- تغير. انتهى. وزاد ابن إسحاق: هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا فقال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (نصرت يا عمرو بن سالم) (١) . فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد ذكر البزار من حديث أبى هريرة بعض الأبيات المذكورة. وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد فى المدة. فأبى عليه، فانصرف إلى مكة. __________ (١) أخرجه البيهقى فى (السنن الكبرى) (٩/ ٢٣٤) وفى (الدلائل) (٥/ ٥- ٧) . فتجهز رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من غير إعلام أحد بذلك. فكتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك. فأطلع اللّه نبيه على ذلك. فقال- عليه السّلام- لعلى بن أبى طالب والزبير والمقداد: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها) . قال فانطلقنا.. حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجى الكتاب، قالت: ما معى كتاب. قلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. فإذا فيه: من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. فقال: (يا حاطب، ما هذا؟) . قال: يا رسول اللّه لا تعجل على، إنى كنت امرأ ملصقا فى قريش- يقول: كنت حليفا ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى، ولم أفعله ارتدادا عن ذنبى ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أما إنه قد صدقكم) . فقال عمر: يا رسول اللّه، دعنى أضرب عنق هذا المنافق، ف قال: (إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل اللّه اطلع على من شهد بدرا ف قال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) (٢) . رواه البخارى. قال فى فتح البارى: وإنما قال عمر- رضى اللّه عنه-: دعنى يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق مع تصديق رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة فى الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما __________ (١) سورة الممتحنة: ١. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٠٧) فى الجهاد والسير، باب: الجاسوس، ومسلم (٢٤٩٤) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر- رضى اللّه عنهم- وقصة حاطب بن أبى بلتعة- رضى اللّه عنه-. أمر به النبى- صلى اللّه عليه وسلم- استحق القتل. لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن فى قتله. وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر. وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولا ألاضرر فيه. وعند الطبرى أيضا: عن عروة: فإنى غافر لكم. وهذا يدل على أن المراد: ب (غفرت) أغفر، على طريق التعبير عن الآتى بالواقع مبالغة فى تحققه. قال: والذى يظهر أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة. وقد أظهر اللّه تعالى صدق رسوله فى كل من أخبر عنه بشىء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شىء من أحدهم لبادر إلى التوبة ولازم الطريقة المثلى، يعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم قاله القرطبى. وذكر بعض أهل المغازى- وهو فى تفسير يحيى بن سلام- أن لفظ الكتاب الذى كتبه حاطب: أما بعد: يا معشر قريش، فإن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فو اللّه لو جاءكم وحده لنصره اللّه وأنجز له، فانظروا لأنفسكم والسلام. هكذا حكاه السهيلى. وروى الواقدى بسند له مرسل: أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أذن فى الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لى عندكم يد. انتهى. وبعث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق. فكان المسلمون فى غزوة الفتح: عشرة آلاف. وفى (الإكليل) و (شرف المصطفى) اثنى عشر ألفا. ويجمع بينهما أن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به الألفان. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وقيل أبا رهم الغفارى. وخرج- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، بعد العصر، سنة ثمان، قاله الواقدى. وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبى سعيد قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان (١) . فما قاله الواقدى ليس بقوى لمخالفته ما هو أصح منه. وفى تعيين هذا التاريخ أقوال أخر منها عند مسلم: لست عشرة (٢) ، ولأحمد: ثمانى عشرة (٣) ، وفى أخرى: لثنتى عشرة (٤) ، والذى فى المغازى: لتسع عشرة مضت. وهو محمول على الاختلاف فى أول الشهر، وفى أخرى: تسع عشرة أو سبع عشرة (٥) على الشك. ولما بلغ- صلى اللّه عليه وسلم- الكديد- بفتح الكاف- الماء الذى بين قديد وعسفان أفطر فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر (٦) . رواه البخارى، وفى أخرى: أفطر وأفطروا، الحديث. وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا، فلقى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالجحفة، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عنه راض. __________ (١) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٣/ ٨٧) ، وأصله فى الصحيح. (٢) هى عند مسلم (١١١٦) فى الصيام، باب: جواز الصوم والفطر فى شهر رمضان للمسافر فى غير معصية. (٣) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٣/ ٩٢) . (٤) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٣/ ٤٥) . (٥) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٣/ ٧١) . (٦) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٧٥ و ٤٢٧٦) فى المغازى، باب: غزوة الفتح فى رمضان، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. وكان ممن لقيه فى الطريق أبو سفيان بن الحارث، ابن عمه، وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبى سفيان. وكان أبو سفيان يألف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فلما بعث عاداه وهجاه. وكان لقاؤهما له- عليه السّلام- بالأبواء وأسلما قبل دخول مكة. وقيل: بل لقيه هو وعبد اللّه بن أبى أمية، ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج، فأعرض- صلى اللّه عليه وسلم- عنهما لما كان يلقى منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال على لأبى سفيان- فيما حكاه أبو عمر وصاحب ذخائر العقبى-: ائت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تَاللّه لَقَدْ آثَرَكَ اللّه عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (١) فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له صلى اللّه عليه وسلم-: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّه لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٢) (٣) . ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- منذ أسلم حياء منه. قالوا: ثم سار- صلى اللّه عليه وسلم- فلما كان بقديد عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل. ثم نزل مر الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان ابن حرب وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم. وفى البخارى: (فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما __________ (١) سورة يوسف: ٩١. (٢) سورة يوسف: ٩٢. (٣) أخرجه الحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٤٦- ٤٨) من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- بسند جيد. هذه؟ لكأنها نيران عرفة، فقال له بديل بن ورقاء: نيران بنى عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأسلم أبو سفيان. فلما سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: تمر كتيبة كتيبة على أبى سفيان. فمرت كتيبة ف قال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار؟ قال: مالى ولغفار؟ ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار) (١) . بالمعجمة المكسورة: الهلاك. قال الخطابى: تمنى أبو سفيان أن تكون له يد فيحمى قومه ويدفع عنهم. وقيل: هذا الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظى وحمايتى من أن ينالنى مكروه. وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين ف قال: يا رسول اللّه، ما آمن أن يكون لسعد فى قريش صولة. فقال لعلى: (أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها) . وقد روى الأموى فى المغازى: أن أبا سفيان قال للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما حاذاه: أمرت بقتل قومك؟ قال: (لا) ، فذكر له ما قال سعد بن عبادة ثم ناشده اللّه والرحم، ف قال: (يا أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز اللّه قريشا) ، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٨٠) فى المغازى، باب: أين ركز النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح. وعند ابن عساكر من طريق أبى الزبير عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك عارضت امرأة من قريش رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقالت: يا نبى الهدى إليك لجا ... حى قريش ولات حين لجائى حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء إن سعدا يريد قاصمة الظه ... ر بأهل الحجون والبطحاء فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة لهم ورحمة. فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس. وعند أبى يعلى من حديث الزبير أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- دفعها إليه فدخل مكة بلواءين، وإسناده ..... جدّا. لكن جزم موسى بن عقبة فى المغازى عن الزهرى أنه دفعها إلى الزبير بن العوام. فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التى نزعت من سعد. والذى يظهر فى الجمع أن عليّا أرسل لينزعها ويدخل بها، ثم خشى تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعدا خشى أن يقع من ابنه شىء يكرهه النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فسأل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير. قال فى رواية البخارى (.. ثم جاءت كتيبة فيهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه، وراية النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مع الزبير، فلما مر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بأبى سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال: قال كذا وكذا ف قال: كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم اللّه فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة. قال وأمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن تركز رايته بالحجون. قال: وقال عروة أخبرنى نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد اللّه، ها هنا أمرك رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن تركز الراية؟ قال: نعم. وأمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء- أى بالفتح والمد- ودخل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من كدى- أى بالضم والقصر- فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: جيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهرى) (١) . قال الحافظ ابن حجر: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية فى البخارى أيضا أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- من أعلاها. يعنى حديث ابن عمر: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد (٢) ، وحديث عائشة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- دخل عام الفتح من كداء التى بأعلى مكة وغيرهما (٣) . قال: وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا ف قال: وبعث- صلى اللّه عليه وسلم- الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه. وبعث خالد بن الوليد فى قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت. وبعث سعد بن عبادة فى كتيبة الأنصار فى مقدمة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم. واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف، وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا فقاتلهم فانهزموا، وقتل من بنى بكر نحو من عشرين رجلا، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا الدور، فارتفعت طائفة منهم على الجبال. __________ (١) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٩٨٨) فى الجهاد والسير، باب: الردف على الحمار. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٩٠) فى المغازى، باب: دخول النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من أعلى مكة. وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن. قال: ونظر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى البارقة ف قال: (ما هذا؟ وقد نهيت عن القتال) . فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتلهم. قال: وقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بعد أن اطمأن- لخالد بن الوليد: (لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟) فقال هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدى ما استطعت، قال: (قضاء اللّه خير) . وعند ابن إسحاق: فلما نزل- صلى اللّه عليه وسلم- مر الظهران، رقت نفس العباس لأهل مكة، فخرج ليلا راكبا بغلة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لكى يجد أحدا فيعلم أهل مكة بمجىء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ليستأمنوه، فسمع صوت أبى سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، فأردف أبا سفيان خلفه وأتى به إلى النبى صلى اللّه عليه وسلم- فأسلم وانصرف الآخران ليعلما أهل مكة. ويمكن الجمع: بأن الحرس لما أخذوه استنقذه العباس. وروى أن عمر- رضى اللّه عنه- لما رأى أبا سفيان رديف العباس دخل على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: يا رسول اللّه، هذا أبو سفيان، دعنى أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول اللّه إنى قد أجرته. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (اذهب يا عباس به إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به) ، فذهب فلما أصبح غدا به على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فلما رآه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألاإله إلا اللّه؟) ف قال: بأبى أنت وأمى، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع اللّه إله غيره لما أغنى عنى شيئا. ثم قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول اللّه؟) قال: بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففى النفس منها شىء. فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد ألاإله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه قبل أن تضرب عنقك. فأسلم وشهد شهادة الحق. فقال العباس: يا رسول اللّه إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: (نعم) . وأمر- صلى اللّه عليه وسلم- فنادى مناديه: من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن إلا المستثنين (١) . وهم كما قال مغلطاى: عبد اللّه بن سعد بن أبى سرح. أسلم. وابن خطل: قتله أبو برزة. وقينتاه وهما: فرتنى- بالفاء المفتوحة، والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون- وقريبة- بالقاف والراء والموحدة مصغرا- أسلمت إحداهما وقتلت الآخرى. وذكر غير ابن إسحاق أن التى أسلمت فرتنى وأن قريبة قتلت. وسارة: مولاة لبنى المطلب، أسلمت، ويقال كانت مولاة عمرو بن صيفى بن هشام. وأرنب- علم امرأة- وقريبة: قتلت وعكرمة بن أبى جهل: أسلم. والحويرث ابن نقيد قتله على. ومقيس بن صبابة- بمهملة وموحدتين الأولى خفيفة- قتله نميلة الليثى. وهبار بن الأسود: أسلم وهو الذى عرض لزينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- حين هاجرت فنخس بها بعيرها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها. وكعب بن زهير: أسلم. وهند بنت عتبة: أسلمت. ووحشى بن حرب: أسلم انتهى. وابن خطل: بفتح الخاء والطاء المهملة. وابن نقيد: بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا. ومقيس: بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة التحتية آخره مهملة. وقد جمع الواقدى عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس، ستة رجال، وأربع نسوة. وروى أحمد ومسلم والنسائى عن أبى هريرة قال: لما أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- وقد بعث على أحد المجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الآخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر. بضم المهملة وتشديد السين المهملة، أىالذين بغير سلاح- فقال لى يا أبا هريرة، اهتف لى بالأنصار، فهتف بهم فجاؤا فأطافوا به، فقال لهم: أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم، ثم قال __________ (١) حسن: أخرجه أبو داود (٣٠٢١) فى الخراج والفىء، باب: ما جاء فى خبر مكة، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، والحديث له شواهد عند مسلم (١٧٨٠) وسيأتى فى الحديث الآتى. بإحدى يديه على الآخرى: احصدوهم حصدا، حتى توافونى بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا، فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان ف قال: يا رسول اللّه: أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال صلى اللّه عليه وسلم-: (من أغلق بابه فهو آمن) (١) . قال فى فتح البارى: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة، وهو قول الأكثر. وعن الشافعى، وهو رواية عن أحمد: أنها فتحت صلحا، لما وقع من هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها، ولأنها لم تقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها. وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها. وحجة الأولين: ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه- صلى اللّه عليه وسلم- بأنها أحلت له ساعة من نهار، ونهيه عن التأسى به فى ذلك. وأجابوا عن ترك القسمة: بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها، ويترك لهم دورهم. وأما قول النووى: واحتج الشافعى بالأحاديث المشهورة بأن النبى صلى اللّه عليه وسلم- صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر، لأن الذى أشار إليه، إن كان مراده ما وقع من قوله-صلى اللّه عليه وسلم-: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن) كما تقدم وكذا من دخل المسجد- كما عند ابن إسحاق- فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذى ورد فى الأحاديث الصحيحة ظاهر فى أن قريشا لم يلتزموا بذلك لأنهم استعدوا للحرب. وإن كان مراده بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل، ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته. انتهى. __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (١٧٨٠) فى الجهاد والسير، باب: فتح مكة، والنسائى فى (الكبرى) (١١٢٩٨) ، وأحمد فى (مسنده) (٢/ ٥٣٨) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. ثم دخل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مكة فى كتيبته الخضراء، وهو على ناقته القصواء بين أبى بكر وأسيد بن حضير، فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به، فقال للعباس: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا عظيما، فقال العباس: ويحك، إنه ليس بملك ولكنها نبوة، قال: (نعم) (١) . وروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- وضع رأسه تواضعا للّه لما رأى ما أكرمه اللّه به من الفتح حتى إن رأسه لتكاد تمس رحله شكرا وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده ولم تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده. وفى البخارى من حديث أنس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر- وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وفى المحكم: هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة- فلما نزعه جاء رجل ف قال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، ف قال: اقتله (٢) . وفى حديث سعيد بن يربوع عند الدار قطنى والحاكم: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- قال: (أربعة لا أؤمنهم فى حل ولا حرم: الحويرث وهلال بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد اللّه بن أبى سرح. قال: فأما هلال بن خطل فقتله الزبير) (٣) . الحديث. وفى حديث سعد بن أبى وقاص عند البزار والحاكم والبيهقى فى الدلائل نحوه، لكن قال: أربعة نفر وامرأتان و قال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فذكره. لكن قال: عبد اللّه بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين. و قال: فأما عبد اللّه بن خطل فأدرك __________ (١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ١٦٤) عن ميمونة بنت الحارث زوج النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، و قال: رواه الطبرانى فى الصغير والكبير وفيه يحيى بن سليمان بن فضلة وهو ...... (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٨٦) فى المغازى، باب: أين ركز النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح. (٣) لم أقف عليه، وانظر ما بعده. وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله (١) . الحديث. وروى ابن أبى شيبة من طريق أبى عثمان النهدى: أن أبا برزة الأسلمى قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله. ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد فى تعيين قاتله، وبه جرم البلاذرى وغيره من أهل الأخبار. وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام فى السيرة: بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمى اشتركا فى قتله. وإنما أمر بقتل ابن خطل، لأنه كان مسلما فبعثه- صلى اللّه عليه وسلم- مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه- وكان مسلما- ونزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويضع له طعاما ونام، قاستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدى عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. وأما الجمع بين ما اختلف فيه من اسمه، فإنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمى عبد اللّه. وأما من قال: هلال، فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال. وفى رواية أبى داود من حديث مصعب: لما كان يوم الفتح أمن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الناس إلا أربعة نفر فذكرهم ثم قال: وأما ابن أبى سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان- رضى اللّه عنه- فلما دعا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: يا نبى اللّه بايع عبد اللّه، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه ف قال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآنى كففت __________ (١) صحيح: أخرجه الحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٦٢) ، وأبو يعلى فى (مسنده) (٧٥٧) ، والدار قطنى فى (سننه) (٣/ ٥٩ و ٤/ ١٦٧) بسند صحيح. يدى عن بيعته فيقتله؟) فقالوا: يا رسول اللّه ما ندرى ما فى نفسك، ألا أومأت إلينا؟ ف قال: (إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين) (١) . الحديث. قال مالك- كما فى رواية البخارى-: ولم يكن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فيما نرى يومئذ محرما (٢) . انتهى. وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدى عن مالك جازما به. أخرجهالدار قطنى فى الغرائب. ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر: دخل- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الفتح مكة عليه عمامة سوداء بغير إحرام (٣) . وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال: لم يدخل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مكة إلا محرما إلا يوم الفتح. وقد اختلف العلماء: هل يجب على من دخل مكة الإحرام أم لا؟ فالمشهور من مذهب الشافعى عدم الوجوب مطلقا. وفى قول: يجب مطلقا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب، وهو أولى بعدم الوجوب. والمشهور عن الأئمة الثلاثة: وفى رواية عن كل منهم: لا يجب، وجزم الحنابلة باستثناء ذوى الحاجات المتكررة، واستثنى الحنيفة من كان داخل الميقات واللّه أعلم. وقد زعم الحاكم فى الإكليل: أن بين حديث أنس فى المغفر وبين حديث جابر فى العمامة السوداء معارضة. وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه. __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٦٨٣) فى الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، والنسائى (٧/ ١٠٥) فى تحريم الدم، باب: الحكم فى المرتد. (٢) ذكره البخارى عقب الحديث (٤٢٨٦) وقد تقدم تقريبا. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٥٨) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام. ويؤيده: أن فى حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء (١) . أخرجه مسلم أيضا. وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول. وهذا الجمع للقاضى عياض. وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم. وفى البخارى: عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول اللّه، أين تنزل غدا، قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (وهل ترك لنا عقيل من منزل؟) وفى رواية: (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟) . وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا على شيئا لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين. فكان عمر بن الخطاب يقول: لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر(٢) . وفى رواية أخرى له قال- صلى اللّه عليه وسلم- منزلنا إن شاء اللّه- إذا فتح اللّه- الخيف، حيث تقاسموا على الكفر. يعنى به المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بنى هاشم وبنى عبد المطلب: ألايناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- (٣) ، كما تقدم. وفى رواية أخرى له: أنه يوم فتح مكة اغتسل فى بيت أم هانىء، ثم صلى الضحى ثمانى ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود (٤) . __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (١٣٥٩) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٥٨٨) فى الحج، باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها. (٣) صحيح: أخرجه البخارى برقم (٣٠٥٨) فى الجهاد والسير، باب: إذا أسلم قوم فى دار الحرب ولهم مال وأرضون فهى لهم. (٤) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (١١٠٤) فى الجمعة، باب: من تطوع فى السفر، ومسلم (٣٣٦) فى الصلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، من حديث أم هانىء- رضى اللّه عنها-. وأجارت أم هانىء حموين لها، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء) (١) ، والرجلان: الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة، كما قاله ابن هشام، وقد كان أخوها على بن أبى طالب أراد أن يقتلهما فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. ولما كان الغد من يوم الفتح قام- صلى اللّه عليه وسلم- خطيبا فى الناس، فحمد اللّه وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال: (أيها الناس، إن اللّه حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهى حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقولوا: إن اللّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لى ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب) (٢). ثم قال: (يا معشر قريش ما ترون أنى فاعل بكم؟) . قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ، أى: الذين أطلقوا، فلم يسترقوا ولم يؤسروا. والطليق: الأسير إذا أطلق. والمراد بالساعة التى أحلت له- عليه السّلام- ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، كذا قاله فى فتح البارى. ولقد أجاد العلامة أبو محمد الشقراطسى حيث يقول فى قصيدته المشهورة: ويوم مكة إذ أشرفت فى أمم ... تضيق عنها فجاج الوعث والسهل خوافق ضاق ذرع الخافقين بها ... فى قاتم من عجاج الخيل والإبل وجحفل قذف الأرجاء ذى لجب ... عرمرم كزهاء الليل منسحل __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٧) فى الصلاة، باب: الصلاة فى الثوب الواحد ملتحفا به، ومسلم (٣٣٦) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، من حديث أم هانىء- رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٤) فى العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، ومسلم (١٣٥٤) فى الحج، باب: تحريم مكة، من حديث أبى شريح- رضى اللّه عنه-. وأنت صلى عليك اللّه تقدمهم ... فى بهو إشراق نور منك مكتمل ينير فوق أغر الوجه منتجب ... متوج بعزيز النصر مقتبل يسمو أمام جنود اللّه مرتديا ... ثوب الوقار لأمر اللّه ممتثل خشعت تحت بهاء العز حين سمت ... بك المهابة فعل الخاضع الوجل وقد تباشر أملاك السماء بما ... ملكت إذ نلت منه غاية الأمل والأرض ترجف من زهو ومن فرق ... والجو يزهر إشراقا من الجذل والخيل تختال زهوا فى أعنتها ... والعيس تنثال رهوا فى ثنى الجدل لولا الذى خطت الأقلام من قدر ... وسابق من قضاء غير ذى حول أهل ثهلان بالتهليل من طرب ... وذاب يذبل تهليلا من الذبل الملك للّه هذا عز من عقدت ... له النبوة فوق العرش فى الأزل شعبت صدع قريش بعد ما قذفت ... بهم شعوب شعاب السهل والقلل قالوا محمد قد زادت كتائبه ... كالأسد تزأر فى أنيابها العصل فويل مكة من آثار وطأته ... وويل أم قريش من جوى الهبل فجدت عفوا بفضل العفو منك ولم ... تلمم ولا بأليم اللوم والعذل أضربت بالصفح صفحا عن غوائلهم ... طولا أطال مقيل النوم فى المقل رحمت واشج أرحام أتيح لها ... تحت الوشيج نشيج الروع والوجل عاذوا بظل كريم العفو ذى لطف ... مبارك الوجه بالتوفيق مشتمل أزكى الخليقة أخلاقا وأطهرها ... وأكرم الناس صفحا عن ذوى الزلل وطفت بالبيت محبورا وطاف به ... من كان عنه قبيل الفتح فى شغل والجحفل: الجيش العظيم. وقذف الأرجاء: أى متباعدها. واللجب: بالجيم المفتوحة: الضجة من كثرة الأصوات. والعرمرم: الضخم الكثير العدد. وقوله: كزهاء الليل: شبهه بالليل فى سده الأفق، واسوداده بالسلاح. والمنسحل: - بالحاء المهملة- الماضى فى سيره يتبع بعضه بعضا. وقوله: فى بهو إشراق: شبه النور الذى يغشاه- عليه السّلام- ببهو أحاط به. والبهو: البناء العالى كالإيوان ونحوه. والمنتجب: المتخير أصل نجيب، أى كريم، والمقتبل: المستقبل الخير. وترتجف: تهتز. والزهور: الخفة من الطرب، يعنى: أن الأرض اهتزت فرحا بهذا الجيش، وفرقا من صولته، أى كادت تهتز، قال تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (١) . والجدل: جمع جديل، وهو الزمام المصفور. وثنى الجدل: ما انثنى على أعناق الإبل، أى انعطف. وثهلان: اسم جبل معروف. وأهل: رفع صوته. ويذبل: اسم جبل أيضا. والذبل: الرماح الذوابل وهى التى لم تقطع من منابتها حتى ذبلت أي جفت ويبست. وتهليلا: أى صياحا، جبنا وفزعا. يعنى: لولا ما سبق من تقدير اللّه أن الجبال لا تنطق لرفع ثهلان صوته وهلل اللّه من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق. وقوله: شعبت أي جمعت وأصلحت وقذفت بهم: أي فرقت بهم مخافة شعوب. وشعوب: اسم للمنية لأنها تفرق الجماعات، من شعبت أى فرقت، وهو من الأضداد. والشعاب: الطرق فى الجبال. والسهل: خلاف الجبل. والقلل: رؤس الجبال. يعنى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- عفا عنهم بعد ما تصدعوا، أى تفرقوا وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل. وقوله: كالأسد تزأر فى أنيابها العصل: أى المعوجة. واللّه أعلم. ولما فتح اللّه مكة على رسوله- صلى اللّه عليه وسلم- قال الأنصار فيما بينهم: أترون أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إذ فتح اللّه عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يدعو على الصفا رافعا يديه، فلما فرغ من دعائه قال: (ماذا قلتم؟) قالوا: لا شىء يا رسول اللّه، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى اللّه عليه وسلم-: (معاذ اللّه، المحيا محياكم والممات مماتكم) (٢) . وهم فضالة بن عمير أن يقتل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه قال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أفضالة) ، قال: نعم يا رسول اللّه، قال: (ماذا كنت تحدث به نفسك؟) قال: لا شىء، كنت أذكر اللّه، فضحك صلى اللّه عليه وسلم- ثم قال: (استغفر اللّه) ، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، __________ (١) سورة الأحزاب: ١٠. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٧٨٠) فى الجهاد والسير، باب: فتح مكة، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. وكان فضالة يقول: واللّه ما رفع يده عن صدرى حتى ما خلق اللّه شيئا أحب إلى منه (١) . وطاف- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان. وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيب وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل. إن الباطل كان زهوقا) ، فيقع الصنم لوجهه. رواه البيهقى (٢) . وفى رواية أبى نعيم: قد ألزقها الشياطين بالرصاص والنحاس. وفى تفسير العلامة ابن النقيب المقدسى (٣) : إن اللّه تعالى لما أعلمه صلى اللّه عليه وسلم- بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه، وفتح مكة وإعلاء كلمة دينه، أمره إذ دخل مكة أن يقول: وقل جاء الحق وزهق الباطل، فصار صلى اللّه عليه وسلم- يطعن الأصنام التى حول الكعبة بمحجنة ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، فيخر الصنم ساقطا، مع أنها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنما بعدد أيام السنة. قال: وفى معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال: قال قتادة: جاء القرآن وذهب الشيطان. وقال ابن جريح: جاء الجهاد وذهب الشرك، وقال مقاتل: جاءت عبادة اللّه وذهبت عبادة الشيطان. وقال ابن عباس: وجد- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، كانت لقبائل العرب يحجون إليها، ويخرون لها، فشكا البيت إلى اللّه تعالى ف قال: (أى رب، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولى دونك) فأوحى اللّه __________ (١) انظره فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٤١٧) . (٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٥/ ٧٢) وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ١٧٦) و قال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، وفيه عاصم بن عمر العمرى، ووثقه ابن حبان، و قال: يخطىء ويخالف، وبقية رجاله ثقات. (٣) هو: أبو عبد اللّه، جمال الدين، محمد بن سليمان بن الحسن البلخى المقدسى، المعروف بابن النقيب المقدسى، مفسر من فقهاء الحنفية، توفى سنة ٦٩٨ هـ. تعالى إليه إنى سأحدث لك نوبة جديدة، يدفون إليك دفيف النسور، ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية. قال: ولما نزلت الآية يوم الفتح قال جبريل- عليه الصلاة والسلام- لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: خذ مخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتى صنما صنما ويطعن فى عينه أو بطنه بمخصرته ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل) ، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا. وبقى صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر (١) . فقال يا على: ارم به، فحمله- عليه السّلام- حتى صعد ورمى به وكسره. فجعل أهل مكة يتعجبون. انتهى. وعن ابن عباس قال: لما قدم- صلى اللّه عليه وسلم- أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل فى أيديهما الأزلام، يعنى: القداح التى كانوا يستقسمون بها، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (قاتلهم اللّه، أما واللّه لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط) . فدخل البيت وكبر فى نواحيه ولم يصل فيه (٢) . رواه الترمذى. وعن ابن عمر قال: أقبل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عام الفتح على ناقته القصواء، وهو مردف أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة ف قال: (ائتنى بالمفتاح) ، فذهب إلى أمة فأبت أن تعطيه ف قال: واللّه لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبى، فأعطته إياه، فجاء به النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فدفعه إليه، ففتح الباب (٣) رواه مسلم. وروى الفاكهى من طريق .....ة، عن ابن عمر أيضا قال: كان بنو أبى طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح باب الكعبة غيرهم، فأخذ رسول اللّه المفتاح ففتحها بيده. __________ (١) الصفر: هنا هو الذهب. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٠١) فى الحج، باب: من كبر فى نواحى الكعبة، وأبو داود (٢٠٢٧) فى المناسك، باب: الصلاة فى الكعبة، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٠٠) فى المغازى، باب: حجة الوداع، ومسلم (١٣٢٩) فى الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، إلا أنه فيها بلفظ قريب من لفظ المصنف. وعثمان المذكور: هو عثمان بن طلحة بن أبى طلحة بن عبد العزى، ويقال له: الحجبى، بفتح المهملة والجيم، ويعرفون الآن بالشيبيين، نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبى طلحة وهو ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا ولد له وله صحبة ورواية. واسم أم عثمان: سلافة- بضم السين المهملة والتخفيف والفاء-. وفى الطبقات لابن سعد عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة فى الجاهلية يوم الإثنين والخميس. فأقبل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت له ونلت منه، فحلم عنى ثم قال: (يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت) ، فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، قال: (بل عمرت وعزت يومئذ) ، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته منى موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال. فلما كان يوم الفتح قال: (يا عثمان ائتنى بالمفتاح) فأتيته به فأخذه منى، ثم دفعه إلى و قال: (خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن اللّه استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف) . قال: فلما وليت نادانى، فرجعت إليه ف قال: (ألم يكن الذى قلت لك؟!) قال: فذكرت قوله لى بمكة قبل الهجرة: (لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى حيث شئت) . قلت: بلى أشهد أنك رسول اللّه (١) . وفى التفسير: أن هذه الآية إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها (٢) نزلت فى عثمان بن طلحة الحجبى. أمره- صلى اللّه عليه وسلم- أن يأتيه بمفتاح الكعبة فأبى عليه، وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح و قال: لو علمت أنه رسول اللّه لم أمنعه، فلوى على يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل صلى اللّه عليه وسلم- البيت، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل اللّه هذه الآية. وأمر- صلى اللّه عليه وسلم- عليّا أن يرد المفتاح إلى __________ (١) أخرجه ابن سعد فى (الطبقات) (٢/ ١٣٧) . (٢) سورة النساء: ٥٨. عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك على، ف قال: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟! فقال على: لقد أنزل اللّه فى شأنك قرآنا. وقرأ عليه الآية. فقال عثمان: أشهد أن محمدا رسول اللّه. فجاء جبريل- عليه السّلام- ف قال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة فى أولاد عثمان. فكان المفتاح معه، فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة فى أولاده! إلى يوم القيامة (١) . قال ابن ظفر فى (ينبوع الحياة) : قوله: (لو اعلم أنه رسول اللّه لم أمنعه) هذا وهم، لأنه كان ممن أسلم. فلو قال هذا كان مرتدا. وعن الكلبى: لما طلب- صلى اللّه عليه وسلم- المفتاح من عثمان مد يده إليه، فقال العباس: يا رسول اللّه اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، ف قال: هاكه بالأمانة، فأعطاه إياه ونزلت الآية. قال ابن ظفر: وهذا أولى بالقول. وفى رواية لمسلم: دخل- صلى اللّه عليه وسلم- هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان ابن طلحة الحجبى فأغلقوا عليهم الباب. قال ابن عمر فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانين، وذهب عنى أسأله: كم صلى (٢) . وفى إحدى روايات البخارى: جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه (٣) . وليس بين الروايتين مخالفة، لكن قوله فى الرواية الآخرى: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان __________ (١) ذكره الحافظ ابن كثير فى (تفسيره) (١/ ٥١٧) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٦٨) فى الصلاة، باب: الأبواب والغلق للكعبة والمساجد، ومسلم (١٣٢٩) فى الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره. (٣) هذه الرواية عند البخارى برقم (٥٠٥) فى الصلاة، باب: الصلاة بين السوارى فى غير جماعة. اثنين، ولهذا عقبه البخارى برواية إسماعيل بن أبى أويس التى قال فيها: عمودين عن يمينه (١) . ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه: حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت فى زمنه- صلى اللّه عليه وسلم-، وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك، ويرشد إلى قوله: وكان البيت يومئذ. لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى. ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث على غير سمتهما، ولفظ (المتقدمين) فى إحدى روايات البخارى مشعر به. وفى رواية لمسلم جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه، عكس رواية إسماعيل، وكذلك قال الشافعى، وبشر بن عمر فى إحدى الروايتين عنهما. وقد جمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث. وجزم البيهقى بترجيح رواية إسماعيل، ووافقه عليها ابن القاسم والقعنبى وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وأبو حذافة وكذلك الشافعى وابن مهدى وفى إحدى الروايتين عنهما. انتهى ملخصا من فتح البارى (٢) . وقد بين موسى بن عقبة فى روايته عن نافع أن بين موقفه- صلى اللّه عليه وسلم- وبين الجدار الذى استقبله قريبا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه الدار قطنى فى الغرائب. ولفظه: وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع. وفى كتاب مكة للأزرقى، والفاكهى: أن معاوية سأل ابن عمر: أين __________ (١) هى تتمة الرواية السابقة. (٢) انظر (فتح البارى) (١/ ٥٧٩) . صلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ف قال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغى لمن أراد الاتباع فى ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه فى مكان قدميه- صلى اللّه عليه وسلم- إن كانت ثلاثة سواء، أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه إن كان أقل من من ثلاثة أذرع واللّه أعلم. وفى رواية عن ابن عباس قال: أخبرنى أسامة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما دخل البيت دعا فى نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع فى قبل البيت ركعتين و قال: (هذه القبلة) (١) رواه مسلم. والجمع بينه وبين حديث ابن عمر، أن أسامة أخبره أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صلى فى الكعبة كما رواه أحمد والطبرانى: بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد فى ذلك على غيره وحيث نفاها أراد ما فى علمه لكونه لم يره حين صلى، ويكون ابن عمر ابتدأ بلالا بالسوال ثم أراد زيادة الاستثبات فى مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضا. قال النووى: وقد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه. قال: وأما نفى أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يدعو ثم اشتغل أسامة فى ناحية من نواحى البيت والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، وكانت صلاته- عليه السّلام- خفيفة فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها. انتهى. وتعقبوه بما يطول ذكره. وأقرب ما قيل فى الجمع: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى فى الكعبة لما غاب عنه أسامة من الكعبة لأمر ندبه إليه، وهو أن يأتى بماء يمحو به الصور التى كانت فى الكعبة، فأثبت الصلاة بلال لرؤيته لها ونفاها __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٩٨) فى الصلاة، باب: قول اللّه تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، ومسلم (١٣٣٠) فى الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره. أسامة لعدم رؤيته، ويؤيده ما رواه أبو داود الطيالسى عن أسامة بن زيد قال: دخلت على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الكعبة، ورأى صورا فدعا بدلو من ماء، فأتيته به فجعل- صلى اللّه عليه وسلم- يمحوها ويقول: (قاتل اللّه قوما يصورون ما لا يخلقون)(١) ورجاله ثقات. وأفاد الأزرقى- فى تاريخ مكة- أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب عنه- صلى اللّه عليه وسلم- الناس. وفى البخارى: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أقام خمس عشرة ليلة، وفى رواية: تسع عشرة (٢) . وفى رواية أبى داود: سبع عشرة (٣) . وعند الترمذى: ثمانى عشرة (٤) . وفى الإكليل: أصحها بضع عشرة يقصر الصلاة. وقال الفاسى فى تاريخ مكة: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان. ثم سرية خالد بن الوليد (٥) عقب فتح مكة إلى العزى بنخلة، وكانت لقريش وجميع بنى كنانة، وكانت أعظم أصنامهم. لخمس ليال بقين من رمضان، وسنة ثمان، ومعه ثلاثون ليهدمها إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بمكة __________ (١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٥/ ١٧٣) عن أسامة بن زيد و قال: رواه الطبرانى، وفيه خالد ابن زيد العمرى، ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات، ا. هـ. وانظر (فتح البارى) للحافظ ابن حجر (٨/ ١٧) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٩٨) فى المغازى، باب: مقام النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بمكة زمن الفتح، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، أما رواية خمسة عشر فهى عند النسائى (٣/ ١٢١) فى تقصير الصلاة، باب: المقام الذى يقصر بمثله الصلاة. (٣) أخرجه أبو داود (١٢٣٠) فى الصلاة، باب: متى يتم المسافر. (٤) قلت الذى فى الترمذى (٥٤٩) رواه تسعة عشر كرواية الصحيح، إلا أنه فى الحديث الذى يليه (٥٥٠) عن البراء بن عازب (٥) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٤٥- ١٤٦) . قال: (صحبت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ثمانية عشر شهرا فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر، فلعله سبق قلم أن أفضل رواية ثمانية عشر تلك عن التى قبلها. فأخبره. فقال: (هل رأيت شيئا) قال: لا، قال (فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها) ، فرجع فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ثائرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها اثنتين، ورجع إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخبره ف قال: (نعم، تلك العزى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا) (١) . ثم سرية عمرو بن العاصى (٢) إلى سواع صنم هذيل على ثلاثة أميال من مكة. فى شهر رمضان سنة ثمان- حين فتح مكة-. قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، ف قال: ما تريد؟ فقلت أمرنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك. قلت: لم؟ قال: تمنع، فقلت: ويحك، وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته ثم قلت للسادن كيف رأيت؟ قال: أسلمت للّه. ثم سرية سعد بن زيد الأشهلى (٣) إلى مناة، صنم للأوس والخزرج بالمشلل، فى شهر رمضان، حين فتح مكة، فخرج فى عشرين فارسا حتى انتهى إليها، قال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك. فأقبل سعد يمشى إليها، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فضربها سعد بن زيد فقتلها، وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدموه وانصرف راجعا إلى النبى-صلى اللّه عليه وسلم- وكان ذلك لست بقين من رمضان. ثم سرية خالد بن الوليد (٤) إلى بنى جذيمة، قبيلة من عبد القيس، أسفل مكة على ليلة بناحية يلملم، فى شوال سنة ثمان. وهو يوم الغميصاء. __________ (١) انظر (دلائل النبوة) للبيهقى، (٥/ ٧٧) . (٢) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١١١) . (٣) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١١١) . (٤) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٤٢٨ و ٤٣١) ، و (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٤٧- ١٤٨) . بعثه- صلى اللّه عليه وسلم- لما رجع من هدم العزى، وهو- صلى اللّه عليه وسلم- مقيم بمكة، وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا، داعيا إلى الإسلام لا مقاتلا، فلما انتهى إليهم قال: ما أنتم قالوا: مسلمين قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد فى ساحاتنا. وفى البخارى: لم يحسنوا أن يقولوا ذلك فقالوا صبأنا فقال لهم: استأسروا فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعضا، وفرقهم فى أصحابه، فلما كان السحر، نادى منادى خالد: من كان معه أسير فليقتله، فقتلت بنو سليم من كان بأيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم. فبلغ ذلك النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: (اللّهم إنى أبرأ إليك من فعل خالد) (١) . وبعث عليّا فودى قتلاهم. قال الخطابى: يحتمل أن يكون نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام، لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولا، وأنكر- صلى اللّه عليه وسلم- العجلة وترك التثبت فى أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا. ثم غزا- صلى اللّه عليه وسلم- حنينا (٢) - بالتصغير- وهو واد قرب ذى المجاز، وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال، قرب الطائف، وتسمى غزوة هوازن. وذلك أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصرى (٣) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٢٩) فى المغازى، باب: بعث النبى- رضى اللّه عنه- خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة، من حديث عبد اللّه بن عمر- رضى اللّه عنهما-. (٢) انظر هذه الغزوة فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٤٣٧- ٥٠٠) ، و (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٤٩- ١٥٨) ، والطبرى فى (تاريخه) (٣/ ١٢٥) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ٦١٠- ٦٥١) ، وابن القيم فى (زاد المعاد) (٣/ ٤٦٥- ٤٧٦) ، و (شرح المواهب) للزرقانى (٣/ ٥- ٢٨) . (٣) بالصاد المهملة، نسبة إلى جده الأعلى نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، أما مالك نفسه فقد أسلم، وكان من المؤلفة، وصحب ثم شهد القادسية وفتح دمشق. فخرج إليهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من مكة يوم السبت لست ليال خلون من شوال، فى اثنى عشر ألفا من المسلمين. عشرة آلاف من أهل المدينة وألفان ممن أسلم من أهل مكة. وهم الطلقاء، يعنى: الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، وأحدهم طليق- فعيل بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق سبيله. واستعمل- صلى اللّه عليه وسلم- على مكة عتاب بن أسيد. وخرج معه- صلى اللّه عليه وسلم- ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- استعار منه مائة درع بأداتها، فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال. فبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم من الرعب. ووجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عبد اللّه بن أبى حدرد الأسلمى، فدخل عسكرهم، فطاف به وجاء بخبرهم. وفى حديث سهل بن الحنظلية- عند أبى داود بإسناد حسن- أنهم ساروا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأطنبوا السير، فجاء رجل ف قال: إنى انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم، بظعنهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- و قال: (تلك غنيمة المسلمين غدا، إن شاء اللّه تعالى) .. (١) . وقوله عن بكرة أبيهم: كلمة للعرب، يريدون بها الكثرة وتوفر العدد، وليس هناك بكرة فى الحقيقة، وهى التى يستقى عليها الماء، فاستعيرت هنا. وقوله: بظعنهم: أى نسائهم، واحدتها ظعينة، وأصل الظعينة الراحلة التى يرحل ويظعن عليها، أى يسار، وقيل للمرأة ظعينة لأنها تظعن مع __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٥٠١) فى الجهاد، باب: فى فضل الحرس فى سبيل اللّه تعالى، والنسائى فى (الكبرى) (٨٨٧٠) ، والحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٩٣) ، والبيهقى فى (السنن الكبرى) (٩/ ١٤٩) ، وفى (الدلائل) (٥/ ١٢٥- ١٢٦) ، والطبرانى فى (الكبير) (٦/ ٩٦). زوجها حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت. وقيل الظعينة: المرأة فى الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللّهودج بلا امرأة ظعينة. انتهى. وروى يونس بن بكير، فى زيادة المغازى عن الربيع قال: قال رجل يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. ثم ركب- صلى اللّه عليه وسلم- بغلته البيضاء (دلدل) ولبس درعين والمغفر والبيضة. فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك فى غبش الصبح، وخرجت الكتائب من مضيق الوادى، فحملوا حملة واحدة فانكشفت خيل بنى سليم مولية وتبعهم أهل مكة والناس. ولم يثبت معه- صلى اللّه عليه وسلم- يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر وعمر وأسامة بن زيد، فى أناس من أهل بيته وأصحابه. قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يتقدم فى نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، وجعل- عليه السّلام- يقول للعباس: (ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة) يعنى شجرة بيعة الرضوان- التى بايعوه تحتها، ألايفروا عنه. فجعل ينادى تارة يا أصحاب السمرة، وتارة: يا أصحاب سورة البقرة وكان العباس رجلا صيتا- فلما سمع المسلمون نداء العباس أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها. وفى رواية لمسلم: قال العباس: فو اللّه لكأن عطفتهم- حين سمعوا صوتى- عطفة البقر على أولادها. يقولون: يا لبيك، يا لبيك. فتراجعوا إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، حتى أن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. فأمرهم- صلى اللّه عليه وسلم- أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار، فأشرف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فنظر إلى قتالهم ف قال: الآن حمى الوطيس، وهو التنور يخبز فيه، يضرب مثلا لشدة الحرب الذى يشبه حرها حره. وهذه من فصيح الكلام الذى لم يسمع من أحد قبل النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وتناول- صلى اللّه عليه وسلم- حصيات من الأرض ثم قال: (شاهت الوجوه) - أى قبحت- ورمى بها فى وجوه المشركين، فما خلق اللّه منهم إنسانا إلا ملأ عينيه من تلك القبضة (١) . وفى رواية لمسلم: قبضة من تراب الأرض (٢) . فيحتمل أنه رمى بذا مرة وبذا مرة أخرى. ويحتمل أن يكون أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب. ولأحمد وأبى داود والدارمى، من حديث أبى عبد الرحمن الفهرى فى قصة حنين قال: فولى المسلمون مدبرين كما قال اللّه تعالى، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا عبد اللّه ورسوله) ، ثم اقتحم عن فرسه، فأخذ كفّا من تراب. قال: فأخبرنى الذى كان أدنى إليه منى أنه ضرب وجوههم و قال: (شاهدت الوجوه فهزمهم اللّه) . قال يعلى بن عطاء راوية عن أبى همام عن أبى عبد الرحمن الفهرى فحدثنى أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد (٣) - بالجيم-. قال فى النهاية: وصف الطست وهى مؤنثة بالجديد وهو مذكر، إما لأن تأنيثها غير حقيقى فأوله على الإناء والظرف، أو لأن فعيلا يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث كما يوصف به المذكر، نحو امرأة قتيل. انتهى. __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (١٧٧٥) فى الجهاد والسير، باب: فى غزوة حنين، وأحمد فى (مسنده) (١/ ٢٠٧) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٧٠٤٩) . (٢) صحيح: أخرجه مسلم (١٧٧٧) فى الجهاد، باب: فى غزوة حنين، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى اللّه عنه-. (٣) حسن: أخرجه أبو داود (٥٢٣٣) فى الأدب، باب: فى الرجل ينادى الرجل فيقول لبيك، والدارمى فى (سننه) (٢٤٥٢) ، وأحمد فى (مسنده) (٥/ ٢٨٦) . ولأحمد والحاكم من حديث ابن مسعود: فحادت به- صلى اللّه عليه وسلم- بغلته، فمال السرج فقلت ارتفع رفعك اللّه، ف قال: (ناولنى كفّا من تراب) ، فضرب وجوههم وامتلأت أعينهم ترابا، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بإيمانهم كأنها الشهب فولى المشركون الأدبار (١) . وروى أبو جعفر بن جرير بسنده عن عبد الرحمن بن مولى عن رجل كان فى المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة، فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم فى آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا. قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا (٢) . وفى سيرة الدمياطى: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر أرخوها بين أكتافهم. وفى حديث جبير بن مطعم: نظرت والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوى من السماء. والبجاد: بالموحدة والجيم آخره دال مهملة: الكساء، وجمعه: بجد، أراد الملائكة الذين أيدهم اللّه بهم، قاله ابن الأثير. وفى البخارى: عن البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- يوم حنين؟ ف قال: لكن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، وهو يقول: (أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) (٣) . __________ (١) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٤٥٣) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ١٢٨) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٠/ ١٦٩) . (٢) أخرجه ابن جرير الطبرى فى (تفسيره) (١٠/ ١٠٣) . (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٦٤) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (١٧٧٦) فى الجهاد والسير، باب: فى غزوة حنين. وهذا فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبى، والنبى لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذى وعدنى اللّه به من النصر حق، فلا يجوز علىّ الفرار. وأما ما فى مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله: (فأرجع منهزما) إلى قوله: (مررت على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- منهزما) فقال: (لقد رأى ابن الأكوع فزعا) (١) فقال العلماء: قوله منهزما حال من ابن الأكوع- لا من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كما صرح أولا بانهزامه، ولم يرد أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- انهزم، وقد قالت الصحابة كلهم: إنه- عليه السّلام- ما انهزم ولم ينقل أحد قط أنه انهزم فى موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه- صلى اللّه عليه وسلم-، ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو. وقد تقدم فى غزوة أحد ما نسب لابن المرابط، من المالكية، مما حكاه القاضى عياض فى الشفاء: أن من قال إن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأن العلامة البساطى تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف فى أصل المسألة يعنى: حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل. انتهى. قال بعضهم: وقد كان ركوبه- صلى اللّه عليه وسلم- البغلة فى هذا المحل الذى هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا لنبوته، لما كان اللّه تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام النبوة، وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا يصلح لمواطن الحرب فى العادة إلا الخيل فبين- صلى اللّه عليه وسلم- أن الحرب عنده كالسلم قوة قلب وشجاعة نفس وثقة وتوكلا على اللّه تعالى، وقد ركبت الملائكة فى الحرب معه- صلى اللّه عليه وسلم- على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك عرفا دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم فى الحرب إلا للخيل، والسر فى ذلك أنها المخلوقة للكر والفر بخلاف البغال والإبل. انتهى. __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (١٧٧٧) فى (الجهاد والسير) ، باب: فى غزوة حنين. وعند ابن أبى شيبة، من مرسل الحكم بن عتيبة: لم يبق- عليه الصلاة والسلام- إلا أربعة نفر، ثلاثة من بنى هاشم ورجل من غيرهم: على العباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل. وفى الترمذى بإسناد حسن من حديث ابن عمر: لقد رأينا يوم حنين، وإن الناس لمولون، وما مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مائة رجل (١) . وفى شرح مسلم للنووى: أنه ثبت معه- صلى اللّه عليه وسلم- اثنا عشر رجلا وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق. ووقع فى شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط وذلك لقوله: نصرنا رسول اللّه فى الحرب تسعة ... وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه ... لما مسّه فى اللّه لا يتوج وقد قال الطبرى: الانهزام المنهى عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة، انتهى. وأما قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) فقد قال العلماء: إنه ليس بشعر، لأن الشاعر إنما سمى شاعرا لوجوه، منها: أنه شعر القول وقصده واهتدى إليه، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعرا. والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده، فلا يعد شعرا، وإن كان موزونا. وأما قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: أنا ابن عبد المطلب، ولم يقل: ابن عبد اللّه، ف أجيب: بأن شهرته بجده كانت أكثر من شهرته بأبيه، لأن أباه توفى فى حياة __________ (١) صحيح الإسناد: أخرجه الترمذى (١٦٨٩) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الثبات عند القتال . أبيه عبد المطلب قبل مولده- صلى اللّه عليه وسلم-، وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة وكان سيد قريش وكان كثير من الناس يدعو النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ابن عبد المطلبينسبونه إلى جده لشهرته، ومنه حديث ضمام بن ثعلبة فى قوله: أيكم ابن عبد المطلب (١) . وقيل غير ذلك. وأمر- صلى اللّه عليه وسلم- أن يقتل من قدر عليه، وأفضى المسلمون فى القتل إلى الذرية، فنهاهم- صلى اللّه عليه وسلم- عن ذلك. و قال: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه. واستلب أبو طلحة وحده ذلك اليوم عشرين رجلا. وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: كان اللّه تعالى وعد رسوله أنه إذا فتح مكة دخل الناس فى دين اللّه أفواجا، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتألبوا لحربه- صلى اللّه عليه وسلم-، ليظهر أمره تعالى، وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح، وليظهر اللّه تعالى رسوله وعباده، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التى لم يلق المسلمون قبلها مثلها، ولا يقاومهم بعد أحد من العرب، فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم وقوة شوكتهم، ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح ولم يدخل بلده وحرمه كما دخل- عليه الصلاة والسلام- واضعا رأسه منحنيا على مركوبه تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده، وليبين سبحانه لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عنده تعالى، وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له، وأنه سبحانه هو الذى تولى نصر رسوله ودينه، لاكثرتكم التى أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت خلع الجبر مع بريد: أنزل اللّه سكينته __________ (١) صحيح: وحديث ضمام أخرجه البخارى (٦٣) فى العلم، باب: ما جاء فى العلم من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها. وقد اقتضت حكمته تعالى: أن خلع النصر وجوائزه إنما تفاض على أهل الانكسار، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض. قال: وبهاتين الغزوتين- أعنى حنينا وبدرا- قاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين، ورمى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وجوه المشركين بالحصباء فيهما. وبهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. انتهى (١) . وأمر- صلى اللّه عليه وسلم- بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة، وقوم منهم إلى أوطاس. واستشهد من المسلمين أربعة: منهم أيمن ابن أم أيمن. وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا. ثم سرية أبى عامر الأشعر، وهو عم أبى موسى الأشعرى، وقال ابن إسحاق: ابن عمه والأول أشهد. بعثه- صلى اللّه عليه وسلم- حين فرغ من حنين، فى طلب الفارين من هوازن يوم حنين إلى أوطاس- وهو واد فى ديار هوازن- وكان معه سلمة بن الأكوع، فانتهى إليهم، فإذا هم ممتنعون فقتل منهم أبو عامر تسعة أخوة مبارزة بعد أن يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ويقول: اللّهم اشهد عليه، ثم برز له العاشر فدعاه إلى الإسلام وقال اللّهم اشهد عليه، فقال اللّهم لا تشهد على فكف عنه أبو عامر فأفلت. ثم أسلم بعد فحسن إسلامه فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- إذا رآه قال: هذا شريد أبى عامر. ورمى أبا عامر ابنا الحارث- العلاء وأوفى- فقتلاه، فخلفه أبو موسى الأشعرى فقاتلهم حتى فتح اللّه عليه. وكان فى السبى الشيماء- أخته- عليه الصلاة والسلام- من الرضاعة-. وقتل قاتل أبى عامر. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: ( اللّهم اغفر لأبى عامر واجعله من أعلى أمتى فى الجنة) . __________ (١) انظره فى (زاد المعاد) لابن القيم (٣/ ٤٧٧- ٤٧٨) . وفى رواية البخارى قال- يعنى أبا عامر لأبى موسى الأشعرى، لما رمى بالسهم-: يا ابن أخى: أقرىء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- السلام، وقل له: يستغفر لى ثم مات. فرجعت فدخلت على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأخبرته بخبرنا وخبر أبى عامر، وقال قل له: استغفر لى، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه و قال: ( اللّهم اغفر لعبيدك أبى عامر) - ورأيت بياض إبطيه- ثم قال: ( اللّهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك) ... فقلت: ولى ... فقال: ( اللّهم اغفر لعبد اللّه بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما) . قال أبو بردة: إحداهما لأبى عامر والآخرى لأبى موسى (١) . ثم سرية الطفيل بن عمرو الدوسى (٢) إلى ذى الكفين، صنم من خشب، كان لعمرو بن حممة، فى شوال- لما أراد- صلى اللّه عليه وسلم- السير إلى الطائف- ليهدمه ويوافيه بالطائف. فخرج سريعا فهدمه وجعل يحش النار فى وجهه ويحرقه ويقول: يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا إنى حشوت النار فى فؤادكا وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام. وعند مغلطاى: وقدم معه أربعة مسلمون. غزوة الطائف (٣)ثم غزوة الطائف، وهى بلد كبير، على ثلاث مراحل أو اثنين من مكة، من جهة المشرق، كثيرة الأعناب والفواكه. وقيل: إن أصلها أن جبريل- عليه __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٢٣) فى المغازى، باب: غزوة أوطاس، ومسلم (٢٤٩٨) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى موسى وأبى عامر الأشعريين. (٢) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١١٩) . (٣) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٥٣٧- ٥٤٣) ، والطبرى فى (تاريخه) (٣/ ١٤٠) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ٦٥٢- ٦٦٦) ، وابن القيم فى (زاد المعاد) (٣/ ٤٩٥- ٥٠٢) . الصلاة والسلام- اقتلع الجنة التى كانت لأصحاب الصريم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت ثم أنزلها حيث الطائف، فسمى الموضع بها. وكانت أولا بنواحى صنعاء. واسم الأرض: وج، بتشديد الجيم المضمومة. وسار إليها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى شوال سنة ثمان، حين خرج من حنين وحبس الغنائم بالجعرانة. وقدم خالد بن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف لما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم بالطائف، وأغلقوه عليهم بعد أن دخلوا فيه ما يصلحهم لسنة. وتهيئوا للقتال. وسار- صلى اللّه عليه وسلم- فمر بطريقة بقبر أبى رغال، وهو أبو ثقيف- فيما يقال- فاستخرج منه غصنا من ذهب (١) . ونزل قريبا من الحصن وعسكر هناك. فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا، كأنه رجل جراد (٢) ، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا منهم: عبد اللّه بن أبى أمية. ورمى عبد اللّه بن أبى بكر الصديق يومئذ بجرح فاندمل ثم نقض بعد ذلك فمات منه فى خلافة أبيه. وارتفع- صلى اللّه عليه وسلم- إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين. وكان يصلى بين القبتين حصار الطائف كله. فحاصرهم ثمانية عشر يوما، ويقال خمسة عشر يوما. ونصب عليهم المنجنيق وهو أول منجنيق رمى به فى الإسلام، وكان قدم به الطفيل الدوسى معه لما رجع من سرية ذى الكفين، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتل منهم رجال، فأمر- صلى اللّه عليه وسلم- بقطع أعنابهم وتحريقها. فقطع المسلمون قطعا ذريعا، ثم سألوه أن يدعها للّه وللرحم، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى للّه وللرحم) (٣) . __________ (١) أخرجه أبو داود (٣٠٨٨) فى الخراج والإمارة والفىء، باب: نبش القبور العادية يكون فيها المال، من حديث عبد اللّه بن عمرو- رضى اللّه عنهما- . (٢) الرّجل: بالكسر، الجراد الكثير. (٣) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٠) . ثم نادى مناديه- صلى اللّه عليه وسلم-: أيما عبد نزل من الحصين وخرج إلينا فهو حر. قال الدمياطى: فخرج منهم بضعة عشر رجلا فيهم أبو بكرة، وعند مغلطاى: ثلاثة وعشرون عبدا. وفى البخارى عن أبى عثمان النهدى قال: سمعت سعدا وأبا بكرة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ... قال عاصم: (لقد شهد عندك رجلان ... أما أحدهما فأول من رمى بسهم فى سبيل اللّه، وأما الآخر فنزل إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف) (١) الحديث. وأعتق- صلى اللّه عليه وسلم- من نزل منهم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة. ولم يؤذن له- صلى اللّه عليه وسلم- فى فتح الطائف. وأمر عمر بن الخطاب فأذن فى الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك، وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: فاغدوا على القتال، فغدوا فأصاب المسلمين جراحات، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: إنا قافلون إن شاء اللّه تعالى فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يضحك. قال النووى: قصد- صلى اللّه عليه وسلم- الشفقة عليهم والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين هم فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنه- صلى اللّه عليه وسلم- علم أولا، أو رجا أنه سيفتحه بعد ذلك بلا مشقة. فلما حرص الصحابة على المقام والجهاد أقام، وجد فيه القتال حتى أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولا من الرفق بهم ففرحوا بذلك لما رأوا ممن المشقة الظاهرة، ووافقوا على الرحيل، فضحك- صلى اللّه عليه وسلم- تعجبا من تغير رأيهم. وفقئت عين أبى سفيان صخر بن حرب يومئذ، فذكر ابن سعد أن النبى صلى اللّه عليه وسلم- قال له وهى فى يده: (أيما أحب إليك عين فى الجنة أو أدعو اللّه أن يردها عليك) قال: بل عين فى الجنة ورمى بها. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٢٧) فى المغازى، باب: غزوة الطائف. وشهد اليرموك فقاتل وفقئت عينه الآخرى يومئذ. ذكره الحافظ زين الدين العراقى فى شرح التقريب. وقال- صلى اللّه عليه وسلم- لأصحابه: قولوا: (لا إله إلا اللّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) . فلما ارتحلوا قال: (آيبون، تائبون عابدون، لربنا حامدون) (١) . فانظر كيف كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع أصحابه واتخاذ الخيل والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الجهاد والسفر، ثم إذا رجع يتعرى من ذلك ويرد الأمر كله لمولاه عز وجل لا لغيره بقوله: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق اللّه وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) (٢) . وانظر إلى قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (وهزم الأحزاب وحده) فنفى- صلى اللّه عليه وسلم- ما تقدم ذكره، وهذا هو معنى الحقيقة، لأن الإنسان وفعله خلق لربه عز وجل، فهو للّه سبحانه وتعالى الذى خلق ودبر، وأعان وأجرى الأمور على يد من شاء، ومن اختار من خلقه، فكل منه وإليه، ولو شاء أن يبيد أهل الكفر من غير قتال لفعل، قال تعالى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللّه لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ (٣) فيثبت سبحانه وتعالى الصابرين ويجزل الثواب للشاكرين، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٤) . فعلى المكلف الامتثال فى الحالتين، أى: امتثال تعاطى الأسباب، __________ (١) أخرجه بنحوه البخارى (١٧٩٧) فى العمرة، باب: ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو، ومسلم (١٣٤٤) فى الحج، باب: ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. (٢) صحيح: انظر ما قبله. (٣) سورة محمد: ٤. (٤) سورة محمد: ٣١. والرجوع إلى المولى والسكون إليه بساحة كرمه، كما كان- صلى اللّه عليه وسلم- يأتى الأسباب أولا تأدبا مع الربوبية وتشريعا لأمته، ثم يظهر اللّه تعالى على يديه ما يشاء من قدرته الغامضة التى ادخرها له- عليه الصلاة والسلام-. قال ابن الحاج فى المدخل: ولما قيل له: يا رسول اللّه، ادع على ثقيف. فقال: ( اللّهم اهد ثقيفا وائت بهم) (١) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- قد أمر أن يجمع السبى والغنائم مما أفاء اللّه على رسوله يوم حنين فجمع ذلك كله إلى الجعرانة، فكان بها إلى أن انصرف- عليه السّلام- من الطائف. وكان السبى ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة. واستأنى- صلى اللّه عليه وسلم-- أى انتظر وتربص- بهوازن أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة. ثم بدأ يقسم الأموال، فقسمها. وفى البخارى: وطفق- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى رجالا المائة من الإبل. فقال ناس من الأنصار يغفر اللّه لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟! قال أنس: فحدث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم فى قبة من آدم، ثم قال لهم: (أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبى إلى رحالكم؟! فو اللّه لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به) ، قالوا: يا رسول اللّه قد رضينا (٢) . وعن جبير بن مطعم قال: بينما أنا مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ومعه الناس مقفله __________ (١) أخرجه الترمذى (٣٩٤٢) فى المناقب، باب: فى ثقيف وبنى حنيفة من حديث أبى الزبير عن جابر- رضى اللّه عنه- . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٤٧) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (١٠٥٩) فى الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه. من حنين، علقت برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الأعراب حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: (أعطونى ردائى، فلو كان لى عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدونى بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا) (١) . ورواه مسلم. وذكر محمد بن سعد كاتب الواقدى عن ابن عباس أنه قال: لما قدم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم ثم اعتمر منها وذلك لليلتين بقيتا من شوال. قال ابن سيد الناس وهذا .....، والمعروف عند أهل السير أن النبى صلى اللّه عليه وسلم- انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس، لخمس ليال خلون من ذى القعدة، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة ليلا، فأحرم بعمرة ودخل مكة. وفى تاريخ الأزرفى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أحرم من وراء الوادى، حيث الحجارة المنصوبة. وعند الواقدى: من المسجد الأقصى الذى تحت الوادى بالعدوة القصوى من الجعرانة. وكانت صلاته- عليه الصلاة والسلام- إذ كان الجعرانة به. والجعرانة موضع بينه وبين مكة بريد، كما قاله الفاكهى. وقال الباجى: ثمانية عشر ميلا، وسمى بامرأة تلقب بالجعرانة، كما ذكره السهيلى. قالوا: وقدم- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة وقد غاب عنها شهرين وستة عشر يوما. وبعث- صلى اللّه عليه وسلم- قيس بن سعد بن عبادة (٢) إلى ناحية اليمن فى أربعمائة فارس، وأمره أن يقاتل قبيلة صداء، حين مروره عليهم فى الطرق. فقدم زياد بن الحارث الصدائى، فسأل عن ذلك البعث فأخبر، ف قال: __________ (١) قلت: بل هو عند البخارى برقم (٣١٤٨) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه. (٢) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (١/ ٢٤٧) . يا رسول اللّه أنا ولفدهم، فاردد الجيش، وأنا لك بقومى، فردهم النبى صلى اللّه عليه وسلم- من قناة. وقدم الصدائيون بعد خمسة عشر يوما فأسلموا. وتأتى قصة وفدهم فى الفصل العاشر من المقصد الثانى- إن شاء اللّه تعالى-. وبعث عيينة بن حصن الفزارى (١) إلى بنى تميم بالسقيا- وهى أرض بنى تميم- فى المحرم سنة تسع فى خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجرى ولا أنصارى. فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم فى صحراء، فدخلوا وسرحوا مواشيهم فلما رأوا الجمع ولّوا، فأخذوا منهم أحد عشر رجلا، ووجدوا فى المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّا. فقدم منهم عشرة من رؤسائهم، منهم: عطارد والزبرقان، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، فجاؤا إلى باب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فنادوا: يا محمد اخرج إلينا فخرج- صلى اللّه عليه وسلم- وأقام بلال الصلاة، وتعلقوا برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يكلمونه، فوقف معهم ثم مضى فصلى الظهر. ثم جلس فى صحن المسجد. فقدموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب. فأمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم. ونزل فيهم إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ (٢) . ورد عليهم صلى اللّه عليه وسلم- الأسرى والسبى (٣) . وفى البخارى: عن عبد اللّه بن الزبير: أنه قدم ركب من بنى تميم على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافى. قال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل فى ذلك: يا أَيُّهَا __________ (١) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢١) . (٢) سورة الحجرات: ٤. (٣) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٥/ ٣١٣- ٣١٤) . الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّه وَرَسُولِهِ.... (١) حتى انقضت (٢) . أى لا تقدموا القضاء فى أمر قبل أن يحكم اللّه ورسوله فيه. ولما نزل لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ (٣) أقسم أبو بكر لا يتكلم بين يدى رسول اللّه إلا كمن يسارر صاحبه، فنزل فيه وفى أمثاله إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّه (٤) الآية. ثم بعث الوليد بن عقبة بن أبى معيط إلى بنى المصطلق من خزاعة يصدقهم، وكان بينه وبينهم عداوة فى الجاهلية. وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنو الوليد خرج منهم عشرون رجلا يتلقونه بالجزر والغنم، فرحا به وتعظيما للّه ولرسوله، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله. فرجع من الطريق قبل أن يصلوا إليه، وأخبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنهم لقوة بالسلاح يحولون بينه وبين الصدقة. فهمّ- صلى اللّه عليه وسلم- أن يبعث إليهم من يغزوهم. وبلغ ذلك القوم، فقدم عليه الركب الذين لقوا الوليد، فأخبروا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الخبر على وجهه، فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ... (٥) . إلى آخر الآية، فقرأ عليهم- صلى اللّه عليه وسلم- القرآن. وبعث معهم عباد بن بشر يأخذ صدقات أموالهم ويعلمهم شرائع الإسلام ويقرئهم القرآن. وفى (شرف المصطفى) للنيسابورى، مما ذكره مغلطاى أنه- عليه الصلاة والسلام- بعث عبد اللّه بن عوسجة إلى بنى عمرو بن حارثة، وقيل حارثة بن عمر- قال: وهو الأصح- فى مستهل صفر يدعوهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا بالصحيفة فدعا عليهم- صلى اللّه عليه وسلم- بذهاب العقل، فهم إلى أهل رعدة وعجلة وكلام مختلط. __________ (١) سورة الحجرات: ١. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٦٧) فى المغازى، باب: رقم (٦٨) . (٣) سورة الحجرات: ٢. (٤) سورة الحجرات: ٣. (٥) سورة الحجرات: ٦. ثم سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم (١) ، من تربة- بفتح الراء- من أعمال مكة سنة تسع، وبعث معه عشرين رجلا، وأمره أن يشن الغارة عليهم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى فى الفريقين جميعا، وقتل قطبة من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة. وكانت سهمانهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم بعد أن أخرج الخمس. ثم سرية الضحاك بن سفيان الكلابى إلى بنى كلاب (٢) ، فى ربيع الأول سنة تسع، إلى القرطاء، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم وغنموهم. ثم سرية علقمة بن مجرز المدلجى إلى طائفة من الحبشة (٣) فى ربيع الآخر، وقال الحاكم فى صفر سنة تسع. وذكر ابن سعد أن سبب ذلك: أنه بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدة، فبعث إليهم بن مجزز فى ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة فى البحر، فلما خاض البحر إليهم هربوا. فلما رجع، بعض القوم ألى أهليهم، فأمر عبد اللّه بن حداقة على من تعجل، وكانت فيه دعابة، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال عزمت عليكم إلا تواثبتم فى هذه النار، فلما همّ بعضهم بذلك قال: اجلسوا، إنما كنت أمزح. فذكروا ذلك للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه. ورواه الحاكم وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبى سعيد الخدرى. وبوب عليه البخارى ف قال: سرية عبد اللّه بن حذافة السهمى وعلقمة بن مجزز المدلجى، وي قال: إنها سرية الأنصارى. ثم روى حديثا عن على قال: __________ (١) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٢) . (٢) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٣) . (٣) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٣) . بعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم- سرية، فاستعمل رجلا من الأنصار. وأمرهم أن يطيعوه، فغضب فقال: أليس قد أمركم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن تطيعونى؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوا، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا يقولون: فررنا إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: (لو دخلوها ما خرجوا منها) (١) . قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: فى قوله: (ويقال إنها سرية الأنصارى) إشارة إلى احتمال تعدد القصة، وهو الظاهر لاختلاف سياقهما واسم أميرهما. ويحتمل الجمع بينها بضرب من التأويل، ويبعده وصف عبد اللّه بن حذافة السهمى القريشى المهاجرى بكونه أنصاريّا. ويحتمل أن يكون الحمل على المعنى الأعم، أى أنه نصر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الجملة. وإلى التعدد جنح ابن القيم، وأما ابن الجوزى فقال: قوله (من الأنصار) وهم من بعض الرواة، وإنما هو سهمى. قال فى فتح البارى: ويؤيد حديث ابن عباس عند أحمد، فى قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (٢) . نزلت فى عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عدى، بعثه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى سرية. انتهى. وقال النووى: وهذا الذى فعله هذا الأمير، قيل: أراد امتحانهم، وقيل: كان مازحا، وقيل: إن هذا الرجل عبد اللّه بن حذافة السهمى، قال: وهذا ..... لأنه قال فى الرواية التى بعدها إنه رجل من الأنصار، فدل على أنه غيره. انتهى. ثم سرية على بن أبى طالب إلى الفلس (٣) - بضم الفاء وسكون اللام- __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٤٠) فى المغازى، باب: سرية عبد اللّه بن حذافة السهمى وعلقمة بن مجزر المدلجى، ومسلم (١٨٤٠) فى الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء فى غير معصية وتحريمها فى المعصية. (٢) سورة النساء: ٥٩. (٣) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٤) . وهو صنم طيىء ليهدمه، فى ربيع الآخر سنة تسع، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسا- وعند ابن سعد: مائتى رجل- فهدمه وغنم سبيا ونعما وشاء. وكان فى السبى سفانة بنت حاتم، أخت عدى بن حاتم، فأطلقها النبى صلى اللّه عليه وسلم-، فكان ذلك سبب إسلام عدى. وعند ابن سعد أيضا: أن الذى كان سباها خالد بن الوليد- رضى اللّه عنه-. ثم سرية عكاشة بن محصن إلى الجباب (١) - موضع بالحجاز- أرض عذرة وبلى، وقيل أرض فزارة وكلب ولعذرة فيها شركة. قصة كعب بن زهير مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- (٢) ، وكانت فيما بين رجوعه صلى اللّه عليه وسلم- من الطائف وغزوة تبوك. وكان من خبر كعب وأخيه بجير ما ذكره ابن إسحاق وعبد الملك بن هشام وأبو بكر محمد بن القاسم بن يسار بن الأنبارى، دخل حديث بعضهم فى حديث البعض: أن بجيرا قال لكعب: اثبت حتى آتى هذا الرجل- يعنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأسمع كلامه وأعرف ما عنده، فأقام كعب ومضى بجيرا، فأتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فسمع كلامه فامن به.. وذلك أن زهيرا فيما زعموا كان يجالس أهل الكتاب فسمع منهم أنه قد آن مبعثه- صلى اللّه عليه وسلم-، ورأى زهير فى منامه أنه قد مد سبب من السماء، وأنه قد مد يده ليتناوله، ففاته فأوله بالنبى الذى يبعث فى آخر الزمان، وأنه لا يدركه، وأخبر بنيه بذلك، وأوصاهم إن أدركوه أن يسلموا. قال ابن إسحاق: ولما قدم- صلى اللّه عليه وسلم- من الطائف، كتب بجيرا بن زهير إلى أخيه كعب: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه، وإن من بقى من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كل __________ (١) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٤) . (٢) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٥٠١- ٥١٥) . وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن كنت لم تفعل فانج إلى نجائك. وكان كعب قد قال: ألا بلغا عنى بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا فبين لنا إن كنت لست بفاعل ... على أى شىء غير ذلك دلكا على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولا تلقى عليه أخا لكا فإن أنت لم تفعل فلست باسف ... ولا قائل إما عثرت لعا لكا سقاك بها المأمون كأسا رويّة ... فأنهلك المأمون منها وعلّكا (١) قال السهيلى: (لعا) كلمة تقال للعاثر دعاء له. انتهى. قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأنشده إياها. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: سقاك بها المأمون. صدق وإنه لكذوب، وأنا المأمون.. ولما سمع: على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه، قال: أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه. ثم قال- عليه الصلاة والسلام-: من لقى منكم بن زهير فليقتله.. فكتب إليه أخوه بهذه الأبيات: من مبلغ كعبا فهل لك فى التى ... تلوم عليها باطلا وهى أحزم إلى اللّه لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم فدين زهير وهو لا شىء دينه ... ودين أبى سلمى على محرم فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان فى حاضره من عدوه ف قال: هو مقتول. فلما لم يجد من شىء بدا، قال قصيدته التى يمدح بها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ويذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه. __________ (١) كأسا روية: أى مروية، والنّهل: الشرب الأول، والعلل: الشرب الثانى، والمأمون: يقصد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما كانت تسميه به قريش الصادق الأمين. ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: هذا رسول اللّه فقم إليه واستأمنه، فقام حتى جلس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فوضع يده فى يده- وكان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يعرفه- ف قال: يا رسول اللّه، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-: (نعم) قال: أنا يا رسول اللّه كعب بن زهير. قال ابن إسحاق: فحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة: أنه وثب عليه رجل من الأنصار و قال: يا رسول اللّه دعنى وعدو اللّه أضرب عنقه. فقال صلى اللّه عليه وسلم-: (دعه عنك فقد جاء تائبا نازعا) (١) . قال: فغضب كعب على هذا الحى من الأنصار لما صنع صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير. ثم قال قصيدته اللامية التى أولها: بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول ومنها: أنبئت أن رسول اللّه أوعدنى ... والعفو عند رسول اللّه مأمول مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ال ... قرآن ولو كثرت فى الأقاويل إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف اللّه مسلول فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل وفى رواية أبى بكر بن الأنبارى أنه لما وصل إلى قوله: إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف اللّه مسلول رمى- عليه الصلاة والسلام- إليه بردة كانت عليه. وأن معاوية بذل __________ (١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٦٧٤) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٩/ ١٧٦) ، وهو منقول هذا الكلام بتمامه من (زاد المعاد) لابن القيم (٣/ ٥٢٠- ٥٢٦) . فيها عشرة آلاف فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحدا، فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم. قال: وهى البردة التى عند السلاطين إلى اليوم. قال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب: (إذا عرد السود التنابيل) وإنما عنى معشر الأنصار، لما كان صاحبهم صنع به، وخص المهاجرين بمدحته فغضب عليه الأنصار، فقال بعد أن أسلم- يمدح الأنصار- قصيدته التى يقول فيها: من سره كرم الحياة فلا يزل ... فى مقنب من صالحى الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيارهم بنو الأخيار المكرهين السمهرى بأدرع ... كسوالف الهندى غير قصار والناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الأبصار والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقارى وقد كان كعب بن زهير من فحول الشعراء، وأبوه وابنه عقبة وابن ابنه العوام بن عقبة. |