١-٢ [غزوة قرقرة الكدر]وفى أول شوال صلى صلاة الفطر. وفى أول شوال أيضا- وقيل بعد بدر بسبعة أيام، وقيل فى نصف المحرم سنة ثلاث- خرح النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يريد بنى سليم، فبلغ ماء يقال له الكدر، وتعرف بغزوة قرقرة، وهى أرض ملساء. والكدر: طير فى ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع. فأقام بها- عليه السّلام- ثلاثا، وقيل عشرا، فلم يلق أحدا. وكانت غيبته صلى اللّه عليه وسلم- خمس عشرة ليلة، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، وقيل ابن أم مكتوم، وحمل اللواء على بن أبى طالب. وذكرها ابن سعد بعد غزوة السويق. ثم سرية سالم بن عمير إلى أبى عفك اليهودى- وكان شيخا كبيرا، قد بلغ عشرين ومائة سنة- وكان يحرض على النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، ويقول فيه الشعر، فأقبل إليه سالم ووضع سيفه على كبده ثم اعتمد عليه حتى خش فى الفراش، فصاح عدو اللّه أبو عفك. فثار إليه أناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله فقتل. وكانت هذه السرية فى شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. ثم غزوة بنى قينقاع- بتثليث النون، والضم أشهر- بطن من يهود المدينة، لهم شجاعة وصبر. وكانت يوم السبت نصف شوال، على رأس عشرين شهرا من الهجرة. وقد كانت الكفار بعد الهجرة مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- على ثلاثة أقسام: * قسم وادعهم- صلى اللّه عليه وسلم- على ألايحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدوه وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وبنو قينقاع. * وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش. * وقسم تركوه، وانتظروا ما يئول إليه أمره، كطوائف من العرب. فمنهم من كان يحب ظهوره فى الباطن كخزاعة. وبالعكس كبنى بكر. ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا، وهم المنافقون. وكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم- صلى اللّه عليه وسلم- فى شوال بعد وقعة بدر. قال الواقدى بشهر. وأغرب الحاكم، فزعم أن إجلاء بنى قينقاع وإجلاء بنى النضير كان فى زمن واحد، ولم يوافق على ذلك، لأن إجلاء بنى النضير كان بعد بدر بستة أشهر، على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق. وكان من أمر بنى قينقاع، أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ يهودى، فراودها على كشف وجهها، فأبت فعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، ووقع الشر بين المسلمين وبين بنى قينقاع. فسار إليهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد أن استخلف أبا لبابة بن عبد المنذر. فحاصرهم أشد الحصار، خمس عشرة ليلة إلى هلال ذى العقدة، وكان اللواء بيد حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، فقذف اللّه فى قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، على أن لهم أموالهم، وأن لهم النساء والذرية. فأمر- عليه الصلاة والسلام- المنذر بن قدامة بتكتيفهم. وكلم عبد اللّه بن أبى ابن سلول رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فيهم، وألح عليه من أجلهم. فأمر- صلى اللّه عليه وسلم- أن يجلوا، وتركهم من القتل، وأمر أن يجلوا من المدينة، فلحقوا بأذرعات. فما كان أقل بقاءهم فيها. وأخذ من حصنهم سلاحا وآلة كثيرة. وكانت بنو قينقاع حلفاء لعبد اللّه بن أبى، وعبادة بن الصامت، فتبرأ عبادة من حلفهم، ف قال: يا رسول اللّه، أتبرأ إلى اللّه وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى اللّه ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفى عبد اللّه أنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. إلى قوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْغالِبُونَ (١) (٢) . ثم غزوة السويق (٣) فى ذى الحجة، يوم الأحد لخمس خلون منها، على رأس اثنين وعشرين شهرا من الهجرة، وقال ابن إسحاق فى صفر. وسميت: غزوة السويق، لأنه كان أكثر زاد المشركين، وغنمه المسلمون. واستخلف أبا لبابة. وكان سبب هذه الغزوة أن أبا سفيان حين رجع بالعير من بدر إلى مكة نذر لا يمس النساء والدهن حتى يغزو محمدا- عليه السّلام- فخرج فى مائتى راكب من قريش ليبر يمينه، حتى أتوا العريض- ناحية من المدينة على ثلاثة أميال- فحرقوا نخلا وقتلوا رجلا من الأنصار، فرأى أبو سفيان أن قد انحلت يمينه، فانصرف بقومه راجعين. وخرج- صلى اللّه عليه وسلم- فى طلبهم، فى مائتين من المهاجرين والأنصار، وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق- وهى عامة أزوادهم- يتخففون للّهرب، فيأخذها المسلمون، ولم يلحقهم- عليه الصلاة والسلام-، فرجع إلى المدينة. __________ (١) سورة المائدة: ٥١- ٥٦. (٢) انظر غزوة بنى قينقاع فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ١٧) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٢٨) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ٥) . (٣) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٤٤ و ٤٥) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٣٠) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٢/ ٥٢٠) إلا أن بعض المؤرخين جعلها قبل غزوة بنى النضير. وكانت غيبته خمسة أيام. وفى ذى الحجة صلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- صلاة العيد وأمر بالأضحية. وفيه مات عثمان بن مظعون. وفى شوال ولد عبد اللّه بن الزبير. وفى هذه السنة تزوج علىّ فاطمة- رضى اللّه عنهما-، كما قاله الحافظ مغلطاى. وقال الطبرى فى كتابه (ذخائر العقبى فى مناقب ذوى القربى) : تزوجها فى صفر فى السنة الثانية، وبنى بها فى ذى الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من التاريخ. وقال أبو عمر بعد وقعة أحد. وقال غيره: بعد بنائه- صلى اللّه عليه وسلم- بعائشة- رضى اللّه عنها- بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف. وتزوجها وهى ابنة خمس عشرة سنة وخمسة أشهر- أو ستة ونصف- وسنه يومئذ إحدى وعشرون سنه وخمسة أشهر. ولم يتزوج عليها حتى ماتت. وعن أنس قال: جاء أبو بكر ثم عمر يخطبان فاطمة إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فسكت ولم يرجع إليهما شيئا، فانطلقا إلى على يأمرانه بطلب ذلك. قال على: فنبهانى لأمر، فقمت أجر ردائى حتى أتيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. فقلت: تزوجنى فاطمة؟ قال: (وعندك شىء) قلت: فرسى وبدنى (١) ، ف قال: (أما فرسك فلا بد لك منها وأما بدنك فبعها) ، فبعتها بأربعمائة درهم وثمانين، فجئته بها، فوضعها فى حجره، فقبض منها قبضة و قال: (أى بلال: ابتع لنا بها طيبا) . وأمرهم أن يجهزوها، فجعل لها سرير مشرّط، ووسادة من أدم حشوها ليف. وقال لعلى: (إذا أتتك فلا تحدث شيئا حتى آتيك) . __________ (١) أى: ناقتى. فجاءت أم أيمن حتى قعدت فى جانب البيت وأنا فى جانب، وجاء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: (هاهنا أخى) ، قالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك؟ قال: (نعم) . ودخل- صلى اللّه عليه وسلم- فقال لفاطمة: (ائتنى بماء) ، فقامت إلى قعب فى البيت فأتت فيه بماء فأخذه ومج فيه ثم قال لها: (تقدمى) فتقدمت، فنضح بين ثدييها وعلى رأسها و قال: (اللّهم إنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) . ثم قال لها: (أدبرى) فأدبرت فصب بين كتفيها. ثم فعل مثل ذلك بعلى. ثم قال: (ادخل بأهلك بسم اللّه والبركة) (١) . أخرجه أبو حاتم، وأحمد فى المناقب بنحوه. وفى حديث أنس عند أبى الخير القزوينى الحاكمى: خطبها على بعد أن خطبها أبو بكر ثم عمر فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (قد أمرنى ربى بذلك) . قال أنس: ثم دعانى- عليه السّلام- بعد أيام فقال لى يا أنس: (ادع لى أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن وعدة من الأنصار) ، فلما اجتمعوا وأخذوا مجالسهم وكان على غائبا فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (الحمد للّه المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرهوب من عذابه وسطوته، النافذ أمره فى سمائه وأرضه، الذى خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد- صلى اللّه عليه وسلم-. إن اللّه تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سببا لا حقا، وأمرا مفترضا، أوشج به الأرحام، وألزم به الأنام، فقال عز من قائل وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٢) . فأمر اللّه تعالى يجرى إلى قضائه، وقضاؤه يجرى إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. ثم إن اللّه عزّ وجل أمرنى أن أزواج فاطمة من على بن أبى طالب، فاشهدوا أنى قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضى بذلك على) . __________ (١) إسناده ..... ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٩/ ٢٠٥) وقال: رواه الطبرانى، وفيه يحيى ابن يعلى الأسلمى، وهو ...... (٢) سورة الفرقان: ٥٤. ثم دعا- صلى اللّه عليه وسلم- بطبق من بسر ثم قال: انتهبوا فانتهبنا. ودخل على فتبسم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى وجهه ثم قال: (إن اللّه عزّ وجل أمرنى أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت بذلك؟) ، فقال قد رضيت بذلك يا رسول اللّه، فقال- عليه السّلام-: (جمع اللّه شملكما وأعز جدكما، وبارك عليكما، وأخرج منكما كثيرا طيبا) . قال أنس: فو اللّه لقد أخرج اللّه منهما الكثير الطيب. والعقد لعلى وهو غائب محمول على أنه كان له وكيل حاضر، أو على أنه لم يرد به العقد، بل إظهار ذلك، ثم عقد معه لما حضر، أو على تخصيصه بذلك، جمعا بينه وبين ما ورد، مما يدل على شرط القبول على الفور. وأخرج الدولابى، عن أسماء قالت: لقد أولم على على فاطمة، فما كان وليمة فى ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن درعه عند يهودى بشطر شعير، وكانت وليمته آصعا من شعير وتمر وحيس. والحيس: التمر والأقط. وأخرج أحمد فى المناقب عن على: كان جهاز فاطمة خميلة وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف. ثم سرية محمد بن مسلمة وأربعة معه إلى كعب بن الأشرف اليهودى، لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. روى أبو داود والترمذى من طريق الزهرى عن عبد الرحمن بن عبد اللّه ابن كعب بن مالك عن أبيه: أن كعب بن الأشرف كان شاعرا، وكان يهجو رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ويحرض عليه كفار قريش. وكان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قدم المدينة وأهلها أخلاط، فأراد استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى، فأمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالصبر. فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذاه، أمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه (١) . وفى رواية قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (من لنا بابن الأشرف؟) - وفى أخرى: (من لكعب بن الأشرف) أى من ينتدب لقتله- (فقد استعلن بعداوتنا وهجانا، وقد خرج إلى قريش فجمعهم إلى قتالنا. وقد أخبرنى اللّه بذلك) . ثم قرأ على المسلمين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّه (٢) . وفى الإكليل: فقد آذانا بشعره، وقوى المشركين. وفى رواية ابن إسحاق: فقال محمد بن مسلمة، أخو بنى عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول اللّه، أنا أقتله، قال: (فافعل إن قدرت على ذلك) . قال: يا رسول اللّه إنه لابد لنا أن نقول، قال: (قولوا ما بدا لكم فأنتم فى حل من ذلك) . فاجتمع فى قتله محمد بن مسلمة وأبو نائلة- بنون وبعد الألف تحتانية- سلكان بن سلامة- وكان أخا كعب من الرضاعة- وعبادة بن بشر، والحارث ابن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وهؤلاء الخمسة من الأوس. وفى رواية ابن سعد: فلما قتلوه وبلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام عليه السّلام- تلك الليلة يصلى، فلما سمع تكبيرهم كبر وعرف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إليه فقال: (أفلحت الوجوه) . قالوا: أفلح وجهك يا رسول اللّه، ورموا برأسه بين يديه، فحمد اللّه على قتله (٣) . __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٣٠٠٠) فى الخراج والإمارة والفىء، باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة، وانظر أيضا صحيح البخارى (٢٥١٠ و ٣٠٣١ و ٣٠٣٣ و ٤٠٣٧) ، ومسلم (١٨٠١) ، وأبو داود (٢٧٦٨) . (٢) سورة النساء: ٥١، ٥٢. (٣) إسناده ..... ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ١٩٨) و قال: رواه أبو يعلى، وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وهو ...... وفى كتاب (شرف المصطفى) أن الذين قتلوا كعبا حملوا رأسه فى مخلاة إلى المدينة، فقيل إنه أول رأس حمل فى الإسلام. وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس فجرح ونزف الدم فتفل عليه على جرحه فلم يؤذه بعد. غزوة غطفان: وهى غزوة ذى أمر- بفتح الهمزة والميم- وسماها الحاكم غزوة أنمار. وهى بناحية نجد. وكانت لثنتى عشرة مضت من ربيع الأول على رأس خمس وعشرين شهرا من الهجرة. وسببها: أن جمعا من بنى ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة، جمعهم دعثور بن الحارث المحاربى- وسماه الخطيب: غورث، وغيره: غورك- وكان شجاعا. فندب- صلى اللّه عليه وسلم- المسلمين وخرج فى أربعمائة وخمسين فارسا، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. فلما سمعوا بمهبطه- صلى اللّه عليه وسلم- عليهم هربوا فى رؤس الجبال، فأصابوا رجلا منهم يقال له: حبان من بنى ثعلبة، فأدخل على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فدعاه إلى الإسلام فأسلم، وضمه إلى بلال. وأصاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مطر فنزع ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع تحتها، وهم ينظرون، فقالوا لدعثور: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه سيف حتى قام على رأسه-صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: من يمنعك منى اليوم؟ فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (اللّه) فدفع جبريل فى صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: (من يمنعك منى؟) ف قال: لا أحد، وأنا أشهد ألاإله إلا اللّه وأنك رسول اللّه. ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام. وأنزل اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ (١) الآية(٢) . __________ (١) سورة المائدة: ١١. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٩١٠) فى الجهاد والسير، باب: من علق سيفه بالشجر عند القائلة، ومسلم (٨٤٣) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، وفى الفضائل، باب: - ويقال كان ذلك فى ذات الرقاع (١) . ثم رجع- صلى اللّه عليه وسلم- ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة. غزوة بحران: (٢) وتسمى غزوة بنى سليم، من ناحية الفرع- بفتح الفاء والراء- كما قيده السهيلى، وقال فى القاموس: وبحران موضع بناحية الفرع، كذا رأيته بخطه بضم الفاء لا غير. وسببها: أنه بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- أن بها جمعا كبيرا من بنى سليم، فخرج فى ثلاثمائة رجل من أصحابه، فوجدهم قد تفرقوا فى مياههم، فرجع ولم يلق كيدا. وكان قد استعمل على المدينة ابن أم مكتوم، كما قاله ابن هشام، وكانت غيبته عشر ليال. سرية زيد بن حارثة إلى القردة: - بالقاف المفتوحة وسكون الراء، وقيل بالفاء وكسر الراء، كما ضبطه ابن الفرات- اسم ماء من مياه نجد. وسببها: - كما قال ابن إسحاق- أن قريشا خافوا من طرقهم التى يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعهم فضة كثيرة. وعند ابن سعد: بعثه- صلى اللّه عليه وسلم- لهلال جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، فى مائة راكب يعترض عيرا لقريش فيها صفوان ابن أميه وحويطب بن عبد العزى، ومعهم مال كثير وآنية فضة. فأصابوها وقدموا بالعير على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وخمسها فبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم. __________ - توكله على اللّه تعالى، وعصمة اللّه تعالى له من الناس، وأحمد فى (مسنده) (٣/ ٣١١) من حديث جابر- رضى اللّه عنه-، ولكن بدون ذكر اسم الرجل. (١) قلت: وهو الصحيح، حديث ذكره البخارى فى أحداث تلك الغزوة. (٢) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٤٣ و ٤٦) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٣٤ و ٣٦) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٢/ ٥٥٣٩) (٣/ ٤، ٥) . وعند مغلطاى: خمسة وعشرين ألف درهم. وذكرها ابن إسحاق قبل قتل ابن الأشرف. ثم غزوة أحدوهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها. وسمى بذلك لتوحده وانقطاعه عن جبال أخر هناك، ويقال له: ذو عينين، قال فى القاموس: بكسر العين وبفتحها مثنى، جبل بأحد. انتهى. وهو الذى قال فيه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أحد جبل يحبنا ونحبه) (١) . وقيل: وفيه قبر هارون، أخى موسى، - عليهما السلام-. وكانت عنده الوقعة المشهورة، فى شوال سنة ثلاث بالاتفاق، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه- وقيل لسبع ليال خلون منه، وقيل فى نصفه. وعن مالك: بعد بدر بسنة، وعنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة. وكان سببها: كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة وابن سعد، قالوا- أو من قال منهم- ما حاصله. إن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بعيره، قال عبد اللّه بن أبى ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل، فى جماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه- يعنون عير أبى سفيان، ومن كانت له فى تلك العير تجارة- لعلنا أن ندرك به ثأرنا. فأجابوا لذلك، فباعوها وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٨٢) فى الزكاة، باب: خرص التمر، ومسلم (١٣٩٢) فى الحج، باب: أحد جبل يحبنا ونحبه، وفى الفضائل، باب: فى معجزات النبى صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى اللّه عنه-، وهو فى الصحيحين أيضا من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. وفيهم- كما قال ابن إسحاق وغيره- أنزل اللّه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ (١) . واجتمعت قريش لحرب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. وكتب العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادى من قبل أحد مقابل المدينة. وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر. وأرى- صلى اللّه عليه وسلم- ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: (إنى واللّه قد رأيت خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة، فأما البقر فناس من أصحابى يقتلون، وأما الثلم الذى رأيت فى سيفى فهو رجل من أهل بيتى يقتل) (٢) . وقال ابن عقبة، ويقول رجال: كان الذى بسيفه ما قد أصاب وجهه، فإن العدو أصابوا وجهه الشريف- صلى اللّه عليه وسلم- يومئذ، وكسروا رباعيته، وجرحوا شفته. وفى رواية قال- عليه الصلاة والسلام-: (وأولت الدرع الحصينة بالمدينة فامكثوا فإن دخل القوم الأزفة قاتلناهم، ورموا من فوق البيوت) (٣) . فقال أولئك القوم: يا رسول اللّه، كنا نتمنى هذا اليوم، أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم. فصلى- صلى اللّه عليه وسلم- بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك. __________ (١) سورة الأنفال: ٣٦. (٢) أخرجه ابن هشام فى (سيرته) (٢/ ٦٣ و ٦٦) عن ابن إسحاق عن الزهرى وغيره مرسلا، وبنحوه أخرجه أحمد (٣/ ٣٥١) ، والدارمى فى (سننه) (٢١٥٩) من حديث جابر رضى اللّه عنه-. (٣) انظر ما قبله. ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ثم دخل صلى اللّه عليه وسلم- بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر- رضى اللّه عنهما-، فعمماه وألبساه. وصف الناس ينتظرون خروجه- عليه السّلام-، فقال سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على الخروج، فردوا الأمر إليه، فخرج صلى اللّه عليه وسلم- وقد لبس لأمته- وهى بالهمزة وقد يترك تخفيفا: الدرع- وتقلد سيفه، فندموا جميعا على ما صنعوا، فقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت. ف قال: (ما ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم اللّه بينه وبين عدوه) (١) . وفى حديث ابن عباس عند أحمد والنسائى والطبرانى، وصححه الحاكم: نحو حديث ابن إسحاق، وفيه إشارة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إليهم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج لطلب الشهادة، ولبسه للأمته، وندامتهم على ذلك وقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل) وفيه: (إنى رأيت أنى فى درع حصينة) الحديث (٢) . وعقد- عليه السّلام- ثلاثة ألوية: لواء بيد أسيد بن حضير. ولواء للمهاجرين بيد على بن أبى طالب وقيل بيد مصعب بن عمير. ولواء للخزرج بيد الحباب بن المنذر وقيل بيد سعد بن عبادة. وفى المسلمين مائة دارع. وخرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، دارعين (٣) . واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة. __________ (١) هو قطعة من حديث جابر المتقدم. (٢) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٢٧١) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ١٤١) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٧/ ٤١) ، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى. (٣) أى: مرتدين دروعهم. وأدلج- عليه السّلام- فى السحر، وكان قد رد جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم: أسامة، وابن عمر، وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدرى. والنعمان بن بشير. قال مغلطاى: وفيه نظر. وكان المسلمون ألف رجل، وي قال: تسعمائة، والمشركون ثلاثة آلاف رجل فيهم سبعمائة دارع ومائتا فرس، وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة. ونزل- عليه السّلام- بأحد ورجع عنه عبد اللّه بن أبى فى ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق. وي قال: إن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أمرهم بالانصراف لكفرهم بمكان يقال له الشوط، وقيل بأحد. ثم صف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة. قال ابن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبى جهل. وجعل- صلى اللّه عليه وسلم- على الرماة- وهم خمسون رجلا- عبد اللّه بن جبير، و قال: (إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم) (١) . كذا فى البخارى من حديث البراء. وفى حديث ابن عباس عند أحمد والطبرانى والحاكم: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أقامه فى موضع ثم قال: (احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا) (٢) . قال ابن إسحاق: وقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من يأخذ هذا السيف بحقه) . فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك، ف قال: وما حقه يا رسول اللّه؟ __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٣٩) فى الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف فى الحرب. (٢) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٢٨٧) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٣٢٤) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٠/ ٣٠١) . قال: (أن تضرب به فى وجه العدو حتى ينحنى) ، قال: أنا آخذه بحقه يا رسول اللّه، فأعطاه إياه، وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه- صلى اللّه عليه وسلم- يتبختر قال: (إنها لمشية يبغضها اللّه إلا فى مثل هذا الموطن) . قال الزبير بن العوام- فيما قاله ابن هشام- فقلت واللّه لأنظرن ما يصنع أبو دجانة. فاتبعته فأخذ عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت فخرج وهو يقول: أنا الذى عاهدنى خليلى ... ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدهر فى الكيّول ... أضرب بسيف اللّه والرسول فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله (١) . وقوله: فى الكيول- بفتح الكاف وتشديد المثناة التحتية- مؤخر الصفوف. وهو: فيعول من كال الزند يكيل كيلا إذا كبا ولم يخرج نارا، فشبه مؤخر الصفوف به لأن من كان فيه لا يقاتل. قال أبو عبيدة: ولم يسمع إلا فى هذا الحديث. وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف. والتقى حنظلة الغسيل وأبو سفيان فضربه شداد بن أوس فقتله فقال صلى اللّه عليه وسلم-: (إن حنظلة لتغسله الملائكة) ، فسألوا امرأته جميلة أخت عبد اللّه ابن أبى فقالت: خرج وهو جنب فقال- عليه السّلام-: (لذلك غسلته الملائكة) (٢) . __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٤٧٠) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى دجانة سماك ابن خرشة- رضى اللّه عنه-، وأحمد فى (مسنده) (٣/ ١٢٣) ، والحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٢٥٥) ، من حديث أنس- رضى اللّه عنه- مختصرا، وهو عند الحاكم (٣/ ٢٥٦) مطولا من حديث الزبير بن العوام- رضى اللّه عنه-. (٢) أخرجه الحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٢٢٥) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٤/ ١٥) ، وفى (الدلائل) (٣/ ٢٤٦) من حديث عبد اللّه بن الزبير- رضى اللّه عنه-. وبذلك تمسك من قال من العلماء: إن الشهيد يغسل إذا كان جنبا. وقتل على طلحة بن أبى طلحة، صاحب لواء المشركين، ثم حمل لواءهم عثمان بن أبى طلحة، فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه. ثم أنزل اللّه نصره على المسلمين فحسوا الكفار بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة، فولى الكفار لا يلوون على شىء، ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم. ووقعوا ينهبون العسكر ويأخذون ما فيه من الغنائم. وفى البخارى: قال البراء: فقال أصحاب عبد اللّه بن جبير: أى قوم، الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون، فقال عبد اللّه بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-؟ قالوا: واللّه لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين (١) . وفى حديث عائشة عند البخارى أيضا: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أى عباد اللّه أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت مع أخراهم (٢) . وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس: أنهم لما رجعوا اختلطوا بالمشركين والتبس العسكران فلم يتميزوا، فوقع القتل فى المسلمين بعضهم فى بعض (٣) . وفى رواية غيرهما: ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبى جهل فحملوا على من بقى من النفر الرماة فقتلوهم وأميرهم عبد اللّه بن جبير. وفى البخارى: أنهم لما اصطفوا للقتال، خرج سباع ف قال: هل من __________ (١) هو الذى عند البخارى برقم (٣٠٣٩) وقد تقدم قريبا. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٢٩٠) فى بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده. (٣) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٢٨٧) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٣٢٤) ، وقد تقدم قريبا. مبارز، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فشد عليه فكان كأمس الدابر، وكان وحشى كامنا تحت صخرة، فلما دنا منه رماه بحربته حتى خرجت من بين وركيه فكان آخر العهد به (١) . انتهى. وكان مصعب بن عمير قاتل دون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى قتل، وكان الذى قتله ابن قمئة، وهو يظنه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فصاح ابن قمئة إن محمدا قتل. ويقال كان ذلك إزب العقبة، وي قال: بل هو إبليس- لعنه اللّه- تصور فى صورة جعال. وقال قائل: أى عباد اللّه أخراكم، أى: احترزوا من جهة أخراكم فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل. قال موسى بن عقبة: ولما فقد- عليه السّلام-، قال رجل منهم: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلوا البيوت. وقال رجال منهم: إن كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قتل أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا اللّه عز وجل شهداء. منهم أنس بن مالك بن النضر شهد له بها عند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سعد بن معاذ. قال فى (عيون الأثر) : كذا وقع فى هذا الخبر: أنس بن مالك، وإنما هو أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر. انتهى. وثبت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى انكشفوا عنه، وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق، وسبعة من الأنصار. وفى البخارى: لم يبق معه- عليه الصلاة والسلام- إلا اثنا عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيرا وسبعين قتيلا. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٠٧٢) فى المغازى، باب: قتل حمزة بن عبد المطلب رضى اللّه عنه-. فقال أبو سفيان: أفى القوم محمد، ثلاث مرات، فنهاهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يجيبوه، ثم قال: أفى القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات، ثم قال: أفى القوم ابن الخطاب ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه ف قال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه ف قال: كذبت يا عدو اللّه، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وبقى لك ما يسوؤك، قال: يوم بيوم، والحرب سجال (١) . وتوجه- صلى اللّه عليه وسلم- يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته (٢) ، والذى جرح وجهه عبد اللّه بن قمئة، وعتبة بن أبى وقاص أخو سعد هو الذى كسر رباعيته، ومن ثم لم يولد من نسله ولد يبلغ الحنث إلا وهو أبخر أو أهتم- أى مكسور الثنايا من أصلها- يعرف ذلك فى عقبة. وقال ابن هشام، فى حديث أبى سعيد الخدرى: إن عتبة بن أبى وقاص رمى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد اللّه بن هشام الزهرى شجه فى جبهته وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر فى وجنته، ووقع- صلى اللّه عليه وسلم- فى حفرة من الحفر التى كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين. وفى رواية: وهشموا البيضة على رأسه (٣) - أي كسروا الخوذة- ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه فى حفرة من الحفر التى حفرها أبو عامر، فأخذ على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد اللّه حتى استوى قائما، ونشبت حلقتان من المغفر فى وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما فى وجهه. وامتص مالك بن سنان- والد أبى سعيد الخدرى- الدم من وجنته ثم __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٣٩) فى الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف فى الحرب، من حديث البراء بن عازب- رضى اللّه عنه-. (٢) الرباعية: هى السن التى بين مقدم الأسنان والناب، والحديث أخرجه مسلم (١٧٩٠) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-. (٣) انظر الحديث السابق. ازدرده، فقال له- صلى اللّه عليه وسلم-: من مس دمى دمه لم تصبه النار، وسيأتى- إن شاء اللّه تعالى- حكم دمه- عليه السّلام-. وفى الطبرانى من حديث أبى أمامة قال: رمى عبد اللّه بن قمئة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم أحد فشج وجهه وكسر رباعيته ف قال: خذها وأنا ابن قميئة، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يمسح الدم عن وجهه: (أقمأك اللّه) فسلط اللّه عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة (١) . وروى ابن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعيته صلى اللّه عليه وسلم- يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسحه ويقول (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم) فأنزل اللّه تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (٢) (٣) . ورواه أحمد والترمذى والنسائى من طريق حميد به. وعند ابن عائذ من طريق الأوزاعى: بلغنا أنه لما خرج- صلى اللّه عليه وسلم- يوم أحد، أخذ شيئا فجعل ينشف دمه و قال: لو وقع منه شىء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء، ثم قال: (اللّهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون) (٤) . وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى قال: ضرب وجه النبى صلى اللّه عليه وسلم- يومئذ بالسيف سبعين ضربة، ووقاه اللّه شرها كلها. قال فى فتح البارى: وهذا مرسل قوى، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة، انتهى. وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد- فيما قاله ابن __________ (١) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (٨/ ١٣٠) ، وفى (مسند الشاميين) (٤٥٣) وانظر (الفتح) للحافظ ابن حجر (٧/ ٣٦٦- ٣٦٧) . (٢) سورة آل عمران: ١٢٨. (٣) صحيح: وهو عند البخارى (٧/ ٤٢٢) تعليقا فى المغازى، باب: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ..، ووصله مسلم (١٧٩١) فى الجهاد والسير، (٤) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (٦/ ١٢٠) ، من حديث سهل بن سعد الساعدى. باب: غزوة أحد. هشام- فخرجت أول النهار حتى انتهت إلى رسول اللّه قالت: فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس حتى خلصت الجراحة إلى، أصابنى ابن قمئة- أقمأه اللّه تعالى- لما ولى الناس عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أقبل يقول: دلونى على محمد فلا نجوت إن نجا، قالت فاعترضت له، فضربنى هذه الضربة، ولكن ضربته ضربات على ذلك، ولكن عدو اللّه عليه درعان. قالت أم سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور. وتترس دون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فيما قاله ابن إسحاق- أبو دجانة بنفسه، يقع النبل فى ظهره وهو منحن عليه حتى كثر عليه النبل وهو لا يتحرك. ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: ارم فداك أبى وأمى، حتى إنه ليناولنى السهم ماله نصل فيقول: ارم به. وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخذها رسول اللّه بيده وردها إلى موضعها و قال: (اللّهم اكسه جمالا) فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا (١) . ورواه الدارقطنى بنحوه، ويأتى لفظه- إن شاء اللّه تعالى- فى مقصد المعجزات. ورمى أبو رهم كلثوم بن الحصين بسهم فوقع فى نحره فبصق عليه صلى اللّه عليه وسلم- فبرىء. وانقطع سيف عبد اللّه بن جحش، فأعطاه- صلى اللّه عليه وسلم- عرجونا فعاد فى يده سيفا، فقاتل به وكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل يتوارث حتى بيع من بغا التركى من أمراء المعتصم باللّه فى بغداد بمائتى دينار. وهذا نحو حديث عكاشة السابق فى غزوة بدر إلا أن سيف عكاشة كان يسمى العون، وهذا يسمى العرجون. __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٣/ ٢٥٢) . واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم، يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأشراف أصحابه. وكان أول من عرف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كعب بن مالك، قال عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمين، هذا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فلما عرفوه نهضوا ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر وعمر وعلى ورهط من المسلمين، فلما أسند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الشعب أدركه أبى بن خلف وهو يقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول اللّه، يعطف عليه رجل منا؟ فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: دعوه، فلما دنا تناول- صلى اللّه عليه وسلم- الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه- عليه السّلام- انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله عليه الصلاة والسلام-، فطعنه طعنة وقع بها عن فرسه ولم يخرج له دم فكسر ضلعا من أضلاعه. فلما رجع إلى قريش قال: قتلنى واللّه محمد، أليس قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك، فو اللّه لو بصق على لقتلنى. فمات عدو اللّه بسرف وهم قافلون به إلى مكة (١) . رواه البيهقى وأبو نعيم ولم يذكر: فكسر ضلعا من أضلاعه. قال الواقدى: وكان ابن عمر يقول: مات أبى بن خلف ببطن رابغ، فإنى لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا نار تأجج لى لهبها فهبتها، وإذا رجل يخرج منها فى سلسلة يجتذبها يصيح العطش، وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، هذا أبى بن خلف، ورواه البيهقى. ولما انتهى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى فم الشعب ملأ على بن أبى طالب درقته من __________ (١) أخرجه البيهقى فى (الدلائل) (٣/ ٢٥٨) . المهراس- وهو صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء، وقيل هو اسم ماء بأحد فجاء به إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب اللّه على من رمى وجه نبيه (١) . وصلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الظهر يومئذ قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا. قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتى معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يجد عن الأذان والأنف، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل (٢) . وكان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أحد، كتب على سهم نعم، وعلى آخر: لا، وأجالها عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج إلى أحد، فلما قال: أعل هبل، أى زد علوّا. فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لعمر أجبه فقل: (اللّه أعلى وأجل) (٣) . فقال أبو سفيان: أنعمت فعال، أى اترك ذكرها فقد صدقت فى فتواها وأنعمت، أى أجابت بنعم. فقال عمر: لا سواء، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار. فقال: إن لنا عزى ولا عزى لكم. __________ (١) صحيح: أخرجه بنحوه البخارى (٤٠٧٣) فى المغازى، باب: ما أصاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من الجراح يوم أحد، ومسلم (١٧٩٣) فى الجهاد والسير، باب: اشتداد غضب اللّه على من قتله رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٠٤٣) فى المغازى، باب: غزوة أحد، من حديث البراء رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (قولوا: اللّه مولانا ولا مولى لكم) (٣) . ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال- صلى اللّه عليه وسلم- لرجل من أصحابه: (قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد) (١) . وذكر الطبرانى: أنه لما انصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعنهم فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما لقيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير أحرقته بالنار وكمدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم (٢) . ثم أرسل- عليه الصلاة والسلام- محمد بن مسلمة- كما ذكره الواقدى- فنادى فى القتلى: يا سعد بن الربيع، مرة بعد أخرى، فلم يجبه، حتى قال إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أرسلنى إليك، فأجابه بصوت .....، فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق ف قال: أبلغ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عنى السلام، وقل له: يقول لك، جزاك اللّه عنا خير ما جزى به نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك عنى السلام وقل لهم: لا عذر لكم عند اللّه أن يخلص إلى نبيكم وفيكم (عين) تطرف، ثم مات (٣) . وقتل أبو جابر، فما عرف إلا ببنانه (٤) - أى أصابعه، وقيل أطرافها، واحدتها. بنانه. وخرج- صلى اللّه عليه وسلم- يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادى، قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فنظر- عليه السّلام- إلى شىء لم ينظر إلى شىء أوجع لقلبه منه ف قال: (رحمة اللّه عليك، لقد كنت فعولا للخير، وصولا للرحم، أما واللّه لأمثلن بسبعين منهم مكانك) قال: فنزلت عليه خواتيم سورة __________ (١) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (٣/ ١٠٠) . (٢) قلت: هو عند مسلم (١٧٩٠) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-. (٣) أخرجه الحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٢٢١) ، من حديث زيد بن ثابت- رضى اللّه عنه- وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (٤) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (٤٠٤٨) فى المغازى، باب: غزوة أحد، ومسلم (١٩٠٣) فى الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، إلا أن المقتول عمه أنس بن النضر- رضى اللّه عنه-، ولم أقف على رواية أبى جابر. النحل وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ (١) الآية، فصبر وكفر عن يمينه وأمسك عما أراد (٢) . وممن مثل به كما مثل بحمزة عبد اللّه بن جحش، ابن أخت حمزة، ولذا يعرف بالمجدع فى اللّه، وكان حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة فى قبر واحد. ولما أشرف- صلى اللّه عليه وسلم- على القتلى قال: (أنا شهيد على هؤلاء وما من جريح يجرح فى اللّه إلا واللّه يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم والريح ريح المسك) (٣) . وفى رواية عبد اللّه بن ثعلبة قال- صلى اللّه عليه وسلم- لقتلى أحد: (زملوهم بجراحهم) . وروى أبو بكر بن مردويه أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (يا جابر ألا أخبرك: ما كلم اللّه تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا، فقال سلنى أعطك، فقال أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه سبق منى أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قال: أى رب فأبلغ من ورائى، فأنزل اللّه وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَمْواتاً (٤) ) (٥) الآية. __________ (١) سورة النحل: ١٢٦. (٢) إسناده ..... ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ١١٩) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه- و قال: رواه البزار والطبرانى وفيه صالح بن بشير المزنى، وهو .....، ا. هـ. قلت: وكذا ضعفه الحافظ ابن حجر فى (الفتح) (٧/ ٣٧١) . (٣) صحيح بنحوه: أخرجه البخارى (٢٣٧) فى الوضوء، باب: ما يقع من النجاسات فى السمن والماء، ومسلم (١٨٧٦) فى الإمارة باب: فضل الجهاد والخروج فى سبيل اللّه، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، بنحوه، وهو عند البيهقى فى (الدلائل) (٣/ ٢٩٠) بهذا اللفظ، ولكن من طريق آخر. (٤) سورة آل عمران: ١٦٩. (٥) حسن: أخرجه الترمذى (٣٠١٠) فى التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وابن ماجه (١٩٠) فى المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، و (٢٨٠٠) فى الجهاد، باب: فضل الشهادة فى سبيل اللّه، وأحمد فى (مسنده) (٣/ ٣٦١). وعن ابن عباس قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه بنا لئلا يزهدوا فى الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، قال اللّه تعالى: أنا أبلغهم عنكم فأنزل اللّه عز وجل هذه الآيات وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا (١) ) (٢) . قال بعض من تكلم على هذا الحديث: قوله: ثم تأوى إلى قناديل، يصدقه قوله تعالى وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ (٣) وإنما تأوى إلى تلك القناديل ليلا وتسرح نهارا، وبعد دخول الجنة فى الآخرة لا تأوى إلى تلك القناديل، وإنما ذلك فى البرزخ. وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها. وقد رد هذا القول، ويشهد له ما وقع فى مسند ابن أبى شيبة وغيره: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (الشهداء بنهر أو على نهر يقال له بارق عند باب الجنة، فى قباب خضر يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيّا) (٤) . قال الحافظ عماد الدين بن كثير: كأن الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم فى الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح. قال: وقد روينا فى مسند الإمام أحمد حديثا فيه بشرى لكل مؤمن بأن __________ (١) سورة آل عمران: ١٦٩. (٢) حسن: أخرجه أبو داود (٢٥٢٠) فى الجهاد، باب: فى فضل الشهادة، وأحمد فى (مسنده) (١/ ٢٦٥) . (٣) سورة الحديد: ١٩. (٤) حسن: أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٢٦٦) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٤٦٥٨) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٨٤) ، والطبرانى فى (الأوسط) (١٢٣) ، وفى (الكبير) (١٠/ ٣٣٣) ، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- بسند حسن. روحه تكون فى الجنة أيضا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور وتشاهد ما أعد اللّه لها من الكرامة. قال: وهو إسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعى عن مالك بن أنس عن الزهرى عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه يرفعه: (نسمة المؤمن طائر يعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه) (١) . وقوله يعلق، أى يأكل، وفى هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر فى الجنة، وأما أرواح الشهداء ففى حواصل طير خضر، فهى كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها. فنسأل اللّه الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان. وقد استشهد يوم أحد من المسلمين سبعون- فيما قاله مغلطاى. وغيره- وقيل خمسة وستون وأربعة من المهاجرين. وروى ابن منده من حديث أبى بن كعب قال: استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون ومن المهاجرين ستة وصححه ابن حبان من هذا الوجه. وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلا، وقتل- صلى اللّه عليه وسلم- بيده أبى بن خلف. وحضرت الملائكة يومئذ، ففى حديث سعد بن أبى وقاص عند مسلم فى صحيحه: (أنه رأى عن يمين رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعنى جبريل وميكائيل يقاتلان كأشد القتال) (٢) . __________ (١) صحيح: أخرجه أحمد فى (مسنده) (٣/ ٤٥٥) ، وهو عند النسائى (٤/ ١٠٨) فى الجنائز، باب: أرواح المؤمنين، وابن ماجة (٤٢٧١) فى الزهد، باب: ذكر القبر والبلى، ومالك فى (موطئه) (١/ ٢٤٠) ، وأحمد فى (مسنده) (٣/ ٤٥٥ و ٤٥٦ و ٤٦٠) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٠٥٤) فى المغازى، باب: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللّه وَلِيُّهُما..، ومسلم (٢٣٠٦) فى الفضائل، باب: فى قتال جبريل وميكائيل عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، واللفظ له. وفيه- كما قدمناه فى غزوة بدر- أن قتال الملائكة معه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يختص بيوم بدر، خلافا لمن زعمه، كما نص عليه النووى فى شرح مسلم كما قدمته واللّه أعلم. ولما بكى المسلمون على قتلاهم سر بذلك المنافقون وظهر غش اليهود. ذكر القاضى عياض فى الشفاء عن القاضى أبى عبد اللّه بن المرابط من المالكية أنه قال: من قال إن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- هزم يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لأنه تنقص، إذ لا يجوز ذلك عليه فى خاصته، إذ هو على بصيرة من أمره ويقين من عصمته. انتهى. وهذا موافق لمذهبنا. لكن قال العلامة البساطى من المالكية: هذا القائل إن كان يخالف فى أصل المسألة، أعنى حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل انتهى. وقد كان فى قصة أحد، وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة. منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهى، لما وقع من ترك الرماة موقعهم الذى أمرهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ألايبرحوا منه. ومنها: أن عادة الرسل أن تبتلى ثم تكون لهم العافية، والحكمة فى ذلك أن لو انتصروا دائما لدخل المسلمين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميز الصادق من الكاذب. وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيّا عن المسلمين فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول حتى عاد التلويح تصريحا، وعرف المسلمون أن لهم عدوّا فى دارهم، واستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ومنها: أن فى تأخير النصر فى بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها فلما ابتلى المسلمون صبروا وجزع المنافقون. ومنها: أن اللّه تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها. ومنها: أنه أراد هلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التى يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم فى إيذاء أوليائه، فمحص ذنوب المؤمنين ومحق بذلك الكافرين. غزوة حمراء الأسد (١)وهى على ثمانية أميال من المدينة على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة. وكانت صبيحة يوم الأحد لست عشرة، أو لثمان خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة لطلب عدوهم بالأمس، ونادى مؤذن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ألايخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، أى من شهد أحدا. وإنا خرج- عليه الصلاة والسلام- مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج فى طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذى أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. وأقام- صلى اللّه عليه وسلم- بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة يوم الجمعة وقد غاب خمسا. وظفر- صلى اللّه عليه وسلم- فى مخرجه ذلك بمعاوية بن المغيرة بن أبى العاص فأمر بضرب عنقه صبرا. قال الحافظ مغلطاى: وحرمت الخمر فى شوال، ويقال فى سنة أربع. انتهى. __________ (١) حمراء الأسد: اسم موضع على ثمانية أميال من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة، وانظر أخبار الغزوة فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ١٢١) ، وابن كثير فى (تفسيره) (١/ ٤٢٨ و ٤٢٩) ، وفى (البداية والنهاية) (٣/ ٩٧) . قال أبو هريرة فيما رواه أحمد: حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- عنهمافأنزل اللّه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ (١) إلى آخر الآية. فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: فيهما إثم كبير. وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم أصحابه فى المغرب خلط فى قراءته، فأنزل اللّه آية أغلظ منها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (٢) . وكان الناس يشربون ثم نزلت آية أغلظ منها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣) قال: انتهينا ربنا (٤) . والميسر: القمار وقيل غيره. وولد الحسن بن على فى هذه السنة. ثم سرية عبد اللّه بن عبد الأسد، هلال المحرم على رأس خمس وثلاثين شهرا من الهجرة، إلى قطن- جبل بناحية فيد- ومعه مائة وخمسون رجلا من الأنصار والمهاجرين، لطلب طليحة وسلمة ابنى خويلد، فلم يجدهما، ووجد إبلا وشاء فأغار عليهما ولم يلق كيدا. ثم سرية عبد اللّه بن أنيس وحده، يوم الإثنين لخمس خلون من المحرم، على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة، إلى سفيان بن خالد الهذلى بعرنة- وادى عرفة- لأنه بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه جمع الجموع لحربه. فلما وصل إليه قال له ممن الرجل؟ قال: من بنى خزاعة، سمعت __________ (١) سورة البقرة: ٢١٩. (٢) سورة النساء: ٤٣. (٣) سورة المائدة: ٩٠. (٤) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٢/ ٣٥١) . بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك، قال: أجل. فمشى معه ساعة، ثم اغتره وقتله، وأخذ رأسه، فكان يسير الليل ويتوارى النهار، حتى قدم المدينة، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أفلح الوجه) قال: أفلح وجهك يا رسول اللّه، ووضع رأسه بين يديه (١) . وكانت غيبته ثمان عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من محرم. ثم سرية عاصم بن ثابت، فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة إلى الرجيع- بفتح الراء وكسر الجيم، اسم ماء لهذيل بين مكة وعسفان- بناحية الحجاز، وكانت الوقعة بالقرب منه فسميت به. وحديث عضل والقارة- بفتح الضاد المعجمة بعدها لام- بطن من بنى الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ينسبون إلى عضل بن الديش. وأما القارة، فبالقاف وتخفيف الراء، بطن من الهون ينسبون إلى الديش المذكور، قال ابن دريد: القارة: أكمة سوداء فيها حجارة، كأنهم نزلوا عندها فسموا بها. وقصة عضل القارة كانت فى بعث الرجيع، لا فى سرية بئر معونة، وقد فصل بينهما ابن إسحاق، فذكر بعث الرجيع فى أواخر سنة ثلاث، وبئر معونة أوائل سنة أربع. وذكر الواقدى أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاآ إلى النبى صلى اللّه عليه وسلم- فى ليلة واحدة. وسياق ترجمة البخارى يوهم أن بعث الرجيع وبئر معونة شىء واحد، وليس كذلك، لأن بعث الرجيع كان سرية عاصم وخبيب وأصحابهما، وهى مع عضل والقارة. __________ (١) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٣/ ٤٩٦) ، وانظر (سنن أبى داود (١٢٤٩) فى الصلاة، باب: صلاة الطالب. وبئر معونة كانت سرية القراء، وهى مع رعل وذكوان، وكأن البخارى أدمجها معها لقربها منها. ويدل على قربها منها ما فى حديث أنس من تشريك النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بين بنى لحيان وبين عصية وغيرهم فى الدعاء. ولم يرد البخارى- رحمه اللّه- أنهما قصة واحدة، ولم يقع ذكر عضل والقارة عنده صريحا. وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق. فإنه بعد أن استوفى قصة أحد قال: ذكر يوم الرجيع: حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول اللّه، إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا، فبعث معهم ستة من أصحابه وأمر- صلى اللّه عليه وسلم- على القوم مرثد بن أبى مرثد الغنوى. كذا فى السيرة له- وفى الصحيح: وأمر عليهم عاصم بن ثابت، كما سيأتى، وهو أصح- فخرجوا مع القوم حتى أتوا على الرجيع- ماء لهذيل- غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم، وهم فى رحالهم، إلا الرجال بأيديهم السيوف، وقد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا واللّه لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد اللّه وميثاقه ألانقتلكم، فأبوا، فأما مرثد وخالد وعاصم، فقالوا: واللّه لا نقبل من مشرك عهدا وقاتلوا حتى قتلوا. وفى البخارى: وأمر عليهم عاصم بن ثابت، حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة- ذكروا لحى من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم فى مائتى رجل. وعند بعضهم فتبعوهم بقريب من مائة رام (١) . والجمع بينهما واضح، بأن تكون المائة الآخرى غير رماة. __________ (١) انظر القصة فى (صحيح البخارى) (٣٠٤٥) فى الجهاد والسير، باب: هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. وفى رواية أبى مشعر فى مغازيه: فنزلوا بالرجيع سحرا، فأكلوا تمر عجوة، فسقط نواه بالأرض، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون بالنهار، فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنما، فرأت النواآت وأنكرت صغرهن، وقالت هذا تمر يثرب فصاحت فى قومها قد أتيتم، فجاؤا فى طلبهم، فوجدوهم قد كمنوا فى الجبل، وتبعوا آثارهم حتى لحقوهم. وفى رواية ابن سعد: فلم يرع القوم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم. فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد- بفاءين مفتوحتين، ومهملتين، الأولى ساكنة- وهى الرابية المشرفة، فأحاط بهم القوم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألانقتل منكم رجلا، فقال عاصم بن ثابت أيها القوم: أما أنا فلا أنزل فى ذمة كافر، ثم قال اللّهم أخبر عنا رسولك، فاستجاب اللّه لعاصم فأخبر رسول اللّه خبرهم يوم أصيبوا. فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصما، ونزل إليهم على العهد والميثاق: خبيب ابن عدى وزيد بن الدثنة- بفتح الدال المهملة، وكسر المثلاثة، والنون المفتوحة المشددة- وعبد اللّه بن طارق. فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة، فابتاع بنو الحارث ابن عامر خبيبا، فلبث خبيب عندهم أسيرا، حتى إذا أجمعوا على قتله استعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها-يعنى يحلق عانته- فغافلت عن ابن لها صغير فأقبل إليه الصبى فأجلسه عنده فخشيت المرأة أن يقتله، ففزعت، فقال خبيب: ما كنت لأغدر. قال قالت: واللّه ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، واللّه لقد وجدته يأكل قطفا من عنب مثل رأس الرجل، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وما كان إلا رزقا رزقه اللّه (١) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٠٨٦) فى المغازى باب غزوة الرجيع. وهذه كرامة جعلها اللّه تعالى لخبيب، آية على الكفار، وبرهانا لنبيه لتصحيح رسالته. والكرامة للأولياء ثابتة مطلقا عند أهل السنة. لكن استثنى بعض المحققين منهم كالعلامة الربانى أبى القاسم القشيرى ما وقع به التحدى لبعض الأنبياء ف قال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك. وهذا أعدل المذاهب فى ذلك. وإن إجابة الدعوة فى الحال، وتكثير الطعام والمكاشفة بما يغيب عن العين والإخبار بما سيأتى ونحو ذلك قد كثر جدّا، حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة. فانحصر الخارق الآن فى نحو ما قاله القشيرى، وتعين تقييد من أطلق، بأن كل معجزة لنبى يجوز أن تقع كرامة لولى. ووراء ذلك: أن الذى استقر عند العامة، أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك يكون من أولياء اللّه، وهو غلط. فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء اللّه إلى فارق، وأولى ما ذكروه: أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهى، كان علامة على ولايته، ومن لا فلا. واللّه أعلم انتهى ملخصا من الفتح (١) . ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال: دعونى أصلى ركعتين- وعند موسى بن عقبة: أنه صلاهما فى موضع مسجد التنعيم- و قال: اللّهم أحصهم عددا، ولا تبق منهم أحدا، واقتلهم بددا- يعنى متفرقين- فلم يحل الحول ومنهم أحد حى. وفى رواية بريدة بن سفيان، فقال خبيب: اللّهم إنى لا أجد من يبلغ رسولك منى السلام فبلغه. وفى رواية أبى الأسود عن عروة، جاء جبريل إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأخبره بذلك.. الحديث. __________ (١) انظر (فتح البارى) للحافظ ابن حجر (٧/ ٣٨٣ و ١٠/ ٢٢٣) . ثم أنشأ يقول: فلست أبالى حين أقتل مسلما ... على أى شق كان للّه مصرعى وذلك فى ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع (١) والأوصال جمع: وصل، وهو العضو. والشلو- بكسر المعجمة- الجسد ويطلق على العضو. لكن المراد به هنا الجسد. والممزع- بالزاى، ثم المهملة- القطع ومعنى الكلام: أعضاء جسد مقطع. وعند أبى الأسود عن عروة زيادة فى هذا الشعر: لقد أجمع الأحزاب فى وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وفيه أيضا: إلى اللّه أشكو غربتى بعد كربتى ... وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى وساق ابن إسحاق هذه الأبيات ثلاثة عشر بيتا، قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها لخبيب. وكان خبيب أول من سن الركعتين عند القتل لكل مسلم قتل صبرا، كذا قال ابن إسحاق، وقوله هذا يدل على أنها سنة جارية. وإنما صار فعل خبيب سنة- والسنة إنما هى أقوال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأفعاله وتقريره- لأنه فعله فى حياته- صلى اللّه عليه وسلم-، فاستحسن ذلك من فعله واستحسنها المسلمون. والصلاة خير ما ختم به عمل العبد. وقد صلى هاتين الركعتين زيد بن حارثة، مولى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وذلك فى حياته- عليه الصلاة والسلام-، كما رويناه من طريق السهيلى بسنده إلى الليث بن سعد قال: بلغنى أن زيد بن حارثة اكترى بغلا من رجل بالطائف، فاشترط عليه المكرى أن ينزله حيث شاء. قال: فمال به إلى خربة، فقال له انزل فنزل، فإذا فى الخربة قتلى كثيرة، قال فلما أراد أن يقتله قال له __________ (١) صحيح: وهو عند البخارى (٣٠٤٥) فيما تقدم. دعنى أصلى ركعتين، قال: صلّ فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا، فلما صليت أتانى ليقتلنى فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتا: لا تقتله، فهاب ذلك، فخرج يطلبه فلم ير شيئا، فرجع إلى، فناديت: يا أرحم الراحمين فعل ذلك ثلاثا، فإذا بفارس على فرس فى يده حربة حديد فى رأسها شعلة نار، فطعنه بها فأنفذها من ظهره فوقع ميتا. ثم قال: لما دعوت المرة الأولى: يا أرحم الراحمين كنت فى السماء السابعة، فلما دعوت المرة الثانية يا أرحم الراحمين كنت فى سماء الدنيا، فلما دعوت الثالثة أتيتك. انتهى. ووقع فى رواية أبى الأسود عن عروة: فلما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب- يعنى خبيبا- نادوه وناشدوه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا واللّه، ما أحب أن يفدينى بشوكة فى قدمه (١) . ويقال: إن الذى قال ذلك زيد بن الدثنة، وأن أبا سفيان قال له: يا زيد، أنشدك اللّه أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنك فى أهلك؟ قال: واللّه ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإنى لجالس فى أهلى. قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب كحب أصحاب محمد محمدا. ثم قتله نسطاس- بكسر النون-. وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشىء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظامائهم يوم بدر، ولعل العظيم المذكور: عقبة بن أبى معيط، فإن عاصما قتله صبرا بأمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعد أن انصرفوا من بدر. ووقع عند ابن إسحاق وكذا فى رواية بريدة بن سفيان: أن عاصما لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وهى أم مسافح وجلاس ابنى طلحة __________ (١) ذكره ابن الجوزى فى (المنتظم) (٣/ ٢٠١) . العبدرى، وكان عاصم قتلهما يوم أحد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن الخمر فى قحفه- بكسر القاف، وهو ما انفلق من الجمجمة فبان-. قال الطبرى: وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة. فمنعهم منه الدبر- بفتح المهملة وسكون الموحدة: الزنابير- فلم يقدروا منه على شىء (١) . وكان عاصم بن ثابت قد أعطى اللّه عهدا ألايمسه مشرك ولا يمس مشركا. فكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ اللّه العبد المؤمن بعد وفاته، كما حفظه فى حياته. وإنما استجاب اللّه تعالى له فى حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه. سرية المنذر بن عمرو- بفتح العين المهملة- إلى بئر معونة- بفتح الميم وضم المهملة وسكون الواو بعدها نون- موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان. فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أحد. بعث معه المطلب السلمى ليدلهم على الطريق. وكانت مع رعل- بكسر الراء وسكون العين المهملة- بطن من بنى سليم، ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك. وذكوان بطن من بنى سليم أيضا ينسون إلى ذكوان بن ثعلبة. فنسبت الغزوة إليها. وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكان من أمرها- كما قاله ابن إسحاق- أنه قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة __________ (١) انظر حديث البخارى (٣٠٤٥ و ٤٠٨٦) . على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فعرض عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام. و قال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى أخشى أهل نجد عليهم) قال أبو براء: أنا لهم جار فابعثهم. فبعث- عليه الصلاة والسلام- المنذر بن عمرو، ومعه القراء وهم سبعون- وقيل أربعون وقيل: ثلاثون-. وقد بين قتادة فى روايته أنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، وفى رواية ثابت: يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن بالليل. فساروا حتى نزلوا بئر معونة، بعثوا حرام بن ملحان بكتابه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى عدو اللّه عامر بن الطفيل العامرى، ومات كافرا- وليس هو عامر بن الطفيل الأسلمى الصحابى- فلما أتاه لم ينظر فى كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بنى عامر فلم يجيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم: عصية ورعلا فأجابوه إلى ذلك، ثم خرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم فى رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم، إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا (١) . وأسر عمرو بن أمية الضمرى، فلما أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. فلما بلغ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- خبرهم، قال (هذا عمل أبى براء قد كنت لهذا كارها متخوفا) ، فبلغ ذلك أبا براء فمات أسفا على ما صنع عامر بن الطفيل (٢) . وقتل عامر بن فهيرة يومئذ فلم يوجد جسده، دفنته الملائكة. __________ (١) انظر القصة فى (دلائل النبوة) للبيقهى (٣/ ٣٣٨- ٣٤٠) . (٢) انظر المصدر السابق (٣/ ٣٤١) . قال ابن سعد عن أنس بن مالك: ما رأيت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة. وفى صحيح مسلم عن أنس أيضا: (دعا- صلى اللّه عليه وسلم- على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا، يدعو على رعل ولحيان وعصية عصت اللّه ورسوله، قال أنس: أنزل اللّه فى الذين قتلوا يوم بئر معونة قرآنا ثم نسخ بعد أى نسخت تلاوته- أن بلغوا قومنا أنا قد لقينا بنا، فرضى عنا ورضينا عنه (١) . كذا وقع فى هذه الرواية، وهو يوهم أن بنى لحيان ممن أصاب القراء يوم بئر معونة، وليس كذلك. وإنما أصاب رعل وذكوان وعصية ومن صحبهم من سليم، وأما بنو لحيان فهم الذين أصابوا بعث الرجيع. وإنما أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- عنهم كلهم فى وقت واحد، فدعا على الذين أصابوا أصحابه فى الموضعين دعاء واحدا واللّه أعلم. [غزوة بنى النضير] (٢)ثم غزوة بنى النضير- بفتح النون وكسر الضاد المعجمة- قبيلة كبيرة من اليهود، فى ربيع الأول سنة أربع. وذكرها ابن إسحاق هنا. قال السهيلى: وكان ينبغى أن يذكرها بعد بدر، لما روى عقيل بن خالد وغيره عن الزهرى قال: كانت غزوة بنى النضير على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد. ورجح الداودى ما قاله ابن إسحاق من أن غزوة بنى النضير بعد بئر __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٠٨٩) فى المغازى، باب: غزوة الرجيع، ومسلم (٦٧٧) فى المساجد، باب: استحباب القنوت فى جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة. (٢) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ١٩٠- ١٩٥) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٥٧) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ١٤٥- ١٥٤) ، و (دلائل النبوة) (٣/ ١٧٦) . معونة، مستدلا بقوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ (١) . قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهو استدلال واه، فإن الآية نزلت فى شأن بنى قريظة، فإنهم هم الذين ظاهروا الأحزاب، وأما بنو النضير فلم يكن لهم فى الأحزاب ذكر، بل كان من أعظم الأسباب فى جمع الأحزاب ما وقع من إجلائهم، فإنه كان من رؤسهم حيى بن أخطب، وهو الذى حسن لبنى قريظة الغدر، وموافقة الأحزاب حتى كان من هلاكهم ما كان فكيف يصير السابق لاحقا. انتهى. وقد تقدم قريبا أن عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة عن أمه، فخرج عمرو إلى المدينة فصادف رجلين من بنى عامر معهما عقد وعهد من رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو من أنتما؟ فذكرا له أنهما من بنى عامر، فتركهما حتى ناما فقتلهما عمرو، وظن أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بذلك ف قال: (لقد قتلت قتيلين لأدينهما) (٢) . قال ابن إسحاق وغيره: ثم خرج- صلى اللّه عليه وسلم- إلى بنى النضير ليستعين بهم فى دية ذينك القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية، للجوار الذى كان- صلى اللّه عليه وسلم- عقده لهما، وكان بين بنى النضير وبين بنى عامر عقد وحلف. فلما أتاهم- صلى اللّه عليه وسلم- يستعينهم فى ديتهما قالوا: يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- إلى جنب جدار من بيوتهم. وقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت فيلقى هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب ف قال: أنا لذلك، فصعد ليلقى عليه الصخرة ورسول اللّه فى نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلى- رضى اللّه عنهم-. __________ (١) سورة الأحزاب: ٢٦. (٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ١٢٩) و قال: رواه الطبرانى ورجاله ثقات. قال ابن سعد: فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، واللّه ليخبرن بما هممتم، وإنه لنقض للعهد الذى بيننا وبينه. قال ابن إسحاق: وأتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام- صلى اللّه عليه وسلم- مظهرا أنه يقضى حاجته، وترك أصحابه فى مجلسهم، ورجع مسرعا إلى المدينة. واستبطأ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أصحابه، فقاموا فى طلبه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما أرادت يهود من الغدر به. قال ابن عقبة: ونزل فى ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ (١) الآية. قال ابن إسحاق: فأمر- صلى اللّه عليه وسلم- بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. ثم سار بالناس حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال. قال ابن إسحاق: فتحصنوا منه فى الحصون فقطع النخل وحرقها وخرب. فنادوه: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها. قال السهيلى: قال أهل التأويل: وقع فى نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شىء حتى أنزل اللّه: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ إلى قوله: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٢) واللينة: ألوان التمر ما عدا العجوة والبرنى. ففى هذه الآية أنه صلى اللّه عليه وسلم- لم يحرق من نخلهم إلا ما ليس بقوت الناس، وكانوا يقتاتون العجوة، وفى الحديث (العجوة من الجنة وتمرها يغذو أحسن غذاء) (٣) ، والبرنى أيضا كذلك. ففى قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ (٤) . ولم يقل __________ (١) سورة المائدة: ١١. (٢) سورة الحشر: ٥. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٠٦٦) فى الطب، باب: ما جاء فى الكمأة والعجوة، وابن ماجه (٣٤٥٥) فى الطب، باب: الكمأة والعجوة، وأحمد فى (مسنده) (٢/ ٣٠١ و ٣٢٥ و ٣٥٦ و ٤٨٨ و ٤٩٠) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه- . (٤) سورة الحشر: ٥. من نخلة على العموم، تنبيه على كراهة قطع ما يقتات ويغذو من شجر العدو إذا رجى أن يصل إلى المسلمين. قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من بنى عوف بن الخزرج منهم عبد اللّه ابن أبى ابن سلول بعثوا إلى بنى النضير: أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. فتربصوا، فقذف اللّه فى قلوبهم الرعب، فلم ينصروهم فسألوا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن يجليهم عن أرضهم ويكف عن دمائهم. وعند ابن سعد: أنهم حين هموا بغدره- صلى اللّه عليه وسلم- وأعلمه اللّه بذلك، بعث إليهم محمد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدى فلا تساكنونى بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا، فمن رؤى منكم بعد ذلك ضربت عنقه. فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون، وتكاروا من أناس من أشجع إبلا، فأرسل إليهم عبد اللّه بن أبى: لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا فى حصونكم فإن معى ألفين من قومى من العرب يدخلون حصونكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع حيى فيما قاله ابن أبى، فأرسل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-، إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فأظهر- صلى اللّه عليه وسلم- التكبير، وكبر المسلمون بتكبيره، وسار إليهم- صلى اللّه عليه وسلم- فى أصحابه، فصلى العصر بفناء بنى النضير، وعلى يحمل رايته، فلما رأوا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قاموا على حصونهم، ومعهم النبل والحجارة، واعتزلهم ابن أبى ولم يمنعهم، وكذا حلفاؤهم من غطفان، فيئسوا من نصرهم، فحاصرهم- صلى اللّه عليه وسلم- وقطع نخلهم، وقال لهم-عليه الصلاة والسلام-: (اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة) - وهى بإسكان اللام قال فى القاموس، الدرع- فنزلت يهود على ذلك فحاصرهم خمسة عشر يوما، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم (١) . __________ (١) انظر الطبقات الكبرى، لابن سعد (٢/ ٥٧) . ثم أجلاهم عن المدينة وولى إخراجهم محمد بن مسلمة. وحملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير فلحقوا بخيبر. وحزن عليهم المنافقون حزنا شديدا. وقبض- صلى اللّه عليه وسلم- الأموال، ووجد من الحلقة خمسين درعا وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا. وكانت بنو النضير صفيّا لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حبسا لنوائبه، ولم يسهم منه لأحد، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنما قذف فى قلوبهم الرعب، وأجلوا عن منازلهم إلى خيبر، ولم يكن ذلك عن قتال من المسلمين لهم، فقسمها- صلى اللّه عليه وسلم- بين المهاجرين ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار، إذ كانوا قد قاسموهم فى الأموال والديار، غير أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف لحاجتهما. وفى الإكليل: وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبى الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم. [غزوة ذات الرقاع] (١)واختلف فيها متى كانت: فعند ابن إسحاق: بعد بنى النضير سنة أربع، فى شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى. وعند ابن سعد وابن حبان: فى المحرم سنة خمس. وجزم أبو معشر: بأنها بعد بنى قريظة فى ذى القعدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع فى آخر السنة الخامسة وأول التى تليها. __________ (١) انظر هذه الغزوة فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٢٠٣- ٢٠٩) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٦١- ٦٢) ، والبيهقى فى (دلائل النبوة) (٣/ ٣٦٩) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ١٦٠- ١٦٨) ، أما عن سبب تسميتها بذات الرقاع فسيعللّه المصنف بعد قليل. قال فى فتح البارى: قد جنح البخارى إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل لذلك بأمور، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر، فلا أدرى: هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازى أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين كما أشار إليها البيهقى. على أن أصحاب المغازى مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون فى زمانها. انتهى. والذى جزم به ابن عقبة تقدمها، لكن تردد فى وقتها: لا ندرى كانت قبل بدر أو بعدها؟ أو قبل أحد أو بعدها؟ قال الحافظ ابن حجر: وهذا التردد لا حاصل له، بل الذى ينبغى الجزم به أنها بعد غزوة بنى قريظة، لأن صلاة الخوف فى غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف فى غزوة ذات الرقاع. فدل على تأخرها بعد الخندق. ثم قال عند قول البخارى: (وهى بعد خيبر) لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، وإذا كان كذلك وثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع لزم أنها كانت بعد خيبر. قال: وعجبت من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخارى حديث أبى موسى هذا حجة فى أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر. قال: وليس فى خبر أبى موسى ما يدل على شىء من ذلك، انتهى كلام ابن سيد الناس. قال: وهذا النفى مردود، والدلالة على ذلك واضحة كما قررته. قال: وأما الدمياطى: فادعى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه. وقد تقدم أنهم مختلفون فى زمانها. فالأولى الاعتماد على ما ثبت فى الصحيح. وأما قول الغزالى: إنها آخر الغزوات. فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح فى إنكاره. وقال بعض من انتصر للغزالى: لعله أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف. وهو انتصار مردود، بما أخرجه أبو داود والنسائى وصححه ابن حبان من حديث أبى بكرة: أنه صلى مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صلاة الخوف (١) . وإنما أسلم أبو بكرة بعد غزوة الطائف بالاتفاق. انتهى. وأما تسميتها بذات الرقاع: فلأنهم رقعوا فيها راياتهم، قاله ابن هشام. وقيل: لشجرة فى ذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع. وقيل: الأرض التى نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض، كأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت ذات الرقاع لذلك. وقيل: إن خيلهم كان بها سواد وبياض. قاله ابن حبان. وقال الواقدى: سميت بجبل هناك فيه بقع. قال الحافظ ابن حجر: وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف عليه بخيل. قال: وأغرب الداودى ف قال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها. انتهى. قال السهيلى: وأصح من هذه الأقوال كلها، ما رواه البخارى عن أبى موسى الأشعرى قال: (خرجنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى غزوة ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماى، وسقطت أظفارى، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا) (٢) . وكان من خبر هذه الغزوة، كما قاله ابن إسحاق: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- غزا نجدا __________ (١) قلت: حديث أبى بكرة فى صلاة الخوف عند أبى داود (١٢٤٨) فى الصلاة، باب: من قال يصلى بكل طائفة ركعتين، والنسائى (٣/ ١٧٨) فى صلاة الخوف، باب: رقم (١) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٢٨) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع. يريد بنى محارب وبنى ثعلبة- بالمثلاثة- من غطفان- بفتح الغين المعجمة والمهملة- لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- بلغه أنهم جمعوا الجموع: فخرج فى أربعمائة من أصحابه- وقيل: سبعمائة- واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، وقيل أبا ذر. حتى نزل نخلا- بالخاء المعجمة- موضعا من نجد من أراضى غطفان. قال ابن سعد: فلم يجد فى محالهم إلا نسوة فأخذهن. وقال ابن إسحاق: فلقى جمعا منهم فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس. قال ابن سعد: وكان ذلك أول ما صلاها. وقد رويت صلاة الخوف من طرق كثيرة وسيأتى إن شاء اللّه تعالى الكلام على ما تيسر منها فى مقصد عباداته- صلى اللّه عليه وسلم-. وكانت غيبته- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذه الغزوة خمس عشرة ليلة. وفى البخارى عن جابر قال: كنا مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فجاء رجل من المشركين وسيف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- معلق بالشجرة فاخترطه- يعنى سلة من غمده- فقال تخافنى قال: لا، قال: فمن يمنعك منى؟ قال: (اللّه) (١) . وعند أبى عوانة: فسقط السيف من يده فأخذه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: (من يمنعك منى؟) قال: كن خير آخذ. قال: (تشهد ألاإله إلا اللّه وأنى رسول اللّه؟) ، قال الأعرابى: أعاهدك أنى لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال: فخلى سبيله. فجاء إلى قومه ف قال: جئتكم من عند خير الناس. وفى رواية عند البخارى: ولم يعاقبه (٢) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٣٦ و ٤١٣٧) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (٨٤٣) فى الفضائل، باب: توكله على اللّه تعالى وعصمة اللّه تعالى له من الناس. (٢) قلت: هو عند البخارى برقم (٢٩١٣ و ٤١٣٥ و ٤١٣٧ و ٤١٣٩) . وإنما لم يؤاخذه- صلى اللّه عليه وسلم- بما صنع، وعفا عنه، لشدة رغبته- عليه الصلاة والسلام- فى استئلاف الكفار ليدخلوا فى الإسلام. وفى رواية أبى اليمان عند البخارى- فى الجهاد- قال: من يمنعك منى ثلاث مرات (١) . وهو استفهام إنكارى، أى لا يمنعك منى أحد. وقد كان الأعرابى قائما على رأسه والسيف فى يده والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- جالس لا سيف معه. ويؤخذ من مراجعة الأعرابى له فى الكلام أن اللّه سبحانه منع نبيه، وإلا فما الذى أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الخطوة عند قومه بقتله. وفى قوله- صلى اللّه عليه وسلم- فى جوابه: اللّه، أى يمنعنى منك، إشارة إلى ذلك، ولذلك لما أعادها الأعرابى فلم يزده على ذلك الجواب، وفى ذلك غاية التهكم وعدم المبالاة به. وذكر الواقدى فى نحو هذه القصة أنه أسلم، ورجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير. وقال فيه: إنه رمى بالزلخة حين هم بقتله- صلى اللّه عليه وسلم-، فندر السيف من يده وسقط إلى الأرض. والزلخة- بضم الزاى وتشديد اللام- وجع يأخذ فى الصلب. وقال البخارى: قال مسدد عن أبى عوانة عن أبى بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث، أى على وزن جعفر. وحكى الخطابى فيه: غويرث، بالتصغير. وقد تقدم فى غزوة غطفان وهى غزوة ذى أمر بناحية نجد مثل هذه القصة لرجل اسمه دعثور، وأنه قام على رأسه- صلى اللّه عليه وسلم-، بالسيف ف قال: من يمنعك منى؟ ف قال: - صلى اللّه عليه وسلم-: اللّه، ودفع جبريل فى صدره فوقع السيف من يده وأنه أسلم. قال فى عيون الأثر: والظاهر أن الخبرين واحد. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٩١٠) فى الجهاد والسير، باب: من علق سيفه بالشجر فى السفر عند القائلة. وقال غيره من المحققين: الصواب أنهما قصتان فى غزوتين. وفى هذه القصة: فرط شجاعته، وقوة يقينه وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال- صلى اللّه عليه وسلم-. وفى انصرافه- صلى اللّه عليه وسلم- من هذه الغزوة، أبطأ جمل جابر بن عبد اللّه فنخسه- صلى اللّه عليه وسلم- فانطلق متقدما بين يدى الركاب، ثم قال: (أتبيعينيه؟) فابتاعه منه و قال: لك ظهره إلى المدينة، فلما وصلها أعطاه الثمن وأرجح، ووهب له الجمل (١) . والحديث أصله فى البخارى. ولا حجة فيه لجواز بيع وشرط، لما وقع فيه من الاضطراب. وقيل غير ذلك مما يطول ذكره واللّه أعلم. [غزوة بدر] (٢)وهى الصغرى، وتسمى: بدر الموعد. وكانت فى شعبان، بعد ذات الرقاع. قال ابن إسحاق: لما قدم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة من غزوة ذات الرقاع، أقام بها جمادى الأولى إلى آخر رجب، ثم خرج فى شعبان إلى بدر لميعاد أبى سفيان. وي قال: كانت فى هلال ذى القعدة. وميعاد أبى سفيان: هو ما سبق أن أبا سفيان قال يوم أحد: الموعد بيننا وبينكم بدر العام القابل، فقال- صلى اللّه عليه وسلم- لرجل من أصحابه: قل: (نعم هو بيننا وبينكم موعد) . فخرج- صلى اللّه عليه وسلم- ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه، وعشرة أفراس، __________ (١) انظر الحديث فى (صحيح البخارى) (٢٠٩٧) فى البيوع، باب: شراء الدواب والحمر، ومسلم (٧١٥) فى الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر. (٢) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٢٠٩- ٢١٣) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٥٩ و ٦٠) ، والطبرانى فى (تاريخه) (٣/ ٤١) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ١٦٩- ١٧٢) . واستخلف على المدينة عبد اللّه بن رواحة، فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان. وخرج أبو سفيان حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران، وي قال: عسفان، ثم بدا له الرجوع، ف قال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإنى راجع فارجعوا، فرجع الناس. فسماهم أهل مكة: جيش السويق يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق. وأقام- صلى اللّه عليه وسلم- ببدر ثمانية أيام، وباعوا ما معهم من التجارة، فربحوا الدرهم درهمين. وأنزل اللّه فى المؤمنين: الَّذِينَ اسْتَجابُوا للّه وَالرَّسُولِ. إلى قوله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ (١) الآية. والصحيح أن هذه الآية نزلت فى شأن حمراء الأسد، كما نص عليه العماد بن كثير. غزوة دومة الجندل (٢)وهى بضم الدال من (دومة) هى مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة. قال أبو عبيد البكرى: سميت بدومى بن إسماعيل، كان نزلها. وكانت فى شهر ربيع الأول، على رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة، وكان سببها أنه بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- أن بها جمعا كثيرا يظلمون من مر بهم، __________ (١) سورة آل عمران: ١٧٢- ١٧٤. (٢) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٢١٣) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٦٢ و ٦٣) ، والطبرى فى (تاريخه) (٣/ ٤٣) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ١٧٧ و ١٧٨) . فخرج- عليه الصلاة والسلام- لخمس ليال بقين من شهر ربيع، فى ألف من أصحابه، فكان يسير الليل ويكمن النهار واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة. فلما دنا منهم، لم يجد إلا النعم والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب، وهرب من هرب فى كل وجه. وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا، ونزل- صلى اللّه عليه وسلم- بساحتهم فلم يلق بها أحدا، فأقام بها أياما، وبث السرايا وفرقها، فرجعوا، ولم يصب منهم أحد. ودخل المدينة فى العشرين من ربيع الآخر. غزوة بنى المصطلق (١)غزوة المريسيع: - بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتيتين بينهما مهملة مكسورة وآخره عين مهملة- وهو ماء لبنى خزاعة، بينه وبين الفرع يومان. وتسمى غزوة بنى المصطلق- بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء المهملة، وكسر اللام بعدها قاف- وهو لقب واسمه: جذيمة بن سعد بن عمرو، بطن من خزاعة. وكانت لليلتين خلتا من شعبان، سنة خمس، وفى البخارى، قال ابن إسحاق سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع انتهى. قالوا: وكأنه سبق قلم، أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع، والذى فى مغازى موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابورى والبيهقى فى الدلائل وغيرهم سنة خمس. وسببها أنه بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- أن رئيسهم الحارث بن أبى ضرار سار فى قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأجابوه، وتهيئوا للمسير معه إليه. __________ (١) هو: لقب لجذيمة بن سعد بن عمرو بطن من بنى خزاعة، وتسمى أيضا غزوة المريسيع، كما ذكر المصنف، وهو ماء لبنى خزاعة بينه وبين الفرع (موضع من ناحية المدينة) مسيرة يوم أو يومين. فبعث- صلى اللّه عليه وسلم- بريدة بن الحصيب الأسلمى يعلم علم ذلك، فأتاهم ولقى الحارث بن أبى ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. وخرج- صلى اللّه عليه وسلم- مسرعا فى بشر كثير من المنافقين، لم يخرجوا فى غزاة قط مثلها. واستخلف على المدينة زيد بن حارثة. وقادوا الخيل، وكانت ثلاثين فرسا وخرجت عائشة وأم سلمة. وبلغ الحارث ومن معه مسيره- عليه السّلام- فسىء بذلك هو ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرق عنهم من كان معهم من العرب. وبلغ- عليه السّلام- المريسيع، وصف أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبى بكر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر- عليه السّلام- أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، وقتلوا عشرة وأسروا سائرهم، وسبوا النساء والرجال والذرية والنعم والشاء. ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، كذا ذكره ابن إسحاق. والذى فى صحيح البخارى من حديث ابن عمر يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم فأوقع بهم ولفظه: (أغار على بنى المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تستقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وهم على الماء) (١) . فيحتمل أن يكون حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلا، فلما كثر فيهم القتل انهزموا بأن يكونوا لما دهمهم وهم على الماء وتصافوا وقع القتال بين الطائفتين، ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم. قيل وفى هذه الغزوة نزلت آية التيمم. وفى الصحيحين من حديث __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٥٤١) فى العتق، باب: من ملك من العرب رقيقا، ومسلم (١٧٣٠) فى الجهاد والسير، باب: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة. عائشة: أنها قالت: خرجنا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى بعض أسفاره، فذكر حديث التيمم (١) . قال فى فتح البارى: (قوله فى بعض أسفاره) قال ابن عبد البر فى التمهيد: يقال إنه كان فى غزوة بنى المصطلق. وجزم بذلك فى الاستذكار. وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان، وغزوة بنى المصطلق هى غزوة المريسيع. وفيها كانت قصة الإفك لعائشة (٢) ، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا. فإن كان ما جزموا به ثابتا، حمل على أنه سقط منها فى تلك السفرة مرتين، لاختلاف القصتين، كما هو بين من سياقهما (٣) . قال: واستبعد بعض شيوخنا ذلك، لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر لقولها فى الحديث: حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، وهما بين مكة وخيبر كما جزم به النووى. قال: وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التين فإنه قال البيداء هى ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، وذات الجيش وراء ذى الحليفة. وقال أبو عبيد البكرى فى معجمه: البيداء أدنى إلى مكة من ذى الحليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا، ثم قال: وذات الجيش من المدينة على بريد. قال: وبينها وبين العقيق سبعة أميال. والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين. وقد قال قوم بتعدد ضياع العقد، ومنهم محمد بن حبيب الأخبارى ف قال: سقط عقد عائشة فى غزوة ذات الرقاع وفى غزوة بنى المصطلق. __________ (١) قلت: الحديث أخرجه البخارى (٣٣٤) فى التيمم، باب: وقول اللّه تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، ومسلم (٣٦٧) فى الحيض، باب: التيمم. (٢) حديث قصة الإفك تقدم. (٣) قاله الحافظ فى (الفتح) (١/ ٤٣٢) وكذلك ما بعده. وقد اختلف أهل المغازى فى أى هاتين الغزوتين كانت أولا. وقال الداودى: كانت قصة التيمم فى غزوة الفتح ثم تردد فى ذلك. وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع. فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بنى المصطلق، لأن إسلام أبى هريرة كان فى السنة السابعة، وهى بعدها بلا خلاف. وكان البخارى يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبى موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبى هريرة. ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الإفك ما رواه الطبرانى من طريق يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدى ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- فى غزوة أخرى، فسقط أيضا عقدى حتى حبس الناس على التماسه، فقال أبو بكر: يا بنية فى كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل اللّه الرخصة فى التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة (١) . وفى إسناده محمد بن حميد الرازى. وفيه مقال. وفى سياقه من الفوائد: بيان عتاب أبى بكر الذى أبهم فى حديث الصحيح، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين فى غزوتين. انتهى. وفى هذه الغزوة قال ابن أبى: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعه زيد بن أرقم، ذو الأذن الواعية، فحدث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- بذلك فأرسل إلى ابن أبى وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فأنزل اللّه تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ (٢) فقال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن اللّه قد صدقك يا زيد) (٣) . رواه البخارى. __________ (١) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (٢٣/ ١٢١) بسند فيه محمد بن حميد الرازى، وفيه مقال. (٢) سورة المنافقون: ١. (٣) صحيح: والحديث آخرجه البخارى (٤٩٠٠) فى التفسير، باب: قوله: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه إلى لَكاذِبُونَ، من حديث زيد بن أرقم- رضى اللّه عنه-. وكانت غيبته- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوما. غزوة الخندقوهى الأحزاب: جمع حزب، أى طائفة. فأما تسميتها بالخندق: فلأجل الخندق الذى حفر حول المدينة بأمره صلى اللّه عليه وسلم-، ولم يكن اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس. وكان الذى أشار بذلك سلمان، ف قال: يا رسول اللّه، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بحفره، وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين. وأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم: قريش وغطفان واليهود ومن معهم. وقد أنزل اللّه تعالى فى هذه القصة صدرا من سورة الأحزاب. واختلف فى تاريخها: فقال موسى بن عقبة: كانت فى شوال سنة أربع. وقال ابن إسحاق: كانت فى شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازى. ومال البخارى إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بقول ابن عمر: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه (١) . فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث، فتكون الخندق سنة أربع. ولا حجة فيه إذا ثبت لنا أنها كانت سنة خمس، لاحتمال أن يكون ابن عمر. فى أحد كان أول ما طعن فى الرابعة عشر، وكان فى الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقى. __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٢٦٦٤) فى الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، ومسلم (١٨٦٨) فى الإمارة، باب: بيان سن البلوغ. وقال الشيخ ولى الدين بن العراقى: والمشهور أنها فى السنة الرابعة. وكان من حديث هذه الغزوة: أن نفرا من يهود قدموا على قريش بمكة وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له. ثم خرج أولئك اليهود حتى جاؤا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حربه- عليه الصلاة والسلام-، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك واجتمعوا معهم. فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن فى فزارة، والحارث بن عوف المرى فى مرة. وكان عدتهم- فيما ذكره ابن إسحاق- عشرة آلاف. والمسلمون ثلاثة آلاف وقيل غير ذلك. وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا. ولما سمع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالأحزاب، وبما أجمعوا عليه من الأمر، ضرب على المسلمين الخندق، فعمل فيه- صلى اللّه عليه وسلم- ترغيبا للمسلمين فى الأجر، وعمل معه المسلمون، فدأب ودأبوا. وأبطأ على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعلى المسلمين فى عملهم ذاك ناس من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل. وفى البخارى: عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى الخندق، وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-: (اللّهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار) (١) . والأكتاد: - بالمثناة الفوقية- جمع كتد- بفتح أوله وكسر المثناة- وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفى بعض نسخ البخارى: أكبادنا بالموحدة، وهو موجه على أن يكون المراد به مما يلى الكبد من الجنب. __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٣٧٩٧) فى المناقب، باب: دعاء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أصلح الأنصار والمهاجرة، ومسلم (١٨٠٤) فى الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهى غزوة الخندق. وفى البخارى أيضا: عن أنس: فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون فى غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللّهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا (١) قال ابن بطال: وقوله اللّهم لا عيش إلا عيش الآخرة، هو من قول ابن رواحة تمثل به- صلى اللّه عليه وسلم-. وعند الحارث بن أبى أسامة من مرسل طاووس زيادة فى آخر الرجز: والعن عضلا والقارة ... هم كلفونا نقل الحجارة وفى البخارى من حديث البراء قال: (لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنى الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب ويقول: اللّهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا قال: يمد بها صوته..) وفى رواية له أيضا: إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا (٢) __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٣٤) فى الجهاد والسير، باب: التحريض على القتال، ومسلم (١٨٠٥) فى الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهى غزوة الخندق. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٣٤) فى الجهاد والسير، باب: الرجز فى الحرب، ومسلم (١٨٠٣) فى الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهى غزوة الخندق. وفى حديث سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- حين ضرب فى الخندق قال: بسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا فحبذا ربا وحب دينا قال فى النهاية: يقال بديت بالشىء- بكسر الدال- أى بدأت به، فلما خفف الهمزة كسر الدال، فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء. انتهى. وقد وقع فى حفر الخندق آيات من أعلام نبوته- صلى اللّه عليه وسلم-. منها ما فى الصحيح عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة- وهى بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتانية، وهى القطعة الصلبة- فجاؤا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقالوا: هذه كدية عرضت فى الخندق، فقام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم (١) . كذا بالشك من الراوى، وفى رواية الإسماعيلى باللام من غير شك، والمعنى: أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك. وأهيم: بمعنى أهيل. وقد قيل فى قوله تعالى: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٢) . المراد: الرمال التى لا يرويها الماء. وقد وقع عند أحمد والنسائى فى هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء قال: لما كان حين أمرنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بحفر الخندق، عرضت لنا فى بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فجاء وأخذ المعول ف قال: (بسم اللّه) ، ثم ضرب ضربة فنشر ثلثها، و قال: (اللّه أكبر أعطيت مفاتيح الشام، واللّه إنى لأبصار قصورها __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٠١) فى المغازى، باب: غزوة الخندق وهى الأحزاب. (٢) سورة الواقعة: ٥٥. الحمر الساعة) ، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، ف قال: (اللّه أكبر أعطيت مفاتيح فارس، وإنى واللّه لأبصار قصر المدائن الأبيض الآن) ، ثم ضرب الثالثة ف قال: (بسم اللّه) فقطع بقية الحجر، ف قال: (اللّه أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، واللّه إنى لأبصار أبواب صنعاء من مكانى الساعة) (١) . ومن أعلام نبوته ما ثبت فى الصحيح من حديث جابر من تكثير الطعام القليل يوم حفر الخندق (٢) ، كما سيأتى- إن شاء اللّه تعالى- مستوفى فى مقصد المعجزات مع غيره. وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا فى عمل الخندق قريبا من عشرين ليلة. وعند الواقدى: أربعا وعشرين. وفى الروضة للنووى: خمسة عشر يوما. وفى الهدى النبوى لابن القيم: أقاموا شهرا. ولما فرغ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول فى عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بنى كنانة وتهامة. ونزل عيينة بن حصن فى غطفان ومن تبعهم من أهل نجد إلى جانب أحد. وخرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ومن معه من المسلمين حتى جعلوا أظهرهم إلى سلع، وكانوا ثلاثة آلاف رجل. فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم. وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد ابن عبادة. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يبعث الحرس إلى المدينة خوفا على الذرارى من بنى قريظة. __________ (١) حسن: أخرجه أحمد فى (مسنده) (٤/ ٣٠٣) ، بسند فيه ميمون، أبو عبد اللّه، لم يوثقه غير ابن حبان، وقد روى له الترمذى والنسائى وابن ماجه. (٢) قلت: هو تتمة حديث البخارى (٤١٠١) المتقدم قبل حديث. قال ابن إسحاق: وخرج عدو اللّه حيى بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظى صاحب عقد بنى قريظة وعهدهم، وكان وادع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- على قومه وعاقده، فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال ويحك يا حيى، إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، فإنى لم أر منه إلا وفاء وصدقا. فقال: ويلك افتح، ولم يزل به حتى فتح له، ف قال: ويلك يا كعب، جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونه غطفان وقد عاهدونى على ألايبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، ولم يزل به حتى نقض عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. وعن عبد اللّه بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمرو بن أبى سلمة مع النساء فى أطم حسان، فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بنى قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت يا أبت رأيتك تختلف، قال: رأيتنى يا بنى؟ قلت: نعم. قال: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (من يأت بنى قريظة فيأتينى بخبرهم) فانطلقت، فلما رجعت جمع لى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أبويه ف قال: فداك أبى وأمى (١) . أخرجه الشيخان والترمذى و قال: حديث حسن. وفى رواية أصحاب المغازى: فلما انتهى الخبر إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما ابن رواحة وخوات بن جبير ليعرفوا الخبر، فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، نالوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- وتبرؤا من عقده وعهده، ثم أقبل السعدان ومن معهما على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وقالوا: عضل والقارة، أى كغدرهما بأصحاب الرجيع. فعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٢٠) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام رضى اللّه عنه-، ومسلم (٢٤١٦) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير رضى اللّه عنهما-. ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأنزل اللّه تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (١) الآيات. وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقال أوس ابن قيظى: يا رسول اللّه، إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا، فإنها خارج المدينة. وأقبل نوفل بن عبد اللّه بن المغيرة المخزومى على فرس له ليوثبه الخندق فوقع فى الخندق فقتله اللّه. وكبر ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- إنا نعطيك الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم النبى صلى اللّه عليه وسلم-: (إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه اللّه ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب لنا فى ديته) (٢) . قال ابن إسحاق: وأقام- صلى اللّه عليه وسلم- والمسلمون وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل، لكن كان عمرو بن عبد ود العامرى اقتحم هو ونفر معه خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، حتى صاروا بالسبخة، فبارزه على فقتله، وبرز نوفل بن عبد اللّه بن المغيرة فقتله الزبير وقيل قتله على، ورجعت بقية الخيول منهزمة. ورمى سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل- وهو بفتح الهمزة والمهملة بينهما كاف ساكنة- عرق فى وسط الذراع، قال الخليل: هو عرق الحياة يقال إن كل عضو منه شعبة فهو فى اليد الأكحل وفى الظهر الأبهر وفى الفخذ النسا، إذا قطع لم يرفأ الدم. وكان الذى رمى سعدا، ابن عرقة، أحد بنى عامر بن لؤى، قال خذها منى وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق اللّه وجهك فى النار. ثم قال __________ (١) سورة الأحزاب: ١٢. (٢) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٢٤٨) من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- بذكر ذكر اسم الرجل، وذكره التقى الهندى فى (كنز العمال) (٣٠١٠٢) عن عكرمة- رضى اللّه عنه- وعزاه لابن أبى شيبة. سعد: اللّهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها، فإنه لا قوم أحب إلىّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه. وأقام- عليه الصلاة والسلام- وأصحابه بضع عشرة ليلة. فمشى نعيم ابن مسعود الأشجعى- وهو مخف إسلامه- فثبط قومه عن قوم وأوقع بينهم شرّا لقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (الحرب خدعة) (١) فاختلفت كلمتهم. وروى الحاكم عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب وأبو سفيان ومن معه من فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون بيوتنا عورة، فمر بي النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأنا جاث على ركبتى، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة ف قال: اذهب فائتنى بخبر القوم، ودعا لى، فأذهب اللّه عنى القر والفزع، فدخلت عسكرهم فإذا الريح فيه لا تجاوز شبرا، فلما رجعت رأيت فوارس فى طريقى فقالوا: أخبر صاحبك أن اللّه كفاه القوم. وفى رواية: أن حذيفة لما أرسله- صلى اللّه عليه وسلم- ليأتيه بالخبر سمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الخف والكراع، واختلفنا وبنو قريظة، ولقينا من هذا الريح ما ترون فارتحلوا فإنى مرتحل ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم. ووقع فى البخارى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال يوم الأحزاب: (من يأتينا بخبر القوم) فقال الزبير: أنا، ف قال: (من يأتينا بخبر القوم) ، فقال الزبير: أنا، ف قال: (من يأتينا بخبر القوم؟) قالها ثلاثا (٢) . وقد استشكل ذكر الزبير فى هذه. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٣٠) فى الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة، ومسلم (١٧٣٩) فى الجهاد والسير، باب: جواز الخداع فى الحرب، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-، وفى الباب من حديث أبى هريرة فى الصحيحين أيضا. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٤٦) فى الجهاد والسير، باب: فضل الطليعة، ومسلم (٢٤١٥) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير- رضى اللّه عنهما-، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-. فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذى ذهب والمشهور أنه حذيفة ابن اليمان. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التى ذهب لكشفها غير القصة التى ذهب حذيفة لكشفها، فقصة الزبير كانت لكشف خبر بنى قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين؟ وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الآخرى، وأرسل اللّه عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة، فانتدب عليه السّلام- من يأتيه بخبر قريش فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك، وقصته فى ذلك مشهورة لما دخل بين قريش فى الليل وعرف قصتهم(١) . وفى البخارى من حديث عبد اللّه بن أبى أوفى قال: دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- على الأحزاب ف قال: (اللّهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللّهم اهزمهم وزلزلهم) (٢) . وروى أحمد عن أبى سعيد قال: قلنا يوم الخندق يا رسول اللّه هل من شىء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال: نعم، اللّهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. قال: فضرب اللّه وجوه أعدائنا بالريح (٣) . وفى (ينبوع الحياة) لابن ظفر: قيل إنه- صلى اللّه عليه وسلم- دعا ف قال: يا صريخ المكروبين يا مجيب المضطرين اكشف همى وغمى وكربى فإنك ترى ما نزل بى وبأصحابى. فأتاه جبريل فبشره بأن اللّه سبحانه يرسل عليهم ريحا وجنودا، فأعلم أصحابه ورفع يديه قائلا: شكرا شكرا، وهبت ريح الصبا __________ (١) قاله الحافظ فى (الفتح) (٧/ ٤٠٧) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٩٣٣) فى الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومسلم (١٧٤٢) فى الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو. (٣) أخرجه أحمد فى (المسند) (٣/ ٣) . ليلا فقلعت الأوتاد وألقت عليهم الأبنية وكفأت القدور وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصي، وسمعوا فى أرجاء معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح فارتحلوا هرابا فى ليلتهم وتركوا ما استثقلوه من متاعهم. قال: فذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها (١) . وفى البخارى عن على أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال يوم الخندق: (ملأ اللّه بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) (٢) ومقتضى هذا أنه استمر اشتغاله بقتال المشركين حتى غابت الشمس. ويعارضه ما فى صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: حبس المشركون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (شغلونا عن الصلاة الوسطى) (٣)الحديث. ومقتضى هذا أنه لم يخرج الوقت بالكلية. قال الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد، الحبس انتهى إلى ذلك الوقت، أى الحمرة أو الصفرة، ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب انتهى. وفى البخارى عن عمر بن الخطاب: أنه جاء يوم الخندق وجعل يسب كفار قريش قال: يا رسول اللّه، ما كدت أصلى حتى كادت الشمس أن تغرب فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (واللّه ما صليتها) ، فنزلنا مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب (٤) . __________ (١) سورة الأحزاب: ٩. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٩٣١) فى الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومسلم (٦٢٧) فى المساجد، باب: التغليظ فى تفويت صلاة العصر. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٦٢٨) فى المساجد، باب: التغليظ فى تفويت صلاة العصر. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٥٩٦) فى المواقيت، باب: من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، ومسلم (٦٣١) فى المساجد، باب: التغليظ فى تفويت صلاة العصر، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-. وقد يكون ذلك للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها، ومقتضى هذه الرواية المشهورة أنه لم يفت غير العصر. وفى الموطأ: الظهر والعصر. وفى الترمذى عن ابن مسعود أن المشركين شغلوا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عن أربع صلوات يوم الخندق (١) . و قال: ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد اللّه، فمال ابن العربى إلى الترجيح و قال: الصحيح أن التى اشتغل عنها- صلى اللّه عليه وسلم- واحدة وهى العصر. وقال النووى: طريق الجمع بين هذه الروايات، أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا فى بعض الأيام وهذا فى بعضها. قال: وأما تأخيره- صلى اللّه عليه وسلم- صلاة العصر حتى غربت الشمس فكان قبل نزول صلاة الخوف. قال العلماء: يحتمل أن يكون أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب فى النسيان الاشتغال بأمر العدو، ويحتمل أنه أخرها عمدا للاشتغال بالعدو قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل يصلى صلاة الخوف على حسب الحال. وقد اختلف فى المراد بالصلاة الوسطى. وجمع الحافظ الدمياطى فى ذلك مؤلفا مفردا سماه: كشف المغطى عن الصلاة الوسطى، فبلغ تسعة عشر قولا، وهى: الصبح أو الظهر، أو العصر، أوالمغرب، أو جميع الصلاة وهو يتناول الفرائض والنوافل واختاره ابن عبد البر، أو الجمعة وصححه القاضى حسين فى صلاة الخوف من تعليقه، أو الظهر فى الأيام والجمعة يوم الجمعة، أو العشاء لأنها بين صلاتين لا تقصران، أو الصبح والعشاء، أو الصبح والعصر لقوة الأدلة. فظاهر القرآن الصبح، ونص السنة العصر، أو صلاة الجماعة أو الوتر أو صلاة الخوف أو صلاة عيد الأضحى أو الفطر أو صلاة __________ (١) أخرجه الترمذى (١٧٩) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الرجل تفوته الصلاة بأيتهن يبدأ، والنسائى (٢/ ١٧) فى الآذان، باب: الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد والإقامة لكل منهما، وأحمد فى(مسنده) (١/ ٣٧٥) بسند منقطع. الضحى، أو واحدة من الخمس غير معينة، أو الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول السابق أو التوقف انتهى. وانصرف- صلى اللّه عليه وسلم- من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذى القعدة، وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يوما، وقيل أربعة وعشرين يوما. وقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا) (١) . وفى ذلك علم من أعلام النبوة. فإنه- صلى اللّه عليه وسلم- اعتمر فى السنة التى صدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة فوقع الأمر كما قال-عليه الصلاة والسلام-. وسيأتى ذلك إن شاء اللّه تعالى-. وقد أخرج البراز من حديث جابر بإسناد حسن شاهدا لهذا ولفظه: إن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة: (لا يغزونكم بعدها أبدا، ولكن أنتم تغزونهم)(٢) . [غزوة بنى قريظة]ولما دخل- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة يوم الأربعاء هو وأصحابه ووضعوا السلاح جاء جبريل- عليه السّلام- معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج. وفى رواية البخارى من حديث عائشة أنه لما رجع- صلى اللّه عليه وسلم- ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال له: قد وضعت السلاح، واللّه ما وضعناه. فاخرج إليهم.. وأشار إلى بنى قريظة (٣) . __________ (١) أخرجه البيهقى فى (الدلائل) (٣/ ٤٥٨) ، وابن هشام فى (السيرة) (٣/ ٢٠٦) ، وهو عند البخارى (٤١٠٩ و ٤١١٠) فى المغازى، باب: غزوة الخندق وهى الأحزاب بلفظ: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا) . (٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ١٣٩) و قال: رواه البزار ورجاله ثقات. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨١٣) فى الجهاد والسير، باب: الغسل بعد الحرب والغبار، ومسلم (١٧٦٩) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد. وعند ابن إسحاق: إن اللّه يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- مؤذنا فأذن فى الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببنى قريظة. وعند ابن عائذ: قم فشد عليك سلاحك، فو اللّه لأدقنهم دق البيض على الصفا، وبعث يومئذ مناديا ينادى يا خيل اللّه اركبى (١) . وعند الحاكم والبيهقى: وبعث عليّا على المقدمة، وخرج- صلى اللّه عليه وسلم- فى أثره. وعند ابن سعد: ثم سار إليهم فى المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذى القعدة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قاله ابن هشام. ونزل- صلى اللّه عليه وسلم- على بئر من آبار بنى قريظة وتلاحق به الناس. فأتى رجال منهم بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة) (٢) فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، فما عابهم اللّه بذلك فى كتابه ولا عنفهم به رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. وفى البخارى عن ابن عمر: فأدرك بعضهم العصر فى الطريق، فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلى، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- فلم يعنف واحدا منهم (٣) . كذا وقع فى جميع النسخ من البخارى: أنها العصر. واتفق عليه جميع أهل المغازى. __________ (١) ذكره العجلونى فى (كشف الخفاء) (٣١٧٠) وعزاه لابن عائذ فى المغازى عن قتادة مرسلا. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٩٤٦) فى الجمعة، باب: صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء، ومسلم (١٧٧٠) فى الجهاد والسير، باب: المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. (٣) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق. ووقع فى مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخارى ومسلم على روايته عن شيخ واحد وبإسناد واحد. ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون. وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم- قبل الأمر- كان يصلي الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر. وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التى بعدها العصر، واللّه أعلم. قال ابن إسحاق: وحاصرهم- صلى اللّه عليه وسلم- خمسا وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار. وعند ابن سعد: خمس عشرة. وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة. وقذف اللّه فى قلوبهم الرعب. فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا فقال لهم: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنى أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هى: قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو اللّه لقد تبين أنه لنبي مرسل، وأنه الذى تجدونه فى كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فأبوا. فقال: إذا أبيتم علىّ هذه، فهلم نقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم اللّه بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما نخشى عليه. فقالوا: أى عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا. فقال: إن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ. وأرسلوا إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن ابعث إلينا أبا لبابة- وهو رفاعة بن عبد المنذر- نستشيره فى أمرنا. فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه، فرقّ لهم، وقالوا يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح. قال أبو لبابة: فو اللّه ما زالت قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت اللّه ورسوله. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه فلم يأت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده، و قال: لا أبرح من مكانى هذا حتى يتوب اللّه على مما صنعت وعاهد اللّه ألايطأ بنى قريظة أبدا، ولا أرى فى بلد خنت اللّه ورسوله فيه أبدا. فلما بلغ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خبره، وكان قد استبطأه قال: (أما لو جاءنى لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب اللّه عليه) (١) . قال: وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته فى وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم تعود فتربطه بالجذع. وقال أبو عمر: روى وهب عن مالك عن عبد اللّه بن أبى بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه، فما كاد يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ أعادته. وعن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط: أن توبة أبى لبابة نزلت على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو فى بيت أم سلمة. قالت أم سلمة: فسمعت رسول اللّه __________ (١) انظر القصة فى (دلائل النبوة) للبيهقى (٤/ ١٦) ، وابن هشام فى (سيرته) (٣/ ١٨٨- ١٩٠) . - صلى اللّه عليه وسلم- من السحر وهو يضحك، فقالت: قلت مم تضحك، أضحك اللّه سنك. قال: (تيب على أبى لبابة) . قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول اللّه، قال: (بلى إن شئت) . قال: فقامت على باب حجرتها- وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب- فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا واللّه حتى يكون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- هو الذى يطلقنى بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه (١) . وروى البيهقى فى دلائله بسنده عن مجاهد فى قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ (٢) . قال: هو أبو لبابة إذ قال لبنى قريظة ما قال وأشار إلى حلقه إن محمدا يذبحكم إن نزلتم على حكمه. قال البيهقى وترجم محمد بن إسحاق بن يسار أن ارتباطه كان حينئذ. وقد روينا عن ابن عباس ما دل على أن ارتباطه بسارية المسجد كان لتخلفه عن غزوة تبوك، كما قال ابن المسيب قال: وفى ذلك نزلت هذه الآية. ولما اشتد الحصار ببنى قريظة أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-، فحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان قد جعله فى خيمة فى المسجد الشريف لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة وكانت تداوى الجرحى، فلما حكمه أتاه قومه فحملوه على حمار وقد وطئوا له بوسادة من أدم- وكان رجلا جسيما- ثم أقبلوا معه إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. فلما انتهى سعد إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- والمسلمين، قال- عليه الصلاة والسلام-: (قوموا إلى سيدكم) . فأما المهاجرون من قريش فيقولون إنما أراد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- المسلمين. فقالوا: إن رسول اللّه قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم. __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٤/ ١٧) ، وابن هشام فى (سيرته) (٣/ ١٩١) . (٢) سورة التوبة: ١٠٢. فقال سعد: فإنى أحكم فيهم، أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذرارى والنساء. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة) والرقيع: السماء سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم. ووقع فى البخارى: قال: قضيت فيهم بحكم اللّه، وربما قال: (بحكم الملك) - بكسر اللام-. وفى رواية محمد بن صالح: (لقد حكمت اليوم فيهم بحكم اللّه الذى حكم به من فوق سبع سموات) (١) . وفى حديث جابر- عند ابن عائذ- ف قال: (احكم فيهم يا سعد) ، ف قال: اللّه ورسوله أحق بالحكم، قال: (قد أمرك اللّه أن تحكم فيهم) (٢) . وفى هذه القصة: جواز الاجتهاد فى زمنه- صلى اللّه عليه وسلم- وهى مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه. والمختار: الجواز، سواء كان فى حضرته- صلى اللّه عليه وسلم- أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك لأنه بالتقرير يصير قطعيّا، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته- صلى اللّه عليه وسلم- كما فى هذه القصة وغيرها. انتهى. وانصرف- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الخميس لسبع ليال- كما قال الدمياطى، أو لخمس كما قاله مغلطاى- خلون من ذى الحجة. وأمر- صلى اللّه عليه وسلم- ببنى قريظة فأدخلوا المدينة، وحفر لهم أخدود فى السوق، وجلس- صلى اللّه عليه وسلم- ومعه أصحابه، وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة، وقال السهيلى: المكثر يقول إنهم ما بين __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٤٣) فى الجهاد والسير، باب: إذا نزل العدو على حكم رجل، ومسلم (١٧٦٨) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-. (٢) ذكره الحافظ فى (الفتح) (٧/ ٤١٢) وعزاه لابن عائذ. الثمانمائة إلى التسعمائة، وفى حديث جابر عند الترمذى والنسائى وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل (١) . فيحتمل فى طريق الجمع أن ي قال: إن الباقين كانوا أتباعا. واصطفى- صلى اللّه عليه وسلم- لنفسه الكريمة ريحانة فتزوجها.، وقيل كان يطؤها بملك اليمين، وأمر بالغنائم فجمعت، وأخرج الخمس من المتاع والسبى ثم أمر بالباقى فبيع فيمن يريد وقسمه بين المسلمين، فكانت على ثلاث آلاف واثنتين وسبعين سهما، للفرس سهمان ولصاحبه سهم، وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدى، فكان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يعتق منه ويهب ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرثة- وهو السقط من المتاع-. وانفجر جرح سعد بن معاذ، فمات شهيدا. وفى البخارى أنه دعا: اللّهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلىّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك [ وأخرجوه] ، اللّهم إنى أظن أنك قد وضعت الحرب فافجرها واجعل موتى فيها، فانفجرت من لبته، فلم يرعهم وفى المسجد خيمة لامرأة من بنى غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذى يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها (٢) . وقد كان ظن سعد مصيبا، ودعاؤه فى هذه القصة مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (١٥٨٢) فى السير، باب: ما جاء فى النزول على الحكم، والنسائى فى (الكبرى) (٨٦٧٩) ، وأحمد فى (مسنده) (٣/ ٣٥٠) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٤٧٨٤) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤١٢٢) فى المغازى، باب: مرجع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة ومحاصرته إياهم، ومسلم (١٧٦٩) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. فيه من المشركين، فإنه- صلى اللّه عليه وسلم- تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكادت الحرب أن تقع بينهم فلم تقع كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ (١) . ثم وقعت الهدنة واعتمر- عليه السّلام- من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد فتوجه إليهم غازيا ففتحت مكة، فعلى هذا: فالمراد بقوله: أظن أنك قد وضعت الحرب، أى: أن يقصدونا محاربين. وهو كقوله- صلى اللّه عليه وسلم- (نغزوهم ولا يغزونا) كما تقدم-. وقد بين سبب انفجار جرح سعد فى مرسل حميد بن هلال- عند ابن سعد- ولفظه: أنه مرت به عنز، وهو مضطجع، فأصاب ظلفها موضع النحر فانفجرت حتى مات. وحضر جنازته سبعون ألف ملك، واهتز لموته عرش الرحمن (٢) رواه الشيخان. قال النووى: اختلف العلماء فى تأويله: فقالت طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش تحركه فرحا بقدوم سعد، وجعل اللّه تعالى فى العرش تمييزا حصل به هذا، ولا مانع منه، كما قال تعالى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه (٣) . وهذا القول هو ظاهر الحديث. وهو المختار. قال المازرى: قال بعضهم: هو على حقيقته، وأن العرش تحرك لموته، وهذا لا ينكر من جهة العقل، لأن العرش جسم من الأجسام، يقبل الحركة والسكون. قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك إلا أن ي قال: إن اللّه تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته. وقال آخرون: المراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول. ومنه قول العرب: __________ (١) سورة الفتح: ٢٤. (٢) حديث اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ أخرجه البخارى (٣٨٠٣) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى اللّه عنه-، ومسلم (٢٤٦٦) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ- رضى اللّه عنه-، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-. (٣) سورة البقرة: ٧٤. فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها. وقال الحربى: هو عبارة عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشىء المعظم إلى أعظم الأشياء، فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة. وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة. وهو النعش. وهذا القول باطل يرده صريح الروايات التى ذكرها مسلم (اهتز لموته عرش الرحمن) وإنما قال هؤلاء هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم الروايات التى ذكرها مسلم واللّه أعلم. انتهى. وقيل المراد باهتزاز العرش حملة العرش، وصحح الترمذى من حديث أنس قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما أخف جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما أخف جنازته، فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن الملائكة كانت تحمله) (١) . وعن البراء قال: أهديت للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة خير منها وألين) (٢) هذا لفظ رواية أبى نعيم فى مستخرجه على مسلم. والمناديل: جمع منديل- بكسر الميم فى المفرد- وهو معروف. قال العلماء: وهذا إشارة إلى أعظم منزلة سعد فى الجنة، وأن أدنى __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٨٤٩) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى اللّه عنه-، والحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٢٢٨) ، وأبو يعلى فى (مسنده) (٣٠٣٤) ، والطبرانى فى (الكبير) (٦/ ١٢) ، من حديث أنس- رضى اللّه عنه- . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٨٠٢) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى اللّه عنه-، ومسلم (٢٤٦٨) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ- رضى اللّه عنه-. ثيابه فيها خير من هذه، لأن المنديل أدنى الثياب، لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل. انتهى. وأخرج ابن سعد وأبو نعيم، من طريق محمد بن المنكدر عن محمد بن شرحبيل بن حسنة قال: قبض إنسان يومئذ بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هى مسك، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (سبحان اللّه، سبحان اللّه) ، حتى عرف ذلك فى وجهه، ف قال: (الحمد للّه، لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد، ضم ضمة ثم فرج اللّه عنه) (١) . وأخرج ابن سعد عن أبى سعيد الخدرى قال: كنت ممن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلما حفرناه (٢) . قال الحافظ مغلطاى وغيره: وفى هذه السنة فرض الحج. وقيل: سنة ست وصححه غير واحد، وهو قول الجمهور. وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان ورجحه جماعة من العلماء. وسيأتى البحث فى ذلك- إن شاء اللّه تعالى- فى ذكر وفد عبد القيس فى المقصد الثانى، وفى ذكر حجه- عليه الصلاة والسلام- من مقصد عباداته. ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء، بطن من بنى بكر بن كلاب وهم ينزلون بناحية ضربة بالبكرات، وبين ضربة والمدينة سبع ليال. لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة. بعثه فى ثلاثين راكبا، فلما أغار عليهم هرب سائرهم. وعند الدمياطى: فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم. واستاق نعما وشاء، وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعه ثمامة بن أثال الحنفى أسيرا. __________ (١) أخرجه ابن سعد فى (طبقاته) (٣/ ٤٢٨) ، وهو عند أحمد (٦/ ٥٥، ٩٨) من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٢) أخرجه ابن سعد فى (طبقاته) (٣/ ١٢٨) . فربط بأمره- صلى اللّه عليه وسلم- بسارية من سوارى المسجد، ثم انطلق بأمره صلى اللّه عليه وسلم-، فاغتسل وأسلم و قال: يا محمد، واللّه ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى، واللّه ما كان من دين أبغض إلى من دينك فأصبح دينك أحب الأديان كلها إلى، واللّه ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلى. وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ولا واللّه لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- (١) . ذكر قصته البخارى. |