١-١ [تشريف اللّه تعالى له صلى اللّه عليه وسلم]اعلم يا ذا العقل السليم، والمتصف بأوصاف الكمال والتتميم- وفقنى اللّه وإياك بالهداية إلى الصراط المستقيم- أنه لما تعلقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه، وتقدير رزقه، أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية (١) فى الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها، علوها وسفلها، على صورة حكمه، كما سبق فى سابق إرادته وعلمه، ثم أعلمه تعالى بنبوته، وبشره برسالته، هذا وآدم لم يكن إلا- كما قال، بين الروح والجسد (٢) ، ثم انبجست منه- صلى اللّه عليه وسلم- عيون الأرواح، فظهر بالملأ الأعلى، وهو بالمنظر الأجلى، فكان لهم المورد الأحلى، فهو- صلى اللّه عليه وسلم- الجنس العالى على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس (٣) . ولما انتهى الزمان باسم الباطن فى حقه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى وجود جسمه، وارتباط الروح به، انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر، فظهر محمد صلى اللّه عليه وسلم- بكليته جسما وروحا، فهو- صلى اللّه عليه وسلم- وإن تأخرت طينته، فقد عرفت قيمته، فهو خزانة السر، وموضع نفوذ الأمر، فلا ينفذ أمر إلا منه، ولا ينقل خير إلا عنه: ألا بأبى من كان ملكا وسيدا ... وآدم بين الماء والطين واقف فذاك الرسول الأبطحى محمد ... له فى العلا مجد تليد وطارف أتى بزمان السعد فى آخر المدى ... وكان له فى كل عصر مواقف __________ (١) عبارة غامضة، تكلفها الخلف، ولم ترد عن السلف. (٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٠٩) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٦٦٥) ، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٣) قلت كما تقدم، عبارات تكلفها الخلف، ولم ترد عن السلف. أتى لانكسار الدهر بجبر صدعه ... فأثنت عليه ألسن وعوارف إذا رام أمرا لا يكون خلافه ... وليس لذاك الأمر فى الكون صارف (١) أخرج مسلم فى صحيحه، من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص، عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه قال: (إن اللّه عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) (٢) . ومن جملة ما كتب فى الذكر- وهو أم الكتاب- أن محمدا خاتم النبيين الأحزاب: ٤٠. وعن العرباض بن سارية عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (إنى عند اللّه لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل فى طينته) (٣) رواه أحمد والبيهقى، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وقوله: لمنجدل، يعنى: طريحا ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه. وعن ميسرة الضبى (٤) قال: قلت يا رسول اللّه، متى كنت نبيّا؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد) (٥) هذا لفظ رواية الإمام أحمد. ورواه البخارى فى تاريخه وأبو نعيم فى الحلية وصححه الحاكم. __________ (١) قلت: الذى إذا أراد شيئا فلا يكون خلافه، هو اللّه عز وجل، أما غيره، فبالتبع لا بالأصل، ولولا أمر اللّه للشىء بذلك ما استطاع، وانظر إلى رغبته فى إسلام عمه أبى طالب، ولم يسلم، ويقول اللّه عز وجل له: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ سورة القصص: ٥٦، ولو كان الأمر كما قال الشاعر، لأسلم عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-، ولا نقصد بهذا الكلام الانتقاص من شخص رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ولكن المقصد أن مشيئته- صلى اللّه عليه وسلم- تابعة لا أصلية، فالمشيئة الأصلية للّه عز وجل، والتابعة لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- ولغيره، وكانت لنبينا- صلى اللّه عليه وسلم- منه الأكبر. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٦٥٣) فى القدر، باب: حجاج آدم وموسى- عليهما السلام-. (٣) أخرجه أحمد فى المسند) (٤/ ١٢٧ و ١٢٨) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٤٠٤) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٤٥٣ و ٦٥٦) ، والبيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ٨٣) . (٤) فى (المسند) (٥/ ٥٩) : ميسرة الفجر، وكذا فى (الإصابة) (٦/ ٢٣٩) لابن حجر، ولعل الضبى تصحيف، حديث لم أجد أحدا نسبه بهذه النسبة. (٥) أخرجه أحمد فى (المسند) (٥/ ٥٩) ، والحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٦٦٥) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢٠/ ٣٥٣) . وأما ما اشتهر على الألسنة بلفظ: كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين (١) . فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير السخاوى- نفع اللّه بعلومه- فى كتابه (المقاصد الحسنة) : لم نقف عليه بهذا اللفظ. انتهى. وقال الحافظ ابن رجب، فى اللطائف: وبعضهم يرويه: (متى كتبت) من الكتابة، انتهى. قلت: وكذا رويناه فى جزء من حديث أبى عمرو، إسماعيل بن نجيد، ولفظه: متى كتبت نبيّا؟ قال: (كتبت وآدم بين الروح والجسد) (٢) . فتحمل هذه الرواية مع رواية العرباض بن سارية على وجوب نبوته وثبوتها، وظهورها فى الخارج، فإن الكتابة تستعمل فيما هو واجب. (٢٣/ ٢٢١ و ٢٢٢) ،أبيها أو عمها. قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ (٣) . وكَتَبَ اللّه لَأَغْلِبَنَّ (٤) . وعن أبى هريرة أنهم قالوا: يا رسول اللّه، متى وجبت لك النبوة قال: (وآدم بين الروح والجسد) (٥) رواه الترمذى وقال: حديث حسن. وروينا فى جزء من أمالى أبى سهل القطان عن سهل بن صالح الهمدانى، قال: سألت أبا جعفر، محمد بن على، كيف صار محمد- صلى اللّه عليه وسلم- يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث؟ قال: إن اللّه تعالى لما أخذ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ (٦) . كان محمد- صلى اللّه عليه وسلم- أول من قال بلى، ولذلك صار يتقدم الأنبياء، وهو آخر من بعث. __________ (١) ليس له أصل، وانظر (كشف الخفاء) للعجلونى (٢٠٠٧ و ٢٠١٧) . (٢) تقدم من حديث أبى هريرة، وميسرة الفجر- رضى اللّه عنهما-. (٣) سورة البقرة: ١٨٣. (٤) سورة المجادلة: ٢١. (٥) صحيح: وقد تقدم قبل قليل. (٦) سورة الأعراف: ١٧٢. فإن قلت: إن النبوة وصف لابد أن يكون الموصوف به موجودا، وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة أيضا، فكيف يوصف به قبل وجوده وإرساله؟ أجاب العلامة الغزالى فى كتاب (النفخ والتسوية) عن هذا، وعن قوله: (كنت أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا) (١) : (بأن المراد ب (الخلق) هنا: التقدير دون الإيجاد، فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن موجودا مخلوقا، ولكن الغايات والكمالات سابقة فى التقدير لاحقة فى الوجود) . __________ (١) جدّا: أخرجه أبو نعيم فى (الدلائل) (ص ٤٢) . قال: وهو معنى قولهم: (أول الفكرة آخر العمل، وآخر العمل أول الفكرة) وبيانه: أن المهندس المقدر للدار، أول ما يمثل فى نفسه صورة الدار، فتحصل فى تقديره دار كاملة، وآخر ما يوجد من أعماله هى الدار الكاملة، فالدار الكاملة هى أول الأشياء فى حقه تقديرا، وآخرها وجودا، لأن ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان، وتركيب الجذوع، وسيلة إلى غاية وكمال وهى الدار، فالغاية هى الدار ولأجلها تقوم الآلات والأعمال) . ثم قال: وأما قوله- عليه السّلام-: (كنت نبيّا) فإشارة إلى ما ذكرناه، وأنه كان نبيّا فى التقدير قبل تمام خلقة آدم- عليه السّلام-، لأنه لم ينشأ خلق آدم إلا لينتزع من ذريته محمد- صلى اللّه عليه وسلم- ويستصفى تدريجا إلى أن يبلغ كمال الصفا) . قال: ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن يعلم أن للدار وجودين: وجودا فى ذهن المهندس ودماغه، والوجود الثانى أنه ينظر إلى صورة الدار خارج الذهن فى الأعيان، والوجود الذهنى سبب الوجود الخارج للعين، فهو سابق لا محالة، وكذلك فاعلم أن اللّه تعالى يقدر ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا، انتهى. وهو متعقب بقول الشيخ تقى الدين السبكى: (إنه قد جاء أن اللّه خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون الإشارة بقوله: (كنت نبيّا) إلى روحه الشريفة، أو إلى حقيقة من الحقائق، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها، وإنما يعلمها خالقها ومن أمده اللّه بنور إلهى، ثم إن تلك الحقائق يؤتى اللّه كل حقيقة منها ما يشاء فى الوقت الذى يشاء، فحقيقة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قد تكون من حين خلق آدم آتاها اللّه ذلك الوصف، بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وأفاضه عليها من ذلك الوقت، فصار نبيّا، وكتب اسمه على العرش، وأخبر عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده (١). (فحقيقته موجودة من ذلك الوقت وإن تأخر جسده الشريف المتصف بها، واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية حاصل من ذلك الوقت، وإنما يتأخر البعث والتبليغ، وكل ما له من جهة اللّه ومن جهة تأهل ذاته الشريفة وحقيقته معجل لا تأخر فيه. وكذلك استنباؤه وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة، وإنما المتأخر تكونه وتنقله إلى أن ظهر صلى اللّه عليه وسلم-). (وقد علم من هذا: أن من فسره بعلم اللّه بأنه سيصير نبيّا لم يصل إلى هذا المعنى، لأن علم اللّه تعالى محيط بجميع الأشياء. ووصف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بالنبوة فى ذلك الوقت ينبغى أن يفهم منه أنه أمر ثابت له فى ذلك الوقت. ولو كان المراد بذلك مجرد العلم بما سيصير فى المستقبل لم يكن له خصوصية بأنه نبى وآدم بين الروح والجسد، لأن جميع الأنبياء يعلم اللّه تعالى نبوتهم فى ذلك الوقت وقبله، فلا بد من خصوصية للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلاما لأمته ليعرفوا قدره عند اللّه تعالى) . وعن الشعبى (٢) : قال رجل يا رسول اللّه، متى استنبئت؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد، حين أخذ منى الميثاق) (٣) رواه ابن سعد، من رواية جابر الجعفى، فيما ذكره ابن رجب. __________ (١) لعله يشير إلى حديث شفاعة آدم حينما أذنب فذهب إلى ربه فاستشفع بمحمد- صلى اللّه عليه وسلم-، فسأله اللّه عز وجل، وما أعلمك به؟ ف قال: وجدت اسمه مكتوب على عرشك، فعرفت أنه أحب الخلق إليك ... إلى آخره، فهو ..... جدّا، ولا حجة فيه، وسيأتى بعد قليل. (٢) هو: عامر بن شراحيل الشعبى، من أئمة التابعين، وعلى ذلك فحديثه مرسل. (٣) مرسل: أخرجه ابن سعد فى (الطبقات) (٧/ ٤٢) . فهذا يدل على أنه من حين صور آدم طينا استخرج منه محمد- صلى اللّه عليه وسلم- ونبىء وأخذ منه الميثاق، ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى يخرج وقت خروجه الذى قدر اللّه خروجه فيه فهو أولهم خلقا. لا يقال: يلزم خلق آدم قبله، لأن آدم كان حينئذ مواتا لا روح فيه، ومحمد- صلى اللّه عليه وسلم- كان حيّا حين استخرج ونبىء وأخذ منه الميثاق، فهو أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا. فإن قلت إن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه، كما دل عليه أكثر الأحاديث، والذى تقرر هنا: أنه استخرج ونبىء قبل نفخ الروح فى آدم- عليه السّلام-. أجاب بعضهم: بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح. فإن محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- هو المقصود من خلق النوع الإنسانى، وهو عينه وخلاصته وواسطة عقده. والأحاديث السابقة صريحة فى ذلك، واللّه أعلم (١) . وروى عن على بن أبى طالب- صلى اللّه عليه وسلم- أنه قال: لم يبعث اللّه تعالى نبيّا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد فى محمد- صلى اللّه عليه وسلم- لئن بعث، وهو حى، ليؤمنن به ولينصرنه، ويأخذ العهد بذلك على قومه. وهو مروى عن ابن عباس أيضا ذكرهما العماد بن كثير فى تفسيره (٢) . وقيل: إن اللّه تعالى لما خلق نور نبينا محمد- صلى اللّه عليه وسلم- أمره أن ينظر إلى أنوار الأنبياء عليهم السلام، فغشيهم من نوره ما أنطقهم اللّه به فقالوا: يا ربنا، من غشينا نوره؟ فقال اللّه تعالى: هذا نور محمد بن عبد اللّه، إن آمنتم به جعلتكم أنبياء، قالوا: آمنا به وبنبوته فقال اللّه تعالى: أشهد عليكم؟ قالوا: نعم. فذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ __________ (١) قلت: إلا أنه لا توجد أحاديث صحيحة على ما يقول، ولا حجة فيها. (٢) قلت: انظر تفسير ابن كثير عند تفسيره لسورة آل عمران، الآية: ٨١. وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ إلى قوله: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (١) (٢) . قال الشيخ تقى الدين السبكى: (فى هذه الآية الشريفة من التنويه بالنبى صلى اللّه عليه وسلم- وتعظيم قدره العلى ما لا يخفى، وفيه مع ذلك: أنه على تقدير مجيئه فى زمانهم يكون مرسلا إليهم، فتكون رسالته ونبوته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله: (وبعثت إلى الناس كافة) (٣) لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضا. ويتبين بذلك معنى قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد) (٤) . (ثم قال: فإذا عرف هذا فالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- نبى الأنبياء، ولهذا ظهر فى الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه، وفى الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم. ولو اتفق مجيئه فى زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى- صلوات اللّه وسلامه عليهم- وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته. وبذلك أخذ اللّه الميثاق عليهم) . انتهى وسيأتى- إن شاء اللّه تعالى- مزيد لذلك فى المقصد السادس. وذكر العارف الربانى عبد اللّه بن أبى جمرة فى كتابه (بهجة النفوس) ، ومن قبله ابن سبع فى (شفاء الصدور) عن كعب الأحبار، قال: لما أراد اللّه تعالى أن يخلق محمدا، أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التى هى قلب الأرض وبهاؤها ونورها، قال: فهبط جبريل فى ملائكة الفردوس وملائكة الرقيع الأعلى، فقبض قبضة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من موضع قبره الشريف، وهى __________ (١) سورة آل عمران: ٨١. (٢) قلت: وهل يستدل على مثل هذه الأمور بأخبار لا أسانيد لها. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٣٥) فى التيمم، باب: وقول اللّه تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، ومسلم (٥٢١) فى المساجد، باب: رقم (١) ، من حديث جابر رضى اللّه عنه-. (٤) صحيح: وقد تقدم. بيضاء منيرة، فعجنت بماء التسنيم فى معين أنهار الجنة، حتى صارت كالدرة البيضاء، لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة حول العرش والكرسى، وفى السماوات والأرض والجبال والبحار، فعرفت الملائكة وجميع الخلق سيدنا محمدا وفضله قبل أن تعرف آدم- عليهما السلام- (١) . وقيل: لما خاطب اللّه تعالى السماء والأرض بقوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (٢) . أجاب موضع الكعبة الشريفة. ومن السماء ما يحاذيها. وقد قال ابن عباس: أصل طينة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من سرة الأرض بمكة. فقال بعض العلماء: هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا درة المصطفى محمد صلى اللّه عليه وسلم-، ومن موضع الكعبة دحيت الأرض فصار رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- هو الأصل فى التكوين، والكائنات تبع له. وقيل: لذلك سمى أميّا لأن مكة أم القرى، ودرته أم الخليقة (٣) . فإن قلت: تربة الشخص مدفنه، فكان مقتضى هذا أن يكون مدفنه عليه الصلاة والسلام- بمكة، حيث كانت تربته منها. فقد أجاب عنه صاحب عوارف المعارف- أفاض اللّه علينا من عوارفه، وتعطف علينا بعواطفه- بأنه قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحى، فوقعت جوهرة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى ما يجاذى تربته بالمدينة، فكان- صلى اللّه عليه وسلم- مكيّا مدنيّا، حنينه إلى مكة وتربته بالمدينة انتهى (٤) . وفى (المولد الشريف) لابن طغر بك (٥) : ويروى أنه لما خلق اللّه تعالى __________ (١) قلت: راوى هذا الأثر، هو كعب الأحبار، وهو أكثر الرواية عن أهل الكتاب، ومن الواضح أن ذلك منها. (٢) سورة فصلت: ١١. (٣) قلت: وهذا كلام لا دليل عليه، ولا حجة فيه. (٤) قلت: وهذا على صحة المقولة السابقة، وهى لم تصح أصلا. (٥) هو: عمر بن أيوب بن أرسلان سيف الدين، أبو جعفر، المعروف بابن طغر بك الدمشقى التركى، توفى سنة (٦٧٠ هـ) ، وكتابه اسمه (الدر النظيم فى مولد النبى الكريم) . آدم، ألهمه أن قال: يا رب، لم كنيتنى أبا محمد، قال اللّه تعالى: يا آدم ارفع رأسك، فرفع رأسه فرأى نور محمد- صلى اللّه عليه وسلم- فى سرادق العرش، ف قال: يا رب، ما هذا النور؟ قال: هذا نور نبى من ذريتك اسمه فى السماء أحمد، وفى الأرض محمد، لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماء ولا أرضا. ويشهد لهذا، ما رواه الحاكم فى صحيحه أن آدم- عليه السّلام- رأى اسم محمد- صلى اللّه عليه وسلم- مكتوبا على العرش، وأن اللّه تعالى قال لآدم لولا محمد ما خلقتك (١) . وللّه در القائل: وكان لدى الفردوس فى زمن الرضا ... وأثواب شمل الأنس محكمة السدى يشاهد فى عدن ضياء مشعشعا ... يزيد على الأنوار فى الضوء والهدى فقال إلهى ما الضياء الذى أرى ... جنود السما تعشو إليه ترددا فقال نبى خير من وطىء الثرى ... وأفضل من فى الخير راح أو اغتدى تخيرته من قبل خلقك سيدا ... وألبسته قبل النبيين سؤددا فإن قلت: إن مذهب الأشاعرة (٢) : أن أفعال اللّه تعالى ليست معللة بالأغراض، فكيف تكون خلقة محمد علة فى خلق آدم- صلى اللّه عليهما وسلم-؟ أجيب: بأن الظاهرة من الأدلة تعليل بعض الأفعال بالحكم والمصالح التى هى غايات ومنافع لأفعاله تعالى، لا بواعث على إقدامه، ولا علل مقتضية لفاعليته، لأن ذلك محال فى حقه تعالى، لما فيه من استكماله بغيره. والنصوص شاهدة بذلك، كقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٣) . أى: قرنت الخلق بالعبادة، أى خلقتهم وفرضت عليهم العبادة، فالتعليل لفظى لا حقيقى، لأن اللّه تعالى مستغن عن المنافع، فلا __________ (١) أخرجه الحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٦٧٢) ، من حديث عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- بسند ..... جدّا. (٢) هى: إحدى الفرق الإسلامية، التى تخالف عقيدة أهل السنة والجماعة، فى بعض الأمور، وإمامهم فى ذلك، أبو الحسن الأشعرى وإليه ينسبوا، توفى سنة (٤٢٤ هـ) . (٣) سورة الذاريات: ٥٦. يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره، لأن اللّه قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل. وروى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد اللّه الأنصارى قال: قلت يا رسول اللّه، بأبى أنت وأمى، أخبرنى عن أول شىء خلقه اللّه تعالى قبل الأشياء. قال: يا جابر، إن اللّه تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء اللّه تعالى، ولم يكن فى ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء، ولا أرض ولا شمس ولا قمر، ولا جنى ولا أنسى، فلما أراد اللّه تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثانى اللوح، ومن الثالث العرش. ثم قسم الجزءالرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثانى الكرسى، ومن الثالث باقى الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات، ومن الثانى الأرضين ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثانى نور قلوبهم- وهى المعرفة باللّه- ومن الثالث نور أنسهم، وهو التوحيد لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه (١) وقد اختلف: هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدى؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمدانى: الأصح أن العرش قبل القلم، لما ثبت فى الصحيح عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (قدر اللّه مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) (٢) ، فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش. والتقدير وقع عند أول خلق القلم لحديث عبادة بن الصامت، مرفوعا: (أول ما خلق اللّه القلم قال له اكتب، قال: رب، وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شىء) (٣) رواه أحمد، والترمذى وصححه. __________ (١) والحديث ليس له وجود فى (مصنف عبد الرزاق) . (٢) صحيح: وقد تقدم. (٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٢١٥٥) فى القدر، باب: ما جاء فى الرضا بالقضاء، و (٣٣١٩) فى كتاب التفسير، باب: ومن سورة ن والقلم . ورويا أيضا من حديث أبى رزين العقيلى (١) مرفوعا: (إن الماء خلق قبل العرش) (٢) . وروى السدى (٣) بأسانيد متعددة: (أن اللّه تعالى لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء) (٤) فيجمع بينه وبين ما قبله، بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا النور النبوى المحمدى والماء والعرش، انتهى. وقيل: الأولية فى كل بالإضافة إلى جنسه، أى أول ما خلق اللّه من الأنوار نورى، وكذا فى باقيها. وفى أحكام ابن القطان، مما ذكره ابن مرزوق، عن على بن الحسين عن أبيه عن جده أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (كنت نورا بين يدى ربى قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام) (٥) . وفى الخبر: لما خلق اللّه آدم جعل ذلك النور فى ظهره فكان يلمع فى جبينه، فيغلب على سائر نوره، ثم رفعه اللّه على سرير مملكته وحمله على أكتاف ملائكته وأمرهم فطافوا به فى السماوات ليرى عجائب ملكوته. __________ (١) هو: الصحابى الجليل، لقيط بن عامر بن صبرة بن المنتفق، وكان وافد قومه. (٢) أخرجه الترمذى (٣١٠٩) فى التفسير، باب: ومن سورة هود، والترمذى (١٨٢) فى المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، وأحمد فى (مسنده) (٤/ ١١ و ١٢). (٣) هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة، أبو محمد القرشى، وهو السدى الكبير، كان يقعد فى سدة باب الجامع فسمى السدى، عرف بالتفسير، وهو صدوق إلا أنه يهم، مات سنة (١٢٧ هـ) ، وهناك سدى آخر، وهو محمد بن مروان، ويعرف بالسدى الأصغر، صاحب السائب الكلبى، صاحب التفسير، إلا أنه متهم بالكذب. (٤) قلت: لا يوجد حديث بهذا اللفظ، إلا أن معناه صحيح، حديث ورد فى (صحيح البخارى) من حديث عمران بن حصين- رضى اللّه عنه-، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (كان اللّه ولم يكن شىء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض) ، الحديث (٧٤١٨) فى التوحيد، باب: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، وقال الحافظ فى (الفتح) (٦/ ٢٨٩) : معناه: أنه خلق الماء سابقا، ثم خلق العرش على الماء، وقد وقع فى قصة نافع بن زيد الحميرى بلفظ: (كان عرشه على الماء ثم خلق القلم، فقال: اكتب ما هو كائن، ثم خلق السماوات والأرض وما فيهن، فصرح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش) . (٥) انظر (كشف الخفاء) للعجلونى (٨٢٧ و ٢٠٠٧) . قال جعفر بن محمد: مكثت الروح فى رأس آدم مائة عام، وفى صدره مائة عام وفى ساقيه وقدميه مائة عام، ثم علمه اللّه تعالى أسماء جميع المخلوقات، ثم أمر الملائكة بالسجود فسجدوا إلا إبليس، فطرده اللّه تعالى وخزاه. وكان السجود لآدم سجود تعظيم وتحية، لا سجود عبادة، كسجود أخوة يوسف له، فالمسجود له فى الحقيقة هو اللّه تعالى، وآدم كالقبلة. وروى عن جعفر الصادق أنه قال: كان أول من سجد لآدم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون. وعن أبى الحسن النقاش: أول من سجد إسرافيل، قال ولذا جوزى بتولية اللوح المحفوظ (١) . وعن ابن عباس: كان السجود يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر. ثم خلق اللّه تعالى له حواء زوجته من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو نائم، وسميت حواء لأنها خلقت من حى، فلما استيقظ ورآها سكن إليها، فقالت الملائكة مه يا آدم، قال: ولم وقد خلقها اللّه لى؟ فقالوا: حتى تؤدى مهرها، قال: وما مهرها؟ قالوا: تصلى على محمد- صلى اللّه عليه وسلم- ثلاث مرات (٢) . وذكر ابن الجوزى فى كتابه (سلوة الأحزان) : أنه لما رام القرب منها طلبت منه المهر، فقال: يا رب، وماذا أعطيها، ف قال: يا آدم صل على حبيبى محمد بن عبد اللّه عشرين مرة، ففعل (٣) . ثم إن اللّه تعالى أباح لهما نعيم الجنة، ونهاهما عن شجرة الحنطة، وقيل: شجرة العنب، وقيل: شجرة التين (٤) ، فحسدهما إبليس، فهو أول __________ (١) قلت: لم يرد فى ذلك خبر صحيح، والأولى الوقوف عما ذكر، وترك ما ترك. (٢) ........ (٣) ........ (٤) لا يوجد دليل صحيح على تعيين لك الشجرة. من حسد وتكبر، فأتى إلى باب الجنة فاحتال حتى دخل الجنة (١) ، وأتى إلى آدم وحواء، فوقف وناح نياحة أحزنتهما، فهو أول من ناح، فقالا: ما يبكيك؟ قال: عليكما، تموتان وتفقدان النعيم، ألا أدلكما على شجرة الخلد، فكلا منها، وحلف لهما أنه ناصح، فهو أول من حلف كاذبا، وأول من غش. فأكلت حواء منها، ثم زينت لآدم حتى أكل (٢) ، وظنا أن أحدا لا يتجاسر أن يحلف باللّه كاذبا، فقال اللّه تعالى: يا آدم، ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟! قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ظننت أن أحدا لا يحلف بك كاذبا، قال اللّه تعالى: وعزتى وجلالى، لأهبطنك إلى الأرض، لا تنال العيش إلا كدّا، فأهبط من الجنة. وعن ابن عباس: قال اللّه تعالى: يا آدم، ما حملك على ما صنعت؟ قال: زينته لى حواء، قال: فإنى أعقبها ألاتحمل إلا كرها، ولا تضع إلا كرها، ولأدمينها فى الشهر مرتين (٣) . وقال وهب بن منبه (٤) : لما أهبط آدم إلى الأرض مكث يبكى ثلاثمائة سنة لا يرقأ له دمع. وقال المسعودى (٥) : لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حين أخرجه اللّه من الجنة. __________ (١) قلت: لا أعلم كيف احتال حتى دخل الجنة، واللّه قد حرمها عليه، وعلى من احتال. (٢) قلت: ذكر اللّه أنهما أكلا منها بصيغة التثنية، وكذلك فوسوس لهما، بصيغة التثنية أى هما الفاعلان معا، والموسوس لهما الشيطان، وليست حواء، كما يزعم البعض. (٣) لم أجده، ولا أظنه بحديث صحيح. (٤) هو: وهب بن منبه، عالم أهل اليمن، ولد بصنعاء سنة (٣٤ هـ) ، من خيار التابعين، ولذلك فحديثه مرسل. (٥) لعله يقصد صاحب كتاب: (مروج الذهب) وغيره من التواريخ، أبو الحسن، على بن الحسين بن على من ذرية ابن مسعود، كان إخباريّا، مات سنة (٣٤٥ هـ) . وقال مجاهد (١) : بكى آدم مائة عام لا يرفع رأسه إلى السماء، وأنبت اللّه من دموعه العود الرطب والزنجبيل والصندل وأنواع الطيب، وبكت حواء حتى أنبت اللّه من دموعها القرنفل والأفاوى. يا بنى آدم، انظروا كيف بكى أبوكم آدم على فعلة واحدة ثلاثمائة سنة، فكيف بكم يا أرباب الكبائر العظيمة؟ فاعتبروا يا أولى الأبصار، كان كلما رأى الملائكة تصعد وتهبط ازداد شوقا إلى الأوطان، وتذكر العهد والجيران، يا أصحاب الذنوب احذروا زلة يقول فيها الحبيب: هذا فراق بينى وبينك، فيا ذا العقل السليم، انظر كيف جلس أبوك آدم على سرير المملكة، فمد يده إلى لقمة نهى عنها فأخرج من الجنة، فاحذروا يا بنيه عواقب المعاصى فإنها من نزلت به نزلت به وحطته عن مرتبته. فإن قلت: هذه الفعلة التى أهبط بها آدم من الجنة، إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء، وإن كانت صغيرة فلم جرى عليه ما جرى بسببها، من نزع اللباس والإخراج من الجنة وغير ذلك؟ أجاب الزمخشرى (٢) : بأنها ما كانت إلا صغيرة، مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأفكار الصالحة التى هى أجل الطاعات، وأعظم الأعمال، وإنما جرى عليه ما جرى تعظيما للخطيئة، وتفظيعا لشأنها وتهويلا، ليكون ذلك لطفا له ولذريته فى اجتناب الخطايا، واتقاء الماثم. يا هذا، انظر كم للّه من لطف وحكمة فى إهباط آدم من الجنة إلى الأرض، لولا نزوله لما ظهر جهاد المجاهدين، واجتهاد العابدين المجتهدين، ولا صعدت زفرات أنفاس التائبين، ولا نزلت قطرات دموع المذنبين، يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب فإنى قريب، أجيب دعوة الداع، إن كان __________ (١) هو: مجاهد بن جبير، شيخ القراء والمفسرين، روى عن ابن عباس، وعنه أخذ القرآن والتفسير والفقه، مات وهو ساجد سنة (١٠٢ هـ) . (٢) هو: كبير المعتزلة، أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد الزمخشرى النحوى، صاحب (الكشاف) و (المفضل) ، كان رأسا فى البلاغة والعربية والمعانى والبيان، كما كان داعيا إلى الاعتزال، مات سنة (٥٣٨ هـ) . حصل لك بالإخراج من الجنة كسر فأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى، وإن كان فاتك فى السماء زجل المسبحين فقد تعوضت فى الأرض أنين المذنبين، أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيحهم، زجل المسبحين ربما يشوبه الافتخار، وأنين المذنبين يزينه الانكسار، (لو لم تذنبوا لذهب اللّه بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم) (١) . سبحان من إذا لطف بعبده فى المحن قلبها منحا، وإذا خذل عبدا لم ينفعه كثرة اجتهاده وكان عليه وبالا، لقن اللّه آدم حجته، وألقى عليه ما تقبل به توبته، وطرد إبليس اللعين بعد طول خدمته، فصار عمله هباء منثورا قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٢) إذا وضع عدله على عبد لم يبق له حسنة، وإذا بسط فضله على عبد لم يبق له سيئة. انظر لما ظهرت فضائل آدم- عليه الصلاة والسلام- على الخلائق بالعلم، وكان العلم لا يكمل إلا بالعمل بمقتضاه، والجنة ليست دار عمل ومجاهدة، إنما هى دار نعيم ومشاهدة، قيل له: يا آدم اهبط إلى أرض الجهاد، وصابر جنود الهوى بالجد والاجتهاد، وكأنك بالعيش الماضى وقد عاد على أكمل من ذلك المعتاد. ولما أظهر إبليس- عليه اللعنة- الحسد، سعى فى الأذى، حتى كان سببا فى إخراج السيد آدم من الجنة، وما فهم الأبله أن آدم إذا خرج من الجنة كملت فضائله، ثم عاد إلى الجنة على أكمل من الحال الأول. قالوا: وفيه إشارة، كأنه تعالى يقول: لو غفرت فى الجنة لما تبين كرمى، بأنى أغفر لنفس واحدة، بل أخرجه إلى الدنيا، وآتى بألوف من العصاة حتى أغفر له ولهم ليتبين جودى وكرمى. وأيضا: علم اللّه تعالى أن __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٤٩) فى التوبة، باب: سقوط الذنوب بالاستغفار، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٢) سورة الحجر: ٣٤، ٣٥. فى صلبه الأولاد، والجنة ليست دار توالد، وأيضا: ليخرج من ظهره فى الدنيا من لا نصيب له فى الجنة. يا هذا، الجنة إن شاء اللّه إقطاعنا. وقد وصل منشور الإقطاع مع جبريل عليه الصلاة والسلام- إلى نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ (١) ، إنما يخرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة، نسأل اللّه التوفيق. وقد اختلف فى الجنة التى سكنها آدم.
فقيل: هى جنة الخلد. وقيل غيرها، جعلها اللّه دار ابتلاء، لأن جنة الخلد إنما يدخل إليها يوم القيامة، ولأنها دار جزاء وثواب لا دار تكليف وأمر ونهى، ودار سلامة لا دار ابتلاء، وامتحان، ودار قرار لا دار انتقال. واحتج القائلون بأنها جنة الخلد، بأن الدخول العارض قد يقع قبل يوم القيامة، وقد دخلها نبينا- عليه الصلاة والسلام- ليلة الإسراء، وبأن ما ذكروه من أن الجنة لا يوجد فيها ما وجده آدم من الحزن والنصب فإنما هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، كما يدل عليه سياق الآيات كلها، فإن نفى ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها، واللّه أعلم، انتهى. وروى أنه لما خرج آدم من الجنة رأى مكتوبا على ساق العرش وعلى كل موضع فى الجنة اسم محمد- صلى اللّه عليه وسلم- مقرونا باسم اللّه تعالى، فقال يا رب هذا محمد من هو؟ فقال اللّه: هذا ولدك الذى لولاه ما خلقتك. ف قال: يا رب بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد، فنودى: يا آدم، لو تشفعت إلينا بمحمد فى أهل السماوات والأرض لشفعناك (٢) . وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (لما اقترف آدم __________ (١) سورة البقرة: ٢٥. (٢) ........ الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لى، فقال اللّه: يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: لأنك يا رب لما خلقتنى بيدك، ونفخت فىّ من روحك، رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال اللّه تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلىّ، وإذ سألتنى بحقه قد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك) (١) . رواه البيهقى فى دلائله من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال تفرد به عبد الرحمن ورواه الحاكم وصححه، وذكره الطبرانى وزاد فيه: وهو آخر الأنبياء من ذريتك. وفى حديث سلمان عند ابن عساكر قال: (هبط جبريل على النبى صلى اللّه عليه وسلم- فقال: إن ربك يقول: إن كنت اتخذت إبراهيم خليلا، فقد اتخذتك حبيبا، وما خلقت خلقا أكرم على منك، ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك ومنزلتك عندى، ولو لاك ما خلقت الدنيا) (٢) . وللّه در سيدى على وفا (٣) حيث قال فى قصيدته التى أولها: سكن الفؤاد فعش هنيئا يا جسد ... هذا النعيم هو المقيم إلى الأبد روح الوجود حياة من هو واجد ... لولاه ما تم الوجود لمن وجد عيسى وآدم والصدور جميعهم ... هم أعين هو نورها لما ورد لو أبصر الشيطان طلعة نوره ... فى وجه آدم كان أول من سجد أو لو رأى النمروذ نور جماله ... عبد الجليل مع الخليل ولا عند (٤) لكن جمال اللّه جل فلا يرى ... إلا بتخصيص من اللّه الصمد __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٥/ ٤٨٩) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٦٧٢) بسند ...... (٢) وانظر (تهذيب تاريخ دمشق) لابن عساكر (١/ ٣٢٣) . (٣) هو: على بن محمد بن محمد بن وفا، أبو الحسن القرشى الأنصارى الشاذلى، أحد المتصوفة، مات سنة (٨٧ هـ) . (٤) قلت: صدق رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حينما قال: (فإن لو تفتح عمل الشيطان) صحيح: أخرجه مسلم (٢٦٦٤) فى القدر، وأراه قد عمل فعلته مع هذا القائل. طهارة نسبه صلى اللّه عليه وسلمولما خلق اللّه تعالى حواء لتسكن إلى آدم ويسكن إليها، فحين صار لديها فاضت بركاته عليها، فولدت له فى تلك الأعوام الحسناء أربعين ولدا فى عشرين بطنا، ووضعت شيئا وحده، كرامة لمن أطلع اللّه تعالى بالنبوة سعده. ولما توفى آدم، كان شيث- عليه الصلاة والسلام- وصيّا على ولده، ثم أوصى شيث ولده بوصية آدم: ألايضع هذا النور إلا فى المطهرات من النساء، ولم تزل هذه الوصية جارية، تنقل من قرن إلى قرن، إلى أن أدى اللّه النور إلى عبد المطلب وولده عبد اللّه، وطهر اللّه سبحانه هذا النسب الشريف من سفاح الجاهلية، كما ورد عنه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الأحاديث المرضية. قال ابن عباس- فيما رواه البيهقى فى سننه- قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما ولدنى من سفاح الجاهلية شيء، ما ولدنى إلا نكاح الإسلام) (١) . والسفاح- بكسر السين المهملة-: الزنا، والمراد به هاهنا: أن المرأة تسافح رجلا مدة، ثم يتزوجها بعد ذلك. وروى ابن سعد وابن عساكر عن هشام بن محمد بن السائب الكلبى، عن أبيه (٢) . قال: كتبت للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- خمسمائة أم، فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان فى أمر الجاهلية. وعن على بن أبى طالب أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (خرجت من نكاح، __________ (١) حسن: أخرجه البيهقى فى (الكبرى) (٧/ ١٩٠). (٢) قلت: هو محمد بن السائب الكلبى، الكوفى، مفسر، إلا أنه متهم بالكذب، مطروح الحديث. ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدنى أبى وأمى، لم يصبنى من نكاح أهل الجاهلية شىء) (١) . رواه الطبرانى فى الأوسط، وأبو نعيم وابن عساكر. وروى أبو نعيم، عن ابن عباس، مرفوعا: (لم يلتق أبواى قط على سفاح، لم يزل اللّه ينقلنى من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت فى خيرهما) (٢). وعنه فى قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٣) . قال: من نبى إلى نبى حتى أخرجتك نبيّا (٤) . رواه البزار. وعنه أيضا فى الآية قال: ما زال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يتقلب فى أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه. رواه أبو نعيم. وعن جعفر بن محمد عن أبيه، فى قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (٥) قال: لم يصبه شىء من ولادة الجاهلية، قال: وقال النبى صلى اللّه عليه وسلم-: (خرجت من نكاح غير سفاح) (٦) . وعن أنس قال: قرأ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ- بفتح الفاء- وقال: أنا أنفسكم نسبا وطهرا وحسبا، ليس فى آبائى من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح (٧) . رواه ابن مردويه. __________ (١) حسن: أخرجه العدنى، وابن عدى، والطبرانى فى (الأوسط) ، كما فى (صحيح الجامع) (٣٢٢٥) . (٢) أخرجه بنحوه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ١١٨) عن أنس، وأورده ابن كثير فى (البداية والنهاية) (٢/ ٢٥٥) وقال: هذا حديث غريب جدّا من حديث مالك تفرد به ا. هـ. (٣) سورة الشعراء: ٢١٩. (٤) أخرجه أبو عمر العدنى فى مسنده والبزار وابن أبى حاتم والطبرانى وابن بردويه وأبو نعيم فى (دلائل النبوة) عن ابن عباس، كما فى (فتح القدير) (٤/ ١٢٢) . (٥) سورة التوبة: ١٢٨. (٦) حسن: وقد تقدم قريبا. (٧) أخرجه ابن مردويه، كما فى (فتح القدير) (٢/ ٤٢٠) . وفى الدلائل لأبى نعيم، عن عائشة عنه- صلى اللّه عليه وسلم- عن جبريل قال: (قلبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أر رجلا أفضل من محمد، ولم أر بنى أب أفضل من بنى هاشم) (١) كذا أخرجه الطبرانى فى الأوسط. قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن. وفى البخارى عن أبى هريرة عنه- صلى اللّه عليه وسلم-: (بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذى كنت منه) (٢) . وفى مسلم عن واثلة بن الأسقع قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم) (٣). رواه الترمذى. وعن العباس قال: قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن اللّه خلق الخلق، فجعلنى فى خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلنى فى خير القبيلة، ثم تخير البيوت فجعلنى فى خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا) (٤) رواه الترمذى هكذا منفردا به وقال: حديث حسن. أى خيرهم روحا وذاتا، وخيرهم بيتا أى أصلا. وفى حديث رواه الطبرانى عن ابن عمر قال: (إن اللّه اختار خلقه فاختار منهم بنى آدم، ثم اختار بنى آدم فاختار منهم العرب، ثم اختارنى من العرب، فلم أزل خيارا من خيار، ألا من أحب العرب فبحبى أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضى أبغضهم) (٥) . __________ (١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢١٧) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه موسى بن عبيدة الربذى، وهو ...... (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٥٧) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- تنام عينه ولا ينام قلبه. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٢٧٦) فى الفضائل، باب: فضل نسب النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والترمذى (٣٦٠٥ و ٣٦٠٦) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. (٤) أخرجه الترمذى (٣٦٠٧) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- . (٥) أخرجه البيهقى فى (الكبرى) (٧/ ١٣٤) عن محمد بن على مرسلا، وعزاه- ثم اعلم أنه- عليه الصلاة والسلام- لم يشركه فى ولادته من أبويه أخ ولا أخت، لانتهاء صفوتهما إليه، وقصور نسبهما عليه، ليكون مختصّا بنسب جعله اللّه تعالى للنبوة غاية، ولتمام الشرف نهاية، وأنت إذا اختبرت حال نسبه، وعلمت طهارة مولده تيقنت أنه سلالة آباء كرام. فهو- صلى اللّه عليه وسلم- النبى العربى الأمى الأبطحى الحرمى الهاشمى القرشى، نخبة بنى هاشم، المختار المنتخب من خير بطون العرب وأعرقها فى النسب، وأشرفها فى الحسب، وأنضرها عودا، وأطولها عمودا، وأطيبها أرومة (١) ، وأعزها جرثومة (٢) ، وأفصحها لسانا، وأوضحها بيانا، وأرجحها ميزانا، وأصحها إيمانا، وأعزها نفرا، وأكرمها معشرا، من قبل أبيه وأمه، ومن أكرم بلاد اللّه على اللّه وعلى عباده. * فهو محمد بن عبد اللّه، الذبيح. * ابن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، فى قول ابن إسحاق، وهو الصحيح، وقيل سمى به لأنه ولد وفى رأسه شيبة. وقيل: اسمه عامر، وهو قول ابن قتيبة، وتابعه عليه المجد الشيرازى (٣) ، وكنيته أبو الحارث، بابن له أكبر ولده. قيل: وإنما قيل له عبد المطلب، لأن أباه هاشما قال لأخيه المطلب، وهو بمكة، حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك بيثرب، فمن ثم سمى عبد المطلب، وقيل: إن عمه المطلب جاء به إلى مكة رديفه- وهو بهيئة بزة- فكان يسأل عنه فيقول: هو عبدى، حياء أن يقول: هو ابن أخى، فلما أدخله وأحسن من حاله، أظهر أنه ابن أخيه، فلذلك قيلله: عبد المطلب. __________ صاحب (الجمع الصغير) للحاكم عن ابن عمرو. (١) الأرومة: الأصل. (٢) جرثومة الشىء: أصله، أو هى التراب المجتمع فى أصول الشجر، والذى تسفيه الريح. (٣) هو: الفيروز أبادى، صاحب (القاموس المحيط) ، محمد بن يعقوب بن محمد، أبو طاهر مجد الدين، توفى سنة (٨١٧ هـ) . وهو أول من خضب بالسواد من العرب، وعاش مائة وأربعين سنة. * ابن هاشم، واسمه عمرو، وإنما قيل له هاشم لأنه كان يهشم الثريد لقومه فى الجدب. * ابن عبد مناف، واسمه المغيرة. * ابن قصى- بفتح الصاد- تصغير قصى، أى بعيد، لأنه بعد عن عشيرته فى بلاد قضاعة، حين احتملته أمه فاطمة، واسمه مجمع، قال الشاعر: أبوكم قصى كان يدعى مجمعا ... به جمع اللّه القبائل من فهر وقيل زيد، وقال الشافعى، كما حكاه عنه الحاكم أبو أحمد: يزيد. * ابن كلاب، وهو إما منقول من المصدر الذى فى معنى المكالبة، نحو: كالبت العدو مكالبة، وإما من الكلاب: جمع كلب، لأنهم يريدون الكثرة، كما تسموا بسباع. وسئل أعرابى: لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء، نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسن الأسماء، نحو: مرزوق ورباح؟ ف قال: إنما نسمى أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا. يريدون أن الأبناء عدة للأعداء، وسهام فى نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء. واسم كلاب: حكيم، وقيل: عروة. * ابن مرة. * ابن كعب، وهو أول من جمع يوم العروبة، وكانت تجتمع إليه قريش فى هذا اليوم، فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ويعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه والإيمان به، وينشد فى ذلك أبياتا منها: يا ليتنى شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغى الحق خذلانا * ابن لؤى تصغير اللّاى بوزن العصا، وهو الثور. * ابن غالب. * ابن فهر، واسمه قريش، وإليه تنسب قريش، فما كان فوقه فكنانى لا قرشى على الصحيح. * ابن مالك. * ابن النضر، واسمه قيس. * ابن كنانة. * ابن خزيمة، تصغير خزمة. * ابن مدرة. * ابن إلياس، بكسر الهمزة فى قول ابن الأنبارى، وبفتحها فى قول قاسم بن ثابت، ضد الرجاء، واللام فيه للتعريف والهمزة للوصل، قال السهيلى: وهذا أصح. وهو أول من أهدى البدن إلى البيت الحرام، ويذكر أنه كان يسمع فى صلبه تلبية النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بالحج؟! * ابن مضر، وهو أول من سن الحداء للإبل، وكان من أحسن الناس صوتا. * ابن نزار- بكسر النون- من النزر، وهو القليل، قيل لأنه لما ولد، ونظر أبوه إلى نور محمد- صلى اللّه عليه وسلم- بين عينيه فرح فرحا شديدا، وأطعم وقال: إن هذا كله نزر، أى قليل لحق هذا المولود، فسمى نزارا لذلك. * ابن معد. * ابن عدنان. قال ابن دحية (١) : أجمع العلماء- والإجماع حجة- على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- إنما انتسب إلى عدنان ولم يتجاوزه. انتهى. __________ (١) هو: مجد الدين، أبو الخطاب، عمر بن حسن بن على الكلبى، كان يذكر أنه من ولد دحية- رضى اللّه عنه-، كان له معرفة حسنة بالنحو واللغة، وله فراسة بالحديث، فقيها على مذهب مالك، تكلم فيه، توفى سنة (٦٦٣ هـ) . وللّه در القائل: ونسبة عز هاشم من أصولها ... ومحتدها المرضى أكرم محتد سمت رتبة علياء أعظم بقدرها ... ولم تسم إلا بالنبى محمد ويرحم اللّه القائل: وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول اللّه عدنان وعن ابن عباس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان، ثم يمسك ويقول: (كذب النسابون- مرتين أو ثلاثا-) (١) رواه فى مسند الفردوس. لكن قال السهيلى: الأصح فى هذا الحديث أنه من قول ابن مسعود. وقال غيره: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللّه (٢) قال: كذب النسابون، يعنى أنهم يدعون علم الأنساب ونفى اللّه علمها عن العباد. وروى عن عمر أنه قال: إنما ينتسب إلى عدنان وما فوق ذلك لا ندرى ما هو. وعن ابن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وعن عروة بن الزبير: ما وجدنا أحدا يعرف بعد معد بن عدنان. وسئل مالك- رحمه اللّه- عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم، فكره ذلك، وقال من أخبره بذلك؟ وكذا روى عنه فى رفع نسب الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. فالذى ينبغى لنا: الإعراض عما فوق عدنان، لما فيه من التخليط والتغيير للألفاظ، وعواصة تلك الأسماء، مع قلة الفائدة. __________ (١) أخرجه ابن سعد فى (الطبقات) عن ابن عباس، كما فى (..... الجامع) (٤٣٥١) . (٢) سورة إبراهيم: ٩. وقد ذكر الحافظ أبو سعد النيسايورى عن أبى بكر بن أبى مريم عن سعيد بن عمرو الأنصارى عن أبيه عن كعب الأحبار: أن نور رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- لما صار إلى عبد المطلبوأدرك، نام يوما فى الحجر فانتبه مكحولا مدهونا، قد كسى حلة البهاء والجمال، فبقى متحيرا لا يدرى من فعل به ذلك، فأخذه أبوه بيده ثم انطلق به إلى كهنة قريش فأخبرهم بذلك، فقالوا له: اعلم أن إله السماوات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، فزوجه قيلة فولدت له الحارث ثم ماتت، فزوجه بعدها هند بنت عمرو، وكان عبد المطلب يفوح منه رائحة المسك الإذفر، ونور رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يضىء فى غرته، وكانت قريش إذا أصابها قحط تأخذ بيد عبد المطلب فتخرج به إلى جبل ثبير (١) فيتقربون به إلى اللّه تعالى، ويسألونه أن يسقيهم الغيث، فكان يغيثهم ويسقيهم ببركة نور محمد- صلى اللّه عليه وسلم- غيثا عظيما. ولما قدم أبرهة ملك اليمن- من قبل أصحمة النجاشى- لهدم بيت اللّه الحرام، وبلغ عبد المطلب ذلك، قال: يا معشر قريش، لا يصل إلى هدم البيت، لأن لهذا البيت ربّا يحميه ويحفظه. ثم جاء أبرهة فاستاق إبل قريش حتى طلع جبل ثبير، فاستدارت دائرة غرة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على جبينه كالهلال واشتد شعاعها على البيت الحرام مثل السراج، فلما نظر عبد المطلب إلى ذلك قال: يا معشر قريش: ارجعوا فقد كفيتم هذا الأمر، فو اللّه ما استدار هذا النور منى إلا أن يكون الظفر لنا، فرجعوا متفرقين. ثم إن أبرهة أرسل رجلا من قومه ليهزم الجيش، فلما دخل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع وتلجلج لسانه وخر مغشيّا عليه، فكان يخور كما يخور الثور عند ذبحه، فلما أفاق خر ساجدا لعبد المطلب، وقال: أشهد أنك سيد قريش حقّا. وروى: أنه لما حضر عبد المطلب عند أبرهة أمر سايس فيله الأبيض __________ (١) ثبير: اسم جبل بمنى. العظيم الذى كان لا يسجد للملك أبرهة كما تسجد سائر الفيلة أن يحضره بين يديه، فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب، برك كما يبرك البعير، وخر ساجدا، وأنطق اللّه تعالى الفيل، فقال: السلام على النور الذى فى ظهرك يا عبد المطلب، كذا فى النطق المفهوم. ولما دخل جيش أبرهة ومعهم الفيل لهدم الكعبة الشريفة برك الفيل، فضربوه فى رأسه ضربا شديدا ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام. ثم أرسل اللّه عليهم طيرا أبابيل من البحر، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجر فى منقاره وحجران فى رجليه كأمثال العدس، لا تصيب أحدا منهم إلا أهلكته، فخرجوا هاربين يتساقطون بكل طريق. وأصيب أبرهة فى جسده بداء، فتساقطت أنامله أنملة أنملة، وسال منه الصديد والقيح والدم، وما مات حتى انصدع قلبه. وإلى هذه القصة أشار سبحانه وتعالى بقوله لنبيه- صلى اللّه عليه وسلم-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) السورة إلى آخرها. فإن قلت: لم قال اللّه تعالى له- عليه الصلاة والسلام-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ.. (٢) مع أن هذه القصة كانت قبل البعث بزمان طويل؟ فالجواب أن المراد من الرؤية هنا: العلم والتذكرة، وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر، فكأن العلم الحاصل به ضرورى مساو فى القوة للرؤية. وقد كانت هذه القصة دالة على شرف سيدنا محمد- صلى اللّه عليه وسلم- وتأسيسا لنبوته وإرهاصا لها، وإعزازا لقومه بما ظهر عليهم من الاعتناء حتى دانت لهم العرب، واعتقدت شرفهم وفضلهم على سائر الناس، بحماية اللّه عز وجل لهم، ودفعه عنهم مكر أبرهة، الذى لم يكن لسائر العرب بقتاله قدرة، وكان ذلك كله إرهاصا لنبوته- عليه الصلاة والسلام-. __________ (١) سورة الفيل: ١- ٥. (٢) سورة الفيل: ١. قال الرازى (١) : ومذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيسا، قال: ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله- عليه الصلاة والسلام-، يعنى قبل بعثته. وخالفه العلامة السيد (٢) فى شرح المواقف- تبعا لغيره- فاشترط فى المعجز ألايتقدم على الدعوى، بل يكون مقارنا لها. كما سيأتى إن شاء اللّه فى المقصد الرابع. فإن قلت: إن الحجاج (٣) خرب الكعبة ولم يحدث شىء من ذلك!! فالجواب: أن ذلك إرهاصا لأمر نبينا- صلى اللّه عليه وسلم-، والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه، فلما ظهر- عليه الصلاة والسلام-، وتأكدت نبوته بالدلائل القطعية فلا حاجة إلى شىء من ذلك، واللّه أعلم. ولما فرج اللّه عن عبد المطلب، ورجع أبرهة خائبا، فبينما هو يوما نائم فى الحجر، إذ رأى مناما عظيما، فانتبه فزعا مرعوبا، وأتى كهنة قريش، وقص عليهم رؤياه، فقالت له الكهنة: إن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السماوات والأرض وليكونن فى الناس علما مبينا. فتزوج فاطمة. وحملت فى ذلك الوقت بعبد اللّه الذبيح، وقصته فى ذبحه مشهورة مخرجة عند الرواة مسطورة(٤) . وكان سببها حفر أبيه عبد المطلب زمزم، لأن الجرهمى عمرو بن الحارث لما أحدث قومه بحرم اللّه الحوادث، وقيض اللّه لهم من أخرجهم من مكة، فعمد عمرو بن الحارث إلى نفائس فجعلها فى زمزم وبالغ فى طمها، وفر __________ (١) هو: الإمام كبير المتكلمين، فخر الدين، محمد بن عمر بن الحسين القرشى البكرى الطبرستانى الأصولى المفسر، فى تواليفه بلايا وعظائم وانحرافات عن السنة، إلا أنه توفى على طريقة حميدة، مات بهراة، سنة (٦٠٦ هـ) . (٢) هو: أبو الحسن، على بن محمد بن على بن السيد الزين، الحسينى، المعروف بالجرجانى، ويعرف بالسيد الشريف، من علماء اللغة العربية، توفى بشيراز سنة (٨١٦ هـ) . (٣) هو: حجاج بن يوسف الثقفى، أمير العراق، الوالى الظالم الغشوم، توفى سنة (٩٥ هـ) . (٤) انظر ما فى (البداية والنهاية) (١/ ١٤٧) . إلى اليمن بقومه، فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة إلى أن رفعت عنها الحجب برؤيا منام رآها عبد المطلب، دلته على حفرها بأمارات عليها. فمنعته قريش من ذلك، ثم آذاه من السفهاء من آذاه، فاشتد بذلك بلواه، ومعه ولده الحارث ولم يكن له ولد سواه فنذر لئن جاءه عشرة بنين وصاروا له أعوانا ليذبحن أحدهم للّه قربانا. ثم احتفرعبد المطلب زمزم فكانت له فخرا وعزّا. فلما تكامل بنوه عشرة وهم: الحارث والزبير وحجل وضرار والمقوم وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبد اللّه، وقر اللّه عينه بهم، نام ليلة عند الكعبة المطهرة فرأى فى المنام قائلا يقول: يا عبد المطلب: أوف بنذرك لرب هذا البيت، فاستيقظ فزعا مرعوبا، وأمر بذبح كبش وأطعمه للفقراء والمساكين. ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فاستيقظ من نومه وقرب ثورا، ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فانتبه وقرب جملا، وأطعمه للمساكين، ثم نام: فنودى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، ف قال: ما أكبر من ذلك ف قال: قرب أحد أولادك الذى نذرته. فاغتم غمّا شديدا، وجمع أولاده، وأخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء، فقالوا: إنا نطيعك، فمن تذبح منا؟ ف قال: ليأخذ كل واحد منكم قدحا- والقدح: سهم بغير نصل- ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوا به، ففعلوا، وأخذوا أقداحهم ودخلوا على هبل (١) . وكان فى جوف الكعبة، وكانوا يعظمونه، ويضربون بالقداح عنده، فيستقسمون بها، أى يرتضون بما يقسم لهم، ثم يضرب بها القيم الذى لها- قال: فدفع عبد المطلب إلى ذلك القيم القداح وقام يدعو اللّه تعالى، فخرج على عبد اللّه، وكان أحب ولده إليه. فقبض عبد المطلب على يد ولده عبد اللّه، وأخذ الشفرة ثم أقبل إلى إساف ونائلة- صنمين عند الكعبة ينحر ويذبح عندهما النسائك- فقام إليه __________ (١) اسم صنم من أصنامهم. سادة قريش فقالوا: ما تريد أن تصنع؟ فقال: أوفى بنذرى، فقالوا: لا ندعك أن تذبحه حتى تعذر فيه إلى ربك، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتى بابنه فيذبحه وتكون سنة. وقالوا له: انطلق إلى فلانة الكاهنة- قلت: قيل اسمها: قطبة، كما ذكره الحافظ عبد الغنى فى كتاب المبهمات، وذكر ابن إسحاق أن اسمها: سجاح- فلعلها أن تأمرك بأمر فيه فرج لك. فانطلقوا حتى أتوها بخيبر (١) ، فقص عليها عبد المطلب القصة، فقالت: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، فقالت: ارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم ثم قربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا فى الإبل ثم اضربوا أيضا، هكذا حتى يرضى ربكم. فإذا خرجت على الإبل فانحروها فقد رضى ربكم وتخلص صاحبكم. فرجع القوم إلى مكة، وقربوا عبد اللّه، وقربوا عشرة من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو، فخرجت القداح على ولده، ولم يزل يزيد عشرا عشرا حتى بلغت مائة فخرجت القداح على الإبل. فنحرت الإبل وتركت، لا يصد عنها إنسان ولا طائر ولا سبع. ولهذا روى- كما عند الزمخشرى فى الكشاف- أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (أنا ابن الذبيحين) (٢) . وعند الحاكم فى المستدرك، عن معاوية بن أبى سفيان: كنا عند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأتاه أعرابى، ف قال: يا رسول اللّه، خلقت البلاد يابسة، والماء يابسا، هلك المال وضاع العيال، فعد علىّ مما أفاء اللّه عليك يابن الذبيحين. __________ (١) اسم حصن مشهور لليهود قرب المدينة. (٢) لا يوجد بهذا اللفظ، إلا أنه عند الحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٦٠٤) من حديث معاوية رضى اللّه عنه- أن أعرابيّا قام يشكو جدب أرضه يا رسول اللّه خلقت البلاد يابسة، والماء يابسا، هلك المال وضاع العيال، فعد على بما أفاد اللّه عليك يابن الذبيحين، فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-، ولم ينكر عليه. إلا أن إسناده واه. قال: فتبسم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ولم ينكر عليه. الحديث (١) ، وتأتى تتمته قريبا إن شاء اللّه تعالى-. ويعنى بالذبيحين: عبد اللّه وإسماعيل بن إبراهيم. وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أن الذبيح إسحاق. فإن صح هذا، فالعرب تجعل العم أبا، قال اللّه تعالى إخبارا عن بنى يعقوب- عليه السّلام-: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ (٢) . وفى حديث معاوية- الموعود بتتمته قريبا- قال معاوية: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر للّه إن سهل الأمر بها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم فأسهم بينهم فخرج السهم لعبد اللّه، فأراد ذبحه فمنعه أخواله من بنى مخزوم، وقالوا أرض ربك، وافد ابنك، ففداه بمائة ناقة، فهو الذبيح الأول وإسماعيل الذبيح الثانى. قال ابن القيم: (ومما يدل على أن الذبيح إسماعيل، أنه لا ريب أن الذبح كان بمكة، ولذلك جعل القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعى بين الصفا والمروة ورمى الجمرات تذكيرا بشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر اللّه تعالى، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه) . ثم قال: (ولو كان الذبح بالشام- كما يزعم أهل الكتاب، ومن تلقى عنهم- لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة) . (وأيضا فإن اللّه سمى الذبيح حليما، لأنه لا أحلم ممن سلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه: عليما) . (وأيضا: فإن اللّه أجرى العادة البشرية: أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده، وإبراهيم لما سأل ربه الولد، ووهبه له تعلقت شعبة من __________ (١) إسناده واه، وقد تقدم فيما قبله. (٢) سورة البقرة: ١٣٣. قلبه بمحبته، واللّه تعالى قد اتخذ إبراهيم خليلا، والخلة منصب يقتضى توحيد المحبوب بالمحبة، وألايشارك فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنزعها من قلب الخليل، فأمر بذبح المحبوب، فلما قدم على ذبحه، كانت محبة اللّه أعظم عنده من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق فى الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هى فى العزم وتوطين النفس، وقد حصل المقصود فنسخ الأمر وفدى الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا) . انتهى. وقد أنشد بعضهم فقال: إن الذبيح- هديت- إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل شرف به خص الإله نبينا ... وأبانه التفسير والتأويل وروى مما ذكره المعافى بن زكريا، أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا أسلم من علماء اليهود: أى ابنى إبراهيم أمر بذبحه؟ ف قال: واللّه يا أمير المؤمنين، إن اليهود ليعلمون أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن يكون أباكم، للفضل الذى ذكره اللّه عنه، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم. انتهى. فانظر أيها الخليل ما فى هذه القصة من السر الجليل، وهو أن اللّه تعالى يرى عباده الجبر بعد الكسر، واللطف بعد الشدة، فإنه كان عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم لذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم الدين، وهذه سنة اللّه تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه بعد استضعافه وذله وانكساره وصبره، وتلقيه القضاء بالرضا فضلا منه، قال اللّه تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ (١) ذلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢) . __________ (١) سورة القصص: ٥، ٦. (٢) سورة الجمعة: ٤. وقد استشكل بعض الناس: أن عبد المطلب نذر نحر أحد بنيه إذا بلغوا عشرة، وقد كان تزويجه بهالة أم ابنه حمزة بعد وفائه بنذره، فحمزة والعباس ولدا عبد المطلب إنما ولدا بعد الوفاء بنذره، وإنما كان أولاده عشرة بهما. قال السهيلى: ولا إشكال فى هذا، فإن جماعة من العلماء قالوا: كان أعمامه عليه السلام اثنى عشر، فإن صح هذا، فلا إشكال فى الخبر، وإن صح قول من قال: كانوا عشرة لا يزيدون، فالولد يقع على البنين وبنيهم حقيقة لا مجازا، فكان عبد المطلب قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين وفى بنذره. ويقع فى بعض السير أن عبد اللّه كان أصغر بنى أبيه عبد المطلب. وهو غير معروف. ولعل الرواية أصغر بنى أمه، وإلا فحمزة كان أصغر من عبد اللّه، والعباس أصغر من حمزة. وروى عن العباس أنه قال: أذكر مولد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجىء به حتى نظرت إليه، وجعل النسوة يقلن لى: قبّل أخاك، فقبلته. فكيف يصح أن يكون عبد اللّه هو الأصغر؟! ولكن رواه البكائى) ، ولروايته وجه: وهو أن يكون أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم ولد بعد ذلك حمزة والعباس. __________ (١) هو: الشيخ الحافظ المحدث، أبو محمد، زياد بن عبد اللّه بن الطفيل العامرى، البكائى الكوفى، راوى السيرة النبوية عن ابن إسحاق، توفى سنة (١٨٣ هـ) . [آيات حمله صلى اللّه عليه وسلم]ولما انصرف عبد اللّه مع أبيه من نحر الإبل، مرّ على أمرأة من بنى أسد ابن عبد العزى، وهى عند الكعبة، واسمها قتيلة- بضم القاف وفتح المثناة الفوقية- ويقال رقية بنت نوفل، فقالت له حين نظرت إلى وجهه، وكان أحسن رجل رؤى فى قريش: لك مثل الإبل التى نحرت عنك وقع على الآن، لما رأت فى وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبى الكريم صلى اللّه عليه وسلم-، فقال لها: أنا مع أبى، ولا أستطيع خلافه ولا فراقه (١) ، وقيل: أجابها بقوله: أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذى تبغينه ... يحمى الكريم عرضه ودينه وعند أبى نعيم والخرائطى وابن عساكر، من طريق عطاء عن ابن عباس: لما خرج عبد المطلب بابنه عبد اللّه ليزوجه، مر به على كاهنة من تبالة (٢) متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة فى وجه عبد اللّه فقالت له ... وذكر نحوه. ثم خرج به عبد المطلب، حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو يومئذ سيد بنى زهرة نسبا وشرفا- فزوجه ابنته آمنة، وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا. فزعموا: أنه دخل عليها حين ملكها مكانه، فوقع عليها يوم الاثنين أيام منى، فى شعب أبى طالب عند الجمرة، فحملت برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. ثم خرج من عندها فأتى المرأة التى عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: مالك لا __________ (١) انظر السيرة النبوية لابن هشام (١/ ١٦٤) . (٢) تبالة: بفتح التاء وتخفيف الباء، اسم بلد باليمن معروف. تعرضين على اليوم ما عرضت بالأمس، فقالت: فارقك النور الذى كان معك بالأمس، فليس لى بك اليوم حاجة، إنما أردت أن يكون النور فى فأبى اللّه، إلا أن يجعله حيث شاء. ولما حملت آمنه برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ظهر لحمله عجائب، ووجد لإيجاده غرائب. فذكروا أنه لما استقرت نطفته الزكية، ودرته المحمدية فى صدفة آمنة القرشية نودى فى الملكوت ومعالم الجبروت، أن عطروا جوامع القدس الأسنى، وبخروا جهات الشرف الأعلى، وافرشوا سجادات العبادات فى صفف الصفا لصوفية الملائكة المقربين، أهل الصدق والوفا، فقد انتقل النور المكنون إلى بطن آمنة ذات العقل الباهر، والفخر المصون، قد خصها اللّه تعالى القريب المجيب بهذا السيد المصطفى الحبيب، لأنها أفضل قومها حسبا وأنجب، وأزكاهم أصلا وفرعا وأطيب. وقال سهل بن عبد اللّه التسترى فيما رواه الخطيب البغدادى الحافظ: لما أراد اللّه تعالى خلق محمد- صلى اللّه عليه وسلم- فى بطن أمه آمنة، ليلة رجب، وكانت ليلة جمعة، أمر اللّه تعالى فى تلك الليلة رضوان خازن الجنان، أن يفتح الفردوس، وينادى مناد فى السماوات والأرض: ألا إن النور المخزون المكنون الذى يكون منه النبى الهادى، فى هذه الليلة يستقر فى بطن أمه الذى فيه يتم خلقه ويخرج إلى الناس بشيرا ونذيرا. وفى رواية كعب الأحبار: أنه نودى تلك الليلة فى السماء وصفاحها، والأرض وبقاعها، أن النور المكنون الذى منه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يستقر الليلة فى بطن آمنة، فيا طوبى لها ثم يا طوبى، وأصبحت يومئذ أصنام الدنيا منكوسة، وكانت قريش فى جدب شديد، وضيق عظيم، فاخضرت الأرض وحملت الأشجار، وأتاهم الرفد من كل جانب، فسميت تلك السنة التى حمل فيها برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سنة الفتح والابتهاج. وطوبى: الطيب والحسنى والخير والخيرة. قاله فى القاموس. وقال غيره: فرح وقرة عين. وقال الضحاك: عطية. وقال عكرمة: نعم. وفى الحديث: (طوبى للشام فإن الملائكة باسطة أجنحتها عليها)(١) فالمراد بها هنا: (فعلى) من الطيب وغيره مما ذكر، لا الجنة ولا الشجرة. وفى حديث ابن إسحاق: أن آمنة كانت تحدث: أنها أتيت حين حملت به- صلى اللّه عليه وسلم- فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، و قالت: ما شعرت بأنى حملت به، ولا وجدت له ثقلا، ولا وحما، كما تجد النساء إلا أنى أنكرت رفع حيضتى، وأتانى آت وأنا بين النائمة واليقظانة ف قال: هل شعرت بأنك حملت بسيد الأنام، ثم أمهلنى حتى إذا دنت ولادتى أتانى فقال لى: قولى: أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد ثم سميه محمدا (٢) . وفى رواية غير ابن إسحاق: وعلقى عليه هذه التميمة، قالت فانتبهت وعند رأسى صحيفة من ذهب مكتوب فيها هذه الأبيات: أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد وكل خلق رائد ... من قائم وقاعد عن السبيل حائد ... على الفساد جاهد من نافث أو عاقد ... وكل خلق مارد يأخذ بالمراصد ... فى طرق الموارد قال الحافظ عبد الرحيم العراقى. هكذا ذكر هذه الأبيات بعض أهل السير، وجعلها من حديث ابن عباس و.......ا. انتهى. وعن شداد بن أوس أن رجلا من بنى عامر سأل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: ما حقيقة أمرك، قال: (بدو شأنى أنى دعوة أبى إبراهيم، وبشرى أخى عيسى، __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٩٥٤) فى المناقب، باب: فى فضل الشام واليمن، وأحمد فى (مسنده) (٥/ ١٨٤) ، وابن حبان فى (صحيحه) (١١٤ و ٧٣٠٤) ، من حديث زيد بن ثابت- رضى اللّه عنه-. (٢) أخرجه ابن إسحاق فى (السيرة) (١/ ١٦٦) ، والبيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ٨٢) . وأنى كنت بكر أبى وأمى، وأنها حملت بى كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشتكى إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إن أمى رأت فى منامها أن الذى فى بطنها نور) (١) . الحديث. ففيه: أن أمه- عليه السّلام- وجدت الثقل فى حمله، وفى سائر الأحاديث أنها لم تجد ثقلا؟! وجمع أبو نعيم الحافظ بينهما: بأن الثقل كان فى ابتداء علوقها به، والخفة عند استمرار الحمل به، فيكون على الحالين خارجا عن المعتاد المعروف، انتهى. وخرج أبو نعيم عن ابن عباس- رضى اللّه عنهما- قال: كان من دلالة حمل آمنة برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة، و قالت: حمل برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ورب الكعبة، وهو إمام الدنيا وسراج أهلها، لم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا، وفرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضا، وله فى كل شهر من كل شهور حمله نداء فى الأرض ونداء فى السماء: أن أبشروا فقد آن أن يظهر أبو القاسم- صلى اللّه عليه وسلم- ميمونا مباركا.. الحديث. وهو شديد الضعف. وعن غيره: لم يبق فى تلك الليلة دار إلا أشرقت ولا مكان إلا دخله النور، ولا دابة إلا نطقت. وعن أبى زكريا يحيى بن عائذ (٢) : بقى- صلى اللّه عليه وسلم- فى بطن أمه تسعة أشهر كملا، لا تشكو وجعا ولا مغصا ولا ريحا ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء، وكانت تقول: واللّه ما رأيت من حمل هو أخف منه ولا أعظم بركة منه. __________ (١) أخرجه أحمد فى (المسند) (٤/ ١٢٧ و ١٢٨) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٤٠٤) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٤٥٣ و ٦٥٦) ، من حديث العرباض بن سارية رضى اللّه عنه-. (٢) هو: يحيى بن مالك بن عائذ، الإمام المجود، الحافظ المحقق، أبو زكريا الأندلسى، سمع من ابن عبد ربه صاحب (العقد الفريد) ، مات بالأندلس سنة (٣٧٦ هـ) . ولما تم لها من حملها شهران توفى عبد اللّه، وقيل: توفى وهو فى المهد، قاله الدولابى (١) . وعن ابن أبى خيثمة: وهو ابن شهرين. وقيل: وهو ابن سبعة. وقيل: وهو ابن ثمانية وعشرين شهرا. والراجح المشهور: الأول. وكان عبد اللّه قد رجع .....ا مع قريش لما رجعوا من تجارتهم، ومروا بالمدينة يثرب، فتخلف عند أخواله بنى عدى بن النجار، فأقام عندهم مريضا شهرا، فلما قدم أصحابه مكة سألهم عبد المطلب عنه فقالوا: خلفناه مريضا، فبعث إليه أخاه الحارث فوجده قد توفى، ودفن فى دار التابعة، وقيل دفن بالأبواء. وقالت آمنة زوجته ترثيه: عفا جانب البطحاء من آل هاشم ... وجاور لحدا خارجا فى الغمائم دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت فى الناس مثل ابن هاشم عشية راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه فى التزاحم فإن تك غالته المنايا وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم ويذكر عن ابن عباس، أنه لما توفى عبد اللّه قالت الملائكة إلهنا وسيدنا، بقى نبيك يتيما، فقال اللّه تعالى: أنا له حافظ ونصير. وقيل لجعفر الصادق (٢) : لم يتم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من أبويه؟ قال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق. نقله عنه أبو حيان فى البحر. __________ (١) هو: الإمام الحافظ البارع، أبو بشر، محمد بن حماد بن سعيد، الأنصارى الدولابى الرازى، ودولاب قرية من قرى الرّى، مات سنة (٣١٠ هـ) . (٢) هو: جعفر بن محمد بن على، من نسل على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه-، وأمه من أحفاد أبى بكر الصديق، كان يغضب من الرافضة، ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبى بكر ظاهرا وباطنا، وكان يقول: برئ اللّه ممن تبرأ من أبى بكر وعمر، مات سنة (١٤٨ هـ) . آيات ولادته صلى اللّه عليه وسلموروى أبو نعيم عن عمرو بن قتيبة قال: سمعت أبى- وكان من أوعية العلم- قال: لما حضرت ولادة آمنة قال اللّه تعالى لملائكته: افتحوا أبواب السماء كلها، وأبواب الجنان، وألبست الشمس يومئذ نورا عظيما، وكان قد أذن اللّه تعالى تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورا كرامة لمحمد- صلى اللّه عليه وسلم-.. الحديث وهو مطعون فيه. وذكر أبو سعيد عبد الملك النيسابورى فى كتابه الكبير كما نقله عنه صاحب كتاب السعادة والبشرى عن كعب فى حديثه الطويل، ورواه أبو نعيم من حديث ابن عباس قال: كانت آمنة تحدث وتقول: أتانى آتانى أت حين مربى من حملى ستة أشهر فى المنام وقال لى يا آمنة إنك حملت بخير العالمين فإذا ولدتيه فسميه محمدا واكتمى شأنك قالت ثم لما أخذنى ما يأخذ النساء ولم يعلم بى أحد لا ذكر ولا أنثى، وإنى لوحيدة فى المنزل وعبد المطلب فى طوافه، فسمعت وجبة عظيمة وأمرا عظيما هالنى، ثم رأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادى فذهب عنى الرعب وكل وجع أجده، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء فتناولتها فأصابنى نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طولا كأنهن من بنات عبد مناف، يحدقن بى فبينا أنا أتعجب وأنا أقول واغوثاه من أين علمن بى. قال فى غير هذه الرواية فقلن لى نحن آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وهؤلاء من الحور العين واشتد بى الأمر وأنا أسمع الوجبة فى كل ساعة أعظم وأهول مما تقدم فبينا أنا كذلك إذا بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض، وإذا قائل يقول خذاه عن أعين الناس، قالت ورأيت رجالا قد وقفوا فى الهواء بأيديهم أباريق من فضة، ثم نظرت فإذا أنا بقطعة من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتى، مناقيرها من الزمرد وأجنحتها من الياقوت فكشف اللّه عن بصرى فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات، علما بالمشرق وعلما بالمغرب وعلما على ظهر الكعبة فأخذنى المخاض فوضعت محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- فنظرت إليه فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيبته عنى، فسمعت مناديا ينادى طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلمون أنه سمى فيها الماحى، لا يبقى شىء من الشرك إلا محى فى زمنه، ثم انجلت عنه فى أسرع وقت.. الحديث. وهو مما تكلم فيه. وروى الخطيب البغدادى بسنده كما ذكره صاحب السعادة والبشرى أيضا أن آمنة قالت لما وضعته- عليه السّلام- رأيت سحابة عظيمة لها نور أسمع فيها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة وكلام الرجال، حتى غشيته وغيب عنى فسمعت مناديا ينادى طوفوا بمحمد- صلى اللّه عليه وسلم- جميع الأرض وأعرضوه على كل روحانى من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش وأعطوه خلق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلة إبراهيم ولسان إسماعيل، ورضا إسحاق، وفصاحة صالح، وحكمة لوط، وبشرى يعقوب، وشدة موسى، وصبر أيوب، وطاعة يونس، وجهاد يوشع، وصوت داود وحب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى وزهد عيسى، واغمسوه فى أخلاق النبيين قالت: ثم انجلت عنى فإذا به قد قبض على حريرة بيضاء خضراء مطوية طيّا شديدا ينبع من تلك الحريرة ماء وإذا قائل يقول بخ بخ قبض محمد- صلى اللّه عليه وسلم- على الدنيا كلها لم يبق خلق من أهلها إلا دخل طائعا فى قبضته، قالت ثم نظرت إليه فإذا به كالقمر ليلة البدر وريحه يسطع كالمسك الإذفر، وإذا بثلاثة نفر فى يد أحدهم إبريق من فضة، وفى يد الثانى طست من زمرد أخضر وفى يد الثالث حريرة بيضاء فنشرها فأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين دونه فغسله من ذلك الإبريق سبع مرات ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ولفه فى الحريرة ثم احتمله فأدخله بين أجنحته ساعة ثم رده إلى ورواه أبو نعيم عن ابن عباس وفيه نكارة. وروى الحافظ أبو بكر بن عائذ فى كتابة المولد- كما نقله عنه الشيخ بدر الدين الزركشى فى شرح بردة المديح- عن ابن عباس: لما ولد- صلى اللّه عليه وسلم- قال فى أذنه رضوان خازن الجنان: أبشر يا محمد فما بقى لنبى علم إلا وقد أعطيته، فأنت أكثرهم علما، وأشجعهم قلبا. وروى محمد بن سعد من حديث جماعة منهم عطاء وابن عباس: أن آمنة بنت وهب قالت: لما فصل منى- تعنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء (١) . وروى الطبرانى: أنه لما وقع إلى الأرض وقع مقبوضة أصابع يده مشيرا بالسبابة كالمسبح بها. وروى عن عثمان بن أبى العاصى عن أمه أم عثمان الثقفية- واسمها فاطمة بنت عبد اللّه- قالت: لما حضرت ولادة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- رأيت البيت حين وقع قد امتلأ نورا، ورأيت النجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع على (٢) . رواه البيهقى. وأخرج أحمد والبزار والطبرانى والحاكم والبيهقى عن العرباض بن سارية. أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (إنى عبد اللّه وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل فى طينته، وسأخبركم عن ذلك، إنى دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمى التى رأت، وكذلك أمهات الأنبياء يرين، وإن أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- رأت حين وضعته نورا أضاء له قصور الشام) (٣) قال الحافظ ابن حجر: صححه ابن حبان والحاكم. وأخرج أبو نعيم عن عطاء بن يسار عن أم سلمة عن آمنة: قالت: لقد رأيت ليلة وضعته نورا أضاءت له قصور الشام حتى رأيتها. وأخرج أيضا، __________ (١) أخرجه ابن سعد فى (طبقاته) (١/ ١٠١) . (٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ١١١) باختلاف يسير. (٣) وقد تقدم قريبا. عن بريدة عن مرضعته فى بنى سعد أن آمنة قالت: رأيت كأنه خرج من فرجى شهاب أضاءت له الأرض حتى رأيت قصور الشام. وعن همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد اللّه أن أم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قالت: لما ولدته خرج من فرجى نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا ما به قذر (١) ، رواه ابن سعد وإلى هذا أشار العباس بن عبد المطلب فى شعره، حيث قال: وأنت لما ولدت أشرقت ال ... أرض وضاءت بنورك الأفق فنحن فى ذاك الضياء وفى النو ... ر وسبل الرشاد نخترق قال فى اللطائف: (وخروج هذا النور عند وضعه، وإشارة إلى ما يجىء به من النور الذى اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك. قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّه نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللّه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ (٢) الآية، وأما إضاءة قصور بصرى بالنور الذى خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته، فإنها دار ملكه- كما ذكر كعب: أن فى الكتب السالفة: محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- مولده بمكة ومهاجره بيثرب وملكه بالشام- فمن مكة بدت نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام-، وإلى الشام انتهى ملكه، ولهذا أسرى به- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الشام، إلى بيت المقدس، كما هاجر قبله إبراهيم- عليه السّلام- إلى الشام، وبها ينزل عيسى ابن مريم- عليه السّلام-، وهى أرض المحشر والمنشر. وخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم فى صحيحيهما عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنه قال: (عليكم بالشام، فإنها خيرة اللّه من أرضه، يجتبى إليها خيرته من عباده) (٣) ، انتهى ملخصا. __________ (١) أخرجه ابن سعد فى (طبقاته) (١/ ١٠١) باختلاف يسير. (٢) سورة المائدة: ١٥، ١٦. (٣) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٤٨٣) فى الجهاد، باب: فى سكنى الشام، وأحمد فى (مسنده) (٤/ ١١٠، ٥/ ٣٣ و ٢٨٨) وابن حبان فى (صحيحه) (٧٣٠٦) ، والحاكم فى (مستدركه) (٤/ ٥٥٥) ، من حديث عبد اللّه بن حوالة- رضى اللّه عنه-. وأخرج أبو نعيم عن عبد الرحمن بن عوف عن أمه الشفاء قالت: لما ولدت آمنة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وقع على يدى فاستهل، فسمعت قائلا يقول: رحمك اللّه، قالت الشفاء: وأضاء لى ما بين المشرق والمغرب، حتى نظرت إلى بعض قصور الروم، قالت: ثم ألبنته وأضجعته، فسمعت قائلا يقول: أى ذهبت به؟ قال: إلى المشرق، قالت: فلم يزل الحديث منى على بال حتى بعثه اللّه فكنت فى أول الناس إسلاما. ومن عجائب ولادته- عليه السّلام- ما خرجه البيهقى وأبو نعيم عن حسان ابن ثابت قال: إنى لغلام ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت، إذا يهودى يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه، وأنا أسمع، قالوا: ويلك مالك؟ قال: طلع نجم أحمد الذى ولد به هذه الليلة (١) . وعن عائشة قالت: كان يهودى قد سكن مكة، فلما كانت الليلة التى ولد فيها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: يا معشر قريش: هل ولد فيكم الليلة مولود، قالوا: لا نعلم، قال: انظروا، فإنه ولد فى هذه الليلة نبى هذه الأمة. بين كتفيه علامة. فانصرفوا فسألوا، فقيل لهم قد ولد لعبد اللّه بن عبد المطلب غلام، فذهب اليهودى معهم إلى أمه، فأخرجته لهم، فلما رأى اليهودى العلامة خر مغشيّا عليه، وقال: ذهبت النبوة من بنى إسرائيل، يا معشر قريش: أما واللّه ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب (٢) . رواه يعقوب بن سفيان بإسناد حسن كما قاله فى فتح البارى. ومن عجائب ولادته أيضا: ما روى من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته، وغيض بحيرة طبرية، وخمود نار فارس. وكان لها ألف عام لم تخمد (٣) ، كما رواه البيهقى وأبو نعيم والخرائطى فى (الهواتف) وابن عساكر. __________ (١) أخرجه ابن هشام فى (السيرة) (١/ ١٧١) ، والحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٤٨٦) ، والبيهقى فى (الدلائل) (١/ ١١٠) . (٢) أخرجه الحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٦٠١- ٦٠٢) ، والبيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ١٠٨، ١٠٩) . (٣) ذكره البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ١٨، ١٩، ٤٩) . وفى سقوط الأربع عشرة شرفة إشارة إلى أنه يملك منهم ملوك وملكات بعدد الشرفات، وقد ملك منهم فى أربع سنين عشرة، ذكره ابن ظفر وزاد ابن سيد الناس: وملك الباقون إلى خلافة عثمان- رضى اللّه عنه-. ومن ذلك أيضا: ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب، وقطع رصد الشياطين، ومنعهم من استراق السمع. ولقد أحسن الشقراطيسى حيث قال: ضاءت لمولده الآفاق واتصلت ... بشرى الهواتف فى الإشراق والطفل وصرح كسرى تداعى من قواعده ... وانقض منكسر الأرجاء ذا ميل ونار فارس لم توقد وما خمدت ... مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل خرت لمبعثه الأوثان وانبعثت ... ثواقب الشهب ترمى الجن بالشعل وولد- صلى اللّه عليه وسلم- معذورا أى مختونا مسرورا- أى مقطوع السرة- كما روى من حديث أبى هريرة عند ابن عساكر. وروى الطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم والخطيب وابن عساكر من طرق، عن أنس: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (من كرامتى على ربى أنى ولدت مختونا، ولم ير أحد سوأتى) (١) وصحّحه الضياء فى المختارة. وعن ابن عمر قال: ولد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مسرورا مختونا. رواه ابن عساكر. قال الحاكم فى المستدرك: تواترت الأخبار أنه- عليه السّلام- ولد مختونا (٢) . انتهى. وتعقبه الحافظ الذهبى فقال: ما أعلم صحة ذلك؟! فكيف يكون متواترا؟ و أجيب: باحتمال أن يكون أراد بتواتر الأخبار اشتهارها وكثرتها فى السير، لا من طريق السند المصطلح عليه عند أئمة الحديث. __________ (١) أخرجه الطبرانى فى الأوسط، كما فى (..... الجامع) (٥٣١٠) . (٢) قاله الحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٦٠١، ٦٠٢) . وقد حكى الحافظ زين الدين العراقى، أن الكمال بن العديم ضعف أحاديث كونه ولد مختونا، و قال: إنه لا يثبت فى هذا شىء من ذلك. وأقره عليه، وبه صرح ابن القيم ثم قال: ليس هذا من خصائصه صلى اللّه عليه وسلم-، فإن كثيرا من الناس ولد مختونا. وحكى الحافظ ابن حجر: أن العرب تزعم أن الغلام إذا ولد فى القمر فسخت قلفته- أى اتسعت- فيصير كالمختون (١) . وفى (الوشاح) لابن دريد: قال ابن الكلبى: بلغنى أن آدم خلق مختونا واثنى عشر نبيّا من بعده خلقوا مختونين آخرهم محمد- صلى اللّه عليه وسلم-: شيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وسليمان وشعيب ويحيى وهود وصالح- صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين-. وفى هذه العبارة تجوز، لأن الختان هو القطع، وهو غير ظاهر، لأن اللّه تعالى يوجد ذلك على هذه الهيئة من غير قطع، فيحمل الكلام باعتبار أنه على صفة المقطوع. وقد حصل من الاختلاف فى ختانه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ولد مختونا كما تقدم. الثانى: أنه ختنه جده عبد المطلب يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه محمدا. رواه الوليد بن مسلم (٢) بسنده إلى ابن عباس وحكاه ابن عبد البر فى التمهيد (٣) . والثالث: أنه ختن عند حليمة، كما ذكره ابن القيم والدمياطى ومغلطاى وقالوا: إن جبريل- عليه السّلام- ختنه حين طهر قلبه. وكذا أخرجه الطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم من حديث أبى بكرة. قال الذهبى: وهذا ........ واعلم أن الختان: هو قطع القلفة التى تغطى الحشفة من الرجل، وقطع بعض الجلدة التى فى أعلى الفرج من المرأة، ويسمى ختان الرجل: __________ (١) قاله فى (فتح البارى) (١٠/ ٣٤٠) . (٢) قلت: هو مدلس، وأكثر أخباره .....ة. (٣) قلت: انظر (فتح البارى) (١٠/ ٥٧٠) . إعذارا- بالعين المهملة والذال المعجمة والراء- وختان المرأة خفاضا- بالخاء المعجمة والفاء والضاد المعجمة أيضا-. واختلف العلماء: هل هو واجب؟. * فذهب أكثرهم إلى أنه سنّة وليس بواجب، وهو قول مالك وأبى حنيفة وبعض أصحاب الشافعى. * وذهب الشافعى إلى وجوبه، وهو مقتضى قول سحنون من المالكية. * وذهب بعض أصحاب الشافعى إلى أنه واجب فى حق الرجال، سنة فى حق النساء. واحتج من قال إنه سنة، بحديث أبى المليح بن أسامة عن أبيه: أن النبى صلى اللّه عليه وسلم- قال: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء) (١) رواه أحمد فى مسنده والبيهقى. وأجاب من أوجبه بأنه ليس المراد بالسنة هنا خلاف الواجب، بل المراد الطريقة، واحتجوا على وجوبه بقوله تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (٢) ، وثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-: (اختتن إبراهيم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم) (٣) وبما روى أبو داود من قوله- صلى اللّه عليه وسلم- للرجل الذى أسلم: (ألق عنك شعر الكفر واختتن) (٤) . __________ (١) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٥/ ٧٥) ، والبيهقى فى (الكبرى) (٨/ ٣٢٥) . (٢) سورة النحل: ١٢٣. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٢٣٥٦) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول اللّه تعالى وَاتَّخَذَ اللّه إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، ومسلم (٢٣٧٠) فى الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل صلى اللّه عليه وسلم-. (٤) حسن: أخرجه أبو داود (٣٥٦) فى الطهارة، باب: فى الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، وأحمد فى (مسنده) (٣/ ٤١٥) ، والحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٦٥٩) ، والبيهقى فى (الكبرى) (١/ ١٧٢) ، (٨/ ٣٢٣) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢٢/ ٣٩٥) ، من حديث عثيم ابن كليب عن أبيه عن جده- رضى اللّه عنه-. واحتج القفال لوجوبه: بأن بقاء القلفة يحبس النجاسة، ويمنع صحة الصلاة، فيجب إزالتها. وقال الفخر الرازى: (الحكمة من الختان، أن الحشفة قوية الحس، فما دامت مستورة تقوى اللذة عند المباشرة، فإذا قطعت القلفة تصلبت الحشفة فضعفت اللذة، وهو اللائق بشريعتنا تقليلا للذة لا قطعا لها، كما تفعل المانوية، فذلك إفراط وإبقاء القلفة تفريط، فالعدل الختان) . انتهى. وإذا قلنا بوجوب الختان، فمحل الوجوب بعد البلوغ على الصحيح من مذهبنا، لما روى البخارى فى صحيحه عن ابن عباس أنه سئل: مثل من أنت حين قبض رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (وأنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك) (١) . وقال بعض أصحابنا: يجب على الوالى أن يختن الصبى قبل البلوغ، واللّه أعلم. وقد اختلف فى عام ولادته- صلى اللّه عليه وسلم-: فالأكثرون على أنه عام الفيل، وبه قال ابن عباس، ومن العلماء من حكى الاتفاق عليه، وقال: كل قول يخالفه وهم. والمشهور: أنه ولد بعد الفيل بخمسين يوما، وإليه ذهب السهيلى فى جماعة. وقيل: بعده بخمسة وخمسين يوما، وحكاه الدمياطى فى آخرين وقيل: بشهر، وقيل بأربعين يوما. وقيل: بعد الفيل بعشر سنين وقيل: قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وقيل: غير ذلك. والمشهور أنه بعد الفيل، لأن قصة الفيل كانت توطئة لنبوته، وتقدمة لظهوره وبعثته، وإلا فأصحاب الفيل- كما قاله ابن القيم- كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك، لأنهم كانوا عباد أوثان، فنصرهم اللّه تعالى على أهل الكتاب نصرا لا صنع للبشر فيه، إرهاصا وتقدمة للنبى الذى خرج من مكة، وتعظيما للبلد الحرام. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٢٩٩) فى الاستئذان، باب: الختان بعد الكبر ونتف الإبط. واختلف أيضا فى الشهر الذى ولد فيه. والمشهور: أنه ولد فى شهر ربيع الأول، وهو قول جمهور العلماء. ونقل ابن الجوزى الاتفاق عليه. وفيه نظر: فقد قيل فى صفر، وقيل فى ربيع الآخر. وقيل فى رجب، ولا يصح. وقيل: فى رمضان، وروى عن ابن عمر بإسناد لا يصح، وهو موافق لمن قال: إن أمه حملت به فى أيام التشريق. وأغرب من قال: ولد فى عاشوراء. وكذا اختلف أيضا فى أى يوم من الشهر: فقيل إنه غير معين، إنما ولد يوم الاثنين من ربيع الأول من غير تعيين، والجمهور على أنه يوم معين منه.
فقيل: لليلتين خلتا منه. وقيل: لثمان خلت منه، قال الشيخ قطب الدين القسطلانى: وهو اختيار أكثر أهل الحديث، ونقل عن ابن عباس وجبير بن مطعم، وهو اختيار أكثر من له معرفة بهذا الشأن، واختاره الحميدى، وشيخه ابن حزم، وحكى القضاعى فى (عيون المعارف) إجماع أهل الزيج عليه، ورواه الزهرى عن محمد بن جبير بن مطعم، وكان عارفا بالنسب وأيام العرب، أخذ ذلك عن أبيه جبير. وقيل لعشر، وقيل لاثنى عشر، وعليه عمل أهل مكة فى زيارتهم موضع مولده فى هذا الوقت، وقيل لسبع عشرة وقيل لثمان عشرة، وقيل لثمان بقين منه. وقيل: إن هذين القولين غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية. والمشهور: أنه ولد [يوم الاثنين] ثانى عشر شهر ربيع الأول، وهو قول ابن إسحاق وغيره. وإنما كان فى شهر ربيع على الصحيح ولم يكن فى المحرم، ولا فى رجب، ولا فى رمضان، ولا فى غيرها من الأشهر ذوات الشرف، لأنه عليه السّلام- لا يتشرف بالزمان، وإنما الزمان يتشرف به كالأماكن، فلو ولد فى شهر من الشهور المذكورة، لتوهم أنه تشرف بها، فجعل اللّه تعالى مولده صلى اللّه عليه وسلم- فى غيرها ليظهر عنايته به وكرامته عليه. وإذا كان يوم الجمعة الذى خلق فيه آدم- عليه السّلام- خص بساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل اللّه فيها خيرا إلا أعطاه إياه، فما بالك بالساعة التى ولد فيها سيد المرسلين. ولم يجعل اللّه تعالى في يوم الاثنين- يوم مولده- صلى اللّه عليه وسلم- من التكليف بالعبادات ما جعل فى يوم الجمعة- المخلوق فيه آدم- من الجمعة والخطبة وغير ذلك، إكراما لنبيه- صلى اللّه عليه وسلم- بالتخفيف عن أمته، بسبب عناية وجوده قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١) ، ومن جملة ذلك: عدم التكليف. واختلف أيضا فى الوقت الذى ولد فيه. والمشهور أنه يوم الاثنين. فعن. أبى قتادة الأنصارى: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- سئل عن صيام يوم الاثنين ف قال: (ذاك يوم ولدت فيه، وأنزلت على فيه النبوة) (٢) رواه مسلم، وهذا يدل على أنه- صلى اللّه عليه وسلم- ولد نهارا. وفى المسند، عن ابن عباس قال: ولد- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الاثنين، واستنبىء يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين،. ورفع الحجر يوم الاثنين (٣) . انتهى. وكذا فتح مكة ونزول سورة المائدة يوم الاثنين. __________ (١) سورة الأنبياء: ١٠٧. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (١١٦٢) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. (٣) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٢٧٧) ، والطبرانى فى (الكبير) (١١/ ٨٥) مختصرا. وقد روى أنه ولد [يوم الاثنين] عند طلوع الفجر، فعن عبد اللّه بن عمرو بن العاصى قال: كان بمر الظهران راهب يسمى عيصى، من أهل الشام، وكان يقول: يوشك أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه، فكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه، فلما كان صبيحة اليوم الذى ولد فيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خرج عبد المطلب حتى أتى عيصى فناداه، فأشرف عليه، فقال له عيصى: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الذى كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين. قال: ولد لى الليلة مع الصبح مولود، قال: فما سميته؟ قال: محمدا، قال: واللّه لقد كنت أشتهى أن يكون هذا المولود فيكم أهل هذا البيت، بثلاث خصال تعرّفه: فقد أتى عليهن منها: أنه طلع نجمه البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمد. رواه أبو جعفر بن أبى شيبة، وخرجه أبو نعيم فى الدلائل بسند فيه ضعف. وقيل: كان مولده- صلى اللّه عليه وسلم- عند طلوع الغفر، وهو ثلاثة أنجم صغار ينزلها القمر، وهو مولد النبيين، ووافق ذلك من الشهور الشمسية نيسان (١) ، وهو برج الحمل، وكان لعشرين مضت منه. وقيل ولد ليلا فعن عائشة قالت: كان بمكة يهودى يتجر فيها، فلما كانت الليلة التى ولد فيها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود قالوا لا نعلم قال ولد الليلة نبى هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس فخرجوا باليهودى حتى أدخلوه على أمه فقالوا: أخرجى لنا ابنك فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودى مغشيّا عليه فلما أفاق قالوا مالك ويلك قال: (ذهبت واللّه النبوة من بنى إسرائيل) ، رواه الحاكم. قال الشيخ بدر الدين الزركشى: (والصحيح أن ولادته- صلى اللّه عليه وسلم- كانت __________ (١) وهو ما يعرف فى بعض الدول الآن بأبريل. (٢) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٦٠١، ٦٠٢) ، وقد تقدم. نهارا، قال: وأما ما روى من تدلى النجوم فضعفه ابن دحية لاقتضائه أن الولادة ليلا. قال: وهذا لا يصلح أن يكون تعليلا، فإن زمان النبوة صالح للخوارق، ويجوز أن تسقط النجوم نهارا) انتهى. فإن قلت: إذا قلنا بأنه- عليه الصلاة والسلام- ولد ليلا، فأيما أفضل: ليلة القدر أو ليلة مولده- صلى اللّه عليه وسلم-؟ أجيب: بأن ليلة مولده أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة: أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره- صلى اللّه عليه وسلم-، وليلة القدر معطاة له، وما شرف بظهور ذات المشرف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه، ولا نزاع فى ذلك، فكانت ليلة المولد- بهذا الاعتبار- أفضل. الثانى: أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، وليلة المولد شرفت بظهوره- صلى اللّه عليه وسلم- فيها. ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر، على الأصح المرتضى، فتكون ليلة المولد أفضل. الثالث: أن ليلة القدر وقع التفضل فيها على أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، وليلة المولد الشريف وقع التفضل فيها على سائر الموجودات، فهو الذى بعثه اللّه عز وجل- رحمة للعالمين، فعمت به النعمة على جميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أعم نفعا، فكانت أفضل. فيا شهرا ما أشرفه وأوفر حرمة لياليه، كأنها لآلىء فى العقود ويا وجها ما أشرفه من مولود، فسبحان من جعل مولده للقلوب ربيعا وحسنه بديعا. يقول لنا لسان الحال منه ... وقول الحق يعذب للسميع فوجهى والزمان وشهر وضعى ... ربيع فى ربيع فى ربيع واختلف أيضا فى مدة الحمل به، فقيل: تسعة أشهر، وقيل ثمانية وقيل سبعة وقيل ستة. وولد- عليه السّلام- فى الدار التى كانت لمحمد بن يوسف أخى الحجاج ويقال بالشعب، ويقال بالردم ويقال بعسفان. [ذكر رضاعه صلى اللّه عليه وسلم]وأرضعته- صلى اللّه عليه وسلم- ثويبة، عتيقة أبى لهب، أعتقها حين بشرته بولادته عليه السّلام-. وقد رؤى أبو لهب بعد موته فى النوم فقيل له ما حالك؟ ف قال: فى النار، إلا أنه خفف عنى كل ليلة اثنين، وأمص من بين أصبعى هاتين ماء، وأشار برأس أصبعيه وأن ذلك بإعتاقى لثويبة عندما بشرتنى بولادة النبى صلى اللّه عليه وسلم- وبإرضاعها له(١) . قال ابن الجزرى: فإذا كان هذا أبو لهب الكافر، الذى نزل القرآن بذمه جوزى فى النار بفرحه ليلة مولد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- به، فما حال المسلم الموحد من أمته- عليه السّلام- الذى يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته فى محبته صلى اللّه عليه وسلم-، لعمرى إنما يكون جزاؤه من اللّه الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم. ولا زال أهل السلام يحتفلون بشهر مولده- عليه السّلام-، ويعملون الولائم، ويتصدقون فى لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون فى المبرات. ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. ومما جرب من خواصه أنه أمان فى ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل __________ (١) جاء فى البخارى (٩/ ١٢٤) فى النكاح، باب: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ قال عروة: وثويبة مولاة أبى لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبه (أى حالة) ، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم راحة غير أنى سقيت فى هذه (وأشار إلى النقرة التى بين الإبهام والمسبحة) بعتاقتى ثويبة. البغية والمرام، فرحم اللّه امرآ اتخذ ليالى شهر مولده المبارك أعيادا، ليكون أشد علة على من فى قلبه مرض وأعيا داء (١) . ولقد أطنب ابن الحاج (٢) فى (المدخل) فى الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشريف، فاللّه يثيبه على قصده الجليل، ويسلك بنا سبيل السنة، فإنه حسبنا ونعم الوكيل. وقد ذكروا أنه لما ولد- صلى اللّه عليه وسلم-، قيل: من يكفل هذه الدرة اليتيمة، التى لا يوجد لمثلها قيمة؟ قالت الطيور: نحن نكفله ونغنم خدمته العظيمة، قالت الوحوش: نحن أولى بذلك ننال شرفه وتعظيمه، فنادى لسان القدرة: أن يا جميع المخلوقات: إن اللّه تعالى قد كتب فى سابق حكمته القديمة أن نبيه الكريم يكون رضيعا لحليمة الحليمة. قالت حليمة: فيما رواه ابن إسحاق وابن راهواه وأبو يعلى والطبرانى والبيهقى وأبو نعيم: قدمت مكة فى نسوة من بنى سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء (٣) فى سنة شهباء (٤) ، فقدمت على أتان (٥) لى ومعى صبى لنا وشارف لنا (٦) ، واللّه ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، لا يجد فى ثديى ما يغنيه، ولا فى شارفنا ما يغذيه. فقدمنا مكة، فو اللّه ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول اللّه __________ (١) قلت: لو كان هذا خيرا كما يقول لسبقنا إليه خير هذه الأمة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-، ومن اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين كانوا يسارعون فى الخيرات، ثم إن إثبات هذا الفعل يكون بدليل ولا يوجد، وعامة انظر ما كتبه ابن الحاج فى (المدخل) (٢/ ٣- ٣٣) الذى أشار إليه المصنف بعد قليل. (٢) هو: الإمام العالم العامل، أبو عبد اللّه، محمد بن محمد بن محمد العبدرى الفاسى المالكى الشهير بابن الحاج، فقيه، له تاليف نافعة من أجلها كتابه المعروف (بالمدخل) توفى بالقاهرة سنة (٧٣٧ هـ) . (٣) الرضعاء: جمع رضيع، وهو الطفل فى سن الرضاعة. (٤) سنة شهباء: يعنى سنة القحط والجدب، لأن الأرض تكون فيها بيضاء. (٥) الأتان: الأنثى من الحمير. (٦) الشارف: الناقة المسنة. - صلى اللّه عليه وسلم- فتأباه، إذا قيل لها يتيم (١) ، فو اللّه ما بقى من صواحبى امرأة إلا أخذت رضيعا غيرى، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجى: واللّه إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ليس معى رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فذهبت فإذا به مدرج فى ثوب أبيض من اللبن، يفوح منه المسك، وتحته حريرة خضراء، راقدا على قفاه، يغط، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فدنوت منه رويدا فوضعت يدى على صدره فتبسم ضاحكا، وفتح عينيه لينظر إلىّ، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه، وأعطيته ثديى الأيمن، فأقبل عليه بما شاء من لبن، فحولته إلى الأيسر فأبى، وكانت تلك حاله بعد- قال أهل العلم: أعلمه اللّه تعالى أن له شريكا فألهمه العدل- قالت: فروى وروى أخوه. ثم أخذته، فما هو إلا أن جئت به رحلى، فأقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فشرب حتى روى [وشرب أخوه حتى روى] ، فقام صاحبى- تعنى زوجها- إلى شارفنا (٢) تلك، فإذا إنها لحافل(٣) ، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، وبتنا بخير ليلة، فقال صاحبى: يا حليمة، واللّه إنى لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم ترى ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه، فلم يزل اللّه يزيدنا خيرا. قال فى رواية ذكرها ابن طغر بك فى (النطق المفهوم) : فلما نظر صاحبى إلى هذا قال لى: اسكتى واكتمى أمرك، فمن ليلة ولد هذا الغلام أصبحت الأحبار قواما على أقدامها، لا يهنؤها عيش النهار ولا نوم الليل. قالت حليمة: فودعت النساء بعضهن بعضا وودعت أنا أم النبى صلى اللّه عليه وسلم-، ثم ركبت أتانى وأخذت محمدا بين يدى، قالت: فنظرت إلى الأتان وقد سجدت نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء ثم مشت حتى سبقت دواب الناس الذين كانوا معى، وصار الناس يتعجبون منى __________ (١) المقصد من قولها (يتيم) أنها لن تأخذ طبيبا ممن سوف يكفله ليتمه ووفاة والده. (٢) تقدم أن الشارف هى الناقة المسنة. (٣) الحافل: الممتلئة الضرع من اللبن، حيث إن الحفل، هو اجتماع اللبن فى الضرع. ويقلن النساء لى وهن ورائى: يا بنت أبى ذؤيب أهذه أتانك التى كنت عليها وأنت جائية معنا تخفضك طورا وترفعك أخرى؟ فأقول: تاللّه إنها هى فيتعجبن منها ويقلن إن لها لشأنا عظيما. قالت: فكنت أسمع أتانى تنطق وتقول واللّه إن لى لشأنا ثم شأنا بعثنى اللّه بعد موتى ورد لى سمنى بعد هزالى، ويحكن يا نساء بنى سعد إنكن لفى غفلة وهل تدرين من على ظهرى، على ظهرى خيار النبيين وسيد المرسلين وخير الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين. قالت حليمة- فيما ذكره ابن إسحاق وغيره-: ثم قدمنا منازل بنى سعد، ولا أعلم أرضا من أرض اللّه أجدب- بالدال المهملة- منها، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها فى ضرع، حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعاتهم: اسرحوا حيث يسرح راعى غنم بنت أبى ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح أغنامى شباعا لبنا (١) . فللّه درها من بركة كثرت بها مواشى حليمة ونمت وارتفع قدرها به وسمت ولم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة وتفوز منه بالحسنى وزيادة. لقد بلغت بالها شمى حليمة ... مقاما علا فى ذروة العز والمجد وزادت مواشيها وأخصب ربعها ... وقد عم هذا السعد كل بنى سعد قال ابن الطراح رأيت فى كتاب الترقيص لأبى عبد اللّه محمد بن المعلى الأزدى أن من شعر حليمة ما كانت ترقص به النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: يا رب إذ أعطيته فأبقه ... وأعله إلى العلا وأرقه وأدحض أباطيل العدا بحقه وعند غيره كانت الشيماء أخته من الرضاعة تحضنه وترقصه وتقول: هذا أخ لم تلده أمى ... وليس من نسل أبى وعمى فديته من مخول معمى ... فأنمه اللّهم فيما تنمى __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ١٣٣- ١٣٤) . وأخرج البيهقى والصابونى (١) فى المائتين والخطيب وابن عساكر فى تاريخهما وابن طغربك السياف فى النطق المفهوم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول اللّه دعانى للدخول فى دينك أمارة لنبوتك رأيتك فى المهد تناغى القمر وتشير إليه بأصبعك فحيث أشرت إليه مال قال: (إنى كنت أحدثه ويحدثنى ويلهينى عن البكاء وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش) (٢) قال البيهقى تفرد به أحمد بن إبراهيم الجيلى وهو مجهول وقال الصابونى: هذا حديث غريب الإسناد والمتن وهو فى المعجزات حسن. والمناغاة: المحادثة، وقد ناغت الأم صبيها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة. وفى فتح البارى عن سيرة الواقدى (٣) : أنه- صلى اللّه عليه وسلم- تكلم فى أوائل ما ولد (٤) . وذكر ابن سبع فى الخصائص: أن مهده كان يتحرك بتحريك الملائكة. وأخرج البيهقى وابن عساكر عن ابن عباس قال كانت حليمة تحدث أنها أول ما فطمت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- تكلم ف قال: (اللّه أكبر كبيرا والحمد للّه كثيرا وسبحان اللّه بكرة وأصيلا) ، فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فبجتنبهم (٥) . الحديث. وقد روى ابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر، عن ابن عباس قال: كانت حليمة لا تدعه يذهب مكانا بعيدا، فغافلت عنه، فخرج مع أخته الشيماء __________ (١) هو: الإمام العلامة، أبو عثمان، إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل النيسابورى الصابونى، كان من حفاظ الحديث، كما كان يحفظ التفسير من كتب كثيرة، توفى سنة (٤٤٩ هـ) . (٢) ذكره المتقى الهندى فى (كنز العمال) (٣١٨٢٨) وعزاه لمن ذكرهم المصنف. (٣) هو: محمد بن عمر بن واقد الأسلمى، صاحب التصانيف والمغازى، كان ممن جمع فأوعى، إلا أنه خلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فضعف لذلك، إلا أنه مع هذا فلا يستغنى عنه فى المغازى وأيام الصحابة وأخبارهم، أما فى الفرائض فلا، مات سنة (٢٠٧ هـ) . (٤) قاله الحافظ ابن حجر فى (فتح البارى) (٦/ ٤٨٠) . (٥) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ١٤٠) فى أثناء حديث طويل. فى الظهيرة إلى البهم، فخرجت حليمة تطلبه، حتى تجده مع أخته فقالت: فى هذا الحر؟ قالت أخته: يا أمه ما وجد أخى حرّا، رأيت غمامة تظل عليه، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع الحديث. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يشب شبابا لا يشبه الغلمان. قالت حليمة: فلما فصلته قدمنا به على أمه، ونحن أحرص شىء على مكثه فينا، لما نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلنا: لو تركتيه عندنا حتى يغلظ، فإنا نخشى عليه وباء مكة، ولم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به. فو اللّه إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة، لفى بهم لنا خلف بيوتنا، جاء أخوه يشتد، ف قال: ذاك أخى القرشى، قد جاء رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائما منتقعا لونه، فاعتنقه أبوه و قال: أى بنى، ما شأنك، ف قال: جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى فشقا بطنى، ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه، ثم رداه كما كان. فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابنى قد أصيب، فانطلقى بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف، قالت حليمة فاحتملناه حتى قدمنا به مكة إلى أمه، فقالت: ما ردكما به فقد كنتما حريصين عليه؟ قلنا نخشى عليه الإتلاف والأحداث، فقالت: ما ذاك بكما، فأصدقانى شأنكما، فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، قالت: أخشيتما عليه الشيطان، كلا واللّه ما لشيطان عليه سبيل، وإنه لكائن لابنى هذا شأن عظيم فدعاه عنكما. وفى حديث شداد بن أوس عن رجل من بنى عامر، عند أبى يعلى وأبى نعيم وابن عساكر: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (كنت مسترضعا فى بنى سعد بن بكر، فبينا أنا ذات يوم فى بطن واد، مع أتراب لى من الصبيان، إذا أنا برهط ثلاثة معهم طست من ذهب، ملىء ثلجا، فأخذونى من بين أصحابى، وانطلق الصبيان هرابا مسرعين إلى الحى، فعمد أحدهم فأضجعنى على الأرض إضجاعا لطيفا، ثم شق ما بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى وأنا أنظر إليه، لم أجد لذلك مسّا، ثم أخرج أحشاء بطنى ثم غسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها، ثم قال الثانى فقال لصاحبه تنح، ثم أدخل يده فى جوفى فأخرج قلبى وأنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها ثم قال بيده يمنة ويسرة كأنه يتناول شيئا فإذا بخاتم فى يده من نور يحار الناظر دونه فختم به قلبى فامتلأ وذلك نور النبوة والحكمة ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم فى قلبى دهرا، ثم قال الثالث لصاحبه تنح، فأمرّ يده بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى فالتأم ذلك الشق بإذن اللّه تعالى، ثم أخذ بيدى فأنهضنى من مكانى إنهاضا لطيفا ثم قال للأول: زنه بعشرة من أمته فوزنونى بهم فرجحتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فرجحتهم ثم قال زنه بألف فرجحتهم ف قال: دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضمونى إلى صدورهم وقبلوا رأسى وما بين عينى ثم قالوا: يا حبيب لم ترع إنك لو تدرى ما يراد بك من الخير لقرت عيناك) الحديث (١) . وفى رواية ابن عباس، عند البيهقى، قالت حليمة: إذا أنا بابنى ضمرة يعدو فزعا، وجبينه يرشح باكيا ينادى: يا أبت، يا أماه، ألحقا محمدا فما تلحقاه إلا ميتا. أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا، وعلا به ذروة الجبل، حتى شق صدره إلى عانته، وفيه: أنه- عليه السّلام- قال: (أتانى رهط ثلاثة، بيد أحدهم إبريق من فضة، وفى يد الثانى طست من زمردة خضراء) الحديث (٢) . فإن قلت: هل غسل قلبه الشريف فى الطست خاص به، أو فعل بغيره من الأنبياء- عليهم السلام-؟ أجيب: بأنه ورد فى خبر التابوت والسكينة: أنه كان فيه الطست الذى غسلت فيه قلوب الأنبياء، ذكره الطبرى، وعزاه العماد ابن كثير فى تفسيره لرواية السدى عن أبى مالك عن ابن عباس. فإن قلت: ما الحكمة فى ختم قلبه المقدس؟ __________ (١) ذكره المتقى الهندى فى (كنز العمال) (٣٥٥٥٩) وعزاه لمن ذكرهم المصنف، إلا أنه زاد قائلا: ومكحول لم يدرك شداد. (٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (١/ ١٤٠- ١٤١) ضمن حديث طويل. أجيب: بأنه إشارة إلى ختم الرسالة به، وهذا مسلم، إن كان الختم خاصّا به، أما إذا ورد أنه ليس خاصّا به بل بكل نبى- وسيأتى إن شاء اللّه تعالى قريبا ما فى الخاتم الشريف من المباحث- فتكون الحكمة أنه علامة يمتاز بها عن غيره ممن ليس بنبى. والمراد بالوزن: فى قوله (زنه بعشرة إلخ) الوزن الاعتبارى، فيكون المراد الرجحان فى الفضل، وهو كذلك. وفائدة فعل الملكين، ذلك، ليعلم الرسول ذلك، حتى يخبر به غيره ويعتقده، إذ هو من الأمور الاعتقادية. وقد وقع شق صدره الشريف [واستخراج قلبه] مرة أخرى عند مجىء جبريل له بالوحى فى غار حراء. ومرة أخرى عند الإسراء به، وسيأتى كل فى موضعه- إن شاء اللّه تعالى-. وروى الشق أيضا، وهو ابن عشر أو نحوها، مع قصة له مع عبد المطلب، أبو نعيم فى الدلائل. وروى خامسة، ولا تثبت. والحكمة فى شق صدره الشريف فى حال صباه، واستخراج العلقة منه، تطهيره عن حالات الصبا حتى يتصف فى سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ- عليه السّلام- على أكمل الأحوال من العصمة. وقد روى أنه ختم بخاتم النبوة بين كتفيه، وكان ينم مسكا، وأنه مثل زر الحجلة (١) ، ذكره البخارى. وفى مسلم: جمع عليه خيلان، كأنها الثاليل السود عند نغض كتفه (٢) ، ويروى: غضروف كتفه اليسرى. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٩٠) فى الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس، ومسلم (٢٣٤٥) فى الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله، والترمذى (٣٦٤٣) فى المناقب، باب: ما جاء فى خاتم النبوة، من حديث السائب بن يزيد رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٤٦) فى الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة، وصفته، من حديث عبد اللّه بن سرجس- رضى اللّه عنه-. وفى كتاب أبى نعيم: الأيمن. وفى مسلم أيضا: كبيضة الحمام (١) . وفى صحيح الحاكم: شعر مجتمع (٢) . وفى البيهقى: مثل السلعة. وفى الشمائل: بضعة ناشزة. وفى حديث عمرو بن أخطب: كشىء يختم به. وفى تاريخ ابن عساكر: مثل البندقة. وفى الترمذى ودلائل البيهقى: كالتفاحة (٣) . وفى الروض: كأثر المحجمة القابضة على اللحم. وفى تاريخ ابن أبى خيثمة: شامة خضراء محتفرة فى اللحم. وفيه أيضا: شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكمات كأنها عرف الفرس. وفى تاريخ القضاعى: ثلاث شعرات مجتمعات. وفى كتاب الترمذى الحكيم (٤) : كبيضة حمام، مكتوب فى باطنها: اللّه وحده لا شريك له، وفى ظاهرها: توجه حيث كنت فإنك المنصور. __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٢٣٤٤) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث جابر بن سمرة- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه أحمد فى (مسنده) (٥/ ٣٤١) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٣٠٠) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٦٦٣) ، من حديث أبى زيد- رضى اللّه عنه-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح. (٣) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٢٠) فى المناقب، باب: ما جاء فى بدء نبوة النبى صلى اللّه عليه وسلم-، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٦٧٢) ، من حديث أبى موسى- رضى اللّه عنه-. (٤) هو: أبو عبد اللّه، محمد بن على بن الحسن بن بشر، الحكيم الترمذى، وهو غير الترمذى، صاحب السنن، كان ذا رحلة ومعرفة، وله مصنفات وفضائل، لولا هفوة بدت منه، مات سنة (٢٨٥ هـ) على اختلاف فى ذلك. وفى كتاب المولد لابن عائذ: كان نورا يتلألأ. وفى سيرة ابن أبى عاصم: عذرة كعذرة الحمام، قال أبو أيوب: يعنى قرطمة الحمامة. وفى تاريخ نيسابور: مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم: محمد رسول اللّه. وعن عائشة: كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة، وكان مما يلى الفقار قالت: فلمسته حين توفى فوجدته قد رفع. حكى هذا كله الحافظ مغلطاى لكن قال فى فتح البارى: ما ورد من أن الخاتم كان كأثر المحجم، أو كالشامة السوداء أو الخضراء، مكتوب عليها: محمد رسول اللّه، سر فإنك المنصور. لم يثبت منها شىء (١) . قال: ولا يغتر بما وقع فى صحيح ابن حبان، فإنه غفل حيث صحح ذلك. وقال الهيثمى فى (موارد الظمان) بعد أن أورد الحديث ولفظه: مثل البندقة من اللحم مكتوب عليه: محمد رسول اللّه (٢) . اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذى كان يختم به. وبخط الحافظ ابن حجر على الهامش: البعض المذكور هو إسحاق بن إبراهيم قاضى سمرقند وهو ...... وقوله: زر الحجلة- بالزاى والراء- والحجلة- بالحاء المهملة والجيم- قال النووى: هى واحدة الحجال، وهى بيت كالقبة، لها أزرار كبار وعرى، هذا هو الصواب. وقال بعضهم: المراد بالحجلة: الطائر المعروف. وزرها: بيضها، وأشار إليه الترمذى وأنكره عليه العلماء. وقوله: جمع- بضم الجيم وإسكان الميم- أى كجمع الكف، وصورته: أن تجمع الأصابع وتضمها. __________ (١) قاله الحافظ فى (الفتح) (٦/ ٥٦٣) . (٢) والحديث عند ابن حبان فى (صحيحه) (٦٣٠٢) من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- بسند ...... وقوله: خيلان: - بكسر الخاء المعجمة وإسكان التحتية- جمع خال، وهو الشامة على الجسد. وقوله: نغض: - بالنون والغين والضاد، المعجمتين- قال النووى: النغض والنّغض والناغض: أعلى الكتف، وقيل هو العظم الرقيق الذى على طرفه، وقيل: ما يظهر منه عند التحرك، سمى ناغضا لتحركه. وقوله: بضعة ناشزة- بالمعجمة والزاى- أى قطعة لحم مرتفعة على جسده. وبيضة الحمامة: معروفة. انتهى. والثاليل: - بالمثلاثة- جمع ثؤلول: وهو حب يعلو ظاهر الجسد، واحدته كالحمصة فما دونها. وفى القاموس: وقرطمتا الحمام- أى بكسر القاف- نقطتان على أصل منقاره. وقال بعض العلماء: اختلف أقوال الرواة فى خاتم النبوة، وليس ذلك باختلاف، بل كل شبه بما سنح له، وكلها ألفاظ مؤداها واحد، وهو: قطعة لحم، ومن قال: شعر فلأن الشعر حوله متراكم عليه، كما فى الرواية الآخرى. وقال القرطبى: الأحاديث الثابتة دالة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلل، قدر ببيضة الحمامة، وإذا كبر: جمع اليد. وقال القاضى عياض: وهذه الروايات متقاربة متفرقة، متفقة على أنه شاخص فى جسده، قدر بيضة الحمامة، وزر الحجلة. وأما رواية جمع الكف فظاهرها المخالفة، فتتأول على وفق الروايات الكثيرة، ويكون معناه: على هيئة جمع الكف، لكنه أصغر منه فى قدر بيضة الحمامة. قال: وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه. قال النووى: هذا الذى قال .....، بل باطل، لأن شق الملكين إنما كان فى صدره وبطنه. انتهى. ويشهد له قول أنس فى حديث عند مسلم- يأتى فى ذكر قلبه الشريف، من المقصد الثالث، إن شاء اللّه تعالى-: فلقد كنت أرى أثر المخيط فى صدره (١) . لكن أجيب: بأن فى حديث عتبة بن عبد السلمى (٢) - عند أحمد والطبرانى- أن الملكين لما شقا صدره قال أحدهما للآخر: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، فلما ثبت أن خاتم النبوة بين كتفيه حمل القاضى عياض ذلك على أن الشق لما وقع فى صدره، ثم خيط حتى التأم كما كان، ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر الختم. وفهم النووى وغيره منه: أن قوله بين كتفيه متعلق بالشق وليس كذلك، بل هو متعلق بأثر الختم، وحينئذ فليس ما قاله القاضى عياض بباطل، انتهى (٣) . وقال السهيلى: والصحيح أنه- يعنى خاتم النبوة- كان عند نغض كتفه الأيسر. واختلف هل ولد به؟ أو وضع بعد ولادته؟ على قولين. وقد وقع التصريح بوقت وضع الخاتم، وكيف وضع، ومن وضعه، فى حديث أبى ذر عند البزار وغيره قال: قلت يا رسول اللّه: كيف علمت أنك نبى، وبم علمت أنك نبى حتى استيقنت؟ قال: (أتانى آتيان، وفى رواية ملكان، وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو، قال: فزنه برجل) الحديث (٤) . وفيه: ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطنى فأخرج __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (١٦١) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى السماوات. (٢) هو: الصحابى الجليل، عتبة بن عبد، السّلمى، أبو الوليد، صاحب النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، كان اسمه عتلة، فسماه النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عتبة، مات سنة (٨٧ هـ) ، وحديثه فى المسند والطبرانى لم أقف عليه. (٣) انظر (فتح البارى) (٦/ ٥٦١) حيث إن الكلام منقول منه. (٤) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٨/ ٢٥٥- ٢٥٦) وقال: رواه البزار، وفيه جعفر بن عبد اللّه عثمان بن كبير، وثقه أبو حاتم الرازى وابن حبان، وتكلم فيه العقيلى، وبقية رجاله رجال الصحيح. قلبى فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما، فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاط بطنى وجعل الخاتم بين كتفى كما هو الآن، ووليا عنى، وكأنى أرى الأمر معاينة (١) . وعند أبى نعيم فى الدلائل: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لما ولد، ذكرت أمه أن الملك غمسه فى الماء الذى أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج سرقة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة، تضىء كالزهرة. وقيل: ولد به، فاللّه أعلم. وأخرج الحاكم فى المستدرك عن وهب بن منبه قال: لم يبعث اللّه نبيّا إلا وقد كان عليه شامات النبوة فى يده اليمنى، إلا أن يكون نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه) . وعلى هذا: فيكون وضع الخاتم بين كتفيه بإزاء قلبه مما اختص به عن سائر الأنبياء واللّه أعلم. ولما بلغ- صلى اللّه عليه وسلم- أربع سنين- وقيل خمسا، وقيل ستّا، وقيل سبعا، وقيل تسعا، وقيل اثنتى عشرة سنة وشهرا وعشرة أيام- ماتت أمه بالأبواء (٣) وقيل بشعب أبى ذئب بالحجون(٤) . وفى القاموس: ودار رائعة بمكة فيها مدفن آمنة أم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. وأخرج ابن سعد عن ابن عباس وعن الزهرى، وعن عاصم بن عمرو ابن قتادة دخل حديث بعضهم فى حديث بعض قالوا: لما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بنى عدى بن النجار بالمدينة، __________ (١) انظر ما قبله. (٢) مرسل: أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٦٣١) عن وهب بن منبه مرسلا. (٣) الأبواء: بفتح الهمزة وسكون الباء، جبل بين مكة والمدينة، وعنده بلد ينسب إليه. (٤) الحجون: الجبل المشرف مما يلى شعب الجزارين بمكة، وقيل: هو موضع بمكة فيه اعوجاج، والمشهور الأول. تزورهم، ومعه أم أيمن، فنزلت به دار التابعة. فأقامت به عندهم شهرا، فكان صلى اللّه عليه وسلم- يذكر أمورا كانت فى مقامه ذلك، ونظرا إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بى أمى، وأحسنت العوم فى بئر بنى عدى بن النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إلى. قالت أم أيمن فسمعت أحدهم يقول: هو نبى هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامهم، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانت بالأبواء توفيت (١) . وروى أبو نعيم من طريق الزهرى عن أسماء بنت رهم عن أمها قالت: شهدت آمنة أم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى علتها التى ماتت بها، ومحمد- عليه السّلام- غلام يفع له خمس سنين عند رأسها، فنظرت إلى وجهه ثم قالت: بارك اللّه فيك من غلام ... يابن الذى من حومة الحمام نجا بعون الملك المنعام ... فودى غداة الضرب بالسهام بمائة من إبل سوام ... إن صح ما أبصرت فى المنام فأنت مبعوث إلى الأنام ... من عند ذى الجلال والإكرام تبعث فى الحل وفى الحرام ... تبعث فى التحقيق والإسلام دين أبيك البر إبراهام ... فاللّه أنهاك عن الأصنام ألاتواليها مع الأقوام ثم قالت: كل حى ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى وأنا ميتة وذكرى باق، وقد تركت خيرا، وولدت طهرا، ثم ماتت. فكنا نسمع نوح الجن عليها فحفظنا من ذلك هذه الأبيات: نبكى الفتاة البرة الأمينة ... ذات الجمال العفة الرزينة زوجة عبد اللّه والقرينة ... أم نبى اللّه ذى السكينة وصاحب المنبر بالمدينة ... صارت لدى حفرتها رهينة وقد روى أن آمنة آمنت به- صلى اللّه عليه وسلم- بعد موتها. __________ (١) أخرجه ابن سعد فى (الطبقات) (١/ ١١٥) . فروى الطبرى بسنده عن عائشة أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- نزل الحجون كئيبا حزينا، فأقام به ما شاء اللّه عز وجل، ثم رجع مسرورا، قال: (سألت ربى فأحيا لى أمى، فامنت بى ثم ردها) (١) . ورواه أبو حفص بن شاهين فى كتاب: (الناسخ والمنسوخ) له، بلفظ، قالت عائشة: حج بنا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حجة الوداع، فمر بى على عقبة الحجون، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه، ثم إنه نزل ف قال: (يا حميراء استمسكى) فاستندت إلى جنب البعير، فمكثت مليّا، ثم عاد إلى وهو فرح متبسم ف قال: (ذهبت لقبر أمى فسألت ربى أن يحييها، فأحياها فامنت بى) (٢) . وكذا روى من حديث عائشة أيضا إحياء أبويه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى آمنا به. أورده السهيلى، وكذا الخطيب فى السابق واللاحق. وقال السهيلى: إن فى إسناده مجاهيل. وقال ابن كثير: إنه حديث ....... جدّا، وسنده مجهول. وقال ابن دحية: هذا الحديث ....... يرده القرآن والإجماع. انتهى. وقد جزم بعض العلماء: أن أبويه- صلى اللّه عليه وسلم- ناجيان، وليسا فى النار، متمسكا بهذا الحديث وغيره. وتعقبه عالم آخر: بأنه لم ير أحدا صرح بأن الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإن ادعى أحد الخصوصية فعليه الدليل. انتهى. وقد سبقه لذلك، أبو الخطاب بن دحية، وعبارته: من مات كافرا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ذلك، فكيف بعد الإعادة. انتهى. وتعقبه القرطبى فى (التذكرة) : بأن فضائله- صلى اللّه عليه وسلم- وخصائصه لم تزل __________ (١) قال الحافظ ابن كثير فى (تفسيره) إنه ....... جدّا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة اللّه تعالى، ولكن ثبت فى الصحيح ما يعارضه. انظر (كشف الخفاء) (١٥٠) . (٢) ..: ذكره السيوطى فى (اللآلئ المصنوعة) (١/ ١٣٨) . تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله اللّه به وأكرمه، قال: وليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلا ولا شرعا، فقد ورد فى الكتاب العزيز إحياء قتيل بنى إسرائيل، وإخباره بقاتله، وكان عيسى- عليه السّلام- يحيى الموتى، وكذلك نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- أحيا اللّه على يده جماعة من الموتى، وإذا ثبت هذا فلا يمتنع إيمانهما بعد إحيائهما، ويكون ذلك زيادة فى كرامته وفضيلته. ثم قال: وقوله: من مات كافرا إلى آخر كلامه، مردود بما روى فى الخبر أن اللّه تعالى رد الشمس على نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- بعد مغيبها. ذكره الطحاوى و قال: إنه حديث ثابت، فلو لم يكن رجوع الشمس نافعا، وأنه لا يتجدد به الوقت لما ردها عليه، فكذلك يكون إحياء أبوى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- نافعا لإيمانهما وتصديقهما بالنبى-صلى اللّه عليه وسلم- انتهى (١) . وقد طعن بعضهم فى حديث رد الشمس. كما سيأتى- إن شاء اللّه- فى مقصد المعجزات. وقد تمسك القائل بنجاتهما أيضا بأنهما ماتا قبل البعثة، فى زمن الفترة، ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (٢) قال: وقد أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا (٣) . قال: وقال الإمام فخر الدين الرازى فى كتابه (أسرار التنزيل) ما نصه: (قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم، بل كان عمه، واحتجوا عليه بوجوه، منها: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارا، ويدل عليه وجوه منها: قوله تعالى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٤) قيل معناه: أنه كان ينتقل نوره من ساجد إلى ساجد، ففيه دلالة على أن جميع آباء محمد كانوا مسلمين) . __________ (١) قلت: هذا متوقف على صحة الأحاديث المثبتة لذلك، ولا مانع منها، إلا أنها لم تصح. (٢) سورة الإسراء: ١٥. (٣) قلت: بل يختبرون فى عرصات يوم القيامة، فمن أطاع فله الجنة، ومن عصى فله النار، ولكن لا يدخلون النار ابتداء، وسيأتى تفضيل المسألة بعد قليل. (٤) سورة الشعراء: ٢١٨، ٢١٩. ثم قال: ومما يدل على أن آباء محمد- صلى اللّه عليه وسلم- ما كانوا مشركين. قوله عليه السّلام-: (لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات) (١) وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (٢) فوجب ألايكون أحد من أجداده مشركا) . كذا قال. وهو متعقب: * بأنه لا دلالة فى قوله: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٣) . على ما ادعاه، فقد ذكر البيضاوى- فى تفسيره- وغيره، أن معنى الآية: وترددك فى تصفح أحوال المتهجدين، كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف- عليه السّلام- تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، حرصا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر اللّه تعالى. * وقد ورد النص بأن أبا إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- مات على الكفر، كما صرح به البيضاوى وغيره، قال تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للّه تَبَرَّأَ مِنْهُ (٤) . وأما قوله إنه كان عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل. انتهى. ونقل الإمام أبو حيان فى (البحر) عند تفسير قوله: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٥) . أن الرافضة هم القائلون أن آباء النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كانوا مؤمنين، مستدلين بقوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٦) . وبقوله- عليه السّلام-: (لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين) الحديث (٧) . انتهى. * وروى ابن جرير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه: __________ (١) تقدم. (٢) سورة التوبة: ٢٨. (٣) سورة الشعراء: ٢١٩. (٤) سورة التوبة: ١١٤. (٥) سورة الشعراء: ٢١٩. (٦) سورة الشعراء: ٢١٩. (٧) تقدم. أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما قدم مكة أتى رسم قبر، فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا يا رسول اللّه إنا رأينا ما صنعت، قال: (إنى استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى فأذن لى، واستأذننه فى الاستغفار لها فلم يأذن لى) . فما رؤى باكيا أكثر من يومئذ (١) . * وروى ابن أبى حاتم فى تفسيره عن عبد اللّه بن مسعود، أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أومأ إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه-، فدعاه ثم دعانا، ف قال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك، ف قال: إن القبر الذى جلست عنده قبر آمنة، وإنى استأذنت ربى فى زيارتها فأذن لى، وإنى استأذنته فى الدعاء لها فلم يأذن لى، وأنزل اللّه على: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى (٢) فأخذنى ما يأخذ الولد للوالد (٣) . ورواه الطبرانى من حديث ابن عباس. * وفى مسلم: (استأذنت ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى، واستأذنته فى أن أزور قبرها فأذن لى فزوروا القبور، فإنها تذكر الآخرة) (٤) . قال القاضى عياض: بكاؤه- عليه السّلام- على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به. * وفى مسلم أيضا: (أن رجلا قال: يا رسول اللّه: أين أبى، قال: (فى النار) فلما قفا دعاه، قال: (إن أبى وأباك فى النار) (٥) . قال النووى: فيه أن من مات على الكفر فهو فى النار، ولا ينفعه قرابة المقربين. __________ (١) أخرجه ابن جرير فى (تفسيره) (١١/ ٤٢) . (٢) سورة التوبة: ١١٣. (٣) ذكره ابن كثير فى (تفسيره) (٢/ ٣٩٤) ، وعزاه لابن أبى حاتم. (٤) صحيح: أخرجه مسلم (٩٧٦) فى الجنائز، باب: استئذان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ربه عز وجل فى زيارة قبر أمه، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-. (٥) صحيح: أخرجه مسلم (٢٠٣) فى الإيمان، باب: بيان أن من مات على الكفر فهو فى النار، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. وفيه: أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو فى النار، وليس فى هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء. وقال الإمام فخر الدين: من مات مشركا فهو فى النار، وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من اللّه به، ولم يزل معلوما من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم، قبح الشرك والوعيد عليه فى النار، وأخبار عقوبات اللّه لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فللّه الحجة البالغة على المشركين، فى كل وقت وحين، ولو لم يكن إلا ما فطر اللّه عباده عليه من توحيد ربوبيته، وأنه يستحيل فى كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد فى الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك مستحق للعذاب فى النار لمخالفته دعوة الرسل، وهو مخلد فيها دائما كخلود أهل الجنة فى الجنة. انتهى. وقد تعقب العلامة أبو عبد اللّه الأبى من المالكية فيما وضعه على صحيح مسلم قول النووى الماضى وفيه (أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فى النار، إلى آخره)بما معناه: تأمل ما فى كلامه من التنافى، فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة، لأن أهل الفترة هم: الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثانى، كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى ولا لحقوا النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين، كالفترة بين نوح وهود، لكن الفقهاء إذا تكلموا فى الفترة فإنهم يعنون التى بين عيسى ونبينا- عليهما الصلاة والسلام-. وذكر البخارى عن سلمان أنها كانت ستمائة سنة. ولما دلت القواطع على ألاتعذيب حتى تقوم الحجة أى قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١) ، علمنا أنهم غير معذبين، فإن قلت قد صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة، كحديث (رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه فى النار) (٢) و (رأيت صاحب المحجن فى النار، وهو الذى يسرق الحاج بمحجنه، فإذا بصر به، قال: إنما تعلق بمحجنى) (٣) . أجيب بأجوبة: * أحدها: أنها أخبار آحاد فلا تعارض القطع. * الثانى: قصر التعذيب على هؤلاء، واللّه أعلم بالسبب. * الثالث: قصر التعذيب المذكور فى هذه الأحاديث على من بدل وغير من أهل الفترة، بما لا يعذر به من الضلال كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع. فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام: * الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته، ثم من هؤلاء من لم يدخل فى شريعة، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل. ومنهم من دخل فى شريعة حق قائمة الرسم، كتبع (٤) وقومه من حمير وأهل نجران، وورقة بن نوفل، وعمه عثمان بن الحويرث. * القسم الثانى من أهل الفترة: وهم من بدل وغير، فأشرك ولم يوحد، وشرع لنفسه فحلل وحرم، وهم الأكثر، كعمرو بن لحى، أول من سن للعرب عبادة الأصنام وشرع الأحكام، فبحر البحيرة، وسيب السائبة، __________ (١) سورة الإسراء: ١٥. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٥٢١) فى المناقب، باب: قصة خزاعة، ومسلم (٢٨٥٦) فى الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٩٠٤) فى الكسوف، باب: ما عرض على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، من حديث جابر- رضى اللّه عنه-. (٤) هو: تبع بن حسان بن تبان، قيل: اسمه مرثد، وهو أحد ملوك حمير فى اليمن. ووصل الوصيلة وحمى الحام (١) ، وتبعته العرب فى ذلك وغيره مما يطول ذكره. * القسم الثالث من أهل الفترة: وهم من لم يشرك ولم يوحد، ولا دخل فى شريعة نبى، ولا ابتكر لنفسه شريعة، ولا اخترع دينا، بل بقى عمره على حين غفلة من هذا كله. وفى الجاهلية من كان على ذلك. __________ (١) البحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة، وفى الصحيح عن سعيد بن المسيب: البحيرة هى التى يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس، وأما السائبة: فهى التى كانوا يسيبونها لآلهتهم. وقيل: البحيرة لغة: هى الناقة المشقوقة الأذن، يقال: بحرت أذن الناقة، أى شققتها شقّا واسعا، وكان البحر علامة التخلية. قال ابن سيده: يقال البحيرة: هى التى خليت بلا راع، وقال ابن إسحاق: البحيرة، هى ابنة السائبة، والسائبة هى الناقة إذا تابعت بين عشر إناث وليس بينهن ذكر، لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، وخلى سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهى البحيرة ابنة السائبة. وقال الشافعى: إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت. وقال ابن عزيز: البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامسأنثى بحروا أذنها أى شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها، وقاله عكرمة، فإذا ماتت حلت للنساء. والسائبة: البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه من مرض، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تحبس عن رعى ولا ماء، ولا يركبها أحد، وقيل السائبة، هى المحلاة التى لا قيد عليها، ولا راعى لها، فاعل بمعنى مفعول. وأما الوصيلة والحام. قال مالك: كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها، فأما الحام فمن الإبل، كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه، وأما الوصيلة فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها. وقال ابن عزيز: الوصيلة فى الغنم، قال: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت فى الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها، وكان لحمها حراما على النساء، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منها شىء فيأكله الرجال والنساء، والحامى: الفحل إذا ركب ولد ولده، وي قال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء. وقال ابن إسحاق: الوصيلة الشاة إذا أتمت عشر إناث متتابعات فى خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلا أن يموت شىء منها فيشترك فى أكله ذكورهم وإناثهم. وإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة أقسام، فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثانى لكفرهم بما تعدوا به من الخبائث، واللّه سبحانه وتعالى قد سمى جميع هذا القسم كفارا ومشركين، فإنا نجد القرآن كلما حكى حال أحد سجل عليهم بالكفر والشرك، كقوله تعالى: ما جَعَلَ اللّه مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ثم قال: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية (١) . والقسم الثالث هم أهل الفترة حقيقة، وهم غير معذبين. وأما أهل القسم الأول: كقس وزيد بن عمرو، فقد قال- عليه السّلام- فى كل منهما (أنه يبعث أمة وحده) (٢) . وأما عثمان بن الحويرث، وتبّع وقومه وأهل نجران، فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه، ما لم يلحق أحد منهم الإسلام الناسخ لكل دين. انتهى ملخصا وسيأتى ما قيل فى ورقة فى حديث المبعث- إن شاء اللّه تعالى-. فهذا ما تيسر فى مسألة والديه- صلى اللّه عليه وسلم-، وقد كان الأولى ترك ذلك، وإنما جرّنا إليه ما وقع من المباحثة فيه بين علماء العصر. ولقد أحسن الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقى حيث قال: حبا اللّه النبى مزيد فضل ... على فضل وكان به رؤوفا فأحيا أمه وكذا أباه ... لإيمان به فضلا لطيفا فسلم فالقديم (٣) بذا قدير ... وإن كان الحديث به .....ا (٤) __________ (١) سورة المائدة: ١٠٣. (٢) قلت: ورد فى زيد بن عمرو أحاديث منها ما أخرجه النسائى فى (الكبرى) (٨١٨٧) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢٤/ ٨٢) ، من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى اللّه عنهما. (٣) من الأخطاء الشائعة إطلاق اسم القديم على اللّه عز وجل، والأولى إطلاق اسم (الأول) كما ورد فى الكتاب والسنة، واللّه عز وجل أعلم بنفسه من غيره، فهو الذى سمى نفسه الأول وأوحى إلى رسوله بذلك، ولكن من الذى سماه بالقديم؟! وأيهما أولى بالاعتبار. (٤) قلت: لو ثبت ذلك لكان على العين والرأس، ولكن الأحاديث بذلك .....ة، كما صرح هو بنفسه، فما بالك والأحاديث الصحيحة بخلاف ذلك، ولكن على العموم أدبا مع الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- لا نذكر حكمهما إلا عند الضرورة، من باب بيان الحق لا غير، لا شماتة والعياذ باللّه. فالحذر الحذر، من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذى النبى صلى اللّه عليه وسلم-، فإن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه، أو وصف بوصف به، وذلك الوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة. وقد قال- عليه السّلام-: (لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات) (١) رواه الطبرانى فى الصغير، ولا ريب أن أذاه- عليه السّلام- كفر يقتل فاعله- إن لم يتب- عندنا. وستأتى مباحث ذلك- إن شاء اللّه تعالى- فى الخصائص من مقصد المعجزات. وقد أطنب بعض العلماء فى الاستدلال لإيمانهما، فاللّه تعالى يثيبه على قصده الجميل. قال الحافظ ابن حجر فى بعض كتبه: والظن باله- يعنى الذين ماتوا قبل البعثة- أنهم يطيعون عند الامتحان إكراما له- صلى اللّه عليه وسلم- لتقر عينه. وقال فى الأحكام: ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب الجنة فى جملة من يدخلها طائعا فينجو، إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن. __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (١٩٨٢) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى الشتم، وأحمد فى (مسنده) (٤/ ٢٥٢) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٣٠٢٢) ، من حديث المغيرة بن شعبة رضى اللّه عنه-. [ذكر حضانته صلى اللّه عليه وسلم]وقد كانت أم أيمن، بركة، دايته وحاضنته بعد موت أمه، وكان عليه السّلام- يقول لها: أنت أمى بعد أمى. ومات جده عبد المطلب كافله، وله ثمان سنين- وقيل ثمان سنين وشهر وعشرة أيام، وقيل تسع، وقيل عشر، وقيل ست، وقيل ثلاث وفيه نظر- وله عشر ومائة سنة، وقيل مائة وأربعون سنة. وكفله أبو طالب، واسمه عبد مناف، وكان عبد المطلب قد أوصاه بذلك لكونه شقيق عبد اللّه. وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة وهم فى قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادى وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب، ومعه غلام كأنه شمس دجن) ، تجلت عنه سحابة قتماء (٢) ، حوله أغيلمة فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه، وما فى السماء قزعة (٣) ، فأقبل السحاب من هاهنا وها هنا، وأغدق واغدودق، وانفجر الوادى، وأخصب النادى والبادى. وفى ذلك يقول أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده فى نعمة وفواضل والثمال- بكسر المثلاثة-: الملجأ والغياث، وقيل: المطعم فى الشدة. __________ (١) شمس دجن: يقصد شمس يوم دجن، والدجن: إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء، أى يقصد شمس غير شديدة الحرارة لحجب السماء لحرارتها. (٢) القتماء: أى غبراء، والقتمة، لون فيه غبرة وحمرة، والأقتم: الذى تعلوه القتمة. (٣) القزعة: أى قطعة سحاب. وعصمة للأرامل: أى يمنعهم من الضياع والحاجة. والأرامل: المساكين من رجال ونساء، ويقال لكل واحد من الفريقين على انفراده: أرامل، وهو بالنساء أخص، وأكثر استعمالا، والواحد أرمل وأرملة. وهذا البيت من أبيات فى قصيدة لأبى طالب، ذكرها ابن إسحاق بطولها، وهى أكثر من ثمانين بيتا. قالها لما تمالأت قريش على النبى صلى اللّه عليه وسلم-، ونفروا عنه من يريد الإسلام، وأولها: لما رأيت القوم لا ود عندهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد جاهرونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل أعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا فى أمركم كل واغل فقد خفت إن لم يصلح اللّه أمركم ... تكونوا كما كانت أحاديث وائل أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق لبر فى حراء ونازل وبالبيت حق البيت فى بطن مكة ... وتاللّه إن اللّه ليس بغافل كذبتم وبيت اللّه نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ومعنى نناضل: نجادل ونخاصم وندافع. ونبزى: - بضم النون وسكون الموحدة آخره زاى- أى نقهر ونغلب عليه. قال ابن التين: إن فى شعر أبى طالب هذا دليلا على أنه كان يعرف نبوة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قبل أن يبعث، لما أخبره به بحيرى وغيره من شأنه. وتعقبه الحافظ أبو الفضل بن حجر: بأن ابن إسحاق ذكر أن إنشاء أبى طالب لهذا الشعر كان بعد البعثة، ومعرفة أبى طالب بنبوته- عليه السّلام- جاءت فى كثير من الأخبار وتمسك بها الشيعة فى أنه كان مسلما. قال: ورأيت لعلى بن حمزة البصرى جزآ جمع فى شعر أبى طالب، وزعم أنه كان مسلما، وأنه مات على الإسلام، وأن الحشوية (١) تزعم أنه مات كافرا، واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه. انتهى(٢) . ولما بلغ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- اثنتى عشرة سنة خرج مع عمه أبى طالب إلى الشام، حتى بلغ بصرى، فرآه بحيرى الراهب، واسمه جرجيس، فعرفه بصفته فقال، وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه رحمة للعالمين. فقيل له: وما علمك بذلك؟ ف قال: إنكم حين أشرفتم به من العقبة، لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجد إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة، فى أسفل من غضروف كتفه، مثل التفاحة، وإنا نجده فى كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده خوفا عليه من اليهود. والحديث رواه ابن أبى شيبة، وفيه: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أقبل وعليه غمامة تظله. و (بحيرى) - بفتح الموحدة وكسر المهملة وسكون المثناة التحتية آخره راء مقصورة- قال الذهبى- فى تجريد الصحابة-: رأى رسول- صلى اللّه عليه وسلم- قبل البعثة وآمن به، وذكره ابن منده، وأبو نعيم فى الصحابة. وهذا ينبنى على تعريفهم الصحابى: بمن رآه- صلى اللّه عليه وسلم-، هل المراد حال النبوة، أو أعم من ذلك حتى يدخل من رآه قبل النبوة ومات قبلها على دين الحنيفية. وهو محل نظر، وسيأتى البحث فيه- إن شاء اللّه- فى المقصد السابع. وخرج الترمذى وحسنه، - والحاكم وصححه- أن فى هذه السفرة أقبل __________ (١) الحشوية: هو المتبعون لظاهر النصوص، وقيل: سموا بذلك لقول الحسن البصرى لما رأى سقوط كلامهم وكانوا يجلسون فى حلقته، ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة، أى جانبها، إلا أنها غالبا ما تطلق عند أهل البدع على أهل السنة والجماعة، نظرا لأنهم لا يصرفون الأدلة عن ظاهرها لتأويلات .....ة غير سائغة، فلما رأى مخالفوهم تمسكهم بالسنة وعدم إعراضهم عنها إلى أهوائهم أطلقوا عليهم هذا الاسم. (٢) قلت: الثابت فى الصحيح أنه مات على ملة عبد المطلب، حيث إنه قد أخذته الحمية لقومه أن يتبع دين محمد- صلى اللّه عليه وسلم-، فيعير بذلك!. سبعة من الروم يقصدون قتله- عليه السّلام-، فاستقبلهم بحيرى، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: إن هذا النبى خارج فى هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليها بأناس، فقال: أفرأيتم أمرا أراد اللّه أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا قال: فبايعوه وأقاموا معه، ورده أبو طالب. وبعث معه أبو بكر بلالا (١) . قال البيهقى: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازى. انتهى. وضعف الذهبى الحديث لقوله فى آخره: (وبعث معه أبو بكر بلالا) فإن أبا بكر إذ ذاك لم يكن متأهلا، ولا اشترى بلالا. قال الحافظ ابن حجر فى الإصابة: الحديث رجاله ثقات، وليس فيه ....... سوى هذه اللفظة، فتحمل على أنها مدرجة فيه مقتطعة من حديث آخر وهما من أحد رواته. وفى حديث عند البيهقى وأبى نعيم: أن بحيرى رآه- وهو فى صومعته- فى الركب حين أقبلوا، وغمامة بيضاء تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى استظل تحتها الحديث. وفيه: أن بحيرى قام فاحتضنه وأنه جعل يسأله عن أشياء حاله: من نومه وهيئته وأموره. ويخبره رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ورأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده. وتقدم أن أخته الشيماء بنت حليمة رأته فى الظهيرة، وغمامة تظله، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، رواه أبو نعيم وابن عساكر. وللّه در القائل: إن قال يوما ظللته غمامة ... هى فى الحقيقة تحت ظل القائل ونقل الشيخ بدر الدين الزركشى عن بعض أهل المعرفة: أنه- صلى اللّه عليه وسلم- __________ (١) صحيح لكن ذكر بلال فيه .......: أخرجه الترمذى (٣٦٢٠) فى المناقب، باب: ما جاء فى بدء نبوة النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، والحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٦٧٢) ، من حديث أبى موسى رضى اللّه عنه-، وقد تقدم. كان معتدل الحرارة والبرودة، فلا يحس بالحر ولا بالبرد، وأنه كان فى ظل غمامة من اعتداله. كذا نقل رحمه اللّه. وأخرج ابن منده، بسند ..... عن ابن عباس: أن أبا بكر الصديق رضى اللّه عنه- صحب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو ابن ثمان عشرة، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام فى تجارة، حتى نزل منزلا فيه سدرة، فقعد فى ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرى، يسأله عن شىء، فقال له: من الرجل الذى فى ظل الشجرة، فقال له: محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، قال: هذا واللّه نبى، ما استظل تحتها بعد عيسى- عليه السّلام- إلا محمد. ووقع فى قلب أبى بكر التصديق، فلما بعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم- اتبعه. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر فى الإصابة: إن صحت هذه القصة فهى سفرة أخرى بعد سفرة أبى طالب. انتهى. ثم خرج- صلى اللّه عليه وسلم- أيضا ومعه ميسرة غلام خديجة ابنة خويلد بن أسد، فى تجارة لها حتى بلغ سوق بصرى، وقيل سوق حباشة بتهامة، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، لأربع عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة، فنزل تحت ظل شجرة، فقال نسطورا الراهب: ما نزل تحت ظل هذه الشجرة إلا نبى، وفى رواية بعد عيسى. وكان ميسرة يرى فى الهاجرة ملكين يظلانه من الشمس، ولما رجعوا إلى مكة فى ساعة الظهيرة، وخديجة فى علية لها، فرأت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو على بعيره وملكان يظلان عليه. رواه أبو نعيم. وتزوج- صلى اللّه عليه وسلم- خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوما وقيل: كان سنه إحدى وعشرين سنة، وقيل ثلاثين- وكانت تدعى فى الجاهلية بالطاهرة، وكانت تحت أبى هالة بن زرارة التميمى فولدت له هندا وهالة، وهما ذكران، ثم تزوجها عتيق بن عابد المخزومى فولدت له هندا. وكان لها- حين تزويجها بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- من العمر أربعون سنة وبعض أخرى. وكانت عرضت نفسها عليه، فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه. فتزوجها- عليه السّلام-، وأصدقها عشرين بكرة (١) ، وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال: الحمد للّه الذى جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخى هذا، محمد بن عبد اللّه، لا يوزن برجل إلا رجح به، فإن كان فى المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد ممن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالى كذا، وهو- واللّه- بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل، فزوجها. والضئضىء: الأصل. وحضنة بيته: أى الكافلين له والقائمين بخدمته. وسواس حرمه: أى: متولى أمره. قال: ابن إسحاق: وزوجه إياها خويلد. وقد ذكر الدولابى وغيره: أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أصدق خديجة اثنتى عشرة أوقية ذهبا ونشا. قالوا: وكل أوقية أربعون درهما. والنش: نصف أوقية. ولما بلغ خمسا وثلاثين سنة، خافت قريش أن تنهدم الكعبة من السيول، فأمروا باقوم- بموحدة فألف فقاف مضمومة فواو ساكنة فميم- النجار النبطى مولى سعيد بن العاصى، وصانع المنبر الشريف، بأن يا بنى الكعبة المعظمة. وحضر- صلى اللّه عليه وسلم- وكان ينقل معهم الحجارة، وكانوا يضعون أزرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل ذلك- صلى اللّه عليه وسلم- فلبط به- بالموحدة، كعنى أى سقط من قيامه كما فى القاموس- ونودى: عورتك، فكان ذلك أول ما نودى. فقال له أبو طالب أو العباس: يابن أخى اجعل إزارك على رأسك، ف قال: ما أصابنى إلا من التعرى. __________ (١) انظر القصة فى (السيرة) لابن هشام (١/ ٢٠١) ، والبكرة: الفتية من الإبل. [دقائق حقائق بعثته صلى اللّه عليه وسلم]ولما بلغ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أربعين سنة وقيل: وأربعين يوما، وقيل: وعشرة أيام وقيل: وشهرين، يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وقيل: لسبع، وقيل: لأربع وعشرين ليلة-. وقال ابن عبد البر: يوم الاثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من الفيل. وقيل: فى أول ربيع: بعثه اللّه رحمة للعالمين، ورسولا إلى كافة الثقلين أجمعين. ويشهد لبعثه يوم الاثنين ما رواه مسلم عن أبى قتادة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- سئل عن صوم الاثنين ف قال: (فيه ولدت وفيه أنزل على) (١) . وقال ابن القيم فى (الهدى النبوى) : واحتج القائلون بأنه كان فى رمضان بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (٢) قالوا: أول ما أكرمه اللّه بنبوته أنزل عليه القرآن. وقال الآخرون: إنما نزل القرآن جملة واحدة فى ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم نزل نجوما بحسب الوقائع فى ثلاث وعشرين سنة. وقيل: كان ابتداء المبعث فى رجب. وروى البخارى فى (التعبير) من حديث عائشة: (أول ما بدىء به رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (٣) وكان يأتى حراء (٤) فيتحنث (٥) فيه- وهو __________ (١) صحيح: وقد تقدم. (٢) سورة البقرة: ١٨٥. (٣) فلق الصبح: أى ضياؤه، وإنما يقال هذا فى الشىء الواضح البين. (٤) حراء: اسم جبل به غار، بينه وبين مكة ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى. (٥) التحنث: فسره بالتعبد، وهو تفسير صحيح، وأصل الحنث: الإثم، فمعنى يتحنث، أى يجتنب الحنث، فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث وهو الإثم، أى يتجنب الحرج والإثم. التعبد- الليالى ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجأه الحق وهو فى غار حراء. فجاءه الملك فيه، ف قال: اقرأ، (فقلت ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد (١) ، ثم أرسلنى (٢) ) ، فقال: اقرأ، (فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى) ، فقال: اقرأ، (فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى) فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى- بلغ- ما لَمْ يَعْلَمْ (٣) (٤) . فرجع بها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يرجف فؤاده (٥) ، حتى دخل على خديجة، فقال: (زملونى زملونى) (٦) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: (يا خديجة، ما لى؟) وأخبرها الخبر، ثم قال: (قد خشيت على نفسى) . فقالت له: كلا أبشر، فو اللّه لا يخزيك (٧) اللّه أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل (٨) ، وتقرى الضيف (٩) ، وتعين على نوائب الحق (١٠) . __________ (١) غطنى: أى ضمنى وعصرنى، أما الجهد: فيجوز فيها فتح الجيم وضمها، وهو الغاية والمشقة، ويجوز نصب الدال ورفعها، فعلى النصب: بلغ جبريل منى الجهد، وعلى الرفع: بلغ الجهد منى مبلغه وغايته. (٢) أرسلنى: أى أطلقنى. (٣) سورة العلق: ١- ٥. (٤) قلت: فى هذا الحديث دلالة صريحة على أن أول ما نزل من القرآن: اقرأ، خلافا لمن يقول بغير ذلك كسورة الفاتحة مثلا. (٥) يرجف فؤاده: أى يرتعد ويضطرب. (٦) زملونى: أى غطونى بالثياب ولفونى بها. (٧) الخزى: هو الفضيحة والهوان. (٨) الكلّ: أصل الكل الثقل، ومنه قوله تعالى: وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، ويدخل فى حمل الكل، الإنفاق على ال..... واليتيم والعيال، وغير ذلك، وهو من الكلال، وهو الإعياء. (٩) تقرى الضيف: أى تطعم الضيف، حيث يقال للطعام الذى يضيف به قرى، ويقال لفاعله: قار. (١٠) النوائب: جمع نائبة، وهى الحادثة، وإنما قالت: نوائب الحق، لأن النائبة قد تكون فى الخير، وقد تكون فى الشر. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى، وهو ابن عم خديجة أخى أبيها- وكان امرأ تنصر (١) فى الجاهلية (٢) ، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء اللّه أن يكتب- وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: أى ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ماذا ترى؟ فأخبره النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (٣) الذى أنزل على موسى، يا ليتنى فيها جذعا (٤) ، ليتنى أكون حيّا حين يخرجك قومك. فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: أو مخرجى هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب (٥) ورقة أن توفى، وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلى اللّه عليه وسلم- فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رؤس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول اللّه حقّا، فيسكن لذلك جأشه (٦) ، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك) (٧). * وقد تكلم العلماء فى معنى قوله- صلى اللّه عليه وسلم- لخديجة: __________ (١) تنصر: أى صار نصرانيّا. (٢) الجاهلية: معناها هنا: الفترة الزمنية التى كانت قبل بعثته- صلى اللّه عليه وسلم-. (٣) الناموس: هو جبريل- عليه السّلام-، وقال أهل اللغة وغريب الحديث: الناموس فى اللغة: صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب الشر، وي قال: نمست السر، إذا كتمته. (٤) أى: شابّا قويّا، حتى أبالغ فى نصرك، وأصل الجذع فى الدواب. (٥) أى: لم يلبث بعده فترة طويلة، بل فترة قليلة. (٦) جأشه: أى قلبه. (٧) صحيح: أخرجه البخارى (٦٩٨٢) فى التعبير، باب: أول ما بدئ به رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصالحة، ومسلم (١٦٠) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-. (قد خشيت على نفسى) فذهب الإسماعيلى (١) إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضرورى بأن الذى جاءه ملك من عند اللّه. وكان أشق شىء عليه أن يقال عليه مجنون. وقيل: إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه، ولا غرو، فإنه بشر يخشى من القتل والأذية، كما يخشى البشر. * وقوله: (ما أنا بقارئ) أى: أنا أمى فلا أقرأ الكتب. * وقال القاضى عياض: إنما بيتدئ- صلى اللّه عليه وسلم- بالرؤيا، لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها قوى البشر، فبدىء بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة. انتهى. فإن قلت: فلم كرر قوله (ما أنا بقارئ) ثلاثا؟ أجاب أبو شامة (٢) كما فى فتح البارى: بأن يحمل قوله أولا (ما أنا بقارئ) على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفى المحض، وثالثا: على الاستفهام. * والحكمة من الغط ثلاثا، شغله عن الالتفات لشىء آخر، وإظهارا للشدة والجد فى الأمر، تنبيها على ثقل القول الذى سيلقى عليه. وقيل: إبعادا لظن التخيل والوسوسة، لأنهما ليسا من صفات الجسم، فلما وقع ذلك بجسمه علم أنه من أمر اللّه. * فإن قلت: من أين عرف- صلى اللّه عليه وسلم- أن جبريل ملك من عند اللّه، وليس من الجن؟ فالجواب من وجهين: __________ (١) هو: الحافظ الحجة، أبو بكر، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجرجانى الشافعى، صاحب (المستخرج على صحة البخارى) ، كما أن له تصانيف تشهد له بالإمامة فى الفقه والحديث، توفى سنة (٣٧١ هـ) . (٢) هو: أبو القاسم، شهاب الدين، عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسى الدمشقى، أحد الأعلام، مؤرخ باحث محدث، توفى سنة (٦٦٥ هـ) . أحدهما: أن اللّه تعالى أظهر على يدى جبريل- عليه السّلام- معجزات عرفه بها. كما أظهر اللّه تعالى على يد محمد- صلى اللّه عليه وسلم- معجزات عرفناه بها. وثانيهما: أن اللّه تعالى خلق فى محمد- صلى اللّه عليه وسلم- علما ضروريّا بأن جبريل من عند اللّه ملك لا جنى ولا شيطان، كما أن اللّه تعالى خلق فى جبريل علما ضروريّا بأن المتكلم معه هو اللّه تعالى، وأن المرسل له ربه تعالى لا غير. * وقول ورقة: يا ليتنى فيها جذعا. الضمير للنبوة، أى: ليتنى كنت شابّا عند ظهورها حتى أبالغ فى نصرتها وحمايتها. وأصل الجذع: من أسنان الدواب، وهو ما كان منها شابّا فتيّا. وأخرج البيهقى من طريق العلاء بن جارية الثقفى عن بعض أهل العلم أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حين أراد اللّه كرامته وابتداءه بالنبوة كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة. وهى تحييه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول اللّه الحديث (١) . وعن جابر: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جوارى هبطت، فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا، ونظرت خلفى فلم أر شيئا، فرفعت رأسى فرأيت شيئا فلم أثبت له، فأتيت خديجة فقلت: دثرونى دثرونى) وصبوا على ماء باردا فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) الآية، وذلك قبل أن تفرض الصلاة) (٤) رواه البخارى ومسلم والترمذى. ولم يكن جواره- صلى اللّه عليه وسلم- لطلب النبوة، لأنها أجل من أن تنال بالطلب __________ (١) سيأتى بتمامه فى موضعه. (٢) الدثار: الثوب فوق غيره من الثوب. (٣) سورة المدثر: ١- ٣. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٤٩٢٢) فى التفسير، باب: سورة المدثر، ومسلم (١٦١) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. أو الاكتساب، وإنما هى موهبة من اللّه، وخصوصية يخص بها من يشاء من عباده، واللّه أعلم حيث يجعل رسالته. ولم تكن الرجفة المذكورة خوفا من جبريل- عليه السّلام-، فإنه- صلى اللّه عليه وسلم- أجل من ذلك، وأثبت جنانا، وإنما رجف غبطة بحاله وإقباله على اللّه عز وجل، فخشى أن يشغل بغير اللّه عن اللّه. وقيل: خاف من ثقل أعباء النبوة. وفى رواية البيهقى فى الدلائل: أن خديجة قالت لأبى بكر: يا عتيق اذهب به إلى ورقة بن نوفل، فأخذه أبو بكر، فقص عليه ما رأى، فقال صلى اللّه عليه وسلم-: (إذا خلوت وحدى سمعت نداء: يا محمد، يا محمد، فأنطلق هاربا) .. فقال: لا تفعل إذا قال، فاثبت حتى تسمع، ثم ائتنى فأخبرنى، فلما خلا ناداه يا محمد فثبت فقال: قل بسم اللّه الرحمن الرحيم. الحمد للّه رب العالمين. إلى آخرها. ثم قال: قل لا إله إلا اللّه (١) . الحديث. واحتج به من قال بأولية نزول الفاتحة. والصحيح أن أول ما نزل عليه- صلى اللّه عليه وسلم- من القرآن (اقرأ) كما صح ذلك عن عائشة، وروى ذلك عن أبى موسى الأشعرى وعبيد بن عمير. قال النووى: وهو الصواب الذى عليه الجماهير من السلف والخلف. وأما ما روى عن جابر وغيره: أن أول ما نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (٢) . فقال النووى: .....، بل باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحى. وأما حديث البيهقى أنه الفاتحة- كقول بعض المفسرين- فقال البيهقى: هذا منقطع، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (٣) ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (٤) . وقال النووى- بعد ذكر هذا القول- بطلانه أظهر من أن يذكر. انتهى. __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٢/ ١٥٨) . (٢) سورة المدثر: ١. (٣) سورة العلق: ١. (٤) سورة المدثر: ١. وقد روى أن جبريل- عليه السّلام- أول ما نزل بالقرآن على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أمره بالاستعاذه، كما رواه الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال: (أول ما نزل جبريل على محمد- صلى اللّه عليه وسلم- قال: يا محمد، استعذ، قال: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم اللّه الرحمن الرحيم، ثم قال: اقرأ باسم ربك الذى خلق. قال عبد اللّه: وهى أول سورة أنزلها اللّه على محمد- صلى اللّه عليه وسلم-) (١) . قال الحافظ عماد الدين بن كثير، بعد أن ذكره: وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن فى إسناده ضعفا وانقطاعا، واللّه أعلم (٢) . وقد أورد ابن أبى جمرة سؤالا، وهو أنه: لم اختص- صلى اللّه عليه وسلم- بغار حراء، فكان يخلو فيه ويتحنث دون غيره من المواضع. وأجاب: بأن هذا الغار له فضل زائد على غيره: من جهة أنه منزو ومجموع لتحنثه وهو يبصر بيت ربه، والنظر إلى البيت عبادة، فكان له فيه اجتماع ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى البيت. وغيره ليس فيه هذه الثلاث. وللّه در المرجانى حيث قال فى فضائل حراء وما اختص به: تأمل حراء فى جمال محياه ... فكم من أناس من حلا حسنه تاهوا فمما حوى من جا لعلياه زائرا ... يفرج عنه الهم فى حال مرقاه به خلوة الهادى الشفيع محمد ... وفيه له غار له كان يرقاه وقبلته للقدس كانت بغاره ... وفيه أتاه الوحى فى حال مبداه وفيه تجلى الروح بالموقف الذى ... به اللّه فى وقت البداءة سواه وتحت تخوم الأرض فى السبع أصله ... ومن بعد هذا اهتز بالسفل أعلاه ولما تجلى اللّه قدس ذكره ... لطور تشظى فهو إحدى شظاياه ومنها ثبير ثم ثور بمكة ... كذا قد أتى فى نقل تاريخ مبداه وفى طيبة أيضا ثلاث فعدها ... فعيرا وورقانا وأحدا رويناه __________ (١) أخرجه ابن جرير فى (تفسيره) (١/ ٥١) . (٢) قاله ابن كثير فى (تفسيره) (١/ ٥١) . ويقبل فى ساعة الظهر من دعا ... به ينادى من دعانا أجبناه وفى أحد الأقوال فى عقبة حرا ... أتى ثم قابيل لهابيل غشاه ومما حوى سرّا حوته صخوره ... من التبر إكسيرا يقام سمعناه سمعت به تسبيحها غير مرة ... وأسمعته جمعا فقالوا سمعناه به مركز النور الإلهى مثبتا ... فللّه ما أحلى مقاما بأعلاه وروى أبو نعيم أن جبريل وميكائيل شقا صدره وغسلاه ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (١) . الآيات، الحديث، وفيه: فقال ورقة: أبشر، فأنا أشهد أنك الذى بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبى مرسل (٢) . وكذا روى شق صدره الشريف هنا أيضا الطيالسى والحارث فى مسنديهما. والحكمة فيه: ليتلقى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ما يوحى إليه بقلب قوى، فى أكمل الأحوال من التطهير. قال ابن القيم وغيره: وكمل اللّه تعالى له- عليه السّلام- من الوحى مراتب عديدة: * أحدها: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. * الثانية: ما كان يلقيه الملك فى روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إن روح القدس نفث فى روعى، لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا اللّه وأجملوا فى الطلب) (٣) الحديث رواه ابن أبى الدنيا فى القناعة، وصححه الحاكم. والروع- بضم الراء- أى نفسى، وروح القدس: جبريل- عليه السّلام-. __________ (١) سورة العلق: ١- ٥. (٢) أشار إلى ذلك الحافظ فى (الفتح) (٦/ ٥٦٢) وعزاه لأبى داود الطيالسى فى مسنده والحارث بن أبى أسامة والدلائل لأبى نعيم من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) صحيح: أخرجه أبو نعيم فى الحلية عن أبى أمامة، كما فى (صحيح الجامع) (٢٠٨٥) . * الثالثة: كان يتمثل له الملك رجلا، فيخاطبه حتى يعى عنه ما يقول له، فقد كان يأتيه فى صورة دحية الكلبى (١) . رواه النسائى بسند صحيح من حديث ابن عمر. قلت: وكان دحية جميلا وسيما، إذا قدم لتجارة خرجت الظعن لتراه. فإن قلت: إذا لقى جبريل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى صورة دحية، فأين تكون روحه؟ فإن كانت فى الجسد الذى له ستمائة جناح، فالذى أتى لا روح جبريل ولا جسده، وإن كانت فى هذا الذى هو فى صورة دحية فهل يموت الجسد العظيم أم يبقى خاليا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية. أجيب- كما ذكره العينى (٢) - بأنه لا يبعد ألايكون انتقالها موجب موته، فيبقى الجسد حيّا، لا ينقص من معارفه شىء ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثانى كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طير خضر، وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها اللّه تعالى فى بنى آدم، فلا تلزم فى غيرهم. انتهى. * الرابعة: كأن يأتيه فى مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد، حتى إن راحلته لتبرك به فى __________ (١) قلت: أخرجه بنحوه البخارى (٢) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٣٣٣) فى الفضائل، باب: عرق النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى البرد وحين يأتيه الوحى، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-، وبخصوص تشبيهه بصورة دحية الكلبى فقد ورد ذلك أثناء حديث أخرجه مسلم (١٦٧) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- إلى السماوات، من حديث جابر، ولم أقف على لفظ المصنف من النسائى كما ذكر. (٢) هو: أبو محمد، محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد، بدر الدين العينى، فقيه حافظ مؤرخ، توفى بالقاهرة سنة (٨٥٥ هـ) ، وكان من أقران الحافظ ابن حجر العالم المشهور، إلا أنه كان حنفى المذهب. الأرض، ولقد جاءه الوحى مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها (١) . قلت: وروى الطبرانى عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحى لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقا شديدا مثل الجمان، ثم سرى عنه. وكنت أكتب وهو يملى على، فما أفرغ حتى تكاد رجلى تكسر من ثقل الوحى، حتى أقول: لا أمشى على رجلى أبدا (٢) . ولما نزلت عليه سورة المائدة، كادت أن تنكسر عضد ناقته من ثقل السورة (٣) ، ورواه أحمد والبيهقى فى الشعب. * الخامسة: أن يرى الملك فى صورته التى خلق عليها له ستمائة جناح، فيوحى إليه ما شاء اللّه أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما فى سورة النجم. * السادسة: ما أوحاه اللّه إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها. * السابعة: كلام اللّه له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم اللّه موسى. قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهى تكليم اللّه له كفاحا من غير حجاب. انتهى. قال شيخ الإسلام الولى ابن العراقى: وكان ابن القيم أخذ ذلك من __________ (١) قلت: طرفه الأول هو حديث لفظ عائشة المتقدم قبل حديث، أما قصة نزوله وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فبرواية أخرى أخرجها النسائى (٦/ ٩) فى الجهاد، باب: فضل المجاهدين على القاعدين، بسند صحيح. (٢) أخرجه الطبرانى فى (الأوسط) (١٩٣٤) ، وفى (الكبير) (٥/ ١٤٢) . (٣) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٦/ ٤٥٥ و ٤٥٨) ، والطبرانى فى (الكبير) (٢٤/ ١٧٨) ، من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية، وفى إسناده شهر بن حوشب، وهو ..... سيئ الحفظ. روض السهيلى لكنه لم يذكر نزول إسرافيل إليه بكلمات من الوحى قبل جبريل. فقد ثبت فى الطرق الصحاح عن عامر الشعبى أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحى، والشىء، ثم وكل به جبريل فجاء بالقرآن (١) . وأما قوله- أعنى ابن القيم-: السادسة، ما أوحاه اللّه إليه فوق السماوات، يعنى ليلة المعراج، السابعة كلام اللّه بلا واسطة. فإن أراد ما أوحاه إليه جبريل فهو داخل فيما تقدم، لأنه إما أن يكونجبريل فى تلك الحالة على صورته الأصلية، أو على صورة الآدمى، وكلاهما قد تقدم ذكره، وإن أراد وحى اللّه بلا واسطة- وهو الظاهر- فهى الصورة التى بعدها. وأما قوله: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة: وهى تكليم اللّه له كفاحا من غير حجاب، فهذا على مذهب من يقول إنه- صلى اللّه عليه وسلم- رأى ربه تعالى، وهى مسألة خلاف يأتى الكلام عليها إن شاء اللّه تعالى. ويحتمل أن ابن القيم- رحمه اللّه تعالى- أراد بالمرتبة السادسة وحى جبريل، وغاير بينه وبين ما قبله باعتبار محل الإيحاء، أى كونه فوق السماوات، بخلاف ما تقدم، فإنه كان فى الأرض، ولا يقال، يلزم عليه أن تتعدد أقسام الوحى باعتبار البقعة التى جاء فيها جبريل إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو غير ممكن، لأنا نقول: الوحى الحاصل فى السماء باعتبار ما فى تلك المشاهد من الغيب نوع غير نوع الأرض على اختلاف بقاعها. انتهى. قلت: ويزاد أيضا: * كلامه تعالى له فى المنام، كما فى حديث الزهرى (أتانى ربى فى أحسن صورة ف قال: يا محمد أتدرى فيم يختصم الملأ الأعلى..) (٢) الحديث. __________ (١) قلت: عامر بن شراحيل الشعبى، من خيار التابعين، إلا أن حديثه مرسل. (٢) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٢٣٣ و ٣٢٣٤) فى التفسير، باب: ومن سورة ص، وأحمد فى (مسنده) (١/ ٣٦٨) ، وأبو يعلى فى (مسنده) (٢٦٠٨) ، من حديث ابن عباس رضى اللّه عنهما-، وليس للزهرى فيه ذكر. * ثم مرتبة أخرى، وهى العلم الذى يلقيه اللّه تعالى فى قلبه، وعلى لسانه عند الاجتهاد فى الأحكام، لأنه اتفق على أنه- صلى اللّه عليه وسلم- إذا اجتهد أصاب قطعا، وكان معصوما من الخطأ، وهذا خرق للعادة فى حقه دون سائر الأمة، وهو يفارق النفث فى الروع من حيث حصوله بالاجتهاد، والنفث بدونه. * ومرتبة أخرى: وهى مجىء جبريل فى صورة رجل غير دحية، لأن دحية كان معروفا عندهم، ذكره ابن المنير، وإن كانت داخلة فى المرتبة الثالثة التى ذكرها ابن القيم. وذكر الحليمى أن الوحى كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا، فذكرها، وغالبها- كما قال فى فتح البارى- من صفات حامل الوحى، ومجموعها يدخل فيما ذكر واللّه أعلم. وذكر ابن المنير أن الحال كان يختلف فى الوحى باختلاف مقتضاه، فإن نزل بوعد وبشارة نزل الملك بصورة الآدمى، وخاطبه من غير كدّ، وإن نزل بوعيد ونذارة كان حينئذ كصلصلة الجرس. انتهى. وقد ذكر ابن عادل، فى تفسيره: أن جبريل- عليه السّلام- نزل على النبى صلى اللّه عليه وسلم- أربعة وعشرين ألف مرة، ونزل على آدم اثنتى عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات. كذا قال- رحمه اللّه-. وقد روى: أن جبريل تبدى له- صلى اللّه عليه وسلم- فى أحسن صورة وأطيب رائحة ف قال: يا محمد إن اللّه يقرئك السلام ويقول لك: أنت رسولى إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا اللّه ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقامجبريل يصلى وأمره أن يصلى معه فعلمه الوضوء والصلاة ثم عرج إلى السماء ورجع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يمر بحجر ولا مدر ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول اللّه، حتى أتى خديجة فأخبرها فغشى عليها من الفرح ثم أمرها فتوضأت وصلى بها كما صلى به جبريل فكان ذلك أول فرضها ركعتين ثم إن اللّه أقرها فى السفر كذلك وأتمها فى الحضر (١) . وقال مقاتل: كانت الصلاة أول فرضها ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى، لقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٢) . قال فى فتح البارى: كان- صلى اللّه عليه وسلم- قبل الإسراء يصلى قطعا، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف: هل افترض قبل الخمس شىء من الصلاة أم لا؟
فقيل: إن الفرض كان صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها (٣) . انتهى (٤) . قال النووى: أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض اللّه من قيام الليل ما ذكره فى أول سورة المزمل، ثم نسخه بما فى آخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة، وأماما ذكره فى هذه الرواية من أن جبريل علمه الوضوء وأمره به فيدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء. ثم فتر الوحى فترة شق عليه وأحزنه. وفترة الوحى: عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب عنه ما كان يجده- عليه السّلام- من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود. وكانت مدة فترة الوحى ثلاث سنين، كما جزم به ابن إسحاق. وفى تاريخ الإمام أحمد، ويعقوب بن سفيان عن الشعبى: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشىء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة، وكذا رواه ابن سعد والبيهقى. __________ (١) طرفه الأخير صحيح أخرجه مسلم (٩٨٥) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (١) . (٢) سورة غافر: ٥٥. (٣) سورة طه: ١٣٠. (٤) قاله الحافظ فى (الفتح) (٨/ ٦٧١) . فقد تبين أن نبوته- صلى اللّه عليه وسلم- كانت متقدمة على إرساله، كما قال أبو عمر وغيره، وكما حكاه أبو أمامة بن النقاش. فكان فى نزول سورة (اقرأ) نبوته، وفى نزول سورة المدثر إرساله بالنذارة والبشارة والتشريع، وهذا قطعا متأخر عن الأول، لأنه لما كانت سورة (اقرأ) متضمنة لذكر أطوار الآدمى: من الخلق والتعليم والإفهام، ناسب أن تكون أول سورة أنزلت، وهذا هو الترتيب الطبيعى، وهو أن يذكر سبحانه وتعالى ما أسداه إلى نبيه- عليه السّلام- من العلم والفهم والحكمة والنبوة، ويمن عليه بذلك فى معرض تعريف عباده بما أسداه إليهم من نعمة البيان الفهمى والنطقى والخطى، ثم يأمره سبحانه وتعالى بأن يقوم فينذر عباده. وكان أول من آمن باللّه وصدق صديقة النساء خديجة، فقامت بأعباء الصديقية. قال لها- صلى اللّه عليه وسلم-: خشيت على نفسى، فقالت: أبشر فو اللّه لا يخزيك اللّه أبدا، ثم استدلت بما فيه من الصفات والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبدا. وكان أول ذكر آمن من بعدها صديق الأمة، وأسبقها إلى الإسلام أبو بكر، فازره فى اللّه. وعن ابن عباس أنه أول الناس إسلاما، واستشهد له بقول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجوى من أخى ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبى وأوفاها بما حملا والثانى التالى المحمود مشهده ... وأول الناس قدما صدق الرسلا رواه أبو عمر. وممن وافق ابن عباس وحسانا على أن الصديق أول الناس إسلاما، أسماء بنت أبى بكر، والنخعى وابن الماجشون ومحمد بن المنكدر والأخنس. وقيل: إن على بن أبى طالب أسلم بعد خديجة، وكان فى حجر النبى - صلى اللّه عليه وسلم-. فعلى هذا يكون أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ويكون على أول صبى أسلم، لأنه كان صبيّا لم يدرك، ولذا قال: سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيرا ما بلغت أوان حلمى وكان سن على إذ ذاك عشر سنين، فيما حكاه الطبرى. وقال ابن عبد البر: وممن ذهب إلى أن عليّا أول من أسلم من الرجال: سلمان وأبو ذر والمقداد وخباب وجابر وأبو سعيد الخدرى، وزيد بن الأرقم، وهو قول ابن شهاب وقتادة وغيرهم. قال: واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقا. وقيل: أول رجل أسلم، ورقة بن نوفل. ومن يمنع، يدعى أنه أدرك نبوته- عليه السّلام- لا رسالته. لكن جاء فى السير، وهو فى رواية أبى نعيم المتقدمة أنه قال: أبشر، فأنا أشهد أنك الذى بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبى مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد، وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك. فهذا صريح بتصديقه برسالة محمد-صلى اللّه عليه وسلم-. قال البلقينى: بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال. وبه قال العراقى فى نكته على ابن الصلاح وذكره ابن منده فى الصحابة. وحكى العراقى: كون على أول من أسلم عن أكثر العلماء، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه. وادعى الثعلبى اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فى أول من أسلم بعدها. قال ابن الصلاح: والأورع أن ي قال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر. ومن الصبيان أو الأحداث على. ومن النساء خديجة. ومن الموالى زيد. ومن العبيد بلال. واللّه أعلم، انتهى. وقال الطبرى: الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها في قال: أول من أسلم مطلقا خديجة. وأول من أسلم على بن أبى طالب، وهو صبى لم يبلغ، وكان مستخفيا بإسلامه وأول رجل عربى بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبى قحافة. وأول من أسلم من الموالى زيد. قال: وهذا متفق عليه لا خلاف فيه، وعليه يحمل قول من قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، أى الرجال البالغين الأحرار، ويؤيد هذا ما روى عن الحسن أن على بن أبى طالب قال: إن أبا بكر سبقنى إلى أربع لم أوتهن: سبقنى إلى إفشاء الإسلام، وقدم الهجرة، ومصاحبته فى الغار، وإقام الصلاة، وأنا يومئذ بالشعب يظهر إسلامه وأخفيه. الحديث، خرجه صاحب فضائل أبى بكر وخيثمة بمعناه. وأما ما روى: من صحبة الصديق للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو ابن ثمانى عشرة سنة، وهم يريدون الشام فى تجارة، وحديث بحيرى، وأنه وقع فى قلب أبى بكر اليقين، وقول ميمون بن مهران: واللّه لقد آمن أبو بكر بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- زمن بحيرى، فالمراد بهذا الإيمان اليقين بصدقه، وهو ما وقر فى قلبه، وإلا فالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- تزوج خديجة وسافر إلى الشام قبل المبعث. ثم أسلم بعد زيد بن حارثة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد اللّه، بدعاء أبى بكر الصديق، فجاء بهم إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا. ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد اللّه بن الجراح، وأبو سلمة عبد اللّه بن عبد الأسد بعد تسعة أنفس. والأرقم بن أبى الأرقم المخزومى، وعثمان بن مظعون الجمحى. وأخواه: قدامة وعبد اللّه، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وامرأته فاطمة بنت الخطاب. وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوج العباس، وأسماء بنت أبى بكر، وعائشة أختها. كذا قاله ابن إسحاق وغيره. وهو وهم، لأن عائشة لم تكن ولدت بعد فكيف أسلمت. وكان مولدها سنة أربع من النبوة، قاله مغلطاى وغيره. ودخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء. [فصل فى ترتيب الدعوة النبوية]ثم إن اللّه تعالى أمر رسوله- صلى اللّه عليه وسلم- بأن يصدع بما جاء به، أى يواجه المشركين به. وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن فى الصلاة. وقال أبو عبيدة بن عبد اللّه بن مسعود: ما زال النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مستخفيا حتى نزلت فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ (١) . فجهر هو وأصحابه. وقال البيضاوى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ (٢) من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو فرق به بين الحق والباطل. وأصله: الإبانة والتمييز. و (ما) مصدرية أو موصولة، و (الراجع) محذوف، أى بما تؤمر به من الشرائع انتهى. قالوا: وكان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة، وهى المدة التى أخفى فيها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أمره إلى اللّه تعالى بإظهاره. فبادى قومه بالإسلام وصدع به كما أمره اللّه تعالى. ولم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها، وكان ذلك سنة أربع كما قاله العتقى. فأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم اللّه منهم بالإسلام. وحدب عليه (٣) عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه. __________ (١) سورة الحجر: ٩٤. (٢) سورة الحجر: ٩٤. (٣) حدب عليه: أى تعطف عليه، وأصل الحدب: خروج الظهر ودخول الظهر والبطن. فاشتد الأمر، وتضارب القوم، وأظهر بعضهم لبعض العداوة، وتذامرت قريش على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم. ومنع رسول اللّه بعمه أبى طالب وبنى هاشم- غير أبى لهب- وبنى المطلب. وقال مقاتل: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عند أبى طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبى طالب يريدون بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- سوآ، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم. وقال: واللّه لن يصلوا إليك يجمعهم ... حتى أوسد فى التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقر بذاك منك عيونا ودعوتنى وزعمت أنك ناصحى ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينا لا محالة إنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذارى سبة ... لوجدتنى سمحا بذاك مبينا وقد كفى اللّه تعالى نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- المستهزئين. كما قال تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١) أى لا تلتفت إلى ما يقولون: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٢) . يعنى بقمعهم وإهلاكهم. وقد قيل: إنهم كانوا خمسة من أشراف قريش: الوليد بن المغيرة. والعاصى بن وائل. والحارث بن قيس. والأسود بن عبد يغوث. والأسود بن المطلب. __________ (١) سورة الحجر: ٩٤. (٢) سورة الحجر: ٩٥. وكانوا يبالغون فى إذائه- صلى اللّه عليه وسلم- والاستهزاء به. فقال جبريل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-: أمرت أن أكفيكهم. فأومأ إلى ساق الوليد، فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظيما لأخذه، فأصاب عرقا فى عقبه فمات، وأومأ إلى أخمص العاصى فدخلت فيها شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى فمات، وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد فى أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات، وإلى عينى الأسود بن عبد المطلب فعمى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يطوف على الناس فى منازلهم يقول: (يا أيها الناس، إن اللّه يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا) ، وأبو لهب وراءه يقول: يا أيها الناس: إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم (١) . ورماه الوليد بن المغيرة بالسحر، وتبعه قومه على ذلك. وآذته قريش ورموه بالشعر والكهانة والجنون. ومنهم من كان يحثو التراب على رأسه، ويجعل الدم على بابه. ووطىء عقبه بن أبى معيط على رقبته الشريفة وهو ساجد عند الكعبة حتى كادت عيناه تبرزان. وخنقوه خنقا شديدا، فقام أبو بكر دونه، فجذبوا رأسه ولحيته- صلى اللّه عليه وسلم- حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربى اللّه. وقال ابن عمرو- كما فى البخارى-: بينا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فلف ثوبه فى عنقه فخنقه خنقا شديدا، فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. وفى رواية ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّه (٢) (٣) . __________ (١) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٣/ ٤٩٢، ٤/ ٣٤١) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٦١) ، والطبرانى فى (الأوسط) (١٥١٠) ، وفى (الكبير) (٥/ ٦١ و ٦٢) ، من حديث عباد الديلى رضى اللّه عنه-. (٢) سورة غافر: ٢٨. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٨٥٦) فى المناقب، باب: ما لقى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه من المشركين بمكة. وقد ذكر العلماء، أن أبا بكر- رضى اللّه عنه- أفضل من مؤمن آل فرعون، لأن ذاك اقتصر حيث انتصر على اللسان، وأما أبو بكر فأتبع اللسان يدا، ونصر بالقول والفعل محمدا- صلى اللّه عليه وسلم-. وأخرج مسلم من حديث أبى هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر (١) محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب، فأتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يصلى ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص) على عقبيه، ويتقى بيديه، فقيل له: ما لك؟ قال: إن بينى وبينه خندقا من نار، وهولا وأجنحة، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، وأنزل اللّه إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٣) إلى آخر السورة (٤). ولما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (٥) جاءت امرأة أبى لهب، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، لو تنحيت عنها فإنها امرأة بذية، قال: (سيحال بينى وبينها) فقالت: يا أبا بكر، هجانا صاحبك، قال: واللّه ما ينطق بالشعر ولا يقوله، فاندفعت راجعة، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، ما رأتك، قال: (كان بينى وبينها ملك سترنى بجناحه حتى ذهبت) . رواه ابن أبى شيبة وأبو نعيم. وفى رواية البيهقى فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (قل لها: ترين عندى أحدا؟ فإنها لن ترانى) . وفى رواية أيضا: (كان- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى عند الكعبة، وجمع من قريش فى مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائى، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجىء به ثم يمهله حتى __________ (١) أى: يسجد ويلصق وجهه بالتراب. (٢) أى: يرجع ماشيا إلى الوراء. (٣) سورة العلق: ٦- ١٩. (٤) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٩٧) فى صفة القيامة، باب: قوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى. (٥) سورة المسد: ١. إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم، فلما سجد- صلى اللّه عليه وسلم- وضعه بين كتفيه، وثبت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهى جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ساجدا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الصلاة قال: (اللّهم عليك بقريش ثم سمى ف قال: اللّهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية ابن خلف، وعقبة بن أبى معيط، وعمارة بن الوليد) . قال عبد اللّه: فو اللّه لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر، ثم قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (وأتبع أصحاب القليب لعنة) (١) . واستدل بهذا الحديث: على أن من عرض له فى صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته، فلو كانت نجاسة فأزالها فى الحال، ولا أثر لها صحت صلاته اتفاقا. واستدل به أيضا: على طهارة فرث ما يؤكل لحمه، وعلى أن إزالة النجاسة ليست بفرض، وهو ...... وأجاب النووى: بأنه- عليه السّلام- لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر فى سجوده، استصحابا لأصل الطهارة. وتعقب: بأنه مشكل على قولنا بوجوب الإعادة فى مثل هذه الصورة. وأجيب عنه: بأن الإعادة إنما تجب فى الفريضة، فإن ثبت أنها فريضة فالوقت موسع فلعله أعاد. وتعقب: بأنه لو أعاد لنقل، ولم ينقل، وبأن اللّه لا يقره على صلاة فاسدة. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٥٢٠) فى الصلاة، باب: المرأة تطرح عن المصلى شيئا من الأذى، ومسلم (١٧٩٤) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين. وقد استشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد فى المذكورين، لأنه لم يقتل فى بدر، بل ذكر أصحاب المغازى: أنه مات بأرض الحبشة، وله قصة مع النجاشى، إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشى ساحرا فنفخ فى إحليل عمارة من سحره فتوحش، وصار مع البهائم إلى أن مات فى خلافة عمر. وأجيب: بأن كلام ابن مسعود- أنه رآهم صرعى فى القليب- محمول على الأكثر، ويدل عليه: أن عقبة بن أبى معيط لم يطرح فى القليب، وإنما قتل صبرا بعد أن رحلوا عن بدر بمرحلة. وأمية بن خلف لم يطرح فى القليب، كما سيأتى إن شاء اللّه تعالى. وقوله: ثم قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (وأتبع أصحاب القليب لعنة) يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضى، فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة ويحتمل أن يكون قاله- صلى اللّه عليه وسلم- بعد أن ألقوا فى القليب. ثم أسلم حمزة بن عبد المطلب، وكان أعز فتى فى قريش، وأشده شكيمة، وكان إسلامه- فيما قاله العتقى- سنة ست، فعزّ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-، وكفت عنه قريش قليلا، وقال حمزة حين أسلم: حمدت اللّه حين هدى فؤادى ... إلى الإسلام والدين الحنيف لدين جاء من رب عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف إذا تليت رسائله علينا ... تحدر دمع ذى اللب الحصيف رسائل جاء أحمد من هداها ... بايات مبينة الحروف وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف فلا واللّه نسلمه لقوم ... ولما نقض فيهم بالسيوف وعند مغلطاى: وسألوه- يعنى: النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إن كنت تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا قد غلب عليك بذلنا أموالنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه فيك. فقال لهم- عليه السّلام-: (ما بى ما تقولون، لكن اللّه بعثنى رسولا، وأنزل على كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربى، ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر اللّه، حتى يحكم اللّه بينى وبينكم) (١) . والرئى- بفتح الراء، وقد تكسر، ثم همزة، فياء مشددة- جنى يرى فيحب، أو المكسورة للمحبوب منها، قاله فى القاموس. ثم إن النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط ذهبا إلى أحبار اليهود، فسألاهم عنه- صلى اللّه عليه وسلم- فقالوا لهما: سلاه عن ثلاثة، فإن أخبركما بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فهو متقول. سلاه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول، وعن رجل طواف، وعن الروح ما هو؟ فقال لهم- عليه السّلام-: (أخبركم غدا) ، ولم يقل إن شاء اللّه تعالى، فلبث الوحى أياما، ثم نزل قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللّه (٢) وأنزل اللّه تعالى ذكر الفتية الذين ذهبوا، وهم أصحاب الكهف، وذكر الرجل الطواف. وهو ذو القرنين. وقال فيما سألوه عن الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (٣) الآية. وفى البخارى من حديث عبد اللّه بن مسعود قال: (بينا أنا مع النبى صلى اللّه عليه وسلم- فى حرث، وهو متكىء على عسيب، إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، قالوا: ما رابكم إليه، وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشىء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامى فلما نزل الوحى قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (٤) (٥) . __________ (١) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (١/ ٣١٣) . (٢) سورة الكهف: ٢٣، ٢٤. (٣) سورة الإسراء: ٨٥. (٤) سورة الإسراء: ٨٥. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٥) فى العلم، باب: قول اللّه تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، ومسلم (٢٧٩٤) فى صفة القيامة، باب: سؤال اليهود النبى- صلى اللّه عليه وسلم- عن الروح. قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضى- فيما يظهر من بادىء الرأى- أن هذه الآية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سألت اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة [الإسراء] كلها مكية. وقد يجاب عن هذا: بأنه قد تكون نزلت عليه مرة ثانية بالمدينة، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك. ومما يدل على نزولها بمكة ما رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت الحديث (١) . انتهى. وهذا الحديث رواه الترمذى أيضا بإسناد رجاله رجال مسلم. فيحمل على تعدد النزول كما أشار إليه ابن كثير، ويحمل سكوته فى المرة الثانية على توقع مزيد بيان فى ذلك. وقد اختلف فى المراد بالروح المسئول عنه فى هذا الخبر:
فقيل: روح الإنسان. وقيل: جبريل. وقيل: عيسى. وقيل: ملك يقوم وحده صفّا يوم القيامة. وقيل: غير ذلك. وقال القرطبى: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح اللّه، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح. وقال الإمام فخر الدين: المختار أنهم سألوه عن الروح الذى هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هى متحيزة أم لا؟ وهل هى حالة فى متحيز أم لا؟ __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣١٤٠) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل (الإسراء) ، وأحمد فى (مسنده) (١/ ٢٥٥) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٩٩) ، والحاكم فى (المستدرك) (٢/ ٥٧٩). وهل هى قديمة أو حادثة، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها، وغير ذلك من متعلقاتها. قال: وليس فى السؤال ما يخصص أحد هذه المعانى، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية. وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب يدل على أنها شىء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهى جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: (كن) ، فكأنه قال: هى موجودة محدثة بأمر اللّه وتكوينه ولها تأثير فى إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه. قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر فى قوله تعالى: مِنْ أَمْرِ رَبِّي (١) الفعل، كقوله تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٢) . أى فعله. فيكون الجواب: أنها حادثة. ثم قال: وقد سكت السلف عن البحث فى هذه الأشياء والتعمق فيها. انتهى. وقال فى فتح البارى: وقد تنطع قوم فتباينت أقوالهم:
فقيل: هى النفس الداخل الخارج. وقيل: جسم لطيف، يحل فى جميع البدن. وقيل: هى الدم. وقيل: إن الأقوال فيها بلغت المائة. ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين: أن لكل نبى خمسة أرواح، ولكل مؤمن ثلاثة، ولكل حى واحدة. وقال ابن العربى: اختلفوا فى الروح والنفس، فقيل متغايران، وهو الحق، وقيل هما شىء واحد، وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس (٣) . __________ (١) سورة الإسراء: ٨٥. (٢) سورة هود: ٩٧. (٣) قاله الحافظ فى (الفتح) (٨/ ٤٠٣) . وقال ابن بطال: معرفة حقيقة الروح مما استأثر اللّه بعلمه بدليل هذا الخبر. قال: والحكمة فى إبهامه: اختبار الخلق، ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه. وقال القرطبى: الحكمة فى ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى. وقال بعضهم: ليس فى الآية دلالة على أن اللّه لم يطلع نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- على حقيقة الروح بل يحتمل أن يكون أطلعه اللّه ولم يأمره أن يطلعهم. وقد قالوا فى علم الساعة نحو هذا واللّه أعلم. انتهى. ولما كثر المسلمون، وظهر الإيمان، أقبل كفار قريش على من آمن يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم. حتى إنه مر عدو اللّه، أبو جهل، بسمية أم عمار بن ياسر، وهى تعذب فطعنها بحربة فى فرجها فقتلها. وكان أبو بكر الصديق- رضى اللّه عنه- إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشتراه منهم وأعتقه، منهم بلال وعامر بن فهيرة. وعن أبى ذر: كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فمنعه اللّه بعمه أبى طالب، وأما أبو بكر فمنعه اللّه بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم فى الشمس، وإن بلالا هانت عليه نفسه فى اللّه عز وجل، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به فى شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد (١) . رواه أحمد فى مسنده. __________ (١) حسن: أخرجه ابن ماجه (١٥٠) فى المقدمة، باب: فضل سلمان وأبى ذر والمقداد، وأحمد فى (مسنده) (١/ ٤٠٤) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٧٠٨٣) ، والحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٣٢٠) ، من حديث ابن سعد- رضى اللّه عنه-، وليس أبو ذر كما ذكر المصنف. وعن مجاهد مثله، وزاد فى قصة بلال: وجعلوا فى عنقه حبلا ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به حتى أثر الحبل فى عنقه. فانظر كيف فعل ببلال ما فعل من الإكراه على الكفر، وهو يقول أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وهذا كما وقع له أيضا عند موته، كانت امرأته تقول: واحزناه وهو يقول: واطرباه. غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء. وللّه در أبى محمد الشقراطسى حيث قال: لاقى بلال بلاء من أمية قد ... أحله الصبر فيه أكرم النزل إذ أجهدوه بضنك الأسر وهو على ... شدائد الأزل ثبت الأزر لم يزل ألقوه بطحا برمضاء البطاح وقد ... عالوا عليه صخور جمة الثقل فوحد اللّه إخلاصا وقد ظهرت ... بظهره كندوب الطل فى الطلل إن قدّ ظهر ولى اللّه من دبر ... قد قدّ قلب عدو اللّه من قبل يعنى إن كان ظهر ولى اللّه بلال قد ظهر فيه التعذيب بقده، فقد جوزى عدو اللّه أمية وقد قلبه ببدر، لأنه قتل يومئذ، وكان عبد الرحمن بن عوف قد أسره يومئذ وأراد استبقاءه لأخوة كانت بينهما فى الجاهلية، فرآه بلال معه فصاح بأعلى صوته يا أنصار اللّه رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا فنهشوه بأسيافهم حتى قتلوه. وأخرج البيهقى عن عروة أن أبا بكر أعتق ممن كان يعذب فى اللّه سبعة منهم، الزنيرة، فذهب بصرها، وكانت ممن تعذب فى اللّه، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كلا واللّه ما هو كذلك فرد اللّه عليها بصرها. والزنيرة: بكسر الزاى وتشديد النون المكسورة. كسكينة: كذا فى القاموس. [هجرته صلى اللّه عليه وسلم]ثم أذن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لأصحابه فى الهجرة إلى الحبشة، وذلك فى رجب سنة خمس من النبوة. فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه، وكانوا أحد عشر رجلا- وقيل اثنى عشر رجلا- وأربع نسوة- وقيل: وخمس نسوة، وقيل وامرأتين-. وأميرهم عثمان بن مظعون، وأنكر ذلك الزهرى و قال: لم يكن لهم أمير. وخرجوا مشاة إلى البحر، فاستأجروا سفينة بنصف دينار. وكان أول من خرج عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال: أبطأ على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- خبرهما، فقدمت امرأة فقالت: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، ف قال: إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. فلما رأت قريش استقرارهم فى الحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاصى، وعبد اللّه بن أبى ربيعة بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشى واسمه أصحمة- وكان معهما عمارة بن الوليد، ليردهم إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما خائبين بهديتهما. وأسلم عمر بن الخطاب بعد حمزة بثلاثة أيام فيما قاله أبو نعيم بدعوته صلى اللّه عليه وسلم-: ( اللّهم أعز الإسلام بأبى جهل أو بعمر بن الخطاب) (١) وكان المسلمون إذ ذاك بضعة وأربعين رجلا، وإحدى عشرة امرأة. __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٦٨١) فى المناقب، باب: فى مناقب عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه-، وأحمد فى (مسنده) (٢/ ٩٥) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٨٨١) ، والحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٨٩) ، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. وكان سبب إسلامه- فيما ذكره أسامة بن زيد عن أبيه عن جده عن عمر- أنه قال: بلغنى إسلام أختى فدخلت عليها، فقلت يا عدوة نفسها، قد بلغنى عنك أنك صبوت (١) ، ثم ضربتها، فسال الدم فلما رأت الدم بكت وقالت: يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت. قال: فدخلت وأنا مغضب فإذا كتاب فى ناحية البيت، فإذا فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت ورميت بالصحيفة من يدى، قال: ثم رجعت إليها فإذا فيها سَبَّحَ للّه ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حتى بلغت آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ (٢) فقلت: أشهد ألاإله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه. فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا منى، فجئت إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى بيت فى أسفل الصفا، فدخلت وأخذ رجلان بعضدى حتى دنوت من النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: (أرسلوه) فأرسلونى فجلست بين يديه، فأخذ بمجمع ثيابى فجذبنى إليه ثم قال: (أسلم يابن الخطاب، اللّهم اهد قلبه) فقلت: أشهد ألاإله إلا اللّه وأنك رسول اللّه، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة (٣) . وكان الرجل إذا أسلم استخفى ثم خرجت إلى رجل لم يكن يكتم السر، فقلت له إنى صبوت، قال فرفع صوته بأعلاه: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، فما زال الناس يضربونى وأضربهم، فقال خالى: ما هذا؟ قالوا: ابن الخطاب، فقام على الحجر وأشار بكمه ف قال: ألا إنى قد أجرت ابن اختى، فانكشف الناس عنى، قال: فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز اللّه الإسلام. __________ (١) أى: خرجتى عن دينك إلى دين آخر. (٢) سورة الحديد: ١- ٧. (٣) انظر (سيرة ابن هشام) (١/ ٣٦٦) . قال ابن عباس: لما أسلم عمر قال جبريل للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-: يا محمد، لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر (١) . رواه ابن ماجه. ولما رأت قريش عزة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بمن معه، وإسلام عمر، وعزة أصحابه بالحبشة، وفشو الإسلام فى القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا النبى صلى اللّه عليه وسلم-، فبلغ أبا طالب، فجمع بنى هاشم وبنى المطلب فأدخلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية. فلما رأت قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى المطلب: ألاينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا حتى يسلموا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- للقتل. وكتبوه فى صحيفة بخط منصور بن عكرمة- وقيل بغيض بن عامر- فشلت يده، وعلقوا الصحيفة فى جوف الكعبة، هلال المحرم سنة سبع من النبوة. فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب فدخلوا معه فى شعبه، إلا أبا لهب فكان مع قريش. فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، وقال ابن سعد: سنتين حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شىء إلا سرّا. وقدم نفر من مهاجرة الحبشة، حين قرأ- صلى اللّه عليه وسلم- وَالنَّجْمِ إِذا هَوى حتى بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢) ألقى الشيطان فى أمنيته أى فى تلاوته: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فلما __________ (١) أخرجه ابن ماجه (١٠٣٠) فى المقدمة، باب فضل عمر- رضى اللّه عنه-، والحاكم فى مستدركه (٣/ ٩٠) ، والطبرانى فى الكبير (١١/ ٨٠) . (٢) سورة النجم: ١- ٢٠. ختم السورة (سجد- صلى اللّه عليه وسلم- وسجد معه المشركون) (١) لتوهمهم أنه ذكر آلهتهم بخير، وفشا ذلك فى الناس، وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة، ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه. وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا معه- صلى اللّه عليه وسلم-، وقد أمن المسلمون بمكة، فأقبلوا سراعا من الحبشة. والغرانيق فى الأصل: الذكور من طير الماء واحدها: غرنوق وغرنيق، سمى به لبياضه. وقيل: هو الكركى. والغرنوق أيضا: الشاب الأبيض الناعم. وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من اللّه، وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التى تعلوا فى السماء وترتفع. ولما تبين للمشركين عدم ذلك، رجعوا إلى أشد ما كانوا عليه. وقد تكلم القاضى عياض- رحمه اللّه- فى (الشفاء) على هذه القصة وتوهين أصلها بما يشفى ويكفى، لكن تعقب فى بعضه كما سيأتى- إن شاء اللّه تعالى-. وقال الإمام فخر الدين الرازى- مما لخصته من تفسيره- هذه القصة باطلة .......ة، لا يجوز القول بها. قال اللّه تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٢) . وقال اللّه تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٣) . وقال البيهقى: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعونون. __________ (١) جدّا: وقد قال الحافظ ابن كثير فى (تفسيره) (٣/ ٢٣٠) : طرقه كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، واللّه أعلم، ا. هـ. وكذا انظر كلام الحافظ ابن حجر فى (الفتح) (٨/ ٤٣٩) ، وقد ذكره المصنف بعد قليل على طوله. (٢) سورة النجم: ٣، ٤. (٣) سورة الأعلى: ٦. وأيضا: فقد روى البخارى فى صحيحه أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قرأ سورة النجم وسجد، وسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق، بل روى هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق. ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان فى نفى الأوثان، ولو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا فى كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك. ويبطل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (١) . فإنه لا فرق فى الفعل بين النقصان فى الوحى وبين الزيادة فيه. فبهذه الوجوه، عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة .......ة. وقد قيل: إن هذه القصة من وضع الزنادقة .......ا. انتهى. وليس كذلك. بل لها أصل. فقد خرجها: ابن أبى حاتم، والطبرى، وابن المنذر، من طرق عن شعبة، عن ابن بشر، عن سعيد بن جبير. وكذا ابن مردويه، والبزار، وابن إسحاق فى السيرة، وموسى بن عقبة فى المغازى، وأبو معشر فى السيرة. كما نبه عليه الحافظ عماد الدين بن كثير وغيره، لكن قال: إن طرقها كلها مرسلة وأنه لم يرها مسندة من وجه صحيح (٢) . وهذا متعقب بما سيأتى: وكذا نبه على ثبوت أصلها شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل العسقلانى فقال: أخرج ابن أبى حاتم والطبرى وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبى __________ (١) سورة المائدة: ٦٧. (٢) قاله فى (تفسيره) (٣/ ٢٣٠) . بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، بمكة والنجم، فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (١) ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ (٢) الآية. وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة ف قال: فى إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فيما أحسب، ثم ساق الحديث. وقال البزار: لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد. وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور (٣) . قال، وإنما يروى هذا من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس. انتهى، والكلبى متروك لا يعتمد عليه. وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدى. وذكرها ابن إسحاق فى السيرة مطولا، وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك عن موسى بن عقبة فى المغازى عن ابن شهاب الزهرى. وكذا أبو معشر فى السيرة له عن محمد بن كعب القرظى ومحمد بن قيس وأورده من طريق الطبرى. وأورده ابن أبى حاتم من طريق أسباط عن السدى. ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب عن يحيى بن كثير عن الكلبى عن أبى صالح، وعن أبى بكر الهذلى، وأيوب عن عكرمة، وعن سليمان التيمى عمن حدثه، ثلاثتهم عن ابن عباس. وأوردها الطبرى أيضا من طريق العوفى عن ابن عباس. ومعناهم كلهم فى ذلك واحد. __________ (١) سورة النجم: ١٩، ٢٠. (٢) سورة الحج: ٥٢. (٣) انظر (مجمع الزوائد) للّهيثمى (٧/ ٧١، ١١٥) . وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ..... وإما منقطع. لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا. مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح. أحدهما: ما أخرجه الطبرى من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب: حدثنى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه. والثانى: ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة كلاهما عن داود بن أبى هند، عن أبى العالية. قال الحافظ ابن حجر: وقد تجرأ ابن العربى- كعادته- فقال: ذكر الطبرى فى ذلك روايات كثيرة .......ا. وهو إطلاق مردود عليه. وكذا قول القاضى عياض: (هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته وانقطاع إسناده) . وكذا قوله: (ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فى ذلك .....ة واهية) . قال: (وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره، إلا طريق أبى بشر عن سعيد بن جبير، مع الشك الذى وقع فى وصله وأما الكلبى فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه) . (ثم رده من طريق النظر: بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم. قال: ولم ينقل ذلك) . انتهى. وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد: فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا. وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهى مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض. وإذا تقرر ذلك: تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره، لأنه يستحيل عليه- صلى اللّه عليه وسلم- أن يزيد فى القرآن عمدا ما ليس فيه، وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته. وقد سلك العلماء فى ذلك مسالك:
فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة، وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم اللّه آياته، وهذا أخرجه الطبرى عن قتادة. ورده القاضى: عياض: بأنه لا يصح، لكونه لا يجوز على النبى صلى اللّه عليه وسلم- ذلك، ولا ولاية للشيطان عليه فى النوم. وقيل: إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره. ورده ابن العربى بقوله تعالى، حكاية عن الشيطان: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ (١) الآية، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقى لأحد قوة على طاعة. وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك، فعلق بحفظه صلى اللّه عليه وسلم- فجرى ذلك على لسانه لما ذكرهم سهوا. وقد رد ذلك القاضى عياض فأجاد. وقيل: لعله قال ذلك توبيخا للكفار. قال القاضى عياض: وهذا جائز إذا كانت قرينة تدل على المراد، ولا سيما وقد كان الكلام فى ذلك الوقت جائزا فى الصلاة. وإلى هذا نحا الباقلانى. __________ (١) سورة إبراهيم: ٢٢. وقيل: إنه لما وصل إلى قوله: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (١) . خشى المشركون أن يأتى بعدها بشىء يذم آلهتهم به فبادروا إلى ذلك الكلام، فخلطوه فى تلاوة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- على عادتهم فى قوله: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) ونسب ذلك إلى الشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك. أو المراد بالشيطان شيطان الإنس. وقيل المراد بالغرانيق العلى، الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات اللّه، ويعبدونها، فنسق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢) فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع، وقالوا: إنه عظم آلهتنا ورضوا بذلك، فنسخ اللّه تينك الكلمتين وأحكم آياته. وقيل: كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يرتل القرآن، فارتصده الشيطان فى سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله، وأشاعها. قال: وهذا أحسن الوجوه، ويؤيد ما ورد عن ابن عباس فى تفسير (تمنى) ب (تلا) . وكذا استحسن ابن العربى هذا التأويل وقال: معنى قوله: فى أمنيته، أى فى تلاوته، فأخبر اللّه تعالى فى هذه الآية أن سنة اللّه فى رسله، إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، فهذا نص فى أن الشيطان زاد فى قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، لا أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- قاله. وقد سبق إلى ذلك الطبرى، مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده فى النظر، فصوب هذا المعنى. انتهى) . ثم هاجر المسلمون الثانية إلى أرض الحبشة. وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم، وثمانى عشرة امرأة. __________ (١) سورة النجم: ٢٠. (٢) سورة النجم: ٢١. (٣) انظر (فتح البارى) للحافظ ابن حجر (٨/ ٤٣٩- ٤٤٠) . وكان معهم عبيد اللّه بن جحش مع امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان، فتنصر هناك ثم توفى على دين النصرانية. وتزوج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أم حبيبة بنت أبى سفيان سنة سبع من الهجرة إلى المدينة، وهى بالحبشة كما سيأتى إن شاء اللّه تعالى فى المقصد الثانى عند ذكر أزواجه- صلى اللّه عليه وسلم-. وخرج أبو بكر الصديق- رضى اللّه عنه- مهاجرا إلى الحبشة حتى بلغ برك الغماد (١) ورجع فى جوار سيد القارة، مالك بن الدغنة- بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة، وتخفيف النون. وبضم الدال والغين وتشديد النون- يعبد ربه فى داره، وابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه. وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فقالوا لابن الدغنة: إنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربّه فى داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك. فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإنى أرد إليك جوارك وأرضى بجوار اللّه (٢) . الحديث رواه البخارى. ثم قام رجال فى نقض الصحيفة، فأطلع اللّه نبيه- صلى اللّه عليه وسلم- على أن الأرضة (٣) أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا اسم اللّه تعالى فقط، فلما أنزلت لتمزق وجدت كما قال- صلى اللّه عليه وسلم- وذلك فى السنة العاشرة. __________ (١) موضع بين مكة وزبيد، وقيل غير ذلك. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٢٢٩٨) فى الكفالة، باب: جوار أبى بكر فى عهد النبى صلى اللّه عليه وسلم- وعقده، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) الأرضة: دودة بيضاء شبه النمل تأكل الخشب خاصة، ومنها نوع مثل كبار النمل ذوات أجنحة، تأكل الخشب وغيره، غير أنها لا تعرض للرطب، وهى ذات قوائم. ولما أتت عليه- صلى اللّه عليه وسلم- تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، مات عمه أبو طالب، وله سبع وثمانون سنة. وقيل فى النصف من شوال من السنة العاشرة. وقال ابن الجزار: قبل هجرته- عليه الصلاة والسلام- بثلاث سنين. وروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يقول له عند موته: يا عم قل لا إله إلا اللّه. كلمة أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة. فلما رأى أبو طالب حرص الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- قال له: واللّه يابن أخى، لولا مخافة قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها. فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه ف قال: يابن أخى، واللّه لقد قال أخى الكلمة التى أمرته بها فقال صلى اللّه عليه وسلم-: لم أسمعه. كذا رواية ابن إسحاق أنه أسلم عند الموت. ورواه البيهقى فى الدلائل من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثنا العباس عن عبد اللّه بن معبد بن عباس عن بعض أهله عن ابن عباس فذكره (١) ، وقال البيهقى: إنه منقطع. وأجيب عنه: بأن شهادة العباس لأبى طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة ولم ترد بقوله- صلى اللّه عليه وسلم- لم أسمع، لأن الشاهد العدل إذا قال سمعت وقال من هو أعدل منه: لم أسمع أخذ بقول من أثبت السماع. ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم. مع أن الصحيح من الحديث قد أثبت لأبى طالب الوفاة على الكفر والشرك، كما روينا فى صحيح البخارى من حديث سعيد بن المسيب. حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا اللّه. قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (واللّه لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل اللّه تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٢/ ٣٤٦) بسند ..... للجهالة فيه. أُولِي قُرْبى (١) . وأنزل اللّه فى أبى طالب، فقال لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (٢) . وأجيب أيضا بأن أبا طالب لو قال كلمة التوحيد، ما نهى اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم- عن الاستغفار له. وفى الصحيح عن العباس أنه قال لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح (٣) . وفى رواية الصحيح أيضا أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه (٤) . وفى رواية يونس عن ابن إسحاق زيادة ف قال: يغلى منه دماغه حتى يسيل على قدميه. قال السهيلى: من باب النظر فى حكمة اللّه، ومشاكلة الجزاء للعمل، أن أبا طالب كان مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بجملته متحزبا له، إلا أنه كان متثبتا بقدميه على ملة عبد المطلب، حتى قال عند الموت: أنا على ملة عبد المطلب، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه. ثبتنا اللّه على الصراط المستقيم. وفى شرح التنقيح للقرافى: الكفار أربعة أقسام، فذكر منها من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، كما حكى عن أبى طالب أنه كان __________ (١) سورة التوبة: ١١٣. (٢) سورة القصص: ٥٦. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٨٨٣) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (٢٠٩) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لأبى طالب والتخفيف عنه بسببه. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٣٨٨٥) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (٢١) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لأبى طالب، والتخفيف عنه بسببه، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى اللّه عنه-. يقول: إنى لأعلم أن ما يقوله ابن أخى لحق، ولولا أنى أخاف أن تعيرنى نساء قريش لاتبعته. وفى شعره يقول: لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... يقينا ولا يعزى لقول الأباطل فإن هذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن. انتهى. وحكى عن هشام بن السائب الكلبى، أو أبيه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جمع إليه وجوه قريش، فأوصاهم فقال: يا معشر قريش، أنتم صفوة اللّه من خلقه. إلى أن قال: وإنى أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين فى قريش، والصديق فى العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنان (١) ، وايم اللّه كأنى أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر والأطراف، والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصغت له فؤادها، وأعطته قيادها، يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، واللّه لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسى مدة ولأجلى تأخير لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهى. ثم هلك. ثم بعد ذلك بثلاثة أيام- وقيل: بخمسة- فى رمضان بعد البعثة بعشر سنين، على الصحيح، ماتت خديجة- رضى اللّه عنها-. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يسمى ذلك العام عام الحزن، فيما ذكر صاعد وكانت مدة إقامتها معه- صلى اللّه عليه وسلم- خمسا وعشرين سنة على الصحيح. ثم بعد أيام من موت خديجة تزوج- عليه السّلام- سودة بنت زمعة. ثم خرج- عليه السّلام- إلى الطائف بعد موت خديجة بثلاثة أشهر، فى ليال __________ (١) الشنان: البغض. بقين من شوال، سنة عشر من النبوة. لما ناله من قريش بعد موت أبى طالب. وكان معه زيد بن حارثة. فأقام به شهرا، يدعو ثقيف إلى اللّه تعالى فلم يجيبوه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه. قال موسى بن عقبة: ورجموا عراقيبه (١) بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدماء، زاد غيره: وكان إذا أزلفته الحجارة قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج فى رأسه شجاجا. وفى البخارى ومسلم من حديث عائشة أنها قالت للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-، هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، قال: (لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت- وأنا مهموم على وجهى، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى، فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا فيها جبريل- عليه السّلام-، فنادانى) . فقال: إن اللّه قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فنادانى ملك الجبال، فسلم علىّ ثم قال: يا محمد، إن اللّه قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى ربك إليك لتأمرنى بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (٢) قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (بل أرجو أن يخرج اللّه من أصلابهم من يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئا) (٣) . وعبد ياليل- بالتحتانية وبعدها ألف ثم لام مكسورة ثم تحتانية ساكنة __________ (١) العرقوب: ما فويق العقب من قدم الإنسان. (٢) الأخشبان: الجبلان المحيطان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل شرف وجهه على قعيقعان، والأخشب: كل جبل خشن غليظ الحجارة. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٣٢٣١) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (١٧٩٥) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين. ثم لام- ابن عبد كلال- بضم الكاف وتخفيف اللام آخره لام- وكان ابن عبد ياليل من أكابر أهل الطائف من ثقيف. وقرن الثعالب: هو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل. وأفاد ابن سعد: أن مدة إقامته- صلى اللّه عليه وسلم- بالطائف كانت عشرة أيام. ولما انصرف- صلى اللّه عليه وسلم- عن أهل الطائف، مر فى طريقه بعتبة وشيبة ابنى ربيعة وهما فى حائط لهما، فلما رأيا ما لقى تحركت له رحمهما، فبعثا له مع عداس النصرانى- غلامهما- قطف عنب، فلما وضع- صلى اللّه عليه وسلم- يده فى القطف قال: بسم اللّه، ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: واللّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (من أى البلاد أنت. وما دينك؟) قال نصرانى من نينوى. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟) قال: وما يدريك؟ قال: (ذاك أخى، وهو نبى مثلى) . فأكب عداس على يديه ورأسه ورجليه يقبلها وأسلم. ولما نزل نخلة- وهو موضع على ليلة من مكة- صرف اللّه إليه سبعة من جن نصيبين- مدينة بالشام- وكان- صلى اللّه عليه وسلم- قد قام فى جوف الليل يصلى فاستمعوا له وهو يقرأ سورة الجن. وفى الصحيح أن الذى آذنه- صلى اللّه عليه وسلم- بالجن ليلة الجن شجرة، وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم ذكر اسم اللّه عليه يقع فى يد أحدكم أوفر ما كان لحما، وكل بعر علف لدوابكم(١) . وفى هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب. وذكر صاحب الروض من أسماء السبعة الذين أتوه- صلى اللّه عليه وسلم-، عن ابن دريد: منشى وناشى وشاصر وماضر والأحقب. لم يزد تسمية على هؤلاء. قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر ابن إسحاق خروجه- عليه السّلام- إلى أهل __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٤٥٠) فى الصلاة، باب: الجهر بالقراءة فى الصبح، والقراءة على الجن، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-. الطائف ودعاءه إياهم، وأنه لما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعه الجن من أهل نصيبين. قال: وهذا صحيح، لكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم فى ابتداء الإيحاء، ويدل له حديث ابن عباس عند أحمد قال: كان الجن يستمعون الوحى فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوه حقّا وما زادوه باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان أحدهم لا يأتى مقعده إلا رمى بشهاب يحرق ما أصاب منه، فشكوا ذلك إلى إبليس، ف قال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبعث جنوده فإذا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى بين جبلى نخلة فأخبروه ف قال: (هذا الحدث الذى حدث فى الأرض) (١) . ورواه النسائى وصححه الترمذى. (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٣٢٤) فى التفسير، من سورة الجن وأحمد فى (مسنده) (١/ ٢٧٤) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٢/ ٤٦). قال: وخروجه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الطائف كان بعد موت عمه. وروى ابن أبى شيبة عن عبد اللّه بن مسعود قال: هبطوا على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، فأنزل اللّه عز وجل: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ . سورة الأحقاف: ٢٩. فهذا مع رواية ابن عباس تقتضى أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يشعر بحضورهم فى هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا، قوما وفوجا بعد فوج. انتهى. وفى طريقه- عليه السّلام- هذه، دعا بالدعاء المشهور: (اللّهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، إلى من تكلنى إلى عدو بعيد يتجهمنى أم إلى صديق قريب ملكته أمرى، إن لم تكن غضبان على فلا أبالى، غير أن عافيتك أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بى غضبك، أو يحل بى سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) (١) . أورده ابن إسحاق، ورواه الطبرانى فى كتاب الدعاء عن عبد اللّه بن جعفر قال: لما توفى أبو طالب، خرج النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ماشيا إلى الطائف، فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: اللّهم إليك أشكو. فذكره. وقوله: يتجهمنى- بتقديم الجيم على الهاء- أى يلقانى بالغلظة والوجه الكريه. ثم دخل- صلى اللّه عليه وسلم- مكة فى جوار المطعم بن عدى. ولما كان فى شهر ربيع الأول أسرى بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات، ورأى ربه بعينى رأسه (٢) ، وأوحى اللّه إليه ما أوحى، وفرض عليه الصلوات الخمس، ثم انصرف فى ليلته إلى مكة. فأخبر بذلك، فصدقه الصديق، وكل من آمن باللّه. وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس، فمثله اللّه له، فجعل ينظر إليه ويصفه (٣) . __________ (١) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) ، وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات، كما فى (المجمع) (٦/ ٣٥) . (٢) قلت: جمهور السلف، على أن رؤية اللّه عز وجل مستحيلة فى الحياة الدنيا، لقوله عز وجل لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ الآية، ولحديث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الذى رواه مسلم (٢٩١) عن أبى ذر: قلت هل رأيت ربك يا رسول اللّه؟ قال: نور أنى أراه؟ وهو تصريح عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ينفى إمكانية الرؤية فى الحياة الدنيا، ولكن إشكال هذا الأمر هو ما ورد عن ابن عباس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- رأى ربه، فالراجح من قوله أنه لعله يقصد رؤية القلب، لا رؤية العين، وهذا جائز عندنا. (٣) انظر (السيرة) لابن هشام (٢/ ٣٦) . قال الزهرى: وكان ذلك بعد المبعث بخمس سنين. حكاه عنه القاضى عياض، ورجحه القرطبى والنووى. واحتج: بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء. وتعقب: بأن موت خديجة بعد البعثة بعشر سنين على الصحيح فى رمضان، وذلك قبل أن تفرض الصلاة. ويؤيده إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما التردد فى سنة وفاتها فيرده جزم عائشة بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين قاله الحافظ ابن حجر. وقيل: قبل الهجرة بسنة. قاله ابن حزم، وادعى فيه الإجماع. وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السدى وأخرجه من طريقه الطبرى والبيهقى، فعلى هذا كان فى شوال. وقيل: كان فى رجب. حكاه ابن عبد البر، وقبله ابن قتيبة، وبه جزم النووى فى الروضة. وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، فعلى هذا يكون فى ذى الحجة، وبه جزم ابن فارس. وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكره ابن الأثير. وقال الحربى: إنه كان فى سابع عشرى ربيع الآخر، وكذا قال النووى فى فتاويه، لكن قال فى شرح مسلم: فى ربيع الأول. وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب، واختاره الحافظ عبد الغنى ابن سرور المقدسى. وأما اليوم الذى يسفر عن ليلتها، فقيل الجمعة، وقيل السبت وعن ابن دحية: يكون إن شاء اللّه يوم الاثنين، ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات: وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة. وسيأتى- إن شاء اللّه تعالى- فى قصة الإسراء والمعراج وما فيهما من المباحث واللّه الموفق والمعين. ولما أراد اللّه تعالى إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج صلى اللّه عليه وسلم- فى الموسم الذى لقى فيه الأنصار- الأوس والخزرج-. فعرض نفسه- صلى اللّه عليه وسلم- على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة، لقى رهطا من الخزرج، أراد اللّه بهم خيرا، فقال لهم: (من أنتم) قالوا: نفر من الخزرج، قال: (أفلا تجلسون أكلمكم) قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى اللّه، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن (١) . وكان من صنع اللّه، أن اليهود كانوا معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا: إن نبيّا سيبعث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه. فلما كلمهم النبى صلى اللّه عليه وسلم- عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض: لا تسبقنا اليهود إليه. فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، فأسلم منهم ستة نفر وكلهم من الخزرج وهم: أبو أمامة، أسعد بن زرارة. وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء. ورافع بن مالك بن العجلان. وقطبة بن عامر بن حديدة. وعقبة بن عامر بن نابى. وجابر بن عبد اللّه بن رئاب، وليس بجابر بن عبد اللّه بن عمرو بن حرام. __________ (١) انظر (السيرة) لابن هشام (٢/ ٦٣) . ومن أهل العلم بالسير، من يجعل فيهم عبادة بن الصامت ويسقط جابر ابن رئاب. فقال لهم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (تمنعون ظهرى حتى أبلغ رسالة ربى) . فقالوا: يا رسول اللّه، إنما كانت بعاث عام الأول، يوم من أيامنا، اقتتلنا به، فإن تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع، فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا، لعل اللّه أن يصلح ذات بيننا، وندعوهم إلى ما دعوتنا، فعسى اللّه أن يجمعهم عليك، فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك، وموعدك الموسم العام القابل. وانصرفوا إلى المدينة. ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. فلما كان العام المقبل لقيه اثنا عشر رجلا- وفى الإكليل: أحد عشر- وهى العقبة الثانية، فيهم خمسة من الستة المذكورين، وهم: أبو أمامة، وعوف بن عفراء، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابى، ولم يكن فيهم جابر بن عبد اللّه بن رئاب لم يحضرها. والسبعة تتمة الاثنى عشر هم: معاذ بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور. وذكوان بن عبد قيس الزرقى، وقيل إنه رحل إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى مكة فسكنها معه، فهو مهاجرى أنصارى قتل يوم أحد. وعبادة بن الصامت بن قيس. وأبو عبد الرحمن، ويزيد بن ثعلبة البلوى. والعباس بن عبادة بن نضلة. وهؤلاء من الخزرج، ومن الأوس رجلان: أبو الهيثم بن التيهان، من بنى عبد الأشهل. وعويم بن ساعدة. فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء، أى وفق بيعتهم التى نزلت بعد ذلك عند فتح مكة وهى: ألانشرك باللّه شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا ولا نأتى ببهتان نفترينه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه فى معروف، والسمع والطاعة فى العسر واليسر، والمنشط والمكره وأثره علينا، وألاننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث كنا لا نخاف فى اللّه لومة لائم. قال صلى اللّه عليه وسلم-: (فإن وفيتم فلكم الجنة، ومن غشى من ذلك شيئا كان أمره إلى اللّه إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه) (١) ولم يفرض يومئذ القتال. ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر اللّه الإسلام. وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم. وكتبت الأوس والخزرج إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: ابعث إلينا من يقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير. وروى الدار قطنى عن ابن عباس أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- كتب إلى مصعب بن عمير أن يجمع بهم.. الحديث، وكانوا أربعين رجلا. فأسلم على يد مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصار، وأسلم فى جماعتهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وأسلم بإسلامهما جميع بنى عبد الأشهل فى يوم واحد، الرجال والنساء، ولم يبق منهم أحد إلا أسلم، حاشا الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخر بإسلامه إلى يوم أحد، فأسلم واستشهد ولم يسجد للّه سجدة واحدة، وأخبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أنه من أهل الجنة. ولم يكن فى بنى عبد الأشهل منافق ولا منافقة، بل كانوا كلهم حنفاء مخلصين- رضى اللّه عنهم-. ثم قدم على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى العقبة الثالثة فى العام المقبل فى ذى الحجة، أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا- وقال ابن سعد: يزيدون رجلا أو رجلين- وامرأتان. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى بنحوه (١٨) فى الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار، ومسلم (١٧٠٩) فى الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها، من حديث عبادة بن الصامت- رضى اللّه عنه-. وقال ابن إسحاق: ثلاث وسبعون وامرأتان. وقال الحاكم: خمسة وسبعون نفسا. فكان أول من ضرب على يده الشريفة- عليه السّلام- البراء بن معرور. ويقال: أبو الهيثم، ويقال أسعد بن زرارة، على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وعلى حرب الأحمر والأسود. وكانت أول آية نزلت فى الإذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ (١) الآية، وفى الإكليل إِنَّ اللّه اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الآية. ونقب عليهم اثنى عشر نقيبا. وفى حديث جابر عند أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم وابن حبان: مكث- صلى اللّه عليه وسلم- عشر سنين يتتبع الناس فى منازلهم فى المواسم بمنى وغيرها، يقول: من يؤوينى؟ من ينصرنى حتى أبلغ رسالة ربى وله الجنة؟ حتى بعثنا اللّه إليه من يثرب، فذكر الحديث. وفيه: وعلى أن تنصرونى إذا قدمت عليكم بيثرب، فتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة (٣) الحديث. وحضر العباس العقبة تلك الليلة متوثقا لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ومؤكدا على أهل يثرب، وكان يومئذ على دين قومه. قال ابن إسحاق: ولما تمت بيعة هؤلاء لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ليلة العقبة، وكانت سرّا عن كفار قريش، أمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من كان معه بالهجرة إلى المدينة. فخرجوا أرسالا، وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له فى الخروج، فكان أول من هاجر من مكة إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد، قبل بيعة العقبة بسنة، __________ (١) سورة الحج: ٣٩. (٢) سورة التوبة: ١١١. (٣) صحيح: أخرجه أحمد فى (مسنده) (٣/ ٣٢٢) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٧٠١٢) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٦٨١) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال. قدم من الحبشة لمكة، فاذاه أهلها، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار فخرج إليهم. ثم عامر بن ربيعة وامرأته ليلى، ثم عبد اللّه بن جحش. ثم المسلمون أرسالا، ثم عمر بن الخطاب وأخوه زيد وعياش بن أبى ربيعة فى عشرين راكبا، فقدموا المدينة فنزلوا فى العوالى. ثم خرج عثمان بن عفان، حتى لم يبق معه- صلى اللّه عليه وسلم- إلا على بن أبى طالب وأبو بكر. كذا قاله ابن إسحاق، قال مغلطاى وفيه نظر لما يأتى بعده. وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الهجرة فيقول: لا تعجل لعل اللّه أن يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكون هو. ثم اجتمعت قريش ومعهم إبليس، فى صورة شيخ نجدى فى دار الندوة، دار قصى بن كلاب، وكانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون فى أمره- عليه الصلاة والسلام-، فاجتمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك. فإن قيل: لم تمثل الشيطان فى صورة نجدى؟ فالجواب: لأنهم قالوا- كما ذكره بعض أهل السير- لا يدخلن معكم فى المشاورة أحد من أهل تهامة، لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل فى صورة نجدى. انتهى. ثم أتى جبريل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه، فلما كان الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه، فأمر- صلى اللّه عليه وسلم- عليّا فنام مكانه، وغطى ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه فى اللّه ووقى بها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وفى ذلك يقول على: وقيت بنفسى خير من وطىء الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر ثم خرج- صلى اللّه عليه وسلم-، وقد أخذ اللّه على أبصارهم، فلم يره أحد منهم، ونثر على رؤسهم كلهم ترابا كان فى يده، وهو يتلو قوله تعالى: يس إلى قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١) . ثم انصرف- عليه السّلام- حيث أراد. فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، ف قال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدا، قال: قد خيبكم اللّه، قد واللّه خرج محمد عليكم، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل يده على رأسه، فإذا عليه تراب. وفى رواية أبى حاتم، مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا. وفى هذه نزل قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (٢) الآية. ثم أذن اللّه تعالى لنبيه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الهجرة. قال ابن عباس: بقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٣) (٤) . أخرجه الترمذى وصححه الحاكم. فإن قلت ما الحكمة فى هجرته- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المدينة وإقامته بها إلى أن انتقل إلى ربه عز وجل؟ أجيب: بأن حكمة اللّه تعالى قد اقتضت أنه- عليه السّلام- تتشرف به الأشياء، لا أنه يتشرف بها، فلو بقى- عليه السّلام- فى مكة إلى انتقاله إلى ربه لكان يتوهم أنه قد تشرف بمكة، إذ أن شرفها قد سبق بالخليل وإسماعيل، __________ (١) سورة يس: ١- ٩. (٢) سورة الأنفال: ٣٠. (٣) سورة الإسراء: ٨٠. (٤) أخرجه الترمذى (٢١٣٩) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وأحمد فى (مسنده) (١/ ٢٢٣) ، والحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٤) ، وصححه الحاكم والترمذى. فأراد اللّه تعالى أن يظهر شرفه- عليه السّلام- فأمره بالهجرة إلى المدينة، فلما هاجر إليها تشرفت به، حتى وقع الإجماع على أن أفضل البقاع الموضع الذى ضم أعضاءه الكريمة- صلوات اللّه وسلامه عليه-. وذكر الحاكم أن خروجه- عليه السّلام- كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها. وجزم ابن إسحاق: بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول. فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم الأموى- فى المغازى- عن ابن إسحاق ف قال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال. قال: وخرج لهلال ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. قال فى فتح البارى: وعلى هذا خرج يوم الخميس. وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمى قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. ويجمع بينهما: بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين، لأنه أقام فيه ثلاث ليال: ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين. وكانت مدة مقامه بمكة من حين النبوة إلى ذلك الوقت بضع عشرة سنة، ويدل عليه قول صرمة: ثوى فى قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وقيل غير ذلك. وأمره جبريل أن يستصحب أبا بكر. وأخبر- عليه السّلام- عليّا بمخرجه وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدى عنه الودائع التى كانت عنده للناس. قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن جلوس يوما فى بيت أبى بكر فى نحر الظهيرة قال قائل لأبى بكر: هذا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- متقنعا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداء له أبى وأمى، واللّه ما جاء به فى هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فاستأذن فأذن له فدخل، فقال- صلى اللّه عليه وسلم- لأبى بكر: (أخرج من عندك) ، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبى وأمى يا رسول اللّه. قال السهيلى: وذلك أن عائشة قد كان أبوها أنكحها منه- صلى اللّه عليه وسلم- قبل ذلك. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنه قد أذن لى فى الخروج) . فقال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه. قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (نعم) . فقال أبو بكر: فخذ بأبى أنت وأمى يا رسول اللّه إحدى راحلتى هاتين. قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: بل بالثمن (١) . فإن قلت: لم لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا فقبل؟ أجيب: بأنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى اللّه بنفسه وماله رغبة منه عليه السّلام- فى استكمال فضل الهجرة إلى اللّه، وأن يكون على أتم الأحوال. انتهى. قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة من جراب فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت بها على فم الجراب فبذلك سميت بذات النطاقين. قالت: ثم لحق رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأبو بكر بغار ثور- جبل بأسفل مكة-. __________ (١) أخرجه بنحوه البخارى (٢١٣٨) فى البيوع، باب: إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع، أو مات قبل أن يقبض. وكان من قوله- صلى اللّه عليه وسلم- حين خرج من مكة، لما وقف على الحزورة، ونظر إلى البيت ف قال: (واللّه إنك لأحب أرض اللّه إلى، وإنك لأحب أرض اللّه إلى اللّه، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت) (١) . وهذا من أصح ما يحتج به فى تفضيل مكة على المدينة. ولم يعلم بخروجه- عليه السّلام- إلا على وآل أبى بكر. وروى أنهما خرجا من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته ليلا إلى الغار. ولما فقدت قريش رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- طلبوه بمكة، أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة أثره فى كل وجه، فوجد الذى ذهب قبل ثور أثره هنا لك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انتهى إلى ثور. وشق على قريش خروجه وجزعوا لذلك، وجعلوا مائة ناقة لمن رده. وللّه در الشيخ شرف الدين البوصيرى حيث قال: ويح قوم جفوا نبيّا بأرض ... ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه ... وقلوه ووده الغرباء أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء وكفته بنسجها عنكبوت ... ما كفته الحمامة الحصداء يقال شجرة حصداء: أى كثيرة الورق، فكأنه استعاره للحمامة لكثرة ريشها. وفى حديث مروى فى الهجرة أنه- عليه السّلام- ناداه ثبير: اهبط عنى، فإنى أخاف أن تقتل على ظهرى فأعذب، فناداه حراء: إلىّ يا رسول اللّه. وذكر قاسم بن ثابت فى الدلائل أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لما دخل الغار __________ (١) صحيح: أخرجه الترمذى (٣٩٢٥) فى المناقب، باب: فى فضل مكة، وابن ماجه (٣١٠٨) فى المناسك، باب: فضل مكة، وأحمد فى (مسنده) (٤/ ٣٠٥) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٣٧٠٨) ، والحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٨ و ٣١٥) ، من حديث عدى بن حمراء الزهرى- رضى اللّه عنه-. وأبو بكر معه، أنبت اللّه على بابه الراءة. قال قاسم: وهى شجرة معروفة، وهى أم غيلان. وعن أبى حنيفة (١) : تكون مثل قامة الإنسان لها خيطان وزهر أبيض تحشى به المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه، لأنه كالقطن، فحجبت عن الغار أعين الكفار. وفى مسند البزار: أن اللّه عز وجل أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار، وأن ذلك مما صد المشركين عنه، وأن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين (٢) . ثم أقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، فجعل بعضهم ينظر فى الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه فقالوا له: مالك؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد. وقال آخر: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: ما أربكم إلى الغار، إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد) . وقد روى أن الحمامتين باضتا فى أسفل النقب ونسج العنكبوت، فقالوا: لو دخلا لتكسر البيض وتفسخ نسج العنكبوت. وهذا أبلغ فى الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود. فتأمل كيف أظلت الشجرة المطلوب وأضلت الطالب، وجاءت العنكبوت فسدت باب الطلب، وحاكت وجه المكان فحاكت ثوب نسجها، فحاكت سترا حتى عمى على القائف الطلب وللّه در القائل: والعنكبوت أجادت حوك حلتها ... فما تخال خلال النسج من خلل __________ (١) هو: أحمد بن داود الدينورى النحوى، تلميذ ابن السكيت، ألف فى اللغة والنحو والهندسة، مات سنة (٢٨٢ هـ) وهو غير الإمام أبى حنيفة صاحب المذهب المشهور. (٢) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ٢٣١) بنحوه و قال: رواه الطبرانى فى الكبير، ومصعب المكى، والذى روى عنه، وهو عوين بن عمرو القيسى لم أجد من ترجمهما، وبقية رجاله ثقات. (٣) انظر ما قبله. ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك، وما أحسن قول ابن النقيب: ودود القز إن نسجت حريرا ... يجمل لبسه فى كل شى فإن العنكبوت أجل منها ... بما نسجت على رأس النبى وروى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (اللّهم أعم أبصارهم) (١) ، فعميت عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار. وهذا يشير إليه قول صاحب البردة: أقسمت بالقمر المنشق (٢) إن له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عم فالصدق فى الغار والصديق لم ير ما ... وهم يقولون ما بالغار من أرم ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم وقاية اللّه أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم أى عموا عما فى الغار مع خلق اللّه ذلك فيهم، لأنهم ظنوا أن الحمام لا يحوم حوله- صلى اللّه عليه وسلم- وأن العنكبوت لا تنسج عليه لما جرت العادة أن هذين الحيوانين متوحشان لا يألفان معمورا، فمهما أحسا بالإنسان فرا منه، وما علموا أن اللّه تعالى يسخر ما شاء من خلقه لمن شاء من عباده، وأن وقاية عبده بما شاء تغنى عبده عن التحصن بمضاعفة من الدروع، وعن التحصن بالعالى من الأطم، وهى الحصون، فللّه در الأبوصيرى شاعرا، وما أحسن قوله فى قصيدته اللامية حيث قال: واغيرتا حين أضحى الغار وهو به ... كمثل قلبى معمور ومأهول كأنما المصطفى فيه وصاحبه ال ... صديق ليثان قد آواهما غيل وجلل الغار نسج العنكبوت على ... وهن فيا حبذا نسج وتجليل __________ (١) أخرجه ابن حجر فى (تخريج أحاديث الكشاف) (ص ٧٦) . (٢) الذى يقسم بالمخلوقات، هو اللّه عز وجل، أما نحن فلا يجوز لنا أن نقسم إلا به سبحانه، أو بأحد أسمائه أو صفاته، لحديث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (لا تحلف إلا باللّه) الحديث. عناية ضل كيد المشركين بها ... وما مكائدهم إلا الأضاليل إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما ... كأن أبصارهم من زيغها حول وفى الصحيح عن أنس قال أبو بكر: يا رسول اللّه، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا، فقال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما) (١) . وروى أن أبا بكر قال: نظرت إلى قدمى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الغار وقد تفترتا دما فاستبكيت وعلمت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- لم يكن تعود الحفا والجفوة. وروى أيضا أن أبا بكر دخل الغار قبل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ليقيه بنفسه، وأنه رأى جحرا فيه، فألقمه عقبه لئلا يخرج منه ما يؤذى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فجعلت الحيات والأفاعى تضربنه وتلسعنه، فجعلت دموعه تتحدر. وفى رواية: فدخل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ووضع رأسه فى حجر أبى بكر فنام، فلدغ أبو بكر فى رجله من الجحر ولم يتحرك فسقطت دموعه على وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-، ف قال: مالك يا أبا بكر؟ فقال لدغت فداك أبى وأمى، فتفل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فذهب ما يجده. رواه رزين. وروى أيضا: أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- وقال إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّه مَعَنا (٢) . يعنى بالمعونة والنصر، فأنزل اللّه سكينته- وهى أمنة تسكن عندها القلوب- على أبى بكر لأنه كان منزعجا، وأيده- يعنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بجنود لم تروها من الملائكة ليحرسوه فى الغار، أو ليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته (٣) . انظر، لما رأى الرسول حزن الصديق قد اشتد لكن لا على نفسه، قوى __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٦٥٣) فى المناقب، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر عبد اللّه بن أبى قحافة التيمى- رضى اللّه عنه-، ومسلم (٢٣٨١) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنه-. (٢) سورة التوبة: ٤٠. (٣) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٢) بنحوه، من حديث أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنه-. قلبه ببشارة لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّه مَعَنا (١) وكانت تحفة (ثانى اثنين) مدخرة له دون الجميع، فهو الثانى فى الإسلام والثانى فى بذل النفس والعمر وسبب الموت لما وقى الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- بماله ونفسه وجوزى بمواراته معه فى رمسه، وقام مؤذن التشريف ينادى على منائر الأمصار (ثانى اثنين إذ هما فى الغار) ولقد أحسن حسان حيث قال: وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صاعد الجبلا وكان حب رسول اللّه قد علموا ... من الخلائق لم يعدل له بدلا وتأمل قول موسى- عليه السّلام- لبنى إسرائيل: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٢) . وقول نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- للصديق: إِنَّ اللّه مَعَنا (٣) فموسى خص بشهود المعية ولم يتعد منه إلى أتباعه، ونبينا تعدى منه إلى الصديق، ولم يقل (معى) لأنه أمد أبا بكر بنوره فشهد سر المعية، ومن ثم سرى سر السكينة على أبى بكر، وإلا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلى والشهود، وأين معية الربوبية فى قصة موسى- عليه السّلام- من معية الإلهية فى قصة نبينا صلى اللّه عليه وسلم-. قاله العارف شمس الدين بن اللبان. وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن عطاء بن ميسرة، قال: نسجت العنكبوت مرتين، مرة على داود حين كان طالوت يطلبه، ومرة على النبى صلى اللّه عليه وسلم- فى الغار (٤) . وكذا نسجت على الغار الذى دخله عبد اللّه بن أنيس لما بعثه- صلى اللّه عليه وسلم- لقتل خالد بن نبيح الهذلى بعرنة، فقتله ثم حمل رأسه ودخل فى غار فنسجت عليه العنكبوت، وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين. وفى تاريخ ابن عساكر: أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن __________ (١) سورة التوبة: ٤٠. (٢) سورة الشعراء: ٦٢. (٣) سورة التوبة: ٤٠. (٤) أخرجه أبو نعيم فى (الحلية) (٥/ ١٩٧) . على بن الحسين بن على بن أبى طالب لما صلب عريانا فى سنة إحدى وعشرين ومائة. وكان مكثه- صلى اللّه عليه وسلم- وأبو بكر فى الغار ثلاث ليال، وقيل بضعة عشر يوما. والأول هو المشهور. وكان يبيت عندهما عبد اللّه بن أبى بكر، وهو غلام شاب ثقف- أى ثابت المعرفة بما يحتاج إليه لقن- فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت معهم، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام. ويرعى عليهما عامر بن فهيرة- مولى أبى بكر- منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان فى رسل، وهو لبن منحتهما، يفعل ذلك فى كل ليلة من تلك الليالى الثلاث. واستأجر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأبو بكر، عبد اللّه بن الأريقط دليلا- وهو على دين كفار قريش، ولم يعرف له إسلام- فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال. فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم على طريق السواحل، فمروا بقديد على أم معبد- عاتكة بنت خالد الخزاعية- وكانت برزة جلدة، تحتبى بفناء القبة، ثم تسقى وتطعم. وكان القوم مرملين مسنتين (١) ، فطلبوا لبنا ولحما يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا، فنظر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى شاة فى كسر الخيمة، خلفها الجهد عن الغنم، فسألها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (هل بها من لبن) فقالت: لهى أجهد من ذلك، ف قال: (أتأذنين لى أن أحلبها) فقالت: نعم بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها ومسح ضرعها، وسمى اللّه، فتفاجت ودرت، ودعا بإناء يربض الرهط- أى يشبع الجماعة حتى يربضوا- __________ (١) شرح المصنف معانى هذه الكلمات بعد سرده للحديث، فانظرها هناك. فحلب فيه ثجا وسقى القوم حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه مرة أخرى علا بعد نهل، ثم غادره عندها وذهبوا. فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد- قال السهيلى: لا يعرف اسمه، وقال العسكرى: أكثم بن أبى الجون، وي قال: ابن الجون- يسوق أعنزا عجافا، يتساوكن هزالا، مخهن قليل. فلما رأى أبو معبد اللبن عجب و قال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاء عازب حيال، ولا حلوب فى البيت؟ فقالت: لا واللّه، إلا أنه مربنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. ف قال: صفيه يا أم معبد. فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة. مليح الوجه حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف، وفى صوته صحل، أحور أكحل، أزج أقرن، شديد سواد الشعر، فى عنقه سطع، وفى لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند. فقال: هذا واللّه صاحب قريش، لو رأيته لا تبعته (١) . قالت أسماء بنت أبى بكر: ولما خفى علينا أمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم، فقال: أين أبوك؟ فقلت: واللّه لا أدرى أين أبى، قالت: فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدى لطمة خرج منها قرطى، قالت: ثم انصرفوا. ولما لم ندر أين توجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، أتى رجل من الجن يسمعون صوته ولا يرونه، وهو ينشد هذه الأبيات: __________ (١) أخرجه ابن سعد فى (طبقاته) (١/ ١٧٨) . جزى اللّه رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتى أم معبد هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد فيا لقصى ما زوى اللّه عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها فى مصدر ثم مورد (١) فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه- صلى اللّه عليه وسلم-. وقوله: مرملين: أى نفدت أزوادهم. ومسنتين: أى مجدبين، ويروى: مشتين: دخلوا الشتاء. وكسر الخيمة: - بكسر الكاف وفتحها، وسكون السين- جانبها. وتفاجت: بتشديد الجيم- فتحت ما بين رجليها. ويربض الرهط: - بضم المثناة التحتية، وكسر الموحدة- أى يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض. من أربض فى المكان يربض: إذا لصق به وأقام. والثج: السيلان. وفى رواية: فحلب ثجا حتى علاه الثمال- بضم المثلاثة- الرغوة واحدة: ثمالة. والبهاء أى بهاء اللبن: وهو وبيص رغوته. وتساوكن هزالا: أى تمايلن، ويروى: تشاركن من المشاركة، أى تساوين فى الهزال. وغادره: بالغين المعجمة- أبقاه والشاء عازب، أى بعيدة المرعى. والأبلج: - بالجيم- المشرق الوجه المضيئة. والحيال: - بكسر الحاء المهملة- جمع حائل، وهى التى ليس بها حمل. والوضاءة: الحسن. والثجلة: - بفتح الثاء المثلاثة، وسكون الجيم- عظم البطن، ويروى بالنون والحاء: أى نحول ودقة. والصعلة: - بفتح الصاد- صغر الرأس، وهى أيضا __________ (١) أخرجه ابن سعد فى (طبقاته) (١/ ١٧٩) . الدقة والنحول فى البدن. والوسيم: الحسن، وكذلك: القسيم. وفى عينيه دعج: أى سواد. والوطف: قال فى القاموس: محركة، كثرة شعر الحاجبين والعينين. وفى صوته صحل: - بالتحريك- وهو كالبحة- بضم الموحدة- أن لا يكون حاد الصوت. وأحور: قال فى القاموس: الحور- بالتحريك- أن يشتد بياض بياض العين، وسواد سوادها. والكحل: - بفتحتين- سواد فى أجفان العين خلقه، والرجل: أكحل وكحيل. والأزج: الدقيق طرف الحاجبين وفى القاموس: والزجج- محركة- دقة الحاجبين فى طول. والأقرن: المقرون الحاجبين. وفى عنقه سطع: - بفتحتين- أى ارتفاع وطول. وفى لحيته كثاثة: الكثاثة فى اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة، وفيها كثاثة، ي قال: رجل كث اللحية- بالفتح- وقوم كث- بالضم-. وإذا تكلم سما وعلاه البهاء: أى ارتفع وعلا على جلسائه. وفصل- بالصاد المهملة- ولا نزر- بسكون المعجمة- ولا هذر- بفتحها-:أى بيّن ظاهر، يفصل بين الحق والباطل. ولا تشنؤه من طول: كذا جاء فى رواية، أى لا يبغض لفرط طوله، ويروى: ولا يشنى من طول: أبدل من الهمزة ياء، ي قال: شنيته أشنؤه شنأ وشنانا، قاله ابن الأثير. ولا تقتحمه عين من قصر: أى لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا، وكل شىء ازدريته فقد اقتحمته. ومحفود: أى مخدوم. والمحشود: الذى عنده حشد وهم الجماعة. ولا عابس: من عبوس الوجه. والمفتد: الذى يكثر اللوم وهو التفنيد. والضرة: لحمة الضرع. وغادرها: أى خلف الشاة عندها مرتهنة بأن تدر، انتهى. وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق الواقدى: حدثنى حزام بن هشام عن أبيه عن أم معبد قالت: بقيت الشاة التى لمس- عليه السّلام- ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة، زمان عمر بن الخطاب، وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا وما فى الأرض قليل ولا كثير. ثم تعرض لهما بقديد سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى، فبكى أبو بكر و قال: يا رسول اللّه أتينا، قال: (كلا) ودعا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، بدعوات، فساخت قوائم فرسه، وطلب الأمان، فقال: أعلم أن قد دعوتما على، فادعوا لى ولكما أن أراد الناس عنكما ولا أضركما. قال: فوقفا لى، فركبت فرسى حتى جئتهما، قال: ووقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فأخبرتهما أخبار ما يريد بهما الناس، وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآنى (١) . واجتاز- صلى اللّه عليه وسلم- فى وجهه ذلك بعبد يرعى غنما، فكان من شأنه ما رويناه من طريق البيهقى بسنده عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبى صلى اللّه عليه وسلم- وأبو بكر مستخفيين، مرا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن ف قال: ما عندى شاة تحلب، غير أن هاهنا عناقا حملت عام أول، فما بقى بها لبن، ف قال: ادع بها، فاعتقلها- صلى اللّه عليه وسلم- ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعى، ثم حلب فشرب، فقال الراعى: باللّه من أنت، فو اللّه ما رأيت مثلك. فقال: أو تراك تكتم على حتى أخبرك؟ قال نعم، قال: فإنى رسول اللّه، فقال أنت الذى تزعم قريش أنك صابىء؟ قال: إنهم ليقولون ذلك، قال: فأشهد أنك نبى، وأن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبى، وأنا متبعك، قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أنى قد ظهرت فائتنا. قال الحافظ مغلطاى- بعد ذكره لقصة أم معبد-: وفى الإكليل قصة أخرى شبيهة بقصة أم معبد. قال الحاكم: فلا أدرى أهى هى، أم غيرها. ولما سمع المسلمون بالمدينة خروج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودى نفسه فنادى بأعلى صوته يا بنى قيلة هذا __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٩٠٦) فى المناقب، باب: هجرة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. جدكم- أى حظكم ومطلوبكم- قد أقبل، فخرج إليه بنو قيلة- وهم الأوس والخزرج- سراعا بسلاحهم فتلقوه، فنزل بقباء على بنى عمرو بن عوف.. الحديث رواه البخارى (١) . وفيه: أن أبا بكر قام للناس، وجلس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عند ذلك. وظاهر هذا أنه- عليه السّلام- كانت الشمس تصيبه، وما تقدم من تظليل الغمام والملك له كان قبل بعثته، كما هو صريح فى موضعه. قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان قدومه- عليه السّلام- لهلال ربيع الأول، أى أول يوم منه. وفى رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عند أبى معشر، لكن قال: ليلة الاثنين. وعن ابن سعد: قدمها لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. وفى (شرف المصطفى) من طريق أبى بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول. وهذا يجمع بينه وبين الذى قبله بالحمل على الاختلاف فى رؤية الهلال. وقيل: كان حين اشتد الضحاء يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة منه وبه جزم النووى فى كتاب السير من الروضة. وقال ابن الكلبى: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتى عشرة منه، وقيل لليلتين منه. __________ (١) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق. وعند البيهقى: لثنتين وعشرين ليلة. وقال ابن حزم: خرجا من مكة وقد بقى من صفر ثلاث ليال. وأقام على بمكة بعد مخرج النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ثلاثة أيام، ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع- وقيل: ثامن- عشر ربيع، وكانت مدة مقامه مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ليلة أو ليلتين. وأمر- صلى اللّه عليه وسلم- بالتاريخ فكتب من حين الهجرة. وقيل: إن عمر أول من أرخ وجعله من المحرم (١) . وأقام- صلى اللّه عليه وسلم- بقباء فى بنى عمرو بن عوف اثنتين وعشرين ليلة. وفى صحيح مسلم: أقام فيهم أربع عشرة ليلة (٢) . ويقال: إنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء الذى أسس على التقوى (٣) ، على الصحيح، وهو أول مسجد بنى فى الإسلام وأول مسجد صلى فيه- صلى اللّه عليه وسلم- بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بنى لجماعة المسلمين عامة، وإن كان تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذى بناه. ثم خرج- صلى اللّه عليه وسلم- من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار، فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف فصلاها بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، فى بطن وادى رانوناء- براء مهملة ونونين ممدودا، كعاشوراء وتاسوعاء- واسم المسجد (الغبيب) - بضم الغين المعجمة، تصغير غب، كما ضبطه صاحب المغانم المطابة، والوادى: ذى صلب- ولذا سمى مسجد الجمعة، وهو مسجد __________ (١) قاله ابن الجوزى فى (المنتظم) (٤/ ٢٢٦) . (٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٤٢٨) فى الصلاة، باب: هل تنبش قبور مشركى الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، ومسلم (٥٢٤) فى المساجد، باب: ابتناء مسجد النبى صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. (٣) قلت: الذى فى صحيح مسلم (١٣٩٨) أن المسجد الذى أسس على التقوى هو مسجد رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وليس مسجد قباء، وإن كان فيه خير كثير. صغير مبنى بحجارة قدر نصف القامة، وهو على يمين السالك إلى مسجد قباء. وركب- صلى اللّه عليه وسلم- على راحلته بعد الجمعة متوجها إلى المدينة. وروى أنس بن مالك أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذى بين يديك، قال: فيقول: هذا الرجل يهديناى السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعنى الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير (١) ، الحديث رواه البخارى. وقد روى ابن سعد أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال لأبى بكر: أله عنى الناس، فكان إذا سئل من أنت قال: باغى حاجة، فإذا قيل: من هذا معك؟ قال: هذا يهديناى السبيل. وفى حديث الطبرانى: من رواية أسماء: فكان أبو بكر رجلا معروفا فى الناس، فإذا لقيه لاق يقول لأبى بكر: من هذا معك؟ فيقول: هذا يهدينا [السبيل] يريد الهداية فى الدين، ويحسبه الآخر دليلا(٢) . وإنما كان أبو بكر معروفا لأهل المدينة لأنه كان يمر عليهم فى سفره للتجارة، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- لم يشب، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- أسن من أبى بكر. وفى حديث أنس: لم يكن فى الذين هاجروا أشمط غير أبى بكر (٣) . وكان- صلى اللّه عليه وسلم- كلما مرّ على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم: يا رسول اللّه، هلم إلى القوة والمنعة، فيقول: (خلوا سبيلها- يعنى ناقته- فإنها مأمورة) (٤) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٩١١) فى المناقب، باب: هجرة النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. (٢) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (٢٤/ ١٠٦) . (٣) صحيح: وهو عند البخارى (٣٩١١) المتقدم قبل حديث. (٤) أخرجه ابن سعد فى (طبقاته) (١/ ١٨٣) . وقد أرخى زمامها، وما يحركها، وهى تنظر يمينا وشمالا، حتى إذا أتت دار مالك بن النجار، بركت على باب المسجد، وهو يومئذ مربد لسهل وسهيل ابنى رافع بن عمرو، وهما يتيمان فى حجر معاذ بن عفراء- ويقال أسعد بن زرارة وهو المرجح- ثم ثارت، وهو- صلى اللّه عليه وسلم- عليها حتى بركت على باب أبى أيوب الأنصارى، ثم ثارت منه وبركت فى مبركها الأول، وألقت جرانها بالأرض- يعنى باطن عنقها أو مقدمه من المذبح- وأزرمت- يعنى صوتت من غير أن تفتح فاها- ونزل عنها- صلى اللّه عليه وسلم- و قال: (هذا المنزل إن شاء اللّه) . واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله فى بيته، ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بنى النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب، جده- عليه السّلام-. وفى حديث أبى أيوب الأنصارى، عند أبى يوسف يعقوب فى كتاب الذكر والدعاء له قال: نزل على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حين قدم المدينة فكنت فى العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب قلت لها: رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحق بالعلو منا، تنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحى، فما بت تلك الليلة لا أنا ولا أم أيوب، فلما أصبحت، قلت: يا رسول اللّه، ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب، قال: (لم يا أبا أيوب) قلت: كنت أحق بالعلو منا تنزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحى، لا والذى بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا. الحديث. ورواه الحاكم أيضا. وقد ذكر أن هذا البيت الذى لأبى أيوب، بناه له- عليه السّلام- تبع الأول لما مر بالمدينة وترك فيها أربعمائة عالم، وكتب كتابا للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه للنبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبى أيوب، وهو من ولد ذلك العالم. قال: وأهل المدينة الذين نصروه صلى اللّه عليه وسلم- من ولد أولئك العلماء. فعلى هذا: إنما نزل فى منزل نفسه، لا فى منزل غيره. كذا حكاه فى تحقيق النصرة. وفرح أهل المدينة بقدومه- صلى اللّه عليه وسلم-، وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وسرى السرور إلى القلوب. قال أنس بن مالك: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شىء، وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير عند قدومه يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع وجب الشّكر علينا ... ما دعا للّه داع (١) (١) زاد رزين: أيّها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع قلت: إنشاد هذا الشعر عند قدومه- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة رواه البيهقى فى الدلائل (٢) ، وأبو الحسن بن المقرى فى كتاب الشمائل له عن ابن عائشة، وذكره الطبرى فى الرياض عن أبى الفضل بن الجمحى قال: سمعت ابن عائشة يقول- أراه عن أبيه- فذكره. وقال خرجه الحلوانى على شرط الشيخين. انتهى. (٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٢/ ٥٠٧) . وسميت ثنية الوداع لأنه- صلى اللّه عليه وسلم- ودعه بها بعض المقيمين بالمدينة فى بعض أسفاره. وقيل: لأنه- عليه السّلام- شيع إليها بعض سراياه، فودعه عندها. وقيل: لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما. وصحح القاضى عياض هذا الأخير، واستدل بقول نساء الأنصار حين مقدمه- صلى اللّه عليه وسلم-: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع فدل على أنه اسم قديم. وقال ابن بطال: إنما سميت ثنية الوداع لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها، ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقى. انتهى. قال شيخ الإسلام الولى العراقى: وهذا كله مردود، ففى صحيح البخارى وسنن أبى داود والترمذى عن السائب بن يزيد قال: لما قدم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع (١) . قال: وهذا صريح فى أنها من جهة الشام، ولهذا لما نقل والدى- رحمه اللّه- فى شرح الترمذى كلام ابن بطال قال: إنه وهم، قال: وكلام ابن عائشة معضل لا تقوم به حجة. انتهى. وسبقه إلى ذلك ابن القيم فى الهدى النبوى ف قال: هذا وهم من بعض الرواة، لأن ثنية الوداع إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، وإنما وقع ذلك عند قدومه من تبوك. انتهى. لكن قال ابن العراقى أيضا: ويحتمل أن تكون الثنية التى من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها ثنية الوداع. انتهى. وفى (شرف المصطفى) وأخرجه البيهقى عن أنس: لما بركت الناقة على باب أبى أيوب خرج جوار من بنى النجار بالدفوف يقلن: نحن جوار من بنى النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أتحببننى) ، قلن: نعم يا رسول اللّه. وفى رواية الطبرانى فى الصغير فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (اللّه يعلم قلبى يحبكم) (٢) . وقال الطبرى: وتفرق الغلمان والخدم فى الطرق ينادون جاء محمد، جاء رسول اللّه. ووعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرىء مصبح فى أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بواد وحولى إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لى شامة وطفيل __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٨٣) فى الجهاد والسير، باب: استقبال الغزاة، وأبو داود (٢٧٧٩) فى الجهاد، باب: فى التلقى، والترمذى (١٧١٨) فى الجهاد، باب: ما جاء فى تلقى الغائب إذا قدم. (٢) أخرجه الطبرانى فى (الصغير) (٧٨٠) و قال: لم يروه عن عوف إلا عيسى بن يونس، تفرد به مصعب بن سعيد. اللّهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء ثم قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: ( اللّهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللّهم بارك لنا فى صاعنا ومدنا، وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة) . قالت- يعنى عائشة-: وقدمنا المدينة وهى أوبأ أرض اللّه، فكان بطحان يجرى نجلا. تعنى: ماء آجنا (١) . وقال عمر: اللّهم ارزقنى شهادة فى سبيلك واجعل موتى فى بلد رسولك (٢) . رواه البخارى. وقوله: يرفع عقيرته: أي صوته، لأن العقيرة الساق، كأن الذى قطعت رجله رفعها وصاح، ثم قيل لكل من صاح ذلك، حكاه الجوهرى. وشامة وطفيل: عينان بقرب مكة، والمراد بالوادى وادى مكة. وجليل: نبت ...... وأقام- صلى اللّه عليه وسلم- عند أبى أيوب سبعة أشهر. وقيل: إلى صفر من السنة الثانية وقال الدولابى: شهرا. وكان يصلى حيث أدركته الصلاة، ولما أراد- صلى اللّه عليه وسلم- بناء المسجد الشريف، قال: (يا بنى النجار ثامنونى بحائطكم) قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى اللّه (٣) ، فأبى ذلك- صلى اللّه عليه وسلم- وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبى بكر رضى اللّه عنه-، وكان قد خرج من مكة بماله كله. __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٨٩) فى الحج، باب: رقم (١٢) ، ومسلم (١٣٧٦) فى الحج، باب: الترغيب فى سكنى المدينة، والصبر على لأوائها، من حديث عائشة رضى اللّه عنها-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٨٩٠) فيما تقدم. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٤٢٨) فى المساجد، باب: هل تنبش قبور مشركى الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، ومسلم (٥٢٤) فى المساجد، باب: ابتناء مسجد النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-. قال أنس: وكان فى موضع المسجد نخل وخرب ومقابر مشركين، فأمر بالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل فقطعت، ثم أمر باتخاذ اللبن فاتخذ، وبنى المسجد وسقف بالجريد، وجعلت عمده خشب النخل، وعمل فيه المسلمون، وكان عمار بن ياسر ينقل لبنتين لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن النبى صلى اللّه عليه وسلم- فقال له- عليه الصلاة والسلام-: (للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن، وتقتلك الفئة الباغية) (١) . وروينا أنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان ينقل معهم اللبن ويقول وهو ينقل [اللبن] : هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر اللّهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أنه- صلى اللّه عليه وسلم- تمثل ببيت شعر تام غير هذا. انتهى. وقد قيل: إن الممتنع عليه- صلى اللّه عليه وسلم- إنشاء الشعر لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا. وقوله: هذا الحمال: - بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم- أى المحمول من اللبن أبر عند اللّه من حمال خيبر، أى: التى تحمل منها من التمر والزبيب ونحو ذلك. وفى رواية المستملى بالجيم. انتهى. وفى كتاب (تحقيق النصرة) قيل: ووضع- عليه السّلام- رداءه فوضع الناس أرديتهم وهم يقولون: لئن قعدنا والنبى يعمل ... ذاك إذا للعمل المضلل وآخرون يقولون: لا يستوى من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى عن التراب حائدا __________ (١) تقدم. وجعلت قبلة المسجد للقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب فى مؤخره، وباب يقال له: باب الرحمة، والباب الذى يدخل منه. وجعل طوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفى الجانبين مثل ذلك أو دونه. وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع، وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء بنى لعائشة فى البيت الذى يليه شارعا إلى المسجد، وجعل سودة بنت زمعة فى البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلى آل عثمان. ثم تحول- عليه السّلام- من دار أبى أيوب إلى مساكنه التى بناها. وكان قد أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه إلى مكة، فقدما بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة وأسامة بن زيد وأم أيمن، وخرج عبد اللّه بن أبى بكر معهم بعيال أبيه. وكان فى المسجد موضع مظلل، تأوى إليه المساكين، يسمى الصفة، وكان أهله يسمون: أهل الصفة، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه، وتتعشى طائفة منهم معه- عليه السّلام-. وفى البخارى من حديث أبى هريرة: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا فى أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساق، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته (١) . (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٢) فى المساجد، باب: نوم الرجل فى المسجد. وهذا يشعر بأنهن كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم فى غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا، لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبى هريرة. وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابى والسلمى. والحاكم وأبو نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفيما ذكروه اعتراض ومناقشة، قاله فى فتح البارى. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة إلى جذع فى المسجد قائما، ف قال: إن القيام قد شق علىّ، فصنع له المنبر. وكان عمله وحنين الجذع فى السنة الثامنة- بالميم- من الهجرة، وبه جزم ابن النجار وعورض: بما فى حديث الإفك فى الصحيحين، قالت عائشة: فثار الحيان- الأوس والخزرج- حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا (١) . وجزم ابن سعد بأن عمل المنبر كان فى السنة السابعة. وعورض: بذكر العباس وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح فى آخر سنة ثمان، وقدوم سنة تسع. وعن بعض أهل السير: أنه- عليه السّلام- كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذى من خشب. وعورض: بأن الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب. وستأتى قصة حنين الجذع- إن شاء اللّه تعالى- فى مقصد المعجزات. ولما كان بعد قدومه بخمسة أشهر، آخى- عليه السّلام- بين المهاجرين والأنصار) وكانوا تسعين رجلا، من كل طائفة خمسة وأربعون، على الحق والمواساة والتوارث. وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (٣) الآية. وبنى بعائشة على رأس تسعة أشهر. وقيل ثمانية، وقيل ثمانية عشر شهرا فى شوال. __________ (١) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٤١٤١) فى المغازى، باب: حديث الإفك، ومسلم (٢٧٧٠) فى التوبة، باب: فى حديث الإفك. (٢) انظر (السيرة) لابن هشام (٢/ ١٥٠) . (٣) سورة الأنفال: ٧٥. [رؤيا الأذان]وكان الناس- كما فى السير وغيرها- إنما يجتمعون إلى الصلاة لتحين مواقيتها، من غير دعوة. وأخرج ابن سعد فى الطبقات، من مراسيل سعيد بن المسيب: أن بلالا كان ينادى للصلاة بقوله: الصلاة جامعة الحديث. وشاور رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة- وكان ذلك فيما قيل فى السنة الثانية- فقال بعضهم: ناقوس كناقوس النصارى، وقال آخرون: بوق كبوق اليهود (١) ، وقال بعضهم: بل نوقد نارا ونرفعها فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة. فرأى عبد اللّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه فى منامه رجلا فعلمه الأذان والإقامة، فلما أصبح أتى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأخبره بما رأى، وفى رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد قال: يا رسول اللّه إنى رأيت فيما يرى النائم- ولو قلت إنى لم أكن نائما لصدقت- رأيت: شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة ف قال: اللّه أكبر، اللّه أكبر، مثنى مثنى، حتى فرغ من الأذان. الحديث، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنها لرؤيا حق إن شاء اللّه تعالى، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك) . قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه ويؤذن. قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- وهو فى بيته، فخرج يجر رداءه يقول: والذى بعثك بالحق يا رسول اللّه، لقد رأيت مثل ما رأى (٢) . __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٦٠٤) فى الأذان، باب: بدء الأذان، ومسلم (٣٧٧) فى الصلاة، باب: بدء الأذان، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-. (٢) صحيح: أخرجه أبو داود (٤٩٩) فى الصلاة، باب: كيف الأذان، وأحمد فى (مسنده) (٤/ ٤٢ و ٤٣) ، وابن حبان فى (صحيحه) (١٦٧٩) ، وابن خزيمة فى (صحيحه) (٣٧١). ووقع فى الأوسط للطبرانى: أن أبا بكر أيضا رأى الأذان. وفى الوسيط للغزالى: أنه رآه بضعة عشر رجلا. وعبارة الجيلى فى شرح التنبيه: أربعة عشر. وأنكره ابن الصلاح ثم النووى، وفى سيرة مغلطاى: أنه رآه سبعة من الأنصار. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر- رحمه اللّه-: ولا يثبت شىء من ذلك إلا لعبد اللّه بن زيد، وقصة عمر جاءت فى بعض الطرق: انتهى. قال السهيلى: فإن قلت: ما الحكمة التى خصت الأذان بأن يراه رجل من المسلمين فى نومه. ولم يكن عن وحى من اللّه لنبيه كسائر العبادات والأحكام الشرعية، وفى قوله- صلى اللّه عليه وسلم- له: (إنها لرؤيا حق) . ثم بنى حكم الأذان عليها، وهل كان ذلك عن وحى من اللّه له أم لا؟ وأجاب: بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- قد أريه ليلة الإسراء. فروى البزار عن على قال: لما أراد اللّه تعالى أن يعلم رسوله الأذان جاء جبريل- عليه السّلام- بدابة يقال لها البراق فركبها حتى أتى بها الحجاب الذى يلى عرش الرحمن، فبينما هو كذلك خرج ملك من الحجاب، ف قال: يا جبريل من هذا؟ قال: والذى بعثك بالحق، إنى لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه. فقال الملك: اللّه أكبر، اللّه أكبر، فقيل له من وراء الحجاب: صدق عبدى، أنا أكبر، أنا أكبر.. وذكر بقية الأذان. قال السهيلى: وهذا أقوى من الوحى، فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحى حتى رأى عبد اللّه الرؤيا فوافقت ما رأى- صلى اللّه عليه وسلم- فلذلك قال: إنها لرؤيا حق إن شاء اللّه تعالى، وعلم حينئذ أن مراد اللّه بما رآه فى السماء أن يكون سنة فى الأرض وقوى ذلك عنده موافقة رؤيا عمر للأنصارى. انتهى. وتعقب: بأن حديث البزار فى إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود (١) . وقال فى فتح البارى: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد اللّه ابن زيد، فإن رؤيا غير الأنبياء لا يا بنى عليها حكم شرعى: وأجيب: باحتمال مقارنة الوحى لذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وأبو داود فى المراسيل، من طريق عبيد بن عمير الليثى- أحد كبار التابعين- أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فوجد الوحى قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (سبقك بذلك الوحى) (٢) . وهذا أصح مما حكى الداودى عن ابن إسحاق: أن جبريل أتى النبى صلى اللّه عليه وسلم- بالأذان قبل أن يخبره عبد اللّه بن زيد وعمر بثمانية أيام. وقد عرفت رؤيا عبد اللّه بن زيد برواية ابن إسحاق وغيره: وذلك أنه قال: (طاف بى- وأنا نائم- رجل يحمل ناقوسا فى يده، فقلت يا عبد اللّه أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت [له] (٣) بلى، قال: تقول اللّه أكبر، اللّه أكبر وذكر بقية كلمات الأذان. قال: ثم استأخر عنى غير بعيد ثم قال [ثم تقول] إذا أقمت ... الصلاة فقل: اللّه أكبر، اللّه أكبر، إلى آخر كلمات الإقامة) (٤) . ورواه أبو داود بإسناد صحيح. __________ (١) انظر (فتح البارى) للحافظ ابن حجر (٢/ ٧٨) . (٢) أخرجه أبو داود فى (مراسيله) (٢١) . (٣) زيادة من سنن أبى داود. (٤) صحيح: وقد تقدم قريبا. ولم تعرف كيفية رؤيا عمر حين رأى النداء، وقد قال: رأيت مثل الذى رأى. وفى مسند الحارث: أول من أذن بالصلاة جبريل، أذن فى سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخبره بها، فقال- عليه السّلام- لبلال(سبقك بها عمر) (١) وظاهره: أن عمر وبلالا سمعا ذلك فى اليقظة. وقد وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة. منها للطبرانى من طريق سالم بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه قال: لما أسرى بالنبى- صلى اللّه عليه وسلم- أوحى اللّه إليه الأذان فنزل به وعلمه بلالا. وفى إسناده طلحة بن زيد وهو متروك. ومنها: للدار قطنى فى (الأفراد) من حديث أنس أن جبريل أمر النبى صلى اللّه عليه وسلم- بالأذان حين فرضت الصلاة. وإسناده ...... ومنها: حديث البزار عن على، المتقدم. قال فى فتح البارى: والحق أنه لا يصح شىء من هذه الأحاديث وقد جزم ابن المنذر بأنه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يصلى بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، إلى أن وقع التشاور فى ذلك (٢) . واللّه سبحانه أعلم. فإن قلت: هل أذن- صلى اللّه عليه وسلم- بنفسه قط؟ أجاب السهيلى: بأنه قد روى الترمذى من طريق يدور على عمر بن الرماح، قاضى بلخ يرفعه إلى أبى هريرة أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أذن فى سفر وصلى وهم على رواحلهم (٣) . الحديث. قال: فنزع بعض الناس بهذا الحديث إلى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أذن بنفسه. انتهى. __________ (١) ذكره الحافظ فى (الفتح) (٢/ ٧٨) وعزاه للحارث بن أبى أسامة فى (مسنده) بسند واه. (٢) انظر (الفتح) (٢/ ٧٩) . (٣) أخرجه الترمذى (٤١١) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة على الدابة فى الطين والمطر. وليس هذا الحديث من حديث أبى هريرة، إنما هو من حديث يعلى بن مرة. وكذا جزم النووى بأنه- عليه الصلاة والسلام- أذن مرة فى السفر، وعزاه للترمذى وقواه. ولكن روى الحديث الدار قطنى وقال فيه: أمر بالأذان، ولم يقل: أذن. قال السهيلى: والمفصل يقضى على المجمل المحتمل. وفى مسند أحمد من الوجه الذى أخرج منه الترمذى هذا الحديث: فأمر بلالا فأذن (١) ، قال فى فتح البارى فعرف أن فى رواية الترمذى اختصارا، وأن قوله أذن: أمر، كما ي قال: أعطى الخليفة فلانا ألفا، وإنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه أمر (٢) . انتهى. فإن قلت هل صلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- خلف أحد من أصحابه؟ قلت: نعم، ثبت فى صحيح مسلم وغيره أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى خلف عبد الرحمن بن عوف، ولفظه: عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- تبوك، فتبرز رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قبل الغائط، فحمل معه إداوة قبل صلاة الفجر ... الحديث إلى أن قال: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فأدرك رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح، فلما قضى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- صلاته أقبل عليهم ثم قال، أحسنتم، أو قال: أصبتم يغبطهم أن صلوا لوقتها (٣) . __________ (١) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٤/ ١٧٣) ، وانظر ما قبله. (٢) قاله الحافظ فى (الفتح) (٢/ ٧٩) . (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٧٤) (٨١) فى الطهارة، باب: المسح على الناصية والعمامة، و (٢٧٤) (١٠٥) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما، وأبو داود (١٤٩ و ١٥٢) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين. ورواه أبو داود فى السنن بنحوه ولفظه: ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى صلاته (١) الحديث. قال النووى: فيه جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز اقتداء النبى صلى اللّه عليه وسلم- خلف بعض أمته. قال: وأما بقاء عبد الرحمن فى صلاته وتأخر أبى بكر- رضى اللّه عنه- ليتقدم النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، فالفرق بينهما أن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبى صلى اللّه عليه وسلم- التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم، بخلاف صلاة أبى بكر. نعم فى السيرة الهشامية: أن أبا بكر كان الإمام وأن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يأتم به. لكنه- كما قال السهيلى- حديث مرسل فى السيرة، والمعروف فى الصحاح أن أبا بكر كان يصلى بصلاة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، والناس يصلون بصلاة أبى بكر (٢) . لكن قد روى عن أنس من طريق متصل: أن أبا بكر كان الإمام يومئذ، واختلف فيه خبر عائشة- رضى اللّه عنها-. انتهى. وفى الترمذى مصححا من حديث جابر: أن آخر صلاة صلاها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى ثوب واحد متوشحا به خلف أبى بكر (٣) . قال ابن الملقن: وقد نصر هذا القول غير واحد من الحفاظ: منهم الضياء، وابن ناصر، وقال: صح وثبت أنه- صلى اللّه عليه وسلم- صلى خلف أبى بكر __________ (١) صحيح: وقد تقدم فيما قبله. (٢) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (٦٨٣) فى الأذان، باب: من قام إلى جنب الإمام لعلة، ومسلم (٤١٨) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) إسناده صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (٣٦٣) فى الصلاة، باب: منه. مقتديا به فى مرضه الذى مات فيه ثلاث مرات، ولا ينكر هذا إلا جاهل لا علم له بالرواية. وقيل: إنه كان مرتين، جمعا بين الأحاديث، وبه جزم ابن حبان. وروى الدار قطنى من طريق المغيرة بن شعبة أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (ما مات نبى حتى يؤمه رجل من أمته) (١) . ولما كان بعد شهر من مقدمه- عليه الصلاة والسلام- لاثنتى عشرة خلت من ربيع الآخر- قال الدولابى يوم الثلاثاء، وقال السهيلى بعد الهجرة بعام أو نحوه- زيد فى صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر. وفى البخارى عن عائشة (فرضت الصلاة ركعتين [ركعتين] ) ثم هاجر النبى- صلى اللّه عليه وسلم-[إلى المدينة] ففرضت أربعا. وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر) (٢) . وفى البخارى عن عائشة فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبى ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى (٣) . وقيل إنما فرضت أربعا، ثم خفف عن المسافر. ويدل له حديث: (إن اللّه وضع عن المسافر شطر الصلاة) (٤) . __________ (١) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ١٣) ، من حديث أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنه-، والحاكم فى (مستدركه) (١/ ٣٧٠) ، والدار قطنى فى (سننه) (١/ ٢٨٢) ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٩٣٥) فى المناقب، باب: التاريخ من أين أرخوا التاريخ، ومسلم (٦٨٥) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (١) ، وهو ليس فيها بهذا اللفظ، بل بلفظ الحديث الآتى. (٣) صحيح: وانظر ما قبله. (٤) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود (٢٤٠٨) فى الصوم، باب: اختيار الفطر، والترمذى (٧١٥) فى الصوم، باب: ما جاء فى الرخصة فى الإفطار للحبلى والمرضع، وأحمد فى(مسنده) (٥/ ٢٩) ، من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. وقيل: إنما فرضت فى الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين، وهو قول ابن عباس، قال- رضى اللّه عنه-: (فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين) (١) رواه مسلم وغيره. وسيأتى مزيد لذلك إن شاء اللّه تعالى فى أول الصلاة من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام-. قال ابن إسحاق وغيره: ونصبت أحبار يهود العداوة للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- بغيا وحسدا، وسحره لبيد بن الأعصم، وهو من يهود بنى زريق، فكان يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو لا يفعله، وجعل سحره فى مشط ومشاطة، ودفنه فى بئر ذى أروان- وأكثر أهل الحديث يقول: ذروان- تحت راعوفة البئر (٢) ، كما ثبت فى الصحيح. وليس هذا بقادح فى النبوة، فإن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- يبتلون فى أبدانهم بالجراحات والسموم والقتل وغير ذلك مما جوّزه العلماء عليهم. وانضاف إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج، منافقون، على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أنهم قهروا بظهور الإسلام، فأظهروه واتخذوه جنة من القتل، ونافقوا فى السر، منهم عبد اللّه بن أبى ابن سلول، وكان رأس المنافقين، وهو الذى قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ (٣) . كما سيأتى- إن شاء اللّه- فى غزوة بنى المصطلق. __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٦٨٧) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (١) . (٢) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (٥٧٦٣) فى الطب، باب: السحر، ومسلم (٢١٨٩) فى السلام، باب: السحر، من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-. (٣) سورة المنافقون: ٨. مغازيه وسراياه وبعوثه (١) صلى اللّه عليه وسلموأذن اللّه تعالى لرسوله- صلى اللّه عليه وسلم- بالقتال. قال الزهرى: أول آية نزلت فى الإذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّه عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٢) . أخرجه النسائى بإسناد صحيح (٣) . قال فى البحر: والمأذون فيه- أى فى الآية- محذوف، أى: فى القتال، لدلالة (يقاتلون) عليه، وعلل الإذن: بأنهم ظلموا، كانوا يأتون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: اصبروا، فإنى لم أومر بالقتال، حتى هاجر فأذن له بالقتال بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية. انتهى. وقال غيره: وإنما شرع اللّه تعالى الجهاد فى الوقت اللائق به، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون- وهم قليلون- بقتال الباغين لشق عليهم، فلما بغى المشركون، وأخرجوه- صلى اللّه عليه وسلم- من بين أظهرهم وهموا بقتله، واستقر- عليه الصلاة والسلام- بالمدينة واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة لهم دار إسلام، ومعقلا يلجئون إليه، شرع اللّه تعالى جهاد الأعداء، فبعث- صلى اللّه عليه وسلم- البعوث والسرايا وغزا وقاتل هو وأصحابه حتى دخل الناس فى دين اللّه أفواجا أفواجا. وكان عدد مغازيه- صلى اللّه عليه وسلم- التى خرج فيها بنفسه، سبعا وعشرين. قاتل فى تسع منها بنفسه الشريفة- صلى اللّه عليه وسلم-: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، __________ (١) جرى أهل السير والمغازى على تسمية كل حرب حضرها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بغزوة، وما لم يحضرها بسرية أو بعثا. (٢) سورة الحج: ٣٩. (٣) قلت: هو عند النسائى (٦/ ٢) فى الجهاد، باب: وجوب الجهاد، من قول ابن عباس رضى اللّه عنهما-. وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وهذا على قول من قال: فتحت مكة عنوة. وكانت سراياه التى بعث فيها سبعا وأربعين سرية. وقيل: إنه قاتل فى بنى النضير. وأفاد فى فتح البارى: أن السرية- بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية- هى التى تخرج بالليل- والسارية: التى تخرج بالنهار. قال: وقيل سميت بذلك- يعنى السرية- لأنه يحفى ذهابها. وهذا يقتضى أنها أخذت من السر، ولا يصح، لاختلاف المادة. وهى قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهى من مائة إلى خمسمائة، فما زاد على خمسمائة يقال له منسر- بالنون ثم المهملة- فإن زاد على الثمانمائة سمى جيشا، [وما بينهما يسمى هبطة](١) ، فإن زاد على أربعة آلاف سمى جحفلا، والخميس: الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثا، والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر، انتهى ملخصا. وكان أول بعوثه- صلى اللّه عليه وسلم- على رأس سبعة أشهر، فى رمضان، وقيل فى ربيع الأول سنة اثنتين. بعث عمه حمزة، وأمره على ثلاثين رجلا من المهاجرين. وقيل من الأنصار، وفيه نظر، لأنه لم يبعث أحدا من الأنصار حتى غزا بهم بدرا، لأنهم شرطوا له أن يمنعوه فى دارهم. فخرجوا يعترضون عيرا لقريش، فيها أبو جهل اللعين، فلقيه فى ثلاثمائة راكب فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فلما تصافوا حجز بينهم مجدى بن عمرو الجهنى، وكان- عليه السّلام- قد عقد له لواء أبيض. (واللواء هو العلم الذى يحمل فى الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم المعسكر) . وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية، لكن روى __________ (١) ليست فى الأصل، وهى زياة من (الفتح) (٨/ ٧٠) للحافظ ابن حجر. أحمد والترمذى عن ابن عباس: كانت راية رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سوداء، ولواؤه أبيض (١) ، ومثله عند الطبرانى عن بريدة، وعند ابن عدى عن أبى هريرة وزاد: مكتوب فيه لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه. وهو ظاهر فى التغاير، لعل التفرقة بينهما عرفية. وذكر ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة: أن أول ما حدثت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية. انتهى. ثم سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ، فى شوال، على رأس ثمانية أشه ر، فى ستين رجلا، وعقد له لواء أبيض، حمله مسطح بن أثاثة، يلقى أبا سفيان بن حرب. وكان على المشركين- وقيل مكرز بن حفص، وقيل عكرمة بن أبى جهل- فى مائتين، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبى وقاص رمى بسهم، فكان أول سهم رمى فى الإسلام (٢) . وقال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة- فيما بلغنا- أول راية عقدت فى الإسلام، وبعض الناس يقول: راية حمزة. قال: وإنما أشكل أمرهما لأنه عليه الصلاة والسلام- بعثهما معا، فاشتبه ذلك على الناس. انتهى. وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر، لكن يحتمل أن يكون- صلى اللّه عليه وسلم- عقد رايتيهما معا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية، لأمر اقتضاه، واللّه أعلم. ثم سرية سعد بن أبى وقاص إلى الخرار- بخاء معجمة وراءين مهملتين، وهو واد بالحجاز يصب فى الجحفة- وكان ذلك فى ذى القعدة، على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواء أبيض، حمله المقداد بن عمرو، فى __________ (١) حسن: أخرجه الترمذى (١٦٨١) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الرايات، وابن ماجه (٢٨١٨) فى الجهاد، باب: الرايات والألوية. (٢) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (١/ ٥٩٥ و ٥٩٦) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٧) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٢/ ٣٣٨ و ٣٣٩) . عشرين رجلا، يعترض عيرا لقريش، فخرجوا على أقدامهم، فصبحوها صبح خامسة فوجدوا العير قد مرت بالأمس (١) . ثم غزوة ودان، وهى الأبواء (٢) ، وهى أول مغازيه، كما ذكره ابن إسحاق وغيره. وفى البخارى: أن أولها الأبواء. خرج- صلى اللّه عليه وسلم- فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة، يريد قريشا، فى ستين رجلا، وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب. فكانت الموادعة- أى المصالحة- على أن بنى ضمرة لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا، ولا يعينون عليه عدوّا. واستعمل على المدينة سعد بن عبادة) . وليس بين ما وقع فى سيرة ابن إسحاق وبين ما نقله عنه البخارى اختلاف، لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية. ثم غزوة بواط- بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره مهملة- وهى الثانية، غزاها- صلى اللّه عليه وسلم- فى شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة، حتى بلغها من ناحية رضوى- بفتح الراء وسكون المعجمة، مقصور- فى مائتين من أصحابه، يعترض عيرا لقريش فيهم أمية بن خلف الجمحى واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون. فرجع ولم يلق كيدا، أى حربا، قال ابن الأثير: والكيد الاحتيال والاجتهاد، وبه سميت الحرب كيدا (٤) . __________ (١) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (١/ ٦٠٠) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٧) ، والخرار: من أودية المدينة، وقيل: إنه آبار عن يسار المحجة قريب من خم. (٢) الأبواء: قرية من عمل القرح، بينها وبين الجحفة ثلاثة وعشرون ميلا. (٣) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (١/ ٥٩١) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٨) ، والطبرى فى (تاريخه) (٢/ ٢٥٩) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٢/ ٣٥٢) . (٤) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (١/ ٥٩٨) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٨ و ٩) ، والطبرى فى (تاريخه) (٢/ ٢٦٠ و ٢٦١) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٢/ ٣٦١) . ثم غزوة العشيرة- بالشين المعجمة، والتصغير، آخره هاء. لم يختلف أهل المغازى فى ذلك، وفى البخارى: العشيراء، العسيرة، والأولى بالمعجمة بلا هاء، والثانية: بالمهملة وبالهاء- وأما غزوة العسرة- بالمهملة بغير تصغير- فهى غزوة تبوك، وستأتى إن شاء اللّه تعالى. ونسبت هذه إلى المكان الذى وصلوا إليه، وهو موضع لبنى مدلج بينبع (١) . وخرج إليها- صلى اللّه عليه وسلم- فى جمادى الأولى- وقيل: الآخرة- على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة، فى خمسين ومائة رجل- وقيل فى مائتى رجل- ومعهم ثلاثون بعيرا يتعقبونها، وحمل اللواء- وكان أبيض- حمزة، يريد عير قريش التى صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة. فخرج إليها ليغنمها فوجدها قد مضت. ووداع بنى مدلج من كنانة (٢) . وكانت نسخة الموادعة فيما ذكره غير ابن إسحاق. بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول اللّه لبنى ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم أن لا يحاربوا فى دين اللّه ما بل بحر صوفة، وأن النبى إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة اللّه ورسوله. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد. ثم غزوة بدر الأولى. قال ابن إسحاق: ولما رجع- عليه الصلاة والسلام- أى: من غزوة العشيرة- لم يقم إلا ليالى، وقال ابن حزم: بعد العشيرة بعشرة أيام، حتى أغار كرز بن جابر الفهرى على سرح المدينة، __________ (١) ينبع: قرية كبيرة بها حصن على بعد سبع مراحل من المدينة. (٢) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (١/ ٥٩٨ و ٦٠٠) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٩ و ١٠) ، والطبرى فى (تاريخه) (٢/ ٢٦٠ و ٢٦١) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٢/ ٣٦١) . فخرج النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى طلبه حتى بلغ سفوان- بفتح المهملة والفاء- موضع من ناحية بدر، ففاته كرز بن جابر. وتسمى بدرا الأولى (١) . قال ابن هشام: واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء على ابن أبى طالب- رضى اللّه تعالى عنه-. ثم سرية أمير المؤمنين عبد اللّه بن جحش فى رجب على رأس سبعة عشر شهرا، وكان معه ثمانية- وقيل اثنا عشر- من المهاجرين، إلى نخلة على ليلة من مكة، فى رجب يترصد قريشا، فمرت بهم عيرهم تحمل زبيبا وأدما من الطائف، فيها عمرو بن الحضرمى، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن فى آخر يوم من رجب، فإن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر، وإن تركناهم الليلة دخلوا حرمة مكة، فأجمعوا على قتلهم فقتلوا عمرا واستأسروا عثمان بن عبد اللّه والحكم بن كيسان، وهرب من هرب، واستاقوا العير، وكانت أول غنيمة فى الإسلام، فقسمها ابن جحش، وعزل الخمس من ذلك قبل أن يفرض، وي قال: بل قدموا بالغنيمة كلها. فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام) فأخر الأسيرين والغنيمة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائمها. وتكلمات قريش: إن محمدا سفك الدماء، وأخذ المال فى الشهر الحرام، فأنزل اللّه تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ.. (٢) الآية. وفى ذلك يقول عبد اللّه بن جحش: تعدون قتلا فى الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى ذاك راشد صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به واللّه راء وشاهد سقينا من ابن الحضرمى رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد وبعثت قريش إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى فداء الأسيرين، وهما: عثمان __________ (١) انظر ابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ٩) . (٢) سورة البقرة ٢١٧. ابن عبد اللّه والحكم بن كيسان، ففاداهما رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا،وأما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا (١) . ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وكان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى إلى بيت المقدس بالمدينة ستة عشر شهرا (٢) . وقيل سبعة عشر، وقيل ثمانية عشر شهرا. وقال الحربى: قدم- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة فى ربيع الأول، فصلى إلى بيت المقدس تمام السنة وصلى من سنة اثنين ستة أشهر. ثم حولت القبلة. وقيل: كان تحويلها فى جمادى، وقيل: كان يوم الثلاثاء فى نصف شعبان، وقيل يوم الإثنين نصف رجب. وظاهر حديث البراء فى البخارى: أنها كانت صلاة العصر (٣) . ووقع عند النسائى من رواية سعيد بن المعلى: أنها الظهر. وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثانى، كما فى الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح إذ جاءهم آت ف قال: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة (٤) . __________ (١) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (١/ ٦٠١ و ٦٠٤) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ١٠ و ١١) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٢/ ٣٦٤ و ٣٧١) . (٢) صحيح: وانظر الخبر فى صحيح البخارى (٤١) فى الإيمان، باب: الصلاة من الإيمان، ومسلم (٥٢٥) فى المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، من حديث البراء ابن عازب- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: انظر ما قبله. (٤) صحيح: أخرجه البخارى (٤٠٣) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القبلة ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة، ومسلم (٥٢٦) فى المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة. وفى هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله، لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء واللّه أعلم. وروى الطبرى عن ابن عباس- رضى اللّه عنهما-: لما هاجر- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره اللّه تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية (١) . قال فى فتح البارى وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة. لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس- رضى اللّه عنهما-: كان- صلى اللّه عليه وسلم- يصلى بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه (٢) ، قال: والجمع بينهما ممكن: بأن يكون أمر لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس. وأخرج الطبرى أيضا من طريق ابن جريج قال: صلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر، فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه اللّه إلى الكعبة (٣) . وقوله فى حديث ابن عباس الأول: (أمره اللّه تعالى) يرد قول من قال: إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد. وعن أبى العالية: أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب. وهذا لا ينفى أن يكون بتوقيف. واختلفوا فى المسجد الذى كان يصلى فيه: فعند ابن سعد فى الطبقات: أنه صلى ركعتين من الظهر فى مسجده __________ (١) أخرجه ابن جرير الطبرى فى (تفسيره) (١/ ٥٠٢) ، (٢/ ٥ و ٢٠) . (٢) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٣٢٥) . (٣) مرسل: أخرجه ابن جرير فى (تفسيره) (٢/ ٥) عن ابن جريج مرسلا. بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون. وي قال: إنه- صلى اللّه عليه وسلم- زار أم بشر بن البراء بن معرور فى بنى سلمة، فصنعت له طعاما، وكانت الظهر، فصلى- عليه الصلاة والسلام- بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستدار، إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمى مسجد القبلتين. قال ابن سعد قال الواقدى: هذا عندنا أثبت (١) . ولما حول اللّه تعالى القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار واليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وشك، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، أى: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا، فأنزل اللّه جوابهم فى قوله قُلْ للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (٢) . أى الحكم والتصرف، والأمر كله للّه، فحيثما توجهنا فالطاعة فى امتثال أمره، ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وفى تصريفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا. وللّه تعالى بنبينا- عليه السّلام- وبأمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة خليله، قال- عليه السّلام- فيما رواه أحمد من حديث عائشة- رضى اللّه عنها-: إن اليهود لا يحسدوننا على شىء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التى هدانا اللّه إليها وضلوا عنها. وعلى القبلة التى هدانا اللّه إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين (٣) . وقال بعض المؤمنين: فكيف صلاتنا التى صليناها نحو بيت المقدس؟ وكيف من مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل اللّه وَما كانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ (٤) . __________ (١) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (١/ ١٨٦) . (٢) سورة البقرة: ١٤٢. (٣) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٦/ ١٣٤) . (٤) سورة البقرة: ١٤٣. وقيل قالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضى قومه، ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبى الذى ننتظر أن يأتى. فأنزل اللّه تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ (١) . يعنى أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن اللّه سيوجهك إليها بما فى كتبهم عن أنبيائهم. ثم فرض صيام شهر رمضان، بعد ما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر، فى شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه- صلى اللّه عليه وسلم-. وزكاة الفطر قبل العيد بيومين: أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من زبيب، أو صاع من شعير أو صاع من بر، وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال. وقيل إن زكاة الأموال فرضت فيها، وقيل: قبل الهجرة واللّه أعلم. ثم غزوة بدر الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية، وبدر القتال. وهى قرية مشهورة، نسبت إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، كان نزلها، وقيل: بدر بن الحارث، حافر بئرها، وقيل بدر اسم البئر التى بها سميت لاستدارتها، أو لصفائها ورؤية البدر فيها. وقال ابن كثير: وهو يوم الفرقان، والذى أعز اللّه فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله، وهذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد، والعدة الكاملة، والخيول المسومة، والخيلاء الزائدة، فأعز اللّه تعالى رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبى صلى اللّه عليه وسلم- وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنّا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ (٢) . أى قليل عددكم، لتعلموا أن النصر إنما هو من عند اللّه، لا بكثرة العدد والعدد. انتهى. __________ (١) سورة البقرة: ١٤٤. (٢) سورة آل عمران: ١٢٣. فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام، إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الآفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل اللّه الكفار، وأعز من حضرها من المسلمين، فهو عنده من الأبرار. وكان خروجهم يوم السبت لثنتى عشرة خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، ويقال: لثمان خلون منه. قاله ابن هشام. واستخلف أبا لبابة الأنصارى. وخرج معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكان عدة من خرج معه ثلاثمائة وخمسة، وثمانية لم يحضروها، إنما ضرب لهم بسهمهم وأجرهم فكانوا كمن حضرها. وكان معهم ثلاثة أفراس: (بعزجة) فرس المقداد، و (العيسوب) فرس الزبير وفرس لمرثد الغنوى، لم يكن لهم خيل يومئذ غير هذه، وكان معهم سبعون بعيرا. وكان المشركون ألفا وي قال: تسعمائة وخمسون رجلا، معهم مائة فرس، وسبعمائة بعير. وكان قتالهم يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، وقيل يوم الإثنين وقيل غير ذلك. وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال اللّه تعالى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللّه أَمْراً كانَ مَفْعُولًا (١) . وإنما قصد- صلى اللّه عليه وسلم- والمسلمون التعرض لعير قريش. وذلك أن أبا سفيان كان بالشام فى ثلاثين راكبا منهم عمرو بن العاصى، فأقبلوا فى قافلة عظيمة، فيها أموال قريش، حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ذلك، فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو، و قال: (هذه عير لقريش فيها أموال فاخرجوا إليها، لعل اللّه أن ينفلكموها) . __________ (١) سورة الأنفال: ٤٢. فلما سمع أبو سفيان بسيره- عليه السّلام-، استأجر ضمضم بن عمرو الغفارى أن يأتى قريشا بمكة، فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم فى أصحابه. فنهضوا فى قريب من ألف ولم يتخلف أحد من أشراف قريش إلا أبا لهب، وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة. وخرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى أصحابه، حتى بلغ الروحاء، فأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم، فاستشار النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الناس فى طلب العير، أوحرب النفير، و قال: (إن اللّه وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش) وكانت العير أحب إليهم. فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو، ف قال: يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه فنحن معك، واللّه لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إناها هنا قاعدون (١) . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا برك الغماد- يعنى مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له- صلى اللّه عليه وسلم-: (خيرا) ودعا له بخير. ثم قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أيها الناس أشيروا على) وإنما يريد الأنصار. لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول اللّه إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك- صلى اللّه عليه وسلم-: قال له سعد بن معاذ: واللّه لكأنك تريدنا يا رسول اللّه. قال: (أجل) . __________ (١) إشارة إلى الآية (٢٤) ، من سورة المائدة. فلما سمع أبو سفيان بسيره- عليه السّلام-، استأجر ضمضم بن عمرو الغفارى أن يأتى قريشا بمكة، فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم فى أصحابه. فنهضوا فى قريب من ألف ولم يتخلف أحد من أشراف قريش إلا أبا لهب، وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة. وخرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى أصحابه، حتى بلغ الروحاء، فأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم، فاستشار النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الناس فى طلب العير، أوحرب النفير، و قال: (إن اللّه وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش) وكانت العير أحب إليهم. فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو، ف قال: يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه فنحن معك، واللّه لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إناها هنا قاعدون (١) . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا برك الغماد- يعنى مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له- صلى اللّه عليه وسلم-: (خيرا) ودعا له بخير. ثم قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (أيها الناس أشيروا على) وإنما يريد الأنصار. لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول اللّه إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك- صلى اللّه عليه وسلم-: قال له سعد بن معاذ: واللّه لكأنك تريدنا يا رسول اللّه. قال: (أجل) . __________ (١) إشارة إلى الآية (٢٤) ، من سورة المائدة. الذى قال ذلك: سعد بن عبادة سيد الخزرج، وإنما يعرف ذلك عن سعد بن معاذ، كذا رواه ابن إسحاق وغيره. واختلف فى شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق فى البدريين، وذكره الواقدى والمدائنى وابن الكلبى منهم. انتهى. ثم ارتحل- صلى اللّه عليه وسلم- قريبا من بدر، ونزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادى، ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر فأحرزوه، وحفروا القلب لأنفسهم. وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب، وأصابهم الظمأ، وهم لا يصلون إلى الماء، ووسوس الشيطان لبعضهم و قال: تزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبى اللّه. وأنكم أولياء اللّه، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم عطاش، وتصلون محدثين مجنبين، وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم ويذهب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤا. فأرسل اللّه عليهم مطرا سال منه الوادى، فشرب المسلمون واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام. وزالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم، فذلك قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (١) . أى من الأحداث والجنابة وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ (٢) أى وسوسته وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ (٣) . بالصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (٤) . حتى لا تسوخ فى الرمل، بتلبيد الأرض. وبنى لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عريش فكان فيه. ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعا إلى المبارزة، فخرج فتية من الأنصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث __________ (١) سورة الأنفال: ١١. (٢) سورة الأنفال: ١١. (٣) سورة الأنفال: ١١. (٤) سورة الأنفال: ١١. - وأمهما عفراء- وعبد اللّه بن رواحة. فقالوا من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، فقالوا ما لنا بكم من حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج لنا أكفاءنا من قومنا. فقال- صلى اللّه عليه وسلم- قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا على. فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم؟ فتسموا لهم، فقالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة- وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز على الوليد بن عتبة. فقتل على الوليد. هكذا ذكره ابن إسحاق. وعند موسى بن عقبة- كما نقله فى فتح البارى- برز حمزة لعتبة، وعبيدة لشيبة وعلى للوليد. ثم اتفقا: فقتل على الوليد، وقتل حمزة الذى بارزه، واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة فى ركبة عبيدة ومال على وحمزة على الذى بارزه عبيدة فأعاناه على قتله. وعند الحاكم، من طريق عبد خير عن على: مثل قول موسى بن عقبة. وعند أبى الأسود عن عروة مثله. وأورد ابن سعد من طريق عبيدة السلمانى: أن شيبة لحمزة، وعبيدة لعتبة، وعليّا للوليد، ثم قال: الثابت أن عتبة لحمزة، وشيبة لعبيدة. وأخرج أبو داود عن على قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه، فنادى: من يبارز فانتدب له شبان من الأنصار، ف قال: من أنتم؟ فأخبروه، ف قال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بنى عمنا، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (قم يا حمزة، قم يا على، قم يا عبيدة) فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة (١) . __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٦٦٥) فى الجهاد، وباب: فى المبارزة، والبيهقى فى (الكبرى) (٣/ ٣٧٦) (٩/ ١٣١). قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات، لكن الذى فى السير من أن الذى بارزه على هو الوليد هو المشهور وهو اللائق بالمقام، لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف على والوليد فكانا شابين. وقد روى الطبرانى بإسناد حسن عن على قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة ابن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- علينا ذلك. وهذا موافق لرواية أبى داود. واللّه أعلم. انتهى. قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض. ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى العريش ومعه أبو بكر، ليس معه فيه غيره، وهو- صلى اللّه عليه وسلم- يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول: (اللّهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد فى الأرض أبدا) . وأبو بكر يقول: يا رسول اللّه، خل بعض مناشدتك ربك، فإن اللّه منجز لك ما وعدك (١) . وعند سعيد بن منصور من طريق عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال- عليه السّلام- وهو فى صلاته: (اللّهم لا تخذلنى، اللّهم أنشدك ما وعدتنى) (٢) . وروى النسائى والحاكم عن على قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت فإذا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يقول فى سجوده: (يا حى، يا قيوم) فرجعت وقاتلت ثم جئت فوجدته كذلك (٣) . وفى الصحيح: أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لما كان يوم بدر فى العريش مع الصديق، أخذت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سنة من النوم ثم استيقظ متبسما، ف __________ (١) صحيح: والحديث: أخرجه مسلم (١٧٦٣) فى الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر، والترمذى (٣٠٨١) فى التفسير، باب: ومن سورة الأنفال، وأحمد فى (مسنده) (١/ ٣٠ و ٣٢) ، من حديث عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه-. (٢) ذكره الحافظ فى (الفتح) (٧/ ٢٨٨، ٢٨٩) وعزاه لسعيد بن منصور. (٣) أخرجه النسائى فى (الكبرى) (١٠٤٤٧) ، والحاكم فى (المستدرك) (١/ ٣٤٤) . قال: (أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع) ثم خرج من باب العريش وهو يتلو سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (١) (٢) . فإن قلت: كيف جعل أبو بكر يأمره- عليه الصلاة والسلام- بالكف عن الاجتهاد فى الدعاء ويقوى رجاءه ويثبته، ومقام الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- هو المقام الأحمد، ويقينه فوق يقين كل أحد؟ أجاب السهيلى نقلا عن شيخه: بأن الصديق فى تلك الساعة كان فى مقام الرجاء، والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى مقام الخوف، لأن للّه تعالى أن يفعل ما يشاء، فخاف ألايعبد اللّه فى الأرض، فخوفه ذلك عبادة. انتهى. وقال الخطابى: لا يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبى صلى اللّه عليه وسلم- فى تلك الحالة، بل الحامل للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، فبالغ فى التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال، كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر فى نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقبه بقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) . وقال غيره: وكان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى تلك الحالة فى مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده ألايقع النصر يومئذ، لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. هذا هو الذى يظهر من بادىء الرأى. وإنما قال- صلى اللّه عليه وسلم-: (اللّهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد اليوم) (٤) لأنه علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ، لا يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان. __________ (١) سورة القمر: ٤٥. (٢) صحيح: وهو عند البخارى (٢٩١٥) فى الجهاد والسير، باب: ما قيل فى درع النبى صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-، إلا أنه فيه بلفظ غريب من ذلك (٣) سورة القمر: ٤٥. (٤) صحيح: وقد تقدم قريبا. وأما شدة اجتهاده- عليه الصلاة والسلام- ونصبه فى الدعاء، فإنه رأى الملائكة تنصب فى القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار اللّه يخوضون غمرات الموت. والجهاد على ضربين جهاد بالسيف وجهاد بالدعاء، ومن سنة الإمام أن يكون وراء الجند لا يقاتل معه، فكان الكل فى جهاد واجتهاد، ولم يكن ليريح نفسه من أحد الجدين والجهادين وأنصار اللّه وملائكته يجتهدون، ولا ليؤثر الدعة وحزب اللّه مع أعدائه يجتلدون. انتهى. وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال عمر بن الخطاب: (لما كان يوم بدر نظر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا دخل العريش، فاستقبل القبلة ثم مد يديه، وجعل يهتف بربه: (اللّهم أنجز لى ما وعدتنى) ... فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه و قال: يا نبى اللّه كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل اللّه تعالى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ (١) . مرسل إليكم مدادا لكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٢)(٣) . أى متتابعين بعضهم فى إثر بعض. وعلى قراءة فتح الدال معناه: أردف اللّه المسلمين وجاءهم بهم مدادا. وفى الآية الآخرى بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (٤) . فقيل معناه: إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف. فكان الأكثر مدادا للأقل، وكان الألف مردفين بمن وراءهم. والألف هم الذين قاتلوا مع المؤمنين، وهم الذين قال لهم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (٥) . وكانوا فى صور الرجال، ويقولون للمؤمنين: اثبتوا فإن عدوكم قليل وإن اللّه معكم. وقال الربيع بن أنس: أمد اللّه المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف. __________ (١) سورة الأنفال: ٩. (٢) سورة الأنفال: ٩. (٣) صحيح: والخبر عند مسلم (١٧٦٣) وقد تقدم قريبا. (٤) سورة آل عمران: ١٢٤. (٥) سورة الأنفال: ١٢. وقال سعيد بن أبى عروبة عن قتادة: أمد اللّه المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف. وعن عامر الشعبى: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين فشق عليهم، فأنزل اللّه: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ إلى قوله: مُسَوِّمِينَ (١) ، قال: فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين، ولم تمد المسلمون بالخمسة. وعن ابن عباس- رضى اللّه عنهما-: جاء إبليس يوم بدر فى جند من الشياطين، معه رايته، فى صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم، فلما أقبل جبريل والملائكة كانت يده فى يد رجل من المشركين فانتزع يده ثم نكص على عقبيه، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك جار؟ فقال إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف اللّه واللّه شديد العقاب (٢) . وروى أن جبريل نزل فى خمسمائة وميكائيل فى خمسمائة فى صورة الرجال على خيل بلق، عليهم ثياب بيض، وعلى رؤسهم عمائم بيض، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم. وقال ابن عباس: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين: عمائم خضر (٣) . وعن على: كانت سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكانت سيماهم أيضا فى نواصى خيلهم (٤) . رواه ابن أبى حاتم. وروى ابن مردويه عن ابن عباس رفعه، فى قوله تعالى: __________ (١) سورة آل عمران: ١٢٤، ١٢٥. (٢) ذكر هذه القصة أيضا الحافظ ابن كثير فى (تفسيره) (٢/ ٣١٨) . (٣) انظر: المصدر السابق (١/ ٤٠٣) . (٤) انظر المصدر السابق (١/ ٤٠٢) . مُسَوِّمِينَ (١) . قال: معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم حنين عمائم خضر (٢) . وروى ابن أبى حاتم عن الزبير: أن الملائكة نزلت وعليهم عمائم صفر. قيل: ولم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا، وبذلك صرح العماد بن كثير فى تفسيره ف قال: المعروف من قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، ثم روى عن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر (٣) . وقال ابن مرزوق: ولم تكن تقاتل فى غيرها بل يحضرون خاصة على المختار من الأقوال عند بعضهم. وفى نهاية البيان فى تفسير القرآن عند تفسير قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ (٤) . وهل قاتلت الملائكة يومئذ أم لا؟ فيه قولان: أحدهما- وهو قول الجمهور- أنها لم تقاتل، انتهى. وهذا يرده حديث مسلم فى صحيحه عن سعد بن أبى وقاص أنه رأى عن يمين رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد- يعنىجبريل وميكائيل- عليهما الصلاة والسلام- يقاتلان كأشد القتال (٥) . قال النووى: فيه بيان إكرامه- صلى اللّه عليه وسلم- بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن قتالهم لم يختص بيوم بدر. قال: وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم __________ (١) سورة آل عمران: ١٢٥. (٢) انظر المصدر السابق (١/ ٤٠٢) . (٣) انظر المصدر السابق (١/ ٤٠٣) . (٤) سورة التوبة: ٢٥. (٥) صحيح: أخرجه البخارى (٥٨٢٦) فى اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (٢٣٠٦) فى الفضائل، باب: فى قتال جبريل وميكائيل عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يوم أحد، واللفظ لمسلم. اختصاصه، فهذا صريح فى الرد عليه. وفيه أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بل يراهم الصحابة والأولياء. انتهى. قال ابن الأنبارى: وكانت الملائكة لا تعلم كيف تقتل الآدميون، فعلمهم اللّه تعالى بقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ (١) . أى الرؤس وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (٢) . قال ابن عطية: كل مفصل. قال السهيلى: جاء فى التفسير أنه ما وقعت ضربة يوم بدر إلا فى رأس أو مفصل، وكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم باثار سود فى الأعناق والبنان. وعن ابن عباس قال: حدثنى رجل من بنى غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لى حتى صعدنا على جبل يشرف على بدر- ونحن مشركان- ننظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننهب مع من ينهب، فبينما نحن فى الجبل إذ دنت منا سحابة فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمى فانكشف قناع قلبه فمات مكانه فى الحال. وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت. رواه البيهقى وأبو نعيم. والدبرة: - بسكون الموحدة- الهزيمة فى القتال. وحيزوم: اسم فرس جبريل. قاله فى القاموس. وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف (٣) .. رواه الحاكم وصححه والبيهقى وأبو نعيم. قال الشيخ تقى الدين السبكى: سئلت عن الحكمة فى قتال الملائكة مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه. __________ (١) سورة الأنفال: ١٢. (٢) سورة الأنفال: ١٢. (٣) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٤٦٣) ، و قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش، رعاية لصور الأسباب وسنتها التى أجراها اللّه تعالى فى عباده، واللّه فاعل الجميع انتهى. ولما التقى الجمعان، تناول رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كفّا من الحصباء، فرمى به فى وجوههم و قال: (شاهت الوجوه) . فلم يبق مشرك إلا دخل فى عينيه ومنخريه منها شىء فانهزموا وقتل اللّه من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فى قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّه رَمى (١) . قال: هذا يوم بدر، أخذ- صلى اللّه عليه وسلم- ثلاث حصيات، فرمى بحصاة فى ميمنة القوم وبحصاة فى ميسرة القوم، وبحصاة بين أظهرهم، و قال: (شاهدت الوجوه) فانهزموا (٢) . وقد روى عن غير واحد: أن هذه الآية نزلت فى رميه- صلى اللّه عليه وسلم- يوم بدر، وإن كان فعل ذلك يوم حنين أيضا كما سيأتى- إن شاء اللّه تعالى-. وقد اعتقد جماعة: أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه، وإضافته إلى الرب تعالى: وجعلوا ذلك أصلا فى الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده. وهذا غلط منهم فى فهم القرآن، ولو صح ذلك لوجب طرده، في قال: ما صليت إذ صليت، ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كذا إذ فعلت ولكن اللّه فعل ذلك، فإن طردوا ذلك لزمهم فى أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق، وإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو برميه وحده ناقضوا. فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية. __________ (١) سورة الأنفال: ١٧. (٢) ذكره الحافظ ابن كثير فى (تفسيره) (٢/ ٢٩٦) و قال: وقد روى فى هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت فى رمية النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يوم بدر، وإن كان قد دخل ذلك يوم حنين أيضا. ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه- صلى اللّه عليه وسلم- مبدأ الرمى، وهو الحذف، ومن الرب تعالى نهايته وهو الإيصال، فأضاف إليه رمى الحذف الذى هو مبدؤه ونفى عنه رمى الإيصال الذى هو نهايته. ونظير هذا فى الآية نفسها قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ (١) . ثم قال: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّه رَمى (٢) . فأخبر أنه تعالى وحده هو الذى انفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى اللّه عليه وسلم-، ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتال والنصر مضافا إليه وبه خير الناصرين. قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن الأسدى يوم بدر بسيفه حتى انقطع فى يده، فأتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأعطاه جذلا من حطب فقال له قاتل به، فهزه فعاد فى يده سيفا طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به حتى فتح اللّه على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حتى قتل وهو عنده (٣) . وجاءه- عليه الصلاة والسلام- يومئذ- فيما ذكره القاضى عياض عن ابن وهب- معاذ بن عمرو يحمل يده، ضربه عكرمة عليها فتعلقت بجلدة، فبصق- صلى اللّه عليه وسلم- عليها فلصقت. قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان. وعن عروة بن الزبير، عن عائشة: لما أمر- صلى اللّه عليه وسلم- بالقتلى أن يطرحوا فى القليب، فطرحوا فيه. إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ فى درعه فملأها، فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة. وإنما ألقوا فى القليب ولم يدفنوا، لأنه- عليه الصلاة والسلام- كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم. __________ (١) سورة الأنفال: ١٧. (٢) سورة الأنفال: ١٧. (٣) ذكره ابن هشام فى (سيرته) (١/ ٦٣٧) عن ابن إسحاق بغير إسناد. وفى الطبرانى عن أنس بن مالك قال: أنشأ عمر بن الخطاب يحدثنا عن أهل بدر ف قال: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس من بدر، يقول: (هذا مصرع فلان غدا إن شاء اللّه) قال عمر: فو الذى بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التى حدها- صلى اللّه عليه وسلم-، حتى انتهى إليهم ف قال: يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعدكم اللّه ورسوله حقّا؟! فإنى وجدت ما وعدنى اللّه حقّا (١) . وفى رواية فنادى: يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام..، وفى بعضه نظر، لأن أمية بن خلف لم يكن فى القليب لأنه كان- كما تقدم- ضخما وانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه. لكن يجمع بينهما بأنه كان قريبا من القليب فنودى فيمن نودى لكونه كان من جملة رؤسائهم. وقال ابن إسحاق: حدثنى بعض أهل العلم أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (يا أهل القليب، بئس العشيرة كنتم، كذبتمونى وصدقنى الناس) (٢) . فقال عمر- رضى اللّه عنه-: يا رسول اللّه، كيف تكلم أجسادا لا روح فيها، ف قال: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا) (٣) . وتأولت عائشة ذلك فقالت: إنما أراد النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: إنهم الآن ليعلمون __________ (١) صحيح: أخرجه أبو داود (٢٦٨١) فى الجهاد، باب: فى الأسير ينال منه ويضرب، والنسائى (٤/ ١٠٨) فى الجنائز، باب: أرواح المؤمنين، وأحمد فى (مسنده) (١/ ٢٦) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٤٩٨) ، والطبرانى فى (الصغير) (١٠٨٥). (٢) أخرجه ابن هشام فى (السيرة) له (١/ ٦٣٩) عن ابن إسحاق، قال: حدثنى بعض أهل العلم أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فذكره، وهو مفصل، وأخرجه أحمد فى (مسنده) (٦/ ١٧٠) من حديث عائشة بنحوه، إلا أن فيه انقطاعا. (٣) صحيح: أخرجه مسلم (٢٨٧٤) فى الجنة، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه. أن الذى أقول لهم حق. ثم قرأت إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى (١) الآية، فقولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا، لقولها: إنهم الآن ليعلمون. وقال قتادة: أحياهم اللّه تعالى توبيخا وتصغيرا، ونقمة وحسرة. وفيه رد على من أنكر أنهم يسمعون، كما روى عن عائشة- رضى اللّه عنها-. ومن الغريب، أن فى المغازى- لابن إسحاق- من رواية يونس بن بكير، بإسناد جيد عن عائشة حديثا وفيه: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) . وأخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن. فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة. وقال الإسماعيلى: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه أواستحالته، فكيف والجمع بين الذى أنكرته وأثبته غيرها ممكن، لأن قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى (٢) . لا ينافى قوله- عليه السّلام-: (إنهم الآن ليسمعون) لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع فى أذن السامع، فاللّه تعالى هو الذى أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بذلك. وأما جوابها بأنه إنما قال: إنهم ليعلمون، فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافى رواية يسمعون بل يؤيدها. وقال السهيلى ما محصله: إن فى نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك لنبيه- صلى اللّه عليه وسلم- لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا؟! فأجابهم بما أجابهم. قال: وإذا جاز أن يكونوا فى تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما باذان رؤسهم إذا قلنا إن الروح تعاد إلى الجسد، أو إلى بعضه عند المسألة، وهو قول أكثر أهل السنة، وإماباذان القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد أو إلى بعضه. __________ (١) سورة النمل: ٨٠. (٢) سورة النمل: ٨٠. قال: وقد روى عن عائشة أنها احتجت بقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (١) . وهذه الآية كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ (٢) . أى إن اللّه هو الذى يهدى ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت. وجعل الكفار أمواتا وصمّا على جهة التشبيه بالأموات وبالصم، فاللّه هو الذى يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، لا نبيه ولا أحد، فإذا لا تعلق بالآية من وجهين: أحدهما: أنها إنما نزلت فى دعاء الكفار إلى الإيمان. الثانى: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق اللّه فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو، يفعل ما يشاء وهو على كل شىء قدير. انتهى ولقد أحسن العلامة ابن جابر حيث قال: بدا يوم بدر وهو كالبدر حوله ... كواكب فى أفق الكواكب تنجلى وجبريل فى جند الملائك دونه ... فلم تغن أعداد العدو المخذل رمى بالحصى فى أوجه القوم رمية ... فشردهم مثل النعام المجفل وجاد لهم بالمشرفى فسلموا ... فجاد له بالنفس كل مجندل عبيدة سل عنهم وحمزة واستمع ... حديثهم فى ذلك اليوم من على فهم عتبوا بالسيف عتبة إذ غدا ... فذاق الوليد الموت ليس له ولى وشيبة لما شاب خوفا تبادرت ... إليه العوالى بالخضاب المعجل وجال أبو جهل فحقق جهله ... غداة تردى بالردى عن تذلل فأضحى قليبا فى القليب وقومه ... يؤمونه فيها إلى شر منهل وجاء لهم خير الأنام موبخا ... ففتح من أسماعهم كل مقفل وأخبر ما أنتم بأسمع منهم ... ولكنهم لا يهتدون لمقول سلا عنهم يوم السلا إذ تضاحكوا ... فعاد بكاء عاجلا لم يؤجل ألم يعلموا علم اليقين بصدقه ... ولكنهم لا يرجعون لمعقل __________ (١) سورة فاطر: ٢٢، ٢٣. (٢) سورة الزخرف: ٤٠. فيا خير خلق اللّه جاهك ملجئى ... وحبك ذخرى فى الحساب وموئلى عليك صلاة يشمل الآل عرفها ... وأصحابك الأخيار أهل التفضل وحكى العلامة ابن مرزوق: أن ابن عمر- رضى اللّه عنهما- مر مرة ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فلما اجتاز به ناداه: يا عبد اللّه، قال ابن عمر، - رضى اللّه عنهما-: فلا أدرى أعرف اسمى أم كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبد اللّه، فالتفت إليه، ف قال: اسقنى، فأردت أن أفعل، فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبد اللّه، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ببدر (١) . ورواه الطبرانى فى الأوسط. قال: ومن آيات بدر الباقية، ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون كهيئة طبل ملوك الوقت، ويرون أن ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك، وربما تأولته بأن الموضع لعله صلب فتستجيب فيه حوافر الدواب، فكان يقال لى: إنه دهس رمل غير صلب، وغالب ما يسير هناك الإبل وأخفافها لا تصوت فى الأرض الصلبة، فكيف بالرمال؟ قال ثم لما منّ اللّه عليه بالوصول إلى ذلك الموضع المشرف، نزلت عن الراحلة أمشى وبيدى عود طويل من شجر السعدان المسمى بأم غيلان، وقد نسيت ذلك الخبر الذى كنت أسمع، فما راعنى وأنا أسير فى الهاجرة إلا وواحد من عبيد الأعراب الجمالين يقول: أتسمعون الطبل، فأخذتنى- لما سمعت كلامه- قشعريرة بينة وتذكرت ما كنت أخبرت به، وكان فى الجو بعض ريح، فسمعت صوت الطبل، وأنا دهش مما أصابنى من الفرح أو الهيبة، أو ما اللّه أعلم به، فشككت، وقلت: لعل الريح سكنت فى هذا العود الذى فى يدى وحدث مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه الآية العظيمة، فألقيت العود من يدى، وجلست على الأرض، أو ثبت قائما، أو فعلت جميع ذلك، فسمعت صوت الطبل سماعا محققا، __________ (١) ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣/ ٥٧) و قال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عبد اللّه بن محمد بن المغيرة وهو ...... أو صوتا لا أشك فيه أنه صوت طبل، وذلك من ناحية اليمين ونحن سائرون إلى مكة المشرفة، ثم نزلنا إلى بدر، فظللت أسمع ذلك الصوت يومى أجمع المرة بعد المرة. قال: لقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس اه. وروى الطبرانى من حديث أبى اليسر) ، أنه أسر العباس، وقيل للعباس- وكان جسيما- كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم، ولو شئت لجعلته فى كفك، ف قال: ما هو إلا أن لقيته فظهر فى عينى كالخندمة- وهى بالخاء المعجمة- جبل من جبال مكة، قاله فى القاموس. ولما ولى عمر بن الخطاب وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه النبى صلى اللّه عليه وسلم- وهو يئن فلم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار، فأطلقوا العباس، فكأن الأنصار فهموا رضا رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- بفك وثاقه، وسألوه أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم. وفى حديث أنس عند الإمام أحمد: استشار- صلى اللّه عليه وسلم- الناس فى الأسرى يوم بدر ف قال: (إن اللّه قد أمكنكم منهم) . فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول اللّه، أضرب أعناقهم، فأعرض عنه- عليه السّلام-، ثم عاد- صلى اللّه عليه وسلم- ف قال: (يا أيها الناس، إن اللّه قد أمكنكم منهم) . فقال عمر: يا رسول اللّه، أضرب أعناقهم، فأعرض عنه- عليه السّلام-، فعل ذلك ثلاثا، فقام أبو بكر فقال يا رسول اللّه، أرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فذهب من وجه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما كان فيه من الغم، فعفا وقبل منهم الفداء. قال: وأنزل اللّه لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّه سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً (٢) (٣) الآية. ويأتى __________ (١) صحابى جليل، شهد بدرا والشاهد، مشهور بكنيته، كان قصيرا دحداحا عظيم البطن، مات بالمدينة سنة (٥٥ هـ) . (٢) سورة الأنفال: ٦٨، ٦٩. (٣) أخرجه أحمد فى (مسنده) (٣/ ٢٤٣) . الكلام عليها فى النوع العاشر فى إزالة الشبهات من الآيات المشكلات من المقصد السادس- إن شاء اللّه تعالى-. وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس أنه- صلى اللّه عليه وسلم- قال: (يا عباس، افد نفسك وابنى أخيك، عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو) . قال إنى كنت مسلما ولكن القوم استكرهونى. قال: (اللّه تعالى أعلم بما تقول، إن يكن ما تقول حقّا فإن اللّه يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا) (١) . وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم كان أربعين أوقية ذهبا. وعند أبى نعيم فى الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس أنه جعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ فأنزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ (٢) . فقال العباس: وددت لو أخذ منى أضعافها لقوله تعالى يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ (٣) . وكان قد استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس (٤) . تنبيه: لا يقدح فى وعد اللّه أن استشهد هؤلاء الصحابة- رضى اللّه عنهم-، وإنما هذا الوعد كقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّه إلى قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٥) . فقد نجز الموعود وغلبوا كما وعدوا، فكان وعد اللّه مفعولا ونصره للمؤمنين ناجزا والحمد للّه. __________ (١) أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٣٥٣) ، وفى أوله قصة أبى اليسر المذكورة قبل قليل، إلا أنها فيه بلفظ آخر. (٢) سورة الأنفال: ٧٠. (٣) سورة الأنفال: ٧٠. (٤) انظر غزوة بدر فى (السيرة النبوية) لابن هشام (١/ ٦٠٦ و ٧١٥) و (٢/ ٤٣) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ١١ و ٢٧) ، والطبرى فى (تاريخه) (٢/ ٢٦٥) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٢/ ٣٨٠ و ٥١٥) . (٥) سورة التوبة: ٢٩. وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون، وكان من أفضلهم العباس ابن عبد المطلب، وعقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكل أسلم. وكان العباس- رضى اللّه عنه- فيما قاله أهل العلم بالتاريخ- قد أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (من لقى العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها، ففادى نفسه ورجع إلى مكة) . وقيل إنه أسلم يوم بدر، فاستقبل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الفتح بالأبواء، وكان معه حين فتح مكة، وبه ختمت الهجرة. وقيل أسلم يوم فتح خيبر. وقيل كان يكتم إسلامه وأظهره يوم فتح مكة، وكان إسلامه قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، وكان يحب القدوم على رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فكتب إليه- عليه الصلاة والسلام-: (إن مقامك بمكة خير لك) . وقيل إن سبب إسلامه، أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين، فأخذت منه فى الحرب، فكلم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى و قال: (أما شىء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك) ، فقال العباس تركتنى أتكفف قريشا، فقال له- صلى اللّه عليه وسلم-: (فأين الذهب الذى دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة)فقال العباس: وما يدريك؟ ف قال: (أخبرنى ربى) ف قال: أشهد أنك صادق، فإن هذا لم يطلع عليه أحد إلا اللّه، وأنا أشهد ألاإله إلا اللّه وأنك عبده ورسوله (١) . ولما فرغ- صلى اللّه عليه وسلم- من بدر فى آخر رمضان وأول يوم من شوال، بعث زيد بن حارثة بشيرا فوصل المدينة ضحى، وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية بنت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، وهذا هو الصحيح فى وفاة رقية. __________ (١) ذكره البغوى فى (تفسيره) (٢/ ٢٢١) . وقد روى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- شهد دفن بنته رقية، فقعد على قبرها ودمعت عيناه، وقال (أيكم لم يقارف الليلة) فقال أبو طلحة أنا، فأمره أن ينزلها قبرها (١) . وأنكر البخارى هذه الرواية، وخرج الحديث فى الصحيح فقال فيه: عن أنس. شهدنا دفن بنت رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وذكر الحديث ولم يسم رقية ولا غيرها. وذكر الطبرانى أنها أم كلثوم فحصل فى حديث الطبرانى التبيين. ومن قال: كانت رقية فقد وهم. وكان عثمان قد تخلف لأجل رقية وزوجته فضرب له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- بسهمه وأجره. وأمر- صلى اللّه عليه وسلم- عند انصرافه عاصم بن ثابت- وهو جد عاصم بن عمر ابن الخطاب- بقتل عقبة بن أبى معيط، فقتله صبرا. ثم أقبل- عليه السّلام- قافلا إلى المدينة ومعه الأسرى من المشركين، واحتمل النفل الذى أصيب منهم، وجعل عليه عبد اللّه بن كعب من بنى مازن. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل بين المسلمين على السواء. وأمر عليّا بالصفراء بقتل النضر بن الحارث. ثم مضى- صلى اللّه عليه وسلم- حتى قدم المدينة قبل الأسرى بيوم. فلما قدموا فرقهم بين أصحابه و قال: استوصوا بهم خيرا. وقد استقر الحكم فى الأسرى عند الجمهور من العلماء: أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل كما فعل- صلى اللّه عليه وسلم- ببنى قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الشافعى وطائفة من العلماء، وفى المسألة خلاف مقرر فى كتب الفقه واللّه أعلم. __________ (١) قلت: الخبر عند البخارى (١٢٨٥) فى الجنائز، باب: وما يرخص من البكاء من غير نوح، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، ولم يسم فيه رقية ولا غيرها، إلا أن شراح الحديث ذهبوا إلى أنها أم كلثوم زوجة عثمان بن عفان- رضى اللّه عنهما-. ولما قدم أبو سفيان بن الحارث من بدر لمكة، سأله أبو لهب عن خبر قريش. فقال: واللّه ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا، ويأسروننا كيف شاؤا، وايم اللّه- مع ذلك- ما لمت الناس. لقينا رجال بيض على خيل بلق (١) بين السماء والأرض، واللّه لا يقوم لها شىء. قال أبو رافع- مولى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وكان غلاما للعباس بن عبد المطلب قال: وكان الإسلام قد دخلنا- فقلت: واللّه تلك الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضربنى فى وجهى ضربة، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربت به فى رأس أبي لهب وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده. قال: فو اللّه ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه اللّه بالعدسة، وهى قرحة كانت العرب تتشاءم بها. وقيل إنها تعدى أشد العدوى، فتباعد عنه بنوه حتى قتله اللّه، وبقى بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه. فلما خافوا السبة فى تركه حفروا له ثم دفعوه بعود فى حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. وقال ابن عقبة: أقام النوح على قتلى قريش شهرا. ثم سرية عمير بن عدى الخطمى، وكانت لخمس ليال بقين من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة، إلى عصماء بنت مروان- زوج يزيد ابن زيد الخطمى- وكانت تعيب الإسلام، وتؤذى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فجاءها ليلا، وكان أعمى، فدخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه، فجسها بيده، ونحى الصبى عنها، ووضع سيفه على صدرها، حتى أنفذه من ظهرها. ثم صلى الصبح معه- صلى اللّه عليه وسلم- بالمدينة وأخبره بذلك، ف قال: (لا ينتطح فيها عنزان) (٢) أى لا يعارض فيها معارض ولا يسأل عنها فإنها هدر. __________ (١) البلق: سواد وبياض، وارتفاع التحجيل إلى الفخذين. (٢) أخرج القصة ابن عساكر بنحوه، كما فى (كنز العمال) (٢٥٤٩١) . قالوا: وهذا من الكلام المفرد الموجز البليغ، الذى لم يسبق إليه صلى اللّه عليه وسلم-، وسيأتى لذلك نظائر- إن شاء اللّه تعالى-. |