١-٤ غزوة تبوك (١)مكان معروف، وهى نصف طريق المدينة إلى دمشق. وهى غزوة العسرة، وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها. وكانت يوم الخميس فى رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، وذكر البخارى لها بعد حجّة الوداع لعله خطأ من النساخ. وكان حرّا شديدا، وجدبا كثيرا، فلذلك لم يور عنها كعادته فى سائر الغزوات. __________ (١) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٥١٥- ٥٣٧) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ١٦٥- ١٦٨) ، والطبرى فى (تاريخه) (٣/ ١٤٢) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٤/ ٣- ٦٨) ، وابن القيم فى (زاد المعاد) (٣/ ٥٢٦- ٥٣٧) . وفى تفسير عبد الرزاق، عن معمر عن ابن عقيل قال: خرجوا فى قلة من الظهر وفى حر شديد، حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما فى كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة فى الماء وفى الظهر وفى النفقة، فسميت غزوة العسرة. وسببها أنه بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل. فندب- صلى اللّه عليه وسلم- الناس إلى الخروج وأعلمهم بالمكان الذى يريد، ليتأهبوا لذلك. وروى الطبرانى من حديث عمران بن الحصين قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذى خرج يدعى النبوة هلك، وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم. فبعث رجلا من عظامائهم وجهز معه أربعين ألفا. فبلغ ذلك النبى صلى اللّه عليه وسلم- ولم يكن للناس قوة. وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام فقال: يا رسول اللّه، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية- يعنى من ذهب- قال: فسمعته يقول: (لا يضر عثمان ما عمل بعدها) (١) . وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان فى جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا. وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار فى كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها فى حجره- صلى اللّه عليه وسلم-، فرأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- يقلبها فى حجره ويقول: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) (٢) خرجه الترمذى وقال: حسن غريب. __________ (١) أخرجه الطبرانى فى (الكبير) (١٨/ ٢٣١- ٢٣٢) من حديث عمران بن حصين- رضى اللّه عنه-، وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ١٩١) و قال: رواه الطبرانى، وفيه العباس بن الفضل الأنصارى وهو ...... (٢) حسن: أخرجه الترمذى (٣٧٠١) فى المناقب، باب: فى مناقب عثمان بن عفان رضى اللّه عنه-، وأحمد فى (مسنده) (٥/ ٦٣) ، والحاكم فى (مستدركه) (٣/ ١١٠). وعند الفضائلى والملاء فى سيرته، كما ذكره الطبرى فى الرياض النضرة من حديث حذيفة: بعث عثمان- يعنى فى جيش العسرة- بعشرة آلاف دينار إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فصبت بين يديه، فجعل- صلى اللّه عليه وسلم- يقول بيديه ويقلبها ظهرا لبطن يقول: (غفر اللّه لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالى ما عمل بعدها) (١) . ولما تأهب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- للخروج، قال قوم المنافقين: لا تنفروا فى الحر، فنزل قوله تعالى: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٢) . وأرسل- عليه السّلام- إلى مكة وقبائل العرب يستنفرهم. وجاء البكاؤن يستحملونه، فقال- عليه السّلام-: لا أجد ما أحملكم عليه. وهم: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازنى، والعرباض بن سارية، وهرم بن عبد اللّه، وعمرو بن عنمة، وعبد اللّه بن مغافل، وعبد اللّه بن عمرو المزنى، وعمرو بن الحمام، ومعقل المزنى، وحرمى بن مازن، والنعمان وسويد ومعقل وعقيل وسنان وعبد الرحمن وهند بنو مقرن. وهم الذين قال اللّه فيهم: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٣) قاله مغلطاى. وفى البخارى عن أبى موسى قال: أرسلنى أصحابى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-، أسأله الحملان لهم، يا نبى اللّه، إن أصحابى أرسلونى إليك لتحملهم، فقال (واللّه لا أحملكم على شىء) فرجعت حزينا من منع النبى __________ (١) أخرجه أبو نعيم عن حسان بن عطية عن أبى موسى الأشعرى كما فى (كنز العمال) (٣٢٨٤٧) ، وابن عدى فى الكامل والدار قطنى، وأبو نعيم فى (فضائل الصحابة) ، وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان كما فى (كنز العمال) (٣٦١٨٩) ، وأخرجه ابن أبى شيبة وأبو نعيم فى (فضائل الصحابة) وابن عساكر عن حسان بن عطية كما فى (المصدر السابق) (٣٦٢٤٥) . (٢) سورة التوبة: ٨١. (٣) سورة التوبة: ٩٢. - صلى اللّه عليه وسلم-، ومن مخافة أن يكون النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وجد فى نفسه على فرجعت إلى أصحابى فأخبرتهم الذى قال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادى: أين عبد اللّه بن قيس، فأجبته، ف قال: أجب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يدعوك. فلما أتيته قال: (خذ هاتين القرينتين وهاتين القرينتين لستة أبعرة ابتاعهم حينئذ من سعد، فانطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن اللّه، أو إن رسول اللّه يحملكم على هؤلاء فاركبوهن) (١) الحديث. وقام علبة بن زيد، فصلى من الليل وبكى و قال: اللّهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل فى يد رسولك ما يحملنى عليه، وإنى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابنى فيها، مالأو جسد أو عرض. ثم أصبح مع الناس. فقال النبى: (أين المتصدق بهذه الليلة) فلم يقم أحد، ثم قال: (أين المتصدق بهذه الليلة؟) فلم يقم أحد، ثم قال: أين المتصدق فليقم، فقام إليه فأخبره، فقال صلى اللّه عليه وسلم-: (أبشر فو الذى نفس محمد بيده لقد كتبت فى الزكاة المقبلة) (٢) رواه يونس والبيهقى فى الدلائل، كما ذكره السهيلىفى الروض له. وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فى التخلف، فأذن لهم، وهم اثنان وثمانون رجلا. وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة جرأة على اللّه ورسوله وهو قوله تعالى: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللّه وَرَسُولَهُ (٣) . واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة. قال الدمياطى: وهو عندنا أثبت ممن قال استخلق غيره. انتهى. وقال الحافظ زين الدين العراقى، فى ترجمة على بن أبى طالب من __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤١٥) فى المغازى، باب: غزوة تبوك وهى غزوة العسرة، ومسلم (١٦٤٩) فى الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتى الذى هو خير ويكفر عن يمينه. (٢) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٥/ ٢١٨، ٢١٩) . (٣) سورة التوبة: ٩١. شرح التقريب: لم يتخلف عن المشاهد إلا تبوك، فإن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- خلفه على المدينة، وعلى عياله، وقال له يومئذ: (أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى) (١)وهو فى الصحيحين من حديث سعد بن أبى وقاص. انتهى. ورجحه ابن عبد البر. وقيل: استخلف سباع بن عرفطة. وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب، منهم، كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وفيهم نزل وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا (٢) . وأبو ذر، وأبو خثيمة، ثم لحقاه بعد ذلك. ولما رأى- صلى اللّه عليه وسلم- أبا ذر الغفارى- وكان- صلى اللّه عليه وسلم- نزل فى بعض الطريق- ف قال: (يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده) (٣) . فكان كذلك. وأمر- صلى اللّه عليه وسلم- لكل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية. وكان معه- صلى اللّه عليه وسلم- ثلاثون ألفا. وعند أبى زرعة سبعون ألفا، وفى رواية عنه أيضا أربعون ألفا. وكانت الخيل عشرة آلاف فرس. ولما مر- صلى اللّه عليه وسلم- بالحجر- بكسر الحاء وسكون الجيم- بديار ثمود قال: (لا تشربوا من مائها شيئا، ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له) ففعل الناس، إلا أن رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر فى طلب بعيره، فأما الذى خرج لحاجته فخنق على مذهبه وأما الذى خرج فى طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلى طيىء. فأخبر بذلك __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤١٦) فى المغازى، باب: غزوة تبوك، ومسلم (٢٤٠٤) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى اللّه عنه-. (٢) سورة التوبة: ١١٨. (٣) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٥٢) ، من حديث ابن مسعود- رضى اللّه عنه-، و قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبى قائلا: إنه مرسل، وذلك لأن الراوى عن ابن مسعود، محمد بن كعب القرظى، لم تثبت له رواية عنه بلا واسطة. رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: (ألم أنهكم) ثم دعا للذى خنق على مذهبه فشفى، وأما الآخر فأهدته طيىء لرسول اللّه حين قدم المدينة (١) . وفى صحيح مسلم من حديث أبى حميد: انطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- (ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله) فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلى طيىء (٢) . وروى الزهرى: لما مر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون، خوفا أن يصيبكم ما أصابهم) (٣) رواه الشيخان. ولما كان- صلى اللّه عليه وسلم- ببعض الطريق ضلت ناقته.. فقال زيد بن اللصيت وكان منافقا-: أليس محمد يزعم أنه نبى ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدرى أين ناقته؟ فقال رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم-: (إن رجلا يقول) ... وذكر مقالته، (وإنى لا أعلم إلا ما علمنى اللّه، وقد دلنى عليها، وهى فى الوادى فى شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها. فانطلقوا حتى تأتونى بها)(٤) فانطلقوا فجاؤا بها. رواه البيهقى وأبو نعيم. وفى مسلم من حديث معاذ بن جبل: أنهم وردوا عين تبوك، وهى تبض بشىء من ماء، وأنهم غرفوا منها قليلا قليلا حتى اجتمع فى شن ثم __________ (١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٥/ ٢٤٠) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٨٢) فى الزكاة، باب: خرص التمر، ومسلم (١٣٩٢) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤١٩ و ٤٤٢٠) فى المغازى، باب: نزول النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الحجر، ومسلم (٢٩٨٠) فى الزهد والرقائق، باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، من حديث عبد اللّه بن عمر- رضى اللّه عنهما-. (٤) أخرجه ابن هشام فى (السيرة النبوية) (٢/ ٥٢٣) عن محمود بن لبيد عن رجال من بنى عبد الأشهل بسند رجاله ثقات. غسل- صلى اللّه عليه وسلم- به وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت بماء كثير، فاستقى الناس (١) . الحديث. ويأتى- إن شاء اللّه- فى مقصد المعجزات. ولما انتهى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى تبوك أتاه صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية. وأتاه أهل جرباء- بالجيم- واذرح- بالذال المعجمة والراء والحاء المهملتين- بلدين بالشام بينهما ثلاثة أميال، فأعطوه الجزية، وكتب لهم- صلى اللّه عليه وسلم- كتابا. ووجد هرقل بحمص، فأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك النصرانى، وكان ملكا عظيما بدومة الجندل، فى أربعمائه وعشرين فارسا فى رجب سرية، وقال له- عليه الصلاة والسلام-:(إنك ستجده ليلا يصيد البقر) ، فانتهى إليه خالد، وقد خرج من حصنه فى ليلة مقمرة، إلى بقر يطاردها، هو وأخوة حسان، وهرب من كان معهما فدخل الحصن، ثم أجار خالد أكيدر من القتل، حتى يأتى به رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل وصالحه على ألفى بعير وثمانمائة فرس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح (٢) . وفى هذه الغزوة كتب- صلى اللّه عليه وسلم- كتابا فى تبوك إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب. رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث أنس. وفى مسند أحمد أن هرقل كتب من تبوك إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: أنى مسلم فقال النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (كذب هو على نصرانيته) (٣) . وفى كتاب الأموال لأبى عبيد، بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد اللّه نحوه ولفظه: ف قال: (كذب عدو اللّه ليس بمسلم) . ثم انصرف- صلى اللّه عليه وسلم- من تبوك، بعد أن أقام بها بضع عشرة ليلة. وقال __________ (١) صحيح: أخرجه مسلم (٧٠٦) (١٠) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى اللّه عليه وسلم-. (٢) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٥٢٦) ، و (البداية والنهاية) لابن كثير (٤/ ٣٠ و ٣١) ، و (زاد المعاد) لابن القيم (٣/ ٥٣٨) . (٣) لم أجده فى المسند. الدمياطى- ومن قبله ابن سعد- عشرين ليلة، يصلى ركعتين، ولم يلق كيدا، وبنى فى طريقه مساجد. وأقبل- صلى اللّه عليه وسلم- حتى نزل بذى أوان- بفتح الهمزة بلفظ الأوان: الحين- وبينهما وبين المدينة ساعة جاءه خبر مسجد الضرار من السماء. فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدى العجلانى ف قال: انطلقا إلى مسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه. فخرجا فحرقاه وهدماه. وذلك بعد أن أنزل اللّه فيه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً (١) . قال الواحدى: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: الذين اتخذوا مسجد الضرار كانوا اثنى عشر رجلا، يضارون به مسجد قباء، وذلك أنهم قالوا فى طائفة من المنافقين: نبنى مسجدا فنقيل فيه فلا نحضر خلف محمد. قال المفسرون: ولما بنوا ذلك لأغراضهم الفاسدة عند ذهاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- إلى غزوة تبوك، ونحن نحب أن تصلى فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال عليه الصلاة والسلام-: (إنى على جناح سفر، وإذا قدمن إن شاء اللّه تعالى صلينا فيه) (٢) . فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت هذه الآية. ولما دنا- صلى اللّه عليه وسلم- من المدينة خرج الناس لتلقيه. وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا للّه داع __________ (١) سورة التوبة: ١٠٧. (٢) الخبر أورده ابن هشام فى (السيرة النبوية) (٢/ ٥٢٩- ٥٣٠) ، والبيهقى فى (الدلائل) (٥/ ٢٥٩- ٢٦٠) ، وابن القيم فى (زاد المعاد) (٣/ ٥٤٩) . وقد وهم بعض الرواة- كما قدمته- و قال: إنما كان هذا عند مقدمه المدينة، وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام- كما قدمت ذلك-. وفى البخارى: لما رجع- صلى اللّه عليه وسلم- من غزوة تبوك فدنا من المدينة، قال: (إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر) (١) وهذا يؤيد معنى ما ورد: نية المؤمن خير من عمله (٢) ، فإن نية هؤلاء أبلغ من أعمالهم، فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهم على فرشهم فى بيوتهم. والمسابقة إلى اللّه تعالى وإلى درجات العلا بالنيات والهمم لا بمجرد الأعمال. ولما أشرف- صلى اللّه عليه وسلم- على المدينة قال: (هذه طابة وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه) (٣) . ولما دخل قال العباس يا رسول اللّه، ائذن لى أمتدحك قال: قل لا يفضض اللّه فاك، ف قال: من قبلها طبت فى الظلال وفى ... مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق وردت نار الخليل مكتتما ... فى صلبه أنت كيف يحترق __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٢٨٣٩) فى الجهاد والسير، باب: من حبسه العذر عن الغزو، وابن ماجه (٢٧٦٤) فى الجهاد، باب: من حبسه العذر عن الجهاد، من حديث أنس بن مالك- رضى اللّه عنه-. (٢) انظره فى (كشف الخفاء) للعجلونى (٢٨٣٦) . (٣) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٢٢) فى المغازى، باب: رقم (٨١) ، ومسلم (١٣٩٢) فى الحج، باب: أحد جبل يحبنا ونحبه، وفى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى اللّه عنه-. حتى احتوى بيتك المهمين من ... خندف علياء تحتها النطق وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق فنحن فى ذلك الضياء وفى ال ... نور وسبل الرشاد نخترق وقوله: من قبلها طبت إلخ: أى ظلال الجنة، أى إنك كنت طيبا فى صلب آدم حيث كان فى الجنة. وقوله: من قبلها: أى قبل نزولك إلى الأرض فكنى عنها ولم يتقدم لها ذكر لبيان المعنى. وقوله: ثم هبطت البلاد لا بشر، أى لما أهبط اللّه آدم إلى الدنيا، كنت فى صلبه غير بالغ هذه الأشياء. وقوله: وقد ألج نسرا وأهله الغرق، يريد الصنم الذى كان يعبده قوم نوح وهو المذكور فى قوله تعالى: وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (١) . وقوله: حتى احتوى بيتك المهمين إلخ. النطق: جمع نطاق. وهى أعراض من جبال بعضها فوق بعض أى: نواح وأوساط منها شبهت بالنطق التى تشد بها أوساط الناس. ضربه مثلا فى ارتفاعه وتوسطه فى عشيرته وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال وأراد ببيته: شرفه، والمهمين: نعته، أى احتوى شرفه الشاهد إلى فضلك أعلى مكان من نسب خندف- وهو بكسر الخاء المعجمة والدال المهملة- انتهى. وجاءه- صلى اللّه عليه وسلم- من كان تخلف عنه، فحلفوا له فعذرهم واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب وصاحبيه حتى نزلت توبتهم فى قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّه إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٢) . __________ (١) سورة نوح: ٢٣. (٢) سورة التوبة: ١١٧، ١١٨. والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وعند البيهقى فى الدلائل، من مرسل سعيد بن المسيب: أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما أشار لبنى قريظة بيده إلى حلقه: إنه الذبح وأخبر عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- بذلك فقال له رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (أحسبت أن اللّه قد غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك) ، فلبث حينا ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عاتب عليه، ثم غزا تبوكا فتخلف عنه أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- منها جاءه أبو لبابة يسلم عليه فأعرض عنه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ففزع أبو لبابة، فارتبط بسارية التوبة سبعا و قال: لا يزال هذا مكانى حتى أفارق الدنيا أو يتوب اللّه على (١) . الحديث. وعنده أيضا من حديث ابن عباس فى قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً (٢) . قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبى صلى اللّه عليه وسلم- فى غزوة تبوك، فلما رجع- صلى اللّه عليه وسلم- أوثق سبعة منهم أنفسهم بسوارى المسجد وكان ممر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- إذ رجع فى المسجد عليهم، ف قال: (من هؤلاء؟) قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول اللّه، حتى تطلقهم وتعذرهم، ف قال: (أقسم باللّه لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون اللّه هو الذى يطلقهم، رغبوا عنى وتخلفوا عن الغزو) فأنزل اللّه تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ (٣) . فلما نزلت أرسل النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأطلقهم وعذرهم (٤) . الحديث. قالوا: ولما قدم- صلى اللّه عليه وسلم- من تبوك وجد عويمر العجلانى امرأته حبلى، فلاعن- عليه السّلام- بينهما. __________ (١) انظره فى (دلائل النبوة) للبيهقى، (٥/ ٢٧٠) . (٢) سورة التوبة: ١٠٢. (٣) سورة التوبة: ١٠٢. (٤) انظره فى المصدر السابق (٥/ ٢٧١- ٢٧٢) . حجة أبى بكر (١)ثم حجة أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنه- بالناس، سنة تسع فى ذى القعدة، كما ذكره ابن سعد وغيره بسند صحيح عن مجاهد، ووافقه عكرمة بن خالد، فيما أخرجه الحاكم فى الإكليل. وقال قوم فى ذى الحجة، وبه قال الداودى والثعلبى والماوردى. ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أقام بعد ما رجع من تبوك رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، فهو ظاهر فى أن بعث أبى بكر كان بعد انسلاخ ذى القعدة، فيكون حجه فى ذى الحجة على هذا واللّه أعلم. وكان مع أبى بكر ثلاثمائة رجل من المدينة، وعشرون بدنة. وفى البخارى ومسلم، عن أبى هريرة: أن أبا بكر بعثه فى الحجة التى أمره رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قبل حجة الوداع فى رهط يؤذن فى الناس يوم النحر: ألايحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (٢) . ثم أردف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعلى بن أبى طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة، فأذن معلنا فى أهل منى ببراءة، وألايحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال: فنبذ أبو بكر إلى الناس فى ذلك العام فلم يحج فى العام القابل الذى حج فيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حجة الوداع مشرك. فأنزل اللّه فى العام __________ (١) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٥٤٣- ٥٤٨) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ١٦٨- ١٦٩) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٤/ ٦٨- ٧٥) ، وابن القيم فى (زاد المعاد) (٣/ ٥٩٣- ٥٩٥) ، والزرقانى فى (شرح المواهب) (٣/ ٨٩- ٩٤) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٢٢) فى الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك، ومسلم (١٣٤٧) فى الحج، باب: لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. الذى نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (١) الآية. وقد دلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما فى الصحيح (المؤمن لا ينجس) وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وهذا .....، لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولا ستوى فى النهى عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد. فالمراد: الأخباث لما فيهم من خبث الظاهر بالكفر وخبث الباطن بالعداوة قاله مقاتل. وروى النسائى عن جابر أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب للصبح فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره فوقف عن التكبير ف قال: هذه رغوة ناقة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الجدعاء، لقد بدا لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحج، فلعله أن يكون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فنصلى معه، فإذا على عليها، فقال له أبو بكر أمير أم رسول، قال: لا بل رسول، أرسلنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ببراءة أقرؤها على الناس فى مواقف الحج، فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم، حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم كان يوم النحر، فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم، فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون، وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها (٢) . __________ (١) سورة التوبة: ٢٨. (٢) أخرجه النسائى (٥/ ٢٤٧) فى المناسك، باب: الخطبة قبل يوم التروية، وفى (الكبرى) (٣٩٨٤) ، والدارمى فى (سننه) (١٩١٥) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٦٤٥) . وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد، أما أبو بكر- رضى اللّه عنه- فإنما كان سنة تسع. واستدل بهذه القصة على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع، والأحاديث فى ذلك كثيرة شهيرة. وذهب جماعة إلى أن حج أبى بكر هذا لم يسقط عنه الفرض بل كان تطوعا قبل فرض الحج ولا يخفى ضعفه. وفى هذه السنة أيضا مات عبد اللّه بن أبى ابن سلول، فجاء ابنه إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه، فأعطاه. ثم سأله أن يصلى عليه، فقام ليصلى عليه، فقام عمر- رضى اللّه عنه- فأخذ بثوب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللّه تصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنما خيرنى اللّه عز وجل) قال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ (١) . وسأزيد على السبعين قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأنزل اللّه- عز وجل-: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٢) (٣) . رواهالشيخان والنسائى. وفى هذه السنة أيضا آلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من نسائه شهرا. وجحش شقه- أى خدش- وجلس فى مشربة له درجها من جذوع، فأتاه أصحابه يعودونه فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا، ولا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع. __________ (١) سورة التوبة: ٨٠. (٢) سورة التوبة: ٨٤. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٦٩) فى الجنائز، باب: الكفن فى القميص، ومسلم (٢٤٠٠) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى اللّه عنه-. ونزل لتسع وعشرين فقالوا: يا رسول اللّه إنك آليت شهرا، ف قال: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين) (١) . ثم بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن قبل حجة الوداع. كل واحد منهما على مخلاف. قالوا: واليمن مخلافان، ثم قالوا: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) (٢) . وقال لمعاذ: (إنك ستأتى قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألاإله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اللّه قد فرض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اللّه قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللّه حجاب) (٣) . رواه البخارى. والمخلاف: - بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء- بلغة أهل اليمن الكورة والإقليم والرستاق. وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وكان من عمله الجند- بفتح الجيم والنون- وله بها مسجد مشهور. وكانت جهة أبى موسى السفلى. ثم أرسل خالد بن الوليد (٤) قبل حجة الوداع أيضا، فى ربيع الأول سنة __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (١٩١١) فى الصوم، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (إذا رأيتم الهلال فصوموا) ، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، وهو عند مسلم (١٠٨٣) فى الصيام، باب: الشهر يكون تسعا وعشرين من حديث عائشة- رضى اللّه عنهما-، و (١٠٨٤) من حديث جابر- رضى اللّه عنه-. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٣٨) فى الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف فى الحرب، ومسلم (١٧٣٣) فى الجهاد والسير، باب: فى الأمر بالتيسير وترك التنفير، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى اللّه عنه-. (٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٩٦) فى الزكاة، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد فى الفقراء حيث كانوا، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-. (٤) انظر: (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٨) . عشر- وفى الإكليل: فى ربيع الآخر، وقيل: فى جمادى الأولى- إلى بنى عبد المدن بنجران فأسلموا. ثم أرسل على بن أبى طالب إلى اليمن (١) فى شهر رمضان سنة عشر من الهجرة، وعقد له لواء وعممه بيده. وأخرج أبو داود وأحمد والترمذى من حديث على قال: بعثنى النبى صلى اللّه عليه وسلم- إلى اليمن فقلت: يا رسول اللّه تبعثنى إلى قوم أسن منى وأنا حديث السن لا أبصر القضاء. قال: فوضع يده فى صدرى و قال: ( اللّهم ثبت لسانه واهد قلبه) ، و قال: (يا على إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر) (٢) . الحديث. فخرج فى ثلاثمائة، ففرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك. ثم لقى جمعهم فدعاهم إلى السلام فأبوا. ورموا بالنبل، ثم حمل عليهم على بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا فتفرقوا وانهزموا فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام وقالوا نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق اللّه. ثم قفل فوافى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بمكة قد قدمها للحج سنة عشر. ثم حج- صلى اللّه عليه وسلم- حجة الوداع (٣) ، وتسمى حجة الإسلام، وحجة البلاغ، وكره ابن عباس أن ي قال: حجة الوداع. وكان- صلى اللّه عليه وسلم- قد أقام بالمدينة يضحى كل عام ويغزو المغازى، فلما كان __________ (١) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٨) . (٢) حسن: أخرجه أبو داود (٣٥٨٢) فى الأقضية، باب: كيف القضاء، والترمذى (١٣٣١) فى الأحكام، باب: ما جاء فى القاضى لا يقضى بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، وابن ماجه (٢٣١٠) فى الأحكام، باب: التغليظ فى الحيف والرشوة، وأحمد فى (مسنده) (١/ ٨٣ و ٨٨ و ١١١ و ١٤٩) . (٣) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٣٠) . فى ذى القعدة سنة عشر من الهجرة أجمع على الخروج إلى الحج فتجهز وأمر الناس بالجهاز له. قال ابن سعد: ولم يحج غيرها منذ تنبأ إلى أن توفاه اللّه تعالى. وفى البخارى عن زيد بن أرقم أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها، حجة الوداع (١) . قال: وقال ابن إسحاق: وبمكة أخرى، وقيل: حج حجتين. هذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه إلا اللّه. فخرج- صلى اللّه عليه وسلم- من المدينة يوم السبت لخمس بقين من ذى القعدة وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر. لأن أول ذى الحجة كان يوم الخميس قطعا، لما ثبت وتواتر وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر كان يوم الخميس، فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل هو ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة. لكن ثبت فى الصحيحين عن أنس: صلينا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذى الحليفة ركعتين (٢) . فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة ويحمل قول من قال: لخمس بقين، أى إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذى الحجة بعد مضى أربع ليال لا خمس، وبها تتفق الأخبار. هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير بين الروايات، وقوى هذا الجمع بقول جابر: إنه خرج لخمس بقين من ذى القعدة أو أربع. وصرح الواقدى بأن خروجه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يوم السبت لخمس ليال بقين من ذى القعدة. وكان خروجه من المدينة بين الظهر والعصر. وكان دخول مكة صبح __________ (١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٠٤) فى المغازى، باب: حجة الوداع، ومسلم (١٢٥٤) فى الحج، باب: بيان عدد عمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وزمانهن. (٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٨٩) فى الجمعة، باب: يقصر إذا خرج من موضعه، ومسلم (٦٩٠) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها. رابعة، كما ثبت فى حديث عائشة وذلك يوم الأحد. وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت، كما تقدم، فيكون مكثه فى الطريق ثمانى ليال، وهى المسافة الوسطى. وخرج معه- عليه السّلام- تسعون ألفا، ويقال مائة ألف وأربعة عشر ألفا، ويقال أكثر من ذلك، كما حكاه البيهقى. ويأتى الكلام على حجة الوداع وما فيها من المباحث فى مقصد العبادات إن شاء اللّه تعالى. ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة (١) إلى أهل أبنى بالشراة ناحية بالبلقاء، وكانت يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر، سنة إحدى عشرة. وهى آخر سرية جهزها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأول شىء جهزه أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه-، لغزو الروم مكان قتل أبيه زيد. فلما كان يوم الأربعاء بدىء برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وجعه، فحمّ وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده، فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة الأسلمى، وعسكر بالجرف. فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا انتدب، فيهم أبو بكر وعمر. فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين؟ فخرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وقد عصب رأسه وعليه قطيفة، فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد، أيها الناس، ما مقالة بلغتنى عن بعضكم فى تأميرى أسامة، ولئن طعنتم فى إمارتى أسامة فقد طعنتم فى إمارتى أباه من قبله، وايم اللّه إن كان للإمارة لخليقا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلى، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم) (٢) . ثم نزل عن المنبر فدخل بيته. وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى عشرة. __________ (١) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٤٥) . (٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٣٠) فى المناقب، باب: مناقب زيد بن حارثة مولى النبى صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٤٢٦) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد- رضى اللّه عنهما-، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- بنحوه. وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ويخرجون إلى معسكر بالجرف. فلما كان يوم الأحد اشتد برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وجعه، فدخل أسامة من معسكره والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- مغمور، وهو اليوم الذى لدوه فيه، فطأطأ أسامة فقبله، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة. قال أسامة: فعرفت أنه يدعو لى، ورجع أسامة إلى معسكره. ثم دخل يوم الاثنين وأصبح- صلى اللّه عليه وسلم- مفيقا، فودعه أسامة وخرج إلى المعسكر، فأمر الناس بالرحيل. فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاء يقول: إن رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- يموت. فأقبل هو وعمر وأبو عبيدة. فتوفى- صلى اللّه عليه وسلم- حين زاغت الشمس لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول. واستشكله السهيلى ومن تبعه، وذلك: أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس، فمهما فرضت الشهور الثلاثة: توامّ أو نواقص، أو بعضها، لم يصح. قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر لمن تأمله. وأجاب البارزى ثم ابن كثير: باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكان أهل مكه والمدينة اختلفوا فى رؤية هلال ذى الحجة، فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها. وكان أول ذى الحجة الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم الأحد وآخره الاثنين وأول صفر الثلاثاء وآخره الأربعاء، وأول ربيع الأولالخميس، فيكون ثانى عشر الاثنين. قال: وهذا الجواب بعيد، من حيث إنه يلزم منه توالى أربعة أشهر كوامل، وقد جزم سليمان التيمى أحد الثقات: بأن ابتداء مرضه كان يوم السبت الثانى والعشرين من صفر، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. فعلى هذا يكون صفر ناقصا ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والمحرم ناقصين. فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية. قال: والمعتمد ما قاله أبو مخنف: أنه توفى فى ثانى ربيع الأول. وكان سبب غلط غيره أنهم قالوا: مات فى ثانى شهر ربيع الأول، فغيرت فصار: ثانى عشر، واستمر الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل. انتهى. ثم إن وفاته- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الاثنين من ربيع الأول بلا خلاف. بل كاد يكون إجماعا لكن فى حديث ابن مسعود: فى حادى عشر رمضان رواه البزار. والمعتمد ما تقدم. واللّه أعلم. انتهى. وسيأتى- إن شاء اللّه تعالى- حديث الوفاة الشريفة فى المقصد الأخير. ولما توفى- صلى اللّه عليه وسلم- دخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فغرزه عند بابه. فلما بويع أبو بكر الصديق- رضى اللّه عنه- أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضى لوجهه، فمضى به إلى معسكرهم الأول، وخرج أسامة هلال ربيع الآخر سنة إحدى عشرة إلى أهل أبنى، فشن عليهم الغارة، فقتل من أشرف له، وسبى من قدر عليه، وحرق منازلهم ونخلهم، وقتل قاتل أبيه فى الغارة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يصب أحد من المسلمين. وخرج أبو بكر فى المهاجرين وأهل المدينة يتلقونه سرورا، واللّه أعلم. فجميع سراياه وبعوثه نحو ستين ومغازيه نحو سبع وعشرين. |