١١٧ المكتوب السابع عشر والمائة إلى مولانا عبد القادر الأنبالى. قال الشيخ رضى اللّه عنه فى الباب الثانى من كتابه العوارف فى بيان الحديث المرفوع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع ويخالج سرى أن يكون المطلع ليس بالوقوف بصفاء الفهم على دقيق المعنى وغامض السر فى الآية ولكن المطلع أن يطلع عند كل آية على شهود المتكلم بها لأنها مستودع وصف من أوصافه ونعت من نعوته فتجدد له التجليات بتلاوة الآيات وسماعها وتصير مرايا منبئة عن عظيم الجلال إلى آخر ما قال فى تأييد هذا التوجيه وشرحه ويخطر ببالى بكرم اللّه المتعالى أن الظهر نظم القرآن البالغ إلى حد الإعجاز والبطن تفسيره وتأويله على اختلاف صفاء الفهم على دقيق المعانى وغامض السر والحد نهاية مراتب الكلام وهو شهود المتكلم بها وهو التجلى النعتى المنبئ عن عظيم الجلال والمطلع ما هو فوق ذلك التجلى النعتى وهو التجلى الذاتى المعرى عن النسب والاعتبارات أثبت لحد الكلام ونهايته مطلعاً فيكون المطلع وراء الكلام ووراء نهايته والكلام صفته تعالى وشهود المتكلم فى مرآة تلك الصفة تجلى لتلك الصفة ونهاية لمراتب كمالها والاطلاع على وراء تلك التجلى يكون بالترقى منه إلى التجلى الذاتى لا محالة فالوصول إلى الذات ههنا يكون بتوسط صفة الكلام وبتوسل تلاوة النظم القرآنى الدال على تلك الصفة فلابد من الخطوتين خطوة من النظر الدال إلى المدلول الذى هو الصفة والخطوة الثانية من الصفة إلى الموصوف قال العارف قدس سره خطوتان وقد وصلت وما ذكر الشيخ قدس سره إلا الخطوة الأول وأتم بها هذا السير وقيد فائدة التلاوة بها لا غير سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم وقال الشيخ قدس سره بعد ذلك إنه قد نقل عن جعفر الصادق رضى اللّه عنه وعن آبائه الكرام أيضاً إنه خر مغشياً عليه وهو فى الصلاة فسئل عن ذلك فقال مازالت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها فالصوفى لما لاح له نور ناصية التوحيد وألقى سمعه عند سماع الوعد والوعيد وقلبه بالتخلص عما سوى اللّه تعالى صار بين يدى اللّه تعالى حاضرا شهيداً يرى لسانه أو لسان غيره فى التلاوة كشجرة مسوى عليه السلام حيث أسمعه اللّه تعالى منها خطابه إياه بأنى أنا اللّه فإذا كان سماعه من اللّه واستماعه إلى اللّه صار سمعه بصره وبصره سمعه وعلمه عمله وعمله علمه وعاد آخره أوله وأوله آخره إلى أن قال فإذا تحقق الصوفى بهذا الوصف صار وقته سرمدا وشهوده مؤيداً وسماعه متواليا متجددا قوله فالصوفى لما لاح له نور ناصية التوحيد بيان لقول الإمام رضى اللّه عنه وشرح لسماعه من المتكلم بأن الصوفى لما غلب عليه حال التوحيد وزال عن نظره شهود الغير صار بين يدى اللّه حاضرا شهيداً يجد كلما سمع كلاما من نفسه أو من غيره أنه سمعه من اللّه سبحانه ويرى لسانه ولسان غيره كشجرة موسى عليه السلام فالإمام كلما كرر الآية سمعها من نفسه ومن لسانه إلى أن لاح له فى أثناء التكرار حال التوحيد فسمعها من المتكلم بها وإن كان صدر منه ومن لسانه فإنه وجد لسانه ح كالشجرة الموسوية فالكلام الظاهر من اللسان كالكلام الظاهر من تلك الشجرة فى أنه كلام اللّه سبحانه أقول وباللّه سبحانه العصمة والتوفيق إن المسموع من الشجرة الموسوية كان كلام اللّه سبحانه لا محالة حتى لو أنكره أحد كان كافرا والمسموع من الألسنة ليس فى الحقيقة كلام اللّه وإن تخيل الصوفى فى غلبة التوحيد أنه كلام اللّه حتى لو أنكره أحد لا يكون كافراً بل يكون محقاً صادقاً لأنه حصل من حركة اللسان واعتماد المخارج ولا كذلك فى الشجرة فإين أحد الكلامين من الآخر فإن الأول تحقيقى والآخر تخييلى والعجب من الشيخ الأجل قدس سره أنه بالغ ههنا فى التوحيد حتى جعل التخييلى تحقيقياً وجعل الكلام الصادر من العبد فى غلبة الحال صادراً من الحق سبحانه وقد أنكر فى موضع آخر من كتابه الأقوال الصادرة فى التوحيد من أربابه فى غلبة الحال وحملها على الحكاية من اللّه سبحانه فراراً من شائبة توحيد الحلول والاتحاد وما فر هنا من شوب الحلول بل حكم بالاتحاد والعينية والحق فى هذا المقام أن الحكم بالاتحاد والعينية فى غلبة الحال تخييلى لا تحقيقى سواء كان الاتحاد فى الذات أو فى الصفات أو فى الأفعال فسبحان من لا يتغير بذاته ولا بصفاته ولا فى أسمائه بحدوث الأكوان ولا يتحد معه أحد ولا يتحد صفات أحد مع صفاته تعالى ولا أفعال أحد من أفعاله سبحانه فهو سبحانه هو هو والممكن ممكن حادث فى الذات وفى الصفات والأفعال الحكم بالاتحاد بين القديم والحادث من تلوينات العشق وغلبات المحبة والسكر فلا يؤاخذ عليهم بشائبة الحلول ومظنة الاتحاد المستلزمة للكفر والإلحاد فإنها غير مرادة لهم حاشا اللّه سبحانه أن يكون مرادهم ما هو غير لائق بجناب قدسه تعالى فإنهم أولياء اللّه وأحباؤه سبحانه المحفوظون من تجويز ما لا يجوز على اللّه والذين تشبهوا بهم من غير حال وبدن صدق المقال وتكلموا بكلماتهم وفهموا منها غير مراداتهم فوقعوا فى الإلحاد والزندقة حتى أثبتوا الحلول والاتحاد مع اللّه سبحانه وحكموا بصيرورة الممكن واجبا فهم الزنادقة الخارجة من المبحث قاتلهم اللّه أنى يؤفكون ولا يخفى أن ما ذكره الشيخ قدس سره فى بيان قول الإمام رضى اللّه عنه وأن صدق فى حق قوم من أهل التلوين الذين استولى عليهم السكر وغلب عليهم التوحيد ولكنى لحسن ظنى بشأن الإمام لا أجوز صدقه فى حقه رضى اللّه عنه لأنه عندى من أكابر أرباب التمكين والصحو لا يلتبس عنده المتخيل بالمتحقق والسماع من الغير بالسماع من الحق سبحانه فليطلب لكلامه محمل حسن مناسب لحاله غير هذا الوجه وهو أنه يمكن أن يسمع العبد كلام الرب العالى بلا كيف كما سمع موسى عليه السلام فى الطور ( فإن قلت ) ما معنى سماع الكلام من اللّه تعالى ولا يسمع إلا ما هو حرف وصوت ( قلت ) ممنوع ألا يرى أن اللّه تعالى يسمع كلام بلا حرف وصوت فجاز أن يكون العبد إذا صار متخلقا بأخلاقه تعالى يسمع بلا حرف وصوت والاستحالة ببديهة الوهم الناشئة من قياس الغائب على الشاهد مع وجود الفارق كيف يقاس والشاهد فى مضيق الزمان المقتضى للترتب والتقدم والتأخر والغائب لا يجرى عليه زمان ولا تقدم ولا تأخر ولا ترتيب فجاز فى الغائب ثبوت أشياء لا يجوز فى الشاهد فليفهم واللّه سبحانه أعلم بالصواب ( والتحقيق ) أن السماع أن كان بحاسة السمع فلابد أن يكون المسموع حرفاً أو صوتا وأما إذا كان السماع بكل جزء من أجزاء السامع غير مخصوص بالحاسة فجاز أن يحصل بلا حرف وصوت من المسموع فإنا نسمع بكليتنا وبكل جزء من أجزائنا كلاما ليس من جنس الحروف وإن كان يتخيل فى الخيال بالحروف والصوت الخيالية فعلم أن الكلام المأخوذ المسموع بكليتنا كان أولاً مجرداً عن الحروف والأصوات وتلبس ثانياً فى الخيال بالحرف والصوت الخيالى ليقرب من الفهم والأفهام على أنا نقول ما هى أعجب منه وهو أن اللّه تعالى يسمع كلامنا المركب من الحروف والكلمات المترتبة المتقدمة المتأخرة لكن سماعه تعالى إنما يكون بلا توسط حرف وكلمة وبلا ترتب وتقدم وتأخر لأن الكلام المركب المترتب المتقدم المتأخر بمقتضى زمانا ولا يجرى عليه سبحانه زمان وهو تعالى خلق الزمان فلما جاز سماع الكلام المركب من الحروف والكلمات بلا توسط حرف وكلمة فأولى أن يجوز سماع كلام ليس من جنس الحروف والأصوات فأفهم ولا تكن من القاصرين ولا من العقلاء الجاهلين واللّه سبحانه الملهم للصواب والذى ألهمت به ثانياً بعد تسويد هذا المسطور فى تحقيق هذا الكلام إن فهم العبد المستعد لخطابه تعالى وأخذه منه سبحانه إنما يكون أولاً بتلقى روحانى بلا توسط صوت ونداء ثم يتمثل هذا المعنى المتلقى فى سلطان الخيال الذى فيه ارتسم صور الأشياء كلها بصورة حرف وصوت لأن الإفادة والاستفادة فى عالم الشهادة لا تكون إلا بتوسط الألفاظ والحروف ويجوز أن يطلق على هذا التلقى سماع بلا كيف أيضاً لأن الكلام بلا كيف فلابد أن يكون سماعه أيضاً بلا كيف إذ لا سبيل لكيف إلى ما لا كيف فيه فصح أن يجوز أن يسمع كلامه تعالى المجرد من الحرف والصوت بلا كيف ثم بعد ذلك يتمثل ذلك الكلام فى الخيال بصورة حرف وكلمة ليحصل الإفادة والاستفادة فى عالم الأجسام أيضاً ومن لم يطلع على هذه الدقيقة بزعم بعض منهم وهم أحسن حالا أنهم يسمعون كلامه تعالى لكن بتوسط حروف وكلمات حادثة دالة عليه وبعضهم أطلقوا القول بأنهم يسمعون كلامه تعالى ولم يفرقوا بين ما يليق بشأنه تعالى وما لا يليق وهم الجهال البطالون لم يفرقوا ما يجوز على اللّه تعالى عما لا يجوز والحق ما حققت بفضل اللّه سبحانه وإحسانه تعالى قوله صار سمعه بصره وبصره سمعه إلى أن قال وعاد آخر أوله وأوله آخره أى أخذ سمعه حكم بصره وبصره حكم سمعه أى سمع بكليته وبصر بكليته وعلم بكليته لا أنه سمع ببعضه وبصر ببعضه الآخر مثلا فحينئذ لا يكون السمع غير البصر ثم بين قوله وعاد آخره أوله وأوله آخره لخلفائه وحاصله أن اللّه سبحانه خاطب الذر بقوله ألست بربكم فسمعت النداء بلا واسطة على غاية الصفا ثم لم تزل الذرات تتقلب فى الأصلاب وتنتقل فى الأرحام حتى برزت إلى أجسادها فاحتجبت بالحكمة عن القدرة وتراكم ظلماتها بالتقلب فى الأطوار فإذا أراد اللّه بالعبد حسن الاستماع بأن يصيره صوفيا صافياً لا يزال يرقيه فى رتب التزكية والتحلية حتى يخلص إلى فضاء القدرة ويزال عن بصيرته النافذة حجاب الحكمة فيصير سماعه بألست بربكم كشفاً وعياناً وتوحيده وعرفانه تبيانا وبرهانا حيث أخذ لسانه ولسان غيره فى حقه حكم شجرة موسى يسمع منه كلامه تعالى كما سمع موسى من تلك الشجرة فصح أنه عاد آخره أوله وأوله آخره حيث سمع كلامه تعالى آخرا كما سمع أولاً وعلى هذا حمل قول البعض أنه قال إنا أذكر خطاب الست بربكم أى كان ذلك الخطاب الذى أسمع الآن منه تعالى على الألسنة ولا يخفى عليك أن الخطاب الأول منه تعالى كان تحقيقاً وسماع الذر منه تعالى كان على سبيل الحقيقة وهذا الخطاب المأخوذ المسموع من الألسنة إنما يكون خطاب اللّه تعالى على سبيل التخيل والتوهم كما مر فأين أحدهما من الآخر فالعجب كل العجب أن الشيخ مع جلالة قدره جعل أحدهما عين الآخر ولم يفرق بين المتحقق والمتخيل وما هو إلا عين السكر وصرف التوحيد مثله مثل قول إنا الحق وسبحانى وليس فى جبتى سوى اللّه وأعجب من هذا ما قاله بعد ذلك فإذا تحقق الصوفى بهذا الوصف صار وقته سرمدا الخ لا يذهب عليك أن الصوفى فى هذا المقام ما تحقق إلا بالتجلى المعنوى الصفاتى كما مر وهو مقام التلوين لا يغير فمن أين صار وقته سرمدا ومشهوده مؤبد أو ما الدوام السرمد للوقت الأوفى الوصول إلى الذات تعالت والتجلى الذاتى وكذلك الشهود والمشاهدة لا يكون إلا بالوصول إلى الذات تعالت كما قالوا وما حصل فى مرتبة الصفات يسمى بالمكاشفة فالمشهود ودوامه هو نصيب أرباب التمكين الواصلين إلى الذات لا أهل التلوين المقيدين بالصفات فإنهم أرباب القلوب وأصحاب التقلب سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم . |