٢- باب في آدابِ الدعاء اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدّثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف: أن الدعاء مستحبّ، قال اللّه تعالى: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: ٦٠] وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: ٥٥] والآيات في ذلك كثيرة مشهورة. وأما الأحاديث الصحيحة فهي أشهر من أن تُشهر، وأظهر من أن تُذكر، وقد ذكرنا قريباً في الدعوات ما به أبلغ كفاية، وباللّه التوفيق. وروينا في رسالة الإِمام أبي القاسم القشيريّ رضي اللّه عنه قال: اختلفَ الناسُ في أن الأفضل الدعاء أم السكوت والرضا؟ فمنهم من قال: الدعاء عبادة للحديث السابق "الدُّعاءُ هُوَ العِبادَة" (٤٣) ولأنَّ الدعاءَ إظهارُ الافتقار إلى اللّه تعالى. وقالت طائفة: السكوت والخمودُ تحت جريان الحكم أتمّ، والرضا بما سبق به القدر أولى. وقال قوم: يكون صاحبُ دعاءٍ بلسانه ورضا بقلبه ليأتيَ بالأمرين جميعاً. قال القشيري: والأولى أن يُقال: الأوقات مختلفة؛ ففي بعض الأحوال الدعاء أفضل من السكوت وهو الأدب، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء وهو الأدب، وإنما يُعرف ذلك بالوقت؛ فإذا وجدَ في قلبه إشارةً إلى الدعاء، فالدعاءُ أولى به؛ وإذا وجد إشارةً إلى السكوت فالسكوتُ أتمّ. قال: ويصحّ أن يُقال ما كان للمسلمين فيه نصيب، أو للّه سبحانه وتعالى فيه حقّ، فالدعاء أولى لكونه عبادة، وإن كان لنفسك فيه حظّ فالسكوت أتمّ. قال: ومن شرائط الدعاء أن يكون مطعمُه حلالاً. وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي اللّه عنه يقول: كيف أدعوك وأنا عاصٍ؟ وكيف لا أدعوك وأنت كريم؟. ومن آدابه: حضور القلب، وسيأتي دليله إن شاء اللّه تعالى. وقال بعضُهم: المراد بالدعاء إظهارُ الفاقة، وإلا فاللّه سبحانه وتعالى يفعلُ ما يشاء. وقال الإِمام أبو حامد الغزالي في الإِحياء: آدابُ الدعاء عشرة: الأول: أن يترصَّدَ الأزمان الشريفة؛ كيوم عَرَفَة وشهر رمضان ويوم الجمعة والثلث الأخير من الليل ووقت الأسحار. الثاني: أن يغتنمَ الأحوالَ الشريفة؛ كحالة السجود، والتقاء الجيوش، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة وبعدَها. قلتُ: وحالة رقّة القلب. الثالث: استقبالُ القبلة ورفعُ اليدين ويمسحُ بهما وجهه في آخره. الرابع: خفضُ الصوت بين المخافتة والجهر. الخامس؛ أن لا يتكلَّف السجعَ وقد فسَّر به الاعتداء في الدعاء، والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة، فما كل أحد يُحسن الدعاءَ فيخاف عليه الاعتداء. وقال بعضهم: ادعُ بلسان الذلّة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق، ويُقال: إن العلماء والأبدال لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات ويشهد له ما ذكره اللّه سبحانه وتعالى في آخر سورة البقرة {رَبَّنا لا تُؤَاخِذْنا} إلى آخرها [البقرة: ٢٨٦] لم يخبر سبحانه في موضع عن أدعية عباده بأكثر من ذلك. قلتُ: ومثلهُ قول اللّه سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم: {وَإِذْ قالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً} إلى آخره [إبراهيم: ٣٥]. قلتُ: والمختار الذي عليه جماهير العلماء أنه لا حجرَ في ذلك، ولا تُكرهُ الزيادةُ على السبع، بل يُستحبّ الإِكثارُ من الدعاء مطلقاً. السادس: التضرّعُ والخشوعُ والرهبة، قال اللّه تعالى: {إنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ في الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وكانُوا لَنا خاشِعِينَ} [الأنبياء: ٩٠] وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: ٥٥]. السابع: أن يجزمَ بالطلب ويُوقن بالإِجابة ويصدقَ رجاءه فيها، ودلائلُه كثيرةٌ مشهورة. قال سفيان بن عُيينة رحمه اللّه: لا يمنعنّ أحدَكم من الدعاء ما يعلمُه من نفسه، فإن اللّه تعالى أجاب شرّ المخلوقين إبليس إذ {قال أنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ إِنَّكَ منَ المُنْظَرِينَ} [الأعراف: ١٤ـ ١٥]. الثامن: أن يُلحّ في الدعاء ويكرّره ثلاثاً ولا يستبطىء الإِجابة. التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر اللّه تعالى. قلتُ: وبالصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد الحمد للّه تعالى والثناء عليه، ويختمه بذلك كله أيضاً. العاشر: وهو أهمّها والأصل في الإِجابة، وهو التوبةُ وردُّ المظالم والإِقبال على اللّه تعالى. فصل: [فائدة الدعاء]قال الغزالي: فإن قيل: فما فائدة الدعاء مع أن القضاءَ لا مَرَدَّ له؟ فاعلم أن من جملة القضاء ردّ البلاء بالدعاء، فالدعاءُ سببٌ لردّ البلاء ووجود الرحمة، كما أن الترسَ سبب لدفع السلاح، والماءُ سببٌ لخروج النبات من الأرض؛ فكما أن الترسَ يدفع السهمَ فيتدافعان، فكذلك الدعاءُ والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحملَ السلاح، وقد قال اللّه تعالى: {وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأسْلِحَتَهُمْ} [النساء: ١٠٢] فقدَّرَ اللّه تعالى الأمرَ وقدَّرَ سبَبه. وفيه من الفوائد ما ذكرناه، وهو حضور القلب والافتقار، وهما نهاية العبادة والمعرفة، واللّه أعلم. |