Geri

   

 

 

İleri

 

الركن الرابع

قوله الركن الرابع في القياس هو في اللغة التقدير والمساواة يقال قست النعل بالنعل أي قدرتها بها وفلان لا يقاس بفلان أي لا يساوى وقد تعدى بعلى بتضمين معنى الابتناء كقولهم قاس الشيء على الشيء وفي الشرع مساواة الفرع للأصل في علة حكمه وذلك أنه من أدلة الأحكام فلا بد من حكم مطلوب به وله محل ضرورة والمقصود إثبات ذلك الحكم في ذلك المحل لثبوته في محل آخر يقاس هذا به فكان هذا فرعا وذلك أصلا لاحتياجه إليه وابتنائه عليه ولا يمكن ذلك في كل شيئين بل إذا كان بينهما أمر مشترك يوجب الاشتراك في الحكم ويسمى علة الحكم ولا بد من ثبوت مثلها في الفرع إذ ثبوت عينها فيه محال لأن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين وبذلك يحصل الظن مثل الحكم في الفرع وهو المطلوب

وقد وقع في عبارة القوم أنه تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة واعترض عليه بأنه منقوض بدلالة النص بأنه لا معنى لتعدية الحكم لاستحالة الانتقال على الأوصاف ولو سلم فيلزم عدم بقاء الحكم في الأصل لانتقاله عنه ولو سلم فالثابت في الفرع لا يكون حكم الأصل بل مثله ضرورة تعدد الأوصاف بتعدد المحال فالمصنف رحمه اللّه تعالى زاد تقييد العلة بما لا يدرك بمجرد اللغة احترازا عن دلالة النص وفسر تعدية حكم الأصل بإثبات حكم مثل حكم الأصل في الفرع وبهذا خرج الجواب عن الاعتراضات المذكورة إلا أنه تعرض لبعضها على التفصيل على ما سيشير إليه

قوله والمراد بالأصل المقيس عليه

فإن قلت تفسير الأصل والفرع بالمقيس عليه والمقيس يستلزم الدور لتوقف معرفتهما على معرفة القياس

قلت ليس هذا تفسيرا للأصل والفرع بل بيانا لما صدقا عليه أي المراد بالأصل المحل الذي يسمى مقيسا عليه لا نفس الحكم ولا دليله على ما وقع عليه اصطلاح البعض وكذا في الفرع مثلا إذا قسنا الذرة على البر في حرمة الربا فالأصل هو البر والفرع هو الذرة لابتنائها عليه في الحكم لا يقال فيخرج عن التعريف قياس المعدوم على المعدوم لأن الأصل ما يبتنى عليه غيره والفرع ما يبتنى على غيره والمعدوم ليس بشيء لأننا نقول لفظه ما عبارة عما هو أعم من الموجود والمعدوم أعني المعلوم ولو سلم فالوجود في الذهن كاف في الشيئية

قوله بل تشعر ببقائه في الأصل فيه بحث لأن معنى التعدية في اللغة جعل الشيء متجاوزا عن الشيء ومتباعدا عنه ولا يخفى أن التعدية في اصطلاح التصريف مجاز أو منقول وأنه لا حاجة

(٢/١١٢)

إلى هذا الاعتذار بعد تفسير التعدية بإثبات مثل الحكم على ما سبق ولا إلى الاعتذار عن ترك قيد المتحد بأنه لا يمكن تعدية الحكم إلا إذا كان متحدا بالنوع وذلك لأنه مبني على أن تكون التعدية حقيقة هاهنا وهذا باطل إذ لا يتصور التعدية في الأحكام والانتقال على الأوصاف

قوله وبعض أصحابنا ذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن ركن القياس ما جعل علما على حكم النص مما اشتمل عليه النص وجعل الفرع نظيرا له في حكمه لوجوده فيه وقال

أما الحكم الثابت بتعليل النصوص فتعدية حكم النص إلى ما لا نص فيه ليثبت فيه بغالب الرأي على احتمال الخطأ وهذا صريح في أن العلة ركن والتعدية حكم وفيه إشارة إلى أن القياس هو التعليل أي تبيين أن العلة في الأصل هذا ليثبت الحكم في الفرع فذهب المصنف رحمه اللّه تعالى إلى أن مراده أن العلم بالعلة ركن القياس أي ما يتقوم به ويتحصل

وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يراد بالركن نفس ماهية الشيء على ما أشار إليه في الميزان من أن ركن القياس هو الوصف الصالح المؤثر وما سواه مما يتوقف عليه إثبات الحكم شرائط لا أركان

وثانيهما وهو الأظهر أن يراد بالركن جزء الشيء على ما ذهب إليه بعض المحققين من أن أركان القياس أربعة الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع

وأما حكم الفرع فثمرة القياس لتوقفه عليه لكن لا يخفى أنه لا حاجة على هذا التقدير إلى ما ذكره من أن المراد بالعلة العلم بالعلة لأن نفس هذه الأمور الأربعة مما يتوقف عليه تحقق القياس ووجوده في نفسه

فإن قيل قد ذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن من جملة شروط القياس تعدي الحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره ولا نص فيه وشرط الشيء متقدم عليه فكيف يكون أثرا له أجيب بأن المراد أن يكون التعدية حكم القياس وأثره شرط أو أن التعدية شرط للعلم بصحة القياس لا للقياس نفسه

قوله وهذا أحسن من جعل القياس تعدية هذا ظاهر على تفسيره التعدية بإثبات الحكم في الفرع إذ يصح أن يقال دليل إثبات حرمة الربا في الذرة هو القياس ولا يصح أن يقال هو إثبات حرمة الربا فيه

قوله لأن مثبت الحكم هو اللّه تعالى غير واف بالمقصود لأنه ينبغي على هذا التقدير أن يجعل شيء من الأدلة مثبتا للحكم بل يجعل مظهرا على ما ذهب إليه المحققون من أن مرجع الكل إلى الكلام النفسي والأوجه ما سبق من أن حكم الفرع يثبت بالنص أو الإجماع الوارد في الأصل والقياس بيان لعموم الحكم في الفرع وعدم اختصاصه بالأصل وهذا أوضح ثم الأظهر أن تفسر التعدية بالإبانة والإظهار على ما ذكره الشيخ أبو منصور رحمه اللّه تعالى أن القياس إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر

قوله وأصحاب الظواهر نفوه أي القياس بمعنى أنه ليس للعقل حمل النظير على النظير في

(٢/١١٣)

الأحكام الشرعية ولا في غيرها من العقليات والأصول الدينية وإليه ذهب بعض الخوارج أو بمعنى أنه ليس للعقل ذلك في الأحكام الشرعية خاصة

إما لامتناعه عقلا وإليه ذهب بعض الشيعة والنظام

وإما لامتناعه سمعا وإليه ذهب داود الأصفهاني رحمه اللّه تعالى والمذكور في الكتاب أدلة المذهب الأخير ولم يتعرض للأولين لأنا قاطعون بأن الشارع لو قال إذا وجدت مساواة فرع لأصل في علة حكمه فأثبت فيه مثل حكمه واعمل به لم يلزم منه محال لا لنفسه ولا لغيره ثم اختلف القائلون بعدم امتناع القياس فقيل هو واجب عقلا لئلا تخلو الوقائع عن الأحكام إذ النص لا يفي بالحوادث الغير المتناهية

وجوابه أن أجناس الأحكام وكلياتها متناهية يجوز التنصيص عليها بالعمومات والجمهور على أنه جائز ثم اختلفوا فذهب النهرواني والقاشاني إلى أنه ليس بواقع والجمهور على أنه واقع ثم اختلفوا في ثبوته

فقيل بالعقل

وقيل بالسمع ثم اختلف القائلون بالسمع فقيل بدليل ظني وقيل قطعي وبه يشعر كلام المصنف رحمه اللّه حيث استدل عليه بدلالة نص الكتاب وبالسنة المشهورة وبالإجماع

قوله المراد بالكتاب اللوح عن ابن عباس رضي اللّه عنه هو لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وعند الحكماء هو العقل الفعال المنتقش بصورة الكائنات على ما هي عليه منه تنطبع العلوم في عقول الناس وقيل هو علم اللّه تعالى

وعلى هذا لا استدلال ولو كان المراد بالكتاب المبين هو القرآن فلا استدلال أيضا على القراءة المشهورة لأن

قوله تعالى ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس الآية مجرور معطوف على ورقة في

قوله تعالى وما تسقط من ورقة إلا يعلمها أي ما يسقط من رطب ولا يابس وفسره ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه بمنبت وغير منبت ولا معنى حينئذ للتعميم المراد في مثل قولهم ما ترك فلان من رطب ولا يابس إلا جمعه نعم لو حمل قراءة الرفع على الابتداء دون العطف على محل من ورقة لكان فيه تمسك يحتاج إلى ما ذكر من الجواب

وهو أن كل شيء فرض فهو كائن في القرآن معنى وإن لم يكن فيه لفظا على ما ذكر في

قوله تعالى تبيانا لكل شيء فحكم المقيس مذكور فيه معنى وهو لا ينافي كون القياس مظهرا

(٢/١١٤)

على أنه لو صح تمسك لزوم أن لا يكون غير القرآن حجة

فإن قيل الكل في القرآن إلا أنه لا يعلمه إلا النبي عليه الصلاة والسلام أو أهل الإجماع

قلنا فليكن فيه حكم القياس ويعرفه المجتهد

قوله أولاد السبايا جمع سبية بمعنى مسبية يعني أنهم اتخذوا الجواري سريات فولدن لهم أولادا غير نجباء

قوله فلم يجز إثباته بما فيه شبهة احتراز عن الإجماع إذ لا شبهة فيه

وأما خبر الواحد فهو بيان من جهة الشارع قطعي في الأصل وإنما تمكنت الشبهة في طريق الانتقال إلينا وهذا يخالف حقوق العبادة فإنها تثبت بما فيه شبهة كالشهادات لعجزهم عن الإثبات بقطعي

قوله بخلاف أمر الحرب حاصله أنا نمنع العمل بالرأي والقياس فيما يمكن فيه العمل بالأصل ويكون من حقوق اللّه تعالى ولا تكون مدركة بالحس ولا بالعقل إذ لو أدرك به صار قطعيا

(٢/١١٥)

قوله ولنا

قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار فإن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه ومنه سمي الأصل الذي يرد إليه النظائر عبرة وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي ولا شك أن سوق الآية للاتعاظ فيدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة

فإن قيل الاعتبار هو الاتعاظ وحقيقته تتبع الشيء بالتأمل على ما يشهد به الاستعمال ونقل أئمة اللغة وقد يستعمل في القياس في الأمور العقلية كما يقال في إثبات الصانع اعتبر بالدار وهل يمكن حدوثها بغير صانع فما ظنك بالعالم ولا يفهم أحد من مثل اعتبر قس الذرة بالحنطة

قلنا لو سلم فيدل على ثبوت القياس الشرعي بطريق دلالة النص على ما يشعر به فاء التعليل الدالة على أن القصة المذكورة قبل الأمر بالاعتبار علة لوجوب الاتعاظ بناء على أن العلم بوجود السبب يوجب الحكم بوجود المسبب وهو معنى القياس الشرعي

وفيه نظر لأن الفاء بل صريح الشرط والجزاء لا يقتضي العلية التامة حتى يلزم أن يكون علة وجوب الاتعاظ

هذه القصة السابقة غاية ما في الباب أن يكون لها دخل في ذلك وهذا لا يدل على أن كل من علم وجود السبب يجب عليه الحكم بوجود المسبب على أن ما ذكره من التحقيق مما يشك فيه الأفراد من العلماء فكيف يجعل من دلالة النص وقد سبق أنه

(٢/١١٦)

يجب أن يكون مما يعرفه كل من يعرف اللغة وقد يقال إنه لا عموم في الآية ولو سلم فقد خص منه ما ينتفي فيه شرائط القياس وما تعارضت فيه الأقيسة وصيغة الأمر تحتمل الوجوب وغيره والمرة والتكرار والخطاب مع الحاضرين فقط والتقييد ببعض الأحوال والأزمنة فكيف يثبت بذلك وجوب العمل لكل مجتهد بكل قياس صحيح في كل زمان

وجوابه أن اعتبروا في معنى افعلوا الاعتبار وهو عام وتخصيص البعض بالفعل لا يقدح في كونه قطعيا وعلى تقدير عدم العموم فالإطلاق كاف ولفظ أولي الأبصار يعم المجتهدين بلا نزاع ولا عبرة بباقي الاحتمالات وإلا لما صح التمسك بشيء من النصوص

(٢/١١٧)

قوله ولما كان الأمر للإيجاب الظاهر أن الأمر للإباحة والتقييد بالصفة المذكورة للدلالة على أنه لا يجوز بيع الحنطة عند انتفائها لكنه لما لم يقل بمفهوم الصفة فلم يمكنه أن يجعل جواز البيع عند انتفاء الصفة منتفيا بحكم الأصل إذ الأصل هو الجواز لزمه المصير إلى أن الأمر للإيجاب باعتبار الوصف بمعنى أن بيع الحنطة مباح إلا أن رعاية المماثلة فيه واجبة كما أن أخذ الرهن جائز والقبض فيه واجب

فإن قلت معنى كون الأمر للإيجاب أن المأمور به واجب وهذا لا يستقيم فيما نحن فيه إذ لا وجوب لبيع الحنطة بوصف المماثلة ولا لأخذ الرهن بوصف القبض

قلت مراده أن الأمر منصرف إلى رعاية الوصف وهي واجبة كأن قيل إذا بعتم الحنطة فراعوا المماثلة وإذا أخذتم الرهن فاقبضوا

قوله وأيضا حديث معاذ فإنه مشهور يثبت به الأصول

فإن قلت الاجتهاد قد يكون بغير القياس المتنازع فيه كالاستنباط من النصوص الخفية الدلالة أو الحكم بالبراءة الأصلية أو القياس المنصوص العلة ولو سلم فلا دلالة على الجواز لغير معاذ رضي اللّه تعالى عنه

قلت الاستنباط بالنصوص مما يوجد في الكتاب والسنة وكذا البراءة أصلية على تقدير تسليم احتياجها للاجتهاد لقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية

فبقي القياس وهو مطلق ولو اقتصر على منصوص العلة لما سكت الشارع لبقاء كثير من الأحكام وهي التي تبتنى على قياس غير منصوص العلة وجواز ذلك لمعاذ رضي اللّه عنه إنما كان باعتبار اجتهاده فثبت في غيره بدلالة النص وقد قال عليه السلام حكمي على الواحد حكمي على الجماعة

(٢/١١٨)

قوله وقد روينا في آخر باب السنة أحاديث تدل على أنه عليه السلام كان يقول في بعض الأحكام بالقياس وهي وإن كانت أخبار آحاد إلا أن جملة الأمر بلغت حد التواتر وهي أنه عليه الصلاة والسلام كان يعمل بالقياس فيكون حجة ربما يجعل وجه الاستدلال أنه عليه الصلاة والسلام كان يذكر بعض الأحكام بعللّها ولو لم يجز إلحاق غير المنصوص بالمنصوص عليه لما كانت لذكر العلل فائدة وقد يجاب عنه بأن ذكر الأحكام بعللّها لا يوجب صحة العمل بالقياس بل فائدتها معرفة الحكم والعلة معا فإنها أوقع في النفس وأدخل في القبول فلا يلزم أن يكون دليلا لصحة القياس

قوله وعمل الصحابة إشارة إلى دليل على حجية القياس بوجهين أحدهما أنه ثبت بالتواتر عن جمع كثير من الصحابة العمل بالقياس عند عدم النص وإن كانت تفاصيل ذلك آحادا والعادة قاضية بأن مثل ذلك لا يكون إلا عن قاطع على كونه حجة وإن لم نعلمه بالتعيين وثانيهما أن عملهم بالقياس ومباحثتهم فيه بترجيح البعض على البعض تكرر وشاع من غير نكير وهذا وفاق وإجماع على حجية القياس وما نقل من ذم الرأي عن عثمان وعلي وابن عمر وابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم إنما كان في البعض لكونه في مقابلة النص أو لعدم شرائط القياس وشيوع الأقيسة الكثيرة بلا إنكار مقطوع به مع الجزم بأن العمل كان بها لظهورها لا لخصوصياتها

قوله لأن وجود الشيء أو عدمه في زمان لا يدل على بقائه فيه نظر لأنا نقطع بكثير من الأحكام كوجود مكة ووجود بغداد وعدم جبل من الياقوت وبحر من الزئبق مع أنه لا دليل عليها إلا أن الأصل في الوجود هو الوجود حتى يظهر دليل العدم والأصل في المعدوم هو العدم حتى يظهر

(٢/١١٩)

دليل الوجود وبالجملة الحكم بالبراءة الأصلية شائع فيما بين العلماء بحيث لا يصح إنكاره على ما سبق في مفهوم الشرط والصفة

قوله فصل في شرائط القياس عبارة فخر الإسلام رضي اللّه عنه في الشرط الأول أن لا يكون الأصل مخصوصا بحكمه بنص آخر أي لا يكون المقيس عليه منفردا بحكمه بسبب نص آخر دال على الاختصاص وذلك كما اختص خزيمة من بين الناس بقبول شهادته وحده يقال خص زيد بالذكر إذا ذكر هو دون غيره وفي عبارة الفقهاء خص النبي عليه الصلاة والسلام بكذا وكذا وفي الكشاف إياك نعبد معناه نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك

وأما استعمال الباء في المقصور عليه فقليل كما في قولهم في ما زيد إلا قائم أنه لتخصيص زيد بالقيام لكنه مما يتبادر إليه الوهم كثيرا حتى إنه يحمل الاستعمال الشائع على القلب فلذا غير المصنف رحمه اللّه تعالى عبارة فخر الإسلام رضي اللّه عنه إلى

قوله أن لا يكون حكم الأصل مخصوصا به كاختصاص قبول شهادة الواحد بخزيمة لقوله عليه الصلاة والسلام من شهد له خزيمة فحسبه وذلك أنه شهد للنبي عليه الصلاة والسلام أنه أدى الأعرابي ثمن ناقته أو أنه باع ناقته على اختلاف الروايتين

وذلك التخصيص ثبت بطريق الكرامة أو باعتبار أنه فهم من بين الحاضرين جواز الشهادة للرسول عليه الصلاة والسلام بناء على أن خبره بمنزلة المعاينة

(٢/١٢٠)

قوله وأن لا يكون إلخ أي معدولا به لأنه من العدول وهو لازم ولا يبعد أن يجعل من العدل وهو الصرف فيكون معتديا

قوله فإنه ينفي ركن الصوم

فإن قيل فكيف صح قياس الوقاع ناسيا على الآكل في عدم فساد الصوم

قلنا لم يثبت ذلك بالقياس بل بدلالة النص للعلم بأن بقاء صوم الناسي في الأكل إنما كان باعتبار أنه غير جان لا باعتبار خصوصية الأكل

قوله وكتقوم المنافع جعله من أمثلة المعدول عن سنن القياس لأن القياس عدم تقوم المعدوم إذ القيمة تنبئ عن التعادل ولا تعادل بين ما يبقى وبين ما لا يبقى لكنه ثبت في الإجارة بقوله تعالى وآتوهن أجورهن وقوله تعالى إخبارا على أن تأجرني ثماني

(٢/١٢١)

حجج وقوله عليه الصلاة والسلام أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه وجعله فخر الإسلام رضي اللّه عنه من أمثلة كون الأصل مخصوصا بحكمه وهو أيضا مستقيم بل التحقيق أن الشرط الثاني يغني عن الأول لكونه من أقسامه على ما ذكره الآمدي في الأحكام من أن المعدول به عن سنن القياس ضربان أحدهما ما لا يعقل معناه وهو

إما أن يكون مستثنى من قاعدة عامة كقبول شهادة خزيمة وحده أو لا يكون كذلك بل يكون مبتدأ به كأعداد الركعات ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات

وثانيهما ما شرع ابتداء ولا نظير له فلا يجري فيه القياس لعدم النظير سواء عقل معناه كرخص السفر أو لا كضرب الدية على العاقلة

قوله وأن يكون المعدى فيه إشعار بأنه يشترط أن لا يكون حكم الأصل منسوخا إذ لا تعدية لما ليس بثابت

قوله

بأحد الأصول الثلاثة إشارة إلى أن حكم الأصل لا يجوز أن يكون ثابتا بالقياس لأنه إن اتحدت العلة في القياسين فذكر الواسطة ضائع وإن لم تتحد بطل أحد القياسين لابتنائه على غير العلة التي اعتبرها الشرع في الحكم مثلا إذا قيس الذرة على الحنطة في حرمة الربا بعلة الكيل والجنس ثم أريد قياس شيء آخر على الذرة فإن وجدت فيه العلة أعني الكيل والجنس كان ذكر الذرة ضائعا ولزم قياسه على الحنطة وإن لم توجد لم يصح قياسه على الذرة لانتفاء علة الحكم

قوله من غير تغيير أي لا يغير في الفرع حكم الأصل من إطلاقه أو تقييده أو غير ذلك مما

(٢/١٢٢)

يتعلق بنفس الحكم وإنما يقع التغيير باعتبار المحل وباعتبار صيرورته ظنيا في الفرع

قوله إلا فرع متعلق بمحذوف أي وأن يكون المعدى حكما موصوفا بما ذكر معدى إلى فرع هو نظيره ولا يستقيم تعلقه بالمعدى المذكور

أما لفظا فللفصل بالأجنبي

وأما معنى فلأنه لا يفيد اشتراط كون الفرع نظير الأصل والاشتراط كون الأصل حكما موصوفا بما ذكر في جميع الصور لأن معناه حينئذ أنه يشترط أن يكون الحكم المعدى إلى فرع هو نظيره حكما شرعيا ثابتا بأحد الأصول الثلاثة

قوله فلا تثبت اللغة بالقياس يعني إذا وضع لفظ لمسمى مخصوص باعتبار معنى يوجد في غيره لا يصح لنا أن نطلق ذلك اللفظ على ذلك الغير حقيقة سواء كان الوضع لغويا أو شرعيا أو عرفيا وذلك كإطلاق الخمر على العقار من المسكرات

احتج المخالف بالدوران والإلحاق بالقياس الشرعي وأجيب بأنه يشترط في الدوران صلوح العلية وهو ممنوع هاهنا فإن علة إطلاق اللفظ على المعنى حقيقة هو الوضع لا غير وبأن العمدة في حجية القياس الشرعي هو الإجماع ولا إجماع هاهنا ويرد على المتمسكين بقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار على ما حققه المصنف رحمه اللّه تعالى من دلالة النص

وجوابه إنا لا نسلم أن رعاية المعنى سبب للإطلاق بل هي سبب للوضع وترجيح الاسم على الغير على ما سبق ولا نزاع في صحة الإطلاق مجازا عند

(٢/١٢٣)

وجود العلاقة على ما ذهب إليه الشافعي رحمه اللّه تعالى من استعمال ألفاظ الطلاق في العتاق وبالعكس لاشتمالهما على إزالة الملك

وما ذكره من وجوب الحد على اللائط قياسا على الزاني فإنما هو بقياس في الشرع دون اللغة أو هو قول بدلالة النص وكذا إيجاب الحد بغير الخمر من المسكرات وقد توهم بعضهم أن أمثال ذلك قول بجريان القياس في اللغة وليس كذلك وهاهنا بحث وهو أن اشتراط كون حكم الأصل شرعيا

إما أن يكون في مطلق القياس وهو باطل لأن قياس السماء على البيت في الحدوث بجامع التأليف وقياس كثير من الأغذية على العسل في الحرارة بجامع الحلاوة

وأمثال ذلك مما ليست بأقيسة شرعية لا يتوقف على كون حكم الأصل شرعيا وهو ظاهر

وأما أن يكون في القياس الشرعي وحينئذ لا معنى لتفريع عدم جريان القياس في اللغة على ذلك وهو أيضا ظاهر والتحقيق أن هذا شرط للقياس الشرعي على معنى أنه يشترط فيه كون حكم الأصل حكما شرعيا إذ لو كان حسيا أو لغويا لم يجز لأن المطلوب إثبات حكم شرعي للمساواة في علة ولا يتصور إلا بذلك فلو قال النبيذ شراب مشتد فيوجب الحد كما يوجب الإسكار أو كما يسمى خمرا كان باطلا من القول خارجا عن الانتظام وهذا مبني على أن القياس لا يجري في اللغة ولا في العقليات من الصفات والأفعال

وفائدته تظهر فيما إذا قاس النفي بالنفي فإذا لم يكن المقتضي ثابتا في الأصل كان نفيا أصليا والنفي الأصلي لا يقاس عليه النفي الطارئ وهو حكم شرعي ولا النفي الأصلي لثبوته بدون القياس وبالإجماع وقد يذكر في كثير من المسائل ولذلك يقول المناظر لا بد من بيان المقتضي في الأصل وما ذلك إلا ليكون النفي حكما شرعيا وقد سبق نبذ من ذلك في فصل المطلق والمقيد

(٢/١٢٤)

قوله لكن لا يحمل أي لفظ الخمر على سائر الأشربة مجازا عند إرادة معناه الحقيقي في ذلك الإطلاق لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز اللّهم إلا أن يطلق مجازا على شراب يخامر العقل فيشمل العقار وغيره بطريق عموم المجاز

قوله وهي في الأصل مقيدة بعدم التساوي يعني أن الحكم في الأصل حرمة تنتهي بالتساوي بالكيل

فإن قيل قد أثبت الحرمة في بيع المقلي بغيره وبيع الدقيق بالحنطة مع أنها لا تنتهي بالكيل

قلنا بطلان الانتهاء بالكيل إنما جاء من صنع العبد وهو القلي والطحن لا بإثبات الشرع والشرع إنما أثبتها متناهية بالمساواة كيلا أعني قبل القلي والطحن

قوله والتساوي بالعدد غير معتبر شرعا قيل عليه أن التساوي بالوزن معتبر شرعا وهو كاف في انتهاء الحرمة

قوله لأن عذره أي عذر الخطأ دون عذر النسيان لإمكان الاحتراز عن الخطأ بالتثبت والاحتياط بخلاف النسيان فإنه سماوي محض جبل عليه الإنسان

قوله لأنه إن كان موافقا للنص فلا حاجة إليه اعترض عليه بأن عدم الاحتياج إلى القياس لا ينافي صحته والاستدلال به قصدا إلى تعاضد الأدلة كالإجماع عن قاطع وإلى هذا ذهب كثير من المشايخ وكثر في كتب الفروع الاستدلال في مسألة واحدة بالنص والإجماع والقياس

قوله وإن كان قياسا مخالفا له يبطل كقياس القتل العمد على الخطأ واليمين الغموس على المنعقدة في إيجاب الكفارة فإنه مخالف لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال خمس من الكبائر لا كفارة فيهن وعد منها الغموس وقتل النفس بغير حق

قوله وأن لا يغير حكم النص فالإطعام هو جعل الغير طاعما سواء كان على وجه الإباحة

(٢/١٢٥)

أو التمليك فاشتراط التمليك قياسا على الكسوة تغيير لحكم النص وكذا تقييد رقبة الكفارة بالمؤمنة تغيير للإطلاق المفهوم من النص وهذا الكلام ظاهر في أن المراد تغيير حكم نص في الجملة سواء كان هذا النص في حكم الأصل أو غيره فإن

قوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين وقوله تعالى أو تحرير رقبة ليس لبيان حكم الأصل بل حكم الفرع فعلى هذا لا حاجة إلى هذا القيد لأن اشتراط عدم النص في الفرع مغن عنه لأن معناه عدم نص دال على الحكم المعدى أو عدمه وهاهنا النص دال على عدم الحكم المعدى في الفرع لأن الإطلاق يدل على إجزاء مجرد الإطعام على سبيل الإباحة وعلى إجزاء الرقبة الكافرة وأنه لا يشترط التمليك والإيمان وقد يقال يجوز أن يغير القياس حكم نص لا يدل على ثبوت الحكم في الفرع ولا على عدمه

وفيه نظر لأنه محال على ذلك التقدير وعبر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى عن هذا الشرط بأن يبقى الحكم في الأصل على ما كان قبله ثم قال وإنما اشترط ذلك لأن تغيير حكم النص في نفسه بالرأي باطل ثم مثل بهذه الأمثلة وغيرها قصدا إلى أن فيها تغيير النص بالرأي ففهم الشارحون أنها أمثلة لعدم بقاء حكم النص المعلل على ما كان قبل التعليل فاعترضوا بأن المغير في هذه الأمثلة إنما هو في حكم النص في الفرع لا في الأصل

(٢/١٢٦)

قوله وكذا السلم الحال في الحديث من أراد منكم أن يسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم وجوز الشافعي رحمه اللّه تعالى السلم الحال قياسا على المؤجل بجامع دفع الحرج بإحضار المبيع مكان العقد ورد هذا القياس بوجهين أحدهما أن النص يدل على عدم مشروعية السلم الحال بحكم مفهوم الغاية اتفاقا أو إلزاما ولا عبرة بالقياس المغير لحكم النص إلا أن مخالفة المفهوم سيما في خبر الواحد غير قادحة في صحة القياس عند الشافعي رحمه اللّه تعالى وثانيهما أن محل البيع يجب أن يكون مملوكا مقدور التسليم والمسلم فيه ليس كذلك لكونه غير موجود إلا أن الشرع رخص فيه بإقامة ما هو سبب القدرة على التسليم وهو الأجل مقام حقيقة القدرة وجعله خلفا عنها فحكم الأصل أعني السلم المؤجل يشتمل على جعل الأجل المعلوم خلفا عن وجود المسلم فيه وعن القدرة عليه وفي قياس السلم الحال عليه تغيير لهذا الحكم لأنه ليس فيه جعل الأجل خلفا عن الوجود وقد سبق أن من شرط القياس تعدية الحكم من غير تغيير

وقد يقال إن معنى إقامة الخلف مقام الأصل هو جعل الخلف كأنه هو الأصل فباعتبار حقيقة الأصل يكون تحقيقا لذلك لا تغييرا أو يكون أولى بالجواز لكونه مصيرا إلى الأصل دون الخلف وعدولا عما هو خلاف مقتضى العقد أعني الأجل وربما يجاب بأن إقدامه على عقد السلم دليل على أن ما عنده مستحق لحاجة أخرى فيكون بمنزلة العدم كالماء المستحق للشرب في جواز التيمم

وفيه نظر إذ ربما يكون لدفع الحرج في إحضار المبيع ولغيره من الأغراض فلا تتعين الحاجة الضرورية

قوله وإنما كان تغييرا وجه السؤال أنكم جوزتم دفع قيمة الواجب في الزكاة قياسا على العين بعلة دفع حاجة الفقير وفي هذا التعليل تغيير لحكم النص الدال على وجوب عين الشاة وحاصل الجواب أن تغيير هذا النص ليس بالتعليل بل بدلالة النصوص الواردة في ضمان أرزاق

(٢/١٢٧)

العباد وإيجاب الزكاة في أموال الأغنياء وصرفها إلى الفقراء وذلك أن الزكاة عبادة والعبادة خالص حق اللّه تعالى فلا تجب للفقراء ابتداء

وإنما تصرف إليهم إيفاء لحقوقهم وإنجازا لعدة أرزاقهم ولا خفاء في أن حوائجهم مختلفة لا تندفع بنفس الشاة مثلا وإنما تندفع بمطلق المالية فلما أمر اللّه تعالى بالصرف إليهم مع أن حقهم في مطلق المالية دل ذلك على جواز الاستبدال وإلغاء اسم الشاة بإذن اللّه تعالى لا بالتعليل

واعلم أن ذكر اسم الشاة إنما هو لكونها أيسر على من وجبت عليه الزكاة لأن الإيتاء من جنس النصاب أسهل ويده إليه أوصل ولكونها معيارا لمقدار الواجب إذ بها تعرف القيمة

فإن قيل إذا ثبت وجوب الشاة بعبارة النص وجواز الاستبدال بدلالته فما معنى التعليل بالحاجة أجيب بأن التعليل إنما وقع بحكم آخر وهو كون الشاة صالحة للصرف إلى الفقير وهذا ليس بحكم ثابت بأصل الخلقة حتى يمتنع تعليله بل حكم شرعي ثابت بالنص الدال على وجوب الشاة لأن المراد به صلاحية حدثت بعدما كانت باطلة في الأمم السالفة باعتبار كون الصدقة من الأوساخ ولهذا كان تقبل القرابين بالإحراق وأيضا محال التصرفات إنما تعرف شرعا كصلاحية الخل محلا للبيع دون الخمر

ولما كان هذا حكما شرعيا عللناه بالحاجة أي بحاجة الفقير إلى الشاة أو بكونها دافعة لحاجته لنعدي الحكم إلى قيمة الشاة ونجعلها صالحة للصرف إلى الفقير لأن الحاجة إلى القيمة أشد وهي للحاجة أدفع فصار الحاصل أن هاهنا حكما هو وجوب الشاة وآخر هو جواز الاستبدال

وثالثا هو صلاحية الشاة للصرف إلى الفقير والتعليل إنما وقع في هذا الحكم أي صلاحية الشاة للصرف وليس فيه أي في هذا الحكم تغيير بل تغيير النص الدال على وجوب

(٢/١٢٨)

الشاة إنما يكون بالنص أي بدلالة النص الآمر بإيفاء حق الفقير وهذا التغيير مقارن للتعليل في حكم آخر هو صلاحية الشاة للصرف إلى الفقير وليس فيه أي في ذلك الحكم الآخر تغيير النص أصلا إذ لا نص يدل على عدم صلاحية الشاة للصرف إلى الفقير فصار التغيير مع التعليل لا بالتعليل

والممتنع هو التغيير بالتعليل لا معه فقوله بالنص خبر صار ومجامعا حال أو هو خبر صار وبالنص خبر بعد خبر فعلى ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى صار الأصل هو الشاة والفرع القيمة والحكم الصلاحية والعلة الحاجة ولما كان هذا مخالفا لظاهر عبارة فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى حيث جعل الفرع هو سائر الأموال والعلة والتقوم أوردها وشرحها تنبيها على أن العلة قد تعتبر من جانب المصرف وهي الحاجة وقد تعتبر من جانب الواجب وهي التقوم وأن المستبدل به يجوز أن يعتبر بنفس القيمة وحينئذ لا معنى للتعليل بالتقوم

وأن يعتبر ماله القيمة فتعلل بالتقوم والمقصود واحد وهو صلاح صرف الشاة وغيرها

فإن قلت كما أن النص الدال على وجوب الشاة دل على صلاحها للصرف كذلك النص الدال على جواز الاستبدال دال على صلاح غير الشاة للصرف فلا حاجة إلى التعليل

قلت لا معنى لجواز الاستبدال إلا سقوط اعتبار اسم الشاة وجواز إيفاء حق الفقير من كل ما يصلح للصرف إليه وهذا لا يدل على صلاحية القيمة وكل متقوم للصرف بعدما كانت هذه الصلاحية باطلة في الأمم السالفة بخلاف إيجاب الشاة بعينها فإن معناه الأمر بصرفها إلى الفقير

وهذا تنصيص على الصلاحية فلا بد من إثبات كون القيمة أو كل متقوم صالحا للصرف وذلك بالتعليل مع ما فيه من الإشعار بأن الاستبدال إنما يجوز بما يعتد به في دفع الحاجة حتى لو أسكن الفقير داره مدة بنية الزكاة لم يجزه فالحاصل أن الصدقة تقع للّه تعالى ابتداء وللفقير بقاء فلا بد من ثبوتها حقا للّه تعالى أولا ومن صلوحها للصرف إلى الفقير ثانيا ففي الشاة مثلا ثبت كلا الأمرين بالنص وفي القيمة ثبت الأول بدلالة النص والثاني بالتعليل والقياس على الشاة وقد اعترض على ثبوت جواز الاستبدال بدلالة النص بأنه إنما يلزم لو لم يكن في جنس الواجب ما يصلح لإيفاء حق الفقراء وقضاء حوائجهم وهو الدراهم والدنانير المخلوقة ثمنا للأشياء على الإطلاق ووسيلة إلى الأرزاق

قوله وذكر الأصناف وجه السؤال إنكم جوزتم صرف الزكاة إلى صنف واحد قياسا على صرفها إلى الكل بعلة الحاجة وفي هذا التعليل تغيير للنص الدال على كون الزكاة حقا لجميع

(٢/١٢٩)

الأصناف

والجواب أن استحقاق الكل إنما يلزم لو كان اللام للتمليك وليس كذلك لما مر من أن الزكاة خالص حق اللّه تعالى ابتداء وإنما تصير للفقراء بقاء بدوام اليد فتكون اللام للعاقبة دون التمليك وإنما أحال ذلك على غيره لأن كون اللام للعاقبة مجاز بعيد لا يصار إليه إلا عند ظهور القرائن وقد أمكن على حمل اللام الاختصاص والدلالة على أن المصارف إنما هي هذه الأصناف لا غير بمعنى أنه لا يجوز الصرف إلى غيرهم وأنهم هم الصالحون للصرف إليهم سواء صرف أو لم يصرف فبالصرف إلى البعض لا يتغير كون الكل مصارف

وإنما يلزم التغيير لو كان اللام للتمليك فيفيد أن الزكاة ملك لجميع الأصناف فيكون صرفها إلى البعض صرف ملك الشخص إلى غيره ثم تقرير المصنف رحمه اللّه تعالى لا يخلو عن ضعف لأنه قد سبق أن بطلان الجمعية وثبوت الحمل على الجنسية إنما يكون عند تعذر الاستغراق فلا معنى لتعليل عدم إمكان أن يراد بالفقراء الجميع ببطلان الجمعية أولا وبتعذر الاستغراق ثانيا ففي العبارة تسامح وأيضا المطلوب هاهنا جواز الصرف إلى بعض الأصناف وهذا لا يتفاوت بكون الفقراء للجمعية أو للجنسية فلا مدخل لما ذكره من أن الفقراء للجنس في إثبات كون اللام للعاقبة دون التمليك لجواز أن يلتزم الخصم بطلان الجمعية للجنس ويدعي كون الزكاة ملكا للأجناس المذكورة فلا مدفع له إلا ما ذكرنا

قوله على أنه إن أريد هذا أي توزيع جميع الصدقات على جميع الفقراء يلزم بطلان مذهب الشافعي رحمه اللّه تعالى لأنه لا يقول بوجوب الصرف إلى جميع أفراد كل صنف بل إلى جمع منها

فإن قلت إذا كان للاستغراق كان المعنى كل صدقة لكل فقير وهذا أظهر بطلانا فلم عدل إلى

(٢/١٣٠)

توزيع الجمع على الجمع

قلت لأنه ربما يدعي أن معنى الاستغراق الشمول والإحاطة بمعنى المجموع فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد إلى الآحاد فأبطل ذلك أيضا وسكت عما هو ظاهر البطلان

قوله واستعمال الماء لإزالة النجاسة يعني أن المقصود هو إزالة النجاسة لا الاستعمال بدليل جواز الاقتصار على قطع موضع النجاسة أو حرقه وكون الماء آلة صالحة للإزالة حكم شرعي معلل بكونه مزيلا فيعدى إلى كل مائع يشاركه في ذلك وكونه مزيلا يتضمن أمرين طهارة المحل وعدم تنجس الآلة بالملاقاة وإلا لما وجدت والإزالة بل الزيادة

فإن قيل بل الحكم بطهارة المحل لخاصية في الماء إذ لو كان لإزالته لوجب أن يشاركه جميع المائعات المزيلة في رفع الحدث

قلنا الحكم بالطهارة عن الحدث بمعنى زوال المانع الشرعي ليس بمعقول إذ العضو طاهر لا ينجس به شيء ومن شرط القياس كون المعنى معقولا قيل ولو سلم أنه معقول فالماء يوجد مباحا لا يبالى بخبثه ولا يلحق به حرج بخلاف سائر المائعات

وفيه نظر

أما أولا فلأنه لا عبرة بالفرق بعد تحقق العلة وهي الإزالة

وأما ثانيا فلأنه منقوض برفع الخبث

فإن قلت قد ذكر في بحث المناقضة أن التطهير بالماء معقول وفي الهداية أن غير المعقول هو الاقتصار على الأعضاء الأربعة

وأما إزالة الحدث فمعقول

قلت يأتي جوابه في بحث المناقضة وذكر فخر الإسلام رحمه اللّه أن الماء مطهر بطبعه لم يحدث فيه معنى لا يعقل فلا يحتاج في صيرورته مطهرا إلى النية بخلاف التراب فإنه ملوث

(٢/١٣١)

إلا أن الشرع جعله مطهرا عند إرادة الصلاة فيفتقر إلى النية

فإن قيل هب أن قلع الخبث وإزالته بالماء معقول إلا أنه يتضمن أمرا غير معقول وهو عدم تنجس الماء بأول الملاقاة

قلت لا بأس بذلك بعد كون المعنى معقولا لأنه ملتزم لضرورة دفع الحرج

قوله وهو أن لا يتنجس كل ما يصل إليه لنفي الشمول لا لشمول النفي

قوله ولأن الماء مطهر طبعا تعليل لمعقولية إزالة الماء للخبث وذلك لفرط لطافته وقوة إزالته وسرعة نفوذه وسهولة خروجه فيزول به الحدث والخبث جميعا بخلاف سائر المائعات فإنه مطهر باعتبار القلع والإزالة فيزول به الخبث لابتنائه على الرفع والقلع دون الحدث لعدم معقوليته ثبوتا وزوالا

قوله ويشكل بالعلامة وهي ما يعرف به وجود الحكم من غير أن يتعلق به وجوده ولا وجوبه كالأذان للصلاة والإحصان للرجم يعني أن تعريف العلة بالمعرف للحكم ليس بمانع لدخول العلاقة فيه قيل ولا جامع لخروج المستنبطة عنه لأنها عرفت بالحكم لأن معرفة علية الوصف متأخرة عن طلب عليته المتأخرة عن معرفة الحكم فلو عرف الحكم بها لكان العلم بها سابقا على معرفة الحكم فيلزم الدور

وجوابه أن المعرف للعلة المتقدم عليها هو حكم الأصل والمعرف بالعلة المتأخر عنها هو حكم الفرع فلا دور

فإن قيل هما مثلان فيشتركان في الماهية ولوازمها

قلنا لا ينافي كون أحدهما أجلى من الآخر بعارض

قوله بل في الوجوب الحادث لقائل أن يقول الوجوب الحادث على ما زعمتم أثر للخطاب القديم وثابت به فكيف يكون أثرا لشيء آخر وهو فعل حادث كالقتل مثلا وجوابه ما أشار إليه من أن معنى تأثير الخطاب القديم فيه أنه حكم بترتبه على العلة وثبوته عقيبها وعلى هذا لا يبعد أن يراد بالحكم الخطاب القديم ويكون معنى تأثير العلة تأثيرها في تعلق الخطاب بأفعال العباد

(٢/١٣٢)

قوله وكل من جعل العلل العقلية مؤثرة بذواتها يجعل العلل الشرعية كذلك

فإن قلت كون الوقت موجدا لوجوب الصلاة والقتل لوجوب القصاص ونحو ذلك مما لا يذهب إليه عاقل لأن هذه أعراض وأفعال لا يتصور منها إيجاد وتأثير

قلت معنى تأثيرها بذواتها أن العقل يحكم بوجوب القصاص بمجرد القتل العمد العدوان من غير توقف على إيجاب من موجب وكذا في كل ما تحقق عندهم أنه علة

(٢/١٣٣)

قوله كلما وجد ذلك الشيء يوجد عقيبه الوجوب

فإن قلت كثير من العلل الشرعية مما كانت متحققة قبل ورود الشرع من غير أن يوجد عقيبها الوجوب كالوقت مثلا

قلت معنى كلامه أن كل شيء جعله الشارع علة لحكم فمعنى ذلك أنه حكم بأنه كلما يوجد ذلك الشيء بشرائطه يوجد الحكم عقيبه بإيجاب اللّه تعالى فقيل ورود الشرع لا حكم بالعلية فلا وجوب عقيب وجود ذلك الشيء

قوله إلا أن يقال بالنسبة إلينا يعني أن الموجب للأحكام هو اللّه تعالى إلا أن الإيجاب لما كان غيبا عنا ونحن عاجزون عن دركها شرع العلل موجبات للأحكام في حق العمل ونسب الوجوب إليها فيما بين العباد

قوله فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة لأن تعليل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام باهتداء الخلق لازم لها وكذا تعليل إظهار المعجزات على يد النبي عليه الصلاة والسلام بتصديق الخلق وإنكار اللازم إنكار للملزوم لانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم

قوله والوصف المناسب ما يجلب نفعا أو يدفع ضررا قريب مما ذكره الإمام في المحصول أنه الوصف الذي يفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا وفسر النفع باللذة أو ما يكون طريقا إليها والضرر بالألم أو ما يكون طريقا إليه

وقد يفسر المناسب بالوصف اللائم لأفعال

(٢/١٣٤)

العقلاء في العادات الأولى قول من يجعل الأحكام الثابتة بالنصوص متعلقة بالحكم والمصالح

والثاني قول من يأبى ذلك وقال القاضي الإمام أبو زيد المناسب ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول يعني إذا عرض على العقل أن هذا الحكم إنما شرع لأجل هذه المصلحة يكون ذلك الحكم موصلا إلى تلك المصلحة عقلا وتكون تلك المصلحة أمرا مقصودا عقلا ولا يخفى أن ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل العمد العدوان وصف مناسب لوجوب القصاص والإسكار لحرمة الخمر ونحو ذلك على ما صرح به في التقسيم المذكور لا يستقيم على هذه التفاسير إذ ليس القتل مثلا مما يجلب نفعا أو يدفع ضررا ولا هو ملائم لأفعال العقلاء ولا هو مقصود من وجوب القصاص

فلذا قال المصنف رحمه اللّه تعالى وقد ذكروا أن المناسب

إما حقيقي

وإما إقناعي وأحاله على الغير لما أنه لا يستقيم على تفسير المصنف رحمه اللّه بل على التفسير الذي ذكره الآمدي في الأحكام وهو أن المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودا من شرع ذلك الحكم سواء كان المقصود جلب منفعة أو دفع مفسدة فإنه يلزم من ترتب وجوب القصاص على القتل حصول ما هو مقصود من شرعية القصاص وهو بقاء النفوس على ما يشير إليه

قوله تعالى ولكم في القصاص حياة

ويمكن أن يفسر ما ذكره أبو زيد بهذا المعنى أي المناسب هو الذي إذا عرض على العقل أن يلزم من ترتب الحكم عليه حصول ما هو المقصود منه يقبله وإنما عدل عنه الآمدي لأنه إنما يصلح للناظر لا للمناظر إذ ربما يقول الخصم هذا مما لا يتلقاه عقلي بالقبول فلا يكون مناسبا بالنسبة إلي وليس الاحتجاج بقبول الغير علي أولى من العكس ويمكن أن يقال المراد عامة العقول ولذا ذكره بلفظ الجمع

(٢/١٣٥)

قوله الأصل في النصوص عدم التعليل اختلفوا في ذلك على أربعة مذاهب فقيل الأصل عدم التعليل حتى يقوم دليل التعليل وقيل الأصل التعليل بكل وصف صالح لإضافة الحكم إليه حتى يوجد مانع عن البعض وقيل الأصل التعليل بوصف لكن لا بد من دليل يميزه من بين الأوصاف ونسب ذلك إلى الشافعي رحمه اللّه تعالى وقد اشتهر فيما بين أصحابه أن الأصل في الأحكام هو التعبد دون التعليل

والمختار أن الأصل في النصوص التعليل وأنه لا بد من دليل يميز الوصف الذي هو علة ومع ذلك لا بد قبل التعليل والتمييز من دليل يدل على هذا النص الذي يراد استخراج علته معلل في الجملة لأن الظاهر وهو أن الأصل في النصوص التعليل إنما يصلح للدفع دون الإلزام وفي المذهب الثالث لا حاجة إلى ذلك بل يكفي أن الأصل في النصوص التعليل

وجه الأول أن النص موجب للحكم بصيغته لا بعلته إذ العلل الشرعية ليست من مدلولات النص وبالتعليل ينتقل الحكم من الصيغة إلى العلة التي هي من الصيغة بمنزلة المجاز من الحقيقة فلا يصار إليه إلا بدليل وأيضا التعليل

إما بجميع الأوصاف وهو محال لأن المقصود هو التعدية ويمتنع وجود جميع أوصاف الأصل في الفرع ضرورة التغاير والتمايز في الجملة

وإما بالبعض وهو أيضا باطل لأن كل وصف عينه المجتهد محتمل للعلية وعدمها والحكم لا يثبت بالاحتمال فلا بد من دليل يرجح البعض

فإن قيل هاهنا قسم آخر هو التعليل بكل وصف

قلنا

إما أن يراد كل وصف على الإطلاق فيستلزم تعدية الحكم إلى جميع المحال إذ ما من شيئين إلا وبينهما مشاركة ما في وصف ما أو يراد كل وصف صالح للعلية وإضافة الحكم فيفضي إلى التناقض أي التعدية وعدمها لأن بعض الأوصاف متعد وبعضها قاصر على ما سيجيء فلذا لم يتعرض هاهنا لهذا القسم

(٢/١٣٦)

(٢/١٣٧)

ووجه الثاني أن الأدلة قائمة على حجية القياس من غير تفرقة بين نص ونص فيكون التعليل هو الأصل ولا يمكن بالكل ولا بالبعض دون البعض لما مر فتعين التعليل بكل وصف إلا أن يقوم مانع كمخالفة نص أو إجماع أو معارضة أوصاف

(٢/١٣٨)

ووجه الثالث أنه لا يمكن التعليل بجميع الأوصاف لما مر ولا بكل واحد لأن منها ما هو قاصر يوجب حجر القياس وقصر الحكم على الأصل ومنها ما هو متعد يوجب التعدية إلى الفرع وهذا تناقض فتعين البعض وأيضا اختلاف الصحابة في الفروع لاختلافهم في العلة يدل على إجماعهم على أن علة الحكم هو البعض دون المجموع أو كل واحد والبعض محتمل فلا بد له من مميز واحتياج التعيين والتمييز إلى الدليل لا ينافي كون الأصل هو التعليل وبهذا يخرج الجواب عن الدليل الثاني على القول الأول فلهذا اقتصر المصنف رحمه اللّه تعالى على جواب الدليل الأول

ووجه الرابع ظاهر ولقائل أن يقول لا نسلم التعليل بالقاصرة يوجب عدم التعدية بل غايته أنه لا يوجب التعدية ولا يدل إلا على ثبوت الحكم في المنصوص فعلى تقدير التعليل بكل وصف ثبت التعدية بالمتعدية وتكون القاصرة لتأكيد الثبوت في الأصل ويدل على ذلك ما ادعيتم من أن نص الربا في النقدين معلل عند الشافعية رحمهم اللّه تعالى بالثمنية مع تعدي وجوب التعيين إلى المطعوم

قوله نظيره أي نظير الأصل المذكور في

قوله عليه السلام الذهب بالذهب والفضة بالفضة

(٢/١٣٩)

مثلا بمثل يدا بيد أن

قوله عليه الصلاة والسلام يدا بيد يوجب التعيين لأن اليد آلة التعيين كالإشارة والإحضار وذلك من باب الربا أيضا أي وجوب التعيين من باب منع الربا والاحتراز عنه كوجوب المماثلة لأنه لما شرط في مطلق البيع تعيين أحد البدلين احترازا عن بيع الدين بالدين شرط في باب الصرف تعيين البدلين جميعا احترازا عن شبهة الفضل الذي هو ربا

كما شرط المماثلة في القدر احترازا عن حقيقة الفضل وقد وجدنا وجوب التعيين متعديا عن بيع النقدين إلى غيره حتى وجب التعيين في بيع الحنطة بالشعير حيث لم يجز بيع حنطة بعينها بشعير لا بعينه مع الحلول وذكر الأوصاف وحتى شرط الشافعي رحمه اللّه تعالى التقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام سواء اتحد الجنس أو اختلف ليحصل التعيين فثبت بإجماعهم على تعدية وجوب التعيين إلى غير النقدين أن نص الربا معلل في حق وجوب التعيين إذ لا تعدية بدون التعليل فيجب أن يكون معللا في حق وجوب المماثلة بطريق دلالة الإجماع حتى يتعدى إلى سائر الموزونات لأن ربا الفضل وهو مبنى تعدية وجوب المماثلة أشد ثبوتا وتحققا من ربا النسيئة وهو مبنى تعدية وجوب التعيين لأن فيه شبهة الفضل باعتبار مزية النقد على النسيئة وحقيقة الشيء أولى بالثبوت من شبهته

والحاصل أن تعليل هذا النص في ربا النسيئة دليل على كونه معللا في ربا الفضل وكونه معللا في ربا النسيئة مستند إلى الإجماع أو النص وهو

قوله عليه الصلاة والسلام إنما الربا في

(٢/١٤٠)

النسيئة وأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الربا والريبة والمراد بالريبة شبهة الربا وفي بيع النقد بالنسيئة شبهة الربا

فالدليل على كون النص معللا في الجملة قد يكون نصا أو إجماعا وقد يكون تعليلا آخر وينتهي بالآخرة إلى نص أو إجماع قطعا للتسلسل وليس في كلامهم ما يوهم أن كل تعليل يتوقف على تعليل آخر حتى يتوهم ورود الإشكال الذي أورده المصنف رحمه اللّه تعالى من لزوم التسلسل أو استغناء بعض التعليلات عن كون النص معللا

وتقرير جوابه أنا نشترط في العلة التأثير أي اعتبار الشارع جنسه أو نوعه في جنس الحكم أو نوعه فكلما ثبت عليه الوصف ثبت تأثيره وكلما ثبت تأثيره ثبت كون النص معللا في الجملة ضرورة أنه اعتبر علة لنوع الحكم المستفاد منه أو لجنسه وعلة الجنس علة للنوع وربما يقال إن استخراج العلة واعتبار كونها مؤثرة أو غير مؤثرة موقوف على كون النص معللا فإثبات ذلك به دور

قوله هذا ما قالوا إنما قال ذلك لما توهم من ورود الإشكال ولأن إثبات التعليل في ربا النسيئة كاف وكون النص من النصوص المعللة في الجملة ولا حاجة إلى باقي المقدمات ولأن وجوب التعيين والمماثلة في الأشياء الستة قد ثبت بالنص الوارد فيها وقد سبق أن من شرط التعليل والتعدية عدم النص في الفرع ويمكن أن يجاب بأنه مبني على مذهب من لا يشترط ذلك على أنه لا مناقشة في المثال ويكفي فيه الفرض والتقدير

قوله الثاني إشارة إلى نفي شرائط اعتبرها بعضهم في العلة وهي أن تكون وصفا لازما جليا منصوصا عليه ليس بمركب ولا حكم شرعي حتى لا يجوز التعليل بالعارض لأن انفكاكه يوجب انتفاء الحكم

والجواب أن المعتبر صلاحية المحل للاتصاف به ولا بالخفي كرضا المتعاقدين في

(٢/١٤١)

ثبوت حكم البيع وجوابه يأتي في فصل الاستحسان وهو أن الخفي قد يكون أقوى والاعتبار بالقوة أولى ولا بغير المنصوص لما سيأتي مع جوابه ولا بالمركب من وصفين فصاعدا وإلا لكانت العلة صفة زائدة على المجموع ضرورة أنا نعقل المجموع ونجهل كونه علة بناء على الذهول أو الحاجة إلى النظر والمجهول غير المعلوم واللازم وهو كون العلة صفة المجموع باطل لأن صفة الكل إن لم تقم بشيء من الأجزاء لم تكن صفة له وإن قامت فإما بكل جزء فيكون كل جزء علة والمقدر خلافه

وإما بجزء واحد فيكون هو العلة ولا مدخل لسائر الأجزاء

وإما بالمجموع من حيث هو المجموع وحينئذ إن لم يكن له جهة واحدة فظاهر وإن كانت ينقل الكلام إليها وإلى كيفية قيامها بالمجموع ويتسلسل

والجواب أنه لا معنى لكون الوصف علة إلا قضاء الشارع بثبوت الحكم عندها رعاية لمصلحة وليس ذلك صفة له بل جعله الشارع متعلقا به ولو سلم فالعلية وجهة الوحدة من الاعتبارات متى ينقطع التسلسل فيها بانقطاع الاعتبار ولا يجوز التعليل بحكم شرعي لأنه

إما متقدم بالزمان على ما فرض معلولا فيلزم تخلف المعلول أو متأخر فيلزم تقدم المعلول أو مقارن فيلزم التحكم إذ ليس أحدهما أولى بالعلية

والجواب أن تأثير العلل الشرعية ليس بمعنى الإيجاد والتحصيل حتى يمتنع التقدم أو التخلف ولو سلم فيجوز أن يكون أحد الحكمين صالحا للعلية من غير عكس أو يكون الثابت بالدليل عليه أحدهما دون الآخر فلا يلزم التحكم فظهر بطلان الأدلة على اشتراط الشروط المذكورة وقد ثبت بالأدلة السابقة حجية القياس وصحة التعليل من غير فصل بين اللازم والعارض أو الجلي والخفي إلى غير ذلك فثبت المطلوب والمراد بكون العلة اسم جنس أن يتعلق الحكم بمعناه القائم بنفسه مثل كون الخارج من المستحاضة دم عرق منفجر لا أن يتعلق بنفس الاسم المختلف باختلاف اللغات

قوله لأن الحكم في الأصل ثابت بالنص إشارة إلى الجواب عن استدلال الخصم وهو أن

(٢/١٤٢)

النص إذا كان معقولا فالحكم ثابت العلة دون النص لأنه لا معنى للعلة إلا ما ثبت به الشيء ولا شيء هاهنا يثبت بها سوى الحكم ولذا يعدى إلى الفرع بأن يقال ثبت في الأصل بالعلة وهي موجودة في الفرع فيثبت فيه أيضا وعدم التعدي لا يصلح مانعا للإجماع على جواز العلة القاصرة المنصوصة فأجاب بأن الحكم في الأصل ثابت بالنص سواء كان معقول المعنى أو لم يكن علل أو لم يعلل فيعد التعليل لو أضيف إلى العلة لزم بطلان النص فالمثبت للحكم هو النص

ومعنى علية الوصف كونه باعثا للشارع على شرع الحكم وإنما جازت التعدية إلى الفرع لما في التعليل من تعميم النص وشموله للفرع وبيان كونه مثبتا لحكم الفرع وقيل حكم الأصل مضاف إلى النص في نفسه وإلى العلة في حق الفرع وهذا القدر من الاشتراك كاف في القياس

قوله وإنما يجوز التعليل احتجاج على امتناع التعليل بالعلة القاصرة أي وإنما جاز التعليل بغير المنصوصة لأن الشارع لما أمر بالاعتبار المبني على التعليل مع ندرة العلة المنصوصة كان ذلك إذنا لبيان علية الأحكام لأجل القياس فيبقى بيان العلية بالقاصرة على الامتناع حتى يرد بها نص الشارع

(٢/١٤٣)

قوله إذ الفائدة الفقهية ليست إلا إثبات الحكم لقائل أن يقول إن أريد بالفائدة الفقهية ما يكون له تعلق بالفقه ونسبة إليه فلا نسلم انحصارها في إثبات الحكم لجواز أن يكون سرعة الإذعان وزيادة الاطمئنان بالأحكام والاطلاع على حكمة الشارع في شرعيتها

وإن أريد المسألة الفقهية فلا نسلم أن التعليل لا يكون إلا لأجلها لجواز أن يكون لفائدة أخرى متعلقة بالشرع فلا يلزم العبث وقد يقال إن دليل الشرع لا بد من أن يوجب علما أو عملا والتعليل بالقاصرة لا يوجب العلم وهو ظاهر ولا العمل لأنه واجب بالنص والاطلاع على الحكمة من باب العلم فلا يعتبر في حقه التعلل المفيد للظن

وجوابه أن التعليل بالقاصرة ليس من الأدلة الشرعية ولو سلم فيفيد الظن بالحكمة والمصلحة وهو يوجب سرعة الإذعان وشدة الاطمئنان وأيضا منقوض بالتعليل بالعلة القاصرة المنصوصة بنص ظني

واعلم أنه لا معنى للنزاع في التعليل بالعلة القاصرة الغير المنصوصة لأنه إن أريد عدم الجزم بذلك فلا نزاع وإن أريد عدم الظن فبعدما غلب على رأي المجتهد عليه الوصف القاصر وترجح عنده ذلك بأمارة معتبرة في استنباط العلل لم يصح نفي الظن ذهابا إلى أنه مجرد وهم على ما زعم المصنف رحمه اللّه تعالى

وأما عند عدم رجحان ذلك أو عند تعارض القاصر والمتعدي فلا نزاع في أن العلة هو الوصف المتعدي

قوله

فإن قيل تقرير السؤال لو كانت صحة التعليل موقوفة على تعدية العلة لم تكن تعديتها موقوفة على صحتها لامتناع الدور واللازم منتف للاتفاق على توقف التعدية على ثبوت العلية الموقوف على صحتها وتقرير الجواب أن الموقوف على التعليل هو التعدية بمعنى إثبات حكم مثل حكم الأصل في الفرع والتعليل موقوف على التعدية بمعنى العلم بوجود الوصف في غير مورد النص فلا دور وقد يجاب بأنه دور معية لا دور تقدم إذ العلة لا تكون إلا متعدية لا أن كونها متعدية يثبت أولا ثم تكون علة

قوله هذه المسألة مبنية على اشتراط التأثير فيه نظر لأن اقتصار الوصف على مورد النص وعدم حصوله في صورة أخرى مع عدم النص على علية الوصف لذلك الحكم لا ينافي وجود جنس

(٢/١٤٤)

الوصف في صورة أخرى واعتبار الشارع إياه جنس الحكم بأن يثبت ذلك بنص أو إجماع

قوله ويكون مانعا من علية وصف آخر قيل علية لا تزاحم في العلل فيجوز أن يثبت بالنص أو غيره للحكم علة قاصرة وأخرى متعدية ويتعدى الحكم باعتبار المتعدية دون القاصرة

قوله وإن أراد إعتاقه يعني إن أراد أنه يصير ملكا له ثم يقع عن الكفارة بإعتاق قصدي واقع بعد الملك فلا نسلم وجود هذا الوصف في الفرع أعني الأخ بل هو يعتق بمجرد الملك

قوله أو ثبت عطف على اختلف أي لا يجوز التعليل بعلة اختلف في عليتها مع الإجماع على ثبوت الحكم في الأصل كالاختلاف في أن علة عدم قتل الحر بالمكاتب هو كونه عبدا أو الجهل بأن مستحق استيفاء القصاص هو السيد أو غيره من الورثة بناء على عدم العلم بأنه هل يفي ببدل الكتابة أم لا

قوله أداء بعض البدل عوض والعوض مانع من جواز التكفير وهو موجود في الأصل دون الفرع

فإن قلت هذا ليس من قبيل التعليل بوصف يقع به الفرق إذ أداء بعض البدل لا يوجد في الفرع وهو المكاتب الذي لم يؤد شيئا فكيف يجعل علة

قلت معنى الكلام أنه لا يجوز التعليل بعلة مع وصف يقع به الفرق فالباء في

قوله بوصف ليست صلة للتعليل بل هي باء المصاحبة وحينئذ لا إشكال

قوله الثالث لا شك أن كون الوصف الجامع علة حكم خبري غير ضروري فلا بد في إثباته من دليل وله مسالك صحيحة ومسالك يتوهم صحتها فلا بد من التعرض لهما ولما يتعلق بكل منهما والمسالك الصحيحة ثلاثة النص والإجماع والمناسبة ثم النص

إما صريح وهو ما دل بوضعه

وإما إيماء وهو أن يلزم من مدلول اللفظ فالصريح له مراتب منها ما صرح فيه بالعلية مثل العلة كذا أو لأجل كذا أو كي يكون كذا ومنها ما ورد فيه حرف ظاهر في التعليل مثل لكذا أو بكذا وإن كان كذا فإن هذه الحروف قد تجيء لغير العلية كلام العاقبة و باء المصاحبة و إن المستعملة في مجرد الشرط والاستصحاب ومنها ما دخل فيه الفاء في كلام الشارع

إما في

(٢/١٤٥)

الوصف مثل زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما

وأما في الحكم نحو والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما والحكمة فيه أن الفاء للترتيب والباعث مقدم في التعقل متأخر في الخارج فيجوز دخول الفاء على كل منهما ملاحظة للاعتبارين وهذا دون ما قبله لأن الفاء للتعقيب ودلالته على العلية استدلالية ومنها ما دخل فيه الفاء في لفظ الراوي مثل سها فسجد وزنى ماعز فرجم وهذا دون ما قبله لاحتمال الغلط إلا أنه لا ينفي الظهور

وأما الإيماء فهو أن يقرن بالحكم ما لو لم يكن هو أو نظيره التعليل لكان بعيدا فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد كما في قصة الأعرابي فإن غرضه من ذكر المواقعة بيان حكمها وذكر الحكم جواب له ليحصل غرضه لئلا يلزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيكون السؤال مقدرا في الجواب كأنه قال واقعت فكفر وهذا يفيد أن الوقاع علة للإعتاق إلا أن الفاء ليست محققة ليكون صريحا بل مقدرة فيكون إيماء مع احتمال عدم قصد الجواب كما يقال العبد طلعت الشمس فيقول السيد اسقني ماء وكحديث الخثعمية فإنها سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن دين اللّه تعالى فذكر نظيره وهو دين الآدمي فنبه على كونه علة للنفع وإلا لزم العبث

والإيماء له أيضا مراتب كذا ذكره ابن الحاجب وفيه تصريح بأن مثل

قوله عليه الصلاة والسلام فإنه يحشر ملبيا من قبيل التصريح على ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى دون الإيماء على ما وقع في المحصول

وأما كلمة إن بدون الفاء مثل إنها من الطوافين فالمذكور في أكثر الكتب

(٢/١٤٦)

أنها من قبيل الصريح لما ذكره الشيخ عبد القاهر أنها في مثل هذه المواقع تقع موقع الفاء وتغني غناءها وجعلها بعضهم من قبيل الإيماء نظرا إلى أنها لم توضع للتعليل وإنما وقعت في هذه المواقع لتقوية الجملة التي يطلبها المخاطب ويتردد فيها ويسأل عنها ودلالة الجواب على العلية إيماء لا صريح وبالجملة كلمة إن مع الفاء أو بدونها قد تورد في أمثلة الصريح وقد تورد في أمثلة الإيماء ويعتذر عنه بأنه صريح باعتبار أن والفاء وإيماء باعتبار ترتب الحكم على الوصف

وأما ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى في تعليله أن من احتمال كونها على حذف اللام فبعيد لأنه إنما يكون في أن بالفتح

قوله واعلم أن في هذه المواضع فيه سوء ترتيب لأنه كان ينبغي أن يقدم المنع ثم يتكلم على تقدير التسليم ثم المتمسكون بمسلك الإيماء لا يدعون أنه يدل على العلية قطعا حتى يكون احتمال أن تكون العلة شيئا آخر فادحا في كلامهم بل يدعون فيه الظن وظهور العلية دفعا للاستبعاد والغاية والاستثناء وغيرهما سواء في ذلك

وأما التعليل بالعلة القاصرة التي لا يمكن بها القياس فجائز اتفاقا في المنصوصة أي التي يدل عليها النص صريحا أو إيماء مثل أقم الصلاة لدلوك الشمس والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما والقاتل لا يرث وللفارس سهمان فمقصودهم بيان وجوه دلالة النص على العلية سواء أمكن بها القياس أو لم يمكن

(٢/١٤٧)

قوله وثالثها المناسبة وهي كون الوصف بحيث يكون ترتب الحكم عليه متضمنا لجلب نفع أو دفع ضرر معتبر في الشرع كما يقال الصوم شرع لكسر القوة الحيوانية فإنه نفع بحسب الشرع وإن كان ضررا بحسب الطب

وقد اضطرب كلام القوم في بحث المناسبة وأقسامها وما يتعلق بها وللمصنف رحمه اللّه تعالى في تحقيق هذا المقام تعليق أورد فيه غاية ما أدى إليه نظره فنحن نورده ونزيد عليه نبذا من كلام القوم يطلعك على اختلاف كلمتهم في هذا المقام عسى أن تفوز في أثنائه بالمرام فالمذكور في كلام فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى ومن تبعه أن جمهور العلماء على أن الوصف لا يصير علة بمجرد الاطراد بل لا بد لذلك من معنى يعقل بأن يكون صالحا للحكم ثم يكون معدلا بمنزلة الشاهد فلا بد من اعتبار صلاحه للشهادة بالعقل والبلوغ والحرية والإسلام ثم اعتبار عدالته بالاجتناب عن محظورات الدين فكذا لا بد لجعل الوصف علة من صلاحه للحكم بوجوب الملاءمة ومن عدالته بوجود التأثير فالتعليل لا يقبل ما لم يقم الدليل على كون الوصف ملائما وبعد الملاءمة لا يجب العمل به إلا بعد كونه مؤثرا عندنا ومخيلا عند أصحاب الشافعي رحمه اللّه تعالى فالملاءمة شرط لجواز العمل بالعلل والتأثير أو الإخالة شرط لوجوب العمل دون الجواز حتى لو عمل بها قبل ظهور التأثير نفذ ولم ينفسخ ومعنى الملاءمة الموافقة والمناسبة للحكم بأن يصح إضافة الحكم إليه ولا يكون نائبا عنه كإضافة ثبوت الفرقة في إسلام أحد الزوجين إلى إباء الآخر عن الإسلام لأنه يناسبه لا إلى وصف الإسلام لأنه ناب عنه لأن الإسلام عرف عاصما للحقوق لا قاطعا لها وهذا معنى قولهم الملاءمة أن يكون الوصف على وفق ما جاء من السلف فإنهم كانوا يعللون بالأوصاف الملائمة للأحكام لا النائية عنها فظهر من هذا أن معنى الملاءمة هو المناسبة وأنها تقابل الطرد أعني وجود الحكم عند وجود الوصف من غير اشتراط ملاءمة أو تأثير أو وجوده عند وجوده وعدمه عند عدمه على اختلاف الرأيين

والمذكور في أصل الشافعية أن المناسبة هو كون الوصف بحيث يجلب للإنسان نفعا أو يدفع

(٢/١٤٨)

عنه ضررا وهو كون الوصف على منهاج المصالح بحيث لو أضيف الحكم إليه انتظم كالإسكار لحرمة الخمر بخلاف كونها مائعا يقذف بالزبد ويحفظ في الدن وأن من المناسب ملائما وغير ملائم فخلط المصنف رحمه اللّه تعالى كلام الفريقين وذهب إلى أن المناسب ما يكون متضمنا لمصلحة اعتبرها الشرع كحفظ النفس والمال والدين والنسب والعقل وغير ذلك مما سبق ذكره والملاءمة شرط زائد على ذلك فلا بد أن يفسر بما يغايرها ويكون أخص منها وقد فسرها القوم بكون الوصف على وفق العلل الشرعية وظن المصنف رحمه اللّه تعالى أن المراد منه اعتبار الشارع جنس هذا الوصف في جنس هذا الحكم فالمراد الجنس الذي هو أخص من كونه متضمنا لمصلحة اعتبرها الشرع كمصلحة حفظ النفس مثلا فالمراد أنه يجب أن يكون أخص من مصلحة حفظ النفس وكذا من مصلحة حفظ الدين إلى غير ذلك ولا يكفي كونه أخص من المتضمن لمصلحة ما لأن المتضمن لمصلحة حفظ النفس أخص من المتضمن لمصلحة ما وليس بملائم حتى لو قيل شرع هذا الحكم لمصلحة حفظ النفس لم يصح لأنه تعليل بالمناسب دون الملائم ومجرد حفظ النفس قد لا يكون مصلحة كما في الجهاد بل لا بد من خصوصية اعتبرها الشارع ثم الجنس الذي اعتبره الشارع في جنس الحكم قد يكون قريبا لا واسطة بينه وبين نوع الوصف وقد يكون بينهما واسطة أو أكثر وهذا متصاعد إلى أن يبلغ الجنس الذي هو أعم من الكل وأخص من المتضمن لحفظ مصلحة النفس مثلا وكلما كان الجنس أقرب إلى الوصف أي أقل واسطة وأشد خصوصية كان القياس أقوى وبالقبول أحرى لكونه بالتأثير أنسب وإلى اعتبار الشرع أقرب قال الآمدي في الأحكام إن لكل من الوصف والحكم أجناسا عالية وقريبة ومتوسطة فالجنس العالي للحكم الخاص هو الحكم وأخص منه الوجوب مثلا ثم العبادة ثم الصلاة ثم المكتوبة والجنس العالي للوصف الخاص كونه وصفا تناط الأحكام به وأخص منه المناسب ثم المصلحة الضرورية ثم حفظ النفس وهكذا ولا شك أن الظن الحاصل باعتبار خصوص الوصف في خصوص الحكم لكثرة ما به الاشتراك أقوى من الظن الحاصل من اعتبار العموم في العموم فما كان الاشتراك فيه بالجنس السافل فهو أغلب على الظن وما كان بالعالي فهو أبعد وما كان المتوسط

(٢/١٤٩)

بالمتوسط فمتوسط على الترتيب في الصعود والنزول

ثم قال إن من القياس مؤثرا تكون علته منصوصة أو مجمعا عليها أو أثر عين الوصف في عين الحكم أو في جنسه أو جنسه في عين الحكم ومنه ملائما أثر جنس الوصف في جنس الحكم كما سبق تحقيقه وما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى من المراد بالملائم كأنه يناسب هذا الاصطلاح لولا إطلاق الجنس هاهنا ثم قال ومن الناس من جعل ما أثر عينه في عين الحكم مؤثرا وما سواه من الأقسام الثلاثة ملائما وقال أيضا الملائم ما أثر عين الوصف في عين الحكم كما أثر جنس الوصف في جنس الحكم والمذكور من كلام المحققين من شارحي أصول ابن الحاجب أن الملائم هو المناسب الذي لم يثبت اعتباره بنص أو إجماع بل يترتب الحكم على وفقه فقط ومع ذلك ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في جنس الحكم وأيضا الملائم هو المرسل الذي لم يعلم إلغاؤه بل علم اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم والمراد بالمرسل ما لم يعتبر لا بنص ولا بإجماع ولا بترتب الحكم على وفقه

فإن قلت كيف يتصور اعتبار العين في الجنس أو الجنس في العين أو الجنس في الجنس فيما لم يعتبر شرعا أصلا وهل هذا إلا تهافت

قلت معنى الاعتبار شرعا عند الإطلاق هو اعتبار عين الوصف في عين الحكم وعلى هذا لا إشكال وبالجملة لا يوجد في كلام الفريقين ما يوافق التفسير الذي ظنه المصنف رحمه اللّه تعالى

قوله والملائم كالصغر في ثبوت ولاية النكاح فإن الشارع اعتبر جنس ذلك الوصف وهو الضرورة في جنس ولاية النكاح وهو الحكم الذي يندفع به الضرورة واعترض المصنف رحمه اللّه تعالى بأنه يجب في الملائم أن يكون جنس الوصف أخص من مطلق الضرورة بل من ضرورة حفظ النفس ونحوه أيضا فالأولى أن يقال الحاجة ماسة إلى تطهير الأعضاء عن النجاسة بالماء وإلى تطهير العرض عن النسبة إلى الفاحشة بالنكاح ونجاسة سؤر الطوافين مانع يتعذر الاحتراز عنه من تطهير العضو كالصغر عن تطهير العرض فالوصف الشامل للصورتين دفع الحرج المانع عن التطهير المحتاج إليه والحكم الذي هو جنس الطهارة والولاية هو الحكم الذي يندفع به الحرج المذكور

(٢/١٥٠)

قوله وعند بعض الشافعية يعني أن القائلين بوجوب العمل بالملائم فرقتان فرقة توجب العمل بالملائم بشرط شهادة الأصول بمعنى أن يقابل بقوانين الشرع فيطابقها سالما عن المناقضة أعني إبطال نفسه بأثر أو نص أو إجماع أو إيراد تخلف الحكم عن الوصف في صورة أخرى وعن المعارضة أعني إيراد وصف يوجب خلاف ما أوجبه ذلك الوصف من غير تعرض لنفس الوصف كما يقال لا تجب الزكاة في نفس ذكور الخيل فلا تجب في إناثها بشهادة الأصول على التسوية بين الذكور والإناث وأدنى ما يكفي في ذلك أصلان وذلك لأن المناسب بمنزلة الشاهد والعرض على الأصول تزكية بمنزلة العرض على المزكين

وأما العرض على جميع الأصول كما ذهب إليه البعض فلا يخفى أنه متعذر أو متعسر والمصنف رحمه اللّه تعالى فسر شهادة الأصل بأن يكون للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه وفرقة توجب العمل بالملائم بمجرد كونه مخيلا أي موقعا في القلب خيال العلية والصحة والأوصاف التي تعرف عليتها بمجرد الإخالة تسمى بالمصالح المرسلة

والمذكور في أصول الشافعية أن المناسب هو المخيل ومعناه تعيين العلة في الأصل بمجرد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل لا بنص ولا بغيره ثم قالوا والمناسب ينقسم إلى مؤثر وملائم وغريب ومرسل لأنه

إما معتبر شرعا أو لا

أما المعتبر فإما أن يثبت اعتباره بنص أو إجماع وهو المؤثر أو لا بل يترتب الحكم على وفقه فقط فذلك لا يخلو

إما أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو اعتبار جنسه في عين الحكم واعتبار جنسه في جنس الحكم أو لا فإن ثبت فهو الملائم وإن لم يثبت فهو الغريب

وأما غير المعتبر لا بنص ولا بإجماع ولا بترتب الحكم على وفقه فهو المرسل وينقسم إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لم يعلم إلغاؤه والثاني ينقسم إلى ملائم قد علم اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو في جنسه وإلى ما لم يعلم منه ذلك وهو الغريب فإن كان غريبا أو علم إلغاؤه فمردود اتفاقا وإن كان ملائما فقد صرح إمام الحرمين والإمام الغزالي رحمهما اللّه بقبوله وشرط الغزالي في قبوله شروطا ثلاثة أن تكون ضرورية لا حاجية وقطعية لا ظنية وكلية لا جزئية أي مختصة بشخص ففتح القلعة ليس في محل الضرورة وخوف الاستيلاء من غير قطع لا يجوز الرمي لكونه ظنيا وإلقاء بعض أهل السفينة لنجاة البعض لا يجوز لأن المصلحة جزئية فالملائم كعين الصغر المعتبر في جنس الولاية إجماعا وكجنس الحرج المعتبر في عين رخصة الجمع وكجنس الجناية العمد العدوان المعتبر في جنس

(٢/١٥١)

القصاص والغريب كما يعارض بنقيض مقصود الفار فيحكم بإرث زوجته قياسا على القاتل حيث عورض بنقيض مقصوده وهو الإرث فحكم بعدم إرثه فهذا له وجه مناسبة

وفي ترتيب الحكم عليه تحصيل مصلحة هي نهيه عن الفعل الحرام لكن لم يشهد له أصل بالاعتبار بنص أو إجماع وما علم إلغاؤه كتعيين إيجاب الصوم في الكفارة على من يسهل عليه الإعتاق كالملك فإنه مناسب لتحصيل مصلحة الزجر لكن علم عدم اعتبار الشارع له

قال الإمام الغزالي رحمه اللّه تعالى من المصالح ما شهد الشرع باعتباره وهي أصل في القياس وحجة ومنها ما شهد ببطلانه كتعيين الصوم في كفارة الملك وهو باطل ومنها ما لم يشهد له لا بالاعتبار ولا بالإبطال وهذا في محل النظر والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع من المحافظة على الخمسة الضرورية فكل ما يتضمن حفظ هذه الخمسة الضرورية وكل ما يقويها فهي مصلحة ودفعها مفسدة وإذا أطلقنا المعنى المخيل أو المناسب في باب القياس أردنا به هذا الجنس والمصالح الحاجية أو التحسينية لا يجوز الحكم بمجردها ما لم تعضد بشهادة الأصول لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي وإذا اعتضد بأصل فهو قياس

وأما المصلحة الضرورية فلا بعد في أن يؤدي إليها رأي مجتهد وإن لم يشهد له أصل معين كما في مسألة التترس فإنا نعلم قطعا بأدلة خارجة عن الحصر أن تقليل القتل مقصود للشارع كمنعه بالكلية لكن قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين ونحن إنما نجوزه عند القطع أو ظن قريب من القطع وبهذا الاعتبار نخصص هذا الحكم من العمومات الواردة في المنع عن القتل بغير حق لما نعلم قطعا أن الشرع يؤثر الحكم الكلي على الجزئي وأن حفظ أهل الإسلام أهم من حفظ دم مسلم واحد وهذا وإن سميناه مصلحة مرسلة لكنها راجعة إلى الأصول الأربعة لأن مرجع المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع المعلومة بالكتاب والسنة والإجماع ولأن كون هذه المعاني عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات سميناه مصلحة مرسلة لا قياسا إذ القياس أصل معين وقال بعد ما قسم المناسب إلى مؤثر وملائم وغريب إن المعنى المناسب أربعة أقسام ملائم يشهد له أصل معين فيقبل قطعا ومناسب لا يلائم ولا يشهد له أصل معين فلا يقبل قطعا كحرمان القاتل لو لم يرد فيه نص معارض له بنقيض

(٢/١٥٢)

قصده ومناسب يشهد له أصل معين لكن لا يلائم فهو في محل الاجتهاد وملائم لا يشهد له أصل معين وهو الاستدلال المرسل وهو أيضا في محل الاجتهاد

قوله لكن وجد اعتبار الضرورة في الرخص وفي استباحة المحرمات أورد المصنف رحمه اللّه تعالى عليه الاعتراض السابق وهو أن هذا اعتبار للجنس الأبعد وهو غير كاف في الملاءمة فالأولى أن يقال اعتبر الشرع حصول النفع الكثير في تحمل الضرر اليسير وجميع التكاليف الشرعية مبنية على ذلك

قوله والتأثير عندنا إنما قال عندنا لأنه عند أصحاب الشافعي رحمه اللّه تعالى أخص من ذلك وهو أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار عين الوصف في عين ذلك الحكم ولذا قال الإمام الغزالي رحمه اللّه تعالى المؤثر مقبول باتفاق القايسين وقصر أبو زيد الدبوسي القياس عليه لكنه أورد للمؤثر أمثلة عرف بها أنه من قبيل الملائم لكنه سماه أيضا مؤثرا فالقياس ينقسم باعتبار عين العلة وجنسها وعين الحكم وجنسه أربعة أقسام الأول أن يظهر تأثير عين الوصف في عين الحكم وهو الذي يقال إنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يقر به منكرو القياس إذ لا فرق إلا بتعدد المحل

الثاني أن يظهر تأثير عينه في جنس الحكم

الثالث أن يظهر تأثير جنسه في عينه وهو

(٢/١٥٣)

الذي خصصناه باسم الملائم وخصصنا اسم المؤثر بما يظهر تأثير عينه

الرابع أن يظهر تأثير الجنس في الجنس وهو الذي سميناه المناسب الغريب ثم للجنسية مراتب عموما وخصوصا فمن أجل ذلك تتفاوت درجات الظن والأعلى مقدم على الأسفل والأقرب مقدم على الأبعد في الجنسية فالمصنف رحمه اللّه تعالى أخذ من كلامهم تفسير المؤثر وقيد الجنس بالقريب ليتميز عن الملائم على ما سبق وأورد بدل العين النوع لئلا يتوهم أن المراد هو الوصف والحكم مع خصوصية المحل كالسكر المخصوص بالخمر والحرمة المخصوصة بها فيوهم أن للخصوصية مدخلا في العلية فالمراد بالوصف الوصف الذي يجعل علة لا مطلق الوصف وكذا المراد بالحكم الحكم المطلوب بالقياس لا مطلق الحكم لأن جميع الأوصاف والأحكام حتى الأجناس أنواع لمطلق الوصف والحكم فلا يبقى فرق بين علية السكر للحرمة وعلية الضرورة للتخفيف فإضافة النوع إلى الوصف والحكم بمعنى من البيانية أي النوع الذي هو الوصف أو الحكم المطلوب فهو نوع لمطلق الوصف والحكم وقد بين بالإضافة إلى الوصف المخصوص والحكم المطلوب احترازا عن الأنواع العالية والمتوسطة التي وقع التعبير عنها بلفظ الجنس

وأما إضافة الجنس إلى الوصف والحكم فهي بمعنى اللام على أن المراد بهما الوصف المعين والحكم المطلوب كما في حالة إضافة النوع والمراد بالجنس ما هو أعم من ذلك الوصف أو الحكم مثلا عجز الإنسان عن الإتيان بما يحتاج إليه وصف هو علة لحكم فيه تخفيف للنصوص الدالة على عدم الحرج والضرر فعجز الصبي الغير العاقل نوع وعجز المجنون نوع آخر وجنسهما العجز بسبب عدم العقل وفوقه الجنس الذي هو العجز بسبب ضعف القوي أعم من الظاهرة والباطنة على ما يشمل المريض وفوقه الجنس الذي هو العجز الناشئ من الفاعل بدون اختياره على ما يشمل المحبوس وفوقه الجنس الذي هو العجز الناشئ من الفاعل على ما يشمل المسافر أيضا وفوقه مطلق العجز الشامل لما ينشأ عن الفاعل وعن محل الفعل وعن الخارج وهكذا في جانب الحكم فليعتبر مثل ذلك في جميع الأوصاف والأحكام وإلا فتحقيق الأنواع والأجناس بأقسامها مما يعسر في الماهيات الحقيقية فضلا عن الاعتباريات فالحاصل أن الوصف المؤثر هو الذي ثبت بنص أو إجماع علية ذلك النوع من الوصف لذلك النوع من الحكم كالعجز بسبب عدم العقل لسقوط ما يحتاج إلى النية أو علية جنس ذلك الوصف

(٢/١٥٤)

لنوع ذلك الحكم كعدم دخول شيء في الجوف لعدم فساد الصوم أو علية ذلك النوع من الوصف لجنس ذلك الحكم كما في سقوط الزكاة عمن لا عقل له فإن العجز بواسطة عدم العقل مؤثر في سقوط ما يحتاج إلى النية وهو جنس لسقوط الزكاة أو علية جنس الوصف لجنس الحكم كما في سقوط الزكاة عن الصبي بتأثير العجز بسبب عدم العقل في سقوط ما يحتاج إلى النية

وأما أمثلة المتن ففي بعضها نظر لما سيأتي من أن السكر والصغر من قبيل المركب ولما سبق من أن المراد هاهنا الجنس القريب والضرورة للطواف ليست كذلك بل قد عرفت أنه ليس بملائم فضلا عن المؤثر

قوله وقد يتركب بعض الأربعة لا خفاء في أن أقسام المفرد أربعة حاصلة من ضرب الاثنين في الاثنين لأن المعتبر في جانب الوصف هو النوع أو الجنس وكذا في جانب الحكم وحينئذ يلزم انحصار المركب في أحد عشر لأن التركيب

إما ثنائي أو ثلاثي أو رباعي

أما الرباعي فواحد لا غير

وأما الثلاثي فأربعة لأنه إنما يصير ثلاثيا بنقصان واحد من الرباعي وذلك الواحد

إما أن يكون اعتبار النوع في النوع أو في الجنس أو اعتبار الجنس في النوع أو في الجنس

وأما الثنائي فستة لأن كل واحد من الأقسام الأربعة للأفراد ويتركب مع كل من الثلاثة الباقية ويصير اثنا عشر حاصلة من ضرب الأربعة في الثلاثة فيسقط ستة بموجب التكرار أو نقول اعتبار النوع في النوع

إما أن يتركب مع اعتبار الجنس في النوع أو مع اعتبار النوع في الجنس أو مع اعتبار الجنس في الجنس ثم اعتبار الجنس في النوع

إما أن يتركب مع اعتبار النوع في الجنس أو مع اعتبار الجنس في الجنس ثم اعتبار النوع في الجنس يتركب مع اعتبار الجنس في الجنس

فإن قلت اعتبار النوع يستلزم اعتبار الجنس ضرورة أنه لا وجود للنوع بدون الجنس فلا يتصور الإفراد إلا في اعتبار الجنس في الجنس

وأما اعتبار النوع في النوع فيستلزم التركيب الرباعي ألبتة واعتبار النوع في الجنس أو عكسه يستلزم التركيب الثنائي

قلت المراد الاعتبار قصدا لا ضمنا حتى إن الرباعي ما يكون كل من الاعتبارات الأربعة مقصودا على حدة فالمركب من الأربعة كالسكر فإنه مؤثر في الحرمة وكذا جنسه الذي هو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثر في الحرمة ثم السكر يؤثر في وجوب الزاجر أعم من أن يكون أخرويا كالحرمة أو دنيويا كالحد ثم لما كان السكر مظنة للقذف صار المعنى المشترك بينهما وهو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثرا في وجوب الزاجر

(٢/١٥٥)

وأما المركب من الثلاثة فالمركب مما سوى اعتبار النوع في النوع كالتيمم عند خوف فوت صلاة العيد فإن الجنس وهو العجز الحكمي بحسب المحل يحتاج إليه شرعا مؤثر في الجنس أي في سقوط الاحتياج في النوع لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا إقامة لأحد العناصر مقام الآخر فإن التراب مطهر في بعض الأحوال بحسب نشف النجاسات وأيضا عدم وجدان الماء وهو النوع مؤثر في الجنس وهو عدم وجوب استعماله لكن النوع وهو خوف الفوت لا يؤثر في النوع أي في التيمم من حيث إنه تيمم والمركب مما سوى اعتبار الجنس في النوع كما في التيمم إذا لم يجد إلا ماء يحتاج إلى شربه فإن العجز الحكمي بحسب المحل عن استعمال ما يحتاج إليه شرعا مؤثر في سقوط الاحتياج فهذا تأثير الجنس في الجنس ثم النوع مؤثر في النوع لقوله تعالى فلم تجدوا ماء على ما ذكرنا وأيضا عدم وجدان الماء وهو النوع مؤثر في الجنس أي في عدم استعماله دفعا للّهلاك لكن الجنس غير مؤثر في النوع لأن العجز المذكور لا يؤثر في التيمم من حيث هو التيمم والمركب مما سوى اعتبار النوع في الجنس كالحيض في حرمة القربان فهذا تأثير النوع في النوع وجنسه وهو الأذى علة أيضا لحرمة القربان ولجنسه وهو وجوب الاعتزال والمركب مما سوى اعتبار الجنس في الجنس يقال الحيض علة لحرمة الصلاة فهذا تأثير النوع في النوع وأيضا علة للجنس وهو حرمة القراءة أعم من أن يكون في الصلاة أو خارجها ولجنسه وهو الخروج من السبيلين تأثير في حرمة الصلاة لكن ليس له تأثير في الجنس وهو حرمة القراءة مطلقا

وأما المركب من الاثنين فالمركب من اعتبار النوع في النوع مع الجنس في النوع كما في طهارة سؤر الهرة فإن الطواف علة للطهارة لقوله عليه الصلاة والسلام إنها من الطوافين وجنسه هو مخالطة نجاسة يشق الاحتراز عنها علة للطهارة كآبار الفلوات والمركب من اعتبار النوع في النوع مع النوع في الجنس كإفطار المريض فإنه مؤثر في الجنس وهو التخفيف في العبادة وكذا في الإفطار بسبب الضرر والمركب من اعتبار النوع في النوع مع الجنس في الجنس كولاية النكاح في المجنون جنونا مطبقا فإنه من حيث إنه عجز بسبب عدم العقل مؤثر في مطلق الولاية ثم من حيث إنه عجز دائمي بسبب عدم العقل علة لولاية النكاح للحاجة بخلاف الصغر فإنه من حيث إنه صغر لا يوجب هذه الولاية

والمركب من اعتبار الجنس في النوع مع الجنس في الجنس كالولاية في مال

(٢/١٥٦)

الصغير فإن العجز لعدم العقل مؤثر في مطلق الولاية ثم هو مؤثر في الولاية في المال للحاجة إلى بقاء النفس والمركب من اعتبار الجنس في النوع مع النوع في الجنس كخروج النجاسة فإنه مؤثر في وجوب الوضوء ثم خروجها من غير السبيلين كما في اليد وهي آلة التطهير مؤثر في وجوب إزالتها والمركب من اعتبار النوع في الجنس مع الجنس في الجنس كما في عدم الصوم على الصبي والمجنون فإن العجز لعدم العقل مؤثر في سقوط العبادة للاحتياج إلى النية ثم الجنس وهو العجز لخلل في القوى مؤثر في سقوط العبادة كذا ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى

قوله ولا شك أن المركب من أربعة أقوى الجميع يعني أن قوة الوصف إنما هي بحسب التأثير والتأثير بحسب اعتبار الشارع وكلما كثر الاعتبار قوي الآثار فيكون المركب أقوى من البسيط والمركب من أجزاء أكثر أقوى من المركب من أجزاء أقل وأنت خبير بأنه إنما يستقيم فيما سوى اعتبار النوع في النوع أنه أقوى الكل لكونه بمنزلة النص حتى يكاد يقر به منكرو القياس إذ لا فرق إلا بتعدد المحل فالمركب من غيره لا يكون أقوى منه

قوله وقد سمى البعض ذكر في بعض أصول الشافعية رحمهم اللّه تعالى أن المناسب الغريب ما يؤثر نوعه في نوع الحكم ولم يؤثر جنسه في جنسه كالطعم في الربا فإن نوع الطعم وهو الاقتيات مؤثر في ربوية البر ولم يؤثر جنس الطعم في ربوية سائر المطعومات كالخضراوات والملائم هو الأقسام الثلاثة الباقية

قوله ثم لا يخلو أي الحكم بعد التعليل لا يخلو من أن يكون مقرونا بشهادة الأصل أو لا يكون ففي الكلام حذف والمراد بشهادة الأصل أن يكون للحكم المعلل أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه وإنما

قلنا المراد أنه لا يخلو من أن يكون له أصل أو لا يكون لما ذكر أن كلا من اعتبار النوع في الجنس واعتبار الجنس في الجنس قد يوجد بدون شهادة الأصل فصار الحاصل أن كلا من اعتبار النوع في النوع واعتبار الجنس في النوع يستلزم شهادة الأصل وهو معنى العموم والخصوص المطلق

وأما اعتبار النوع في الجنس أو الجنس في الجنس فلا يستلزم شهادة الأصل بل قد يجتمعان وقد يفترقان وهذا معنى العموم والخصوص من وجه فالتعليل بالوصف الذي اعتبر نوعه أو جنسه في نوع الحكم يكون قياسا لا محالة لأن الحكم المعلل مقيس والأصل الشاهد مقيس عليه وكذا التعليل بالوصف الذي اعتبر نوعه في جنس الحكم أو جنسه في جنسه إذا كان مع شهادة الأصل

وأما إذا كان بدونها فهو تعليل مشروع مقبول بالاتفاق لكن عند بعضهم يسمى قياسا وعند بعضهم يكون استدلالا بعلة مستنبطة بالرأي بمنزلة ما قال الشافعي رحمه اللّه تعالى إن التعليل بالعلة المتعدية يكون قياسا وبالعلة القاصرة لا يكون قياسا بل يكون بيان علة شرعية للحكم وقال شمس الأئمة رحمه اللّه تعالى الأصح عندي أنه قياس على كل حال فإن مثل هذا الوصف يكون له أصل في الشرع لا محالة ولكن يستغنى عن ذكره لوضوحه وربما لا يقع

(٢/١٥٧)

الاستغناء عنه فيذكر فعلى هذا لا يكون الخلاف في مجرد تسميته قياسا على ما ذهب إليه المصنف رحمه اللّه تعالى بل عند البعض يكون التعليل بالوصف المؤثر مستلزما لشهادة الأصل لكنه قد يذكر وقد لا يذكر وحينئذ يصح أن يحمل

قوله ثم لا يخلو من أن يكون له أصل معين على ظاهره

قوله وإذا وجد شهادة الأصل بدون التأثير يعني أن شهادة الأصل قد توجد بدون كل من الأنواع الأربعة للتأثير وحينئذ يسمى الوصف غريبا لعدم تأثيره فلا يقبل عندنا أي لا يجب قبوله لأن شرط وجوب القبول هو التأثير أو المراد أنه لا يقبل ما لم يكن ملائما

فإن قلت الملائم يجب أن يعتبر جنسه في جنس الحكم فهو أحد الأنواع الأربعة فالغريب لا يكون ملائما

قلت أحد الأنواع هو اعتبار الجنس القريب في الجنس القريب على ما مر في تفسير المؤثر

والمعتبر في الملائم هو الجنس البعيد فالغريب بمعنى غير المؤثر يجوز أن يكون ملائما فظهر أن اسم الغريب يطلق على نوعين من الوصف أحدهما اعتبر نوعه في نوع الحكم على ما سبق من أن البعض يسمي أول الأربعة غريبا والثلاثة الباقية ملائمة وهو مقبول بالاتفاق وثانيهما ما يوجد جنسه أو نوعه في نوع ذلك الحكم لكن لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه في نظر الشارع وهو مردود إذا لم يكن ملائما خلافا لأصحاب الطرد وأشار المصنف رحمه اللّه تعالى في أثناء كلامه إلى إثبات شهادة الأصل بدون التأثير بأنها قد توجد بدون الأولين يعني اعتبار النوع أو الجنس في النوع لكونها أعم منها مطلقا وبدون الأخيرين يعني اعتبار النوع في الجنس أو الجنس في الجنس لكونها أعم منهما من وجه فتوجد بدون التأثير في الجملة لانحصاره في الأنواع الأربعة وما يتركب منها وفيه نظر لأن التحقق بدون كل واحد من الأربعة لا يستلزم جواز التحقق بدون المجموع فيجوز أن يكون أعم من الأولين باعتبار أن يوجد في الأخيرين وبالعكس فبمجرد ذلك لا يلزم أن يوجد بدون التأثير

(٢/١٥٨)

قوله وإنما اعتبرنا التأثير في العلة لوجوب العمل بالقياس لوجهين أحدهما أن القياس أمر شرعي فلا بد فيه من اعتبار الشارع

وثانيهما أن الأقيسة المنقولة عن الصحابة والتابعين رضي اللّه تعالى عنهم كلها مبنية على العلل المؤثرة

وأجيب عن الأول أن يكون القياس أمرا شرعيا لا يقتضي إلا أن يكون له أصل في الشرع

وأما لزوم أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار الشارع نوع الوصف أو جنسه القريب في نوع الحكم أو جنسه القريب على ما فسرتم به التأثير فممنوع ولم لا يكفي الجنس البعيد وحصول الظن بوجوه أخر من مسالك العلة كيف وقد جوزتم العمل بغير المؤثر أيضا وعن الثاني بأنه لا يدل إلا على أن الأقيسة المنقولة كلها مبنية على علل معقولة مناسبة وليس النزاع في ذلك بل في التأثير بالمعنى المذكور ولا يخفى أن في كثير من الأقيسة المنقولة قد اعتبرت الأجناس البعيدة ولم يثبت اعتبار الوصف بنص أو إجماع بل بوجوه أخر

والظاهر أن مرادهم بالتأثير في هذا المقام ما يقابل الطرد فمعناه أن يكون الوصف مناسبا ملائما لإضافة الحكم إليه سواء كان مؤثرا بالمعنى الذي ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى أو لا وحينئذ يتم الاستدلال وهذا ظاهر من النظر في كلامهم في هذا المقام ومن تقريرهم التأثير في الأمثلة المذكورة ففي

قوله عليه الصلاة والسلام إنها من الطوافين لجنس الطوف وهو الضرورة له أثر في الشرع في التخفيف وإثبات الطهارة ورفع النجاسة كمن أكل الميتة في المخمصة فإنه لا يجب عليه غسل اليد والفم للضرورة وأيضا لما كانت الهرة من الطوافين لم يمكن الاحتراز عن سؤرها إلا بحرج عظيم فسقط اعتبار النجاسة دفعا للحرج كما في حل الميتة في

قوله عليه الصلاة والسلام إنها دم عرق انفجر

(٢/١٥٩)

لانفجار الدم ووصوله إلى موضع يجب تطهيره عنه وهو معنى النجاسة أثر في وجوب طهارة وفي عدم كون انفجار الدم حيضا وفي كونه مرضا لازما مؤثرا في التخفيف

أما في وجوب الطهارة فلأن العبد لا يصلح للقيام بين يدي الرب إلا طاهرا

وأما في عدم كونه حيضا فلأن الحيض دم ثبت عادة راتبة في بنات آدم خلقها اللّه تعالى في أرحامهن وانفجار دم العرق ليس كذلك فلا يكون حيضا موقعا في الحرج الموجب لإسقاط الصلاة والوضوء

وأما في كونه مرضا فلأنه ليس في وسعها إمساكه ورده فيكون له تأثير في التخفيف بأن يحكم مع وجوده بقيام الطهارة في وقت الحاجة وهو وقت الصلاة للضرورة إذ لو وجبت عليها الطهارة لكل حدث لبقيت مشغولة بالطهارة أبدا ولم تفرغ للصلاة قطعا وفي

قوله عليه الصلاة والسلام أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك لعدم قضاء الشهوتين أثر في عدم انتقاض الصوم فكما أن المضمضة مقدمة شهوة البطن وليست في معنى الأكل كذلك القبلة مقدمة شهوة الفرج وليست في معنى الجماع لا صورة لعدم إيلاج فرج في فرج ولا معنى لعدم الإنزال ففي الأمثلة المذكورة ليس التأثير بمعنى اعتبار النوع أو الجنس القريب

قوله وغيرها أي وكغير المذكورات من أقيسة النبي عليه السلام وأقيسة الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم الصدقة على بني هاشم أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه كذا أورده فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى وغاية تقريره أن هذا تعليل بمعنى مؤثر وهو أن الصدقة مطهرة الأوزار والآثام فكانت وسخا بمنزلة الماء المستعمل فكما أن الامتناع من شرب الماء المستعمل أخذ بمعالي الأمور فكذلك حرمة الصدقة على بني هاشم تعظيم لهم وإكرام واختصاص بمعالي الأمور وكما اختلفت الصحابة رضي اللّه عنهم في الجد مع الإخوة واحتج كل فريق بتمثيل مشتمل على معنى مؤثر هو القرابة من الجانبين أو الاتصال بالميت بطريق الجزئية فقال علي رضي اللّه تعالى عنه إنما مثل الجد مع الإخوة مثل شجرة أنبتت غصنا ثم تفرع عن الغصن فرعان فالقرب بين الفرعين أولى من القرب بين الفرعين والأصل لأن الغصن بين الفرعين والأصل واسطة ولا واسطة بين الفرعين فهذا يقتضي رجحان الأخ على الجد إلا أن بين الفرعين والأصل جزئية وبعضية ليست بين الفرعين نفسهما فكان لكل منهما ترجيح فاستويا وقال زيد بن ثابت رضي اللّه تعالى عنه مثل الجد مع الأخوين كمثل نهر ينشعب من واد ثم يتشعب من هذا النهر جدول ومثل الأخوين كمثل نهرين ينشعبان من واد فالقرب بين النهرين المتشعبين من الوادي أكثر من القرب بين الوادي والجدول بواسطة النهر

وقال

(٢/١٦٠)

ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه ألا يتقي اللّه زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا اعتبر أحد طرفي القرابة وهو طرف الأصالة بالطرف الآخر وهو الجزئية في القرب

قوله وعلى هذا الأصل وهو اعتبار التأثير جزئيا في أقيستنا في المسائل المختلف فيها فعللنا بالعلل المؤثرة فإن للمسح أثرا في التخفيف فإنه أيسر من الغسل ويتأدى به الفرض ولا يشترط فيه استيعاب المحل كما في المغسولات بخلاف الركنية فإنه لا أثر لها في التكرار وإبطال التخفيف وكون التثليث سنة اللّهم إلا أن يقال إن الركنية تنبئ عن القوة والحصانة ووجوب الاحتياط فيناسب التكرار ليحصل باليقين أو بظن قريب منه

وكذا الصغر مؤثر في إثبات الولاية فإن ولاية النكاح لم تشرع إلا على وجه النظر للمولى عليه باعتبار عجزه عن مباشرة النكاح بنفسه وذلك في الصغر دون البكارة وكذا تعيين الصوم الفرض في رمضان مؤثر في إسقاط وجوب التعيين لأن أصل النية في العبادات إنما هو للتمييز بين العبادة والعادة وتعيينها إنما هو للتمييز بين الجهات المتزاحمة فحيث لا تزاحم لا حاجة إلى التعيين بخلاف الفرضية لأنه لا يعقل تأثيرها في إيجاب التعيين

قوله وبعض العلماء قد اشتهر فيما بين الأصوليين أن من مسالك العلة السبر والتقسيم وهو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل الصالحة للعلية في عدد ثم إبطال علية بعضها لتثبت علية الباقي فيكون هناك مقامان أحدهما بيان الحصر ويكفي في ذلك أن يقول بحثت فلم أجد سوى هذه

(٢/١٦١)

الأوصاف ويصدق لأن عدالته وتدينه مما يغلب ظن عدم غيره إذ لو وجد لما خفي عليه أو لأن الأصل عدم الغير وحينئذ للمعترض أن يبين وصفا آخر وعلى المستدل أن يبطل عليته وإلا لما ثبت الحصر فيما أحصاه فيلزم انقطاعه

وثانيهما إبطال علية بعض الأوصاف ويكفي في ذلك أيضا الظن وذلك بوجوه الأول وجود الحكم بدونه في صورة فلو استقل بالعلية لانتفى الحكم بانتفائه

الثاني كون الوصف مما علم إلغاؤه في الشرع

إما مطلقا كاختلاف بالطول والقصر أو بالنسبة إلى الحكم المبحوث فيه كالاختلاف بالذكورة والأنوثة في العتق

الثالث عدم ظهور المناسبة فيكفي للمستدل أن يقول بحثت فلم أجد له مناسبة ولا يحتاج إلى إثبات ظهور عدم المناسبة لأن التقدير أنه عدل أخبر عما لا طريق إلى معرفته إلا خبره وحينئذ للمعترض أن يدعي ذلك في الوصف الذي يدعي المستدل أنه علة يحتاج إلى الترجيح والمتمسكون بالسبر والتقسيم لا يشترطون إثبات التعليل في كل نص بل يكفي عندهم أن الأصل في النصوص التعليل وأن الأحكام مبنية على الحكم والمصالح

إما وجوبا كما هو مذهب المعتزلة

وإما تفضيلا كما هو مذهب غيرهم ولو سلم عدم الكلية فالتعليل هو الغالب في الأحكام وإلحاق الفرد بالأعم الأغلب هو الظاهر ولا يشترطون في بيان الحصر إثبات عدم الغير بنص أو إجماع لحصول الظن بدون ذلك على ما بيناه

وأما على ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى فيكون هذا من المسالك القطعية بمنزلة النص والإجماع ويكون مرجعه إليهما وكذا الكلام في تنقيح المناط

قال ابن الحاجب إن الإخالة هي المناسبة وهي المسمى بتخريج المناط أي تنقيح ما علق الشارع الحكم به ومآله إلى التقسيم بأنه لا بد للحكم من علة وهي

إما الوصف الفارق أو المشترك لكن الفارق ملغى فيتعين المشترك فيثبت الحكم لثبوت علته وذكر الإمام الغزالي رحمه اللّه تعالى أن النظر والاجتهاد في مناط الحكم أي علته

إما أن يكون في تحقيقه أو تنقيحه أو تخريجه

أما تحقيق المناط فهو النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها بنص أو

(٢/١٦٢)

إجماع أو استنباط ولا يعرف خلاف في صحة الاحتجاج به إذا كانت العلة معلومة بنص أو إجماع

وأما تنقيح المناط فهو النظر في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين بخلاف الأوصاف التي لا مدخل لها في الاعتبار كما بين في قصة الأعرابي أنه لا مدخل في وجوب الكفارة لكونه ذلك الشخص أو من الأعراب إلى غير ذلك حتى يتعين وطء المكلف الصائم في نهار رمضان عامدا وهذا النوع وإن أقر به أكثر منكري القياس فهو دون الأول

وأما تخريج المناط فهو النظر في إثبات علة الحكم الذي دل النص أو الإجماع عليه دون علته كالنظر في إثبات كون السكر علة لحرمة الخمر وهذا في الرتبة دون النوعين الأولين ولهذا أنكره كثير من الناس

قوله بالدوران احتج بعض الأصوليين على علية الوصف بدوران الحكم معه أي ترتبه عليه وجودا ويسمى الطرد وبعضهم وجودا وعدما ويسمى الطرد والعكس كالتحريم مع السكر فإن الخمر يحرم إذا كان مسكرا وتزول حرمته إذا زال إسكاره بصيرورته خلا وشرط البعض وجود النص في حالتي وجود الواصف وعدمه والحال أنه لا حكم له أي للنص وذلك لدفع احتمال إضافة الحكم إلى الاسم وتعين إضافته إلى معنى الوصف فإن الحرمة تثبت للعصير إذا اشتد ويسمى خمرا وتزول عند زوال الشدة والاسم فإذا كان الاسم قائما في الحالين ودار الحكم مع الوصف زال شبهة علية الاسم وتعين علية الوصف وإلا لما تخلف الحكم عن النص

قوله لكن جعل هذا الحكم حكم النص مجازا جواب عما يقال إن هذا الاشتراط لا يصح عند من لا يقول بمفهوم المخالفة إذ لا يكون النص قائما عند الوصف المنصوص عليه ولا يكون له حينئذ موجب لا نفيا ولا إثباتا ولا يتناول أصلا مثلا إذا لم يقم إلى الصلاة بل قعد لم يتناوله النص إلا عند القائلين بمفهوم الشرط

وأما عند غيرهم فيكون عدم وجوب الوضوء مبنيا على عدم دليل الوجود فيجعل من حكم النص المذكور بطريق المجاز حيث عبر بعدم الوجوب المستند إلى النص عن مطلق عدم الوجوب

(٢/١٦٣)

قوله فإنه يحل القضاء وهو غضبان يعني أن النص قائم في حال الغضب بدون شغل القلب مع عدم حكمه الذي هو حرمة القضاء عند الغضب وأيضا النص قائم في حال عدم الغضب وشغل القلب بنحو جوع أو عطش مع عدم حكمه الذي هو إباحة القضاء عند عدم الغضب

إما بطريق مفهوم المخالفة أو الإباحة الأصلية أو بالنصوص المطلقة في القضاء ويجعل من حكم النص المذكور مجازا

قوله والوجود عند الوجود كان الأحسن أن يقول الوجود

(٢/١٦٤)

عند الوجود والعدم عند العدم لا يدل على العلية لجواز أن يكون ذلك بطريق اتفاق كلي أو تلازم تعاكس أو يكون المدار لازم العلة أو شرطا مساويا لها فلا يقيد ظن العلية لأنها احتمال واحد وهذه الاحتمالات كثيرة وقد يقال إذا وجد الدوران مع غير مانع من العلية من معية كما في المتضايفين أو تأخر كما في المعلول والعلة أو غيرهما كما في شرط المساوي فالعادة قاضية بحصول الظن بل القطع بالعلية كما إذا دعي إنسان باسم مغضب فغضب ثم ترك فلم يغضب وتكرر ذلك مرة بعد أخرى علم بالضرورة أنه سبب الغضب حتى إن من لا يتأتى منه النظر كالأطفال يعلمون ذلك ويتبعونه في الطرق ويدعونه بذلك الاسم ويجاب عنه بأن النزاع إنما هو في حصول الظن بمجرد الدوران وهو فيما ذكرتم من المثال ممنوع إذ لولا انتفاء ظهور غير ذلك

إما بأنه بحث عنه فلم يوجد

وإما لأن الأصل عدمه لما حصل الظن غايته أنه يفيد تقوية الظن الحاصل من غيره وربما يقال إن هذا إنكار للضروري وقدح في جميع التجريبيات فإن الأطفال يقطعون به من غير نظر واستدلال بما ذكرتم وأهل النظر كالمجتمعين على ذلك حتى كاد يجري مجرى المثل أن دوران الشيء مع الشيء آية كون المدار علة للدائر ويجاب بأن الأحكام العقلية لا تختلف باختلاف الأحوال بخلاف الأحكام الشرعية المبنية على المصالح فلا بد في بيان عللّها من مناسبة أو اعتبار من الشارع إذ في القول بالطرد فتح لباب الجهل والتصرف في الشرع

قوله ولا يشترط لها أيضا زيادة تنبيه على بعد المناسبة بين الدوران والعلية يعني أن الوجود عند الوجود والعدم عند العدم كما أنه ليس بملزوم للعلية فكذلك ليس بلازم لها لجواز أن لا يوجد الحكم عند وجود العلة الظاهرة بناء على مانع أو على عدم تمامها حقيقة وأن لا ينعدم عند عدمها بناء على ثبوته بعلة أخرى كالحديث يثبت بخروج النجاسة والنوم وغير ذلك وقد يقال في تقرير هذا الكلام إن الوجود عند الوجود والعدم عند العدم لا يدل على صحة العلية كما أن العدم عند الوجود والوجود عند العدم لا يدل على فسادها اعتبارا لحالة الموافقة بحالة المخالفة في الصحة والفساد

قوله وقيام النص إشارة إلى بطلان كلام الفريق الثالث وذلك أن ما اشترطوا من قيام النص في الحالين من غير حكم أمر لا يوجد إلا نادرا ولا عبرة بالنادر في أحكام الشرع فكيف يجعل أصلا فيما هو من أدلة الشرع بأن يبتنى عليه ثبوت العلية على أن وجوده بطريق الندرة أيضا في محل النزاع فإنا لا نسلم في المثالين المذكورين قيام النص في الحالين مع عدم حكمه

أما في الآية فلأنا لا نسلم قيام النص بدون الحكم حال انتفاء الحدث وإنما يلزم ذلك لو لم يكن النص مقيدا بالحدث ومقيدا لوجوب الوضوء بشرط وجود الحدث وبيانه من وجهين أحدهما أن اشتراط الحدث في وجوب البدل وهو التيمم بقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط اشتراط له في وجوب الأصل وهو الوضوء إذ البدل لا يفارق الأصل بسببه وإنما يفارقه بحاله بأن يجب في حال لا يجب فيها الأصل وبالجملة لما رتب وجوب التيمم على وجود الحدث عند فقد الماء فهم أن وجوب التوضؤ بالماء مرتب على الحدث وثانيهما أن العمل بظاهر النص متعذر لاقتضائه وجوب التوضؤ عند كل

(٢/١٦٥)

قيام وفي كل ركعة فلا يتصور أداء الصلاة فلا بد من إضمار أي إذا قمتم من مضاجعكم أو إذا أردتم القيام إلى الصلاة محدثين والقيام من المضجع كناية عن التنبه من النوم والنوم دليل الحدث فعلى الأول يكون ذكر الحدث بطريق دلالة النص

وأما على الثاني فالظاهر أنه من قبيل المضمر وإطلاق دلالة النص عليه

إما لغوي بمعنى أنه يفهم من النص أو هو من قبيل المشاكلة أو التغليب أو باعتبار أن القيام من المضجع إنما يدل على النوم دلالة لا عبارة وهذا أنسب

فإن قيل للبدل حكم الأصل فكانت قضية الترتيب أن يصرح بالحدث في وجوب الوضوء ويكتفى بالدلالة في وجوب التيمم فلما عكست أجيب بوجهين الأول أن الماء مطهر بنفسه فإيجاب استعماله دل على وجود النجاسة الحكمية المفتقرة إلى إزالتها بخلاف إيجاب استعمال التراب فإنه ملوث لا يقتضي سابقة حدث فصرح معه بالحدث الثاني أن في ترك التصريح بالحدث في نص الوضوء إشارة إلى أن الوضوء سنة عند كل صلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى ظاهر إطلاق الأمر وتحقيقه أنه قد علم بدلالة النص والإجماع عدم وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة بدون الحدث فيحمل على الإيجاب عند الحدث عملا بحقيقة الأمر وعلى الندب عند عدم الحدث عملا بظاهر إطلاقه وترك هذا الإيماء في الغسل لأنه لا يسن لكل صلاة بل للجمعة والعيدين فصرح معه بذكر الحدث وهذا مبني على ما يعتبره البلغاء في

(٢/١٦٦)

تركيبهم من الرموز لا على أن يتناول الأمر للمحدث إيجابا ولغيره ندبا لأنه لا يراد من اللفظ معنياه المختلفان

فإن قلت مبنى هذه المباحث على أن سبب الوضوء هو الحدث وقد تقرر في موضعه أن سببه إرادة الصلاة لا الحدث

قلت هو مبني على التقدير أي لو سلم أن العلة هي الحدث فهي لم تثبت بالدوران على ما ذكرتم

وأما في الحديث فلأنا لا نسلم انتفاء حكم النص وهو حرمة القضاء مع وجود الوصف وهو الغضب وإنما يصح ذلك لو وجد الغضب بدون شغل القلب وهو ممنوع كيف والغضبان صيغة مبالغة بمعنى الممتلئ غضبا على ما نقل عن الزجاج فلا يتصور له فراغ القلب ما دام غضبان وبهذا يحصل المقصود وهو منع قيام النص في الحالين مع عدم حكمه لأن الكل ينتفي بانتفاء البعض إلا أنه تعرض في الشرح لحال العدم أيضا زيادة لتحقيق المقصود يعني أنا لا نسلم أن من حكم هذا النص حل القضاء عند عدم الغضب وإنما يكون كذلك لو تحقق شرائط مفهوم المخالفة وهو ممنوع

قوله فصل ذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن التعدية حكم لازم للتعليل عندنا جائز عند الشافعي رحمه اللّه تعالى فعندنا لا يجوز التعليل إلا لتعدية الحكم من المحل المنصوص إلى محل آخر فيكون التعليل والقياس واحدا وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى يجوز لزيادة القبول وسرعة الوصول والاطلاع على حكمة الشارع فيوجد التعليل بدون القياس والكلام في التعليل الغير

(٢/١٦٧)

المنصوص ثم جملة ما يقع التعليل لأجله أربعة الأول إثبات السبب أو وصفه

الثاني إثبات الشرط أو وصفه

الثالث إثبات الحكم أو وصفه

الرابع تعدية حكم مشروع معلوم بصفته إلى محل آخر يماثله في التعليل فالتعليل مختص بالتعدية لا يجوز لأجل إثبات سبب أو صفته لأنه إثبات الشرع بالرأي ولا لإثبات شرط لحكم شرعي أو صفته بحيث لا يثبت الحكم بدونه لأن هذا إبطال للحكم الشرعي ونسخ له بالرأي ولا لإثبات حكم أو صفته ابتداء لأنه نصب أحكام الشرع بالرأي فلا يجوز شيء من ذلك إلا إذا وجد له في الشريعة أصل صالح للتعليل فيعلل ويتعدى حكمه إلى محل آخر سواء كان الحكم إثبات سبب أو شرط أو وصفهما أو إثبات حكم آخر مثل الوجوب والحرمة وغيرهما فصار الحاصل أن التعليل لإثبات العلة أو الشرط أو الحكم ابتداء باطل بالاتفاق ولإثبات حكم شرعي مثل الوجوب والحرمة بطريق التعدية من أصل موجود في الشرع ثابت بالنص أو الإجماع جائز بالاتفاق

واختلفوا في التعليل لإثبات السببية أو الشرطية بطريق التعدية من أصل ثابت في الشرع بمعنى أنه إذا ثبت بنص أو إجماع كون الشيء سببا أو شرطا لحكم شرعي فهل يجوز أن يجعل شيء آخر علة أو شرطا لذلك الحكم قياسا على الشيء الأول عند تحقيق شرائط القياس مثل أن تجعل اللواطة سببا لوجوب الحد قياسا على الزنا وتجعل النية في الوضوء شرطا لصحة الصلاة قياسا على النية في التيمم فذهب كثير من علماء المذهبين إلى امتناعه وبعضهم إلى جوازه وهو اختيار فخر الإسلام رحمه اللّه وأتباعه فلهذا احتاجوا إلى التفصيل والإشارة إلى التسوية بين الحكم والسبب والشرط في أنها تجوز أن تثبت بالتعليل إن وجد لها أصل في الشرع وتمتنع إن لم يوجد وقال صاحب الميزان لا معنى لقول من يقول إن القياس حجة في إثبات الحكم دون إثبات السبب أو الشرط لأنه إن أراد معرفة علة الحكم بالرأي والاجتهاد فذلك جائز في الجميع لأن

(٢/١٦٨)

المعرفة لا تختلف وإن أراد أن الجمع بين الأصل والفرع لا يتصور إلا في الحكم دون السبب أو الشرط فممنوع بل يتصور في الجميع وإن أراد أن القياس ليس بمثبت فمسلم والجميع سواء في أنه لا يثبت فيه شيء بالقياس بل يعرف به السبب والشرط كما يعرف به الحكم واحتجاج الفريقين مذكور في أصول الشافعية ومقصود هذا الفصل مشهور فيما بين القوم مسطور في كتبهم

قوله وقولنا الجنس قد توهم ورود الإشكال بأنكم أثبتم بالقياس علية مجرد الجنس لحرمة الربا وعلية الأكل والشرب لوجوب الكفارة وعلية القتل بالمثقل لوجوب القصاص عند أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه فأجاب بأنا لم نثبت ذلك بالقياس بل بالنص عبارة في الأول ودلالة في الأخيرين على ما سبق في بحث دلالة النص ولم يورد فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى في هذا المقام مسألة وجوب الكفارة بالأكل والشرب ولا مسألة وجوب القصاص بالقتل بالمثقل لأن جعلهما من قبيل دلالة النص دون القياس مبني على أن القياس لا يجري في الحدود والكفارات لا على أنه لا يجري في الأسباب والشروط لأن مذهب فخر الإسلام رحمه اللّه أنه يصح إثبات السبب والشرط بالرأي والقياس إذا وجد له أصل في الشرع وهاهنا الوقاع أصل للأكل والشرب والقتل بالسيف أصل للقتل بالمثقل فكيف يتوهم أن يورد هذا إشكالا على إثبات السبب بالتعليل فيما لا يوجد له أصل وإنما وقع ذلك للمصنف رحمه اللّه من أصول ابن الحاجب وذلك أنه اختار أنه لا يصح إثبات السبب بالقياس فأورد القتل بالمثقل إشكالا فأجاب بأنا لا نبين سببية القتل بالمثقل قياسا على سببية القتل بالسيف بل نبين أن السبب هو القتل العمد العدوان سواء كان بالسيف أو بغيره فالسبب واحد لا غير

وأما مسألة حرمة الربا بالجنس فأوردها فخر الإسلام رحمه اللّه مثالا لا إشكالا فقال

أما تفسير القسم الأول أي بيان إثبات الموجب فمثل قولهم في الجنس بانفراده إنه يحرم النسيئة وهذا خلاف وقع في الموجب للحكم فلم يصح إثباته ولا نفيه بالرأي إذ لا نجد أصلا نقيسه عليه بل

(٢/١٦٩)

يجب الكلام فيه بالنص عبارة أو إشارة أو دلالة أو اقتضاء وذلك أنه ثبت بالنص والإجماع حرمة الفضل الخالي عن العوض وقد بينا أن العلة هي القدر والجنس ووجدنا حرمة الربا حكما يستوي فيه شبهته بحقيقته لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن الربا والريبة وللإجماع على حرمة البيع مجازفة كبيع صبرة حنطة بصبرة باعتبار تساويهما في رأي المتبايعين ووجدنا في النسيئة شبهة الفضل وهي الحلول إذ النقد خير من النسيئة وهذا وإن كان فضلا من جهة الوصف لكنه ثبت بصنع العبد فاعتبر كما في بيع الحنطة المقلية بغير المقلية لإمكان الاحتراز عنه بخلاف الفضل من جهة الجودة فإنه ثبت بصنع اللّه تعالى فجعل عفو التعذر الاحتراز عنه ولما كانت العلة هي القدر والجنس أخذ الجنس شبهة العلة من حيث إنه شطر العلة فأثبتنا به شبهة الربا احتياطا فيثبت سببية الجنس لحرمة النسيئة بدلالة النص الموجب لسببية القدر والجنس لحرمة حقيقة القدر

قوله والحق في مسألة إثبات العلة أنه إن ثبت علية شيء لحكم بناء على معنى صالح لتعليل ذلك الحكم به بأن يكون مؤثرا أو ملائما فكل شيء يوجد فيه ذلك المعنى المؤثر أو الملائم فهو علة لذلك الحكم بلا خلاف ولا يكون هذا من إثبات العلة بالقياس لأن العلة بالحقيقة هو ذلك المعنى المشترك بين الشيئين وقد ثبت عليته بما هو من مسالك العلة فتكون العلة واحدة تتعدد باعتبار المحل مثلا إذا ثبت أن الوقاع علة لوجوب الكفارة بناء على أنه يوجد فيه هتك حرمة صوم رمضان فقد ثبت أن العلة هي هتك الحرمة وهو موجود في الأكل فيحكم بأنه علة لوجوب الكفارة وإن لم يثبت أن علية ذلك الشيء للحكم مبني على اشتماله على ذلك المعنى بل وجد

(٢/١٧٠)

مجرد مناسبة ذلك المعنى لعلية الحكم لم يصح الحكم بعلية شيء آخر يوجد فيه ذلك المعنى المناسب قياسا على ما ثبت عليته لأنه تعليل بالمرسل إذ لم يثبت تأثير ذلك المعنى المناسب ولا ملائمته وهذا هو المختلف فيه من إثبات العلة بالقياس فيجوز عند من يقول بصحة التعليل بالمرسل ولا يجوز عند من يشترط التأثير أو الملاءمة

قوله فصل في الاستحسان هو في اللغة عد الشيء حسنا وقد كثر فيه المدافعة والرد على المدافعين ومنشؤهما عدم تحقيق مقصود الفريقين ومبنى الطعن من الجانبين على الجرأة وقلة المبالاة فإن القائلين بالاستحسان يريدون به ما هو أحد الأدلة الأربعة على ما سنبينه والقائلون بأن من استحسن فقد شرع يريدون أن من أثبت حكما بأنه مستحسن عنده من غير دليل من الشارع فهو الشارع لذلك الحكم حيث لم يأخذه من الشارع والحق أنه لا يوجد في الاستحسان ما يصلح محلا للنزاع إذ ليس النزاع في التسمية لأنه اصطلاح وقد قال اللّه تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند اللّه حسن ونقل عن الأئمة إطلاق الاستحسان في دخول الحمام وشرب الماء من يد السقاء ونحو ذلك

وعن الشافعي رحمه اللّه أنه قال أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهما وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة

وأما من جهة المعنى فقد قيل هو دليل ينقدح في نفس المجتهد يعسر عليه التعبير عنه فإن أريد بالانقداح الثبوت فلا نزاع في أنه يجب عليه العمل به ولا أثر لعجزه عن التعبير عنه وإن أريد أنه وقع له شك فلا نزاع في بطلان العمل وقيل هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى وقيل

(٢/١٧١)

العدول إلى خلاف الظن لدليل أقوى ولا نزال في قبول ذلك وقيل تخصيص القياس بدليل أقوى منه فيرجع إلى تخصيص العلة وقال الكرخي رحمه اللّه هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه بوجه هو أقوى ويدخل فيه التخصيص والنسخ وقال أبو الحسين البصري هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ بوجه هو أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول واحترز بقوله غير شامل عن ترك العموم إلى الخصوص وبقوله وهو في حكم الطارئ عن القياس فيما إذا قالوا لو تركنا الاستحسان بالقياس وأورد على هذه التفاسير أن ترك الاستحسان بالقياس يكون عدولا عن الأقوى إلى الأضعف وأجيب بأنه إنما يكون بانضمام معنى آخر إلى القياس يصير به أقوى ولما اختلفت العبارات في تفسير الاستحسان مع أنه قد يطلق لغة على ما يهواه الإنسان ويميل إليه وإن كان مستقبحا عند الغير وكثر استعماله في مقابلة القياس على الإطلاق كان إنكار العمل به عند الجهل بمعناه مستحسنا حتى يتبين المراد منه إذ لا وجه لقبول العمل بما لا يعرف معناه

وبعدما استقرت الآراء على أنه اسم لدليل متفق عليه نصا كان أو إجماعا أو قياسا خفيا إذا وقع في مقابلة قياس تسبق إليه الأفهام حتى لا يطلق على نفس الدليل من غير مقابلة فهو حجة عند الجميع من غير تصور خلاف ثم إنه غلب في اصطلاح الأصول على القياس الخفي خاصة كما غلب اسم القياس على القياس الجلي تمييزا بين القياسين

وأما في الفروع فإطلاق الاستحسان على النص والإجماع عند وقوعهما في مقابلة القياس الجلي شائع ويرد عليه أنه لا عبرة بالقياس في مقابلة النص أو الإجماع بالاتفاق فكيف يصح التمسك به والجواب أنه لا يتمسك به إلا عند عدم ظهور النص أو الإجماع

قوله وذكروا له قسمين الصحة تقارب الأثر والضعف يقارب الفساد وبهذا الاعتبار

(٢/١٧٢)

يتحقق تقابل القسمين في كل من الاستحسان والقياس والمراد بظهور الصحة في الاستحسان ظهورها بالنسبة إلى فساد الخفي وهو لا ينافي خفاءها بالنسبة إلى ما يقابله من القياس والمراد بخفاء الصحة في القياس الجلي خفاؤها بأن ينضم إلى وجه القياس معنى دقيق يورثه قوة ورجحانا على وجه الاستحسان ثم الصحيح أن معنى الرجحان هاهنا تعين العمل بالراجح وترك العمل بالمرجوح وظاهر كلام فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أنه الأولوية حتى يجوز العمل بالمرجوح

قوله فالأول يعني أن سؤر سباع الطير من البازي والصقر ونحوهما نجس قياسا على سؤر سباع البهائم كالفهد والذئب لمخالطته باللعاب المتولد من لحم نجس

فإن اختيار المحققين أن لحم سباع البهائم نجس لا يطهر بالزكاة لأن الحرمة فيما يصلح للغذاء إذا لم تكن للضرورة أو الاستخباث أو الاحترام آية النجاسة إلا أنه لما اجتمع في السبع ما لا يؤكل وهو طاهر كالجلد والعظم والعصب والشعر وما يؤكل وهو نجس كاللحم والشحم أشبه دهنا ماتت فيه فأرة فجعل له حكم بين النجاسة والطهارة الحقيقيتين بأن حرم أكله وتنجس لعابه لكن جاز بيعه والانتفاع به ولم تجعل نجاسة سباع الطير أيضا بهذا الطريق لأن الروايات إنما وردت في سباع البهائم دون الطيور فاحتيج فيها إلى القياس وهذا قياس ضعيف الأثر قليل الصحة لقصور علة التنجس في الفرع أعني المخالطة وقد قابله استحسان قوي الأثر يقتضي طهارة سؤرها لأنها تشرب بالمنقار على سبيل الأخذ ثم الابتلاع والمنقار عظم طاهر لأنه جاف لا رطوبة فيه فلا يتنجس الماء بملاقاته فيكون سؤره طاهرا كسؤر الآدمي والمأكول لانعدام العلة الموجبة للنجاسة وهي الرطوبة النجسة في الآلة الشاربة إلا أنه يكره لما أن سباع الطيور لا تحترز عن الميتة والنجاسة كالدجاجة المخلاة

(٢/١٧٣)

قوله والثاني لما كان عدم تأدي المأمور به بالإتيان بغير المأمور به أمرا جليا وعكسه أمرا خفيا اشتبه على المصنف رحمه اللّه تعالى جهة جعل تأدي السجدة بالركوع قياسا وعدم تأديها به استحسانا ونقل عنه في توجيه ذلك أنه إذا جاز إقامة الركوع مقام السجدة ذكرا لما بينهما من المناسبة أعني اشتمالها على التعظيم والانحناء فجاز إقامته مقامه فعلا لتلك المناسبة وهذا أمر جلي تسبق إليه الأفهام فيكون قياسا إلا أن الاستحسان أن لا يتأدى به كالسجدة الصلاتية لا تتأدى بالركوع لأن الأمر بالشيء يقتضي حسنه لذاته فيكون مطلوبا لعينه فلا يتأدى بغيره وهذا قياس خفي بالنسبة إلى الأول فيكون استحسانا وفيه نظر إذ لا يخفى أن عدم تأدي المأمور به بغيره قياسا على أركان الصلاة أظهر وأجلى من تأديه به قياسا على جواز إقامة اسم الشيء مقام اسم غيره والأقرب أن يقال لما اشتمل كل من الركوع والسجود على التعظيم كان القياس فيما وجب بالتلاوة في الصلاة أن يتأدى بالركوع كما يتأدى بالسجود لما بينهما من المناسبة الظاهرة ولهذا صح التعبير عنه بالركوع في

قوله تعالى وخر راكعا أي سقط ساجدا فهذا قياس جلي فيه فساد ظاهر هو العمل بالمجاز من غير تعذر الحقيقة وصحة خفية هي أن سجدة التلاوة لم تجب قربة مقصودة ولهذا لا تلزم بالنذر كالطهارة وإنما المقصود هو التواضع ومخالفة المتكبرين وموافقة المطيعين على قصد العبادة ولهذا اشترط الطهارة واستقبال القبلة وهذا حاصل في الركوع في الصلاة إلا أن المأمور به هو السجود وهو مغاير للركوع فينبغي أن لا ينوب الركوع عنه كما لا ينوب عن السجدة الصلاتية مع قرب المناسبة بينهما لكونهما من أركان الصلاة وموجبات التحريمة وكما لا ينوب الركوع خارج الصلاة عن السجدة مع أنه لم يستحق بجهة أخرى بخلاف الركوع في

(٢/١٧٤)

الصلاة وهذا قياس خفي يسمى استحسانا وفيه أثر ظاهر هو العمل بالحقيقة وعدم تأدية المأمور به لغيره وفساد خفي هو جعل غير المقصود مساويا للمقصود فعملنا بالصحة الباطنة في القياس وجعلنا سجدة التلاوة في الصلاة متأدية بالركوع ساقطة به كما تسقط الطهارة للصلاة بالطهارة لغيرها بخلاف الركوع خارج الصلاة لأنه لم يشرع عبادة وبخلاف السجدة الصلاتية فإنها مقصودة بنفسها كالركوع بدليل

قوله تعالى واركعوا واسجدوا

قوله بالتقسيم العقلي ينقسم القياس والاستحسان تارة باعتبار القوة والضعف وتارة باعتبار الصحة والفساد

أما بالاعتبار الأول فإما أن يكونا قويي الأثر أو ضعيفي الأثر أو القياس قويا والاستحسان ضعيفا أو بالعكس ففي الرابع يترجح الاستحسان قطعا وفي الثلاثة الباقية يتيقن عدم ترجيح الاستحسان

وأما ترجيح القياس ففي الأول والثالث متيقن لا في الثاني فإنه يحتمل سقوط الاستحسان والقياس لضعفهما وتسمية الاستحسان في جميع الأقسام تكون باعتبار خفائه إلا أنه يشكل بما ذكره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى من أن سمينا ما ضعف أثره قياسا وما قوي أثره استحسانا

وأما بالاعتبار الثاني فإما أن يكون كل منهما صحيح الظاهر والباطن أو فاسدهما أو صحيح الظاهر فاسد الباطن أو بالعكس وفي الجميع يكون القياس جليا بمعنى سبق الأفهام إليه

(٢/١٧٥)

والاستحسان خفيا بالإضافة إليه ويقع التعارض على ستة عشر وجها حاصلة من ضرب الأقسام الأربعة للقياس في الأقسام الأربعة للاستحسان فالقياس الصحيح الظاهر والباطن يترجح على جميع أقسام الاستحسان والقياس الفاسد الظاهر والباطن يكون مردودا بالنسبة إلى الكل فتبقى ثمانية أوجه حاصلة من ضرب أقسام الاستحسان في أخيري القياس فالأول من الاستحسان يرجح عليها لصحته ظاهرا وباطنا والثاني يرد مطلقا لفساده ظاهرا وباطنا بقي أربعة أوجه حاصلة من ضرب أخيري الاستحسان في أخيري القياس الأول تعارض الاستحسان الصحيح الظاهر الفاسد الباطن والقياس الفاسد الظاهر الصحيح الباطن والثاني بالعكس والثالث تعارض استحسان صحيح الظاهر فاسد الباطن وقياس كذلك والرابع تعارض استحسان صحيح الباطن فاسد الظاهر وقياس كذلك وسمي اتفاق القياس والاستحسان في صحة الظاهر وفساد الباطن باتحاد النوع واختلافهما في ذلك باختلاف النوع وحكم برجحان الاستحسان في الوجه الثاني من هذه الأربعة وبرجحان القياس في الثلاثة الباقية وادعى أن الظاهر امتناع التعارض بين قياس واستحسان يتفقان في قوة الأثر أو صحة الباطن سواء كان مع الاتفاق في صحة الظاهر أو بدونه وبعد إقامة الدليل جزم بهذا الحكم وقد علم من الاستدلال ومن سوق الكلام بالآخرة أن

قوله إذا كان الاستحسان على صفة كان القياس على خلاف تلك الصفة مقيدا بالقوة والصحة الباطنة إذ لا امتناع في أن تعارض قياس ضعيف أو صحيح الظاهر فقط أو فاسد الظاهر والباطن أو الظاهر فقط لاستحسان كذلك

قوله بالمعنى المذكور أي بمعنى أنه كلما وجد ذلك الوصف مطلقا أو بلا مانع يوجد ذلك الحكم

(٢/١٧٦)

قوله وما ذكروا هذا كلام قليل الجدوى لأن تداخل الأقسام ضروري فيما إذا قسم الشيء تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة يقال اللفظ ثلاثي أو رباعي أو خماسي وباعتبار آخر اسم أو فعل أو حرف وباعتبار آخر معرب أو مبني إلى غير ذلك نعم لو صح ما ذكره البعض من أن المراد بالضعف والفساد واحد وكذا بالقوة والصحة لكان أحد القسمين مستدركا

(٢/١٧٧)

قوله والمستحسن قد سبق أن الاستحسان دليل يقابل قياسا جليا سواء كان أثرا أو إجماعا أو ضرورة أو قياسا خفيا فهاهنا يريد الفرق بين المستحسن بالقياس الخفي والمستحسن بغيره في أن الأول تعدى إلى صورة أخرى لأن من شأن القياس التعدية والثاني لا يقبل التعدية لأنه معدول به عن سنن القياس مثلا إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن فالقياس أن يكون اليمين على المشتري فقط لأنه المنكر وحده لأنه لا يدعي شيئا حتى يكون البائع أيضا منكرا

فهذا قياس جلي على سائر التصرفات إلا أنه ثبت بالاستحسان التحالف أي وجوب اليمين على كل من البائع والمشتري

أما قبل قبض المبيع فبالقياس الخفي وهو أن البائع ينكر وجوب تسليم المبيع بما أقر به المشتري من الثمن كما أن المشتري ينكر وجوب زيادة الثمن فيتوجه اليمين على كل منهما كما في سائر التصرفات فإن اليمين تكون على المنكر

وأما بعد قبض المبيع فبالأثر وهو

قوله عليه الصلاة والسلام إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا فوجوب التحالف قبل القبض يتعدى إلى وارثي البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن بعد موت البائع والمشتري لأن الوارث يقوم مقام المورث في حقوق العقد والحكم معقول وكذا يتعدى إلى الإجارة قبل العمل حتى لو اختلف

(٢/١٧٨)

القصار ورب الثوب في مقدار الأجرة قبل أخذ القصار في العمل تحالفا لأن كلا منهما يصلح مدعيا ومنكرا والإجارة تحتمل الفسخ وهو في التحالف ثم الفسخ دفع للضرر عن كل منهما

وأما وجوب التحالف بعد القبض فلا يتعدى إلى الوارث ولا إلى حال هلاك السلعة لأنه غير معقول المعنى إذ البائع لا ينكر شيئا فيقتصر على مورد النص وهو تحالف المتعاقدين حال قيام السلعة وما روي من

قوله عليه الصلاة والسلام إذا اختلف المتعاقدان تحالفا وترادا فهو أيضا يفيد التقييد بقيام السلعة لأنه إن أريد رد المأخوذ فظاهر وإن أريد رد العقد فكذلك إذ الفسخ لا يرد إلا على ما ورد عليه العقد

فإن قلت قد سبق أن من شرط التعدية أن لا يكون الحكم ثابتا بالقياس من غير فرق بين الجلي والخفي فكيف يصح تعدية المستحسن بالقياس الخفي

قلت المعدى بالحقيقة هو حكم أصل الاستحسان كوجوب اليمين على المنكر في سائر التصرفات إلا أن صورة التحالف وجريان اليمين من الجانبين لما كانت حكم الاستحسان الذي هو القياس الخفي أضيفت التعدية إليه إذ لا يوجد في الأصل الذي هو سائر التصرفات يمين المنكر بهذه الكيفية وهو أن يتوجه على المتنازعين في قضية واحدة

قوله والاستحسان ليس من تخصيص العلة هو ما توهمه البعض من أن القياس ثابت في صورة الاستحسان وفي سائر الصور وقد ترك العمل به في صورة الاستحسان لمانع وعمل به في غيرها لعدم المانع فيكون باطلا لما سيأتي من إبطال تخصيص العلة وإنما

قلنا إنه ليس من

(٢/١٧٩)

تخصيص العلة لأن انعدام الحكم في صورة الاستحسان إنما هو لانعدام العلة مثلا موجب نجاسة سؤر سباع الوحش هو الرطوبة النجسة في الآلة الشاربة ولم يوجد ذلك في سباع الطير فانتفى الحكم لذلك وهذا معنى ترك القياس الجلي الضعيف الأثر بدليل قوي هو قياس خفي قوي الأثر فلا يكون من تخصيص العلة في شيء

قوله فصل في دفع العلل المؤثرة أي الاعتراضات التي تورد عليها وفي دفع تلك الاعتراضات أي الجواب عنها والمذكور هاهنا ستة وهي النقض وفساد الوضع وعدم الانعكاس والفرق والممانعة والمعارضة والجمهور على أن المناقضة اعتراض صحيح على كل تعليل فلا بد من دفعه ويذكر فيه أربعة طرق الأول الدفع بالوصف وهو منع وجود العلة في صورة النقض والثاني الدفع بمعنى الوصف وهو منع وجود المعنى الذي صارت العلة علة لأجله والثالث الدفع بالحكم وهو منع تخلف الحكم عن العلة في صورة النقض والرابع الدفع بالغرض وهو أن يقول الغرض التسوية بين الأصل والفرع فكما أن العلة موجودة في الصورتين فكذا الحكم وكما أن

(٢/١٨٠)

ظهور الحكم قد يتأخر في الفرع فكذا في الأصل فالتسوية حاصلة بكل حال

قوله فنوقض بالقليل يعني لو كان النجس الخارج من بدن الإنسان حدثا لكان القليل الذي لم يسل من رأس الجرح حدثا وليس كذلك فيجاب بأنا لا نسلم أنه خارج فإن الخروج هو الانتقال من مكان باطن إلى مكان ظاهر ولم يوجد ذلك عند عدم السيلان بل ظهرت النجاسة لزوال الجلدة الساترة لها بخلاف السبيلين فإنه لا يتصور ظهور القليل إلا بالخروج

قوله هو أي المعنى الذي صارت العلة علة لأجله بالنسبة إلى العلة كالثابت بدلالة النص بالنسبة إلى المنصوص بمعنى أن الوصف بواسطة معناه اللغوي يدل على معنى آخر هو مؤثر في الحكم فإن كون المسح تطهيرا حكميا غير معقول المعنى ثابت باسم المسح لغة لأنه الإصابة وهي تنبئ عن التخفيف دون التطهير الحقيقي فلا يسن فيه التثليث لأنه إنما شرع لتوكيد تطهير معقول كالغسل فلا يفيد في المسح ويفيد في الاستنجاء لأن التطهير فيه معقول إذ هو إزالة عين النجاسة ولهذا كان الغسل فيه أفضل وفي التثليث توكيد لذلك ومبنى هذا الكلام على أن يكون المراد بعدم سنية التثليث كراهيته ليكون حكما شرعيا فيعلل

قوله فأجاب في الأولين بالمانع وهو في المستحاضة العذر ودفع الحرج وفي المدبر النظر له وعدم قابليته للمملوكية بقي أن خروج دم الاستحاضة حدث إلا أنه تأخر حكمه إلى ما بعد

(٢/١٨١)

خروج الوقت ولهذا يلزمها الطهارة لصلاة أخرى بعد خروج الوقت بأنه بذلك الحدث إذا خرج الوقت ليس بحدث إجماعا وكذا ملك بدل المغصوب سبب لملك المغصوب أعني المدبر كما في البيع حتى لو جمع في البيع بين قن ومدبر صح في القن بحصته من الثمن بخلاف الجمع بين قن وحر إلا أنه لم يثبت في المدبر للمانع أورد فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى هذين المثالين على هذا الوجه اقتداء بصاحب التقويم وقال في شرحه إن هذا الوجه لا يسلم عن القول بتخصيص العلة

قوله والضابط حاصل هذا التقرير أن الحكم المدعى وجوب الضمان والعلة حل الإتلاف والأصل صورة المخمصة والفرع صورة الجمل الصائل والنقض هو مال الباغي وظاهر أنه لا جهة لمنع انتفاء الحكم فيه إذ لا نزاع في عدم وجوب الضمان فيه فلا تكون هذه الصورة نظيرا للدفع بالحكم وأيضا حل الإتلاف لا يلائم وجوب الضمان فضلا عن التأثير وحاصل التقرير الثاني وهو أن يجعل نظيرا لدفع الحكم أن الحكم هو عدم منافاة حل الإتلاف لبقاء العصمة بمعنى أنه لا تسقط عصمة الجمل الصائل بإباحة قتله لإبقاء روح المصول عليه كما في المخمصة والعلة حل الإتلاف فنوقض بمال الباغي حيث وجدت العلة وهي حل الإتلاف مع عدم الحكم الذي هو عدم المنافاة

(٢/١٨٢)

ضرورة تحقق المنافاة إذ قد سقطت العصمة ولم يجب الضمان على المتلف فأجاب بمنع انتفاء الحكم في صورة النقض أي لا نسلم تحقق منافاة حل الإتلاف لبقاء العصمة في مال الباغي بل عدم المنافاة متحقق إلا أن العصمة انتفت بالبغي وعدم المنافاة بين الشيئين لا يوجب التلازم بينهما حتى يمتنع مع وجود أحدهما انتفاء الآخر بسبب من الأسباب واعترض المصنف رحمه اللّه تعالى بأن حل الإتلاف ليس علة لعدم المنافاة حتى يكون تحققه في مال الباغي مع المنافاة نقضا وذلك لأنه لا يلائم عدم المنافاة وعدم سقوط العصمة فضلا عن تأثيره فيه والجواب أن التمثيل إنما هو على تقدير أن يجعل حل الإتلاف علة مؤثرة ويكفي في التمثيل الفرض والتقدير

قوله فإنه أي الخارج النجس حدث في السبيلين لكن إذا استمر الخارج كما في الاستحاضة وسلس البول صار عفوا وسقط حكم الحدث في تلك الحالة ضرورة توجه الخطاب بأداء الصلاة فكذا هاهنا أي في غير السبيلين يكون حدثا ويصير عند الاستمرار عفوا كما في الرعاف الدائم وهذا راجع إلى منع انتفاء الحكم وذلك لأن الناقض يدعي أمرين ثبوت العلة وانتفاء الحكم فلا يصح دفعه إلا بمنع أحدهما

قوله ثم اعلم ذهب بعضهم إلى أن النقض غير مسموع على العلل المؤثرة لأن التأثير لا يثبت إلا بنص أو إجماع فلا تتصور المناقضة فيه وجوابه أن ثبوت التأثير قد يكون ظنيا فيصح

(٢/١٨٣)

الاعتراض بالنقض وحينئذ إن اندفع بأحد الطرق المذكورة فقد تم التعليل وإلا فإما أن يوجد في صورة النقض مانع من ثبوت الحكم أو لا فإن لم يوجد فقد بطل التعليل لامتناع تخلف الحكم عن الدليل من غير مانع وإن وجد مانع لم يبطل التعليل

إما قولا بتخصيص العلة كما ذهب إليه الأكثرون وذلك بأن توصف العلة بالعموم باعتبار تعدد المحال ثم يخرج بعض المحال عن تأثير العلة فيه ويبقى التأثير مقتصرا على المحال الآخر

وإما قولا بأن عدم المانع جزء للعلة أو شرط لها فيكون انتفاء الحكم في صورة النقض مبنيا على انتفاء العلة بانتفاء جزئها أو شرطها وإلى هذا ذهب فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى وتبعه المصنف رحمه اللّه تعالى تحاشيا عن القول بتخصيص العلة فعدم المانع عندهم شرط لعلية الوصف وعند الأكثرين لظهور الأثر عن العلة فانتفاء الحكم في صورة النقض عندهم يكون مستندا إلى عدم العلة وعند الأكثرين إلى وجود المانع وهذا نزاع قليل الجدوى احتج القائلون بتخصيص العلة بوجوه الأول القياس على أن الأدلة اللفظية فكما أن التخصيص لا يقدح في كون العام حجة كذلك النقض لا يقدح في كون الوصف علة والجامع كونهما من الأدلة الشرعية أو جمع الدليلين المتعارضين وسره أن نسبة العام إلى أفراده كنسبة العلة إلى موارده والنقض لمانع معارض للعلة يشبه التخصيص بمخصص مانع عن ثبوت الحكم في البعض

الثاني أن العلة في القياس الجلي شاملة لصورة الاستحسان وقد انعدم الحكم فيها لمانع هو دليل الاستحسان ولا نعني بتخصيص العلة إلا هذا الثالث أن تخلف الحكم عن العلة يحتمل أن يكون لفساد في العلة ويحتمل أن يكون لمانع من ثبوت الحكم والمعلل قد بين أنه لمانع فيجب

(٢/١٨٤)

قبوله لأنه بيان أحد المحتملين وهذا بمنزلة العلل العقلية فإن الحكم قد يختلف عنها لمانع كالإحراق بالنار عن الخشب الملطخ بالطلق المحلول

قوله ذكر القائلون بتخصيص العلة في هذا المقام أقسام المانع وهي ثلاثة لكنهم لما أخذوا في تعداد الموانع أوردوا فيها المانع من انعقاد العلة ومن تمامها وإن لم يكونا من قبيل المانع المعتبر في تخصيص العلة وهو ما يمنع الحكم بعد تحقق العلة والمصنف رحمه اللّه غير عبارتهم وعبر عن موانع الحكم بموجبات عدم الحكم ليشمل المانع عن الحكم وعن العلة انعقادا أو تماما والعمدة في أقسام المانع هو الاستقراء والمذكور في التقويم أربعة لأنه إن كان بحيث لا يحدث معه شيء من الأجزاء فهو المانع من الابتداء أو الانعقاد وإلا فهو المانع من التمام وكل منهما في العلة أو الحكم وزاد بعضهم قسما خامسا نظرا إلى أن للحكم ابتداء وتماما ودواما ولا عبرة بالدوام في العلة بل التمام كاف كخروج النجاسة للحدث ثم المقصود هو العلة والحكم الشرعيان وقد أضافوا إليها الحسيين لزيادة التوضيح وفي كون امتداد الجرح وصيرورته بمنزلة الطبع مانعا من لزوم الحكم نظرا لأنه إن أريد بالحكم القتل وهو غير ثابت وإن أريد الجرح فهو لازم على تقدير صيرورته بمنزلة الطبع وقد يجاب بأن الحكم هو الجرح على وجه يفضي إلى القتل لعدم مقاومة المرمى فالاندمال مانع من تمام الحكم لحصول المقاومة

وأما بقاء الجرح وكون المجروح

(٢/١٨٥)

صاحب فراش فلا يمنعه لتحقق عدم المقاومة إلا أنه ما دام حيا يحتمل أن يزول عدم المقاومة بالاندمال ويحتمل أن يصير لازما بإفضائه إلى القتل فإذا صار طبعا فقد منع ذلك إفضاءه إلى القتل وكان مانعا لزوم الحكم ثم لا يخفى أنه تمثيل مبني على التسامح وإلا فالرمي علة للمضي والمضي للإصابة والإصابة للجراحة والجراحة لسيلان الدم وهو لزهوق الروح

قوله ولنا أن التخصيص أجاب عن الاحتجاج الأول بأن التخصيص من الأحكام التي لا يمكن تعديتها من الأصل أعني الأدلة اللفظية إلى الفرع أعني العلل لأن التخصيص ملزوم للمجاز والمجاز من خواص اللفظ واختصاص اللازم بالشيء يوجب اختصاص الملزوم به وإلا لزم وجود الملزوم بدون اللازم وهو محال وربما يعترض عليه بأنا لا نسلم أن التخصيص مطلقا ملزوم للمجاز بل التخصيص في الألفاظ كذلك ومعنى تعدية الحكم إثبات مثله في صورة الفرع فيثبت في العلل تخصيص ببعض الموارد كتخصيص الألفاظ ببعض الأفراد ويتصف اللفظ بالمجاز ضرورة استعماله في غير ما وضع له ويمتنع اتصاف العلة به إذ ليس من شأنها الاتصاف بالحقيقة والمجاز

وعن الاحتجاج الثاني بأن إثبات الحكم بطريق الاستحسان ترك للقياس بدليل أقوى منه وهو ليس من تخصيص العلة بمعنى انتفاء الحكم المانع من تحقق العلة لوجهين أحدهما أن القياس بل الوصف فيه ليس بعلة عند وجود المعارض الأقوى لما سبق من أن شرط القياس أن لا يعارضه دليل أقوى منه فانتفاء الحكم في صورة القياس مبني على عدم العلة لا على تحقق المانع مع وجود العلة وثانيهما أن العلة في القياس ما يلزم من وجوده وجود الحكم بدليل الإجماع على وجوب تعدية الحكم إلى كل صورة توجد فيها العلة من غير تقييد بعدم المانع فكل ما لا يلزم من وجوده وجود الحكم بل يتخلف عنه ولو لمانع يكون علة ولما كان هذا الوجه صالحا لأن يجعل دليلا مستقلا على بطلان تخصيص العلة أشار إليه بقوله مع أن هذا التقييد واجب إلى آخره

(٢/١٨٦)

وتقريره أنهم أجمعوا على وجوب التعدية عند العلم بوجود العلة من غير تعرض منهم للتقييد بعدم المانع مع أنه معلوم قطعا أن لا تعدية عند وجود المانع فعلم من تركهم التقييد أن المراد بالعلة ما يستجمع جميع ما يتوقف عليه التعدية أنه عدم مانع وغيره على أنه شطر للعلة أو شرط لها فعند وجود المانع تكون العلة معدومة لانعدام ركنها أو شرطها وهاهنا نظر وهو أن غلبة الظن تكفي في العلية سواء استلزمت الحكم أم لا ولا نسلم الإجماع على وجوب التعدية مطلقا بل بشرائط وقيود كثيرة ومنها عدم المانع وأيضا كثيرا ما يقع الإطلاق اعتمادا على العلم بالتقييد كما في قولهم العمل بالعموم واجب والمراد عند عدم المخصص

قوله ثم عدمها أي عدم العلة قد يكون لزيادة وصف على ما جعل علة بأن تكون عليته مشروطة بعدم ذلك الوصف فينتفي بوجوده كالبيع المطلق أي غير المقيد بشرط علة للملك فإذا زيد عليه الخيار لم يبق مطلقا فلم يكن علة والمراد بالمطلق هاهنا ما يقابل المقيد بالشرط ونحوه لا المشروط بالإطلاق فإنه لا وجود له أصلا ولا المعنى الكلي الذي لا يوجد إلا في ضمن الجزئيات فإنه صادق على البيع بالخيار وقد يكون بنقصان وصف هو من جملة أركان العلة أو شرائطها فينتفي الكل بانتفاء جزئه أو شرطه كالخارج النجس فإنه مع عدم الحرج علة لانتقاض الوضوء فعند وجود الحرج لا يكون علة كما في المستحاضة

(٢/١٨٧)

قوله ومنه أي ومن دفع العلل المؤثرة فساد الوضع كما يقال التيمم مسح فيسن فيه التثليث كالاستنجاء فيعترض بأنه قد ثبت اعتبار المسح في كراهة التكرار كالمسح على الخف وهذا إنما يسمع قبل ثبوت تأثير العلة وإلا فيمتنع من الشارع اعتبار الوصف في الشيء ونقيضه

قوله ومنه أي ومن دفع العلل المؤثرة عدم الانعكاس وهو أن يوجد الحكم ولا توجد العلة وهذا لا يقدح في العلية لجواز أن يثبت الحكم بعلل شتى كالملك بالبيع والهبة والإرث كما في العلل العقلية فإن نوع الحرارة يحصل بالنار والشمس والحركة نعم يمتنع توارد العلل المستقلة على معلول واحد بالشخص لأنه يقتضي أن يكون كل منها محتاجا إليه من حيث إنه علة ومستغنى عنه من حيث إن الآخر علة مستقلة على أنه غير لازم في العلل الشرعية إذ ليس معنى تأثيرها الإيجاد وقد صرحوا بأن المتوضئ إذا حصل منه البول والغائط والرعاف ونحو ذلك حصل حدثه بكل واحد من هذه الأسباب

قوله ومنه الفرق وهو أن يتبين في الأصل وصف له مدخل في العلية لا يوجد في الفرع فيكون حاصله منع علية الوصف وادعاء أن العلة هي الوصف مع شيء آخر وهو مقبول عند كثير من أهل النظر والأكثرون على أنه يقبل لوجهين أحدهما أنه غصب منصب المعلل إذ السائل جاهل مسترشد في موقف الإنكار فإذا ادعي عليه شيء آخر وقف موقف الدعوى وهذا بخلاف المعارضة فإنها إنما تكون بعد تمام الدليل فالمعارض حينئذ لا يبقى سائلا بل يصير مدعيا ابتداء ولا يخفى أنه نزاع جدلي يقصدون به عدم وقوع الخبط في البحث وإلا فهو غير نافع في إظهار الصواب

وثانيهما أن المعلل بعدما أثبت كون الوصف المشترك علة لزوم ثبوت الحكم في الفرع

(٢/١٨٨)

ضرورة ثبوت العلة فيه سواء وجد الفارق أو لم يوجد لأن غاية الأمر أن المعترض يثبت في الأصل علية وصف لا يوجد في الفرع وهذا لا ينافي علية الوصف المشترك الموجب للتعدية نعم لو أثبت الفارق على وجه يمنع ثبوت الحكم في الفرع كان قادحا إلا أنه لا يكون مجرد الفرق بل بيان عدم وجود العلة في الفرع بناء على أن العلة هي الوصف المفروض مع عدم المانع

قوله لكن لم يجب أي القود لما

قلنا من أن قصور الجناية بالخطأ لا يوجب المثل الكامل فوجب المال خلفا عنه فإيجاب المال في العمد بأن يكون الوارث مخيرا بين القصاص وأخذ الدية لا يكون مماثلا له لأنه بطريق المزاحمة دون الخلفية إذ الخلف لا يزاحم الأصل بل لا يثبت إلا عند تعذره

فالحاصل أن قضية القياس إثبات مثل حكم الأصل في الفرع وهو مفقود هاهنا لأن الحكم في الأصل وهو الخطأ إيجاب خلفية المال عن القصاص وفي الفرع وهو العمد إيجاب مزاحمته له

قوله ومنه الممانعة وهي منع مقدمة الدليل

إما مع السند أو بدونه والسند ما يكون المنع مبنيا عليه ولما كان القياس مبنيا على مقدمات هي كون الوصف علة ووجودها في الأصل وفي الفرع وتحقق شرائط التعليل بأن لا يغير حكم النص ولا يكون الأصل معدولا به عن سنن القياس وتحقق أوصاف العلة من التأثير وغيره كان للمعترض أن يمنع كلا من ذلك بأن يقول لا نسلم أن ما ذكرت من الوصف علة أو صالح للعلية وهذا ممانعة في نفس الحجة ولو سلم فلا نسلم وجودها في الأصل أو الفرع أو لا نسلم تحقق شرائط التعليل أو تحقق أوصاف العلة واختلف في قبول الممانعة في نفس الحجة فقيل القياس إلحاق فرع بأصل بجامع وقد حصل فلا نكلف إثبات ما لم يدعه وأجيب بأنه لا بد في الجامع من ظن العلية وإلا لأدى إلى التمسك بكل طرد فيؤدي إلى

(٢/١٨٩)

اللعب فيصير القياس ضائعا والمناظرة عبثا مثل أن يقال الخل مائع فيرفع الخبث كالماء ولهذا احتاج المصنف رحمه اللّه تعالى في جريان الممانعة في نفس الحجة إلى بيانه بقوله لاحتمال أن يكون متمسكا بما لا يصلح دليلا كالطرد وكالتعليل بالعدم ولاحتمال أن لا تكون العلة هي الوصف الذي ذكره وإن كان صالحا للعلية بل تكون العلة غيره كما قتل عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب فقيل لا نسلم أن العلة في الأصل أعني المكاتب كونه عبدا بل جهالة المستحق أنه السيد أو الوارث وقد ذكر ذلك في مسألة الاختلاف في العلة

واعلم أن الممانعة في نفس الحجة هي أساس المناظرة لعموم ورودها على القياس إذ قلما تكون العلة قطعية وعند إيرادها يرجع المعلل في التقصي عنها إلى مسالك العلة وهي كثيرة وعلى كل منها أبحاث فيطول القيل والقال ويكثر الجواب والسؤال ثم ينبغي أن يكون ذكر المانعة على وجه الإنكار وطلب الدليل لا على وجه الدعوى وإقامة الحجة ولا يخفى أنه تصح الممانعة بعد ظهور تأثيرها لجواز أن يثبت بالنص أو الإجماع تأثير الوصف بمعنى اعتبار نوعه أو جنسه في نوع الحكم أو جنسه وتكون علة الحكم غيره أو يكون مقتصرا على الأصل بخلاف فساد الوضع فإنه لا يصح بعد ظهور التأثير ولهذا جعل فخر الإسلام رحمه اللّه دفع العلل المؤثرة بالممانعة والمعارضة صحيحا وبالنقض وفساد الوضع فاسدا نعم قد يورد النقض وفساد الوضع على العلل المؤثرة فيحتاج إلى الجواب وبيان أنه ليس كذلك

قوله واعلم أن المعترض تنبيه على أن مرجع جميع الاعتراضات إلى المنع والمعارضة لأن غرض المستدل الإلزام بإثبات مدعاه بدليل المعترض عدم الالتزام بمنعه عن إثباته بدليله والإثبات يكون بصحة مقدماته ليصلح للشهادة وبسلامته عن المعارض لتنفذ شهادته فيترتب عليه الحكم والدفع يكون بهدم أحدهما فهدم شهادة الدليل يكون بالقدح في صحته بمنع مقدمة من

(٢/١٩٠)

مقدماته وطلب الدليل عليها وهدم سلامته يكون بفساد شهادته في المعارضة بما يقابلها وبمنع ثبوت حكمها فما لا يكون من القبيلين لا يتعلق بمقصود الاعتراض فالنقض وفساد الوضع من قبيل المنع والقلب والعكس والقول بالموجب من قبيل المعارضة وما ذكره المصنف رحمه اللّه من تخصيص المناقضة بالمنع مع السند يبطل حصر الاعتراض في المناقضة والمعارضة لخروج المنع المجرد عنهما وعند أهل النظر المناقضة عبارة عن منع مقدمة الدليل سواء كان مع السند أو بدونه وعند الأصوليين هي عبارة عن النقض ومرجعها إلى الممانعة لأنها امتناع عن تسليم بعض المقدمات من غير تعيين وتخلف الحكم بمنزلة السند له

فإن قيل ينبغي أن لا تكون المعارضة من أقسام الاعتراض لأن مدلول الخصم قد ثبت بتمام دليله

قلنا هي في المعنى نفي لتمام الدليل ونفاذ شهادته على المطلوب حيث قوبل بما يمنع ثبوت مدلوله ولما كان الشروع فيها بعد تمام دليل المستدل ظاهرا لم يكن غصبا لأن السائل قد قام عن موقف الإنكار إلى موقف الاستدلال فالحاصل أن قدح المعترض

إما أن يكون بحسب الظاهر والقصد في الدليل أو في المدلول والأول

إما أن يكون بمنع شيء من مقدمات الدليل وهو الممانعة والممنوع

إما مقدمة معينة مع ذكر السند أو بدونه ويسمى مناقضة

وإما مقدمة لا بعينها وهو النقد بمعنى أنه لو صح الدليل بجميع مقدماته لما تخلف الحكم عنه في شيء من الصور

وإما أن يكون بإقامة الدليل على نفي مقدمة من مقدمات الدليل وذلك

إما أن يكون بعد إقامة المعلل دليلا على إثباتها وهو المعارضة في المقدمة فيدخل في أقسام المعارضة

وإما أن يكون قبلها وهو الغصب الغير المسموع لاستلزامه الخيط في البحث بواسطة بعد كل من المعلل والسائل عما كانا فيه وضلالهما عما هو طريق التوجيه والمقصود بناء على انقلاب حالهما واضطراب مقالهما كل ساعة والثاني وهو القدح في المدلول من غير تعرض للدليل

إما أن يكون بمنع المدلول وهو مكابرة لا يلتفت إليه

وإما بإقامة الدليل على خلافه وهي المعارضة وتجري في الحكم بأن يقيم دليلا على نقيض الحكم المطلوب وفي علته بأن يقيم دليلا على نفي شيء من مقدمات دليله والأول يسمى معارضة في الحكم والثانية المعارضة في المقدمة وتكون بالنسبة إلى تمام الدليل مناقضة والمعارضة في الحكم

إما أن تكون بدليل المعلل ولو بزيادة شيء عليه وهو معارضة فيها معنى المناقضة

أما المعارضة فمن حيث إثبات نقيض الحكم

وأما المناقضة فمن حيث إبطال دليل المعلل إذ الدليل الصحيح لا يقوم على النقيضين

فإن قلت في المعارضة تسليم دليل الخصم وفي المناقضة إنكاره فكيف هذا من ذلك

قلت يكفي في المعارضة التسليم من حيث الظاهر بأن لا يتعرض للإنكار قصدا

فإن قلت ففي

(٢/١٩١)

كل معارضة معنى المناقضة لأن نفي الحكم وإبطاله يستلزم نفي دليله المستلزم له ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم

قلت عند تغاير الدليلين لا يلزم ذلك الاحتمال أن يكون الباطل دليل المعارض بخلاف ما إذا اتحد الدليل ثم دليل المعارض إن كان على نقيض الحكم بعينه فقلب وإن كان ما يستلزمه فعكس

وإما أن يكون بدليل آخر وهي المناقضة الخالصة وإثباته لنقيض الحكم

إما أن يكون بعينه أو بتغيير ما وكل منهما صريحا أو التزاما والمعارضة في المقدمة إن كانت بجعل علة المستدل معلولا والمعلول علة فمعارضة فيها معنى المناقضة وإلا فمعارضة خالصة وهي قد تكون لنفي علية ما أثبت المستدل عليته وقد تكون لإثبات علية علة أخرى

إما قاصرة

وإما متعدية إلى مجمع عليه أو مختلف فيه وبعض هذه الأقسام مردود وأمثلتها مذكورة في الكتاب

فإن قلت بعد ما ظهر تأثير العلة كيف يصح معارضتها خصوصا بطريق القلب الذي هو جعل العلة بعينها علة لنقيض الحكم بعينه

قلت ربما يظن ظهور التأثير ولا تأثير وربما يورد على المؤثر ما يظن أنه معارضة أو قلب وليس كذلك فالمنافاة إنما هي بين تأثير في نفس الأمر وتمام المعارضة على القطع ولا قائل بذلك وهكذا حكم فساد الوضع فتخصيصه بأنه لا يمكن بعد ثبوت التأثير مما لا وجه له

قوله وإن كان بزيادة شيء عليه يعني زيادة تفيد تقريرا وتفسيرا لا تبديلا وتغييرا ليكون قلبا وهو مأخوذ من قلب الشيء ظهرا لبطن كقلب الجراب يسمى بذلك لأن المعترض جعل العلة شاهدا له بعد ما كان شاهدا عليه أو عكسا وهو مأخوذ من عكست الشيء رددته إلى ورائه على طريقة الأول وقيل رد أول الشيء إلى آخره وآخره إلى أوله نظير العكس ما إذا قال الشافعي رحمه اللّه تعالى صلاة النفل عبادة لا يجب المضي فيها إذا فسدت فلا يلزم بالشروع كالوضوء فنقول لما كان المذكور وهو صلاة النفل مثل الوضوء وجب أن يستوي فيه النذر والشروع كما في الوضوء وذلك

إما بشمول العدم أو بشمول الوجود والأول باطل لأنها تجب بالنذر إجماعا فتعين الثاني وهو الوجوب بالنذر والشروع جميعا وهو نقيض حكم المعلل فالمعترض أثبت بدليل المعلل وجوب الاستواء الذي لزم منه وجوب صلاة النفل بالشروع وهو نقيض ما أثبته المعلل من عدم وجوبها بالشروع

قوله اعلم أن كل عبادة يعني ادعى المعلل أن كل عبادة تجب بالشروع يجب المضي فيها عند الفساد ويلزمها بحكم عكس النقيض أن كل عبادة لا يجب المضي في فاسدها لا تجب

(٢/١٩٢)

بالشروع وهذا يشعر بأن عدم وجوب المضي في الفاسد علة لعدم الوجوب بالشروع فاعترض السائل بأنه لو كان علة لعدم الوجوب بالشروع لكان علة لعدم الوجوب بالنذر كما في الوضوء لما ذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى من أن الشروع مع النذر في الإيجاب بمنزلة توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر لأن الناذر عهد أن يطيع اللّه تعالى فلزمه الوفاء لقوله تعالى أوفوا بالعقود وكذا الشارع عزم على الإيقاع فلزمه الإتمام صيانة لما أدى إلى البطلان المنهي عنه لقوله تعالى ولا تبطلوا أعمالكم وإذا كان كذلك لزم استواء النذر والشروع في هذا الحكم أعني في عدم وجوب صلاة النفل بهما واللازم باطل لوجوبها بالنذر إجماعا ولا يخفى أن هذا التقرير غير واف بالمقصود وهو كون الاعتراض من قبيل العكس إلا أن فيه تقريبا إلى أن هذه معارضة فيها معنى المناقضة لتضمنها إبطال علية الوصف لكن لا دليل على أن عدم وجوب المضي في الفاسد لو كان علة لعدم الوجوب بالشروع لكان علة لعدم الوجوب بالنذر

قوله والأول يعني أن القلب أقوى من العكس بوجوه الأول أن المعترض بالعكس جاء

(٢/١٩٣)

بحكم آخر غير نقيض حكم المعلل وهو اشتغال بما لا يعنيه بخلاف المعترض بالقلب فإنه لم يجئ إلا بنقيض حكم المعلل الثاني أن العاكس جاء بحكم مجمل وهو الاستواء المحتمل لشمول الوجود وشمول العدم والقالب جاء بحكم مفسر هو نفي دعوى المعلل الثالث أن من شرط القياس إثبات مثل حكم الأصل في الفرع ولم يراع هذا في العكس إلا من جهة الصورة واللفظ لأن الاستواء في الأصل أعني الوضوء إنما هو بطريق شمول العدم أعني عدم الوجوب بالنذر ولا بالشروع وفي الفرع أعني صلاة النفل إنما هو بطريق شمول الوجود أعني الوجوب بالنذر والشروع جميعا فلا مماثلة هذا تقرير كلام المصنف رحمه اللّه تعالى وفيه بعض المخالفة لكلام فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى لما فيه من الاضطراب وذلك أنه قال المعارضة نوعان معارضة فيها مناقضة ومعارضة خالصة

أما الأولى فالقلب ويقابله العكس والقلب نوعان أحدهما أن يجعل المعلول علة والعلة معلولا من قلبت الشيء جعلته منكوسا وثانيهما أن تجعل الوصف شاهدا لك بعد ما كان شاهدا عليك من قلب الشيء ظهرا لبطن

وأما العكس فليس من باب المعارضة لكنه لما استعمل في مقابلة القلب ألحق بهذا الباب وهو نوعان أحدهما بمعنى رد الشيء على سننه الأول وهو ما يصلح لترجيح العلل لدلالته على أن الحكم زيادة تعلق بالعلة حيث ينتفي بانتفائها وذلك كقولنا ما يلزم بالنذر يلزم بالشروع كالحج وعكسه الوضوء بمعنى أن ما لا يلزم بالنذر لا يلزم بالشروع وثانيهما بمعنى رد الشيء على خلاف سننه كما يقال هذه عبادة لا يمضى في فاسدها فلا تلزم بالشروع كالوضوء فيقال لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه عمل النذر والشروع كالوضوء وهذا نوع من القلب ضعيف لأنه لما جاء بحكم آخر ذهبت المناقضة لأن المستدل لم ينف التسوية ليكون إثباتها دفعا لدعواه ولذلك لم يكن من هذا الباب في الحقيقة ولأن الاستواء حكم مجمل ولأنه حكم مختلف في المعنى بالنسبة إلى الفرع والأصل

وأما الثانية أعني المعارضة الخالصة فخمسة أنواع اثنان في الفرع وثلاثة في الأصل وجعل أحد أنواع الخمسة المعارضة بزيادة هي تفسير للأول وتقرير له كما يقال المسح ركن فيسن تثليثه كالغسل فيقال ركن فلا يسن تثليثه بعد إكماله بزيادة على الفرض في محله وهو الاستيعاب كالغسل وهذا أحد وجهي القلب فأورده تارة في المعارضة التي فيها مناقضة نظرا إلى أن الزيادة تقرير فيكون من قبيل جعل دليل المستدل دليلا على نقيض مدعاه فيلزم إبطاله وتارة في المعارضة

(٢/١٩٤)

الخالصة نظرا إلى الظاهر وهو أنه مع تلك الزيادة ليس دليل المستدل بعينه وأيضا جعل أحد الأنواع الخمسة القسم الثاني من قسمي العكس

قوله وهذا أقوى الوجوه لدلالته صريحا على ما هو المقصود بالمعارضة وهو إثبات نقيض حكم المعلل بعينه

قوله وكقولنا في صغيرة يعني مثال المعارضة الخالصة التي تثبت نقيض حكم المعلل بتغير ما قولنا في إثبات ولاية تزويج الصغيرة التي لا أب لها ولا جد لغيرهما من الأولياء صغيرة فيثبت عليها ولاية النكاح كالتي لها أب بعلة الصغر فيقول المعترض صغيرة فلا يولى عليها بولاية الأخوة كالمال فإنه لا ولاية للأخ على مال الصغيرة لقصور الشفقة فالعلة هي قصور الشفقة لا الصغر على ما يفهم من ظاهر العبارة وإلا لم يكن معارضة خالصة بل قلبا فالمعلل أثبت مطلق الولاية والمعارض لم ينفها بل نفى ولاية الأخ فوقع في نقيض الحكم تغيير هو التقييد بالأخ ولزم نفي حكم المعلل من جهة أن الأخ أقرب القرابات بعد الولادة فنفي ولايته يستلزم نفي ولاية العم ونحوه وبهذا الاعتبار يصير لهذا النوع من المعارضة وجه صحة

قوله وهو أي كون الأول صاحب فراش صحيح أولى بالاعتبار من كون الثاني حاضرا مع

(٢/١٩٥)

فساد الفراش لأن صحة الفراش توجب حقيقة النسب والفاسد شبهته وحقيقة الشيء أولى بالاعتبار من شبهته وربما يقال بل في الحضور حقيقة النسب لأن الولد من مائه

قوله وهي قلب أيضا من إذا قلبت الإناء وجعلت أعلاه أسفله لأن العلة أصل وهو أعلى والمعلول فرع وهو أسفل فتبديلهما بمنزلة جعل الكوز منكوسا لكن هذا إنما يكون معارضة إذا أقام المعترض دليلا على نفي علية ما ادعاه المعلل علة وإلا فهو ممانعة مع السند على ما صرح به عبارة المصنف رحمه اللّه تعالى نعم لو أثبت كون العلة معلولا لزم نفي عليته لأن معلول الشيء لا يكون له علة وما يقال من أنه معارضة في الحكم من جهة أن السائل عارض تعليل المستدل بتعليل آخر لزم منه بطلان تعليله فلزم بطلان حكمه المرتب عليه ففيه نظر لأن بطلان التعليل لا يدل على انتفاء الحكم لجواز أن يثبت بعلة أخرى

قوله والمخلص لا يريد بالمخلص الجواب عن هذا القلب ودفعه بل الاحتراز عن وروده

(٢/١٩٦)

وذلك بأن لا يورد الحكمين بطريق تعليل أحدهما بالآخر بل بطريق الاستدلال بثبوت أحدهما على ثبوت الآخر إذ لا امتناع في جعل المعلول دليلا على العلة بأن يفيد التصديق بثبوته كما يقال هذه الخشبة قد مستها النار لأنها محترقة وهذا الشخص متعفن الأخلاط لأنه محموم وهذا المخلص إنما يكون عند تساوي الحكمين بمعنى أن يكون ثبوت كل منهما مستلزما لثبوت الآخر ليصح الاستدلال كما في النذر والشروع وكالولاية في النفس والمال بخلاف الجلد والرجم وبخلاف القراءة في الأوليين والأخريين

فإن قيل إن أريد بالمساواة من كل وجه فغير متصور كيف والمال مبتذل والنفس مكرمة وإن أريد المساواة من وجه فالفرق لا يضر أجيب بأن المراد المساواة في المعنى الذي بني الاستدلال عليه كالحاجة إلى التصرف في الولاية

فإن قيل قد تحقق الحاجة إلى التصرف في المال كي لا تأكله الصدقة بخلاف النفس فإنها تتأخر إلى ما بعد البلوغ أجيب بأنه قد يكون بالعكس فيحتاج في النفس لعدم الكفء بعد ذلك ولا يحتاج في المال لكثرته فتساويا

قوله فإن كانت قاصرة لا يقبل لما سبق من أن التعليل لا يكون إلا للتعدية وذلك كما إذا

قلنا الحديد بالحديد موزون مقابل بالجنس فلا يجوز متفاضلا كالذهب والفضة فيعارض بأن العلة في الأصل هي الثمنية دون الوزن ويقبل عند الشافعي رحمه اللّه تعالى لأن مقصود المعترض إبطال علية وصف المعلل فإذا بين علية وصف آخر احتمل أن يكون كل منهما مستقلا بالعلية فلا يقبل وأن يكون كل منهما جزء علة فلا يصح الجزم بالاستقلال حتى قالوا إن الوصف الذي ادعى المعترض عليته لو كانت متعدية لم يكن على المعترض إثباته في محل آخر وبهذا يندفع ما ذكره في

(٢/١٩٧)

بطلان المعارضة بإثبات علة متعدية إلى مجمع عليه من أنه يجوز أن يثبت الحكم بعلل شتى وذلك لأن وصف المعلل حينئذ يحتمل أن يكون جزء علة وهذا كاف في غرض المعترض أعني القدح في علية وصف المعلل لا يقال الكلام فيما إذا ثبت علية الوصف وظهر تأثيره لأنا نقول نعم ولكن لا قطعا بل ظنا وحينئذ يجوز أن يكون بيان علية وصف آخر موجبا لزوال الظن بعلية وصف المعلل استقلالا

قوله وإن تعدى أي الشيء الآخر الذي ادعى المعترض عليته إلى فرع مختلف فيه كما إذا قيل الجص مكيل قوبل بجنسه فيحرم متفاضلا كالحنطة فيعارض بأن العلة هي الطعم فيتعدى إلى الفواكه وما دون الكيل كبيع الحفنة بالحفنتين وجريان الربا فيهما مختلف فيه فمثل هذا يقبل عند أهل النظر لأن المعلل والمعترض قد اتفقا على أن العلة إنما هي أحد الوصفين فقط إذ لو استقل كل بالعلية لما وقع نزاع في الفرع المختلف فيه فإثبات علية أحدهما توجب نفي علية الآخر وهذا بخلاف ما إذا تعدى إلى فرع مجمع عليه فإنه يجوز أن يلتزم المعلل عليه وصف المعترض أيضا قولا بتعدد العلة كما إذا ادعى أن علة الربا هي الكيل والوزن ثم التزام أن الاقتيات والادخار أيضا علة ليتعدى إلى الأرز لكن لا يمكنه أن يلتزم أن الطعم أيضا علة لأنه ينكر جريان الربا في التفاح مثلا

فإن قلت الكلام فيما إذا ثبت علية وصف المعلل وتأثيره فانتفاؤه بثبوت علية وصف المعترض ليس أولى من العكس

قلت المراد أن ثبوت علية كل منهما يستلزم انتفاء علية الآخر بناء على أن العلة واحد لا غير ولا يصح الحكم بعلية أحدهما ما لم يرجح وليس المراد أنه يبطل علية وصف المعلل ويثبت صحة علية وصف المعترض لمجرد المعارضة

وأما عند الفقهاء فلا يقبل مثل هذه المعارضة لأنه ليس لصحة علية أحد الوصفين تأثير في فساد علية الآخر نظرا إلى ذاتهما لجواز

(٢/١٩٨)

استقلال العلتين وإنما وقع الاتفاق على فساد أحدهما لا بعينه لمعنى فيه لا لصحة الآخر بل كل من الصحة والفساد يفتقر إلى معنى يوجبه وفيه نظر لأن عدم تأثير صحة أحدهما في فساد الآخر لا ينافي فساد أحدهما عند صحة الآخر لا يقال كل منهما يحتمل الصحة والفساد إذ الكلام فيما يثبت عليته ظنا لا قطعا لأنا نقول لا نعني بفساد العلية إلى هذا وهو أنه لم يبق الظن بالعلية ما لم يرجح للاتفاق على أن العلة أحدهما ولا أولوية بدون الترجيح

قوله فصل في الاعتراضات التي تورد على القياسات التي لا يظهر تأثير عللّها بل يكتفى فيها بمجرد دوران الحكم مع العلة

إما وجودا فقط

وإما وجودا وعدما وينبغي أن يراد بالطردية هاهنا ما ليست بمؤثرة لتعم المناسب والملائم فيصح الحصر في المؤثرة والطردية وليس المقصود من إيراد الفصلين اختصاص كل من الفصلين بنوع من العلل فإن الكلام صريح في اشتراكهما في الممانعة والمناقضة وفساد الوضع ولا يخفى جريان المعارضة في الطردية بل هي أظهر وأسهل نعم كلام المصنف رحمه اللّه تعالى يوهم اختصاص القول بالموجب بالعلل الطردية حيث قال وهو يلجئ المعلل إلى العلة المؤثرة وأنت خبير بأن حاصل القول بالموجب دعوى المعترض أن المعلل نصب الدليل في غير محل النزاع وهذا مما لا اختصاص له بالطردية

قوله وهو أي القول بموجب العلة التزام السائل ما يلزمه المعلل بتعليله مع بقاء النزاع في الحكم المقصود وهذا معنى قولهم هو تسليم ما اتخذه المستدل حكما لدليله على وجه لا يلزمه تسليم الحكم المتنازع فيه ويقع على ثلاثة أوجه الأول أن يلزم المعلل بتعليله ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه مع أنه لا يكون محل النزاع

(٢/١٩٩)

ولا ملازمه

إما بصريح عبارة المعلل كما إذا قال القتل بالمثقل قتل بما يقتل غالبا فلا ينافي القصاص كالقتل بالحرق فيجاب بأن النزاع ليس في عدم المنافاة بل في إيجاب القصاص

وإما بحمل المعترض عبارته على ما ليس بمراده كما في مسألة تثليث المسح وتعيين النية فإن المعلل يريد بالتثليث إصابة الماء محل الفرض ثلاث مرات وبالتعيين تعيينا قصديا من جهة الصائم والسائل يحمل التثليث على جعله ثلاثة أمثال الفرض والتعيين أعم من أن يكون بقصد الصائم أو معينا بتعيين الشارع حتى لو صرح المعلل بمراده لم يكن القول بالموجب بل تتعين الممانعة والثاني أن يلزم المعلل بتعليله إبطال ما يتوهم أنه مأخذ الخصم كما إذا قال في السرقة أخذ مال الغير بلا اعتقاد إباحة وتأويل فيوجب الضمان كالغصب فيقال نعم إلا أن استيفاء الحد بمنزلة الإبراء في إسقاط الضمان

والثالث أن يسكت المعلل عن بعض المقدمات لشهرته فالسائل يسلم المقدمة المذكورة ويبقى النزاع في المطلوب للنزاع في المقدمة المطوية وربما يحمل المقدمة المطوية على ما ينتج مع المقدمة المذكورة نقيض حكم المعلل فيصير قلبا كما في مسألة غسل المرفق فإن المعلل يريد أن الغاية المذكورة في الآية غاية للغسل والغاية لا تدخل تحت المغيا فلا تدخل المرفق في الغسل والسائل يريد أنها غاية للإسقاط فلا تدخل في الإسقاط فتبقى داخلة في الغسل فلو صرح بالمقدمة المطوية لتعين منعها ثم لا يخفى أن هذا المثال ليس من قبيل القياس فضلا عن أن تكون العلة طردية وفيه تنبيه عن أن الاعتراضات لا تخص القياس بل تعم الأدلة

فإن قلت كيف يكون هذا

(٢/٢٠٠)

المثال من القول بالموجب والمعلل إنما يلزم عدم دخول المرفق تحت الغسل والسائل لا يلتزم ذلك

قلت المعتبر في القول بالموجب التزام ما يلزمه المعلل بتعليله من حيث إنه معلل وهو هاهنا لا يلزم إلا عدم دخول المرفق تحت ما هو غاية له وقد التزمه السائل فظهر بما ذكرنا أن المصنف رحمه اللّه تعالى لو أورد مكان مسألة تعيين النية مسألة ضمان السرقة أو نحوها ليكون تنبيها على الأقسام الثلاثة لكان أنسب

قوله فالاستيعاب تثليث وزيادة لأن التثليث ضم المثلين وفي الاستيعاب ضم ثلاثة الأمثال إن قدر محل الفرض بالربع أو أكثر إن قدر بأقل من الربع واتحاد المحل ليس من ضرورة التثليث بل من ضرورة التكرار والنص الوارد في الركن إنما يدل على سنية الإكمال دون التكرار وهو حاصل بالإطالة كما في القراءة والركوع والسجود بخلاف الغسل فإن تكميله بالإطالة يقع في غير محل الفرض فلا بد من التكرار

وأما المسح فمحله الرأس من غير تعيين موضع دون موضع وهو متسع يزيد على مقدار الفرض فيمكن تكميله في محل الفرض بالإطالة والاستيعاب

قوله على أن التكرار بما يصير غسلا زيادة توضيح وتحقيق لكون المسنون هو التكميل بالإطالة دون التكرار وليس باعتراض آخر على هذا القياس لأنه لا يناسب المقام

قوله الثاني الممانعة وهي منع ثبوت الوصف في

(٢/٢٠١)

الأصل أو الفرع أو منع الحكم في الأصل أو الفرع أو منع صلاحية الوصف للحكم أو منع نسبة الحكم إلى الوصف

فإن قيل التعليل إنما هو لإثبات الحكم في الفرع فمنع الحكم في الفرع يكون منعا للمدلول من غير قدح في الدليل فلا يكون موجها

قلنا المراد منع إمكان ثبوت الحكم في الفرع فيكون منعا لتحقق شرائط القياس إذ من شرط القياس إمكان ثبوت الحكم في الفرع

أما منع ثبوت الوصف في الأصل فكما يقال مسح الرأس طهارة مسح فيسن تثليثه كالاستنجاء فيعترض بأن الاستنجاء ليس طهارة مسح بل طهارة عن النجاسة الحقيقية

وأما في الفرع فكما يقال كفارة الإفطار عقوبة متعلقة بالجماع فلا تجب بالأكل كحد الزنا فيقال لا نسلم أنها عقوبة متعلقة بالجماع بل بنفس الإفطار على وجه يكون جناية متكاملة فالأصل حد الزنا والفرع كفارة الصوم والحكم عدم الوجوب بالأكل والوصف العقوبة المتعلقة بالجماع وقد منع السائل صدقة على كفارة الصوم فظهر فساد ما يقال إن هذا منع لنسبة الحكم إلى الوصف بمعنى أن وجوب الكفارة لا يتعلق بالجماع بل بالإفطار وكما يقال بيع التفاحة بالتفاحتين بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فيحرم كبيع الصبرة بالصبر مجازفة فيقال إن أردتم المجازفة مطلقا أو في الصفة أو في الذات بحسب الأجزاء فلا نسلم تعلق الحرمة بها فإن بيع الجيد

(٢/٢٠٢)

بالرديء جائز وكذا بيع القفيز بالقفيز مع كون عدد حبات أحدهما أكثر وإن أردتم المجازفة بحسب المعيار فلا نسلم ثبوتها في الفرع أعني بيع التفاحة بالتفاحتين فإنها لا تدخل تحت الكيل والمعيار فمنع الوصف في الفرع في المثال الأول متعين وفي الثاني مبني على أحد التقادير

قوله وإن ادعيتها أي وإن ادعيت حرمة غير متناهية بالمساواة فلا نسلم ثبوت الحكم في بيع الصبرة بالصبر مجازفة فإنهما إذا كيلا ولم يفضل أحدهما على الآخر عاد العقد إلى الجواز

فإن قيل المراد مطلق الحرمة من غير اعتبار التناهي وعدمه أجيب بأن شرط القياس تماثل الحكمين والثابت في الأصل هو أحد نوعي الحرمة المطلقة أعني المتناهي بالمساواة وهو غير ممكن في الفرع

قوله الثالث فساد الوضع وهو أن يترتب على العلة نقيض ما تقتضيه وهو يبطل العلة بالكلية بمنزلة فساد الأداء في الشهادة إذ الشيء لا يترتب عليه النقيضان فلا يمكن الاحتراز عنه بتغيير الكلام بخلاف المناقضة فإنه يمكن أن يحترز عن ورودها بأن يفسر الكلام نوع تفسير وبغير أدنى تغيير كما يقال الوضوء طهارة كالتيمم فيشترط فيه النية فينقض بتطهير الخبث فيجاب بأن المراد أنهما تطهيران حكميان فلا يرد النقض بتطهير الخبث والمراد بالاحتراز عن ورود المناقضة أن يساق الكلام بحيث لا يصح أن يورد عليه المناقضة وإلا فدفع المناقضة بعد إيرادها يمكن بوجوه أخر سوى تغيير الكلام على ما سبق

(٢/٢٠٣)

قوله ولا بقاء النكاح عطف على

قوله لإيجاب الفرقة وعدل عن الباء إلى لفظ مع حيث لم يقل ارتداد أحدهما لظهور أن الشافعي رحمه اللّه تعالى لا يقول بأن علة بقاء النكاح هي الارتداد بل يقول إن الارتداد لا يقطع النكاح قبل انقضاء العدة وعدم كون الشيء قاطعا للشيء لا يستلزم كونه علة لبقائه وحين صرح في الشرح بأن الشافعي رحمه اللّه تعالى جعل الردة علة لبقاء النكاح فسره بمعنى أنه لا يجعلها قاطعة للنكاح وأنت خبير بأنه لا تعليل حينئذ فلا فساد وضع نعم لو قيل النكاح مبني على العصمة والردة قاطعة لها فتكون منافية للنكاح ولا بقاء للشيء مع المنافي لكان استدلالا برأسه على بطلان بقاء النكاح مع الارتداد لكنه لا يتعلق بمقصود المقام إذ ليس هاهنا بيان أن الخصم قد رتب على العلة نقيض ما تقتضيه وكذا مسألة الحج بنية النقل فإن الشافعي رحمه اللّه تعالى ذهب إلى أنه يقع عن الفرض كما إذا حج بنية مطلقة لأن مطلق النية العبادة التي تتنوع إلى الفرض والنفل تنصرف إلى النفل كما في الصلاة وصوم غير رمضان فإذا استحق المطلق للفرض دل على استحقاق نية النفل للفرض وليس في هذا فساد الوضع بمعنى أنه رتب على العلة نقيض ما تقتضيه بل بمعنى أن فيه حمل المقيد على المقيد على المطلق وهذا ما لم يقل به أحد وإنما وقع الخلاف في حمل المطلق على المقيد نعم ذكر بعضهم أن فساد الوضع نوعان أحدهما كون القياس على خلاف مقتضى الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع وثانيهما كون الوصف مشعرا بخلاف الحكم الذي ربط به كما يذكر وصف مشعر بالتغليظ في روم التخفيف وبالعكس ولا خفاء في أن المثالين المذكورين من النوع الأول

(٢/٢٠٤)

قوله المطعوم شيء ذو خطر إذ يتعلق به قوام النفس وبقاء الشخص كالنكاح يتعلق به بقاء النوع ولا شك أن خطر المطعوم بمعنى كثرة الاحتياج إليه بالإطلاق والتوسعة أنسب منه بالتحريم والتضييق ولهذا كان طريق الوصول إلى الماء والهواء أيسر لكون الحاجة إليهما أكثر ففي ترتيب اشتراط التقابض في تمليك المطعوم على كونه ذا خطر فساد الوضع لأنه نقيض ما يقتضيه من التوسعة والتيسير

قوله الوضوء والتيمم طهارتان نقل عن الشافعي رحمه اللّه تعالى في اشتراط النية في الوضوء أن الوضوء والتيمم طهارتا صلاة فكيف افترقتا ولما كان واضحا بينا أن مراده بإنكار الافتراق وجوب استوائهما في اشتراط النية صرح به المصنف رحمه اللّه تعالى ونوقض بتطهير البدن والثوب عن النجاسة الحقيقية فإنه لا يشترط فيه النية فلا بد في التقصي عن المناقضة بأن يقال المراد بهما تطهير حكمي أي تعبدي غير معقول المعنى لأن معنى التطهير إزالة النجاسة وليس على أعضاء المتوضئ نجاسة تزال ولهذا لا يتنجس الماء بملاقاته وإنما عليه أمر مقدر اعتبره الشارع مانعا لصحة الصلاة عند عدم العذر وحكم بأن الوضوء يرفعه فتشترط النية تحقيقا لمعنى التعبد بخلاف تطهير الخبث فإنه حقيقي لما فيه من إزالة النجاسة بالماء سواء نوى أو لم ينو فيقول المعترض إن أردتم أن نفس التطهير أي رفع الحدث وإزالته بالماء حكمي غير معقول فممنوع كيف والماء مطهر بطبعه كما أنه مرو وقد خلقه اللّه آلة للطهارة في أصله فيحصل به إزالة النجاسة حقيقية كانت أو حكمية نوى أو لم ينو بخلاف التراب فإنه في نفسه ملوث لا يصير مطهرا إلا بالقصد والنية وإن أردتم أن الوضوء تطهير حكمي بمعنى أنه إزالة نجاسة حكمية حكم

(٢/٢٠٥)

بها الشارع في حق جواز الصلاة بمعنى أنها مانعة له كالنجاسة الحقيقية فمسلم لكنه لا يوجب اشتراط النية في رفعها وإزالتها بالماء الذي خلق طهورا فإنه أمر معقول ولما كان لهم في اشتراط النية طريقة أخرى وهي أن الوضوء قربة أي عبادة لما فيه من تعظيم الرب بامتثال الأمر ومن استحقاق الثواب بدلالة

قوله عليه الصلاة والسلام الوضوء على الوضوء نور على نور وكل قربة فهي مفتقرة إلى النية تحقيقا لمعنى الإخلاص وقصد التقرب إلى اللّه تعالى وتمييزا للعبادة على العادة أشار إلى الجواب بأنه إن أريد كل وضوء قربة فهو ممنوع فإنه من الوضوء ما هو مفتاح للصلاة فقط بمنزلة غسل البدن عن الخبث وإن أريد البعض فلا نزاع في أنه محتاج إلى النية فإن الوضوء لا يصير قربة بدون النية لكن صحة الصلاة لا تتوقف على وضوء هو قربة بل على تطهير الأعضاء المخصوصة عن الحدث ليصير العبد به أهلا للقيام بين يدي الرب

فإن قلت هو مأمور بالغسل وهو فعل اختياري مسبوق بالقصد فلا يحصل الامتثال بالانغسال من غير قصد منه وأيضا قولنا إذا أردت الدخول على الأمير فتأهب معناه تأهب له فيكون معنى الآية إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضئوا لذلك

قلت لا كلام في أن الإتيان بالوضوء المأمور به لا يحصل بدون النية لكن صحة الصلاة لا تتوقف عليه لأن الوضوء غير مقصود وإنما المقصود حصول الطهارة وهي تحصل بالمأمور به وغيره لأن الماء مطهر بالطبع بخلاف التراب فلا يصير مطهرا إلا بالشرط الذي ورد به الشرع وهو كونه للصلاة كذا في مبسوط شيخ الإسلام رحمه اللّه تعالى وقال في الأسرار إن كثيرا من مشايخنا يظنون أن المأمور به الوضوء يتأدى بغير نية وذلك غلط فإن المأمور به عبادة والوضوء بغير النية ليس بعبادة لكن العبادة متى لم تكن مقصودة سقطت لحصول المقصود بدون العبادة كالسعي إلى الجمعة فإن المقصود هو التمكن من الجمعة بالحصول في المسجد

فإن قيل فينبغي أن تشترط النية في مسح الرأس لأن التطهير بمجرد الإصابة غير معقول أجيب من وجوه الأول أن الطهارة طهارة غسل فألحق الجزء بالكل والقليل بالكثير

(٢/٢٠٦)

وخص الرأس بذلك لما في غسله من الحرج

الثاني أن المسح خلف عن الغسل دفعا للحرج فيعتبر فيه حكم الأصل وهو الاستغناء عن النية

الثالث أن الإصابة جعلت بمنزلة الإسالة في إزالة الحدث وإفادة التطهير لما في المزيل من القوة لكونه مطهرا طبعا وفي النجاسة من الضعف لكونها حكمية بخلاف الخبث فإنه نجاسة حقيقية عينية وخص الرأس بذلك تيسيرا ودفعا للحرج

فإن قيل هب أن تطهير النجاسة الحكمية بالماء معقول لكنه لا يفيد استغناء الوضوء عن النية لأن الوضوء عبارة عن غسل الأعضاء الثلاثة مع مسح الرأس وهذا هو المراد بغسل الأعضاء الأربعة على طريقة التغليب وهذا غير معقول لأن المتصف بالنجاسة الحكمية أعني بالحدث جميع البدن بحكم الشرع فإزالتها والتطهر منها بغسل الأعضاء الذي هو أقل البدن خصوصا الذي هو غير ما تخرج عنه النجاسة الحقيقية المؤثرة في ثبوت النجاسة الحكمية ليست بمعقولة فيجب أن لا تحصل بدون النية كالتيمم أجيب بأنا لا نسلم أن الاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول فإن دفع الحرج إسقاط باقي الأعضاء في الحدث الذي يعتاد تكرره ويكثر وقوعه والاكتفاء بالأعضاء التي هي بمنزلة حدود الأعضاء ونهايتها طولا وعرضا أو بمنزلة أصولها وأمهاتها لكونها مجمع الحواس ومظهر الأفعال مع أنها مظنة لإصابة النجس ومئنة لسهولة الغسل أمر معقول الشأن مقبول الأذهان فيستغنى عن النية واحتراز بالمعتاد عما يوجب الغسل كالمني والحيض فإنه قليل الوقوع فلا حرج في غسل جميع البدن على ما هو الأصل فلا يكتفى بالبعض

قوله واعلم حاصل هذا الكلام بيان المنافاة بين كلامي فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى وصاحب الهداية في هذا المقام وإيراد الإشكال على كل من الكلامين ثم دفع المنافاة وحل الإشكال

أما المنافاة فلأنه ذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن تغير وصف محل الغسل وانتقاله من الطهارة إلى الخبث غير معقول وذكر صاحب الهداية أن تأثير خروج النجاسة في زوال الطهارة معقول

وأما ورود الإشكال على كلام فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى فلأنه يوجب أن لا يصح قياس غير السبيلين على السبيلين في الحكم بكون الخارج النجس منه سببا للحدث لأن من شرط القياس أن يكون حكم الأصل معقول المعنى

وأما على كلام صاحب الهداية فلا يوجب صحة قياس سائر المائعات على الماء في رفع الحدث كما يصح قياسها عليه في رفع الخبث إذ لا مانع سوى عدم معقولية النص

وأما وجه الجمع بين الكلامين ودفع المنافاة فهو أن مراد فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى بعدم معقولية زوال الطهارة عن محل الغسل أن العقل لا يستقل بإدراك ذلك من غير ورود

(٢/٢٠٧)

الشرع إذا لا يعقل أن تنجس اليد أو الوجه بخروج النجاسة من السبيلين ومراد صاحب الهداية بمعقولية أن الشارع لما حكم بزوال الطهارة عن البدن عند خروج النجس من السبيلين أدرك العقل أن هذا الحكم إنما هو لأجل هذا الوصف وأنه ليس بتعبد محض لا يقف العقل عن سببه ولا منافاة بين عدم استقلال العقل بدرك شيء وبين إدراكه إياه بمعونة الشرع وبعد وروده

وأما حل الإشكالين فالوجه الأول أن المعتبر في القياس هو المعقولية بمعنى أن يدرك العقل ترتب الحكم على الوصف أعم من أن يستقل بذلك أو يتوقف على ورود الشرع وهذا حاصل في زوال الطهارة بخروج النجس من السبيلين فيصح قياس غير السبيلين وفي الثاني أن قياس المائعات على الماء في رفع الخبث إنما يصح باعتبار أنها قالعة مزيلة بمنزلة الماء وهذا لا يوجد في الحدث لأنه أمر مقدر لا يتصور قلعه لا باعتبار أنها مطهرة للمحل أي مغيرة له من النجاسة إلى الطهارة حتى يصح قياس المائعات على الماء في تطهير المحل عن النجاسة الحكمية وتحقيق ذلك أن النص

(٢/٢٠٨)

الذي جعل الماء مطهرا عن الحدث غير معقول إذ ليس في أعضاء الوضوء عين النجاسة لتزال وإذ لا إزالة حقيقة وعقلا فلا تعدية إلى سائر المائعات بخلاف الخبث فإن إزالته بالماء أمر معقول فيتعدى إلى سائر المائعات بجامع القلع والإزالة الحسية ولا يخفى أن هذا يناقض ما سبق من أن تطهير النجاسة الحكمية وإزالتها بالماء معقول ولهذا لم يحتج إلى النية لا يقال تطهير النجاسة الحكمية معقول في الخبث والحدث إلا أن العلة في الخبث هي القلع الموجود في الماء وغيره فيصح القياس وفي الحدث هي التطهير لا القلع وهو لا يوجد في غير الماء لأنا نقول التطهير وهو الحكم لا العلة تطهير الحدث إن كان معقول المعنى فإن كان ذلك المعنى هو كون الماء مزيلا يلزم صحة قياس المائعات الأخر كما في الخبث وإن كان وصفا غيره يجب أن يبين حتى ينظر أنه هل يوجد في سائر المائعات أم لا على أنه لو لم يوجد فيها يلزم التعليل بالعلة القاصرة ثم هاهنا نظر

أما أولا فلأن ما ذكره في وجه التوفيق بعيد جدا لأن فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى إنما أورد الكلام المذكور في معرض الجواب عن قول من قال إن الوضوء تطهير حكمي لا يعقل معناه فيجب أن يشترط فيه النية كالتيمم

وحاصله أن التطهير بالماء معقول لأنه مطهر بطبعه وإنما نعني بالنص الذي لا يعقل وصف محل الغسل من الطهارة إلى الخبث يعني أن المراد بالنص الغير المعقول في باب الوضوء هو النص الدال على تغير المحل من الطهارة إلى النجاسة لا النص الدال على حصول الطهارة باستعمال الماء وفي بعض النسخ وإنما يغير بالنص أي أن الثابت بالنص الغير المعقول هو تغير المحل من الطهارة إلى النجاسة والمقصود واحد ولا خفاء في أن المعتبر في القياس هو المعقولية بمعنى أن يدرك العقل معنى الحكم المنصوص وعلته وأنه لا معنى في المقام لذكر استقلال العقل بدرك الحكم

وأما ثانيا فلأن عبارة الهداية هي أن خروج النجاسة مؤثر في زوال الطهارة وهذا القدر في الأصل أي السبيلين معقول والاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول لكنه يتعدى ضرورة تعدي الأول وهذا لا ينافي أن يكون اتصاف أعضاء الوضوء بالنجاسة غير معقول على ما ذكره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى بل لا يبعد أن يكون

قوله وهذا القدر إشارة إلى أن المعقول هاهنا هو مجرد تأثير خروج النجاسة في زوال الطهارة لما بينهما من التنافي لا سراية النجاسة إلى جميع البدن على ما ذهب إليه البعض من أن اتصاف جميع البدن بالنجاسة معقول بناء على أن الصفة إذا ثبتت في ذات كان المتصف بها جميع الذات كما في السميع والبصير وإنما لم ينجس الماء بملاقاة الجنب أو المحدث لمكان الضرورة والحاجة بل السريان إلى جميع البدن مبني على حكم الشارع بذلك من غير أن يعقل معناه ولهذا لم يتصف بالنجاسة الحقيقية جميع البدن حيث لم يحكم الشارع بذلك وإلى هذا أشار المصنف رحمه اللّه تعالى بقوله اتصف البدن بالنجاسة بحكم الشرع

وأما ثالثا فلأن هاهنا حكمين أحدهما زوال الطهارة بخروج النجس من السبيلين والثاني زوال الحدث

(٢/٢٠٩)

بغسل الأعضاء الأربعة فحين ذهب صاحب الهداية إلى أن الأول معقول دون الثاني حتى جاز إلحاق غير السبيلين بالسبيلين ولم يجز إلحاق سائر المانعات بالماء لم يرد عليه شيء من الإشكالين وإنما كان يرد عليه الإشكال بزوال الحدث الثابت بخروج النجس من غير السبيلين بغسل الأعضاء الأربعة بطريق التعدية من السبيلين فأجاب بأن هذا الحكم وإن كان غير معقول إلا أن تعديته إنما تثبت في ضمن تعدية حكم معقول هو ثبوت الحدث بخروج النجس وهو جائز كاستواء الجيد مع الرديء في باب الربا يتعدى في ضمن الحكم المعقول الذي هو حرمة البيع عند التفاضل وإباحتها عند التساوي

وتحقيق ذلك أن من شرط القياس تماثل الحكمين وقد ثبت بخروج النجس من السبيلين حدث يرتفع بغسل الأعضاء الأربعة فيجب أن يثبت بالخارج من غير السبيلين حكم كذلك تحقيقا للمماثلة ويرد كلا الإشكالين على المصنف رحمه اللّه تعالى حيث ذهب إلى أن تغيير محل الغسل من الطهارة إلى النجاسة غير معقول وأن تطهيرها بغسل الأعضاء الأربعة معقول لا يقال المراد بعدم المعقولية أن العقل لا يستقل بدركه وهذا لا ينافي جواز القياس لأنا نقول حينئذ لا ينطبق الجواب على دليل الخصم لأن المعتبر في الاحتياج إلى النية أو الاستغناء عنها هو كون الحكم الثابت بالنص تعبديا أو معقولا بمعنى ألا يدرك العقل معناه أي علته أو يدرك لا بمعنى أن لا يستقل العقل بإدراك الحكم أو يستقل وأيضا يلزم أن يكون المراد بقوله لكن تطهيرها بالماء معقول أن الحكم بتطهير الحدث بالماء مما يستقل العقل بإدراكه ولا خفاء في فساد ذلك

قوله وفي هذا الفصل أي في فصل دفع العلل الطردية فروع أخر مذكورة في أصول فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى لم يذكرها المصنف رحمه اللّه تعالى مخافة التطويل أي الزيادة على المقصود لا لفائدة فإن مقصود الأصول ليس معرفة فروع الأحكام ويكفي في توضيح المطلوب إيراد مثال أو مثالين

قوله فصل في الانتقال أي في انتقال القائس في قياسه من كلام إلى كلام آخر والكلام

(٢/٢١٠)

المنتقل إليه إن كان غير علة أو حكم فهو حشو في القياس خارج عن المبحث وإلا فإما أن يكون في العلة فقط أو الحكم فقط أو العلة والحكم جميعا والانتقال في العلة فقط

إما أن يكون لإثبات علة القياس أو لإثبات حكمه إذ لو كان لإثبات حكم آخر لكان انتقالا في العلة والحكم جميعا والانتقال في الحكم فقط إن كان إلى حكم لا يحتاج إليه حكم القياس فهو حشو في القياس خارج عن المقصود وإن كان إلى حكم يحتاج إليه حكم القياس فلا بد من أن يكون إثباته بعلة القياس وإلا لكان انتقالا في العلة والحكم جميعا والانتقال في العلة والحكم جميعا يجب أن يكون في حكم يحتاج إليه حكم القياس وإلا لكان حشوا في القياس فصارت أقسام الانتقالات المعتبرة في المناظرة أربعة الأول الانتقال إلى علة أخرى لإثبات علة القياس الثاني الانتقال إلى علة لإثبات حكم القياس الثالث الانتقال إلى علة أخرى لإثبات حكم آخر يحتاج إليه حكم القياس الرابع الانتقال إلى حكم يحتاج إليه حكم القياس بأن يثبت بعلة القياس

قوله يعد انقطاعا في عرف النظار إشارة إلى أن ذلك من مصطلحات أهل المناظرة وآدابهم في البحث كي لا يطول الكلام بالانتقال من دليل إلى دليل وإلا فالانتقال من علة إلى علة لإثبات حكم شرعي بمنزلة انتقال من بينة إلى بينة أخرى لإثبات حقوق الناس وهو مقبول بالإجماع صيانة للحقوق وقد يقال إن الغرض من المناظرة إظهار الصواب فلو جوزنا الانتقال لطالت المناظرة بانتقال المعلل من دليل إلى دليل ولم يظهر الصواب

ولقائل أن يقول لما كان الغرض إظهار الصواب لزم جواز الانتقال لأن المقصود إظهار الحق بأي دليل كان وليس في وسع المعلل الانتقال من دليل إلى آخر لا إلى نهاية نعم لو انتقل في معرض الاستدلال إلى ما لا يناسب المطلوب دفعا لظهور إفحامه فهو يكون انقطاعا

قوله

وأما قصة الخليل جواب عن تمسك الفريق الأول وتقريره أن كلامنا إنما هو فيما إذا بان بطلان دليل المعلل وانتقل إلى دليل آخر

أما إذا صح دليله وكان قدح المعترض فاسدا إلا أنه

(٢/٢١١)

اشتمل على تلبيس ربما يشتبه على بعض السامعين فلا نزاع في جواز الانتقال كما في قصة الخليل صلوات اللّه عليه وسلامه فإن معارضة اللعين كانت باطلة لأن إطلاق المسجون وترك إزالة حياته ليس بإحياء لأن معناه إعطاء الحياة وجعل الجماد حيا إلا أن الخليل عليه السلام انتقل إلى دليل أوضح وحجة أبهر ليكون نورا على نور وإضاءة غب إضاءة ومع ذلك لم يجعل انتقاله خلوا عن تأكيد للأول وتوضيح وتبكيت للخصم وتفضيح كأنه قال المراد بالإحياء إعادة الروح إلى البدن فالشمس بمنزلة روح العالم لإضاءته بها وإظلامه بغروبها فإن كنت تقدر على إحياء الموتى فأعد روح العالم إليه بأن تأتي الشمس من جانب المغرب

قوله فصل عقب مباحث الأدلة الصحيحة بالأدلة الفاسدة التي يحتج بها البعض في إثبات الأحكام ليتبين فسادها ليظهر انحصار الأدلة الصحيحة في الأربعة وهذا غير التمسكات الفاسدة لأنها تمسك بالكتاب والسنة لكن بطريق فاسدة غير صالحة للتمسك فمن الحجج الفاسدة

(٢/٢١٢)

الاستصحاب وهو الحكم ببقاء أمر كان في الزمان الأول ولم يظن عدمه وهو حجة عند الشافعي رحمه اللّه تعالى في كل شيء أي كل أمر نفيا كان أو إثباتا ثبت وجوده أي تحققه بدليل شرعي ثم وقع الشك في بقائه أي لم يقع ظن بعدمه وعندنا حجة للدفع دون الإثبات

فإن قيل إن قام دليل على كونه حجة لزم شمول الوجود أعني كونه حجة للإثبات والدفع وإلا لزم شمول العدم أجيب بأن معنى الدفع أن لا يثبت حكم وعدم الحكم مستند إلى عدم دليله فالأصل في العدم الاستمرار حتى يظهر دليل الوجود وذكر بعض الشافعية رحمهم اللّه تعالى أن ما يحقق وجوده أو عدمه في زمان ولم يظن معارض يزيله فإن لزوم ظن بقائه أمر ضروري ولهذا يراسل العقلاء أهاليهم وبلادهم ربما كانوا يشافقونهم ويرسلون الودائع والهدايا ويعاملون بما يقتضي زمانا من التجارات والقروض والديون والآخرون استبعدوا دعوى الضرورة في محل الخلاف فتمسكوا بوجهين أحدهما أن الاستصحاب لو لم يكن حجة لما وقع الجزم بل الظن ببقاء الشرائع لاحتمال طريان الناسخ واللازم

(٢/٢١٣)

باطل للقطع ببقاء شرع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى زمن نبينا صلى اللّه عليه وسلم وبقاء شرعه أبدا

وثانيهما الإجماع على اعتبار الاستصحاب في كثير من الفروع مثل بقاء الوضوء والحدث والملكية والزوجية فيما إذا ثبت ذلك ووقع الشك في طريان الضد وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم أنه لولا الاستصحاب لما حصل الجزم ببقاء الشرائع بل يجوز أن يحصل الجزم ببقائها والقطع بعدم نسخها بدليل آخر وهو في شريعة عيسى عليه السلام تواتر نقلها وتواطؤ جميع قومه على العمل بها إلى زمن نبينا عليه الصلاة والسلام وفي شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام الأحاديث الدالة على أنه لا نسخ لشريعته

فإن قيل هذا إنما يصح فيما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام

وأما الدليل على بقاء الحكم وعدم انتساخه في حال حياته فهو الاستصحاب لا غير

قلنا قد سبق في بحث النسخ أن النص يدل على شرعية موجبة قطعا إلى زمان نزول الناسخ وعدم بيان النبي عليه الصلاة والسلام للناسخ دليل على عدم نزوله إذ لو نزل لبينه قطعا لوجوب التبليغ والتبيين عليه وعن الثاني بأن الفروع المذكورة ليست مبنية على الاستصحاب بل على أن الوضوء والبيع والنكاح ونحو ذلك يوجب أحكاما ممتدة إلى زمان ظهور المناقض كجواز الصلاة وحل الانتفاع والوطء وذلك بحسب وضع الشارع فبقاء هذه الأحكام مستندة إلى تحقق هذه الأفعال مع عدم ظهور المناقض لا إلى كون الأصل فيها هو البقاء ما لم يظهر المزيل والمنافي على ما هو قضية الاستصحاب وهذا ما يقال إن الاستصحاب حجة لإبقاء ما كان على ما كان لا لإثبات ما لم يكن ولا للإلزام على الغير واستدل على أن الاستصحاب لا يصلح حجة للإثبات بأن الدليل الموجب للحكم لا يدل على البقاء وهذا ظاهر ضرورة أن بقاء الشيء غير وجوده لأنه عبارة عن استمرار

(٢/٢١٤)

الوجود بعد الحدوث وربما يكون الشيء موجبا لحدوث الشيء دون استمراره واعترض بأنه إن أريد عدم الدلالة بطريق القطع فلا نزاع وإن أريد بطريق الظن فممنوع ودعوى الضرورة والظهور في محل النزاع غير مسموع خصوصا فيما يدعي الخصم بداهة نقيضه وأيضا لا ندعي أن موجب الحكم يدل على البقاء بل إن سبق الوجود مع عدم ظن المنافي المدافع يدل على البقاء بمعنى أنه يفيد ظن البقاء والظن واجب الاتباع وبهذا يظهر أن

قوله وكلامنا فيما لا دليل على البقاء غير مستقيم لأن كلام الخصم ليس في ذلك وكيف يحكم بالشيء بدون دليل وإنما الكلام في أن سبق الوجود مع عدم ظن المنافي والمدافع هل هو دليل على البقاء

قوله والصلح على الإنكار أي مع إنكار المدعى عليه لا يصح عند الشافعي رحمه اللّه تعالى لأن كون الأصل براءة الذمة حجة على المدعي بمنزلة اليمين

فإن قيل هذا حجة لدفع حق المدعي فينبغي أن يكون مسموعا بالاتفاق

قلنا بل لإلزام المدعي وإثبات براءة ذمة المدعى عليه

قوله ومنها التعليل بالنفي كما يقال لا يثبت النكاح بشهادة النساء مع الرجال لأنه ليس بمال كالحد وكما يقال الأخ لا يعتق على أخيه عند الدخول في ملكه لعدم البعضية كابن العم فإن عدم المالية لا يوجب الحكم بعدم الثبوت بشهادة النساء مع الرجال وكذا عدم البعضية لا يوجب الحكم بعدم العتق لجواز أن يتحقق كل منهما بعلة أخرى اللّهم إلا إذا ثبت بالإجماع أن العلة واحدة فقط فحينئذ يلزم من عدمها عدم الحكم كما يقال ولد المغصوب لا يضمن لأنه ليس بمغصوب إذ لا يصح أن يثبت الضمان بعلة أخرى للإجماع على أن علة الضمان هاهنا هو الغصب لا غير

واعلم أنه لا قائل بأن التعليل بالنفي إحدى الحجج الشرعية بمنزلة الاستصحاب حتى يعد في هذا الفصل بل هو تمسك بقياس فاسد بمنزلة الأقيسة الطردية وغيرها وبمنزلة التمسكات الفاسدة بالكتاب والسنة

وأما إذا ثبت بنص أو إجماع أن العلة واحدة فهو استدلال صحيح مرجعه إلى النص أو الإجماع كما إذا ثبت بين أمرين تلازم أو تناف فيستدل من وجود الملزوم على وجود اللازم أو من انتفاء اللازم على انتفاء الملزوم أو من ثبوت أحد المتنافيين على انتفاء الآخر وكذا الكلام في تعارض الأشباه فإنه ترجيح فاسد لأحد القياسين لا حجة برأسها

قوله باب المعارضة والترجيح لما كانت الأدلة الظنية قد تتعارض فلا يمكن إثبات الأحكام بها إلا بالترجيح ذلك بمعرفة جهاته عقب مباحث الأدلة بمباحث التعارض والترجيح تتميما للمقصود

(٢/٢١٥)

وتعارض الدليلين كونهما بحيث يقتضي أحدهما ثبوت أمر والآخر انتفاءه في محل واحد في زمان واحد بشرط تساويهما في القوة أو زيادة أحدهما بوصف هو تابع

واحترز باتحاد المحل عما يقتضي حل المنكوحة وحرمة أمها وباتحاد الزمان عن مثل حل وطء المنكوحة قبل الحيض وحرمته عند الحيض وبالقيد الأخير عما إذا كان أحدهما أقوى بالذات كالنص والقياس إذ لا تعارض بينهما

ولقائل أن يقول إن أريد اقتضاء أحدهما عدم ما يقتضيه الآخر بعينه حتى يكون الإيجاب واردا على ما ورد عليه النفي فلا حاجة إلى اشتراط اتحاد المحل والزمان لتغاير حل المنكوحة وحل أمها وكذا الحل قبل الحيض وعنده وإلا فلا بد من اشتراط أمور أخرى مثل اتحاد المكان والشرط ونحو ذلك مما لا بد منه في تحقق التناقض

وجوابه أن اشتراط اتحاد المحل والزمان زيادة توضيح وتنصيص على ما هو ملاك الأمر في باب التناقض فإنه كثيرا ما يندفع الترجيح باختلاف المحل والزمان ثم التعارض لا يقع بين القطعيين لامتناع وقوع المتنافيين ولا يتصور الترجيح لأنه فرع التفاوت في احتمال النقيض فلا يكون إلا بين الظنيين

وفي

قوله فإن تساويا قوة إشارة إلى جواز تحقق التعارض من غير ترجيح على ما هو الصحيح إذ لا مانع من ذلك والحكم حينئذ هو التوقف وجعل الدليلين بمنزلة العدم لا يلزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما أو التحكم كما لا يلزم شيء من ذلك عند عدم شيء من الدليلين

والترجيح في اللغة جعل الشيء راجحا أي فاضلا زائدا ويطلق مجازا على اعتقاد الرجحان

وفي الاصطلاح بيان الرجحان أي القوة التي لأحد المتعارضين على الآخر وهذا معنى قولهم هو اقتران الدليل الظني بأمر يقوى به على معارضه واشترط أن يكون تابعا حتى لو قوي أحدهما بما هو غير تابع له لا يكون رجحانا فلا يقال النص راجح على القياس لعدم التعارض وهذا مأخوذ من معناه اللغوي وهو إظهار زيادة أحد المثلين على الآخر وصفا لا أصلا من قولك رجحت الوزن إذا زدت جانب الموزون حتى مالت كفته فلا بد من قيام التماثل أولا ثم ثبوت الزيادة بما هو بمنزلة التابع والوصف بحيث لا تقوم به المماثلة ابتداء ولا يدخل تحت الوزن منفردا عن المزيد عليه قصدا في العادة

قال الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى لا تسمى زيادة درهم على العشرة في أحد الجانبين رجحانا لأن المماثلة تقوم به لا أصلا وتسمى زيادة الحبة ونحوها رجحانا لأن المماثلة لا تقوم بها عادة وهذا من

قوله عليه الصلاة والسلام للوزان حين اشترى سراويل بدرهمين زن وأرجح فإنا معاشر الأنبياء هكذا نزن فمعنى أرجح زد عليه فضلا قليلا يكون تابعا له بمنزلة الأوصاف كزيادة الجودة لا قدرا يقصد بالوزن عادة للزوم الربا في قضاء الديون إذ لا يجوز أن يكون هبة لبطلان هبة المشاع فظهر أن جعله بمنزلة الجودة أولى من جعله في حكم العدم

(٢/٢١٦)

على ما ذهب إليه المصنف رحمه اللّه تعالى لأنه أوفى بتحقيق معنى التبعية

قوله والعمل بالأقوى يعني إذا دل دليل على ثبوت شيء والآخر على انتفائه فإما أن يتساويا في القوة أو لا وعلى الثاني

إما أن تكون زيادة أحدهما بما هو بمنزلة التابع أو لا ففي الصورة الأولى معارضة ولا ترجيح

وفي الثانية معارضة مع ترجيح

وفي الثالثة لا معارضة حقيقة فلا ترجيح لابتنائه على التعارض المنبئ عن التماثل وحكم الصورتين الأخيرتين أن يعمل بالأقوى ويترك الأضعف لكونه في حكم العدم بالنسبة إلى الأقوى

وأما الصورة الأولى أعني تعارض الدليلين المتساويين في القوة سواء تساويا في العدد كالتعارض بين آية وآية أو لا كالتعارض بين آية وآيتين أو سنة وسنتين أو قياس وقياسين فإن ذلك أيضا من قبيل المتساويين إذ لا ترجيح ولا قوة بكثرة الأدلة حتى لا يترك الدليل الواحد بالدليلين فحكمها أنه إن كان التعارض بين قياسين يعمل بأيهما شاء وإن كان بين آيتين أو قراءتين أو سنتين قوليين أو فعليين مختلفين أو آية وسنة في قوتها كالمشهور والمتواتر فإن عم المتأخر منهما فناسخ إذ لو لم يصلح المتأخر ناسخا كخبر الواحد المتأخر عن الكتاب أو السنة المشهورة فهو ليس من قبيل تعارض التساوي بل المتقدم راجح وإلا فإن أمكن الجمع بينهما باعتبار مخلص من الحكم أو المحل أو الزمان فذاك وإلا يترك العمل بالدليلين وحينئذ إن أمكن المصير من الكتاب إلى السنة ومنها إلى القياس وقول الصحابي يصار إليه وإلا تقرر الحكم على ما كان عليه قبل ورود الدليلين وهذا معنى تقرير الأصول

وفي الكلام إشارة إلى أن النسخ لا يجري بين القياسين إذ لا يتصور فيهما التقدم والتأخر وأنه لا يقع التعارض بين الإجماع وبين دليل آخر قطعي من نص أو إجماع إذ لا ينعقد إجماع مخالف لقطعي وأنه لا ترتيب بين القياس وقول الصحابي بل هما في مرتبة واحدة يعمل بأيهما شاء بشرط التحري كما في القياسين وعند من أوجب تقليد الصحابي ولو لم يدرك بالقياس يجب المصير إليه أولا ثم إلى القياس على ما ذكره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى في شرح التقويم من أنه إن وقع التعارض بين سنتين فالميل إلى أقوال الصحابي وإن وقع بينهما فالميل إلى القياس ولا تعارض بين القياس وبين قول الصحابي

مثال المصير إلى السنة عند تعارض الآيتين

قوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن وقوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا تعارضا فصرنا إلى

قوله عليه

(٢/٢١٧)

الصلاة والسلام من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة

ومثال المصير إلى القياس عند تعارض السنتين ما روى النعمان بن بشير أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الكسوف كما تصلون ركعة وسجدتين وما روت عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام صلاها ركعتين بأربع ركعات وأربع سجدات تعارضا فصرنا إلى القياس على سائر الصلوات وهاهنا بحث وهو أنهم صرحوا بأنه لا عبرة بكثرة الأدلة بل بقوتها حتى لو كانت في جانب آية وفي جانب آيتان أو في جانب حديث وفي الآخر حديثان لا يترك الآية الواحدة أو الحديث الواحد بل يصار من الكتاب إلى السنة ومن السنة إلى القياس إذ لا ترجيح بالكثرة ويلزم من هذا ترجيح الآية والسنة على الآيتين فيما إذا كان الحديث موافقا للآية الواحدة وكذا ترجيح السنة والقياس على حديثين وهذا بعيد جدا لأنه إن كان باعتبار تقوي الآية بالسنة أو تقوي السنة بالقياس فإذا جاز تقوي الدليل بما هو دونه فلم لا يجوز تقويه بما هو مثله وإن كان باعتبار تساقط المتعارضين ووقوع العمل بالسنة أو القياس السالم عن المعارض فلم لا يجوز تساقط الآيتين ووقوع العمل بالآية السالمة عن المعارض وكذا في السنة

وغاية ما يمكن في هذا المقام أن يقال إن الأدنى يجوز أن يصير بمنزلة التابع للأقوى فيرجحه بخلاف المماثل أو يقال إن القياس يعتبر متأخرا عن السنة والسنة عن الكتاب فالمتعارضان يتساقطان ويقع العمل بالمتأخر وإلى هذا يشير كلام السرخسي رحمه اللّه تعالى

قوله لأنه إنما يتحقق التعارض إذا اتحد زمان ورودهما ليس المراد أن تعارض الدليلين

(٢/٢١٨)

وتناقض القضيتين موقوف على اتحاد زمان ورودهما والتكلم بهما على ما سبق إلى بعض الأوهام العامية من أن المراد باتحاد الزمان في التناقض زمان التكلم بالقضيتين وإنما المراد زمان نسبة القضيتين حتى لو قيل في زمان واحد زيد قائم الآن زيد ليس بقائم غدا لم يكن تناقضا ولو قيل زيد قائم وقت كذا ثم قيل بعد سنة إنه ليس بقائم في ذلك الوقت كان تناقضا بل المقصود أن الدليلين إنما يتعارضان بحيث يحتاج إلى مخلص إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر إذ لو علم لكان المتأخر ناسخا للمتقدم ولا شك أن الدليلين المتدافعين لا يصدران من الشارع إلا كذلك

قوله كما في سؤر الحمار قيل الشك في الطهارة لتعارض الآثار في ذلك على ما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما وتعارض الأخبار كما روي عن جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال نعم

وبما أفضلت السباع قال لا وروى أنس رضي اللّه تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس وهذا يوجب نجاسة السؤر لمخالطة اللعاب المتولد من اللحم النجس فإن أوثرت الطهارة قياسا على العرق في ظاهر الرواية أوثرت النجاسة قياسا على اللبن في أصح الروايتين وقيل الشك في الطهورية لاختلاف الأخبار في حرمة لحم الحمار وإباحته والاشتباه في اللحم يورث الاشتباه في السؤر لمخالطته اللعاب المتولد منه وهذا ضعيف لأن أدلة الإباحة لا تساوي أدلة الحرمة في القوة حتى أن حرمته مما يكاد يجمع عليه كيف ولو تعارضتا لكان دليل التحريم راجحا

(٢/٢١٩)

كما في الضبع حيث يحكم بنجاسة سؤره وقد يقال إنه لا خلاف في المعنى لأن الشك في الطهورية إنما نشأ من اختلاف الآثار في الطهارة والنجاسة فالرجوع إلى الأصل على التقديرين هو أن يحكم بطهارة الماء وعدم طهوريته لأنه كان طاهرا بيقين والمتوضئ محدث فلا تزول بالشك طهارة الماء ولا حدث المتوضئ وإنما لم يحكم ببقاء الطهورية لأنه يلزم منه الحكم بزوال الحدث بالشك إذ لا معنى للطهورية إلا هذا فيكون إهدارا لأحد الدليلين بالكلية لا تقريرا للأصول وإذا لم يكن بد من أدنى عدول عن الأصل ضرورة امتناع الحكم ببقاء الطهورية في الماء والحدث في المتوضئ أخذ بالأقل والتزم الحكم بسلب الطهورية إذ ليس فيه إهدار أحد الدليلين بالكلية بخلاف ما إذا حكم ببقاء الطهورية وإلى ما ذكرنا من تقارب الشك في الطهارة والنجاسة أو الطهورية وعدمها يشير كلام المصنف رحمه اللّه تعالى حيث صرح أولا بأن الاختلاف في الطهارة والنجاسة وأشار ثانيا إلى أن الشك في الطهورية حيث قال ولا يزيل الحدث لوقوع الشك في زوال الحدث فظهر أن ليس معنى الشك أن الحكم غير معلوم ولا مظنون بل معناه تعارض الأدلة ووجوب الوضوء بسؤر الحمار حيث لا ماء سواه ثم ضم التيمم إليه وهذا حكم معلول وكذا الحكم بطهارته وذكر شيخ الإسلام في المبسوط أن الاختلاف في الطهارة والنجاسة لا يورث الاشتباه كما إن أخبر عدل بطهارته وآخر بنجاسته فإنه طاهر ولا إشكال في حرمة لحمه ترجيحا لجانب الحرمة إلا أنه لم ينجس الماء لما فيه من الضرورة والبلوى إذ الحمار يربط في الدور والأفنية فيشرب من الأواني إلا أن الهرة تدخل المضايق فتكون الضرورة فيها أشد فالحمار لم يبلغ في الضرورة حد الهرة حتى يحكم بطهارة سؤره ولا في عدم الضرورة حد الكلب حتى يحكم بنجاسة سؤره فبقي أمره مشكلا وهذا أحوط من الحكم بالنجاسة لأنه حينئذ لا يضم إلى التيمم فيلزم التيمم مع وجود الماء الطهور احتمالا

(٢/٢٢٠)

قوله وهو

إما بين آيتين أو قراءتين يعني في آية واحدة كقراءتي الجر والنصب في

قوله تعالى وامسحوا برءوسكم وأرجلكم فإن الأولى تقتضي مسح الرجل والثانية غسلها على ما هو المذهب

فإن قيل الجر محمول على الجواز وإن كان عطفا على المغسول توفيقا بين القراءتين كما في قولهم جحر ضب خرب وماء شن بارد وقول زهير لعب الرياح بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر فإن القطر معطوف على سوافي والجر بالجوار وقول الفرزدق فهل أنت إن ماتت أتانك راكب إلى آل بسطام بن قيس فخاطب بخفض خاطب على الجوار مع عطفه على راكب عورض بأن النصب محمول على العطف على المحل جمعا بين القراءتين كما

قوله يذهبن في نجد وغورا غائرا على ما هو اختيار المحققين من النحاة وهو إعراب شائع مستفيض مع ما فيه من اعتبار العطف على الأقرب وعدم وقوع الفصل بالأجنبي

والوجه أنه في القراءتين معطوف على رءوسكم إلا أن المراد بالمسح في الرجل هو الغسل بقرينة

قوله إلى الكعبين إذ المسح يضرب له غاية في الشرع فيكون من قبيل المشاكلة كما في

قوله

قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

وفائدته التحذير عن الإسراف المنهي عنه إذ الأرجل مظنة الإسراف بصب الماء عليها فعطفت على الممسوح لا لتمسح لكن لينبه على وجوب الاقتصار كأنه قيل واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا شبيها بالمسح فالمسح المعبر به عن الغسل هو المقدر الذي يدل عليه الواو فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد وإنما حمل على ذلك لما اشتهر من أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه كانوا يغسلون أرجلهم في الوضوء مع أن في الغسل مسحا وزيادة إذ لا إسالة بدون الإصابة وأن المقصود من الوضوء هو التطهير وذلك في الغسل ومسح الرأس خلف عنه تخفيفا ففي إيثار الغسل جمع بين الأدلة وموافقة للجماعة وتحصيل للطهارة وخروج عن العهدة بيقين

(٢/٢٢١)

قوله والمخلص يعني قد اعتبر في التعارض اتحاد الحكم والمحل والزمان فإذا تساوى المتعارضان ولم يمكن تقوية أحدهما يطلب المخلص من قبل الحكم أو المحل أو الزمان بأن يدفع اتحاده

أما الأول أي المخلص من قبل الحكم فعلى وجهين أحدهما التوزيع بأن يجعل بعض أفراد الحكم ثابتا بأحد الدليلين وبعضها منفيا بالآخر كقسمة المدعى بين المدعيين بحجتيهما

وثانيهما التغاير بأن يبين مغايرة ما ثبت بأحد الدليلين لما انتفى بالآخر كما في

قوله تعالى لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وفي موضع آخر ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فالأولى توجب المؤاخذة على اليمين الغموس لأنه من كسب القلب أي القصد والثانية توجب عدم المؤاخذة عليها لأنها من اللغو وهو ما لا يكون له حكم وفائدة إذ فائدة اليمين المشروعة تحقيق البر والصدق وذلك لا يتصور في الغموس والمخلص أن يقال المؤاخذة التي توجبها الآية الأولى على الغموس هي المؤاخذة في الآخرة والتي تنفيها الثانية هي المؤاخذة في الدنيا أي لا يؤاخذكم اللّه بالكفارة في اللغو ويؤاخذكم

(٢/٢٢٢)

بها في المعقودة ثم فسر الكفارة بقوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين الآية ولما تغايرت المؤاخذتان اندفع التعارض وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى يحمل العقد على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت عليه فيشمل الغموس ويصير معنى الآيتين واحدا وهو نفي الكفارة عن اللغو وإثباتها على المعقود والغموس وذلك لأن كسب القلب مفسر والعقد مجمل فيحمل على المفسر ويندفع التعارض ورد ذلك بوجوه الأول أن فيه عدولا عن الحقيقة من غير ضرورة لأن العقد ربط الشيء بالشيء وذلك حقيقة في العقد المصطلح بين الفقهاء لما فيه من ربط أحد الحكمين بالآخر بخلاف عزم القلب فإنه سبب للعقد فسمي به مجازا

وفيه نظر لأن العقد بمعنى الربط إنما يكون حقيقة في الأعيان دون المعاني فهو في الآية مجاز لا محالة على أن عقد القلب واعتقاده بمعنى ربطه بالشيء وجعله ثابتا عليه أشهر في اللغة من العقد المصطلح في الفقه فإنه من مخترعات الفقهاء

الثاني أن اقتران الكسب بالمؤاخذة يدل على أن المراد بها المؤاخذة الأخروية إذ لا عبرة بالقصد وعدمه في المؤاخذة الدنيوية ورد بمنع ذلك في حقوق اللّه تعالى لا سيما في الحقوق الدائرة بين العبادة والعقوبة

الثالث أن الآية على هذا التقرير تكرار للآية السابقة ولا شك أن الإفادة خير من الإعادة ورد بأن سوق الثانية لبيان الكفارة فلا تكرار

(٢/٢٢٣)

قوله وأقول لا تعارض هنا وذكر المصنف رحمه اللّه تعالى في دفع التعارض أن المراد باللغو في الآيتين هو الخالي عن القصد وبالمؤاخذة المؤاخذة في الآخرة والغموس داخل في المكسوبة لا في المعقودة ولا في اللغو فالآية الأولى أوجبت المؤاخذة على الغموس والثانية لم يتعرض لها لا نفيا ولا إثباتا فلا تعارض لها أصلا وهذا قريب مما ذكره الشيخ أبو منصور رحمه اللّه حيث قال نفى المؤاخذة عن اللغو في الآية الأولى وأثبتها في الغموس والمراد منها الإثم ونفى المؤاخذة في الآية الثانية عن اللغو وأثبتها في المعقودة وفسر المؤاخذة هاهنا بالكفارة فدل على أن المؤاخذة في المعقودة بالكفارة وفي الغموس بالإثم وفي اللغو لا مؤاخذة أصلا إلا أن المصنف رحمه اللّه تعالى حمل المؤاخذة الثانية أيضا على الإثم بناء على أن دار المؤاخذة إنما هي دار الآخرة

فإن قيل

قوله فكفارته تفسير للمؤاخذة والمؤاخذة التي هي الكفارة إنما هي في الدنيا والمختص بالآخرة إنما هي المؤاخذة التي هي العقاب وجزاء الإثم أجيب بالمنع بل هو تنبيه على طريق دفع المؤاخذة في الآخرة أي إذا حصل الإثم باليمين المنعقدة فوجه دفعه وستره إطعام عشرة مساكين إلى آخره

واعلم أن اللائق بنظم الكلام عند قولنا لا يؤاخذكم اللّه بكذا ولكن يؤاخذكم بكذا أن يكون الثاني مقابلا للأول من غير واسطة بينهما فلهذا ذهب الجمهور إلى إدراك الغموس في اللغو أو فيما عقدتم ولا وجه لجعل الكلام في الآية الثانية خلوا عن التعرض للغموس

فإن قيل قد علم حكمها في الآية السابقة

قلنا وكذلك اللغو والتحقيق أن إطلاق المؤاخذة على الدنيوية والأخروية ليس بحسب الاشتراك اللفظي إذ لا

(٢/٢٢٤)

اختلاف في المفهوم بل في الأفراد باعتبار التعلق فعند القائلين بعموم الفعل المنفي يكون المعنى لا يؤاخذكم شيئا من المؤاخذة عقوبة كانت أو كفارة في اللغو ولكن يؤاخذكم بهما أو بأحدهما في المكسوبة والمعقودة عند الحنث

قوله فبالتخفيف أي قراءة يطهرون بتخفيف التاء والهاء توجب حل القربان بعد حصول الطهر سواء حصل الاغتسال أو لم يحصل وظاهر هذه العبارة مشعر بأن الحل مستفاد من

قوله تعالى حتى يطهرن قولا بمفهوم الغاية فإنه متفق عليه ويحتمل أن يريد أن الحل كان ثابتا والنهي قد انقضى بالطهر فبقي الحل الثابت لعدم تناول النهي إياه فعبر عن عدم رفع الآية الحل بإيجابها إياه تجوزا

فإن قيل لو كان المراد بقراءة التخفيف حقيقة الطهر لكان المناسب فإذا طهرن فأتوهن فاتفاق القراء على يطهرن أي اغتسلن يدل على أن المراد بقوله حتى يطهرن يغتسلن

أما على قراءة التشديد فحقيقة

وأما على التخفيف فمجاز بإطلاق الملزوم على اللازم ضرورة لزوم الغسل عند الانقطاع فيكون حرمة القربان عند الدم معلومة من

قوله تعالى فاعتزلوا

(٢/٢٢٥)

النساء في المحيض ويكون

قوله تعالى ولا تقربوهن

الآية لبيان انتهاء الحرمة وعود الحل به أجيب بأن تفعل قد يجيء بمعنى فعل كتكبر وتعظم في صفات اللّه تعالى فيحمل عليه في قراءة التخفيف إذ في الانقطاع على العشرة لا يجوز تأخير حق الزوج إلى الاغتسال وقيل معناه توضأن أي صرن أهلا للصلاة

وفي شرح التأويلات أن الآية محمولة على ما دون العشرة صرفا للخطاب إلى ما هو الغالب وانتهاء الحرمة فيما دون العشرة إنما يكون الاغتسال فقوله تعالى حتى يطهرن بالتخفيف أيضا معناه يغتسلن مجازا ولا يخفى أن في الكل عدولا عن الظاهر وما ذكره الشافعي رحمه اللّه تعالى ليس أبعد من ذلك

قوله لأن الإباحة الأصلية ليست حكما شرعيا

فإن قيل هي حكم شرعي ثبت بقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا

قلنا إنما يصح ذلك لو ثبت تقدم هذه الآية على النصين المفروضين أعني المحرم والمبيح وإلى هذا أشار بقوله فإنه أي المحرم إنما يكون ناسخا للإباحة الأصلية إن قد ورد أي إن كان قد ورد في الزمان الماضي أي الزمان المتقدم على زمان ورود النص المحرم والمبيح دليل شرعي دال على إباحة جميع الأشياء لكن ورود هذا الدليل متقدما على ورود النصين المبيح والمحرم ليس بمسلم على الإطلاق وفي جميع الصور بل قد وقد

وبهذا تبين أن تقرير الدليل بوجه لا يرد عليه النظر على ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى ليس بتمام لأن عدم العقاب على الانتفاء إنما يصير حكما شرعيا بعد ورود النصوص الدالة على إباحة جميع الأشياء فتغييره بالنص المحرم لا يكون نسخا بالمعنى المصطلح إلا إذا تأخر المحرم عن دليل إباحة الأشياء وهو ليس بلازم وبالجملة المعتبر في النسخ كون الحكم شرعيا عند ورود الناسخ ولا يثبت ذلك إلا إذا تقدم دليل إباحة الأشياء على دليل تحريم ذلك الشيء المخصوص

قوله عنينا بتكرر النسخ هذا المعنى أي تكرر التغيير سواء كان تغيير حكم شرعي أو لا فإن تكرار التغيير زيادة على نفس التغيير فلا يثبت بالشك

قوله واعلم أن الشيء الذي لا يوجد له محرم ولا مبيح إشارة إلى مسألة حكم الأفعال قبل ورود الشرع

فإن قلت ما لا يوجد له محرم ولا مبيح قد يكون واجبا أو مندوبا أو مكروها

قلت المراد بالمبيح ما يقابل المحرم فإن الإباحة قد تطلق على عدم المنع عن الفعل سواء كان بطريق الوجوب أو الندب أو الكراهة فكأنه قال الشيء الذي لم يوجد له دليل المنع ولا دليل عدمه أي لم يعلم تعلق حكم شرعي به بناء على عدم ورود الشرع لأن هذه المسألة إنما هي لبيان حكم الأفعال قبل البعثة فإن كان اضطراريا كالتنفس ونحوه فهو ليس بممنوع إلا عند من جوز تكليف

(٢/٢٢٦)

المحال وإن كان اختياريا كأكل الفواكه فحكمه الإباحة عند بعض المعتزلة وبعض الفقهاء من الحنفية والشافعية رحمهم اللّه والحرمة عند المعتزلة البغدادية وبعض الشيعة والتوقف عند الأشعري والصيرفي

ومحل الخلاف هي الأفعال الاختيارية التي لا يقضي العقل فيها بحسن ولا قبح

وأما التي يقضي فيها العقل فهي عندهم تنقسم إلى الواجب والمندوب والمحظور والمكروه والمباح لأنه لو اشتمل أحد طرفيه على مفسدة فأما فعله فحرام أو تركه فواجب وإن لم يشتمل عليها فإن اشتمل على مصلحة فأما فعله فمندوب أو تركه فمكروه وإن لم يشتمل على المصلحة أيضا فمباح وهذه المسألة تورد في أصول الشافعية والأشاعرة على التنزل إلى مذهب المعتزلة في أن للعقل حكما بالحسن والقبح وإلا فالفعل قبل البعثة لا يوصف عندهم بشيء من الأحكام إذا تقرر هذا فيقال على المبيح إن أردت بالإباحة أن لا حرج في الفعل والترك فلا نزاع وإن أردت خطاب الشارع في الأزل بذلك فليس بمعلوم بل ليس بمستقيم لأن الكلام فيما لا حكم فيه للعقل بحسن ولا قبح في حكم الشارع

فإن استدل بأن اللّه تعالى خلق العبد وما ينتفع فالحكمة تقتضي إباحته له تحصيلا لمقصود خلقهما وإلا لكان عبثا خاليا عن الحكمة وهو نقض فجوابه المعارضة بأنه ملك الغير فيحرم التصرف فيه والحل بأنه ربما خلقهما ليشتهيه فتصير عنه فيثاب عليه ولا يلزم من عدم الإباحة عبث ويقال على المحرم إن أردت حكم الشارع بالحرمة في الأزل فغير معلوم إذ التقدير أنه لا محرم ولا مبيح بل غير مستقيم لأن المفروض أنه لم يدرك بالعقل حسنه ولا قبحه في حكم الشارع وإن أردت العقاب على الانتفاع فباطل لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فإنه يدل على نفي التعذيب على ما صدر قبل البعثة

فإن قلت الحكم بالحظر والعقاب على الانتفاع متلازمان فكيف جزم ببطلان الثاني دون الأول

قلت الحكم بالحظر لا يستلزم العقاب لجواز العفو وقد يقال على المحرم إن عدم الحرمة معلوم قطعا فإن من ملك بحرا لا ينزف وهو في غاية الجود وأخذ مملوكه قطرة من ذلك البحر لا يدرك بالعقل تحريمها فإن استدل بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فتحرم أجيب بأن حرمة التصرف في ملك الغير بغير إذنه عقلا ممنوعة فإنها تبتنى على السمع ولو سلم فذلك فيمن يلحقه ضرر ما بالتصرف في ملكه والمالك فيما نحن فيه منزه عن الضرر

فإن قيل إذا كان الخلاف فيما لم يدرك بالعقل حسنه ولا قبحه على ما ذكرتم فكيف يصح القول بحرمته أو إباحته

قلت المراد بالإباحة جواز الانتفاع خاليا عن أمارة المفسدة وبالحرمة عدمه وهذا لا ينافي عدم إدراك العقل فيه بخصوصه صفة محسنة أو مقبحة

وأما التوقف فقد فسر تارة بعدم الحكم وتارة بعدم العلم بالحكم

أما بمعنى نفي التصديق بثبوت الحكم أي لا يدرك أن هناك حكما أم لا

وأما بمعنى نفي تصور الحكم على التعيين مع التصديق بثبوت حكم في الجملة أي لا يدرك أن الحكم حظر أو إباحة وهذا هو المختار عند المصنف رحمه اللّه تعالى

أما الأول وهو التوقف بمعنى عدم الحكم فباطل من وجوه أحدها أنه جزم بعدم الحكم لا توقف والقول بأنه يسمى توقفا باعتبار العمل بمعنى أنه يقتضي عدم العمل بالفعل تكلف

وثانيها أن الحكم قديم عند الأشعري فلا يتصور عدمه والتكليف بالمحال جائز عنده فلا يتوقف تعلق

(٢/٢٢٧)

الحكم بالفعل على البعثة إذ لا موجب للتوقف سوى التحرز على تكليف المحال ورد بأن تجويز تكليف المحال يستلزم القول بوقوعه ولو سلم فلا يلزم منه ثبوت تعلق الحكم بالفعل قبل البعثة لجواز أن يمتنع بسبب آخر وتجويز التكليف قبل البعثة ليس مذهبا للأشعري بل هو ينافي مذهبه في الحسن والقبح فلا يصلح إلزاما له

وثالثها أن الفعل

إما ممنوع في حكم اللّه تعالى فيحرم أو غير ممنوع فيباح وأجاب الإمام بأنا لا نسلم أن عدم المنع في حكم اللّه تعالى يستلزم الإباحة فإن المباح ما أذن الشارع في فعله وتركه من غير رجحان وهذا معنى إعلام الشارع نصا أو دلالة بأنه لا حرج على فاعله في الفعل والترك وعدم المنع أعم من ذلك كما في أفعال البهائم

واعتراض المصنف رحمه اللّه تعالى عليه ظاهر وتحقيقه أن هذا الاختلاف إنما هو على تقدير التنزل إلى أن للعقل حكما في الأفعال قبل البعثة فحينئذ لا يجوز أن يراد بالإباحة إذن الشارع في الفعل والترك بل معناها جواز الانتفاع خاليا عن أمارة المفسدة

وأما عدم الحكم الشرعي قبل البعثة فمما لا يتصور فيه خلاف

ومنشأ هذا الاعتراض مع أنه كلام على السند عدم تحرير محل النزاع وتحقيق مراد الإمام فإن محل النزاع هو أن الفعل الذي لم يرد فيه حكم من الشارع لعدم البعثة ولم يدرك فيه العقل جهة حسن ولا قبح كأكل الفواكه مثلا فهل للعقل أنه يحكم حكما عاما بأنه في حكم الشارع مأذون فيه أو ممنوع عنه ومراد الإمام أن ما لم يمنع عنه أي ما لم يدرك العقل أنه ممنوع عنه في حكم الشارع لا يلزم أن يكون مباحا أي مأذونا فيه من الشارع إعلاما بأن يرد دليل منه على أنه لا حرج في فعله وتركه أو دلالة بأن يرشد الشارع العبد بعقله إلى أن يدرك ذلك فلا يكون معنى كلامه أن الشيء الذي لم يعلم الشارع بالحرج في فعله وتركه وعدم الحرجلم يعلم الشارع بعدم الحرج فيه ليكون حشوا على ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى بل يكون معناه أن ذلك الفعل لا يلزم أن يدل الشارع فاعله على أنه لا حرج عليه في الفعل والترك بأن يدرك ذلك بعقله وهذا كلام لا غبار عليه

وأما الثاني وهو التوقف بمعنى عدم العلم بأن في ذلك الفعل حكما للّه تعالى أم لا فباطل لأنا نعلم قطعا أن للّه تعالى في كل فعل حكما

إما بالمنع عنه أو بعدم المنع وللخصم أن يمنع ذلك ولا تناقض بين الحكم بالمنع والحكم بعدم المنع حتى يمتنع ارتفاعهما وإنما التناقض بين الحكم وعدم الحكم وهو لا يوجب الإباحة

وأما الثالث وهو التوقف بمعنى عدم العلم بأن حكمه الإباحة أو الحظر فحق إذ التقدير أنه لا دليل من الشارع ولا مجال من العقل وهذا يساوي القول بالإباحة من جهة اتفاقهما على أنه لا عقاب على الفعل ولا على الترك فلا خلاف بينهما في المعنى

وفيه نظر لأن مذهب المتوقف هو أنه لا علم بالعقاب وعدمه

وعدم القول بالعقاب أعم من القول بعدم العقاب فكيف يتساويان فظهر أن

قوله ومع ذلك فلا عقاب ليس بمستقيم لأن القول بعدم العقاب قول بالإباحة لأنه معناها على ما فسرها فلا توقف

قوله ولقوله عليه الصلاة والسلام دليل آخر على جعل المحرم ناسخا للمبيح وهو عطف على

قوله لأن قبل البعثة كان الأصل الإباحة

(٢/٢٢٨)

قوله فالمثبت أولى إذ لو جعل الباقي أولى يلزم تكرر النسخ بتغيير المثبت للنفي الأصلي ثم النافي للإثبات وأيضا المثبت يشتمل على زيادة علم كما في تعارض الجرح والتعديل بجعل الجرح أولى ولأن المثبت مؤسس والنافي مؤكد والتأسيس خير من التوكيد وعن عيسى بن أبان أن النافي كالمثبت وإنما يطلب الترجيح من وجه آخر وقد دل بعض المسائل على تقديم المثبت وبعضها على تقديم النافي فلذا احتاج المصنف رحمه اللّه تعالى إلى بيان ضابط في تساويهما وترجيح أحدهما على الآخر وهو أن النفي إن كان مبنيا على العدم الأصلي فالمثبت مقدم وإلا فإن تحقق أنه بالدليل تساويا وإن احتمل الأمرين ينظر ليتبين الأمر وعلى هذا الأصل الذي ذكره في باب الرواية تتفرع الشهادة على النفي بأن يتساوى النافي والمثبت إن علم أن النفي بدليل ويقدم المثبت إن علم أن النفي بحسب الأصل وإلا ينظر فيه ليتبين

قوله واتفقوا على أنه لم يكن في الحل الأصلي كأنه يريد اتفاق الفريقين وإلا فقد روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة قبل أن يحرم

كذا في معرفة الصحابة للمستغفري

(٢/٢٢٩)

قوله

وأما في القياس فلا يحمل على النسخ إذ لا مدخل للرأي في بيان انتهاء مدة الحكم

قوله بعد شهادة قلبه أي قلب طالب الحكم ومن هو بصدد معرفته وإنما اشترط ذلك لأن الحق واحد فالمتعارضان لا يبغيان حجة في حق إصابة الحق ولقلب المؤمن نور يدرك به ما هو باطن ولا دليل عليه فيرجع إليه

قوله فكل واحد يعني لما كان المجتهد في كل واحد من الاجتهادين مصيبا بالنظر إلى الدليل ضرورة أن القياس دليل صحيح وضعه الشارع للعمل به غير مصيب بالنظر إلى المدلول ضرورة أن الحق واحد لا غير كان كل واحد من القياسين دليلا في حق العمل وإن لم يكن دليلا في حق العلم وهذا بخلاف النصين فإن الحق منهما واحد في العمل والعلم جميعا لجواز النسخ

قوله فصل ما يقع به الترجيح كثير يعرف بعضها مما سلف لا سيما وجوه الترجيح في النص والإجماع

أما ترجيح النصوص فيقع بالمتن والسند والحكم والأمر الخارج والمراد بالمتن ما يتضمنه الكتاب والسنة والإجماع من الأمر والنهي والعام والخاص ونحو ذلك

وبالسند الإخبار عن طريق المتن من تواتر ومشهور وآحاد مقبول أو مردود فالأول كترجيح النص على الظاهر والمفسر على المجمل ونحو ذلك

والثاني يقع في الراوي كالترجيح بفقه الراوي وفي الرواية كترجيح المشهور على الآحاد وفي المروي كترجيح المسموع من النبي عليه الصلاة والسلام على ما يحتمل السماع كما إذا قال أحدهما سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال الآخر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي المروي عنه كترجيح ما لم يثبت إنكار لروايته على ما ثبت

والثالث كترجيح الحظر على الإباحة

والرابع كترجيح ما يوافق القياس على ما لا يوافقه ولكل من ذلك تفاصيل مذكورة في موضعها

وأما القياس فيقع فيه الترجيح بحسب أصله أو فرعه أو علته أو أمر خارج عنه وتفصيل ذلك يطلب من أصول ابن الحاجب

(٢/٢٣٠)

وقد أشار المصنف رحمه اللّه تعالى هاهنا إلى بعض ما يقع به الترجيح بحسب العلة كترجيح قياس عرف علية الوصف فيه بالنص الصريح على ما عرف عليته بالإيماء ثم في الإيماء يرجح ما يفيد ظنا أغلب وأقرب إلى القطع على غيره وما عرف بالإيماء مطلقا يرجح على ما عرف بالمناسبة لما فيها من الاختلاف ولأن الشارع أولى بتعليل الأحكام ثم لا يخفى أن الراجح تأثير العين ثم النوع ثم الجنس القريب ثم الأقرب فالأقرب وأن اعتبار شأن الحكم لكونه المقصود أولى وأهم

(٢/٢٣١)

من اعتبار شأن العلة ويرجح تأثير جنس العلة في نوع الحكم على تأثير نوع العلة في جنس الحكم وعند التركيب ما يتركب من راجحين يقدم على المركب من مرجوحين أو مساو ومرجوح كتقديم المركب من تأثير النوع في النوع والجنس القريب في النوع على المركب من تأثير النوع في الجنس القريب والجنس القريب في النوع

وفي المركبين اللذين يشتمل كل منهما على راجح ومرجوح يقدم ما يكون الراجح منه في جانب الحكم على ما يكون في جانب العلة وهذا معنى

قوله وأقسام المركبات بعضها أولى من بعض وكل ذلك مما يظهر بالتأمل في المباحث السابقة إلا أنه قد جرت عادة القوم بذكر أمور أربعة مما يقع به في ترجيح القياس وهي قوة الأثر وقوة الثبات على الحكم وكثرة الأصول والعكس

قوله كما مر في القياس والاستحسان من أن الاستحسان لقوة أثره يقدم على القياس وإن كان ظاهر التأثير إذ العبرة للتأثير وقوته دون الوضوح أو الخفاء لأن القياس إنما صار حجة بالتأثير فالتفاوت فيه يوجب التفاوت في القياس وهذا بخلاف الشهادة فإنها لم تصر حجة بالعدالة لتختلف باختلافها بل بالولاية الثابتة بالحرية وهي مما لا يتفاوت وإنما اشترط العدالة لظهور جانب

(٢/٢٣٢)

الصدق وقد يقال إن العدالة مما لا يختلف بالشدة والضعف لأنه إن انزجر عن جميع ما يعتقد فيه الحرمة فعدل وإلا فلا

قوله وكما في مسألة طول الحرة أي الغنى والقدرة على تزوج الحرة والأصل الطول على الحرة أي الفضل فاتسع فيه بحذف حرف الصلة ثم أضيف إضافة المصدر إلى المفعول فالحر الذي له طول الحرة لا يجوز له تزوج الأمة عند الشافعي رحمه اللّه تعالى قياسا على الذي تحته حرة بجامع إرقاق الماء مع الاستغناء والإرقاق بمنزلة الإهلاك بخلاف ما إذا لم يكن له طول الحرة وخشي العنت أي الوقوع في الزنا فإنه لا غنية عن الإرقاق فيجوز وبخلاف ما إذا قدر العبد على نكاح الحرة فتزوج أمة فإنه ليس بإرقاق للماء بل امتناع عن تحصيل صفة الحرية وهو ليس بحرام وبخلاف ما إذا تزوج حرة على أمة فإنه يبقى نكاح الأمة لأنه ليس بإرقاق ابتداء بل بقاء عليه وهو لا يحرم كالرق يبقى مع الإسلام إذ ليس للبقاء هاهنا حكم الابتداء وقلنا نكاح الأمة مع طول الحرة نكاح يملكه العبد فيملكه الحر كسائر الأنكحة التي يملكها العبد وهذا أقوى تأثيرا من الإرقاق مع الاستغناء لأن الحرية من صفات الكمال فينبغي أن يكون أثرها في الإطلاق والاتساع في باب النكاح الذي هو من النعم والرق من أوصاف النقصان فينبغي أن يكون أثره في المنع والتضييق فاتساع الحل الذي هو من باب الكرامة للعبد وتضييقه على الحر بأن لا يجوز له نكاح الأمة مع طول الحرة قلب المشروع وعكس المعقول لأن ما ثبت بطريق الكرامة يزداد بزيادة الشرف ولهذا جاز لمن كان أفضل البشر ما فوق الأربع وربما يجاب بأن هذا التضييق من باب الكرامة حيث منع الشريف من تزوج الخسيس مع ما فيه من مظنة الإرقاق وذلك كما جاز نكاح المجوسية للكافر دون المسلم

(٢/٢٣٣)

قوله وتضييع الماء إشارة إلى وجهي ضعف في قياس الشافعي رحمه اللّه تعالى الأول أن الإرقاق الذي هو إهلاك حكما دون تضييع الماء بالعزل لأنه إتلاف حقيقة إذ في الإرقاق إنما تزول صفة الحرية مع أنه أمر ربما يرجى زواله بالعتق وفي العزل يفوت أصل الولد فإذا جاز هذا فالإرقاق أولى

فإن قيل هذا امتناع عن اكتساب سبب الوجود وفي الإرقاق مباشرة السبب على وجه يفضي إلى الإهلاك

قلنا في التزوج أيضا امتناع عن إيجاب صفة الحرية إذ الماء لا يوصف بالرق والحرية بل هو قابل لأن يوجد منه الرقيق والحر فتزوج الأمة امتناع عن مباشرة سبب وجود الحرية فحين يخلق يخلق رقيقا إلا أنه ينتقل من الحرية إلى الرقية ومعنى العقوبة والإهلاك إنما هو في إرقاق الحر

الثاني إن وصف إرقاق الماء مع الاستغناء غير مطرد لوجوده فيمن له سرية أو أم ولد مع جواز نكاح الأمة له

وفيه نظر لأن الحر لو كان قادرا على أن يشتري أمة لا يحل له نكاح الأمة عند الشافعي رحمه اللّه تعالى فكيف إذا كان له سرية أو أم ولد

قوله وكما في نكاح الأمة الكتابية فإنه لا يجوز للمسلم عند الشافعي رحمه اللّه تعالى قياسا على نكاح المجوسية وعلى ما إذا كان تحته حرة

أما الأول فلأن للرق أثرا في تحريم النكاح في الجملة كما في نكاح الأمة على الحرة وكذا للكفر كما في نكاح الحربية للمسلم فإذا اجتمع الرق والكفر يقوى المنع ككفر المجوسية فلم يحل للمسلم

وأما الثاني فلما مر من إرقاق الماء مع الاستغناء إذ الضرورة قد ارتفعت بجواز نكاح الأمة المسلمة التي هي أطهر من الكافرة وعندنا يجوز قياسا على العبد المسلم وعلى الحرة الكتابية وهذان القياسان قويان تأثيرا

أما الأول فلما سبق

وأما الثاني فلأن أثر الرق إنما هو في التنصيف دون التحريم

فإن قلت هذا لا يستقيم في المرأة فإن حلها مبني على المملوكية والرق يزيد فيها ألا يرى أنها قبل الاسترقاق لم تحل إلا بالنكاح وبعده حلت بملك النكاح وملك اليمين جميعا

قلت حل النكاح نعمة من الجانبين فينتصف برقها كما ينتصف برقه وحل الوطء بملك اليمين إنما هو بطريق العقوبة دون الكرامة ولهذا لا تطالبه بالوطء ولا تستحق عليه شيئا

(٢/٢٣٤)

قوله فأما في المقارنة فقد غلبت الحرمة

فإن قيل لا حاجة إلى ذلك لإمكان حقيقة التنصيف بأن يقال لنكاح الأمة حالتان حالة الانفراد عن الحرة وذلك بالسبق وحالة الانضمام وذلك بالمقارنة أو التأخر فحلت في إحدى الحالتين فقط تحقيقا للتنصيف

قلنا المقارنة والتأخر حالتان مختلفتان متعددتان حقيقة لا تصيران واحدة بمجرد التعبير عنهما بالانضمام فلا بد من القول بالتثليث ثم إلحاق المقارنة بالتأخر تغليبا للحرمة احتياطا كما جعل نصف الطلاق واحدا متكاملا حيث جعل طلاق الأمة ثنتين لا واحدة احتياطا لأن الحل كان ثابتا بيقين فلا يزول إلا بعد التيقن بنصف التطليقات الثلاث وذلك في الثنتين دون الواحدة فالتشبيه بالطلاق إنما هو في مجرد تكميل النصف بالواحدة وجعل نصف الثلاثة اثنين لا في جعل طلاق الأمة ثنتين تغليبا للحرمة حتى يرد الاعتراض بأن هذا تغليب للحل دون الحرمة وسيجيء لهذه المسألة زيادة تحقيق في فصل العوارض

قوله وكما في مسح الرأس يعني على تقدير تسليم تأثير الركنية في التثليث فتأثير المسح في التخفيف أقوى منه لأن الاكتفاء بالمسح خصوصا مسح بعض المحل مع إمكان الغسل أو مسح الكل ليس إلا للتخفيف

وأما التثليث فقد يوجد بدون الركنية كما في المضمضة والاستنشاق وبالعكس كما في أركان الصلاة

(٢/٢٣٥)

قوله والإيمان هو في أكثر نسخ أصول فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى بكسر الهمزة يعني لا يشترط نية التعيين في الإيمان باللّه تعالى بأن يعين أنه يؤدي الفرض مع أنه أقوى الفروض بل على أي وجه يأتي به يقع عن الفرض لكونه متعينا غير متنوع إلى فرض ونفل وتصحيح المصنف رحمه اللّه تعالى وقع على الأيمان بالفتح جمع يمين

قوله ونحوها كتصدق النصاب على الفقير بدون نية الزكاة وكإطلاق النية في الحج

قوله تحقيقا للجبر وبالمثل تقريبا وذلك أن المنفعة مال كالعين والتفاوت الحاصل بالعينية والعرضية مجبور بكثرة الأجزاء في جانب المنفعة لظهور أن منفعة شهر واحد أكثر أجزاء من درهم واحد فاستويا قيمة وبقي التفاوت فيما وراء القيمة بمنزلة التفاوت في الحنطة من حيث الحبات واللون وهذا معنى المثل تقريبا

قوله ويلزم منه نسبة الجور ابتداء إلى صاحب الشرع لأنه الذي يوجب الأحكام حقيقة ولا حاجة إلى أن يقال إن الضمان يجب بقضاء القاضي وهو نائب الشارع

قوله والثالث الترجيح بكثرة الأصول التي يوجد فيها جنس الوصف أو نوعه كتأثير وصف المسح في التخفيف يوجد في التيمم ومسح الخف والجبيرة فيرجح على تأثير وصف الركنية في

(٢/٢٣٦)

التثليث لأنه في الغسل فقط وذلك لأن كثرة الأصول توجب زيادة توكيد ولزوم الحكم بذلك الوصف فيحدث فيه قوة مرجحة كما يحصل للخبر بكثرة الرواة قوة وزيادة اتصال فيصير مشهورا مع أن الحجة هو الخبر لا كثرة الرواة

قوله وهو قريب من الثاني أي قوة ثبات الوصف على الحكم لأنها تكون بلزوم الوصف للحكم بأن يوجد في صور كثيرة بل التحقيق أن الثلاثة راجعة إلى قوة التأثير لكن شدة الأثر بالنظر إلى الوصف وقوة الثبات بالنظر إلى الحكم وكثرة الأصول بالنظر إلى الأصل فلا اختلاف إلا بحسب الاعتبار ولهذا قال الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى ما من نوع من هذه الأنواع إذا قررته في مسألة إلا وتبين به إمكان تقرير النوعين الآخرين فيه وقال المصنف رحمه اللّه تعالى في الحاشية إذا كان التأثير بحسب اعتبار الشارع جنس الوصف أو نوعه في نوع الحكم فهو مستلزم لشهادة الأصل فقوة الثبات حينئذ يستلزم كثرة شهادة الأصل وإذا كان بحسب اعتبار جنس الوصف أو نوعه في جنس الحكم أو نوعه فأحدهما لا يستلزم الآخر فبينها عموم من وجه ولذا قال هو قريب من الثاني

قوله والرابع العكس معنى الاطراد في العلة أنه كلما وجدت العلة وجد الحكم ومعنى الانعكاس أنه كلما انتفت العلة انتفى الحكم كما في الحد والمحدود وهذا اصطلاح متعارف

(٢/٢٣٧)

WWWWWWWWWWWWWWWWWWWWWW

تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة

(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)

شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه.

سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشفعي

سنة الولادة بلا/ سنة الوفاة ٧٩٢ هـ

تحقيق زكريا عميرات

الناشر دار الكتب العلمية

سنة النشر ١٤١٦هـ - ١٩٩٦م.

مكان النشر بيروت

عدد الأجزاء ٢

والمصنف رحمه اللّه تعالى بين المناسبة فيه بأنه لازم للعكس المتفاهم بحسب العرف العام حيث يقولون كل إنسان ضاحك وبالعكس أي كل ضاحك إنسان فقولنا كلما انتفى الوصف انتفى الحكم لازم لقولنا كلما وجد الحكم وجد الوصف لأن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم وهو عكس عرفي لقولنا كلما وجد الوصف وجد الحكم وإن لم يكن عكسا منطقيا

قوله مبيع عين أي متعين فلا يشترط قبضه

الوصف هو تعين المبيع والحكم عدم اشتراط قبضه وهو منتف عند انتفاء الوصف حيث يشترط القبض في بيع الدرهم بالدرهم وفي السلم لئلا يلزم بيع الكالئ بالكالئ لأن الأصل في الصرف هو النقود وهي لا تتعين في العقود فكان دينا بدين

وفي السلم المسلم فيه دين حقيقة ورأس المال من النقود غالبا فيكون دينا

فإن قيل قد يتعين المبيع في الصرف والسلم كبيع إناء من فضة بإناء من فضة وكالسلم في الحنطة على ثوب بعينه فكان ينبغي أن لا يشترط القبض

قلنا نعم إلا أن معرفة ما يتعين وما لا يتعين أمر خفي عند

(٢/٢٣٨)

التجار فأدير الحكم مع ما أقيم مقام الدين بالدين وهو اسم الصرف والسلم فاشترط القبض فيهما على الإطلاق

فإن قيل المبيع في السلم هو المسلم فيه وهو ليس بمقبوض والمقبوض هو رأس المال وهو ليس بمبيع أجيب بوجهين أحدهما أن المراد أن كل مبيع متعين لا يشترط قبض بدله وينعكس إلى قولنا كل مبيع لا يكون متعينا يشترط قبض بدله وثانيهما أن المراد أن كل بيع يتعين فيه المبيع والثمن لا يشترط فيه القبض أصلا وينعكس إلى قولنا كل بيع لا يتعين فيه المبيع ولا ثمنه يشترط فيه القبض في الجملة ثم اختلفوا في أن التقابض شرط صحة العقد أو شرط بقائه على الصحة وإلى كل أشار محمد رحمه اللّه تعالى

ويتوجه على الأول سؤال وهو أن شرط الجواز يكون مقارنا كالشهود في النكاح لا متأخرا لما فيه من وجود المشروط قبل الشرط

والجواب أنه لما لم يكن هاهنا المقارنة من غير تراض لما فيه من إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه أقيم مجلس العقد مقام حالة العقد وجعل القبض الواقع فيه واقعا في حالة العقد حكما كذا في المحيط

(٢/٢٣٩)

قوله مسألة التعارض كما يقع بين الأقيسة فيحتاج إلى الترجيح كذلك يقع بين وجوه الترجيح بأن يكون لكل من القياسين ترجيح من وجه فيقدم الترجيح بالذات على الترجيح بالحال لوجهين أحدهما أن الحال يقوم بالغير وما يقوم بالغير فله حكم العدم بالنظر إلى ما يقوم بنفسه

وثانيهما أن الذات أسبق وجودا من الحال فيقع به الترجيح أولا فلا يتغير بما يحدث بعده كاجتهاد أمضي حكمه

فإن قلت هذا إنما يصح في ذات الشيء وحاله لا في مطلق الذات والحال إذ يتقدم حال الشيء على ذات شيء آخر كحال الأب وذات الابن

قلت الكلام فيما إذا ترجح أحد القياسين بما يرجع إلى وصف يقوم به بحسب ذاته أو أجزائه والآخر بما يرجع إلى وصف يقوم بذلك الشيء بحسب أمر خارج عنه كوصفي الكثرة والعبادة للإمساك فإن الأول بحسب الأجزاء والثاني بجعل الشارع ولهذا قال إن الترجيح بالوصف الذاتي أولى من الترجيح بالوصف العارضي وإلا فكما أن العبادة حال للإمساك فكذلك الكثرة

(٢/٢٤٠)

قوله وذكروا له أي للترجح بالوصف الذاتي أمثلة أخرى منها مسألة انقطاع حق المالك من العين إلى القيمة بصنعته في المغصوب من خياطة أو صباغة أو طبخ بحيث يزداد بها قيمة المغصوب فإن كلا من الوصف الحادث والأصل متقوم ولا سبيل إلى إبطال أحد الحقين ولا إلى إثبات الشركة لاختلاف الجنسين فلا بد من تملك أحدهما بالقيمة فرجحنا حق الغاصب لأنه باعتبار الوجود وهو معنى راجع إلى الذات وحق المغصوب منه باعتبار بقاء الصنعة بالمغصوب والبقاء حال بعد الوجود وتحقيق ذلك أن الصنعة قائمة من كل وجه ومضافة إلى فعل الغاصب لم يلحق حدوثها تغير ولا إضافة إلى المغصوب منه بخلاف المغصوب فإنه ثابت من وجه هالك من وجه حيث انعدام صورته وبعض معانيه أعني المنافع القائمة به وصار وجوده مضافا إلى الغاصب من وجه وهو الوجه الذي به صار هالكا بمعنى أن لفعل الغاصب مدخلا في وجود الثوب بهذه الصفة مثلا ومنها ترجيح ابن ابن الأخ على العم في العصوبة لأن رجحانه في ذات القرابة لأنها قرابة أخوة ورجحان العم في حال القرابة وهي زيادة القرب لأنه يتصل بواسطة واحدة وهو الأب ومثل هذا كثير في باب الميراث

قوله فصل كما ختم مباحث الأدلة الصحيحة بالأدلة الفاسدة تكميلا للمقصود كذلك ختم بحث الترجيحات المقبولة بالترجيحات المردودة والمذكورة منها هاهنا ثلاثة الأول الترجيح بغلبة الأشياء لإفادتها زيادة الظن بكثرة الأصول والثاني الترجيح بعموم الوصف لزيادة فائدته والثالث

(٢/٢٤١)

الترجيح ببساطة الوصف لسهولة إثباته والاتفاق على صحته والكل فاسد لأن العبرة في باب القياس بمعنى الوصف وهو قوته وتأثيره لا بصورته بأن يتكثر الوصف أو يتكثر محال الوصف أو تقل أجزاؤه وأيضا الوصف مستنبط من النص فيكون فرعا له وقلة الأجزاء فيه بمنزلة الإيجاز في النص ولا خلاف في عدم ترجيح النص الموجز على المطنب ولا العام على الخاص بل عند الشافعي رحمه اللّه تعالى يقدم الخاص على العام ولقائل أن يقول الكلام إنما هو على تقدير تساوي الوصفين في التأثير أو الملاءمة وحينئذ لم لا يجوز ترجيح أحدهما بما يفيد زيادة ظن أو يكون بعيدا عن الخلاف

وأما عند تأثير أحدهما دون الآخر فلا نزاع في تقديم المؤثر وإن كان الآخر أكثر أو أعم أو أبسط ثم لا يخفى أن في

قوله علة ذات جزء تسامحا إذ لا تركيب من أقل من جزأين فكأنه من قبيل المشاكلة والمراد أن يكون معنى واحدا لا جزء له

قوله لهما أن كل دليل يعني أن الترجيح بقوة الأثر وذلك بما يصلح وصفا وتبعا للدليل لا بما هو مستقل بالتأثير إذ تقوي الشيء إنما يكون بصفة توجد في ذاته ويكون تبعا له

وأما ما يستقل فلا يحصل للغير قوة بانضمامه إليه بل يكون كل منهما معارضا للدليل الموجب للحكم على خلافه فيتساقط الكل بالتعارض وهذا معنى تساوي وجود الغير وعدمه وربما يقال سلمنا أن الترجيح بالقوة لكن لا نسلم أنه لا يحصل للدليل بانضمام الغير إليه وصف يتقوى به وهو كونه موافقا للدليل الآخر وموجبا لزيادة الظن

قوله خلافا لابن مسعود رضي اللّه عنه في الأخير وهو ما إذا ترك ابني عم أحدهما أخ له من أم بأن تزوج عمه أمه فولدت له ابنا فعند ابن مسعود المال كله للأخ لأم لأنهما استويا في قرابة

(٢/٢٤٢)

الأب وقد ترجحت قرابة الأخ لأم بانضمام قرابة الأم لأن العلة تترجح بالزيادة من جنسها إذا كانت غير مستقلة والأخوة لأم كذلك لكونها من جنس العمومة باعتبار كونها قرابة مثلها لكنها لا تستبد بالتعصيب فيكون مثل الأخ لأب وأم مع الأخ لأب بخلاف الزوجية فإنها ليست من جنس القرابة فلا تصلح للترجيح وعند الجمهور سدس المال للأخ لأم بالفرضية والباقي بينهما بالعصوبة فيصح من اثني عشر سبعة لابن عم هو أخ لأم وخمسة للآخر لأن الأخوة لأم وإن لم تستقل بالتعصيب لكنها تستقل باستحقاق الإرث وليست من جنس العمومة بل أقرب فلا يكون تبعا لها فلا يصلح مرجحا بخلاف الأخوة فإنها جنس واحد تأكد بانضمام أخوة الأم إليه بمنزلة الوصف ألا ترى أنه لو اجتمع الأخوة لأب والأخوة لأم لا تصلح أخوة الأم سببا للاستحقاق بالفرضية

قوله ما لم تبلغ حد الشهرة تعرض الشهرة لأنها إذا كانت مرجحة فالتواتر بطريق الأولى لأنه لا يبلغ حد التواتر ما لم يبلغ حد الشهرة ولتقارب أمرهما بل لكون المشهور أحد قسمي المتواتر على رأي تعرض في الشرح للتواتر

وحاصل الكلام في هذا المقام أن الكثرة إن تأدت إلى حصول هيئة اجتماعية هي وصف واحد قوي الأثر كانت صالحة للترجيح لأن المرجح هو القوة لا الكثرة غايته أن القوة حصلت بالكثرة وإلا فلا فكثرة أجزاء العلة توجب القوة كما في حمل الأثقال بخلاف كثرة جزئياته كما في المصارعة إذ المقاوم واحد

وأما الرجوع إلى السنة أو القياس عند تعارض النصين أو الحديثين فقد سبق أنه ليس من قبيل الترجيح

قوله ولا القياس بقياس آخر يعني قياسا يوافقه في الحكم دون العلة ليكون من كثرة الأدلة إذ لو وافقه في العلة كان من كثرة الأصول لا من كثرة الأدلة إذ لا يتحقق تعدد القياسين حقيقة إلا عند تعدد العلتين لأن حقيقة القياس ومعناه الذي به يصير حجة هي العلة لا الأصل

قوله وعلى هذا يعني كما أن كل ما يصلح دليلا مستقلا على الأحكام لا يصلح مرجحا لأحد الدليلين كذلك كل ما يصلح علة لا يصلح مرجحا لأنه لاستقلاله لا ينضم إلى الآخر ولا

(٢/٢٤٣)

يتحد به ليفيد القوة ثم بين ذلك في العلل الحسية للأحكام الشرعية التي وقع الإجماع على الترجيح بكثرة العلة بمعنى أن يسقط الآخر بالكلية وذلك كما في مسألة اختلاف عدد جراحات الجانين على مجروح واحد مات من جميعها فإن الدية عليهما نصفان

فإن قيل هب أنه لم تعتبر الكثرة مرجحة حتى يلزم الإسقاط لكن لم لم تعتبر موجبة لتوزيع الدية على الجراحات كما تعدد في الجنايات

قلنا لأن الإنسان قد يموت من جراحة واحدة ولا يموت من جراحات كثيرة فلم يتعد بعددها وجعل الجميع بمنزلة جراحة واحدة وكما في مسألة الشفعة وهي دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخر ثلثها وللثالث سدسها فباع صاحب النصف نصفه وطلب الآخران الشفعة لم يترجح جانب صاحب الثلث بحيث ينفرد باستحقاق الشفعة ويسقط صاحب السدس لأن كل جزء من أجزاء سهميهما علة مستقلة في استحقاق شفعة جميع المبيع وليس في جانب صاحب الثلث إلا كثرة العلة وهي لا تصلح للترجيح فعندنا يكون نصف المبيع بينهما أنصافا لترتب الحكم على العلة المتحققة في كل جانب وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى أثلاثا ثلثه لصاحب السدس وثلث لصاحب الثلث لأن حق الشفعة من مرافق الملك أي منافعه وثمراته كالثمرة للشجرة والولد للحيوان المشترك فيقسم بقدر الملك

والجواب أن الدار المشفوعة علة فاعلية تثبت بها الشفعة لا علة مادية يتولد منها المعلول بمنزلة الشجر والحيوان وقد ثبت في علم الكلام أن تأثير العلة الفاعلية في المعلول ليس بطريق التوليد بل بإيجاد اللّه تعالى إياه عقيبه فلا يكون ترتب استحقاق الشفعة على الملك كترتب الثمر على الشجر والولد على الحيوان ثم الشارع قد جعل ممنوع الملك علة للحكم فتقسيم الحكم على أجزاء العلة وجعل كل جزء من العلة علة لجزء من المعلول نصب للشرع بالرأي وهو فاسد

(٢/٢٤٤)

قوله باب الاجتهاد لما كان بحث الأصول عن الأدلة من حيث إنه يستنبط منها الأحكام وطريق ذلك هو الاجتهاد ختم مباحث الأدلة بباب الاجتهاد وهو في اللغة تحمل الجهد أي المشقة

وفي الاصطلاح استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي وهذا هو المراد بقولهم بذل المجهود لنيل المقصود ومعنى استفراغ الوسع بذل تمام الطاقة بحيث يحس من نفسه العجز عن المزيد عليه فخرج استفراغ غير الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعي فبذل الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعي قطعي أو في الظن بحكم غير شرعي ليس باجتهاد

وشرط الاجتهاد أن يحوي أي أن يجمع العلم بأمور ثلاثة

(٢/٢٤٥)

الأول الكتاب أي القرآن بأن يعرفه بمعانيه لغة وشريعة

أما لغة فبأن يعرف معاني المفردات والمركبات وخصوصها في الإفادة فيفتقر إلى اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان اللّهم إلا أن يعرف ذلك بحسب السليقة

وأما شريعة فبأن يعرف المعاني المؤثرة في الأحكام مثلا يعرف في

قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط أن المراد بالغائط الحدث وأن علة الحكم خروج النجاسة عن بدن الإنسان الحي بأقسامه من الخاص والعام والمشترك والمجمل والمفسر وغير ذلك مما سبق ذكره بأن يعلم أن هذا خاص وذاك عام وهذا ناسخ وذاك منسوخ إلى غير ذلك ولا خفاء في أن هذا مغاير لمعرفة المعاني والمراد بالكتاب قدر ما يتعلق بمعرفة الأحكام والمعتبر هو العلم بمواقعها بحيث يتمكن من الرجوع إليها عند طلب الحكم لا الحفظ عن ظهر القلب

الثاني السنة قدر ما يتعلق بالأحكام بأن يعرفها بمتنها وهو نفس الحديث وسندها وهو طريق وصولها إلينا من تواتر أو شهرة أو آحاد

وفي ذلك معرفة حال الرواة والجرح والتعديل إلا أن البحث عن أحوال الرواة في زماننا هذا كالمتعذر لطول المدة وكثرة الوسائط فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة الموثوق بهم في علم الحديث كالبخاري ومسلم والبغوي والصغاني وغيرهم من أئمة الحديث ولا يخفى أن المراد معرفة متن السنة بمعانيه لغة وشريعة وبأقسامه من الخاص والعام وغيرهما

الثالث وجوه القياس بشرائطها وأحكامها وأقسامها والمقبول منها والمردود وكل ذلك ليتمكن من الاستنباط الصحيح وكان الأولى ذكر الإجماع أيضا إذ لا بد من معرفته ومعرفة مواقعه لئلا يخالفه في اجتهاده ولا يشترط علم الكلام لجواز الاستدلال بالأدلة السمعية للجازم بالإسلام تقليدا ولا علم الفقه لأنه نتيجة الاجتهاد وثمرته فلا يتقدمه إلا أن منصب الاجتهاد في زماننا إنما

(٢/٢٤٦)

يحصل بممارسة الفروع فهي طريق إليه في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمان الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم

ثم هذه الشرائط إنما هي في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الأحكام

وأما المجتهد في حكم دون حكم فعليه معرفة ما يتعلق بذلك الحكم كذا ذكره الإمام الغزالي

فإن قلت لا بد من معرفة جميع ما يتعلق بالأحكام لئلا يقع اجتهاده في تلك المسألة مخالفا لنص أو إجماع

قلت بعد معرفة جميع ما يتعلق بذلك الحكم لا يتصور الذهول عما يقتضي خلافه لأنه من جملة ما يتعلق بذلك الحكم ولا حاجة إلى الباقي

مثلا الاجتهاد في حكم متعلق بالصلاة لا يتوقف على معرفة جميع ما يتعلق بأحكام النكاح

قوله وحكمه أي الأثر الثابت بالاجتهاد غلبة الظن بالحكم مع احتمال الخطأ فلا يجري الاجتهاد في القطعيات وفيما يجب فيه الاعتقاد الجازم من أصول الدين وهذا مبني على أن المصيب عند اختلاف المجتهدين واحد وقد اختلفوا في ذلك بناء على اختلافهم في أن للّه تعالى

(٢/٢٤٧)

في كل صورة من الحوادث حكما معينا أم الحكم ما أدى إليه اجتهاد المجتهد فعلى الأول يكون المصيب واحدا وعلى الثاني يكون كل مجتهد مصيبا

وتحقيق هذا المقام أن المسألة الاجتهادية

إما أن يكون للّه تعالى فيها حكم معين قبل اجتهاد المجتهد أو لا يكون وحينئذ

إما أن لا يدل عليه دليل أو يدل وذلك الدليل

إما قطعي أو ظني فذهب إلى كل احتمال جماعة فحصل أربعة مذاهب الأول أن لا حكم في المسألة قبل الاجتهاد بل الحكم ما أدى إليه رأي المجتهد وإليه ذهب عامة المعتزلة ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى استواء الحكمين في الحقية وبعضهم إلى كون أحدهما أحق وقد ينسب ذلك إلى الأشعري بمعنى أنه لم يتعلق الحكم بالمسألة قبل الاجتهاد وإلا فالحكم قديم عنده

الثاني أن الحكم معين ولا دليل عليه بل العثور عليه بمنزلة العثور على دفين فلمن أصاب أجران ولمن أخطأ أجر الكد وإليه ذهب طائفة من الفقهاء والمتكلمين

الثالث أن الحكم معين وعليه دليل قطعي والمجتهد مأمور بطلبه وإليه ذهب طائفة من المتكلمين ثم اختلفوا في أن المخطئ هل يستحق العقاب أم لا وفي أن حكم القاضي بالخطأ هل ينقض

الرابع أن الحكم معين وعليه دليل ظني إن وجده أصاب وإن فقده أخطأ والمجتهد غير مكلف بإصابتها لغموضها وخفائها فلذا كان المخطئ معذورا بل مأجورا ثم اختلف هؤلاء في أن المخطئ مخطئ ابتداء وانتهاء معا أو انتهاء فقط وهذا هو المختار عند المصنف رحمه اللّه تعالى

قوله لهم احتج القائلون بتعدد الحق في المسائل الاجتهادية وإصابة كل مجتهد بوجهين أحدهما أنه لو يتعدد الحق لزم تكليف ما لا يطاق وهو باطل لما مر بيان الملازمة أن المجتهدين مكلفون بنيل الحق وإصابة الصواب إذ لا فائدة للاجتهاد سوى ذلك فلو كان الحق واحدا لكان المجتهد مأمورا بإصابته بعينه وظاهر أن ذلك ليس في وسعه لغموض طريقه وخفاء دليله فيجب أن يكون الحق بالنسبة إلى كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده

والثاني أن اجتهاد المجتهد في الحكم كاجتهاد المصلي في أمر القبلة والحق فيه متعدد اتفاقا فكذا هاهنا لعدم الفرق

وإنما

قلنا إن الحق فيه متعدد اتفاقا لأن المصلي مأمور باستقبال القبلة فلو لم يكن جميع الجهات بالنسبة إلى المصلين إلى جهات مختلفة قبلة لما تأدى فرض من أخطأ جهة القبلة واللازم باطل لأنه لا يؤمر بإعادة الصلاة

فإن قيل تعدد الحق يستلزم اتصاف فعل واحد بالمتنافيين كالوجوب وعدمه وهو محال

أجيب بأنه إن أريد بالنسبة إلى شخص واحد في زمان واحد فاللزوم ممنوع وإن أريد بالنسبة إلى شخصين فالاستحالة ممنوعة لجواز أن يجب شيء على زيد ولا يجب على عمر وكما عند اختلاف الرسل بأن يبعث اللّه تعالى رسولين إلى قومين مع

(٢/٢٤٨)

اختصاص كل منهما بأحكام فيجوز أن يكون الشيء واجبا على مجتهد وعلى من التزم تقليده غير واجب على آخر وعلى مقلديه ثم اختلف القائلون بحقية الجميع فذهب بعضهم إلى تساوي الجميع في الحقية وبعضهم إلى كون البعض أحق أي أكثر ثوابا بمعنى أن من أدى اجتهاده إلى وجوب الشيء فهو أكثر ثوابا ممن أدى اجتهاده إلى عدم وجوبه مع حقية الحكمين استدل الأولون بأن الدليل الدال على تعدد الحق في المسائل الاجتهادية وهو لزوم تكليف ما لا يطاق على تقدير عدم التعدد لا يوجب التفاوت بين الحكمين في الأحقية

وفيه نظر لأنه لا يوجب التساوي فيجوز أن يثبت التفاوت بناء على دليل آخر

واستدل الآخرون بأنه لو تساوت الأحكام الاجتهادية في الحقية لجاز للمجتهد أن يختار أيها شاء من غير تعب في بذل المجهود وطلب لنيل المقصود وهذا معنى سقوط الاجتهاد

وفيه نظر

أما أولا فلأن التقدير أن لا حكم قبل الاجتهاد وإنما يحدث عقيبه فلا بد من الاجتهاد ليتحقق الحكم

وأما ثانيا فلأنها وإن تساوت في الحقية إلا أن المتعين بالنسبة إلى كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده لا غير حتى لا يجوز له أن يختار غيره ولا أن يترك الاجتهاد ويقلد مجتهدا آخر

وأما ثالثا فلأنه على تقدير تحقق الحكم قبل الاجتهاد وجواز اختيار المجتهد أي حق شاء لا بد من الاجتهاد ليعلم تعدد الحق فيتمكن من اختيار أحد الحقين إذ ليس كل مسألة اجتهادية مما يتعدد فيه الحق بل قد تجتمع الآراء على حكم واحد فيكون الحق واحدا مجمعا عليه

والحاصل أن التعدد لا يكون إلا عند اختلاف آراء المجتهدين وهو بدون الاجتهاد لا يتصور واعلم أن مراد المستدل هو أنه لو تساوت الحقوق لثبت الحق بمجرد اختيار الحكم بأدنى دليل يؤدي إليه من غير مبالغة في الطلب والاجتهاد لتساوي ما ينال بغاية الطلب وما ينال بأدنى الطلب وهذا معنى سقوط الاجتهاد يدل على ذلك ما ذكر في التقويم أنه لو تساوت الحقوق لبطلت مراتب الفقهاء وتساوى الباذل كل جهده في الطلب المبلى عذره بأدنى طلب وعلى هذا لا يرد الاعتراض

قوله ولنا احتج أصحابنا على أن الحق واحد والمجتهد يخطئ ويصيب بالكتاب والسنة والأثر ودلالة الإجماع والمعقول

أما الكتاب فقوله تعالى ففهمناها سليمان والضمير للحكومة أو الفتوى ووجه الاستدلال أن داود عليه الصلاة والسلام حكم بالغنم لصاحب الحرث وبالحرث لصاحب الغنم وسليمان حكم بأن تكون الغنم لصاحب الحرث ينتفع بها ويقوم أصحاب الغنم على الحرث حتى يرجع كما كان فيرد كل إلى صاحبه ملكه وكان حكم داود عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد دون الوحي وإلا لما جاز لسليمان عليه الصلاة والسلام خلافه ولا لداود الرجوع عنه ولو كان كل من الاجتهادين حقا لكان كل منهما قد أصاب الحكم وفهمه ولم يكن لتخصيص سليمان عليه الصلاة والسلام بالذكر جهة فإنه وإن لم يدل على نفي الحكم عما عداه لكنه في هذا المقام يدل عليه كما لا يخفى على من له معرفة بخواص التراكيب وهذا مبني على جواز اجتهاد الأنبياء وجواز خطئهم فيه على ما ثبت ذلك في موضعه وقد يجاب بأن المعنى ففهمنا سليمان عليه الصلاة والسلام الفتوى أو الحكومة التي هي أحق وأفضل ويكون اعتراض سليمان عليه الصلاة والسلام مبنيا على

(٢/٢٤٩)

أن ترك الأولى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمنزلة الخطأ من غيرهم يشعر بذلك

قوله تعالى وكلا آتينا حكما وعلما فإنه يفهم منه إصابتهم في فصل الخصومات والعلم بأمور الدين ويؤيده ما نقل أنه قال سليمان عليه الصلاة والسلام غير هذا أوفق الفريقين كأنه قال هذا حق لكن غيره أحق

وأما السنة والأثر فالأحاديث والآثار الدالة على ترديد الاجتهاد بين الصواب والخطأ وهي وإن كانت من قبيل الآحاد إلا أنها متواترة من جهة المعنى وإلا لم تصلح للاستدلال على الأصول

وأما دلالة الإجماع فهو أن القياس مظهر لا مثبت فالثابت بالقياس ثابت بالنص معنى وإن لم يكن ثابتا به صريحا وقد أجمعوا على أن الحق فيما ثبت بالنص واحد لا غير

وفيه نظر لأن القياس عند الخصم مثبت لا مظهر ولأن الحكم الاجتهادي أعم من أن يكون ثابتا بالقياس أو بغيره من الأدلة الظنية كمفهوم الشرط والصفة ونحو ذلك والخلاف في اتحاد الحق أو تعدده جار في الجميع فلا إجماع على اتحاد الحق إلا فيما لم يقع فيه خلاف

وأما المعقول فلأن كون الفعل محظورا ومباحا أو صحيحا وفاسدا أو واجبا وغير واجب ممتنع لاستلزامه اتصاف الشيء بالنقيضين والممتنع لا يكون حكما شرعيا

فإن قيل لا نسلم امتناع ذلك بالنسبة إلى شخصين فإن التناقض لا يكون إلا عند اتحاد المحل

أجيب بأن الجمع بين المتنافيين بالنسبة إلى شخصين أيضا ممتنع في شريعة نبينا عليه السلام لأنه مبعوث إلى الناس كافة داع لهم إلى الحق بصريح النصوص أو معناها من غير تفرقة بين الأشخاص لدخولهم في العمومات على السواء ولا يخفى ابتناء هذا الجواب على أن الثابت بالقياس ثابت بالنص وأن الحق في الاجتهاديات الثابتة بالنصوص واحد إجماعا والأصوب أن يقال يلزم الجمع بين المتنافيين بالنسبة إلى شخص واحد فيما إذا استفتى عامي لم يلتزم تقليد مذهب معين مجتهدين حنفيا وشافعيا فأفتاه أحدهما بإباحة النبيذ والآخر بحرمته ولم يترجح أحدهما عنده ولم يستقر علمه على شيء منهما وأيضا إذا تغير اجتهاد المجتهد فإن في الأول حقا لزم اجتماع المتنافيين بالنسبة إليه وإلا لزم النسخ بالاجتهاد وكذا المقلد إذا صار مجتهدا

قوله والتكليف جواب عن تمسكهم بأنه لو اتحد الحق لزم التكليف بما ليس في الوسع وتقريره أنا لا نسلم أن المجتهد مكلف بإصابة الحق بل هو مكلف بالاجتهاد ضرورة أنه لا يجوز له التقليد والاجتهاد حق نظرا إلى رعاية شرائطه بقدر الوسع سواء أدى إلى ما هو حق عند اللّه تعالى أو خطأ والتكليف به يفيد الأجر ووجوب العمل بموجبه فلا يلزم العبث

فإن قيل المجتهد مأمور بما أدى إليه اجتهاده وكل ما أمر به فهو حق

أجيب بأنه يكفي في المأمور به أن يكون حقا بالنظر

(٢/٢٥٠)

إلى الدليل وبحسب ظن المجتهد وإن كان خطأ عند اللّه تعالى كما إذا قام نص على خلاف رأي المجتهد لكنه لم يطلع عليه بعد استفراغ الجهد في الطلب فإنه مأمور بما أدى إليه ظنه وإن كان خطأ لقيام النص على خلافه وبهذا يندفع ما يقال إنه يجب على المجتهد العمل باجتهاده ويحرم تقليد غيره فلو كان اجتهاده خطأ واجتهاد الغير حقا لزم أن يكون العمل بالخطأ واجبا وبالصواب حراما وهو ممتنع

قوله يدل على مذهبنا وهو أن المجتهد يخطئ ويصيب إذ لو كان كل مجتهد مصيبا لصح صلاة من خالف الإمام عالما بحاله لإصابتهما جميعا في جهة القبلة

قوله وهو وجه اللّه تعالى أي المقصود هي الجهة التي رضيها اللّه تعالى وأمر بها وعند حصول المقصود لا بأس بفوات الوسيلة

قوله وعند البعض مصيب ابتداء أي بالنظر إلى الدليل مخطئ انتهاء أي بالنظر إلى الحكم فإنه لا يمتنع في الأقيسة الشرعية والأدلة الظنية أن يتناقض المطالب والأحكام مع رعاية الشرائط قدر

(٢/٢٥١)

الوسع والطاقة ولذلك وصف اللّه تعالى اجتهاد داود عليه الصلاة والسلام بالحكم والعلم في مقام الثناء عليه والامتنان مع كونه خطأ بدلالة سوق الكلام وفي تخصيص سليمان عليه الصلاة والسلام بإصابة الحق فلو كان خطأ من كل وجه لما كان حكما وعلما بل جهلا وخطأ

وقد يقال إنه لا دلالة في إيتاء الحكم والعلم على أن اجتهاده في تلك الحادثة حكم وعلم فيجاب بأنه لو لم يكن اجتهاده فيها حكما وعلما لما كان لذكرهما في هذا المقام فائدة إذ لا يشتبه على أحد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أوتي علما وحكما في الجملة

قوله وتنصيف الأجر أي تنصيف أجر المخطئ في الاجتهاد بقوله عليه الصلاة والسلام إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد يدل على أنه مخطئ انتهاء لا ابتداء فإن الأجر إنما يكون على الصواب فلما كان ثوابه نصف ثواب المصيب كان صوابه أيضا كذلك توزيعا للأجر على الاستحقاق وهذا ضعيف لأن أجر المخطئ إنما هو على كده في الاجتهاد وامتثال الأمر

قوله

وأما

قوله عليه الصلاة والسلام القائلون بأن المجتهد المخطئ مخطئ ابتداء وانتهاء تمسكوا بوجهين أحدهما إطلاق الخطأ في

قوله عليه الصلاة والسلام وإن أخطأت فلك حسنة

(٢/٢٥٢)

ومن حكم المطلق أن ينصرف إلى الكامل وهو الخطأ ابتداء وانتهاء

وثانيهما

قوله تعالى لولا كتاب من اللّه سبق الآية أي لولا ما كتب في اللوح أن لا يعذب أهل بدر أو أن يحل لهم الغنائم أو أن لا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي لمسكم عذاب عظيم في اتباع الاجتهاد الخطأ الذي هو أخذ الفدية فلو كان صوابا من وجه لما استحقوا باتباعه العذاب العظيم لوجود امتثال الأمر في الجملة ولما كان ضعف الوجه الأول بينا إذ الاستدلال بالإطلاق على الكمال مما لا يعتد به في مسائل الأصول لم يتعرض لجوابه وأجاب عن الثاني بأن العزيمة في حكم الأسارى كان هو المن أو القتل وقد رخص للنبي عليه الصلاة والسلام في الفداء أيضا فالمعنى لولا سبق الحكم بإباحة الفداء والرخصة فيه لمسكم العذاب في ترك العزيمة فوجوب العذاب معلق بعدم سبق الكتاب لكن المعلق عليه غير واقع لتحقق سبق الكتاب فلا يتحقق وجوب العذاب بسبب الخطأ في الاجتهاد هذا تقرير كلامه

وفيه نظر لأن لولا لانتفاء الشيء لوجود غيره فيدخل على أن انتفاء العذاب على الخطأ في الاجتهاد إنما كان لوجود سبق الكتاب بإباحة الفداء حتى لو لم يتحقق ذلك لكان الخطأ موجبا لاستحقاق العذاب وهذا يدل على كونه خطأ من كل وجه وعدم وقوع العذاب لا ينافي لأنه مبني على وجود المانع وهو سبق الكتاب

قوله والمخطئ في الاجتهاد لا يعاقب ولا ينسب إلى الضلال بل يكون معذورا ومأجورا إذ ليس عليه إلا بذل الوسع وقد فعل فلم ينل الحق لخفاء دليله إلا أن يكون الدليل الموصل إلى الصواب بينا فأخطأ المجتهد لتقصير منه وترك مبالغة في الاجتهاد فإنه يعاقب وما نقل من طعن السلف بعضهم على بعض في مسائلهم الاجتهادية كان مبنيا على أن طريق الصواب بين في زعم الطاعن وإنما قال المخطئ في الاجتهاد لأن المخطئ في الأصول والعقائد يعاقب بل يضلل أو يكفر لأن الحق فيها واحد إجماعا والمطلوب هو اليقين الحاصل بالأدلة القطعية إذ لا يعقل حدوث العالم وقدمه وجواز رؤية الصانع وعدمه فالمخطئ فيها مخطئ ابتداء وانتهاء وما نقل عن بعضهم من تصويب كل مجتهد في المسائل الكلامية إذ لم يوجب تكفير المخالف كمسألة خلق القرآن ومسألة الرؤية ومسألة خلق الأفعال فمعناه نفي الإثم وتحقق الخروج عن عهدة التكليف لا حقيقة كل من القولين