Geri

   

 

 

İleri

 

القسم الثاني

قوله القسم الثاني من الكتاب وقد وقع الفراغ من مباحث الأدلة وهذا شروع في مباحث

(٢/٢٥٣)

الأحكام وقد سبق تفسير الحكم ومباحث الحاكم فرتب الكلام هاهنا على ثلاثة أبواب

مباحث الحكم نفسه ومباحث المحكوم به ومباحث المحكوم عليه وابتدأ بالحكم لأن النظر فيه من المقاصد الأصلية ثم بالمحكوم به لأن الخطاب يتعلق به أولا وبواسطة أنه مضاف إلى المكلف وعبارة عن فعله يصير المكلف محكوما عليه وحاول في الباب الأول اختراع تقسيم حاصر أي ضابط لما تفرق من أقسام ما يطلق عليه لفظ الحكم

وأما التقسيم الحاضر بمعنى كونه دائرا بين النفي والإثبات مقيد التكثير مفهوم واحد إلى ما يحتمله من الأقسام المتقابلة فلا يصح في هذا المقام لأن من هذه الأقسام ما هي متداخلة كالفرض مثلا بالنسبة إلى العزيمة والرخصة ومنها ما ليس بدائر بين النفي والإثبات كالتقسيم إلى ما يكون صفة لفعل المكلف وإلى ما يكون أثرا له وأنا ألقي إليك محصل الباب إجمالا لتكون على بصيرة من الأمر

وذلك أن الحكم

إما حكم بتعلق شيء بشيء أو لا فإن لم يكن فالحكم

إما صفة لفعل المكلف أو أثر له فإن كان أثرا له كالملك فلا بحث هاهنا عنه وإن كان صفة فالمعتبر فيه اعتبارا أوليا

إما المقاصد الدنيوية أو المقاصد الأخروية

فالأول ينقسم الفعل بالنظر إليه تارة إلى صحيح وباطل وفاسد وتارة إلى منعقد وغير منعقد وتارة إلى نافذ وغير نافذ وتارة إلى لازم وغير لازم

(٢/٢٥٤)

والثاني

إما أصلي أو غير أصلي فالأصلي

إما أن يكون الفعل أولى من الترك أو الترك أولى من الفعل أو لا يكون أحدهما أولى

فالأول إن كان مع منع الترك بقطعي ففرض أو بظني فواجب وإلا فإن كان الفعل طريقة مسلوكة في الدين فسنة وإلا فنفل وندب

والثاني إن كان مع منع الفعل فحرام وإلا فمكروه

والثالث مباح

وغير الأصلي رخصة وهي

إما حقيقة أو مجاز والحقيقة

إما أن تكون أولى وأحق بمعنى الرخصة أو لا والمجاز

إما أن يكون أقرب إلى الحقيقة أو لا فيصير أربعة أقسام وإن كان حكما بتعلق شيء بشيء فالمتعلق إن كان داخلا في الشيء فركن وإلا فإن كان مؤثرا فيه فعلة وإلا فإن كان موصلا إليه في الجملة فسبب وإلا فإن توقف الشيء عليه فشرط وإلا فعلامة

قوله وهو أي الحاكم هو اللّه تعالى

فإن قلت الحكم يتناول القياس المحتمل للخطأ فكيف ينسب إلى اللّه تعالى

قلت الحاكم في المسألة الاجتهادية هو اللّه تعالى إلا أنه لم يحكم إلا بالصواب فالحكم المنسوب إلى اللّه تعالى هو الحق الذي لا يحوم حوله الباطل وما وقع من الخطأ للمجتهد فليس بحكم حقيقة بل ظاهرا وهو معذور في ذلك

فإن قلت إذا قال الشارع الصلاة واجبة فالمحكوم عليه هو الصلاة لا المكلف والمحكوم به هو الوجوب لا فعل المكلف

قلت ليس المراد بالمحكوم عليه والمحكوم به طرفي الحكم على ما هو مصطلح المنطق بل المراد بالمحكوم عليه من وقع الخطاب له وبالمحكوم به ما تعلق الخطاب به كما يقال حكم الأمير على زيد بكذا وهذا ظاهر فيما هو صفة فعل المكلف كالوجوب ونحوه

وفيما هو حكم تعليق كالسببية ونحوها فإنه خاطب المكلف بأن فعله سبب لشيء أو شرط له أو غير ذلك

وأما فيما هو أثر لفعل المكلف كملك الرقبة أو المتعة أو المنفعة وثبوت الدين في الذمة فكون المحكوم به فعل المكلف ليس بظاهر بل إذا جعلنا الملك نفس الحكم فليس هاهنا ما يصلح محكوما به

فإن قلت قد ذكر فيما سبق أن الحكم

إما تكليفي كالوجوب والحرمة ونحوهما

وإما وضعي كالسببية والشرطية ونحوهما فإن أراد بالتكليفي ما يتعلق بفعل المكلف فالوضعي أيضا كذلك

(٢/٢٥٥)

على ما صرح به هاهنا وإن أراد ما وقع التكليف به فالإباحة ليست كذلك

قلت أراد ما وقع التكليف به وعد الإباحة منه تغليبا لكونه أحد الأقسام الخمسة المشهورة للحكم على أنه لا مشاحة في الاصطلاح

فإن قلت المراد بالحكم

إما الخطاب

وإما الأثر الثابت به على ما ذكر في صدر الكتاب وأيا ما كان ليس الملك ونحوه حكما لأنه إنما يثبت بفعل المكلف لا الخطاب

قلت لما كان ثبوت الملك بالبيع مثلا بحسب وضع الشارع جعل حكم اللّه تعالى الثابت بخطابه

على أن قول المصنف رحمه اللّه تعالى الحكم

إما أن لا يكون حكما بتعلق شيء بشيء أو يكون مشعرا بأن مراده بالحكم إسناد أمر إلى آخر مصدر قولك حكمت بكذا لا الخطاب ولا أثر الخطاب فعلى هذا ينبغي أن يجعل مورد القسمة الحكم بمعنى إسناد الشارع أمرا إلى آخر فيما له تعلق بفعل المكلف من حيث هو مكلف صريحا كالنص أو دلالة كالإجماع والقياس ففي جعل الوجوب والملك ونحو ذلك أقساما للحكم بهذا المعنى تسامح ظاهر على أن التحقيق أن إطلاق الحكم على خطاب الشارع وعلى أثره وعلى الأثر المترتب على العقود والفسوخ إنما هو بطريق الاشتراك والمقصود هاهنا بيان أقسام ما يطلق عليه لفظ الحكم في الشرع

قوله والأول أي ما هو صفة فعل المكلف

إما أن يعتبر فيه أي في مفهومه وتعريفه المقاصد الدنيوية أي الحاصلة في الدنيا كتفريغ الذمة المعتبرة في مفهوم صحة العبادة أو الأخروية أي الحاصلة في الآخرة كالثواب على الفعل والعقاب على الترك في مفهوم الوجوب وقيد باعتبار الأول لأنه قد يعتبر في نحو الصحة الثواب وفي نحو الوجوب تفريغ الذمة لكن لا أوليا وليس المراد باعتبار المقصود الدنيوي أو الأخروي ابتناء الحكم على حكم وأغراض متعلقة بالدنيا أو الآخرة إذ من البعيد يقال صحة الصلاة مبنية على حكمة دنيوية وحرمة الخمر على حكمة أخروية ثم لا يخفى أن التقسيم إلى ما يعتبر فيه مقصود دنيوي أو أخروي اعتبارا أوليا ليس حاصرا دائرا بين النفي والإثبات بل بحسب الوقوع

فإن قيل ليس في صحة النوافل تفريغ الذمة

قلنا لزمت بالشروع فحصل بأدائها تفريغ الذمة

وأما عبادة الصبي ففي حكم المستثنى لما سيجيء ذكره في بحث العوارض فالكلام هاهنا في فعل المكلف لا غير

قوله وفي المعاملات الاختصاصات أي الأغراض المترتبة على العقود والفسوخ كملك الرقبة في البيع وملك المتعة في النكاح وملك المنفعة في الإجارة والبينونة في الطلاق وكذا معنى صحة القضاء ترتب ثبوت الحق عليه ومعنى صحة الشهادة ترتب لزوم القضاء عليها فمرجع ذلك أيضا إلى المعاملات فالفعل المتعلق بمقصود دنيوي إن وقع بحيث يوصل إليه فصحيح وإلا فإن كان عدم إيصاله إليه من جهة خلل في أركانه وشرائطه فباطل وإلا ففاسد فالمتصف بالصحة والفساد حقيقة هو الفعل لا نفس الحكم

نعم يطلق لفظ الحكم على الصحة والفساد بمعنى أنهما ثبتا بخطاب الشارع وكذا الكلام في الانعقاد والنفاذ واللزوم وكثير من المحققين على أن أمثال ذلك راجعة إلى الأحكام الخمسة فإن معنى صحة البيع إباحة الانتفاع بالمبيع ومعنى بطلانه حرمة

(٢/٢٥٦)

الانتفاع به وبعضهم على أنها من خطاب الوضع بمعنى أنه حكم بتعلق شيء بشيء تعلقا زائدا على التعلق الذي لا بد منه في كل حكم وهو تعلقه بالمحكوم عليه وبه وذلك أن الشارع حكم بتعلق الصحة بهذا الفعل وتعلق البطلان أو الفساد بذلك

وبعضهم على أنها أحكام عقلية لا شرعية فإن الشارع إذا شرع البيع لحصول الملك وبنى شرائطه وأركانه فالعقل يحكم بكونه موصلا إليه عند تحققها وغير موصل عند عدم تحققها بمنزلة الحكم بكون الشخص مصليا أو غير مصل

فعلى ما ذكرنا الصحة والبطلان والفساد معان متقابلة حاصلها أن الصحيح ما يكون مشروعا بأصله ووصفه

والباطل ما لا يكون مشروعا بأصله ولا بوصفه

والفاسد ما يكون مشروعا بأصله دون وصفه وهذا معنى قولهم الصحيح ما استجمع أركانه وشرائطه بحيث يكون معتبرا شرعا في حق الحكم

والفاسد ما كان مشروعا في نفسه فائت المعنى من وجه لملازمة ما ليس بمشروع إياه بحكم الحال مع تصور الانفصال في الجملة

والباطل ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة

إما لانعدام معنى التصرف كبيع الميتة والدم أو لانعدام أهلية المتصرف كبيع الصبي والمجنون وقد يطلق الفاسد على الباطل وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى الباطل والفاسد اسمان مترادفان لما ليس بصحيح وهذا اصطلاح لا معنى للاحتجاج عليه نفيا وإثباتا

ولقائل أن يقول إذا كانت الصحة عبارة عن كون الفعل موصلا إلى المقصود لم تكن مقابلة للفساد بل أعم منه لأن الصلاة الفاسدة توجب تفريغ الذمة بحيث لا يجب قضاؤها والبيع الفاسد يوجب الملك فينبغي أن يكون صحيحا بل نافذا لترتب الأثر عليه ثم على ما ذكره النافذ أعم من اللازم والمنعقد أعم من النافذ ولا يظهر فرق بين الصحيح والنافذ

قوله فالفعل فرض فيه إشارة إلى أن المتصف بالحرمة والوجوب ونحوهما هو فعل المكلف والحكم الذي بمعنى الخطاب إنما هو الإيجاب والتحريم ونحوهما والذي هو بمعنى أثر الخطاب هو الوجوب والحرمة ونحوهما وهذا التقسيم وقع للفعل أولا بالذات ويفهم منه تقسيم الحكم وكذا يفهم منه تعريف الفرض والواجب والحرام ونحو ذلك وتعريف الفرضية والوجوب والحرمة ونحوها ومعنى أولوية الفعل أو الترك أولويته عند الشارع بالنص عليه أو على دليله

وفي إطلاق الأولوية على ما هو لازم يمتنع نقيضه كالفرض والواجب والحرام نوع تسامح والمراد باستواء الفعل والترك في المباح استواؤهما في نظر الشارع بأن يحكم بذلك صريحا أو دلالة بقرينة أن الكلام في متعلق الحكم الشرعي فيخرج فعل البهائم والصبيان والمجانين ونحو ذلك

فإن قلت

(٢/٢٥٧)

جميع ذلك من أقسام ما يعتبر فيه المقاصد الأخروية وليس في هذه التعريفات إشارة إلى ذلك

قلت يجوز أن تكون التعريفات المذكورة رسوما لا حدودا ولو سلم ففي الأولوية والاستواء إشارة إلى معنى الثواب والعقاب

فإن قلت قد يكون الوجوب والحرمة ونحو ذلك من أقسام ما هو أثر لفعل المكلف لا صفة له كإباحة الانتفاع الثابتة بالبيع وحرمة الوطء الثابتة بالطلاق

قلت هي من صفاته أيضا إذ الانتفاع والوطء فعل المكلف ولا منافاة بين كون الحكم صفة لفعل المكلف وأثرا له ثم لا يخفى أن الحكم الغير الأصلي أعني الذي يبتنى على أعذار العباد أيضا يتصف بهذه الأحكام كالرخصة الواجبة أو المندوبة أو المباحة فلا معنى للتخصيص بالحكم الأصلي

(٢/٢٥٨)

قوله فالفرض لازم علما أي يلزم اعتقاد حقيته والعمل بموجبه لثبوته بدليل قطعي حتى لو أنكره قولا أو اعتقادا كان كافرا والواجب لا يلزم اعتقاد حقيته لثبوته بدليل ظني ومبنى الاعتقاد على اليقين لكن يلزم العمل بموجبه للدلائل الدالة على وجوب اتباع الظن فجاحده لا يكفر وتارك العمل به إن كان مؤولا لا يفسق ولا يضلل لأن التأويل في مظانه من سيرة السلف وإلا فإن كان مستخفا يضلل لأن رد خبر الواحد والقياس بدعة وإن لم يكن مؤولا ولا مستخفا يفسق لخروجه عن الطاعة بترك ما وجب عليه وإلى هذا أشار بقوله ويعاقب تارك الفرض والواجب للآيات والأحاديث الدالة على وعيد العصاة إلا أن يعفو اللّه تعالى بفضله وكرمه أو بتوبة العاصي وندمه للنصوص الدالة على العفو والمغفرة ولأنه حق اللّه تعالى فيجوز له العفو وعند المعتزلة لا عفو ولا غفران بدون التوبة وهي مسألة وجوب الثواب والعقاب على اللّه تعالى

قوله والشافعي رحمه اللّه تعالى لم يفرق بين الفرض والواجب لا نزاع للشافعي رحمه اللّه تعالى في تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة ولا في تفاوت ما ثبت بدليل قطعي كمحكم الكتاب وما ثبت بدليل ظني كمحكم خبر الواحد في الشرع فإن جاحد الأول كافر دون الثاني وتارك العمل بالأول مؤولا فاسق دون الثاني وإنما يزعم أن الفرض والواجب لفظان مترادفان منقولان من معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذم تاركه شرعا سواء ثبت ذلك بدليل قطعي أو ظني وهذا مجرد اصطلاح فلا معنى للاحتجاج بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد يوجب التفاوت بين مدلوليهما أو بأن الفرض في اللغة التقدير والوجوب هو السقوط

فالفرض ما علم قطعا أنه مقدر علينا والواجب ما سقط علينا بطريق الظن فلا يكون المظنون مقدرا ولا معلوم القطعي ساقطا علينا

على أن للخصم أن يقول لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي فلا نسلم امتناع أن يثبت كون الشيء مقدرا علينا بدليل ظني وكونه ساقطا علينا بدليل قطعي ألا يرى

(٢/٢٥٩)

إلى قولهم الفرض أي المفروض المقدر في المسح هو الربع وأيضا الحق أن الوجوب في اللغة هو الثبوت

وأما مصدر الواجب بمعنى الساقط والمضطرب فإنما هو الوجبة والوجيب ثم استعمال الفرض فيما ثبت بدليل ظني والواجب فيما ثبت بقطعي شائع مستفيض كقولهم الوتر فرض وتعديل الأركان فرض ونحو ذلك ويسمى فرضا عمليا وكقولهم الصلاة واجبة والزكاة واجبة ونحو ذلك وإلى هذا أشار بقوله وقد يطلق الواجب عندنا على المعنى الأعم أيضا فلفظ الواجب يقع على ما هو فرض علما وعملا كصلاة الفجر وعلى ظني هو في قوة الفرض في العمل كالوتر عند أبي حنيفة رحمه اللّه حتى يمتنع تذكره صحة الفجر كتذكر العشاء وعلى ظني هو دون الفرض في العمل وفوق السنة كتعين الفاتحة حتى لا تفسد الصلاة بتركها لكن يجب سجدة السهو

قوله والسنة المطلقة كما إذا قال الراوي من السنة كذا يحمل عند الشافعي رحمه اللّه وكثير من أصحاب أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى على سنة النبي عليه الصلاة والسلام وعند جمع من المتأخرين وهو اختيار فخر الإسلام رحمه اللّه تطلق عليها وعلى غيرها ولا تنصرف إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام بدون قرينة بدليل قولهم سنة العمرين ولا يخفى أن الكلام في السنة المطلقة وهذه مقيدة وبهذا يخرج الجواب عن

قوله عليه السلام من سن سنة حسنة الحديث فإن

قوله عليه السلام من سن سنة قرينة صارفة عن التخصيص بالنبي عليه السلام ولا نزاع في صحة إطلاق السنة على الطريقة على ما هو المدلول اللغوي ولا خفاء في أن المجرد عن القرائن ينصرف في الشرع إلى سنة النبي عليه السلام للعرف الطارئ كالطاعة تنصرف إلى طاعة اللّه تعالى وطاعة رسوله وقد يراد بالسنة ما ثبت بالسنة كما روي عن أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى أن الوتر سنة وعليه يحمل قولهم عيدان اجتمعا أحدهما فرض والآخر سنة أي واجب بالسنة

قوله والنفل يثاب فاعله أي يستحق الثواب ولا يذم تاركه جعله حكم النفل وبعضهم تعريفه وأورد عليه صوم المسافر والزيادة على ثلاث آيات في قراءة الصلاة فإن كلا منهما يقع فرضا

(٢/٢٦٠)

ولا يذم تاركه

وأجيب عن الأول بأن المراد الترك مطلقا وعن الثاني بأن الزيادة قبل تحققها كانت نفلا فانقلبت فرضا بعد التحقق لدخولها تحت

قوله تعالى فاقرءوا ما تيسر كالنافلة بعد الشروع تصير فرضا حتى لو أفسدها يجب القضاء ويعاقب على تركها ذكره أبو اليسر والنفل دون سنن الزوائد لأنها صارت طريقة مسلوكة في الدين وسيرة للنبي عليه السلام بخلاف النفل

قوله وهو أي النفل لا يلزم بالشروع عند الشافعي رحمه اللّه تعالى حتى لو لم يمض فيه لا يؤاخذ بالقضاء ولا يعاقب على تركه لأن حكم النفل التخيير فيه فإذا شرع فهو مخير فيما لم يأت تحقيقا لمعنى النفلية إذ النفل لا ينقلب فرضا وإتمامه لا يكون إسقاطا للواجب بل أداء للنفل ولهذا يباح الإفطار بعذر الضيافة وإذا كان مخيرا فيما لم يأت فله تركه تحقيقا لمعنى التخيير وحينئذ يلزم بطلان المؤدى ضمنا وتبعا لا قصدا فلا يكون إبطالا لخلوه عن القصد كمن سقى زرعه ففسد زرع الغير بالنز فإنه لا يجعل إتلافا وجوابه منع التخيير في النفل بعد الشروع فإنه عين النزاع وعندنا النفل يلزم بالشروع حتى يجب المضي فيه ويعاقب على تركه لوجوه الأول

قوله تعالى لا تبطلوا أعمالكم وفي عدم الإتمام إبطال للمؤدى

فإن قيل لا إبطال وإنما هو بطلان أدى إليه أمر مباح له هو ترك النفل

قلنا لا معنى للإبطال هاهنا إلا فعل يحصل به البطلان كشق زق مملوك له فيه ماء لغيره ولا شك أن بطلان ما أتى به من النفل إنما حصل بفعله المناقض للعبادة إذ لم يوجد شيء سواه بخلاف فساد زرع الغير فإنه يضاف إلى رخاوة الأرض لا إلى فعله الذي هو سقي أرضه

الثاني أن الجزء الذي أداه صار عبادة اللّه تعالى حقا له فتجب صيانته لأن التعرض لحق الغير بالإفساد حرام ولا طريق إلى صيانة المؤدى سوى لزوم الباقي إذ لا صحة له بدون الباقي لأن الكل عبادة واحدة بتمامها يتحقق استحقاق الثواب

لا يقال صحة الأجزاء المتأخرة وكونها عبادة متوقفة على صحة الأجزاء المتقدمة وكونها عبادة فلو توقفت هي عليها لزم الدور لأنا نقول هو دور معية بمنزلة المتضايفين كالأبوة والبنوة يتوقف كل منهما على الآخر وإن كان ذات الأب متقدما فكذا هاهنا يتوقف صحة كل جزء على صحة الجزء الآخر مع تقدم ذات بعض الأجزاء

وقد يقال إن

(٢/٢٦١)

الجزء الأول ينعقد عبادة لكونه فعلا قصد به التقرب إلى اللّه تعالى لكن بقاء هذا الوصف يتوقف على انعقاد الجزء الثاني عبادة وانعقاد الجزء الثاني عبادة يتوقف على تحقق الجزء الأول لا على وصف كونه عبادة فالموقوف على الأجزاء الباقية هو بقاء صحة المؤدى وكونه عبادة لا صيرورته عبادة والموقوف على صحة المؤدى هو صيرورة الأجزاء الباقية عبادة فلا دور

فإن قيل بعد الشروع في الجزء الثاني لم يبق الجزء الأول نفسه فضلا عن وصف الصحة والعبادة

قلنا هذه اعتبارات شرعية حيث ثبت بالنص والإجماع الحكم بالبقاء والإحباط ونحو ذلك

فإن قيل فمن مات في أثناء العبادة ينبغي أن لا يثاب لعدم تحقق شرط بقاء المؤدى عبادة

قلنا الموت منه لا مبطل فجعل العبادة كأنها هذا القدر بمنزلة تمام عبادة الحي للدلائل الدالة على كونه عبادة

فإن قيل هب أن صيانة المؤدى تقتضي لزوم الباقي لكن كون الباقي نفلا مخيرا فيه يقتضي جواز إبطال المؤدى فتعارضا فالجواب أن الترجيح بالمؤدى أولى من العكس أي صيانة المؤدى أولى من إبطاله احتياطا في باب العبادات وصونا لها عن البطلان وأيضا المؤدى قائم حكما بدليل احتمال البقاء والبطلان فيترجح على ما هو منعدم حقيقة وحكما وهو غير المؤدى

الثالث أن المنذر قد صار للّه تعالى تسمية بمنزلة الوعد فيكون أدنى حالا مما صار للّه تعالى فعلا وهو المؤدى ثم إبقاء الشيء وصيانته عن البطلان أسهل من ابتداء وجوده وإذا وجب أقوى الأمرين وهو ابتداء الفعل لصيانة أدنى الشيئين وهو ما صار للّه تعالى تسمية فلأن يجب أسهل الأمرين وهو إبقاء الفعل لصيانة أقوى الشيئين وهو ما صار للّه تعالى فعلا أولى

قوله والحرام قد يضاف الحل والحرمة إلى الأعيان كحرمة الميتة والخمر والأمهات ونحو ذلك وكثير من المحققين على أنها مجاز من باب إطلاق اسم الحل على الحال أو هو مبني على حذف المضاف أي حرم أكل الميتة وشرب الخمر ونكاح الأمهات لدلالة العقل على الحذف

والمقصود أظهر على تعيين المحذوف لأن الحل والحرمة من الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال

(٢/٢٦٢)

العباد والمقصود الأظهر من اللحوم أكلها ومن الأشربة شربها ومن النساء نكاحهن

وذهب بعضهم إلى أنها حقيقة لوجهين أحدهما أن معنى الحرمة هو المنع ومنه حرم مكة وحريم البئر فمعنى حرمة الفعل كونه ممنوعا بمعنى أن المكلف منع عن اكتسابه وتحصيله ومعنى حرمة العين أنها منعت من العبد تصرفاته فيها فحرمة الفعل من قبيل منع الرجل عن الشيء كما نقول للغلام لا تشرب هذا الماء ومعنى حرمة العين منع الشيء عن الرجل بأن يصب الماء مثلا وهو أوكد

وثانيهما أن معنى حرمة العين خروجها عن أن تكون محلا للفعل شرعا كما أن معنى حرمة الفعل خروجه عن الاعتبار شرعا فالخروج عن الاعتبار شرعا متحقق فيهما فلا يكون مجازا وخروج العين عن أن تكون محلا للفعل يستلزم منع الفعل بطريق أوكد وألزم بحيث لا يبقى احتمال الفعل أصلا فنفي الفعل فيه وإن كان تبعا أقوى من نفيه إذا كان مقصودا ولما لاح على هذا الكلام أثر الضعف بناء على أن الحرمة في الشرع قد نقلت عن معناها اللغوي إلى كون الفعل ممنوعا عنه شرعا أو كونه بحيث يعاقب فاعله وكان مع ذلك إضافة الحرمة إلى بعض الأعيان مستحسنة جدا كحرمة الميتة والخمر دون البعض كحرمة خبز الغير سلك المصنف رحمه اللّه تعالى في ذلك طريقة متوسطة وهو أن الفعل الحرام نوعان أحدهما ما يكون منشأ حرمته عين ذلك المحل كحرمة أكل الميتة وشرب الخمر ويسمى حراما لعينه

والثاني ما يكون منشأ الحرمة غير ذلك المحل كحرمة أكل مال الغير فإنها ليست لنفس ذلك المال بل لكونه ملك الغير فالأكل محرم ممنوع لكن المحل قابل للأكل في الجملة بأن يأكله مالكه بخلاف الأول فإن المحل قد خرج عن قابلية الفعل ولزم من ذلك عدم الفعل ضرورة عدم محله ففي الحرام لعينه المحل أصل والفعل تبع بمعنى أن المحل أخرج أولا من قبول الفعل ومنع ثم صار الفعل ممنوعا ومخرجا عن الاعتبار فحسن نسبة الحرمة وإضافتها إلى المحل دلالة على أنه غير صالح للفعل شرعا حتى كأنه الحرام نفسه ولا يكون ذلك من إطلاق المحل وإرادة الفعل الحال فيه بأن يراد بالميتة أكلها لما في ذلك من فوات الدلالة على خروج المحل عن صلاحية الفعل بخلاف الحرام لغيره فإنه إذا أضيف الحرمة فيه إلى المحل يكون على حذف المضاف أو على إطلاق المحل على الحال

فإذا

(٢/٢٦٣)

قلنا الميتة حرام فمعناه أن الميتة منشأ الحرمة أكلها وإذا

قلنا خبز الغير حرام فمعناه أن أكله حرام

إما مجازا أو على حذف المضاف كما في

قوله تعالى واسأل القرية يحمل تارة على حذف المضاف أي أهل القرية وتارة على أن القرية مجاز عن الأهل إطلاقا للمحل على الحال وهما متقاربان وذكر في الأسرار أن الحل والحرمة صفتا فعل لا صفتا محل الفعل لكن متى ثبت الحل أو الحرمة لمعنى في العين أضيف إليها لأنها سببه كما يقال جرى النهر لأنه سبيل الجريان وطريق يجرى فيه فيقال حرمت الميتة لأنها حرمت لمعنى فيها ولا يقال حرمت شاة الغير لأن الحرمة هناك لاحترام المالك

قوله وهو إلى الحل أقرب بمعنى أنه لا يعاقب فاعله أصلا لكن يثاب تاركه أدنى ثواب ومعنى القرب إلى الحرمة أنه يتعلق به محذور دون استحقاق العقوبة بالنار كحرمة الشفاعة فترك الواجب حرام يستحق العقوبة بالنار وترك السنة المؤكدة قريب من الحرام يستحق حرمان الشفاعة لقوله عليه السلام من ترك سنتي لم ينل شفاعتي وعن محمد ليس المكروه كراهة التحريم إلى الحرام أقرب بل هو حرام ثبتت حرمته بدليل ظني فعنده ما لزم تركه إن ثبت ذلك بدليل قطعي يسمى حراما وإلا يسمى مكروها كراهة التحريم كما أن ما لزم الإتيان به إن ثبت ذلك فيه بدليل قطعي يسمى فرضا وإلا يسمى واجبا

قوله

وأما الثاني من قسمي ما يعتبر فيه أولا المقاصد الأخروية فيسمى رخصة ويقابلها العزيمة فحرمة إجراء كلمة الكفر على اللسان عزيمة لأنه حكم أصلي وإباحتها للمكره رخصة لأنه غير أصلي بل مبني على أعذار العباد

فإن قيل الرخصة قد تتصف بالإباحة والندب والوجوب وهي من أقسام الحكم الأصلي فيلزم كونها حكما أصليا وغير أصلي ولا مجال لتغاير الاعتبار لأن الرخصة ليست حكما أصليا بشيء من الاعتبارات

أجيب بأن تخصيص الوجوب والحرمة ونحوهما مما يكون حكما أصليا إنما هو فيما يكون بطريق الرخصة والحق أنه مما تفرد به المصنف رحمه اللّه تعالى وهو يخالف اصطلاح القوم وإنما وقع فيه اختراع التقسيم الحاصر

وأما كون الرخصة

(٢/٢٦٤)

مما يتعلق به مقصود أخروي بمعنى أنه يعتبر ذلك في مفهومه اعتبارا أوليا فيظهر بالتأمل في عبارات القوم في تفسيرها ففي أصول الشافعية إن الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المحرم لولا العذر لثبتت الحرمة والعزيمة بخلافه وحاصله أن دليل الحرمة إذا بقي معمولا به وكان التخلف عنه لمانع طارئ في حق المكلف لولاه لثبتت الحرمة في حقه فهو الرخصة فخرج الحكم بحل الشيء ابتداء أو نسخا لتحريم أو تخصيصا من نص محرم

وذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن العزيمة اسم لما هو أصل من الأحكام غير متعلق بالعوارض

والرخصة اسم لما بني على أعذار العباد وهو ما يستباح مع قيام المحرم وذكر أبو اليسر أن الرخصة ترك المؤاخذة بالفعل مع قيام المحرم وحرمة الفعل وترك المؤاخذة بترك الفعل مع وجود الموجب والوجوب وفي الميزان أن الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفها وتوسعة على أصحاب الأعذار وقال العزيمة ما لزم العباد بإيجاب اللّه تعالى والرخصة ما وسع للمكلف فعله بعذر مع قيام المحرم

قوله وهي

إما فرض حصر العزيمة في الفرض والواجب والسنة والنفل يعني قبل ورود الرخصة

وأما بعده فقد تكون العزيمة حراما كصوم المريض إذا خاف الهلاك فإن تركه واجب فعلى هذا لا تكون العزيمة قبل ورود الرخصة مباحا ولا حراما ولا مكروها

أما الأول فلأنها لو كانت مباحا لكانت الرخصة أيضا مباحا وحينئذ لا يكون أحدهما أصليا والآخر مبنيا على أعذار العباد

وأما الثاني والثالث فلأن الحكم الأصلي لو كان حرمة أو كراهة لكان الطرف المقابل في أصله وجوبا أو ندبا وهو لا يصلح للابتناء على أعذار العباد إذ المناسب للعذر هو الترفيه والتوسعة لا التضييق فلا يكون رخصة فلا يكون الحكم الأصلي الذي هو الحرمة أو الكراهة عزيمة لأنها إنما تكون في مقابلة الرخصة فالحاصل أن الطرف الذي تعلق به العزيمة لا بد وأن يكون راجحا على الطرف الآخر الذي تتعلق به الرخصة لا مساويا له ليكون مباحا ولا مرجوحا ليكون حراما أو مكروها والراجح

إما فرض أو واجب أو سنة أو نفل كذا ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى

وفيه نظر

أما أولا فلأنا لا نسلم أن العزيمة لو كانت إباحة لكانت الرخصة أيضا كذلك لجواز أن يكون وجوبا أو ندبا إذ العذر قد يناسبه الإيجاب كأكل ماله عند خوف تلف نفسه

وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن العزيمة لو كانت حرمة أو كراهة لكان الطرف الآخر وجوبا أو ندبا لجواز أن يكون إباحة كما في إجراء كلمة الكفر على اللسان فإنه حرام ويباح عند الإكراه

وكثير من الرخص بهذه المثابة ولو سلم فلا نسلم أن الوجوب أو الندب لا يناسب الابتناء على الأعذار كوجوب أكل الميتة عند

(٢/٢٦٥)

الاضطرار أو ندب إفطار المريض عند بعض الأضرار لا يقال العزيمة في جميع ذلك ترجع الوجوب كوجوب ترك إجراء كلمة الكفر ووجوب ترك أكل الميتة ونحو ذلك فإن الفرض قد يكون هو الفعل كالصوم وقد يكون هو الترك كترك إجراء كلمة الكفر وأكل الميتة لأنا نقول هذا تأويل لا ضرورة إليه ومع ذلك فهو غير مفيد لأن الكلام في حكم إجراء كلمة الكفر وأكل الميتة ولا شك أنه الحرمة لا الوجوب واستلزامه لوجوب الترك لا ينفي كونه الحرمة وإلا لارتفعت الحرمة من بين الأحكام

والحق أن العزيمة تشتمل الأحكام كلها على ما قال صاحب الميزان بعد تقسيم الأحكام إلى الفرض والواجب والسنة والنفل والمباح والحرام والمكروه وغيرها إن العزيمة اسم للحكم الأصلي في الشرع على الأقسام التي ذكرنا من الفرض والواجب والسنة والنفل ونحوها

قوله

أما الأول فما استبيح مع قيام المحرم والحرمة كلامه في هذا التقسيم مشعر بانحصار حقيقة الرخصة في الإباحة ويلزمه انحصار العزيمة في الحرمة لأنها تقابلها ويمكن أن يقال المراد بالاستباحة هاهنا مجرد تجويز الفعل أعم من أن يكون بطريق التساوي أو بدونه فيشمل الواجب

(٢/٢٦٦)

والمندوب والمباح والمراد بالحرمة والتحريم في الرخصة أعم من أن يكون في جانب الفعل أو في جانب الترك فيشمل الفرض والواجب أيضا كما أن المراد بالفرض والواجب في

قوله وهي فرض وواجب وسنة ونفل أعم من أن يكون ذلك في طرف الفعل أو طرف الترك ليشمل الحرام ولا يكون بين الكلامين منافاة

نعم يتوجه أن يقال يلزم انحصار العزيمة في الفرض والواجب والحرام وهذا ينافي ما سبق من أنها قد تكون سنة أو نفلا كما إذا كان الحكم الأصلي في صلاة نفل أو سنة كونها مندوبة فإذا عرضت حالة لم تبق تلك الصلاة معها مندوبة كحالة الخوف مثلا فيكون تركها رخصة أو حكما مبنيا على أعذار العباد ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد بالحرمة المنع أعم من أن يكون بطريق اللزوم أو الرجحان وحينئذ لا يرد الإشكال

فإن قيل الاستباحة مع قيام المحرم والحرمة توجب اجتماع الضدين وهما الحرمة والإباحة في شيء واحد

أجيب بأن معنى الاستباحة في القسم الأول أن يعامل معاملة المباح بترك المؤاخذة

وترك المؤاخذة لا يوجب سقوط الحرمة كمن ارتكب كبيرة فعفي عنه

فإن قيل المحرم قائم في القسمين جميعا فكيف اقتضى تأييد الحرمة في الأول دون الثاني

قلنا العلل الشرعية أمارات جاز تراخي الحكم عنها وقد ورد النص بذلك فيحتمله بخلاف أدلة وجوب الإيمان فإنها عقلية قطعية لا يتصور فيها التراخي عقلا ولا شرعا فتقوم الحرمة بقيامها وتدوم بدوامها

قوله لكن حقه أي حق العبد يفوت صورة بخراب البنية ومعنى بزهوق الروح أي خروجه من البدن

قوله حسبة أي طلبا للثواب وهي اسم من الاحتساب وإنما كان الأخذ بالعزيمة أولى لما فيه من رعاية حق اللّه صورة ومعنى بتفويت حق نفسه صورة ومعنى ولما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فقال لأحدهما ما تقول في محمد قال رسول اللّه قال فما تقول في قال أنت أيضا فخلاه

وقال للآخر ما تقول في محمد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فما تقول في قال أنا أصم فأعاد عليه ثلاثا فأعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال

أما الأول فقد أخذ برخصة اللّه تعالى

وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له

(٢/٢٦٧)

قوله وكذا الأمر بالمعروف نبه بهذا المثال على أن المراد بقيام المحرم أعم من أن ترجح الحرمة إلى الفعل كإجراء كلمة الكفر أو إلى الترك كما في الأمر بالمعروف فإنه فرض بالدلائل الدالة عليه فيكون تركه حراما ويستباح له الترك إذا خاف على نفسه لأن حق اللّه تعالى إنما يفوت صورة لا معنى لبقاء اعتقاد الفرضية

وفي أكل مال الغير المحرم وهو ملك الغير قائم والحرمة باقية لكن حق الغير لا يفوت إلا صورة لانجباره بالضمان فيستباح عند الإكراه

وفي التمثيل به إشارة إلى أن النصوص الدالة على أولوية الأخذ بالعزيمة وإن وردت في العبادات وفيما يرجع إلى إعزاز الدين لكن حق العباد أيضا كذلك قياسا عليه لما في ذلك من إظهار التصلب في الدين ببذل نفسه في الاجتناب عن المحرمات ولذا قال محمد رحمه اللّه تعالى فيه كان مأجورا إن شاء اللّه تعالى وكذا في الإفطار والحرمة باقية لقيام المحرم وهو شهود الشهر من غير سفر ومرض فتوجه الخطاب

أما لو كان مريضا أو مسافرا فأكره على الإفطار فامتنع حتى قتل كان آثما لأنه إكراه على المباح كالمضطر إذا ترك أكل الميتة حتى مات

قوله والعزيمة أولى عندنا إشارة إلى ما ذكره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن العمل بالرخصة أولى عند الشافعي رحمه اللّه تعالى وقيده صاحب الكشف بأحد القولين

والحق أن الصوم أفضل عنده قولا واحدا عند عدم التضرر حتى أنه وقع في منهاج الأصول أن الإفطار مباح بمعنى أنه مساو للصوم فاعترضوا عليه بأن لا يظفر برواية تدل على تساويهما بل الإفطار أفضل إن تضرر وإلا فالصوم من غير اختلاف رواية

قوله بخلاف الفصل الأول أي الإكراه على الإفطار فإن المكره إذا لم يفطر حتى قتل لم يكن قاتل نفسه لأن القتل صدر من المكره الظالم والمكره المظلوم في صبره مستديم للعبادة مستقيم على الطاعة فيؤجر

قوله من الإصر هو الثقل الذي يأصر صاحبه أن يحبسه من الحراك إنما جعل مثلا لثقل تكليفهم وصعوبته

مثل اشتراط قتل النفس في صحة توبتهم وكذا الأغلال مثل لما كانت في شرائعهم من الأشياء الشاقة كجزم الحكم بالقصاص عمدا كان القتل أو خطأ وقطع الأعضاء الخاطئة أو قرض موضع النجاسة ونحو ذلك مما كانت في الشرائع السالفة فمن حيث إنها كانت واجبة على غيرنا ولم تجب علينا توسعة وتخفيفا شابهت الرخصة فسميت بها لكن لما كان السبب معدوما في

(٢/٢٦٨)

حقنا والحكم غير مشروع أصلا لم تكن حقيقة بل مجازا فقوله لأن الأصل لم يبق مشروعا أصلا دليل على صحة تسميته رخصة وعلى كونه مجازا كاملا لا حقيقة و

أما الأول فلأنه كان مشروعا فلم يبق

وأما الثاني فلأنه لم يبق مشروعا بالنسبة إلى أحد بخلاف النوع الأخير فإن العزيمة فيها بقيت مشروعة في الجملة وبخلاف ما إذا حرم الصوم على المريض الذي يخاف التلف فإنه صار غير مشروع في حقه لا غير

قوله فمن حيث إنه سقط كان مجازا

فإن قلت ففي القسم الثاني أيضا سقط الحكم فينبغي أن يكون مجازا

قلت لا تراخي بعذر فالموجب قائم والحكم متراخ وهاهنا الحكم ساقط بسقوط السبب الموجب محل الرخصة إلا أنه بقي مشروعا في الجملة بخلاف الفصل الثالث أي النوع الثالث من الأنواع الأربعة فإن الحكم لم يبق مشروعا أصلا فكان كاملا في المجازية بعيدا عن الحقيقة

قوله كقول الراوي نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم فمن حيث إن العينية غير مشروعة في السلم حتى يفسد السلم في المعين كانت الرخصة مجازا ومن حيث إن العينية مشروعة في البيع في الجملة كان له شبه بحقيقة الرخصة

قوله فإن الأصل في البيع أن يلاقي عينا لتتحقق القدرة على التسليم ولأنه عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان وعن بيع الكالئ بالكالئ ففي هذا بيان لكونه السلم حكما غير أصلي لتحقق كونه رخصة وإنما لم يبق التعيين في السلم مشروعا لأنه إنما يكون للعجز عن التعيين وإلا لباعه مساومة من غير وكس في الثمن

(٢/٢٦٩)

قوله وكذا أكل الميتة وشرب الخمر حال الاضطرار فإن المختار عند الجمهور أنه مباح والحرمة ساقطة إلا أنه حرام رخص فيه بمعنى ترك المؤاخذة إبقاء للمهجة كما في إجراء كلمة الكفر وأكل مال الغير على ما ذهب إليه البعض

أما في أكل الميتة فلأن النص المحرم لم يتناولها حال الاضطرار لكونها مستثناة فبقيت مباحة بحكم الأصل وبمثل

قوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا بل عند القائلين بأن الاستثناء من الإثبات نفي يكون النص دالا على عدم حرمتها عند الاضطرار وذلك أن

قوله تعالى إلا ما اضطررتم استثناء وإخراج عن الحكم الذي هو الحرمة لأن المستثنى منه هو الضمير المستتر في حرم أي قد فصل لكم الأشياء التي حرم أكلها إلا ما اضطررتم إليه فإنه لم يحرم

ويحتمل أن يكون مفرغا على أن ما في ما اضطررتم مصدرية وضمير إليه عائد إلى ما حرم أي فصل لكم ما حرم عليكم في جميع الأحوال إلا في حال اضطراركم إليه ولا يجوز أن يكون المستثنى منه ما حرم ليكون الاستثناء إخراجا عن حكم التفصيل لا عن حكم التحريم لأن المقصود بيان الأحكام لا الإخبار عن عدم البيان

لا يقال ينبغي أن يكون إجراء كلمة الكفر أيضا مباحا لقوله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان لأنا نقول هو الاستثناء من إلزام الغضب لا من التحريم فغايته أن يفيد نفي الغضب على المكره لا عدم الحرمة

فإن قلت ذكر المغفرة في

قوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن اللّه غفور رحيم مشعر بأن الحرمة باقية وأن المنفي هو الإثم والمؤاخذة

قلت يجوز أن يكون ذكر المغفرة باعتبار ما يقع من تناول القدر الزائد على ما يحصل به إبقاء المهجة إذ يعتبر على المضطر رعاية قدر الإباحة

وأما في شرب الخمر فلأن حرمتها لصيانة العقل أي القوة المميزة بين الأشياء الحسنة والقبيحة ولا يبقى ذلك عند فوات النفس أي البنية الإنسانية لفوات القوى القائمة بها عند فواتها وانحلال تركيبها وإن كانت النفس الناطقة التي هي الروح باقية وذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن حرمة الميتة لصيانة النفس عن تغذي خبث الميتة لقوله تعالى ويحرم عليهم الخبائث فإذا خاف بالامتناع فوات النفس لم يستقم صيانة البعض بفوات الكل إذ في فوات الكل فوات البعض وكأنه أراد بالنفس أولا البدن وثانيا المجموع المركب من البدن والروح وبفواتها مفارقة الروح وانحلال تركيب البدن

(٢/٢٧٠)

قوله روي عن عمر رضي اللّه تعالى عنه الراوي هو علي بن ربيعة الوالبي قال سألت عمر رضي اللّه تعالى عنه ما بالنا نقصر الصلاة ولا نخاف شيئا وقد قال اللّه تعالى إن خفتم فقال أشكل علي ما أشكل عليك فسألت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال إن هذه صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته فقوله هذه إشارة إلى الصلاة المقصورة أو إلى قصر الصلاة والتأنيث باعتبار كونه صدقة وقوله فاقبلوا معناه اعملوا بها واعتقدوها كما يقال فلان قبل الشرائع

وذكر الإمام الواحدي بإسناده إلى يعلى بن أمية أنه قال

قلت لعمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه فيم إقصار الناس الصلاة اليوم وإنما قال اللّه تعالى إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد ذهب ذلك اليوم فقال عجبت منه فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال هذه صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته ثم إن سؤال عمر رحمه اللّه تعالى وتعجبه وإشكال الأمر عليه مما يستدل به على أنه فهم من التعليق بالشرط انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط وأنه إنما سأل لكون العمل واقعا على خلاف ما فهمه

وأجيب بأن السؤال يجوز أن يكون بناء على اعتقاده استصحاب وجوب الإتمام لا على أنه مفهوم من التقييد بالشرط ولا يخفى أن سياق القصة مشعر بأنه كان مبنيا على مفهوم الشرط والمصنف رحمه اللّه تعالى لم يرض رأسا برأس حتى جعل سؤال عمر رضي اللّه تعالى عنه دليلا على أن التعليق بالشرط لا يدل على عدم الحكم عند عدم الشرط إذ لو كان دالا عليه لفهمه ولم يسأله وهو ممنوع لجواز أن يكون للسؤال بناء على وقوع العمل على خلاف ما فهمه كما يشعر به سياق القصة وكذا استدلاله بالآية أيضا ضعيف لما تقدم من أن القول بمفهوم الشرط إنما يكون إذا لم تظهر له فائدة أخرى مثل الخروج مخرج الغالب كما في هذه الآية فإن الغالب من أحوالهم في ذلك الوقت كان الخوف

وكذا

قوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا فإن الغالب أن الإنسان إنما يكاتب العبد إذا علم فيه خيرا وذهب فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى إلى أن انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لازم ألبتة وإن لم يكن مدلول اللفظ وإلا لكان التقييد بالشرط لغوا وأن في آية الكتابة المعلق بالشرط هو استحباب الكتابة وهو منتف عند عدم الخير في المكاتب وفي آية لقصر المراد قصر الأحوال كالإيجاز في القراءة والتخفيف في الركوع والسجود والاكتفاء بالإيماء ولا يخفى ضعفه كيف والأئمة كالمجمعين على أن الآية في قصر أجزاء الصلاة

قوله والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط لا يحتمل الرد احترز بقوله ما لا يحتمل

(٢/٢٧١)

التمليك عن التصدق بالعين المحتملة للتمليك وعن التصدق بالدين على من عليه الدين لأن الدين يحتمل التمليك ممن عليه الدين

قوله ولأن الخيار إنما يثبت للعبد إذا تضمن رفقا لا يرد عليه تخيير العبد المأذون بين الجمعة والظهر لأن في كل منهما رفقا من وجه

أما في الجمعة فباعتبار قصر الركعتين

وأما في الظهر فباعتبار عدم الخطبة والسعي ولا يرد تخيير من قال إن دخلت الدار فعلي صوم سنة فدخل فهو مخير بين صوم السنة وفاء بالنذر وبين صوم ثلاثة أيام كفارة لأن الصومين مختلفان معنى لأن صوم السنة قربة مقصودة خالية عن معنى الزجر والعقوبة وصوم الثلاثة كفارة متضمنة معنى العقوبة والزجر فيصح التخيير طلبا للأرفق ولا يرد التخيير بين الركعتين والأربع قبل العصر وبعد العشاء لأن الثنتين أخف عملا والأربع أكثر ثوابا بخلاف القصر والإتمام فإنهما متساويان في الثواب الحاصل بأداء الفرض والقصر متعين للرفق فلا فائدة في التخيير وإنما قيد الثواب بما يكون بأداء الفرض لجواز أن يكون الإتمام أكثر ثوابا باعتبار كثرة القراءة والأذكار كما إذا طول إحدى الفجرين وأكثر فيها القراءة والأذكار وكلامنا إنما هو في أداء الفرض

قوله على ما ذكرنا في باب القياس إشارة إلى أن المراد بتأثير الشيء هاهنا هو اعتبار الشارع إياه بحسب نوعه أو جنسه القريب في الشيء الآخر لا الإيجاد كما في العلل العقلية ثم لا يخفى أن العمدة في مثل هذه التقسيمات هو الاستقراء والمذكور في بيان وجه الانحصار إنما هو مجرد الضبط وإلا فالمنع وارد على

قوله وإلا فلا أقل من أن يدل عليه لجواز التعليق بوجوه أخر مثل المانعية كتعلق النجاسة بصحة الصلاة ثم بعدما فسر ركن الشيء بما هو داخل فيه لا معنى لتفسيره

(٢/٢٧٢)

بما يقوم به الشيء لأنه تفسير بالأخفى مع أنه يصدق على المحل الذي يقوم به الحال كالجوهر للعرض

قوله وقد شنع بعض الناس

وجه التشنيع بحسب الظاهر لأن قولنا ركن زائد بمنزلة قولنا ركن ليس بركن لأن معنى الركن ما يدخل في الشيء ومعنى الزائد ما لا يدخل فيه بل يكون خارجا عنه ووجه التقصي أنا لا نعني بالزائد ما يكون خارجا عن الشيء بحيث لا ينتفي الشيء بانتفائه بل نعني به ما لا ينتفي بانتفائه حكم ذلك الشيء فمعنى الركن الزائد الجزء الذي إذا انتفى كان حكم المركب باقيا بحسب اعتبار الشارع وذلك أن الجزء إذا كان من الضعف بحيث لا ينتفي حكم المركب بانتفائه كان شبيها بالأمر الخارج عن المركب فسمي زائدا بهذا الاعتبار وهذا قد يكون باعتبار الكيفية كالإقرار في الإيمان أو باعتبار الكمية كالأقل في المركب منه ومن الأكثر حيث يقال للأكثر حكم الكل

وأما جعل الأعمال داخلة في الإيمان كما نقل عن الشافعي رحمه اللّه تعالى فليس من هذا القبيل لأنه إنما يجعلها داخلة في الإيمان على وجه الكمال لا في حقيقة الإيمان

وأما عند المعتزلة فهي داخلة في حقيقته حتى أن الفاسق لا يكون مؤمنا

فإن قلت تمثيله في ذلك بالإنسان وأعضائه ليس بسديد لأن المجموع المشخص الذي يكون اليد جزءا منه لا شك لأنه ينتفي بانتفاء اليد غايته أن ذلك الشخص لا يموت ولا يسلب عنه اسم الإنسانية وهو غير مضر إذ التحقيق أن شيئا من الأعضاء ليس بجزء من حقيقة الإنسان

قلت المقصود بالتمثيل أن الرأس مثلا جزء ينتفي بانتفائه حكم المركب من الحياة وتعلق الخطاب ونحو ذلك واليد ركن ليس كذلك لبقاء

(٢/٢٧٣)

الحياة وما يتبعها عند فوات اليد مع أن حقيقة المركب المشخص تنتفي بانتفاء كل منهما وقد يقال في توجيه الركن الزائد إن بعض الشرائط والأمور الخارجية قد يكون له زيادة تعلق واعتبار في الشيء بحيث يصير بمنزلة جزء له فيسمى ركنا مجازا فالحاصل أن لفظ الزائد أو لفظ الركن مجاز والأول أوفق بكلام القوم

قوله

وأما العلة قد سبق أن العلة هي الخارج المؤثر إلا أن لفظ العلة لما كان يطلق على معان أخر بحسب الاشتراك أو المجاز على ما اختاره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى حاولوا في هذا المقام تقسيم ما يطلق عليه لفظ العلة إلى أقسامه كما نقسم العين إلى الجارية والباصرة وغيرهما أو الأسد إلى السبع والشجاع

وحاصل الأمر أنهم اعتبروا في حقيقة العلة ثلاثة أمور وهي إضافة الحكم إليها وتأثيرها فيه وحصوله معها في الزمان وسموها باعتبار الأول العلة اسما وبالثاني العلة معنى وبالثالث العلة حكما

ومعنى إضافة الحكم إلى العلة ما يفهم من قولنا قتله بالرمي وعتق بالشراء وهلك بالجرح وهو ظاهر وتفسير العلة اسما بما تكون موضوعة في الشرع لأجل الحكم ومشروعة له إنما يصح في العلل الشرعية لا في مثل الرمي والجرح

وترك المصنف رحمه اللّه تعالى تقييد الإضافة بكونها بلا واسطة لأنه المفهوم من الإطلاق والإضافة بلا واسطة لا تنافي ثبوت الواسطة في الواقع فإنه يقال هلك بالجرح وقتله بالرمي مع تحقق الوسائط فباعتبار حصول الأمور الثلاثة أعني العلية اسما ومعنى وحكما كلها أو بعضها تصير الأقسام سبعة لأنه إن اجتمع الكل فواحد وإلا فإن اجتمع اثنان فثلاثة لأنهما

إما الاسم والمعنى

وإما الاسم والحكم

وإما المعنى والحكم وإلا فثلاثة أيضا لأن الحاصل

إما الاسم أو المعنى أو الحكم وبوجه آخر إن

(٢/٢٧٤)

كانت العلة بحسب الأمور الثلاثة بسيطا فثلاثة وإلا فإن تركب من اثنين فثلاثة أيضا وإن تركب من الثلاثة فواحد وقد أهمل فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى التصريح بالعلة معنى فقط وبالعلة حكما فقط وجعل الأقسام السبعة هي العلة اسما وحكما ومعنى والعلة اسما فقط والعلة اسما ومعنى فقط والعلة التي تشبه الأسباب والوصف الذي يشبه العلل والعلة معنى وحكما لا اسما والعلة اسما وحكما لا معنى ولما كانت العلة التي تشبه السبب داخلة في الأقسام الأخر لا مقابلة لها أسقطها المصنف رحمه اللّه تعالى عن درجة الاعتبار وأورد في الأقسام العلة حكما فقط ونبه في آخر كلامه على أن المراد بالوصف الذي يشبه العلل هو العلة معنى فقط لأنه جزء العلة لتحقق التأثير مع عدم إضافة الحكم إليه ولا ترتبه عليه وإنما لم يتعرض فخر الإسلام هاهنا للعلة حكما فقط لأنه ذكرها في باب تقسيم الشروط وهو الشرط الذي يشبه العلل

قوله فعندنا هي مقارنة لا نزاع في تقدم العلة على المعلول بمعنى احتياجه إليها ويسمى التقدم بالعلية وبالذات ولا في مقارنة العلة التامة العقلية لمعلولها بالزمان كي لا يلزم التخلف

وأما في العلل الشرعية فالجمهور على أنه تجب المقارنة بالزمان إذ لو جاز التخلف لما صح الاستدلال بثبوت العلة على ثبوت الحكم وحينئذ يبطل غرض الشارع من وضع العلل للأحكام وقد يتمسك في ذلك بأن الأصل اتفاق الشرع والعقل ولا يخفى ضعفه

وفرق بعض المشايخ كأبي بكر محمد بن الفضل وغيره بين الشرعية والعقلية فجوز في الشرعية تأخر الحكم عنها وظاهر عبارة الإمامين أي أبي اليسر وفخر الإسلام رحمهما اللّه تعالى يدل على أنه يلزم عند القائلين بعدم المقارنة أن يعقب الحكم العلة ويتصل بها فقد ذكر أبو اليسر أنه قال بعض الفقهاء حكم العلة يثبت بعدها بلا فصل وذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن من مشايخنا من فرق وقال من صفة العلة تقدمها على الحكم والحكم يعقبها ولا يقارنها بخلاف الاستطاعة مع الفعل ووجه الفرق على ما نقل عن أبي اليسر أن العلة لا توجب الحكم إلا بعد وجودها فبالضرورة يكون ثبوت الحكم عقيبها فيلزم تقدم العلة بزمان وإذا جاز بزمان جاز بزمانين بخلاف الاستطاعة فإنها عرض لا تبقى زمانين فلو لم يكن الفعل معها لزم وجود المعلول بلا علة أو خلو العلة عن المعلول ولا يلزم ذلك في العلل الشرعية لأنها في نفسها بمنزلة الأعيان بدليل قبولها الفسخ بعد أزمنة متطاولة كفسخ البيع والإجارة مثلا

والجواب أنه إن أراد بقوله العلة لا توجب الحكم إلا بعد وجودها بعدية زمانية فهو ممنوع بل عين النزاع وإن أراد بعدية ذاتية فهو لا يوجب تأخر المعلول عن العلة تأخرا زمانيا على ما هو المدعى ولو سلم فيجوز اشتراط الاتصال بحكم الشرع حتى لا يجوز التأخر بزمانين وإن جاز

(٢/٢٧٥)

بزمان ثم لو سلم صحة ما ذكره في مسألة الاستطاعة فدليله منقوض بالعلل العقلية إذا كانت أعيانا لا أعراضا

وأما بقاء العلل الشرعية حقيقة كالعقود مثلا فلا خفاء في بطلانه فإنها كلمات لا يتصور حدوث حرف منها حال قيام حرف آخر والنسخ إنما يرد على الحكم دون العقد ولو سلم فالحكم ببقائها ضروري ثبت دفعا للحاجة إلى الفسخ فلا يثبت في حق غير الفسخ

قوله كالمعلق بالشرط على ما يأتي في أقسام الشرط من أن وقوع الطلاق قبل دخول الدار ثابت بالتطليق السابق ومضاف إليه فيكون علة له اسما لكنه ليس بمؤثر في وقوع الطلاق قبل دخول الدار بل الحكم متراخ عنه فلا يكون علة معنى وحكما

قوله على ما ذكرنا في آخر فصل مفهوم المخالفة من أن القياس أن لا يجوز شرط الخيار لما فيه من تعليق التمليك بالخطر إلا أن الشارع جوزه للضرورة وهي تندفع بدخوله في الحكم دون السبب الذي هو أكثر خطرا

فإن قيل فيلزم القول بتخصيص العلة أي تأخر الحكم عنها لمانع

قلنا الخلاف في تخصيص العلل إنما هو في الأوصاف المؤثرة في الأحكام لا في العلل التي هي أحكام شرعية كالعقود والفسخ وقد يجاب بأن الخلاف إنما هو في العلة الحقيقية أعني العلة اسما ومعنى وحكما وليس بمستقيم لأنه لا يتصور التراخي فيما هو علة حكما فكيف يقع فيه النزاع

قوله ودلالة كونه علة لما كانت العلة اسما ومعنى يتراخى عنها حكمها كما في السبب احتيج إلى وجه التفرقة بينهما والدلالة على أن البيع الموقوف أو البيع بالخيار علة لا سبب وذلك أنه إذا زال المانع بأن يأذن المالك في بيع الفضولي وبمضي مدة الخيار أو يجبر من له الخيار في بيع الخيار يثبت الملك مستندا إلى وقت العقد أي يثبت الملك من حين الإيجاب حتى يملكه المشتري بزوائده المتصلة والمنفصلة

قوله لأن المنفعة معدومة

فإن قلت لم لا يجوز أن يكون علة حكما بالنسبة إلى ملك

(٢/٢٧٦)

الأجرة

قلت من ضرورة عدم ملك المنفعة في الحال عدم ملك بدلها وهو الأجرة لاستوائهما في الثبوت كالثمن والمثمن

قوله لكنها أي الإجارة تشبه الأسباب وهذا استدراك من كونها علة والمصنف رحمه اللّه تعالى بنى مشابهة العلة للسبب على أن يتخلل بين العلة والحكم زمان ولا يجعل ثبوت الحكم مستندا إلى حين وجود العلة كما إذا قال في رجب أجرتك الدار من غرة رمضان فإنه لا يثبت الإجارة من حين التكلم بل في غرة رمضان بخلاف البيع الموقوف فإن الملك يثبت من حين الإيجاب والقبول حتى يملك المشتري المبيع بزوائده فكأنه ليس هناك تخلل زمان

وأما فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى فقد بنى ذلك على أنه إذا وجد ركن العلة وتراخى عنه وصفه فيتراخى الحكم إلى وجود الوصف فمن حيث وجود الأصل يكون الموجود علة يضاف إليها الحكم إذ الوصف تابع فلا ينعدم الأصل بعدمه ومن حيث إن إيجابه موقوف على الوصف المنتظر كان الأصل قبل الوصف طريقا للوصول إلى الحكم ويتوقف الحكم على واسطة هي الوصف فيكون للعلة شبه بالأسباب بهذا الاعتبار لا يقال إن ما ذكره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى في الرمي من أن الحكم لما تراخى عنه أشبه الأسباب يدل على أن مبنى شبه الأسباب على تراخي الحكم لأنا نقول لما ذكر في جميع الأمثلة السابقة أن الحكم لما تراخى إلى وصف كذا وكذا كانت علة تشبه الأسباب اختصر الكلام هاهنا ومراده بأن حكم الرمي لما تراخى إلى الوسائط المفضية إلى الهلاك من المضي في الهواء والوصول إلى المجروح والنفوذ فيه وغير ذلك كان الرمي علة تشبه الأسباب فصار الحاصل أن ما يفضي إلى الحكم إن لم يكن بينهما واسطة فهو علة محضة وإلا فإن كانت الواسطة علة حقيقية مستقلة فهو سبب محض وإلا فهو علة تشبه الأسباب وذلك بأن تكون الواسطة أمرا مستقلا غير علة حقيقية أو يكون علة حقيقية غير مستقلة بل حاصلة بالأول كالمعنى في الهواء الحاصل بالرمي ثم ظاهر كلام المصنف رحمه اللّه تعالى يدل على أن كون الإجارة متضمنة لإضافة الحكم إلى المستقبل إنما يكون إذا صرح بذلك كما إذا قال في رجب آجرتك الدار من غرة رمضان وأن الحكم في مثل هذه الصورة يثبت من غرة رمضان حتى لو قال آجرتك الدار من هذه الساعة يثبت

(٢/٢٧٧)

الحكم في الحال ولم يكن فيه إضافة إلى المستقبل ويلزم أن لا يشبه الأسباب

والذي ذهب إليه المحققون هو أن في الإجارة معنى الإضافة إلى وقت وجود المنفعة سواء صرح بذلك أو لا وتحقيقه أن الإجارة وإن صحت في الحال بإقامة العين مقام المنفعة إلا أنها في حق ملك المنفعة مضافة إلى زمان وجود المنفعة كأنها تنعقد حين وجود المنفعة ليقترن الانعقاد بالاستيفاء وهذا معنى قولهم الإجارة عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة

قوله وكذا كل إيجاب أي كل إيجاب يصرح فيه بالإضافة إلى المستقبل مثل أنت طالق غدا فإنه علة اسما ومعنى لإضافة الحكم إليه وتأثيره فيه لا حكما لتراخي الحكم عنه إلى الغد فيشبه الأسباب لأن الإضافة التقديرية كما في الإجارة توجب شبه السببية فالإضافة الحقيقية أولى فلهذا يقتصر وقوع الطلاق على مجيء الغد من غير استناد إلى زمان الإيجاب

قوله وكذا النصاب أي النصاب علة لوجوب الزكاة اسما ومعنى لتحقق الإضافة والتأثير لا حكما لعدم المقارنة فإن الحكم يتراخى إلى وجود النماء الذي أقيم حولان الحول مقامه مثل إقامة السفر مقام المشقة لقوله عليه الصلاة والسلام لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ثم النصاب علة تشبه الأسباب لأنها ليست مما يقارنها الحكم من غير تراخ حتى تكون علة شبيهة بالأسباب وهذا معنى

قوله ولو لم يكن أي الحكم متراخيا إليه أي إلى وجود النماء كان النصاب علة من غير مشابهة بالأسباب وليس أيضا سببا حقيقيا لأن ذلك موقوف على أن يكون النماء علة حقيقية مستقلة وليس كذلك ضرورة أن المؤثر هو المال النامي لا مجرد وصف النماء فإنه قائم بالمال لا استقلال له أصلا وهذا معنى

قوله ولو كان متراخيا إلى ما هو علة حقيقية لكان سببا

(٢/٢٧٨)

حقيقا وليس أيضا علة العلة بمنزلة شراء القريب لأنه إنما يكون كذلك لو كان النماء حاصلا بنفس النصاب وليس كذلك لأن النماء الحقيقي هو الدر والنسل والثمن في الإسامة وزيادة المال في التجارة والحكمي هو حولان الحول ولا يخفى أن ذلك لا يحصل بنفس النصاب بسوم السائمة وعمل التجارة وتغير الأسفار ونحو ذلك وهو معنى

قوله ولو كان متراخيا إلى شيء يجب حصوله بالنصاب لكان النصاب علة العلة فثبت أن النماء الذي يتراخى إليه الحكم ليس بعلة مستقلة ولا بعلة حاصلة بالنصاب لكنه شبيه بالعلة من جهة ترتب الحكم عليه بمعنى أن النماء الذي هو بالحقيقة فضل على الغني يوجب مواساة الفقير بمنزلة أصل الغنى إلا أنه لما كان وصفا قائما بالمال تابعا له لم يجعل جزء علة بل جعل شبيه علة ترجيحا للأصل على الوصف حتى جاز تعجيل الزكاة قبل الحول إذا تقرر هذا فنقول لو فرضنا أن للنماء حقيقة العلة المستقلة لكان للنصاب حقيقة السببية كما إذا دل رجل رجلا على مال الغير فسرقه فإن الدلالة سبب حقيقي لا يشبه العلة أصلا فإذا كان للنماء شبه العلية كان للنصاب شبه السببية لأن توسط حقيقة العلة المستقلة يوجب حقيقة السببية فتوسط شبه العلة يوجب شبه السببية وهذا معنى

قوله ولو كان النماء شيئا مستقلا إلخ وإنما قال شيئا مستقلا أي

(٢/٢٧٩)

غير حاصل بالنصاب لأنه بمجرد كونه علة حقيقية لا يلزم كون النصاب سببا حقيقيا كما في علة العلة فإن حقيقة العلية في الملك لا توجب كون الشراء سببا حقيقيا وبهذا تبين أن ما سبق من أن الحكم لو كان متراخيا إلى ما هو علة حقيقية لكان النصاب سببا حقيقيا إنما يصح إذا أريد بالعلة حقيقة ما تكون مستقلة بنفسها وبهذا يندفع ما قيل إنه لما انتفى عن النماء حقيقة العلية انتفى عن النصاب كونه علة العلة كما انتفى عنه كونه سببا حقيقيا فلا حاجة إلى نفيه بقوله ولو كان متراخيا إلى شيء يجب حصوله بالمال إلخ وهاهنا بحث وهو أن كون النصاب علة العلة لا ينافي مشابهته بالأسباب بل يوجبها على ما سيجيء فلا معنى لنفي ذلك والاحتراز عنه بالشرطية الثانية أعني

قوله ولو كان متراخيا إلى شيء يجب حصوله بالنصاب لكان النصاب علة العلة والنماء لا يجب حصوله بالمال لا يقال إنما نفى ذلك لأنه على تقدير كونه علة العلة لم يكن مما يتراخى عنه الحكم حتى يكون علة اسما ومعنى لا حكما على ما هو المقصود لأنا نقول ليس من ضرورة علة العلة عدم التراخي لجواز أن يكون في الوسائط امتداد كما في الرمي والهلاك

وعبارة فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى في هذا المقام أنه لما تراخى حكم النصاب أشبه الأسباب ألا يرى أنه إنما تراخى إلى ما ليس بحادث به وإلى ما هو شبيه بالعلل وهذا بيان لشبه السببية في النصاب بوجهين أحدهما تراخي الحكم عنه إلى ما ليس حاصلا به وهذا يوجب تأكد الانفصال بينه وبين الحكم وتحقق الشبه بالسبب

وثانيهما أن للنماء شبه العلية

(٢/٢٨٠)

فيوجب في النصاب شبه السببية على ما مر

وغير المصنف رحمه اللّه تعالى هذا الكلام إلى ما ترى ظنا منه أن التراخي إلى ما ليس بحادث به لا يوجب شبه الأسباب كالبيع بالخيار والبيع الموقوف وجوابه أن المراد أن التراخي إلى وصف لا يحدث به

وفي البيع التراخي إنما هو إلى مجرد زوال المانع لا إلى الوصف

فإن قلت قول المصنف رحمه اللّه تعالى في الشرطية الثانية والثالثة لكن النماء ليس بعلة حقيقية والنماء لا يجب حصوله بالمال نفي للملزوم وهو لا يوجب نفي اللازم لجواز كونه أعم

قلت بين الطرفين في الشرطيتين تلازم مساو على ما لا يخفى فنفي كل منهما يوجب نفي الآخر

قوله حتى يوجب صحة الأداء يعني لكون النصاب هو العلة من غير أن يكون للنماء دخل في العلية صح الأداء قبل تمام الحول ولكونه علة شبيهة بالأسباب لم يتبين كون المؤدى زكاة إلا بعد تمام الحول لعدم وصف العلة في الحال فإذا تم الحول والنصاب كامل فقد صار المؤدى زكاة لإسناد الوصف إلى أول الحول وهذا ما يقال إن الأداء بعد الأصل قبل تمام الوصف يقع موقوفا وبعد تمام الوصف يستند الوجوب إلى ما قبل الأداء

قوله وكذا مرض الموت يعني أن الأمور المذكورة علة اسما ومعنى لوجود الإضافة والتأثير لا حكما لتحقق التراخي فمرض الموت علة للحجر عن التبرع بما يتعلق به حق الورثة من الهبة والصدقة والمحاباة ونحو ذلك ويتراخى الحكم إلى وصف اتصاله بالموت والجرح علة للّهلاك ويتراخى الحكم إلى وصف السراية والرمي علة للموت ويتراخى إلى نفوذ السهم في المرمي وتزكية شهود الزنا علة للحكم بالرجم لكن بتوسط شهادة الشهود عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى حتى إذا رجع المزكون وقالوا تعمدنا الكذب ضمنوا الدية خلافا لهما ولما كانت هذه الأمثلة من قبيل علة العلة على ما لا يخفى عمم الحكم فقال وكذا كل ما هو علة العلة كشراء القريب فإنه علة للملك وهو للعتق فالعلة في جميع ذلك تشبه الأسباب من جهة تراخي الحكم ومن جهة تخلل الواسطة التي ليست بعلة مستقلة بل حاصلة بالأول سوى شراء القريب فإنه لا يتحقق فيه التراخي فشبهه بالأسباب من جهة تخلل الواسطة لا غير فلهذا لم يصرح فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى فيه بأنه علة اسما ومعنى لا حكما كما صرح بذلك في غيره وذهب المصنف رحمه اللّه تعالى إلى أن الظاهر أنه ليس من هذا القبيل بل من قبيل العلة اسما ومعنى وحكما لوجود الإضافة والتأثير والمقارنة ولم يجزم بذلك لعدم تصريح السلف به فعلى هذا يكون بين العلة اسما ومعنى لا حكما وبين العلة التي تشبه الأسباب عموم من وجه لصدقهما معا

(٢/٢٨١)

في الأمثلة السابقة وصدق الأول فقط في البيع الموقوف وصدق الثاني فقط في مثل شراء القريب

قوله

وإما ما له شبهة العلية بكسر الهمزة لكونه عطفا على

قوله

وإما اسما ومعنى وهذا هو العلة معنى لوجود التأثير لجزء العلة لا اسما لعدم الإضافة إليه ولا حكما لعدم الترتيب عليه إذ المراد هو الجزء الغير الأخير أو أحد الجزأين الغير المرتبين كالقدر والجنس وهو عند الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى سبب محض لأن أحد الجزأين طريق يفضي إلى المقصود ولا تأثير له ما لم ينضم إليه الجزء الآخر

وذهب فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى إلى أنه وصف له شبه العلية لأنه مؤثر والسبب المحض غير مؤثر وهذا يخالف ما تقرر عندهم من أنه لا تأثير لأجزاء العلة في أجزاء المعلول وإنما المؤثر هو تمام العلة في تمام المعلول فعلى ما ذكر هاهنا لما كان علة الربا هي القدر مع الجنس كان لكل من القدر والجنس شبه العلية فيثبت به ربا النسيئة لأنه يورث شبهة الفضل لما في النقد من المزية فلا يجوز أن يسلم حنطة في شعير وهذا بخلاف ربا الفضل فإنه أقوى الحرمتين فلا يثبت بشبهة العلة بل يتوقف ثبوته على حقيقة العلة أعني القدر والجنس كيف والنص قائم وهو

قوله عليه الصلاة والسلام إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد

(٢/٢٨٢)

قوله

وأما معنى وحكما يعني إذا كانت العلة ذات وصفين مؤثرين مترتبين في الوجود فالمتأخر وجودا علة معنى وحكما لوجود التأثير والاتصال لا اسما لعدم الإضافة إليه بدون واسطة بل إنما يضاف إلى المجموع وذلك كالقرابة ثم الملك فإن لكل منهما نوع تأثير في العتق لأن لكل منهما أثرا في إيجاب الصلات ولهذا يجب صلة القرابات ونفقة العبيد إلا أن للأخير ترجيحا بوجود الحكم عنده فيجعل وصفا له شبهة العلية في كون الملك علة معنى وحكما ويصير الأول بمنزلة العدم في حق ثبوت الحكم فيجعل وصفا له شبهة العلية

وفي كون الملك علة معنى وحكما لا اسما نظر لأن إضافة الحكم إلى الملك وثبوته به أمر ظاهر شائع في عبارة القوم ولفظ المصنف رحمه اللّه تعالى صريح فيه فكيف لا يكون علة اسما

وذهب المحققون إلى أن الجزء الأول يصير بمنزلة العدم في حق ثبوت الحكم ويصير الحكم مضافا إلى الجزء الأخير كالمن الأخير في أثقال السفينة والقدح الأخير في السكر وذكر في التقويم أن الأول إنما يصير موجبا بالأخير ثم الحكم يجب بالكل فيصير الجزء الأخير كعلة العلة فيكون له حكم العلة وأنت خبير بأن علة العلة يكون علة اسما لا محالة وقد يجاب بأنه يجب فيما هو علة اسما أن يكون موضوعا للحكم على ما صرح به الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى وغيره والملك لم يوضع في الشرع للعتق وإنما الموضوع له ملك القرابة وشراء القريب

قوله حتى تصبح نية الكفارة عند الشراء

فإن قلت الجزء الأخير هو الملك دون الشراء فكيف يصح هذا التفريع

قلت علة الشراء علة للملك وعلة العلة بمنزلة العلة والحكم غير متراخ هاهنا فالنية عند الشراء نية عند إيجاد العلة التامة للإعتاق إذ لا إضافة إلى القرابة التي هي الجزء الأول

قوله ويضمن أي لو اشترى رجلان قريبا محرما لأحدهما فإن اشترى الأجنبي شقصا ثم القريب بعده ضمن القريب نصيب الأجنبي بالاتفاق موسرا كان القريب أو معسرا لأنه أفسد على الأجنبي نصيبه بما هو علة وهو الشراء وإن اشترياه معا فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه تعالى أيضا يضمن لما مر سواء علم الأجنبي أو لم يعلم وعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى لا يضمن لأن

(٢/٢٨٣)

الأجنبي رضي بفساد نصيبه حيث جعل القريب شريكا له في الشراء سواء علم القرابة أو لم يعلم إذ لا عبرة بالجهل لأنه تقصير منه بخلاف ما إذا اشترى الأجنبي نصيبه أولا فإنه لا رضا منه بالفساد

فإن قيل لا نسلم وجود الرضا في صورة الجهل بالقرابة كيف وهو لا يتصور إلا مع العلم بها أجيب بأن الرضا أمر باطن فأدير الحكم مع السبب الظاهر الذي هو الاشتراك ومباشرة الشراء وأيضا لما لم يعتبر جهله وجعل في حكم العدم صار كأن العلم حاصل

وفي

قوله ولا يعتبر جهله إشارة إلى هذا

قوله حتى يضمن مدعي القرابة يعني إذا اشترى اثنان عبدا مجهول النسب ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه قيمة نصيبه لأن الجزء الأخير من العلة أعني القرابة قد حصل بصنعه فيكون هو العلة ولو كانت القرابة معلومة قبل الشراء لم يضمن مدعي القرابة لأنها لم تحصل بصنعه وقد رضي الأجنبي بفساد نصيبه فقوله لم يضمن

قول أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى ويخص بصورة الشراء معا حتى لو اشترى الأجنبي أولا ضمن القريب حصته لعدم الرضا

وأما إذا ورثا عبدا مجهول النسب فادعى أحدهما أنه قريبه يضمن المدعي لأن القرابة بصنعه فلو كانت القرابة معلومة لم يضمن بالاتفاق لأن الملك بالإرث ليس من صنعه

قوله أو بإقامة الدليل السبب الداعي هو الذي يفضي إلى الشيء في الوجود فلا بد من أن يتقدمه والدليل هو الذي يحصل من العلم به العلم بذلك الشيء فربما يكون متأخرا في الوجود كالإخبار عن المحبة ويقتصر على المجلس لأن تعليق الطلاق بما لا يطلع عليه إلا بإخبارها بمنزلة تخيرها وهو مقتصر على المجلس

قوله والطهر مقام الحاجة يعني أن الطلاق أمر محظور لما فيه من قطع النكاح المسنون إلا أنه شرع ضرورة أنه قد يحتاج إليه عند العجز عن إقامة حقوق النكاح والحاجة أمر باطن لا يوقف عليه فأقيم دليلها وهو زمان تتجدد فيه الرغبة أعني الطهر الخالي عن الجماع مقام الحاجة تيسيرا وقد يقال إن دليل الحاجة هو الإقدام على الطلاق في الطهر لا الطهر نفسه

قوله واستحداث الملك يعني أن المؤثر في وجوب الاستبراء وهو الاحتراز عن الوطء ودواعيه في الأمة عند حدوث الملك فيها إلى انقضاء حيضة أو ما يقوم مقامها هو كون الرحم مشغولا بماء الغير احترازا عن خلط الماء بالماء وسقي الماء زرع الغير إلا أنه أمر خفي فأقيم دليله وهو استحداث ملك الواطئ بملك اليمين مقامه فإن الاستحداث يدل على ملك من استحدث منه وتلقي من جهته وملكه يمكنه من الوطء المؤدي إلى الشغل فالاستحداث يدل بهذه الواسطة على الشغل الذي هو علة الاستبراء

وذهب بعضهم إلى أنه من إقامة السبب إذ الشغل إنما هو بالوطء والملك ممكن منه مؤد إليه وداع

وفيه نظر لأن الشغل إنما هو بوطء البائع والملك ممكن من وطء

(٢/٢٨٤)

المشتري والأظهر ما في التقويم أن علة الاستبراء صيانة الماء عن الاختلاط بماء قد وجد واستحداث ملك الواطئ بملك اليمين سبب مؤد إليه فإن هذا الاستحداث يصح من غير استبراء يلزم من البائع ومن غير ظهور براءة رحمها عن مائه فلو أبحنا الوطء للثاني بنفس الملك لأدى إلى الخلط فكان الإطلاق بنفس الملك سببا مؤديا إليه فظهر أنه دليل باعتبار سبب ولهذا سماه الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى السبب الظاهر والدليل على العلة

قوله كما في تحريم الدواعي أي دواعي الجماع من المس والتقبيل والنظر بشهوة حيث أقيمت مقام الزنا في الحرمة على الإطلاق إذا كانت مع الأجنبية وأقيمت مقام الوطء في الحرمة حالتي الاعتكاف والإحرام إذا كانت مع الزوجة أو الأمة

قوله ولما جعلوا الجزء الأخير يعني أن القوم وإن لم يصرحوا بالعلة معنى فقط والعلة حكما فقط إلا أن التقسيم العقلي يقتضيهما والأحكام تدل على ثبوتهما

أما الأول فلأن الجزء الأول من العلة لا يضاف الحكم إليه ولا يترتب عليه مع تأثيره فيه في الجملة فيكون علة معنى لوجود التأثير لا اسما ولا حكما لعدم الإضافة والمقارنة فما له شبهة العلية وهو الجزء الغير الأخير من العلة يكون هذا القسم بعينه

وأما الثاني فلأنه لا معنى للعلة حكما فقط إلا ما يتوقف الحكم عليه ويتصل به من غير إضافة ولا تأثير فالجزء الأخير من السبب الداعي إلى الحكم إذا كان بحيث يتصل به الحكم يكون علة حكما لوجود المقارنة لا اسما لعدم الإضافة إليه ولا معنى لعدم التأثير إذ لا تأثير للسبب الداعي فكيف لجزئه وكذا الشرط الذي علق عليه الحكم كدخول الدار فيما إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق يتصل به الحكم من غير إضافة ولا تأثير فيكون علة حكما فقط

قوله

وأما السبب هو لغة ما يتصل به إلى الشيء

واصطلاحا ما يكون طريقا إلى الحكم من غير تأثير

وقد جرت العادة بأن يذكر في هذا المقام أقسام ما يطلق عليه اسم السبب حقيقة أو مجازا ويعتبر تعدد الأقسام اختلاف الجهات والاعتبارات وإن اتحدت الأقسام بحسب الذوات ولذا ذهب فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى إلى أن أقسام السبب أربعة سبب محض كدلالة السارق وسبب في معنى العلة كسوق الدابة لما يتلف بها وسبب مجازي كاليمين وسبب له شبهة العلة كالطلاق المعلق بالشرط

ولما رأى المصنف رحمه اللّه أن الرابع هو بعينه السبب المجازي كما

(٢/٢٨٥)

اعترف به فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى وأن عد المجازي من الأقسام ليس بمستحسن قسم السبب إلى ما فيه معنى العلة وإلى ما ليس كذلك ويسمى الثاني سببا حقيقيا ثم قال ومن السبب ما هو سبب مجازي أي مما يطلق عليه اسم السبب ولم يتعرض للسبب الذي فيه شبهة العلل

قوله فاعلم أنه اعتراض بين

أما وجوابه وتمهيد لتقسيم السبب إلى ما يضاف إليه العلة وإلى ما لا يضاف يعني أن السبب مفض إلى الحكم وطريق إليه لا مؤثر فيه فلا بد للحكم من علة مؤثرة فيه موضوعة له فالسبب

إما أن يضاف إليه العلة أو لا

فالأول السبب الذي في معنى العلة كسوق الدابة فإن لم يوضع للتلف ولم يؤثر فيه وإنما هو طريق للوصول إليه والعلة هو وطء الدابة بقوائمها ذلك الشخص وهو مضاف إلى السوق وحادث به فيكون له حكم العلة فيما يرجع إلى بدل المحل لا فيما يرجع إلى جزاء المباشرة فيجب على السائق الدية لا الحرمان من الميراث ولا الكفارة ولا القصاص وكالشهادة بوجوب القصاص فإنها لم توضع له ولم تؤثر فيه وإنما هي طريق إليه والعلة ما توسط من فعل الفاعل المختار الذي هو المباشر للقتل إلا أنه سبب في معنى العلة لأن مباشرة القاتل مضافة إلى الشهادة حادثة بها من جهة أنه ليس للولي استيفاء القصاص قبل الشهادة فيصلح لإيجاب ضمان المحل دون جزاء المباشرة فيجب على الشاهد إذا رجع الدية لا القصاص لأنه جزاء المباشرة ولا مباشرة من الشاهد لأن شهادته إنما صارت قتلا أي مؤدية بواسطة قضاء القاضي واختيار الولي القصاص على العفو

وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى يجب على الشهود القصاص إذا قالوا عند الرجوع تعمدنا الكذب وعلم من حالهم أنه لا يخفى عليهم أنه يقتل بشهادتهم لأنه جعل السبب القوي المؤكد

(٢/٢٨٦)

بالقصد الكامل بمنزلة المباشرة في إيجاب القصاص تحقيقا للزجر

وجوابه أن مبنى القصاص على المماثلة ولا مماثلة بين المباشرة والسبب وإن قوي وتأكد

والثاني السبب الحقيقي بأن يتوسط بينه وبين الحكم علة هي فعل اختياري غير مضاف إلى السبب كفعل السارق بين الدلالة على المال وبين سرقته ولا يكفي في ذلك مجرد كون العلة فعلا اختياريا كما في مسألة الشهادة بالقصاص

وقوله في بعض نسخ الشرح فالسبب سبب حقيقي لم يقع موقعه على ما لا يخفى

قوله بخلاف ما إذا زوجها يعني لو زوج المرأة وكيلها أو وليها على شرط أنها حرة فإذا هي أمة يضمن الوكيل أو الولي للمتزوج قيمة الولد لأن التزويج موضوع للاستيلاد وطلب النسل فيكون المزوج صاحب العلة وأيضا الاستيلاد مبني على التزويج المشروط بالحرية وصفا لازما له فيصير وصف الحرية بمنزلة العلة كالتزويج فيكون الشارط صاحب علة

قوله إزالة الأمن سبب للضمان أي إزالة المحرم إلا من الملتزم بعقد الإحرام إذا تقررت حال كونه محرما علة للضمان وموجبة فلو لم يكن الدال محرما حين قتل المدلول الصيد لم يجب الضمان وحقيقة الدلالة الإعلام أي إحداث العلم في الغير فيجب أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد وأن لا يكذب الدال في ذلك

قوله وصيد الحرم أي بخلاف صيد الحرم إذا دل عليه غير المحرم رجلا فقتله فإن الدال لا يضمن لأن دلالته سبب محض لأن كون صيد الحرم محفوظا ليس بالبعد عن الناس حتى تكون

(٢/٢٨٧)

الدلالة عليه إزالة للأمن وموجبة للضمان بل هو محفوظ بكونه صيد الحرم الذي جعله اللّه تعالى آمنا ليبقى مدة بقاء الدنيا فتعرض الصيد فيه بمنزلة إتلاف الأموال المملوكة والموقوفة ولهذا يكون ضمانه ضمان المحل حتى لا يتعدد بتعدد الجاني بخلاف الضمان الواجب بالإحرام فلو دل المحرم على صيد الحرم كان الضمان بالجناية على الإحرام لا بإزالة الأمن

فإن قلت السعاية إلى السلطان الظالم سبب محض وقد وجب الضمان على الساعي

قلت مسألة اجتهادية أفتوا فيها بغير القياس استحسانا لغلبة السعاية

قوله فوجأ به هو من الوجء وهو الضرب باليد أو السكين

(٢/٢٨٨)

قوله كالتطليق أي كالصيغ الدالة على تعليق الطلاق أو العتاق أو النذر شيء فإنها قبل وقوع المعلق عليه أسباب مجازية لما يترتب عليها من الجزاء وهو وقوع الطلاق أو العتاق أو لزوم المنذور به لإفضائها إليه في الجملة لا أسباب حقيقية إذ ربما لا تفضي إليه بأن لا يقع المعلق عليه فقوله للجزاء حال من التطليق وما عطف عليه أي كالتطليق ونحوه حال كونها أسبابا للجزاء ولو كان متعلقا بقوله ما هو سبب على ما زعم المصنف رحمه اللّه تعالى لكان المعنى ومنه ما هو سبب مجازا للجزاء كإطلاق المعلق ونحوه واليمين للكفارة وفساده واضح ثم تسمية هذه الصيغ سببا مجازيا إنما هي قبل وقوع المعلق عليه كدخول الدار مثلا

وأما بعده فتصير تلك الإيقاعات عللا حقيقية لتأثيرها في وقوع الأجزية مع الإضافة إليها والاتصال بها بمنزلة البيع للملك وذلك أن الشرط كان مانعا للعلة عن الانعقاد فإذا زال المانع انعقدت علة حقيقية بمنزلة الإيقاعات المنجزة وهذا بخلاف ما إذا قال واللّه لا أدخل هذه الدار فدخلها فإن علة الكفارة لا تصير هي اليمين لأنها موضوعة للبر والبر لا يفضي إلى الكفارة وإنما يفضي إليها الحنث الذي هو ضده والبر مانع عنه فكيف يصلح علة لثبوته وإنما علة الكفارة هي الحنث لأنه المؤثر فيها وقد سبق ذلك في بحث الشرط

فإن قلت قد اعتبر في حقيقة السبب الإفضاء وعدم التأثير فكما أن هذا القسم جعل مجازا لعدم الإفضاء ينبغي أن يجعل السبب الذي فيه معنى العلة أيضا مجازا لوجود التأثير

قلت نعم إلا أن عدم التأثير لما كان قيدا عدميا وكان حقيقة السبب في اللغة ما يكون طريقا إلى الشيء وموصلا

(٢/٢٨٩)

إليه خصوا هذا القسم الذي ينتفي فيه الإيصال والإفضاء باسم المجاز ونبهوا على مجازية ما فيه معنى العلة بأن سموا السبب الذي ليس فيه معنى العلة سببا حقيقيا وأيضا هذا القسم مجاز بالنظر إلى الوضع اللغوي فخصوه باسم المجاز والعلاقة أنه يؤول إلى السببية بأن يصير طريقا للوصول إلى الحكم عند وقوع المعلق عليه

وفيه نظر لأنه في المآل لا يصير سببا حقيقيا بل علة على ما سبق اللّهم إلا أن يراد السبب بحسب اللغة والأولى أن يقال العلاقة هي مشابهة السبب من جهة أن له نوع إفضاء إلى الحكم في الجملة ولو بعد حين

قوله ثم عندنا لهذا المجاز أي للمعلق بالشرط الذي سميناه سببا مجازا يشبه الحقيقة أي جهة كونه علة حقيقية من حيث الحكم وعند زفر رحمه اللّه تعالى هو مجاز محض وهذا الخلاف يظهر في مسألة إبطال تنجيز الطلاق وتعليقه وقد ذكر في الكتاب استدلال زفر رحمه اللّه تعالى على عدم الإبطال أولا ودليلهم على الإبطال ثانيا وجوابهم عن استدلال زفر ثالثا

وأما وجه استدلاله فهو أن المعتبر وجود الملك حال وجود الشرط لأن التعليق لا يفتقر إلى الملك حالة التعليق بدليل صحة التعليق بالتزوج

مثل إن نكحتك فأنت طالق بل إنما يفتقر إليه حال وجود الشرط ليظهر فائدة اليمين إذ المقصود من اليمين تأكيد البر بإيجاب الجزاء في مقابلته فلا بد من أن يكون الجزاء غالب الوجود أو متحققه عند فوات البر ليحمله خوف نزوله على المحافظة على البر وذلك بقيام الملك حال وجود الشرط فإن علقه بالملك كما في إن تزوجتك فأنت طالق كان الملك متحقق الوجود عند فوات البر فتظهر فائدة اليمين تحقيقا وإن علقه بغيره كدخول الدار مثلا فوجود الملك وعدمه عند وقوع الشرط وفوات البر غير معلوم التحقق فاشترط الملك حال التعليق ليترجح جانب وجود الملك عند وجود الشرط بحكم الاستصحاب وهو أن الأصل في الثابت بقاؤه فيظهر فائدة اليمين بحسب غالب الوجود فيصح التعليق وينعقد الكلام يمينا وبعدما صح التعليق بناء على نصب دليل وجود الملك عند وقوع الشرط فزوال الملك بأن يطلقها ما دون الثلاث لا يبطل التعليق بناء على احتمال حدوثه عند وجود الشرط اتفاقا فكذا لا يبطله زوال الحل بأن يطلقها الثلاث بناء على هذا الاحتمال أيضا

والحاصل أنه لا يشترط في ابتداء التعليق بقاء الحل كما إذا قال للمطلقة الثلاث إن تزوجتك فأنت طالق حتى لو تزوجها بعد الزوج الثاني يقع الطلاق فلأن لا يشترط ذلك في بقاء التعليق أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء

وأما دليلهم على أن التنجيز يبطل التعليق فتقريره أن اليمين سواء

(٢/٢٩٠)

كانت باللّه أو بغيره إنما شرعت للبر أي تحقيق المحلوف عليه من الفعل أو الترك وتقوية جانبه على جانب نقيضه فلا بد من أن يكون اليمين بغير اللّه مضمونا بالجزاء أي بلزوم المحلوف به من الطلاق أو العتاق أو نحوه كما أن اليمين باللّه يصير مضمونا بالكفارة تحقيقا لما هو المقصود باليمين من الحمل أو المنع وإذا كان البر مضمونا بالجزاء كان للجزاء شبهة الثبوت في الحال أي قبل فوات البر إذ للضمان شبهة الثبوت قبل فوات المضمون كما في المغصوب فإنه مضمون بالقيمة بعد الفوات فيكون للغصب شبهة إيجاب القيمة قبل الفوات حتى يصح الإبراء عن القيمة والدين والعين والكفالة حال قيام العين المغصوبة في يد الغاصب مع أنه لا تصح هذه الأحكام قبل الغصب ولأن البر في التعليق إنما وجب لخوف لزوم الجزاء والواجب لغيره يكون ثابتا من وجه دون وجه فيكون له عرضية الفوات في حق نفسه والجزاء حكم يلزم عند فوات البر فيلزم عند عرضية الفوات للبر عرضية الوجود للجزاء يلزم عرضية الوجود لسببه ليكون المسبب ثابتا على قدر السبب وهذا معنى شبهة الثبوت في الحال وكما لا بد لحقيقة الشيء من المحل كذلك لا بد منه لشبهته ولهذا لا تثبت شبهة النكاح في غير النساء وذلك لأن معنى الشبهة قيام الدليل مع تخلف المدلول لمانع ويمتنع ذلك في غير المحل فيبطل التعليق زوال الحل بأن يطلقها ثلاثا لفوات محل الجزاء كما يبطله بطلان محل الشرط بأن يجعل الدار بستانا ولا يبطله زوال الملك بأن يطلقها ما دون الثلاث لقيام المحل من وجه بإمكان الرجوع إليها

فإن قلت فليعتبر إمكان الرجوع فيما إذا فات المحل

قلت لما فات ما لا بد منه تحقق البطلان والملك لم يقم دليل على أنه لا بد منه في الابتداء ليتحقق بفواته البطلان وإنما لا يكون

(٢/٢٩١)

منه بد عند وقوع الشرط وقد أمكن عوده حينئذ فلا جهة للبطلان

وفي الطريقة البرعرية إنما لم يشترط بقاء الملك لبقاء التعليق كما شرط المحل لأن محلية الطلاق تثبت بمحلية النكاح وهي تفتقر إلى بقاء المحل لا إلى بقاء الملك فحاصل هذا الطريق هو أن المحلية شرط لليمين انعقادا وبقاء فتبطل بفواتها بالتطليقات الثلاث

وأما ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى من أن طلقات هذا الملك متعين للجزاء فتبطل اليمين بفواتها فإنما هو حاصل طريق آخر للأصحاب في هذه المسألة وهو أن هذه اليمين إنما تصح باعتبار الملك القائم وليس فيه إلا ثلاث تطليقات فإذا استوفاها كلها بطل الجزاء فيبطل اليمين كما إذا فات الشرط بأن جعل الدار بستانا أو حماما إذ اليمين لا تنعقد إلا بالشرط والجزاء بل افتقارها إلى الجزاء أكثر لأنها به تعرف كيمين الطلاق ويمين العتاق ونوقض هذا الطريق بما إذا علق الثلاث بالشرط ثم طلقها اثنتين ثم عادت إليه بعد زوج آخر ووقع الشرط فإنه يقع الثلاث عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللّه تعالى فلو تعين طلقات هذا الملك لم يقع إلا واحدة فإنها الباقية فقط ولذا صرح الإمام السرخسي وفخر الإسلام رحمه اللّه تعالى بأن بطلان التعليق بانعدام المحل لا بأن المعلق بالشرط تطليقات ذلك العقد

وأما الجواب عن استدلال زفر رحمه اللّه فهو أنه لما اشترط في التعليق بغير الملك شبهة الحقيقة في السبب ليلزم منه شبهة الثبوت للجزاء في الحال فيلزم اشتراط المحل في الحال ليكون دليلا على ثبوته عند وجود الشرط بحكم الاستصحاب فيتحقق كون البر مضمونا بالجزاء ولا حاجة إلى ذلك في التعليق بالتزوج لأن وجود الملك عند وجود الشرط متحقق ضرورة أن الشرط إنما هو عين تحقق الملك فيكون البر مضمونا بالجزاء من غير حاجة إلى إثبات الشبهة ولا يخفى أن هذا الجواب مستغن عما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى من أن الشرط فيه أي في هذا التعليق

(٢/٢٩٢)

بمعنى لعلة وليس للجزاء شبهة الثبوت قبلها أي قبل العلة وإنما هو جواب آخر تقريره أن الشرط هاهنا أعني في صورة التعليق بالتزوج بمعنى العلة لأن ملك الطلاق إنما يستفاد بالنكاح وليس للجزاء شبهة الثبوت قبل العلة لأنه يمتنع ثبوت حقيقة الشيء قبل علته كالطلاق قبل النكاح فكذا شبهته اعتبارا للشبهة بالحقيقة ولأن شبهة الشيء لا تثبت حيث لا تثبت حقيقته كشبهة النكاح في غير النساء وإنما يبطل الطلقات الثلاث تعليق الظهار لأن محل حكم الظهار هو الرجل لأن عمله هو المنع عن الوطء وذلك في الرجل وهو قائم لم يتجدد ولأن عمله ليس إبطال حل المحلية حتى ينعدم بانعدام المحل بل في منع الزوج عن الوطء الحلال إلى وقت التكفير والمنع ثابت بعد التطليقات الثلاث فيثبت الظهار إلا أن ابتداء الظهار لا يتصور في غير الملك لأن معناه تشبيه المحللة بالمحرمة

قوله واعلم أن لكل من الأحكام قد جرت عادة القوم بأن يوردوا في آخر مباحث أقسام

(٢/٢٩٣)

النظم بالبيان أسباب الشرائع أي الأحكام المشروعة على وجه الإجمال والمصنف رحمه اللّه تعالى لما ضبط ما تفرق من المباحث المتعلقة بالعلة والسبب والشرط ونحو ذلك أورد هذا البحث بعد ذكر السبب وصدره بكلمة اعلم تنبيها على أنه باب جليل القدر في فن الأصول يجب ضبطه وعلمه لا كما يزعم بعضهم من أنه لا عبرة بالأسباب أصلا والأحكام إنما تثبت بإيجاب اللّه تعالى صريحا ودلالة بنصب الأدلة والعلم لنا إنما حصل من الأدلة وذلك للقطع بأنها مضافة إلى إيجاب اللّه تعالى لأنه شارع الشرائع إجماعا فلو أضيفت إلى أسباب أخر لزم توارد العلل المستقلة على معلول واحد وأيضا لو كانت المذكورات عللا وأسبابا لما انفكت الأحكام عنها ولم تتوقف على إيجاب اللّه تعالى وأنكر بعضهم ذلك في العبادات خاصة إذ المقصود فيها الفعل فقط ووجوبه بالخطاب إجماعا بخلاف المعاملات والعقوبات فإنها تترتب على أفعال العباد فيجوز أن يضاف وجوب أداء الأموال وتسليم النفس للعقوبات إلى الأسباب ونفس الوجوب إلى الخطاب والجواب أنه لا كلام في أن شارع الشرائع هو اللّه تعالى وحده وأنه المنفرد بإيجاب الأحكام إلا أنا نضيف ذلك إلى ما هو سبب في الظاهر بجعل اللّه تعالى الأحكام مترتبة عليها تيسيرا وتسهيلا على العباد ليتوصلوا بذلك إلى معرفة الأحكام بمعرفة الأسباب الظاهرة على أنها أمارات وعلامات لا مؤثرات وبعض ذلك قد ثبت بالنص والإجماع كالبيع للملك والقتل للقصاص والزنا للحد إلى غير ذلك وإلى ما ذكرنا أشار بقوله سببا ظاهرا يترتب عليه الحكم على ما مر في فصل الأمر

قوله فسبب وجوب الإيمان باللّه تعالى أي التصديق والإقرار بوجوده ووحدانيته وسائر صفاته على ما ورد به النقل وشهد به العقل هو حدوث العالم أي كون جميع ما سوى اللّه تعالى من الجواهر والأعراض مسبوقا بالعدم وإنما سمي عالما لأنه علم على وجود الصانع به يعلم ذلك ولا خفاء في أن وجوب الإيمان بإيجاب اللّه تعالى إلا أنه نسب إلى سبب ظاهر تيسيرا على العباد وقطعا لحجج المعاندين وإلزاما لهم لئلا يكون لهم تشبث بعدم ظهور السبب

ومعنى سببية حدوث العالم أنه سبب لوجوب الإيمان باللّه تعالى الذي هو فعل العبد لا لوجود الصانع أو وحدانيته أو غير

(٢/٢٩٤)

ذلك مما هو أزلي وذلك أن الحادث يدل على أن له محدثا صانعا قديما غنيا عما سواه واجبا لذاته قطعا للتسلسل ثم وجوب الوجود ينبئ عن جميع الكمالات وينفي جميع النقصانات لا يقال لو كان السبب هو الحدوث الزماني على ما فسرتم لما كان القائلون بقدم العالم بالزمان وحدوثه بالذات بمعنى المسبوقية بالغير والاحتياج إليه قائلين بوجوب الإيمان باللّه تعالى لأنا نقول من جملة الإيمان باللّه الإيمان بأنه صانع العالم بإرادته واختياره وأثر المختار لا يكون إلا حادثا وهم ينفون ذلك ولو سلم فليس المراد أن السبب بالنظر إلى كل واحد هو حدوث العالم فقط بل مراتب الناس في ذلك متفاوتة على ما يشير إليه

قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم الآية إلا أن الاستدلال بالآفاق والأنفس هو أشد المراتب وضوحا وأكثرها وقوعا وأثبتها دواما إذ كل أحد يشاهد نفسه والسماوات والأرضين فكان ملازما لكل أحد من أهل الإيمان فلذا صح إيمان الصبي المميز لتحقق سببه وهو الآفاق والأنفس ووجود ركنه وهو التصديق والإفراد الصادر عن النظر والتأمل إذ الكلام في الصبي العاقل وهو أهل لذلك بدليل أن الإيمان قد يتحقق في حقه تبعا للأبوين فلو امتنع صحته لم يكن إلا بحجج شرعية وذلك في الإيمان محال لأنه لا يحتمل عدم المشروعية أصلا نعم هو غير مخاطب بإيمان لعدم التكليف المعتبر في الخطاب فسقط عنه الأداء الذي يحتمل السقوط في بعض الأحوال كما إذا أراد الكافر أن يؤمن فأكره على السكوت عن كلمة الإسلام قال أبو اليسر وجوب الأداء مبني على العقل الكامل عند بعضهم وعلى الخطاب عند عامة المشايخ فالصبي إذا بلغ في شاهق الجبل ولم تبلغه الدعوة فمات ولم يسلم كان معذورا عند عامة المشايخ إذ وجوب الأداء بالخطاب ولم يبلغه وعند الآخرين لا يكون معذورا لأن وجوب الأداء إنما يشترط فيه الخطاب إذا كان في حكم يحتمل النسخ والرفع والإيمان ليس كذلك بل إنما يبتنى صحة الأداء على كونه مشروعا في حق المؤدي كما في جمعة المسافر

(٢/٢٩٥)

قوله وللصلاة أي سبب الوجوب للصلاة هو الوقت على ما مر تحقيق ذلك في الفصل المعقود لبيان أن المأمور به نوعان مطلق ومؤقت

قوله وللزكاة أي سبب الوجوب للزكاة ملك المال الذي هو نصاب وجوب الزكاة في ذلك المال لإضافتها إليه

مثل

قوله عليه الصلاة والسلام هاتوا ربع عشر أموالكم ولتضاعف الوجوب بتضاعف النصاب في وقت واحد واعتبر الغني لأنه لا صدقة إلا عن ظهر غنى وأحوال الناس في الغنى مختلفة فقدره الشارع بالنصاب إلا أن تكامل الغنى يكون بالنماء ليصرف إلى الحاجة المتجددة فيبقى أصل المال فيحصل الغنى ويتيسر الأداء فصار النماء شرطا لوجوب الأداء تحقيقا للغنى واليسر إلا أن النماء أمر باطن فأقيم مقامه السبب المؤدي إليه وهو الحول المستجمع للفصول الأربعة التي لها تأثير في النماء بالدر والنسل وبزيادة القيمة بتفاوت الرغبات في كل فصل إلى ما يناسبه فصار الحول شرطا وتجدده تجدد للنماء وتجدد النماء تجدد للمال الذي هو السبب لأن السبب هو المال بوصف النماء والمال بهذا النماء غيره بذلك ٧ النماء فيكون تكرر الوجوب بتكرر الحول وتكرر الحكم بتكرر السبب لا بتكرر الشرط

قوله وللصوم اتفق المتأخرون على أن سبب وجوب صوم رمضان هو الشهر لأنه يضاف إليه ويتكرر بتكرره إلا أن الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى ذهب إلى أن السبب هو مطلق شهود

(٢/٢٩٦)

الشهر أعني الأيام بلياليها لأن الشهر اسم للمجموع وسببيته باعتبار إظهار شرف الوقت وذلك في الأيام والليالي جميعا ولهذا لزم القضاء على من كان أهلا في الليل ثم جن وأفاق بعد مضي الشهر ولهذا صح نية الأداء بعد تحقق جزء من الليل ولم يصح قبله وليس من حكم السبب جواز الأداء فيه بل في وقت الواجب ووقت الصوم هو النهار لا غير وذهب الأكثرون وهو المختار عند المصنف رحمه اللّه تعالى إلى أن كل يوم سبب لصومه بمعنى أن الجزء الأول الذي لا يتجزأ من اليوم سبب لصوم ذلك اليوم لأن صوم كل يوم عبادة على حدة مختص بشرائط وجوده منفرد بالانتقاض بطريان نواقضه فيتعلق بسبب على حدة

وأما جواز النية بالليل ووجوب القضاء على من أفاق في بعض الشهر فقد مر بيانه في باب الأمر

قوله وعن

إما لانتزاع الحكم يعني أن كلمة عن تدل على انتزاع الشيء عن الشيء وانفصاله عنه لأنها للبعد والمجاوزة فإذا وقعت صلة للأداء فهي بحكم الاستقرار

إما أن تكون لانتزاع الحكم عن السبب كما يقال أدى الزكاة عن ماله والخراج عن أرضه أو تكون للدلالة على أن ما وجب على محل قد أداه عنه غيره كأنه نائب عنه كما يقال أدى العاقلة الدية عن القاتل وحمل الحديث عن المعنى الثاني باطل لأنه يقتضي الوجوب على العبد والكافر والفقير الذين يكونون في مؤنة المكلف ضرورة دخولهم فيمن تمونون وهذا باطل لأن العبد لا يملك شيئا فلا يكلف بوجوب مالي والكافر ليس من أهل القربة والفقير ممن يجب له فلا يجب عليه ويصرف إليه فلا يصرف عنه إذ لا خراج على الخراب وذكر في الأسرار ما يصلح جوابا عن هذا وهو أن العبد من حيث إنه إنسان مخاطب وهذه صدقة فالظاهر أنها عليه كالنفقة والمولى ينوب عنه ولكن في الحقيقة لا وجوب عليه لأنه التحق بالبهيمة فيما ملك عليه فعلى أصل الخلقة الوجوب على العبد وعلى اعتبار

(٢/٢٩٧)

عارض المملوكية الوجوب على المولى فوقعت كلمة عن إشارة إلى المعنى الأصلي وهكذا نقول في الصبي

وأما الكافر فخارج عقلا لأنه ليس من أهل القربة

قوله بخلاف تضاعف الوجوب فإنه أمر حقي لا يحتمل الاستعارة التي هي من أوصاف اللفظ كذا قيل وليس بسديد لأن مراد السائل بالاستعارة أنه كما جاز الإضافة إلى غير السبب مجازا فليجز تضاعف الوجوب بتضاعف غير السبب بناء على أنه يشبه السبب في احتياج الحكم إليه

فالجواب أن الإضافة إلى غير السبب وارد في الشرع كحجة الإسلام وصلاة المسافر وتضاعف الوجوب بتضاعف غير السبب ليس بوارد إلا أن يجعل تضاعفا للسبب كالحول على ما مر

وأما تكرر الواجب بتكرر الوقت فتكرر بتكرر السبب أيضا لأن السبب هو الرأس بصفة المؤنة والمؤنة يتكرر وجوبها بتكرر الحاجة والشرع جعل مثل يوم الفطر وقت الحاجة فتجدده متجدد للحاجة

قوله فهذا الدليل أقوى إشارة إلى دفع ما يتوهم من أن الترجيح بكثرة الأدلة وهو أن دليل سببية الفطر هو الإضافة فقط ودليل سببية الرأس هو الإضافة وغيرها فصرح بأنه ترجيح بالقوة

قوله وأيضا وصف المؤنة يرجح سببية الرأس لأن تعليق الحكم بوصف المؤنة في

قوله عليه السلام أدوا عمن تمونون يشعر بأن هذه الصدقة تجب وجوب المؤن والأصل في وجوب المؤن رأس يلي عليه كما في العبيد والبهائم ففيه تنبيه أيضا على اعتبار المؤنة والولاية

قوله وللحج أي سبب الوجوب للحج هو البيت بدليل الإضافة لا الوقت أو الاستطاعة إذ لا إضافة إليه ولا يتكرر بتكرره مع صحة الأداء بدون الاستطاعة كما في الفقير بل الوقت شرط لجواز الأداء والاستطاعة لوجوبه إذ لا جواز بدون الوقت ولا وجوب بدون استطاعة

قوله وللعشر يعني أن سبب كل من العشر والخراج هو الأرض النامية إلا أنها سبب للعشر بالنماء الحقيقي وللخراج بالنماء التقديري وهو التمكن من الزراعة والانتفاع وذلك لأن العشر

(٢/٢٩٨)

مقدر بجنس الخارج فلا بد من حقيقته والخراج مقدر بالدراهم فيكفي النماء التقديري فقوله بحقيقة الخارج متعلق بالنامية ثم كل من العشر والخراج مؤنة للأرض حتى لا يعتبر فيه الأهلية الكاملة لأن اللّه تعالى حكم ببقاء العالم إلى الحين الموعود وذلك بالأرض وما يخرج منها فتجب عمارتها والنفقة عليها كالعبيد والدواب فيلزم الخراج للمقاتلة الذابين عن الدار الحامين لها عن الأعداء والعشر للمحتاجين والضعفاء الذين بهم يستنزل النصر على الأعداء ويستمطر في السنة الشهباء فتكون النفقة على الفريقين نفقة على الأرض تقديرا ثم باعتبار النماء الحقيقي العشر عبادة لأن الواجب جزء من النماء أعني الخارج من الأرض قليلا من كثير بمنزلة الزكاة من المال النامي وباعتبار النماء التقديري الخراج عقوبة لما في الاشتغال بالزراعة من الإعراض عن الجهاد الأصغر والأكبر والإقبال على المبغوض المذموم بلسان الشرع والدنو من رأس الخطيئات أو هذا يصلح سببا للذلة والصغار وضرب ما هو بمنزلة الجزية ولا خفاء في أن الأرض أصل والنماء وصف وتبع فيكون باعتبار الأصل منهما مؤنة وباعتبار الوصف العشر عبادة والخراج عقوبة فيتنافيان باعتبار الوصف فلا يجتمعان في سبب واحد هو الأرض النامية وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى يجب العشر من الأرض الخراجية وإن لم يجب الخراج من الأرض العشرية وذلك لأن سبب الخراج عنده الأرض وسبب العشر الخارج من الأرض

قوله وللطهارة إرادة الصلاة لترتبها عليها في

قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة ومثل هذا مشعر بالسببية

وأما إضافتها إلى الصلاة وثبوتها بثبوتها وسقوطها بسقوطها فإنما يصلح دليلا على سببية الصلاة دون إرادتها والحدث شرط لوجوب الطهارة لأن الغرض من الطهارة أن يكون الوقوف بين يدي الرب بصفة الطهارة فلا يجب تحصيلها

(٢/٢٩٩)

إلا على تقدير عدمها وذلك بالحدث فيتوقف وجوب الطهارة على الحدث فيكون شرطا ولهذا لو توضأ من غير وجوب كما لو توضأ قبل الصلاة واستدام إلى الوقت جازت الصلاة بها لأن المعتبر في الشرط هو الوجود قصد أو لم يقصد وليس الحدث بسبب لأن سبب الشيء ما يفضي إليه ويلائمه والحدث يزيل الطهارة وينافيها

وقد يجاب بأنه لا يجعل سببا لنفس الطهارة بل لوجوبها وهو لا ينافيه بل يفضي إليه لا يقال لو كان الحدث شرطا لوجوب الطهارة وهي شرط للصلاة لكان الحدث شرطا للصلاة لأن شرط الشرط شرط وأيضا الصلاة مشروطة بالطهارة فيتأخر عنها فلو كانت سببا للطهارة لتقدمت عليها وهذا محال لأنا نجيب عن الأول بأن شرط الصلاة وجود الطهارة لا وجوبها والمشروط بالحدث وجوبها لا وجودها

وعن الثاني بأن المشروط هو صحة الصلاة ومشروعيتها والشرط وجود الطهارة والسبب هو إرادة الصلاة لا نفسها والمسبب هو وجوب الطهارة لا وجودها فالمتقدم غير المتأخر

قوله وللحدود والعقوبات يريد أن السبب يكون على وفق الحكم فأسباب الحدود والعقوبات المحضة تكون محظورات محضة كالزنا والسرقة والقتل وأسباب الكفارات لما فيها من معنى العبادة والعقوبة تكون أمورا دائرة بين الحظر والإباحة

مثلا الفطر في رمضان من حيث إنه يلاقي فعل نفسه الذي هو مملوك له مباح ومن حيث إنه جناية على العبادة محظور وكذا الظهار والقتل الخطأ وصيد الحرم ونحو ذلك فإن فيها كلها جهة من الحظر والإباحة بخلاف مثل الشرب والزنا فإنه يلاقي حراما محضا

فإن قيل ظاهر هذا الكلام مشعر بأن سبب كفارة اليمين هو اليمين وأنها دائرة بين الحظر والإباحة وقد سبق أن السبب الحقيقي هو الحنث واليمين سبب مجازا

قلنا بنى الكلام هاهنا على السببية المجازية لأنها أظهر وأشهر حتى ذكر صاحب الكشف أن سبب الكفارة هي اليمين بلا خلاف لإضافتها إليها إلا أنها سبب بصفة كونها معقودة لأنها الدائرة بين الحظر والإباحة لا الغموس وشرط وجوبها فوات البر لأن الواجب في اليمين هو البر احترازا عن هتك حرمة اسم اللّه تعالى والكفارة خلف عن البر ليصير كأنه لم يفت فيشترط فوات البر لئلا يلزم الجمع بين الخلف والأصل واليمين وإن انعدمت بعد الحنث في حق الأصل أعني البر لكنها قائمة في حق الخلف والسبب في الأصل والخلف واحد

قوله ولشرعية المعاملات يعني أن إرادة اللّه تعالى بقاء العالم إلى حين علمه وزمان قدره سبب لشرعية البيع والنكاح ونحو ذلك وتقريره أن اللّه تعالى قدر لهذا النظام المنوط بنوع الإنسان بقاء إلى قيام الساعة وهو مبني على حفظ الأشخاص إذ بها بقاء النوع والإنسان لفرط اعتدال مزاجه يفتقر في البقاء إلى أمور صناعية في الغذاء واللباس والمسكن ونحو ذلك وذلك يفتقر إلى معاونة ومشاركة بين أفراد النوع ثم يحتاج للتوالد والتناسل إلى ازدواج بين الذكور والإناث وقيام بالمصالح وكل ذلك يفتقر إلى أصول كلية مقدرة من عند الشارع بها يحفظ العدل في النظام بينهم في باب المناكحات المتعلقة ببقاء النوع والمبايعات المتعلقة ببقاء الشخص إذ كل أحد يشتهي ما يلائمه ويغضب على من يزاحمه فيقع الجور ويختل أمر النظام فلهذا السبب شرعت المعاملات

قوله وللاختصاصات قد سبق أن من الأحكام ما هو أثر لأفعال العباد كالملك في البيع والحل في النكاح والحرمة في الطلاق وهذه تسمى الاختصاصات الشرعية فسببها الأفعال التي

(٢/٣٠٠)

هي آثارها وهي التصرفات المشروعة كالإيجاب والقبول مثلا فالحاصل أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية على ما مر فهي

إما أن تتعلق بأمر الآخرة وهي العبادات أو بأمر الدنيا وهي

إما أن تتعلق ببقاء الشخص وهي المعاملات أو ببقاء النوع باعتبار المنزل وهي المناكحات أو باعتبار المدنية وهي العقوبات وبهذا الاعتبار والترتيب جعل أصحاب الشافعي رحمه اللّه تعالى الفقه أربعة أركان فأسباب كل من ذلك ما يناسبه على التفصيل

قوله واعلم أنه لما كان المتعارف في العلة والسبب ما يكون له نوع تأثير ولا يوجد ذلك في بعض ما جعل علة وسببا للأحكام وكان المصطلح فيما سبق أن للعلة تأثيرا دون السبب وكان بعض ما سماه هاهنا سببا قد جعله فيما سبق علة ونفى كونه سببا أشار هاهنا إلى اختلاف الاصطلاحات إزالة للاستبعاد ونفيا لوهم الاعتراض وهذه الاصطلاحات مأخوذة من إطلاقات القوم ولا مشاحة فيها

قوله

وأما الشرط فهو على ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى أربعة شرط محض وشرط فيه معنى العلة وشرط فيه معنى السببية وشرط مجازا أي اسما ومعنى لا حكما

ووجه الضبط أن وجود الحكم إن لم يكن مضافا إليه فهو الرابع كأول الشرطين اللذين علق بهما الحكم وإن كان فإن تخلل بينه وبين الحكم فعل فاعل مختار غير منسوب إليه وكان غير متصل بالحكم فهو الثالث كحل قيد العبد وإلا فإن لم تعارضه علة تصلح لإضافة الحكم إليها فهو الثاني كشق الزق وإن عارضته فهو الأول كدخول الدار في أنت طالق إن دخلت الدار

وذكر فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى قسما خامسا سماه شرطا في معنى العلامة وهو العلامة نفسها لما أن العلامة عندهم من أقسام الشرط ولذا سمى صاحب الهداية الإحصان شرطا محضا بمعنى أنه علامة ليس فيها معنى العلية والسببية وقد يقال إن الشرط إن لم تعارضه علة فهي في معنى العلة وإن عارضته فإن كان سابقا كان في معنى العلة وإن كان مقارنا أو متراخيا فهو الشرط المحض

وفيه نظر

قوله وهو أي الشرط المحض

إما حقيقي يتوقف عليه الشيء في الواقع أو بحكم الشارع حتى لا يصح الحكم بدونه أصلا كالشهود للنكاح أو يصح إلا عند تعذره كالطهارة للصلاة

وإما جعلي يعتبره المكلف ويعلق عليه تصرفاته

إما بكلمة الشرط

مثل إن تزوجتك فأنت طالق أو بدلالة

(٢/٣٠١)

كلمة الشرط بأن يدل الكلام على التعليق دلالة كلمة الشرط عليه

مثل المرأة التي أتزوجها فهي طالق لأنه في معنى إن تزوجت امرأة فهي طالق باعتبار أن ترتب الحكم على الوصف تعليق له به كالشرط

قوله وقد مر إشارة إلى بيان الشرط الجعلي وأنه ليس بمنزلة الشرط الحقيقي بحيث لا يصح الحكم بدونه

قوله فيضاف أي إذا لم يعارض الشرط علة صالحة لإضافة الحكم إليها فالحكم يضاف إلى الشرط لأنه يشابه العلة في توقف الحكم عليه بخلاف ما إذا وجدت حقيقة العلة الصالحة فإنه لا عبرة حينئذ بالشبه والحلف فلو شهد قوم بأن رجلا علق طلاق امرأته الغير المدخولة بدخول الدار وآخرون بأنها دخلت الدار وقضى القاضي بوقوع الطلاق ولزوم نصف المهر فإن رجع شهود دخول الدار وحدهم ضمنوا للزوج ما أداه إلى المرأة من نصف المهر لأنهم شهود الشرط السالم عن معارضة العلة الصالحة لإضافة الحكم إليها وإذا رجع شهود دخول الدار وشهود اليمين أي التعليق جميعا فالضمان على شهود التعليق لأنهم شهود العلة

إما باعتبار ما يئول إليه باعتبار أن العلة أعم من الحقيقة ومما فيه معنى السببية أو باعتبار أنه بعد شهادة الفريقين وقضاء القاضي اتصل الحكم بالعلة فكمل العلية ومع وجود العلة الصالحة لإضافة الحكم إليها لا جهة للإضافة إلى الشرط

فإن قيل لو شهد قوم بأنه تزوج هذه المرأة بألف وآخرون بأنه دخل بها ثم رجع الفريقان فالضمان على شهود الدخول مع أنه شرط والتزوج علة

قلنا هذا مبني على أن شهود الدخول أبرءوا شهود النكاح عن الضمان حيث أدخلوا في ملك الزوج عوض ما غرم من المهر وهو استيفاء منافع البضع بخلاف ما نحن فيه

قوله كشهود التخيير فإنه سبب لكونه مفضيا إلى الحكم في الجملة والاختيار علة يحصل بها لزوم المهر فالحكم يضاف إلى العلة دون السبب

قوله فإن قال لما شرط في إضافة الحكم إلى الشرط أن لا تعارضه علة صالحة لإضافة الحكم إليها أورد مثالا ليس فيه معارضة العلة أصلا وهو ما إذا رجع شهود الشرط فقط وحكمه وجوب الضمان عليهم على ما ذكره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى

وأما المذكور في أصول الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى وأبي اليسر فهو أنهم لا يضمنون شيئا وهو المنصوص في الجامع الصغير ثم أورد مثالا يوجب فيه معارضة العلة الصالحة لإضافة الحكم إليها وهو ما

(٢/٣٠٢)

إذا رجع شهود الشرط واليمين جميعا ثم مثالا يوجد فيه معارضة العلة لكنها لا تصلح لإضافة الحكم إليها وهو ما إذا قال رجل إن كان قيد عبده عشرة أرطال فعبده حر ثم قال وإن حل أحد قيد العبد فهو حر فشهد شاهدان بأن القيد عشرة أرطال وقضى القاضي بعتق عبده فحل المولى قيد العبد فإذا هو ثمانية أرطال فعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى يضمن الشاهدان قيمة العبد لأن قضاء القاضي نافذ ظاهرا وباطنا لابتنائه على دليل شرعي واجب العمل به فلا بد من صيانته عن البطلان بإثبات التصرف المشهود به مقدما على القضاء بطريق الاقتضاء بخلاف ما إذا بان الشهود عبيدا أو كفارا فإنه لا عبرة بالقضاء حينئذ لإمكان الوقوف على حقيقة الرق والكفر

وفيما نحن فيه قد سقط حقيقة معرفة وزن القيد لأنه لا يمكن إلا بحل القيد وإذا حله يعتق العبد وإذا نفذ القضاء ظاهرا وباطنا تحقق العتق قبل الحل فلم يمكن إضافته إليه والعلة أعني التعليق غير صالحة للإضافة إليها لأنها تصرف من المالك في ملكه من غير تعد ولا جناية كما إذا باع مال نفسه أو أكل طعام نفسه فتعين الإضافة إلى الشرط وهو كون القيد عشرة أرطال والشهود قد تعدوا بالكذب المحض فيجب الضمان عليهم

وعندهما ينفذ القضاء ظاهرا لا باطنا لأنه مبني على الحجة الباطلة إلا أن العدالة الظاهرة دليل الصدق ظاهرا فيعتبر حجة في وجوب العمل وإذا لم ينفذ باطنا كان العبد رقيقا بعد القضاء ويعتق بحل المولى قيده فلا يضمن الشهود

وما ذكرنا من أن العلة هي يمين المالك أعني تعليقه العتق هو المذكور في أصول فخر الإسلام رحمه اللّه وغيره وهو الموافق لما تقرر عندهم من أن علل الاختصاصات الشرعية هي التصرفات المشروعة حتى لو ادعى شراء الدار وأقام البينة وقضى القاضي كانت علة الملك هي الشراء دون القضاء فما ذهب إليه المصنف رحمه اللّه تعالى من أن العلة هي قضاء القاضي بوقوع العتق محل نظر

والعجب أنه صرح في مسألة رجوع الفريقين أعني شهود التعليق وشهود الشرط بأن العلة هي شهود التعليق وهي صالحة لإضافة الضمان إليها لأنها أثبتت العتق بطريق التعدي حيث ظهر كذبهم بالرجوع فلم كانت العلة في مسألة حل القيد هي قضاء القاضي دون تعليق المالك والتحقيق أنه بان في الصورتين أن العتق لم يكن متحققا في الواقع وإنما لزم بقضاء القاضي

(٢/٣٠٣)

المبني على الشهادة الباطلة وهو حكم يؤدي إلى هلاك المال ففي صورة رجوع الفريقين شهود التعليق علة متعدية صالحة لإضافة الضمان إليها فلا يضاف إلى شهود الشرط أعني وقوع المعلق عليه

وفي مسألة حل القيد العلة غير صالحة لإضافة الضمان إليها لخلوها عن معنى التعدي فيضاف إلى الشرط وهو شهود كون القيد عشرة أرطال لتعديهم بالكذب المحض إذ لا مساغ للإضافة إلى الحل لتحقق العتق قبله ظاهرا وباطنا مع أن شهود الشرط هاهنا بمنزلة شهود العلة من وجهين أحدهما أن وزن القيد متحقق الوجود والشرط ما يكون على خطر الوجود

وثانيهما أن التعليق لما كان مقدرا يعترف به المالك والشهود قد شهدوا بوجود المعلق عليه كان ذلك في معنى الشهادة بالتنجيز فكانوا شهود العلة لإثباتهم العتق في الحقيقة

فإن قيل نحن لا نثبت الضمان حتى يضاف إلى العلة أو الشرط بل نثبت العتق بلا شيء

أجيب بأن العتق حكم يؤدي إلى هلاك المال فلا بد من الضمان والعتق بلا شيء بمنزلة الضمان على السيد فلا بد من الإضافة

قوله والمشي مباح يعني أن المشي وإن كان سببا وهو يشارك العلة في الإفضاء إلى الحكم والاتصال به فعند تعذر الإضافة إلى العلة كان ينبغي أن يضاف الحكم إليه دون الشرط إلا أن الضمان ضمان عدوان فلا بد فيما يضاف إليه من صفة التعدي ولا تعدي في السبب أعني المشي لأنه مباح محض وهذا مشعر بأنه لو كان الماشي أيضا متعديا كما إذا كان الحفر في ملك الغير فسقط الماشي بغير إذن المالك لم يكن الضمان على الحافر ولا رواية في ذلك بل الرواية مطلقة في ضمان الحافر المتعدي

لا يقال مراده أن المشي مباح في نفسه وإن حرم بالغير في بعض الصور كما إذا كان في ملك الغير لأنا نقول الحفر أيضا كذلك والظاهر أن تقييد المشي بالإباحة احتراز عن محل الخلاف ففي بعض الوجوه عن أصحاب الشافعي رحمه اللّه تعالى أنه لا ضمان على الحافر عند تعدي المشي

قوله بخلاف ما إذا أوقع نفسه في بئر العدوان فإنه لا ضمان على الحافر لأن الإيقاع علة متعدية صالحة للإضافة فلا يضاف إلى الشرط

(٢/٣٠٤)

قوله

وأما وضع الحجر يعني أن هذه الأمور طرق مفضية إلى التلف فتكون أسبابا لها حكم العلل بخلاف الحفر فإنه إزالة للمانع أعني إمساك الأرض فيكون شرطا وهاهنا نظر وهو أنه لا معنى للسببية إلا الإفضاء إلى الحكم والتأدي إليه من غير تأثير وهذا حاصل في الحفر وحل القيد وفتح الباب ونحو ذلك

قوله وهو أي الشرط الذي في حكم السبب شرط اعترض عليه أي حصل بعد حصوله فعل فاعل مختار غير منسوب ذلك الفعل إلى الشرط فخرج الشرط المحض

مثل إن دخلت الدار فأنت طالق إذ التعليق وهو فعل المختار لم يعترض على الشرط بل بالعكس وخرج ما إذا اعترض على الشرط فعل فاعل غير مختار بل طبيعي كما إذا شق زق الغير فسال المائع فتلف وخرج ما إذا كان فعل المختار منسوبا إلى الشرط كما إذا فتح الباب على وجه يفر الطائر فخرج فإنه ليس في معنى السبب بل في معنى العلة ولهذا يضمن

وأما وجوب الضمان عند محمد رحمه اللّه في صورة فتح باب القفص فليس مبنيا على أن طيران الطائر منسوب إلى الفتح بل على أن فعل الطائر هدر فيلحق بالأفعال الغير الاختيارية كسيلان المائع

قوله لا يضمن عندنا مشعر بالخلاف وليس كذلك

قوله فإن الحل بيان لكون حل القيد في حكم السبب لا تعليل لعدم الضمان وتقريره أن الشرط المحض يتأخر عن صورة العلة والسبب يتقدمها لأنه طريق إلى الحكم ومفض إليه بأن تتوسط العلة بينهما فيكون متقدما لا محالة وإنما قال صورة العلة لأن الشرط المحض يتقدم على انعقادها علة لما سبق من أن التعليق يمنع العلية إلى وجود الشرط فلا بد من أن يثبت الشرط حتى تنعقد العلة فحل القيد لما كان متقدما على الإباق الذي هو علة التلف كان شرطا في معنى السبب لا في معنى العلة لأن العلة هاهنا مستقلة غير مضافة إلى السبب ولا حادثة به بخلاف سوق الدابة

وأما إذا أمر عبد الغير بالإباق فأبق فإنما يضمن بناء على أن أمره استعمال للعبد وهو غصب بمنزلة ما إذا استخدمه فخدمه

وما يقال في بيان تقدم السبب على صورة العلة أن ما هو مفض إلى الشيء ووسيلة إليه فلا بد أن يكون سابقا عليه ليس بمستقيم لأنه مفض إلى الحكم والمطلوب تقدمه على

(٢/٣٠٥)

صورة العلة وهاهنا نظر وهو أن وجوب تأخر الشرط عن صورة العلة إنما هو في الشرط التعليقي لا الحقيقي كالشهادة في النكاح والطهارة في الصلاة والعقل في التصرفات على ما سيجيء

قوله له أي لمحمد أن فعل الطير والبهيمة هدر شرعا فلا يصلح لإضافة التلف إليه فيضاف إلى الشرط وأيضا هما لا يصبران عن الخروج عادة ففعلهما يلتحق بالأفعال الطبيعية بمنزلة سيلان المائع فظهر أن كلا من كون فعلهما هدرا وكونه بمنزلة الأفعال الطبيعية مستقل في الاستدلال على الضمان فسوق كلام المصنف رحمه اللّه تعالى ليس كما ينبغي ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللّه تعالى أنه إن أريد أن فعل الطير والبهيمة هدر في إضافة الحكم إليه فمسلم لكنه لا ينافي اعتباره في قطع الحكم عن الشرط وإن أريد أنه هدر مطلقا حتى لا يعتبر في قطع الحكم عن الغير فممنوع كما إذا أرسل شخص كلبه على صيد فمال عن سنن الصيد ثم اتبعه فأخذه لا يحل لأن فعله وهو الميل عن السنن هدر في إضافة الحكم إليه لكونه بهيمة لكنه معتبر في منع إضافة الفعل عن المرسل ولا يخفى أن هذا جواب عن الوجه الأول فقط من استدلال محمد بناء على ما ساق كلامه من أنه استدلال واحد

فإن قيل هب أن فتح الباب شرط لا علة لكن سبق أن الشرط إذا لم يعارضه علة صالحة لإضافة الحكم إليها فالحكم يضاف إلى الشرط وهاهنا كذلك لأن فعل البهيمة لا يصلح علة للضمان

قلنا لا نسلم أنه لا يصلح علة للضمان على المالك

وقد يقال الحكم هاهنا هو التلف لا الضمان ولا نزاع في صحة إضافته إلى فعل البهيمة

قلنا وكذلك إلى الفعل الطبيعي فينبغي أن لا يضمن في صورة شق الزق

(٢/٣٠٦)

قوله وإذا قال الولي فإن عورض بأن الظاهر أن الإنسان لا يلقي نفسه في البئر

أجيب بأن التمسك بالظاهر إنما يصلح للدفع والولي محتاج إلى استحقاق الدية على العاقلة فلا بد من إقامة البينة على أنه وقع في البئر بغير تعمد منه

قوله

وأما شرط اسما لا حكما كما إذا قال إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق فأول الشرطين بحسب الوجود شرط اسما لتوقف الحكم عليه في الجملة لا حكما لعدم تحقق الحكم عنده فإن دخلت الدارين وهي في نكاحه طلقت اتفاقا وإن أبانها فدخلت الدارين أو دخلت إحداهما فأبانها فدخلت الأخرى لم تطلق اتفاقا وإن أبانها فدخلت إحداهما ثم تزوجها فدخلت الأخرى تطلق عندنا لأن اشتراط الملك حال وجود الشرط إنما هو لصحة وجود الجزاء لا لصحة وجود الشرط بدليل أنها لو دخلت الدارين في غير الملك انحلت اليمين ولا لبقاء اليمين لأن محل اليمين هي الذمة فيبقى ببقائها ولا يشترط إلا عند الشرط الثاني لأنه حال نزول الجزاء المفتقر إلى الملك وبهذا يخرج الجواب عن وجه قول زفر رحمه اللّه تعالى إن الشرطين شيء واحد في وجود الجزاء وفي أحدهما يشترط الملك وكذا في الآخر

(٢/٣٠٧)

قوله

وأما العلامة هي على مقتضى تفسير المصنف رحمه اللّه تعالى ما تعلق بالشيء من غير تأثير فيه ولا توقف له عليه بل من جهة أنه يدل على وجود ذلك الشيء فيباين الشرط والسبب والعلة والمشهور أنها ما يكون علما على الوجود من غير أن يتعلق به وجوب ولا وجود إلا أنهم مثلوا فيه بالإحصان مع أن وجوب الرجم موقوف عليه وسماه بعضهم شرطا فيه معنى العلامة وبعضهم شرطا على الإطلاق لتوقف وجوب الرجم عليه

وأما تقدمه على وجود الزنا فلا ينافي ذلك فإن تأخر الشرط عن صورة العلة ليس بلازم بل من الشروط ما يتقدمها كشروط الصلاة وشهود النكاح كذا في الكشف وهو حاصل الإشكال الذي ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى

وأجاب عنه بأن لزوم التأخر عن صورة العلة إنما هو في الشرط التعليقي

وأما الحقيقي أعني ما يتوقف عليه الشيء عقلا أو شرعا فقد يتقدم على صورة العلة كشروط الصلاة وشهود النكاح وقد يتأخر كالحفر المتأخر عن وجود ثقل زيد وقطع الحبل المتأخر عن وجود ثقل القنديل والمتأخر لكونه أقوى بواسطة اتصاله بالحكم يسمى شرطا في معنى العلة والمتقدم لعدم مقارنة الحكم يسمى علامة

وحاصل هذا الكلام أن الإحصان شرط إلا أنه سمي علامة لمشابهته العلامة في عدم الاتصال بالحكم ثم ظاهر كلام المصنف رحمه اللّه تعالى محل نظر

أما أولا فلأن الشرط التعليقي قد يكون

(٢/٣٠٨)

متقدما وإنما المتأخر ظهوره والعلم به كما في تعليق عتق العبد بكون قيده عشرة أرطال

وأما ثانيا فلأنه ليس كل شرط متقدم يسمى علامة كالطهارة للصلاة ولا كل شرط متأخر يكون في معنى العلة كشهود اليمين على ما سبق

وأما ثالثا فلأن الشرط الذي في معنى العلة قد يتقدم على صورة العلة كما إذا كان ولادة من سقط في البئر بعد حفر البئر فإن ثقله الذي هو العلة قد حصل بعد الشرط أعني إزالة الإمساك عن الأرض

قوله ولما كان لي نظر في كون الإحصان علامة لا شرطا في معنى العلة لقائل أن يقول كونه علامة وإن صلح محلا للنظر إلا أنه لا خفاء في أنه ليس شرطا في معنى العلة

إذ الشرط إنما يكون في معنى العلة إذا لم يعارضه علة صالحة لإضافة الحكم إليها كالزنا هاهنا مع أن الإحصان عبارة عن خصال حميدة بعضها مندوب إليه وبعضها مأمور به فلا يصلح أن يكون في معنى العلة الموجبة للعقوبة المحضة

قوله

فإن قيل مبنى هذا السؤال على الرواية المذكورة في الأسرار وهي أن عتق هذا العبد لا يثبت بشهادة الكافرين وإن كانت شهادتهما حجة على هذا العتق لولا الزنا وذلك لأن قبول الشهادة في الإعتاق قبل الزنا يستلزم إيجاب الرجم على المسلم ضرورة تحقق الإحصان والمذكور في الهداية وأكثر الكتب أنه يثبت العتق تضررا على المولى الكافر ولا يثبت سبق تاريخ الإعتاق على الزنا فيه من تضرر المسلم بوجوب الرجم عليه

والحاصل أن شهادتهما تتضمن ثبوت العتق وتقدمه على الزنا وضرر الأول يرجع إلى الكافر فتقبل والثاني إلى المسلم فلا تقبل

قوله وهنا لا يثبتها أي في صورة ثبوت الإحصان بشهادة الرجال مع النساء لا تثبت بشهادة

(٢/٣٠٩)

النساء العقوبة لأن الإحصان علامة لا علة أو سبب أو شرط في معنى العلة ليكون إثباته إثبات العقوبة

قوله وهو يصلح الضمير للشهادة تذكيره باعتبار أن المصدر في معنى أن مع الفعل

قوله وهو ما ذكر أي إضرار المسلم في هذه الصورة تكذيبه في ادعائه الرق ودفع إنكاره لاستحقاقه الرجم وحاصل الكلام أن امتناع قبول شهادة النساء لخصوصية في المشهود به وهو الحد وذلك منتف في الإحصان لأنه علامة لا موجب وامتناع قبول شهادة الكفار لخصوصية في المشهود عليه وهو كونه مسلما فلا يقبل في الصورة المذكورة لتضرر العبد المسلم فإن الرق مع الحياة خير من العتق مع الرجم

(٢/٣١٠)

قوله وعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى لا تقبل شهادة القابلة في الصورة المذكورة لأن الولادة في حقنا ليست بعلامة بل بمنزلة العلة المثبتة للنسب ضرورة أنا لا نعلم ثبوت النسب إلا بها فيشترط لإثباتها كمال الحجة رجلا أو رجل وامرأتان بخلاف ما إذا وجد الفراش القائم أو الحبل الظاهر أو إقرار الزوج بالحبل فإن كلا من ذلك دليل ظاهر يستدل إليه ثبوت النسب فتكون الولادة علامة معرفة

قوله وإذا علق بالولادة طلاق يعني فيما إذا لم يكن الحبل ظاهرا ولا الزوج مقرا به إذ لو وجد أحدهما فعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى يثبت بمجرد إقرارها بالولادة كما في تعليق الطلاق بالحيض ووجه إيراد هذه المسألة هاهنا أن الولادة علامة لثبوت النسب وإن جعلت شرطا تعليقا فيعتبر عندهما جانب كونه علامة حتى يثبت بشهادة امرأة فيثبت ما يتبعها من الطلاق وغيره وعنده يعتبر جانب الشرطية حتى لا يثبت في حق الطلاق إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولا امتناع في ثبوت الولادة في حق نفسها لا في حق وقوع الطلاق كما أنه لا امتناع في ثبوت ثيابة الأمة في نفسها لا في حق استحقاق الرد على البائع فيما إذا اشترى أمة على أنها بكر فادعى المشتري على

(٢/٣١١)

أنها ثيب وشهدت امرأة بذلك

وتحقيق ذلك أن للولادة أصلا ووصفا وهو كونها شرطا والثابت بشهادة الواحدة هو الأول دون الثاني

وأما ثبوت النسب فإنما يكون بالفراش القائم وبالولادة يظهر أن النسب كان ثابتا بالفراش القائم وقت العلوق كذا في شرح التقويم

قوله بخلاف الجلد جواب عما يقال إن الجلد ورد الشهادة قد رتبا على الرمي والعجز عن إقامة البينة بقوله تعالى والذين يرمون المحصنات الآية فإذا كان العجز علامة في حق رد الشهادة فكذا في حق الجلد فينبغي أن يقدم الجلد على العجز لا سيما أن القران في النظم يوجب القران في الحكم عند الشافعي

فإن قيل إن

قوله تعالى ثم لم يأتوا عطف على يرمون فيكون شرطا مثله كما إذا قيل إن دخلت الدار ثم كلمت زيدا فأنت طالق وعبدي حر كان تكلم زيد شرطا للطلاق والعتق جميعا مثل الدخول في الدار فلو جعل مجرد الدخول شرطا في حق العتق لزم إلغاء الشرط الثاني في حقه

قلنا لو سلم أن

قوله تعالى ولا تقبلوا عطف على فاجلدوهم لا على مجموع الجملة الاسمية فإنما جعلنا العجز عن إقامة البينة لغوا في حق رد الشهادة لما لاح من الدليل على أنه في حقه علامة لا شرط حقيقي وفي حق الجلد شرط لا علامة وهو أن القذف في نفسه كبيرة فيكفي في رد الشهادة

وتقدم الجلد على العجز ليس بممكن بل يتوقف عليه فيكون شرطا

(٢/٣١٢)

قوله

قلنا يعني لا نسلم أن القذف في نفسه كبيرة موجبة لرد الشهادة بل هو متردد بين أن يكون جناية فيكون فسقا وبين أن يكون حسبة للّه تعالى منعا للفاحشة ولو كان في نفسه كبيرة وفاحشة لم تكن الشهادة عليه مقبولة أصلا

فإن قيل لما احتمل الحسبة ولم يكن جناية محضة كان ينبغي أن لا يتعلق به الحد ورد الشهادة

قلنا هو وإن احتمل أن يكون حسبة إلا أنه لا يحل الإقدام عليه وإن كان صادقا إلا أن يوجد الشهود في البلد فإذا مضى زمان يتمكن من إحضار الشهود وهو إلى آخر المجلس في ظاهر الرواية وإلى ما يراه الإمام وهو المجلس الثاني في رواية عن أبي يوسف رحمه اللّه ولم يحضرهم صار القذف كبيرة مقتصرة على الحال لا مستندة إلى الأصل لاحتمال أنه قذف وله بينة عادلة إلا أنه عجز عن إحضارهم لموتهم أو غيبتهم أو امتناعهم عن الأداء وإذا كان ثبوت الفسق ورد الشهادة مقتصرا على حال العجز كان العجز شرطا لا علامة

فإن قيل لو كان القذف مترددا بين الحسبة والجناية فكما اعتبر جهة الجناية رعاية لجانب المقذوف بإقامة الحد على

(٢/٣١٣)

القاذف ينبغي أن يعتبر جهة الحسبة رعاية لجانب القاذف

قلنا قد اعتبر ذلك في أنه إن أتى بالبينة على زنا المقذوف قبل تقادم العهد أقيم الحد عليه وإن أتى بها بعده بطل رد شهادة القذف وصار مقبول الشهادة لكن لم يقم الحد على المقذوف لأن تقادم العهد شبهة يدرأ بها الحد واختلفوا في حد التقادم فأشار في الجامع الصغير إلى ستة أشهر وفوضه أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى إلى رأي القاضي في كل عصر والأصح أنه مقدر بشهر

قوله باب المحكوم به وهو الفعل الذي تعلق به خطاب الشارع فلا بد من تحققه حسا أي من وجوده في الواقع بحيث يدرك بالحس أو بالعقل إذ الخطاب لا يتعلق بما لا يكون له وجود أصلا والمراد بالوجود الحسي ما يعم مدركات العقل بطريق التغليب ليدخل فيه مثل تصديق القلب والنية في العبادات ثم مع وجوده الحسي

إما أن يكون له وجود شرعي أو لا وكل من القسمين

إما أن يكون سببا لحكم شرعي أو لا ومعنى الوجود الشرعي أن يعتبر الشارع أركانا وشرائط يحصل من اجتماعها مجموع مسمى باسم خاص يوجد بوجود تلك الأركان والشرائط وينتفي بانتفائها كالصلاة والبيع ومعنى سببية الفعل لحكم شرعي أن يجعل الشارع ذلك الفعل بالتعيين سببا لحكم

(٢/٣١٤)

شرعي هو صفة لفعل المكلف كالزنا لوجوب الحد أو أثر له كالبيع للملك بخلاف الأكل فإن الشارع لم يجعله بالتعيين سببا لبطلان الصوم مثلا بل جعل الإمساك من أركان الصوم فيلزم بطلانه بانتفائه ثم ما له وجود شرعي إن وجد بجميع أركانه وشرائطه مع أوصاف أخر معتبرة في الشرع في ذلك الفعل لكن لا من حيث إنها ذاتية لها فهو صحيح بالأصل والوصف وهو المراد بالصحيح عند الإطلاق وإن وجدت الأركان والشرائط دون الأوصاف المعتبرة الغير الذاتية كالبيع بالخمر أو الخنزير يسمى فاسدا من قولهم فسد الجوهر إذا ذهب رونقه وطراوته وبقي أصله وإن انتفى شيء من الأركان والشرائط يسمى باطلا كبيع المضامين والملاقيح لانتفاء الركن وكالنكاح بلا شهود لانتفاء الشرط وكثيرا ما يطلق أحدهما على الآخر كما قالوا بيع أم الولد والمدبر والمكاتب فاسد أي باطل وأطلقوا على البيع بالميتة والدم تارة لفظ الفاسد وأخرى لفظ الباطل وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى هما لفظان مترادفان ولا مشاحة في الاصطلاح

قوله ثم المحكوم به

إما حقوق اللّه تعالى المراد بحق اللّه ما يتعلق به النفع العام من غير اختصاص بأحد فينسب إلى اللّه تعالى لعظم خطره وشمول نفعه وإلا فباعتبار التخليق الكل سواء في الإضافة إلى اللّه تعالى للّه ما في السماوات وما في الأرض وباعتبار التضرر أو الانتفاع هو متعال عن الكل ومعنى حق العبد ما يتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير فظهر بما ذكرنا أنه لا يتصور قسم آخر اجتمع فيه حق اللّه تعالى وحق العبد على التساوي في اعتبار الشارع

(٢/٣١٥)

قوله

أما حقوق اللّه تعالى فثمانية عبادات خالصة كالإيمان وعقوبات خالصة كالحدود وقاصرة كحرمان الميراث وحقوق دائرة بين الأمرين كالكفارات وعبادات فيها معنى المؤنة كصدقة الفطر ومؤنة فيها معنى العبادة كالعشر ومؤنة فيها شبهة العقوبة كالخراج وحق قائم بنفسه كخمس الغنائم وذلك بحكم الاستقراء

قوله وكل أي كل واحد من الإيمان وفروعه مشتمل على الأصل والملحق به والزوائد بمعنى أن في جملة الفروع أصلا وملحقا به وزوائد لا بمعنى أن كل واحد من الفروع مشتمل على الثلاثة والمراد بالفروع ما سوى الإيمان من العبادات لابتنائها على الإيمان واحتياجها إليه ضرورة أن من لم يصدق باللّه لم يتصور منه التقرب إليه وكون الطاعات من فروع الإيمان وزوائده لا ينافي كونها في نفسها مما له أصل وملحق به وزوائد فأصل الإيمان هو التصديق بمعنى إذعان القلب وقبوله لوجود الصانع ووحدانيته وسائر صفاته ونبوة محمد عليه السلام وجميع ما علم مجيئه به بالضرورة على ما هو معنى الإيمان في اللغة إلا أنه قيد بأشياء مخصوصة ولهذا قال النبي عليه السلام الإيمان أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله الحديث فنبه على أن المراد بالإيمان معناه اللغوي وإنما الاختصاص في المؤمن به فمعنى التصديق هو الذي يعبر عنه بالفارسية

(٢/٣١٦)

بكر يثلغوا يفضله مطرق داشتن وهو المراد بالتصديق الذي جعله المنطقيون أحد قسمي العلم على ما صرح به رئيسهم ولهذا فسره السلف بالاعتقاد والمعرفة مع اتفاقهم على أن بعض الكفار كانوا يعرفون النبي عليه السلام كما يعرفون أبناءهم ويستيقنون أمره لا أنهم استكبروا ولم يذعنوا فلم يكونوا مصدقين والملحق بأصل الإيمان هو الإقرار باللسان لكونه ترجمة عما في الضمير ودليلا على تصديق القلب وليس بأصل لأن معدن التصديق هو القلب ولهذا قد يسقط الإقرار عند تعذره كما في الأخرس أو تعسره كما في المكره وكون الإقرار ركنا من الإيمان ملحقا بأصله إنما هو عند بعض العلماء كالإمام السرخسي والإمام فخر الإسلام رحمهما اللّه تعالى وكثير من الفقهاء وعند بعضهم الإيمان هو التصديق وحده والإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا حتى لو صدق بالقلب ولم يقر باللسان مع تمكنه منه كان مؤمنا عند اللّه تعالى وهذا أوفق باللغة والعرف إلا أن في عمل القلب خفاء فنيطت الأحكام بدليله الذي هو الإقرار ولهذا اتفق الفريقان على أنه أصل في الأحكام الدنيا لابتنائها على الظاهر حتى لو أكره الحربي أو الذمي فأقر صح إيمانه في حق أحكام الدنيا مع قيام القرينة على عدم التصديق ولو أكره المؤمن على الردة أي التكلم بكلمة الكفر فتكلم بها لم يصر مرتدا في حق أحكام الدنيا لأن التكلم بكلمة الكفر دليل الكفر فلا يثبت حكمه مع قيام المعارض وهو الإكراه وركنه إنما هو تبدل الاعتقاد وزوائد الإيمان هي الأعمال لما ورد في الأحاديث من أنه لا إيمان بدون الأعمال نفيا لصفة الكمال بناء على أنها من متممات الإيمان ومكملاته الزائدة عليه

وأما الفروع فالأصل فيها الصلاة لأنها عماد الدين وتالية الإيمان شرعت شكرا للنعم الظاهرة والباطنة لما فيها من أعمال الجوارح

(٢/٣١٧)

وأفعال القلب والملحق به الصوم من حيث إنه عبادة بدنية خالصة فيها تطويع النفس الأمارة لخدمة خالقها لا مقصودة بالذات وزوائدها مثل الاعتكاف المؤدي إلى تعظيم المسجد وتكثير الصلاة حقيقة أو حكما بالانتظار على شريطة الاستعداد

قوله وعبادة فيها مؤنة كصدقة الفطر وسميت بذلك لأن جهة المؤنة فيها هي وجوبها على الإنسان بسبب رأس الغير كالنفقة وجهات العبادة كثيرة مثل تسميتها صدقة وكونها طهرة للصائم واشتراط النية في أدائها ونحو ذلك مما هو من أمارات العبادة ولما فيها من معنى المؤنة لم يشترط لها كمال الأهلية المشروطة في العبادات الخالصة فوجبت في مال الصبي والمجنون اعتبارا لجانب المؤنة خلافا لمحمد فإنه اعتبر جانب العبادة لكونها أرجح

قوله ومؤنة فيها عقوبة لما كانت المؤنة في العشر والخراج باعتبار الأصل وهو الأرض على ما سبق تحقيقه في بحث السبب والعبادة والعقوبة باعتبار الوصف وهو النماء في العشر والتمكن من الزراعة في الخراج سميا مؤنة فيها معنى العبادة والعقوبة ولما كان في الخراج معنى العقوبة والذل والمسلم أهل للكرامة والعز لم يصح ابتداء الخراج عليه حتى لو أسلم أهل الدار طوعا أو قسمت الأراضي بين المسلمين لم يصح وضع الخراج عليهم لكن صح إبقاء الخراج على المسلم حتى لو اشترى مسلم من كافر أرض خراج كان عليه الخراج لا العشر لأن الخراج لما تردد بين العقوبة الغير اللائقة بالمسلم والمؤنة اللائقة به لم يصح إبطاله بالشك ولأن جهة المؤنة راجحة فيه لكونها باعتبار الأصل أعني الأرض والمؤمن من أهل المؤنة فيصح بقاء وإن لم يصح ابتداء ولما كان في العشر معنى العبادة لم يصح ابتداء على الكافر لأن الكفر ينافي القربة من كل وجه ولأن في العشر ضرب كرامة والكفر مانع عنه مع إمكان الخراج كما أن في الخراج ضرب إهانة والإسلام مانع عنه مع إمكان العشر

وأما بقاء كما إذا ملك ذمي أرضا عشرية فعند محمد تبقى على العشر لأنه من مؤن الأرض والكافر أهل للمؤنة ومعنى القربة تابع فيسقط في حقه وعند أبي يوسف يضاعف العشر لأن الكفر مناف للقربة فلا بد من تغيير العشر والتضعيف تغيير للوصف فقط فيكون أسهل من إبطال العشر ووضع الخراج لما فيه من تغيير الأصل والوصف جميعا والتضعيف في حق الكافر مشروع في الجملة كصدقات بني تغلب وما يمر به الذمي على العاشر لا يقال فيه تضعيف

(٢/٣١٨)

للقربة والكفر ينافيها لأنا نقول بعد التضعيف صار في حكم الخراج الذي هو من خواص الكفارة وخلا عن وصف القربة وعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى ينقلب العشر خراجا لأن العشر لم يشرع إلا بوصف القربة والكفر ينافيه فيسقط بسقوطه والتضعيف أمر ثبت بالإجماع على خلاف القياس في قوم معينين تعذر إيجاب الجزية أو الخراج عليهم خوفا من الفتنة لكثرتهم وقربهم من الروم فلا يصار إليه مع إمكان ما هو أصل في الكافر وهو الخراج

قوله وحق قائم بنفسه أي ثابت بذاته من غير أن يتعلق بذمة عبد يؤديه بطريق الطاعة كخمس الغنائم والمعادن فإن الجهاد حق اللّه تعالى إعزازا لدينه وإعلاء لكلمته فالمصاب به كله حق اللّه تعالى إلا أنه جعل أربعة أخماس للغانمين امتنانا واستبقى الخمس حقا له لا حقا لزمنا أداؤه طاعة وكذا المعادن ولهذا جاز صرف خمس المغنم إلى الغانمين وإلى آبائهم وأولادهم وخمس المعدن إلى الواجد عند الحاجة

قوله وقاصرة كحرمان الميراث فإنه حق اللّه تعالى إذ لا نفع فيه للمقتول ثم إنه عقوبة للقاتل لكونه غرما لحقه بجنايته حيث حرم مع علة الاستحقاق وهي القرابة لكنها قاصرة من جهة أن القائل لم يلحقه ألم في بدنه ولا نقصان في ماله بل امتنع ثبوت ملكه في تركة المقتول ولما كان الحرمان عقوبة وجزاء للقتل أي لمباشرة الفعل نفسه بأن يتصل فعله بالمقتول ويحصل أثره بناء على أن الشارع رتب الحكم على الفعل حيث قال لا ميراث للقاتل لم يثبت في حق الصبي إذا قتل مورثه عمدا أو خطأ لأن فعله لا يوصف بالحظر والتقصير لعدم الخطاب والجزاء يستدعي ارتكاب محظور ولا في القتل بالسبب بأن حفر بئرا في غير ملكه فوقع فيها مورثه وهلك أو شهد على

(٢/٣١٩)

مورثه بالقتل فقتل ثم رجع هو عن شهادته فإن السبب ليس بقتل حقيقة وإطلاق السبب على الحفر باعتبار أنه شرط في معنى السبب أي العلة

فإن قيل قد ثبت الحرمان بدون التقصير كمن قتل مورثه خطأ فالجواب أن البالغ الخاطئ يوصف بالتقصير لكونه محل الخطاب إلا أن اللّه تعالى رفع حكم الخطأ في بعض المواضع تفضلا منه ولم يرفعه في القتل لعظم خطر الدم

قوله لأنها أي الكفارات عند الشافعي رحمه اللّه تعالى ضمان المتلف ولا فرق في التلف بين المباشرة والتسبب واعترض عليه بأن ضمان المتلف لا يصح في حقوق اللّه تعالى لأنه منزه عن أن يلحقه خسران محتاج إلى جبره بل الضمان في حقوقه جزاء للفعل قتل المراد بالمتلف هو الحق الثابت لصاحب الشرع الفائت بفعل يضاده كالاستعباد الفائت بالقتل وليس المراد بالمتلف هو المحل

أما في القتل فلأن ضمانه الدية أو القصاص

وأما في غيره فظاهر

قوله وهي أي العبادة غالبة في الكفارات لأنها صوم أو إعتاق أو صدقة يؤمر بها بطريق الفتوى دون الجبر واستثنى القوم من هذا الحكم كفارة الفطر فإن جهة العقوبة فيها غالبة متمسكين بقوله عليه الصلاة والسلام من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر فذهب المصنف رحمه اللّه تعالى إلى أنهم لما جعلوا التشبيه بكفارة الظهار دليلا على كون جهة العقوبة غالبة لزم أن تكون كفارة الظهار أيضا كذلك ثم استدل عليه بأن الظهار منكر من القول وزور فتكون جهة الجناية غالبة فيلزم أن تكون في جزائها جهة العقوبة غالبة وهذا فاسد نقلا وحكما واستدلالا

أما الأول فلأن السلف قد صرحوا بأن جهة العبادة في كفارة الظهار غالبة

وأما الثاني فلأن من حكم ما تكون العقوبة فيه غالبة أن يسقط ويتداخل ككفارة الصوم حتى لو أفطر في رمضان مرارا لم يلزمه إلا كفارة واحدة وكذا في رمضانين عند أكثر المشايخ ولا تدخل في كفارة الظهار حتى لو ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثا في مجلس واحد أو مجالس متفرقة لزمه بكل إظهار كفارة

وأما الثالث فلأن كون الظهار منكر القول وزورا إنما يصلح جهة لكونه جناية على ما هو مقتضى إيجاب الكفارة على أنه كان في الأصل للطلاق ويحتمل التشبيه للكرامة ولهذا يدخل قصور في الجناية فيصلح لإيجاب الحقوق الدائرة ولولا ذلك لكان جزاؤه عقوبة محضة وأيضا ذكر بعضهم أن السبب هو الظهار الذي هو جناية محضة والعود الذي هو إمساك بمعروف ونقض للقول الزور لأنه تعالى عطف العود على الظهار ثم رتب الحكم عليها إلا أنه جوز أداؤها قبل العود لأنها إنما

(٢/٣٢٠)

شرعت إنهاء للحرمة الثابتة بالظهار فيجوز تقديمها على الفعل لتنتهي الحرمة بها فيقع الفعل بصفة الحل وذكر في الطريقة المعنية أنه لا استحالة في جعل المعصية سببا للعبادة التي حكمها تكفير المعصية وإذهاب السيئة خصوصا إذا صار معنى الزجر فيها مقصودا وإنما المحال أن تجعل سببا للعبادة الموصلة إلى الجنة لأنها مع حكمها الذي هو الثواب الموصل إلى الجنة تصير من أحكام المعصية فتصير المعصية بواسطة حكمها سببا للوصول إلى الجنة وهو محال وذكر المحققون في الفرق بين كفارة الفطر وغيرها أن داعية الجناية على الصوم لما كانت قوية باعتبار أن شهوة البطن أمر معود للنفس احتيج فيها إلى زاجر فوق ما في سائر الجنايات فصار الزجر فيها أصلا والعبادة تبعا فإن دعته نفسه إلى الإفطار طلبا للراحة فتأمل فيما يجب عليه من المشقة انزجر لا محالة وفي باقي الكفارات بالعكس ألا يرى أنه لا معنى للزجر عن القتل الخطأ وأن كفارة الظهار شرعت فيما يندب إلى تحصيل ما تعلقت الكفارة به تعلق الأحكام بالعلل وهو العود وكفارة اليمين شرعت فيما يجب تحصيل ما تعلقت به الكفارة تعلق الأحكام بالشروط كمن حلف لا يكلم أباه وشرع الزاجر فيما يندب أو يجب تحصيله لا يليق بالحكمة

قوله وكذا كفارة الفطر يعني أن العقوبة غالبة فيه لوجوه الأول

قوله عليه الصلاة والسلام من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر فعلى ما ذهب إليه المصنف رحمه اللّه من كون العقوبة غالبة في كفارة الظهار وجه الاستدلال ظاهر

وأما على ما هو المذهب فقيل وجهه أنه قيد الإفطار بصفة التعمد الذي به تتكامل الجناية ثم رتب عليه وجوب الكفارة فدل ذلك على غلبة العقوبة كما هو مقتضى كمال الجناية

الثاني الإجماع على أن الكفارة لا تجب على من أفطر خطأ بأن سبق الماء حلقه في المضمضة فلو لم يعتبر في سببها كمال الجناية لما سقطت بالخطأ ككفارة الخطأ وفي كمال الجناية كمال العقوبة

الثالث أنه ليس في الإفطار عمدا شبهة الإباحة بوجه

(٢/٣٢١)

وهذا يدل على أن جنايته كاملة حتى كان ينبغي أن تكون كفارته عقوبة محضة إلا أنه لما كان منعا عن تسليم الحق إلى مستحقه لا إبطالا للحق الثابت إذ لا تتصور الجناية بالإفطار بعد التمام تحقق بهذا الاعتبار قصور ما في الجناية فلم يجعل الزاجر عقوبة محضة ولا يخفى أن هذه الوجوه الثلاثة متقاربة جدا

قوله وهي أي الكفارات عقوبة وجوبا بمعنى أنها وجبت أجزية لأفعال يوجد فيها معنى الخطر كالعقوبات وعبادة أداء بمعنى أنها تتأدى بالصوم والإعتاق والصدقة وهي قرب وتؤدى بطريق الفتوى كالعبادات دون الاستيفاء كالعقوبات وهذا الكلام مما أورده فخر الإسلام في كفارة الفطر خاصة يعني أنها وجبت قصدا إلى العقوبة والزجر بخلاف سائر الكفارات فإن العقوبة فيها تبع إذ لا معنى للزجر عن القتل الخطأ مثلا وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق

قوله كإقامة الحدود فإن الحدود واجبة بطريق العقوبة ويؤديها الإمام عبادة لأنه مأمور بإقامتها

وأما عكس ذلك وهو أن يجب الشيء عبادة وقربة ويكون أداؤه عقوبة للمكلف وزجرا فلا يوجد في الشرع بل لا يتصور

قوله فتسقط هذه تفريعات على أن العقوبة غالبة في كفارة الفطر إلا أن توسط

قوله وهي عقوبة وجوبا عبادة أداء مخرج للنظم عن نظامه ولولا أن المصنف رحمه اللّه تعالى جعل الضمير في

قوله وهي عقوبة للكفارات لكنا نجعله لكفارة الفطر فيحسن النظم ويستقيم المعنى للتفريع الأول إن كان كفارة الفطر تسقط بشبهة تورث جهة إباحة فيما هو محل الجناية كما إذا جامع على ظن عدم طلوع الفجر أو غروب الشمس وقد بان خلافه بخلاف سائر الكفارات فإنه لا يختلف بين محل ومحل

وأما جماع زوجته أو أكل طعامه فلا يورث شبهة في إباحة الإفطار كمن قتل بسيفه أو شرب خمره

الثاني أنها تسقط بشبهة قضاء القاضي كما إذا رأى هلال رمضان وحده فشهد عند القاضي فرد

(٢/٣٢٢)

شهادته لتفرده أو لفسقه فصام لقوله عليه الصلاة والسلام صوموا لرؤيته ثم أفطر في هذا اليوم ولو بالجماع لم يلزمه الكفارة لأن القضاء هاهنا نافذ ظاهرا فيورث شبهة حل الإفطار إذ لو كان نافذا ظاهرا وباطنا لأورث حقيقة الحل وزعمه أن قضاء القاضي يرد شهادته خطأ لا يخرجه عن كونه شبهة كما إذا شهدوا بالقصاص على رجل فقضى القاضي به فقتله الولي وهو عالم بكذب الشهود ثم جاء المشهود بقتله حيا لا يجب القصاص على الولي وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى تجب الكفارة لأن هذا اليوم من رمضان في حقه بدليل قطعي وجهل الغير لا يورث شبهة في حقه كما إذا شرب جماعة على مائدة وعلم به البعض دون البعض

الثالث أن المرأة أفطرت عمدا حتى لزمها الكفارة ثم حاضت في ذلك اليوم أو مرضت سقطت عنها الكفارة وكذا الرجل إذا أفطر ثم مرض

أما الحيض فلأنه يعدم الصوم من أول النهار

وأما المرض فلأنه يزيل استحقاق الصوم فيتحقق في هذا اليوم ما ينافي الصوم أو استحقاقه فيكون شبهة

الرابع أنه لو أصبح صائما ثم سافر فأفطر لم تلزمه الكفارة وإن لم يبح له الإفطار في ذلك اليوم لأن السفر المبيح في نفسه يورث شبهة

وأما إذا أنشأ السفر بعد الإفطار فلا تسقط الكفارة لأنها تجب حقا للّه تعالى بما هو من فعل العبد اختيارا بخلاف الحيض أو المرض فإنه من قبل من له الحق

قوله وما اجتمعا أي وما اجتمع فيه الحقان وحق اللّه تعالى غالب حد القذف فإنه زاجر يعود نفعه إلى عامة العباد وفيه دفع العار عن المقذوف ولغلبة المعنى الأول يجري فيه التداخل حتى لو قذف جماعة بكلمة أو بكلمات متفرقة لا يقام عليه إلا حد واحد ولا يجري فيه الإرث ولا يسقط بعفو المقذوف ويتنصف بالرق ويفوض استيفاؤه إلى الإمام وما اجتمع فيه الحقان وحق العبد فيه غالب القصاص فإن للّه تعالى في نفس العبد حق الاستعباد وللعبد حق الاستمتاع ففي شرعية

(٢/٣٢٣)

القصاص إبقاء للحقين وإخلاء للعالم عن الفساد إلا أن وجوبه بطريق المماثلة والمنبئة عن معنى الجبر وفيه معنى المقابلة بالمحل فكان حق العبد راجحا ولهذا فوض استيفاؤه إلى الولي وجرى فيه الاعتياض بالمال

قوله

وأما حد قاطع الطريق فخالص حق اللّه تعالى قطعا كان أو قتلا لأن سببه محاربة اللّه ورسوله وقد سماه اللّه تعالى جزاء والجزاء المطلق بما يجب حقا للّه تعالى بمقابلة الفعل وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى إذا كان الحد قتلا ففيه حق اللّه تعالى من جهة أنه حد يستوفيه الإمام دون الولي ولا يسقط بالعفو وحق العبد من جهة أن فيه معنى القصاص حيث لا يجب إلا بالقتل

قوله ثم تبعية أهل الدار أي بعد ما صار أداء أحد أبوي الصغير خلفا على أدائه صار تبعية أهل الدار خلفا عن أداء أحدهما أي أحد الأبوين إذا لم يوجد وإذا لم يوجد تبعية أهل الدار صارت تبعية الغانمين خلفا مثلا إذا سبي صبي فإن أسلم هو بنفسه مع كونه عاقلا فهو الأصل وإلا فإن أسلم أحد أبويه فهو تبع له وإلا فإن أخرج إلى دار الإسلام فهو مسلم بتبعية الدار وإن لم يخرج بل قسم أو بيع من مسلم في دار الحرب فهو تبع لمن سباه في الإسلام فلو مات يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ثم التحقيق أن عند عدم الأبوين ليست التبعية خلفا عن أداء أحد الأبوين بل عن أداء الصبي نفسه كابن الميت خلف عنه في الميراث وعند عدمه يكون ابن الابن خلفا عن الميت لا عن ابنه لئلا يلزم للخلف خلف فيكون الشيء خلفا وأصلا وقد يقال لا امتناع في كون الشيء أصلا من وجه وخلفا من وجه

قوله لكنه أي التيمم خلف مطلق يرتفع به الحدث إلى غاية وجود الماء بالنص وهو

قوله

(٢/٣٢٤)

تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا نقل الحكم في حال العجز عن الماء إلى التيمم مطلقا عند إرادة الصلاة فيكون حكمه حكم الماء في تأدية الفرائض به وتحقيق ذلك أنه إن جعل التراب خلفا عن الماء فحكم الأصل إفادة الطهارة وإزالة الحدث فكذا حكم الخلف إذ لو كان له حكم برأسه لما كان خلفا بل أصلا وإن جعل التيمم خلفا عن التوضؤ فحكم التوضؤ إباحة الدخول في الصلاة بواسطة رفع الحدث بطهارة حصلت به لا مع الحدث فكذا التيمم إذ لو كان خلفا في حق الإباحة مع الحدث لكان له حكم برأسه هو الإباحة مع قيام الحدث فلم يكن خلفا وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى هو خلف ضروري بمعنى أنه ثبت خلفيته ضرورة الحاجة إلى إسقاط الفرض عن الذمة مع قيام الحدث كطهارة المستحاضة حتى لم يجز تقديمه على الوقت ولا أداء فرضين بتيمم واحد

أما قبل الوقت فلأن الضرورة لم تبن

وأما بعد أداء فرض واحد فلأن الضرورة قد انعدمت وحتى قال فيمن له إناءان من الماء أحدهما طاهر والآخر نجس وقد اشتبها عليه إنه يجب عليه التحري والاجتهاد ولا يجوز له التيمم إذ معه ماء طاهر بيقين يقدر على استعماله بدليل معتبر في الشرع وهو التحري فلا ضرورة حينئذ وعندنا لا يجوز التحري لأن التراب طهور مطلق عند العجز عن الماء وقد تحقق العجز بالتعارض الموجب للتساقط حتى كان الإناءان في حكم العدم

(٢/٣٢٥)

واعلم أن وجوب التحري عند الشافعي رحمه اللّه تعالى إنما هو إذا لم يوجد ماء آخر طاهر بيقين

وأما إذا وجد فالتحري جائز فلهذا عدل المصنف رحمه اللّه تعالى عن عبارة فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى حيث قيد جواز التحري في مسألة الإناءين بحالة السفر أي حالة عدم القدرة على ماء طاهر بيقين ثم لا يخفى أن عدم صحة التيمم قبل التحري عند الشافعي رحمه اللّه تعالى مبني على أنه لا صحة للتيمم بدون العجز عن الماء سواء كان خلفا ضروريا أو خلفا مطلقا ولا عجز مع إمكان التحري ولذا جوز التيمم فيما إذا تحير فتفريع هذه المسألة على كون التيمم خلفا ضروريا بمعنى أنه إنما يكون بقدر ما يندفع به ضرورة إسقاط الفرض ليس كما ينبغي وإن أريد بكونه ضروريا أنه لا يكون إلا عند ضرورة العجز عن استعمال الماء فهذا مما لا يتصور فيه نزاع

قوله ثم عندنا أي بعد ما اتفق أصحابنا على كون الخلف خلفا مطلقا اختلفوا في تعيين الخلف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه تعالى الخلفية في الآلة بمعنى أن التراب خلف عن الماء لأنه تعالى نص عند النقل إلى التيمم على عدم الماء وكون التراب ملوثا في نفسه لا يوجب العدول عن ظاهر النص لأن نجاسة المحل حكمية فيجوز أن يكون تطهير الآلة أيضا كذلك وقوله عليه الصلاة والسلام التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء يؤيد ذلك

فإن قيل لو كانت الخلفية في الآلة لافتقرت إلى الإصابة كالماء إذ من شرط الخلف أن لا يزيد على الأصل فلم يجز التيمم بالحجر الملساء

قلنا ليس هذا من الزيادة في شيء لأن معناها الزيادة في الحكم وترتب الآثار ألا يرى أن استغناء التيمم عن مسح الرأس والرجل لا يوجب زيادته على الوضوء فعندهما يجوز إمامة المتيمم للمتوضئ إذا لم يجد المتوضئ ماء لأن شرط الصلاة في حق كل منهما موجود بكماله فيجوز بناء أحدهما على الآخر كالغسل على الماسح مع أن الخلف بدل من الرجل في قبول الحدث ورفعه

وأما إذا وجد المتوضئ ماء فإن كان في زعمه أن شرط الصلاة لم يوجد في حق الإمام وأن صلاته فاسدة فلا يصح اقتداؤه به كما إذا اعتقد أن إمامه مخطئ في جهة القبلة وقال محمد وزفر رحمهما اللّه تعالى الخلفية في الفعل بمعنى أن التيمم خلف عن التوضؤ لأن اللّه تعالى أمر بالوضوء أولا ثم بالتيمم عند العجز فلا يجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم كاقتداء غير المومئ بالمومئ وما ذكر أن زفر مع محمد في هذه المسألة يوافق ما ذكره الإسبيجابي في شرح المبسوط إلا أن المذكور في عامة الكتب أنه يجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم عند زفر رحمه اللّه تعالى وإن وجد المتوضئ ماء

قوله وشرط الخلفية أي لا بد في ثبوت الخلف عن إمكان الأصل ليصير السبب منعقدا للأصل ثم من عدم الأصل في الحال لعارض إذ لا معنى للمصير إلى الخلف مع وجود الأصل مثلا إرادة الصلاة انعقدت سببا للوضوء لإمكان حصول الماء بطريق الكرامة ثم لظهور العجز ينتقل الحكم إلى التيمم وهذا كما إذا حلف ليمسن السماء فإن اليمين قد انعقدت موجبة للبر لإمكان مس السماء في الجملة إلا أنه معدوم عرفا وعادة فانتقل الحكم إلى الخلف وهو الكفارة بخلاف ما إذا حلف على نفي ما كان أو ثبوت ما لم يكن في الزمان الماضي فإنه لا يثبت الكفارة لعدم إمكان البر على ما سبق تحقيق ذلك

(٢/٣٢٦)

قوله باب المحكوم عليه وهو المكلف أي الذي تعلق الخطاب بفعله وأهليته لذلك تتوقف على العقل إذ لا تكليف على الصبي وقد أطلق الحكماء وغيرهم لفظ العقل على معان كثيرة منها الجوهر المجرد في ذاته وفعله بمعنى أنه لا يكون جسما ولا جسمانيا ولا تتوقف أفعاله على تعلقه بجسم وهذا معنى الجوهر المجرد الغير المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف ولو قال غير المتعلق بالجسم لكان أنسب ليخرج النفوس الفلكية إذ البدن إنما يطلق على بنية الحيوان وادعى الحكماء أن العقل بهذا المعنى أول ما صدر عن الواجب سبحانه وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام أول ما خلق اللّه تعالى العقل وإنما قال ادعوا لأنهم استدلوا على ذلك بدلائل واهية مبنية على مقدمات فاسدة مثل أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ونحو ذلك ومنها قوة للنفس الإنسانية بها يتمكن من إدراك الحقائق وهذا معنى الأثر الفائض عليها من العقل بالمعنى الأول ومنها مراتب قوى النفس على ما سنبينها ومنها الغريزة التي يلزمها العلم بالضروريات أو نفس العلم بذلك وهذا معنى العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات وجواز الجائزات ومنها ملكة حاصلة بالتجارب يستنبط بها المصالح والأغراض وهذا معنى ما يحصل به الوقوف على العواقب ومنها قوة مميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة ومنها هيئة محمودة للإنسان في حركاته

(٢/٣٢٧)

وسكناته وكلامه إلى غير ذلك من المعاني المتفاوتة والمقاربة فاحتج في هذا المقام إلى تفسير العقل فقالوا هو نور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس فيتبدى المطلوب للقلب فيدركه القلب بتأمله وبتوفيق اللّه تعالى ومعنى ذلك أنها قوة للنفس بها ينتقل من الضروريات إلى النظريات إلا أنه لما كان ظاهر هذا التفسير أخفى من العقل احتاج المصنف رحمه اللّه تعالى إلى توضيحه وتبيين المراد منه فزعم أنه يحتمل أن يراد بالعقل هاهنا ذلك الجوهر المجرد الذي هو أول المخلوقات على أن يكون النور بمعنى المنور ولا يخفى بعد هذا الاحتمال عن الصواب فإنهم جعلوا العقل من صفات الراوي والمكلف ثم فسروه بهذا التفسير ويحتمل أن يراد به الأثر الفائض من هذا الجوهر على نفس الإنسان كما ذكره الحكماء من أن العقل الفعال هو الذي يؤثر في النفس ويعدها للإدراك وحال نفوسنا بالإضافة إليه حال أبصارنا بالنسبة إلى الشمس فكما أن بإفاضة نور الشمس تدرك المحسوسات كذلك بإفاضة نوره تدرك المعقولات فقوله نور أي قوة شبيهة بالنور في أنه بها يحصل الإدراك

يضيء أي يصير ذا ضوء به أي بذلك النور

طريق يبتدأ به أي بذلك الطريق والمراد به الأفكار وترتيب المبادئ الموصلة إلى المطالب ومعنى إضاءتها صيرورتها بحيث يهتدي القلب إليها ويتمكن من ترتيبها وسلوكها توصيلا إلى المطلوب وقوله من حيث ينتهي إليه متعلق يبتدأ والضمير في إليه عائد إلى حيث أي من محل ينتهي إليه إدراك الحواس فيتبدى أي يظهر المطلوب للقلب أي الروح المسمى بالقوة العاقلة والنفس الناطقة فيدركه القلب بتأمله أي التفاته إليه والتوجه نحوه بتوفيق اللّه تعالى وإلهامه لا بتأثير النفس أو توليدها فإن الأفكار معدات للنفس وفيضان المطلوب إنما هو بإلهام اللّه تعالى واعلم أن العقل الذي يحصل الإدراك بإشراقه وإفاضة نوره ويكون نسبته إلى النفوس نسبة الشمس إلى الأبصار على ما ذكره الحكماء هو العقل العاشر المسمى بالعقل الفعال لا العقل الذي هو أول المخلوقات ففي كلام المصنف رحمه اللّه تعالى تسامح

قوله وقد يطلق العقل على قوة للنفس بها تكسب العلوم إشارة إلى معنى آخر للعقل باعتباره يحصل للنفس مراتبها الأربع فعلى ما سبق كان حاصل معناه حصول شرائط الوصول إلى المطلوب وانكشاف الحجب عنه بينه وبين المطالب والتهدي إلى طريق التوصل إلى المقاصد

وأما

(٢/٣٢٨)

على هذا فمعناه قابلية النفس بهذه المعاني

فإن قيل من شأن القوة التأثير والعقل ومعنى القابلية التأثر والانفعال فكيف يفسر بها

قلت هي قوة باعتبار ترتيب المبادئ وتهيئة المعدات والتصرفات فيها وقابلية من حيث إن حصول المطلوب إنما هو بالإلهام وبتوفيق الملك العلام

فإن قلت القوة التي بها تكتسب النفس العلوم تشتمل مراتبها الأربع فكيف تفسر بقابلية الإشراق التي هي المرتبة الأولى أعني العقل الهيولاني

قلت المراد قابلية الإشراق إلى أن يكمل جميع الآثار ويحصل غاية المطلوب وهذا يتناول المراتب الأربع

فإن قلت كيف جعل المراتب الأربع في الشرح مراتب قوة النفس وقابليتها للإشراق وفي المتن مراتب تصرف القلب بواسطة العقل فيما ارتسم في الحواس

قلت حاصلهما واحد فإن هذه المراتب مراتب للنفس باعتبار قوتها في اكتساب العلوم وتصرفها في المبادئ لحصول المطالب فيجعل تارة مراتب النفس وتارة مراتب قوتها النظرية أي التي بها يتمكن من اكتساب العلوم وتارة مراتب تصرفاتها في المبادئ ومعنى تصرف القلب فيما ارتسم في الحواس أن يدرك الغائب من الشاهد أي يستدل من الآثار واللوازم على المؤثرات والملزومات مثل استدلاله من العالم وتغيراته على أن له صانعا قديما غنيا عمن سواه بريئا عن النقائص وأن ينتزع الكليات من الجزئيات وأن ينتزع من الإحساس بحرارة هذه النار أن كل نار حارة وكذا في جانب التصورات مثلا ينتزع من الجزئيات المكتنفة بالعوارض المشخصة واللواحق الخارجية حقائقها الكلية

وأما تحقيق المراتب الأربع فهو أن للنفس الإنسانية قوتين إحداهما مبدأ الإدراك وهي باعتبار

(٢/٣٢٩)

تأثرها عما فوقها مستكملة في ذاتها وتسمى عقلا نظريا والثانية مبدأ الفعل وهي باعتبار تأثيرها في البدن الموضوع مكملة إياه تأثيرا اختياريا وتسمى عقلا عمليا وللقوة النظرية في تصرفاتها في الضروريات وترتيبها لاكتساب الكمالات أربع مراتب وذلك أن النفس مبدأ الفطرة خالية عن العلوم مستعدة لها وتسمى حينئذ عقلا هيولانيا تشبيها لها بالهيولي الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة لها وذلك بمنزلة استعداد الطفل للكتابة ثم إذا أدركت الضروريات واستعدت لحصول النظريات سميت عقلا بالملكة لحصول ملكة الانتقال كاستعداد الأمي لتعلم الكتابة ثم إذا أدركت النظريات وحصل لها القدرة على استحضارها متى شاءت من غير تجسم كسب جديد سميت عقلا بالفعل لشدة قربه من الفعل وذلك بمنزلة استعداد القادر على الكتابة الذي لا يكتب وله أن يكتب متى شاء وإذا كانت النظريات حاضرة عندها مشاهدة لها سميت عقلا مستفادا لاستفادة هذه القوة والحالة من العقل الفعال وذلك بمنزلة الشخص حينما يكتب بالفعل وعبارة المحققين أن العقل المستفاد هو حضور اليقينيات وحصول صور المعقولات للنفس وهو الظاهر من التسمية بالمستفاد وأن العقل الهيولاني يكون قبل استعمال الحواس وإدراك الضروريات والعقل بالملكة بعده والمصنف رحمه اللّه تعالى جعل الهيولاني استعداد النفس للانتزاع بعد حصول المحسوسات

والعقل بالملكة علم البديهات على وجه يوصل إلى النظريات أي مترتبة للتأدي إلى المجهولات النظرية

وأما جعل المستفاد نهاية ومرتبة رابعة فإنما هو باعتبار الغاية وكونه الرئيس المطلق الذي يخدمه سائر القوى وإلا فالمستفاد مقدم بحسب الوجود على العقل بالفعل لأنه إنما يكون بعد التحصيل والإحضار مرة أو مرات ثم هذه المراتب استعدادات للنفس مختلفة بالشدة والضعف كالثلاث الأول أو كمال لها كالرابعة وتطلق على النفس بحسب ما لها من هذه الأحوال ولا شك أن للنفس في كل حال من تلك الأحوال قوة لم تكن قبل فيطلق على نفس القوى أيضا ونعني بالقوة المعنى الذي به يصير الشيء فاعلا أو منفعلا وجعلوا المرتبة الثانية وهي أن تدرك البديهات مرتبة على وجه توصل إلى النظريات مناط التكليف إذ بها يرتفع الإنسان عن درجة البهائم ويشرق عليها نور العقل بحيث يتجاوز إدراك المحسوسات

قوله فاعلم أن بداية درك الحواس يعني لما ذكر في تعريف العقل لدرك الحواس نهاية لزم أن يكون له بداية ولما ذكر لطريق إدراك العقل بداية لزم أن يكون له نهاية لأن إدراكاتنا أمور حادثة منقطعة ولما جعل

قوله من حيث متعلقا بيبتدأ والضمير في إليه عائد إلى حيث أي طريق يبتدأ به من المقام الذي ينتهي إليه إدراك الحواس لزم أن يكون نهاية درك الحواس بداية درك العقل فذكر أن بداية درك الحواس هو ارتسام المحسوس في إحدى الحواس الخمس الظاهرة وهي

(٢/٣٣٠)

اللمس أعني قوة سارية في البدن كله بها يدرك الحار والبارد والرطب واليابس ونحو ذلك والذوق وهي قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان يدرك بها الطعوم والشم وهو قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي يدرك بها الروائح والسمع وهو قوة مرتبة في العصب المفروش على سطح باطن الصماخ يدرك بها الأصوات والبصر هو قوة مرتبة في العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان في مقدم الدماغ فيفترقان إلى العينين يدرك بها الألوان والأضواء ولا خفاء في أن المرتسم فيها هو صورة المحسوس لا نفسه فإن المحسوس هو هذا اللون الموجود في الخارج مثلا وهو ليس بمرتسم في الباصرة بل صورته كما أن المعلوم هو ذلك الموجود والحاصل في النفس صورته ومعنى معلوميته حصول صورته لا حصول نفسه ونهاية درك الحواس ارتسام المحسوس في الحواس الباطنة والمشهور أنها أيضا خمس الحس المشترك وهي قوة مرتبة في التجويف الأول من الدماغ ومبادئ عصب الحس يجتمع فيها صور جميع المحسوسات فيدركها والخيال هو قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم يجتمع فيها مثل المحسوسات وتبقى فيها بعد الغيبة عن الحس المشترك فهي خزانته والوهم وهي قوة مرتبة في آخر التجويف الأوسط من الدماغ لا في مؤخره على ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى بها يدرك المعاني الجزئية الغير المحسوسة أعني التي لم يتأد إليها من طرق الحواس وإن كانت موجودة في المحسوسات كعداوة زيد وصداقة عمرو والحافظة وهي قوة مرتبة في التجويف الأخير من الدماغ تحفظ المعاني الجزئية التي أدركها الوهم فهي خزانة للوهم بمنزلة الخيال للحس المشترك والمفكرة وهي قوة مرتبة في الجزء الأول من التجويف الأوسط من الدماغ بها يقع التركيب والتفصيل بين الصور المحسوسة المأخوذة عن الحس المشترك والمعاني المدركة بالوهم كإنسان له رأسان وإنسان عديم الرأس وهذا معنى أخذ المدركات عن الطرفين وهذه القوة تستعملها النفس على أي نظام تريد فإن استعملتها بواسطة القوة الوهمية وحدها سميت متخلية وإن استعملتها بواسطة القوة العقلية وحدها أو مع الوهمية سميت مفكرة وما ذكرنا من محال للقوى هو الموافق لما ذكره المحققون من علماء التشريع واستدلوا عليه بأن الآفة في ذلك المحل توجب الآفة في فعل تلك القوة ولفظ ثم في كلام المصنف رحمه اللّه تعالى ليس لترتيب هذه القوى في الوجود والمحل بل لترتيب تصرفاتها وأفعالها فإنه يرتسم أولا صورة المحسوس ثم تخزن ثم ترتسم منه المعاني ثم تحفظ ثم يقع بينهما التركيب والتفصيل فلذا قال ثم بعده الحافظة فأشار بلفظ بعد إلى أن محلها بعد محل الوهم

قوله فإذا تم هذا أي ارتسام الصور والمعاني وأخذ المفكرة إياهما من الطرفين تنتزع النفس الناطقة من المفكرة علوما أي صورا أو معاني كلية لأنها بالتصرف والتفكر في الأشخاص الجزئية

(٢/٣٣١)

تكتسب استعدادا نحو قبول صورة الإنسانية مثلا وصورة الصداقة الكليتين المجردتين عن العوارض المادية قبولا عن العقل الفعال المتنفس بهما لمناسبة ما بين كل كلي وجزئياته وهذا هو تمام التقريب في أن نهاية درك الحواس هو بداية إدراك العقل على ما يشعر به التعريف المذكور للعقل

وأما تحقيق هذه المباحث فمما لا يليق بهذا الكتاب ثم الظاهر أن معنى التعريف المذكور ليس ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى وغيره من الشارحين وأنه لا يحتاج إلى هذا التطويل وأن عود الضمير إلى حيث وهو لازم الظرفية مما لم يعهد في العربية بل المراد أن العقل نور يضيء به الطريق الذي يبتدأ به في الإدراكات من جهة انتهاء إدراك الحواس إلى ذلك الطريق بمعنى أنه لا مجال فيه لدرك الحواس وهو طريق إدراك الكليات من الجزئيات والمغيبات من المشاهدات فإن طريق إدراك المحسوسات مما يسلكه العقلاء والصبيان والمجانين بل البهائم فلا يحتاج إلى العقل الذي نحن بصدده ثم انتهى ذلك الطريق وأريد سلوك طريق إدراك الكليات واكتساب النظريات والاستدلال على المغيبات لم يكن بد من قوة بها يتمكن من سلوك ذلك الطريق فهي نور للنفس به تهتدي أي سلوكه بمنزلة نور الشمس في إدراك المبصرات فإذا ابتدأ الإنسان بذلك الطريق وشرع فيه ورتب المقدمات على ما ينبغي يتبدى المطلوب للقلب بفيض الملك العلام

قوله ثم معلومات النفس يريد بهذا الكلام الإشارة إلى طريق معرفة حصول ذلك النور في الإنسان وذلك أن الموجود إذا لم يكن باختيارنا أثر في وجوده يسمى العلم به نظريا وإلا فعلميا لا بمعنى أنه عمل بل بمعنى أنه علم بأشياء تتعلق بالعمل وبهذا الاعتبار تنقسم الحكمة إلى النظرية والعملية ويحصل للنفس القوة النظرية والقوة العملية والأولى مكملة للنفس والثانية مكملة للنفس والبدن بتحريك البدن عن الشرور إلى الخيرات وهذا التحريك يستلزم المعرفة بالخير والشر

(٢/٣٣٢)

من حيث إنهما خير وشر وبالعكس

أما الأول فلأن الشرور مستلذات البدن وملاءمات الشهوة والغضب والخيرات مشاق وتكاليف ومخالفات للّهوى فلا يتصور الميل عن الملائم إلى المنافر إلا بعد معرفة أن الأول شر والثاني خير

وأما الثاني فلأن الخير والكمال محبوب بالذات والنفس مائلة إلى الكمالات مهيأة لتطويع القوى وأمرها بالخيرات فإذا اكتسبت العلم بالخير والشر وعرفتهما من حيث إنهما خير وشر حركت البدن نحو الخير لا محالة ثم معرفة الخيرات والشرور تستلزم قابلية النفس لإشراق نور العقل عليها بمعنى حصول الشرائط وارتفاع الموانع من جانبها وهذا ظاهر والقابلية تستلزم المعرفة لأن ذلك الجوهر المفيض دائم الإشراق لا انقطاع لفيضه ولا ضنة من جانبه بمنزلة الشمس في الإضاءة فيكون بين فعل الخيرات وترك الشرور وبين القابلية المسماة بالعقل تلازم فيستدل من فعل الخيرات على وجود العقل استدلالا بوجود الملزوم على وجود اللازم ويستدل من ترك الخيرات على عدم العقل استدلالا من عدم اللازم على عدم الملزوم

قوله ثم لما كان يعني أن العقل متفاوت في أفراد الإنسان حدوثا وبقاء

أما حدوثا فلأن النفوس متفاوتة بحسب الفطرة في الكمال والنقصان باعتبار زيادة اعتدال البدن ونقصانه فكلما كان البدن أعدل وبالواحد الحقيقي أشبه كانت النفس الفائضة عليه أكمل وإلى الخيرات أميل وللكمالات أقبل وهذا معنى صفاتها ولطاقتها بمنزلة المرآة في قبول النور وإن كانت بالعكس فبالعكس وهذا

(٢/٣٣٣)

معنى كدورتها وكثافتها بمنزلة الحجر في قبول النور ولا خفاء في أن النفس كلما كانت أكمل وأقبل كان النور الفائض عليه من ذلك الجوهر المسمى بالعقل الفعال أكثر

وأما بقاء وإليه الإشارة بقوله متدرجا من النقصان إلى الكمال فلأن النفس كلما ازدادت في اكتساب العلوم بتكميل القوة النظرية وفي تحصيل الملكات المحمودة بتكميل القوة العملية ازدادت تناسبا بالعقل الفعال الكامل من كل وجه فازدادت إفاضة نوره عليها لازدياد الاستفاضة بازدياد المناسبة ولما تفاوتت العقول في الأشخاص تعذر العلم بأن عقل كل شخص هل بلغ المرتبة التي هي مناط التكليف فقدر الشارع تلك المرتبة بوقت البلوغ إقامة للسبب الظاهر مقام حكمه كما في السفر والمشقة وذلك لحصول شرائط كمال العقل وأسبابه في ذلك الوقت بناء على تمام التجارب الحاصلة بالإحساسات الجزئية والإدراكات الضرورية وتكامل القوى الجسمانية من المدركة والمحركة التي هي مراكب للقوة العقلية بمعنى أنها بواسطتها تستفيد العلوم ابتداء وتصل إلى المقاصد وبمعونتها يظهر آثار الإدراك وهي مسخرة ومطيعة للقوة العقلية بإذن اللّه تعالى فهي تأمرها بالأخذ والإعطاء واستيفاء اللذات والتحرك للإدراكات قدر ما ترى من المصلحة فتحصل الكمالات

قوله وقد سبق في باب الأمر اعلم أن المهم في هذا المقام تحرير المبحث وتلخيص محل النزاع ليتأتى النظر في أدلة الجانبين ويظهر صحة المطلوب ولا نزاع للمعتزلة في أن العقل لا يستقل بدرك كثير من الأحكام على تفاصيلها مثل وجوب الصوم في آخر رمضان وحرمته في أول

(٢/٣٣٤)

شوال ولا نزاع للأشاعرة في أن الشرع محتاج إلى العقل وأن للعقل مدخلا في معرفة الأحكام حتى صرحوا بأن الدليل

إما عقلي صرف

وإما مركب من عقلي وسمعي ويمتنع كونه سمعيا صرفا لأن صدق الشارع بل وجوده وكلامه إنما يثبت بالعقل وإنما النزاع في أن العاقل إذا لم تبلغه الدعوة وخطاب الشارع

إما لعدم وروده

وإما لعدم وصوله إليه فهل يجب عليه بعض الأفعال ويحرم بعضها بمعنى استحقاق الثواب والعقاب في الآخرة أم لا فعند المعتزلة نعم بناء على مسألة الحسن والقبح وعند الأشاعرة لا إذ لا حكم للعقل ولا تعذيب قبل البعثة وقد سبق تحقيق ذلك

قوله قطعا للدور يعني أن ثبوت الشرع موقوف على معرفة اللّه تعالى وكلامه وبعثة الأنبياء بدلالة المعجزات فلو توقفت معرفة هذه الأمور على الشرع لزم الدور

قوله وثانيهما معارضة الوهم العقل

فإن قيل الوهم لا يدرك إلا المعاني الجزئية والعقل لا يدرك إلا الكليات فكيف المعارضة بينهما أجيب بأن مدرك الكل هو النفس لكنها تدرك الكليات بالقوة العاقلة والجزئيات بالحواس ومعنى المعارضة انجذاب النفس إلى آلة الوهم دون العقل فيما من حقه أن يستعمل فيه العقل وذلك لأن إلفها بالحس والوهم ومدركاتهما أكثر

قوله فهو أي العقل وحده غير كاف في جميع ما يحصل به كمال النفس وورد به أمر الشارع لما ذكرنا من تطرق الخطأ وليس المراد أن العقل لا يستقل في إدراك شيء واكتساب حكم ألبتة على ما هو رأي الإسماعيلية في إثبات الحاجة إلى المعلم

قوله فالصبي العاقل لا يكلف بالإيمان وهو الصحيح ذهب كثير من المشايخ حتى الشيخ أبو منصور إلى أن الصبي العاقل يجب عليه معرفة اللّه تعالى لأنها بكمال العقل والبالغ والصبي

(٢/٣٣٥)

سواء في ذلك وإنما عذر في عمل الجوارح لضعف البنية بخلاف عمل القلب ومعنى ذلك أن كمال العقل معرف للوجوب والموجب هو اللّه تعالى بخلاف مذهب المعتزلة فإن العقل عندهم موجب بذاته كما أن العبد موجد لأفعاله كذا في الكفاية

قوله وإن كفرت أي المراهقة تبين عن الزوج لأنا إنما وضعنا البلوغ موضع كمال العقل والتمكن من الاستدلال إذا لم تعرف ذلك حقيقة

أما إذا تحقق التوجه إلى الاستدلال والكفر فلا عذر

فإن قيل إذا نيط الحكم بالسبب الظاهر دار معه وجودا وعدما ولم يعتد بحقيقة السبب فينبغي أن تعذر المراهقة التي كفرت كالمسافر سفرا علم أنه لا مشقة فيه أصلا فإنه تبقى الرخصة بحالها

قلنا ذاك في الفروع

وأما في الأصول لا سيما في الإيمان فيجب إذا وجد السبب الحقيقي أو دليله لعظم خطره

قوله وكذا أي مثل الصبي العاقل البالغ الشاهق في الجبل إذا لم تبلغه الدعوة فإنه لا يكلف بالإيمان بمجرد عقله حتى لو لم يصف إيمانا ولا كفرا ولم يعتقده لم يكن من أهل النار ولو آمن صح إيمانه ولو وصف الكفر كان من أهل النار للدلالة على أنه وجد زمان التجربة والتمكن من الاستدلال

وأما إذا لم يعتقد شيئا فإن وجد زمان التجربة والتمكن فليس بمعذور وإلا فمعذور وليس في تقدير الزمان دلالة عقلية أو سمعية بل ذلك في علم اللّه تعالى فإن تحقق يعذر به وإلا فلا وهذا مراد أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى حيث قال لا عذر لأحد في الجهل يخالفه لما يرى في الآفاق والأنفس

وأما في الشرائع فيعذر إلى قيام الحجة

فإن قيل الشاهق لما لم يكلف بالإيمان كان ينبغي أن لا يهدر دمه بل يضمن قاتله فالجواب أن العصمة لا تثبت بدون الإحراز بدار الإسلام حتى لو أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فقتل لم يضمن قاتله وكذا الصبي والمجنون إذا قتلا في دار الحرب

قوله فصل ثم الأهلية يعني بعد ما ثبت أنه لا بد في المحكوم عليه من أهليته للحكم وأنها

(٢/٣٣٦)

لا تثبت إلا بالعقل فإن الأهلية ضربان أحدهما أهلية الوجوب أي صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه والثانية أهلية الأداء أي صلاحيته لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعا والأولى بالذمة ولما وقع في كلام البعض أن الذمة أمر لا معنى له ولا حاجة إليه في الشرع وأنه من مخترعات الفقهاء يعبرون عن وجوب الحكم على المكلف بثبوته في ذمته حاول المصنف رحمه اللّه تعالى الرد عليهم بتحقيق الذمة لغة وشرعا وإثباتها بالنصوص وتحقيق ذلك أن الذمة في اللغة العهد فإذا خلق اللّه تعالى الإنسان محل أمانته أكرمه بالعقل والذمة حتى صار أهلا لوجوب الحقوق له وعليه وثبت له حقوق العصمة والحرية والمالكية كما إذا عاهدنا الكفار وأعطيناهم الذمة تثبت لهم وعليهم حقوق المسلمين في الدنيا وهذا هو العهد الذي جرى بين اللّه تعالى وعباده يوم الميثاق المشار إليه بقوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم على ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن اللّه تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من بعض على حسب ما يتوالدون إلى يوم القيامة في أدنى مدة كموت الكل بالنفخ في الصور وحياة الكل بالنفخة الثانية فصورهم واستنطقهم وأخذ ميثاقهم ثم أعادهم جميعا في صلب آدم ثم أنسانا تلك الحالة ابتلاء لنؤمن بالغيب وحاصل كلام المصنف رحمه اللّه تعالى من الاستدلال بالآيات أن الإنسان قد خص من بين سائر الحيوانات بوجوب أشياء له وعليه وتكاليف يؤاخذ بها فلا بد فيه من خصوصية بها يصير أهلا لذلك وهو المراد بالذمة فهي وصف يصير به الإنسان أهلا لما له وما عليه واعترض بأن هذا صادق على العقل بالمعنى المذكور فيما سبق وأن الأدلة لا تدل على ثبوت وصف مغاير للعقل وأجيب بأنا لا نسلم أن العقل بهذه الحيثية بل العقل إنما هو بمجرد فهم الخطاب والوجوب مبني على الوصف المسمى بالذمة حتى لو فرض ثبوت العقل بدون ذلك الوصف كما لو ركب العقل في حيوان غير الآدمي لم يثبت الوجوب له وعليه والحاصل أن هذا الوصف بمنزلة السبب لكون الإنسان أهلا للوجوب له وعليه والعقل بمنزلة الشرط

فإن قلت فما معنى قولهم وجب أو ثبت في ذمته كذا

قلت معناه الوجوب على نفسه باعتبار ذلك الوصف فلما كان الوجوب متعلقا به جعلوه بمنزلة ظرف يستقر فيه الوجوب دلالة على كمال التعلق وإشارة إلى أن هذا الوجوب إنما هو باعتبار العهد والميثاق الماضي كما يقال وجب في العهد والمروءة أن يكون كذا وكذا

وأما على ما ذكره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى من أن المراد بالذمة في الشرع نفس ورقبة لها ذمة وعهد فمعناه أنه وجب على نفسه باعتبار كونها محلا لذلك العهد فالرقبة تفسير للنفس والعهد تفسير للذمة وهذا عند التحقيق من تسمية المحل باسم الحال والمقصود واضح

قوله قال اللّه تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم ذهب كثير من المفسرين إلى أنه تمثيل والمراد نصب الأدلة الدالة على الربوبية والوحدانية المميزة بين الضلال والهدى وكذا

قوله تعالى

(٢/٣٣٧)

وكل إنسان ألزمناه طائره الآية تمثيل للزوم العمل له لزوم القلادة للعنق من غير اعتبار استعارة في العنق على انفراده كما يقال جعل القضاء في عنقه لا يراد وصف به صار أهلا لذلك وإنما المراد مجرد الإلزام والالتزام وتحقيق ذلك إلى علماء البيان

وأما

قوله تعالى وحملها الإنسان فالمراد بالأمانة الطاعة الواجبة الأداء والمعنى أنها لعظمها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها وحملها الإنسان مع ضعف بنيته ورخاوة قوته لا جرم فإذا الراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين أنه كان ظلوما حيث لم يف بها ولم يراع حقوقها جهولا بكنه عاقبتها وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب وقيل لما خلق اللّه تعالى هذه الأجرام خلق فيها فهما وقال لها إني فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني ونارا لمن عصاني فقلن نحن مسخرات على ما خلقنا لا نحمل فريضة ولا نبغي ثوابا ولا عقابا ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله وكان ظلوما لنفسه بتحمل ما يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته وقيل الأمانة العقل والتكليف وعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وإباؤهن عدم اللياقة والاستعداد وحمل الإنسان قابليته واستعداده وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي ومجاوزة الحد والعظم

مقاصد التكليف تعديلهما وكسر سورتهما فظهر أنه لا دليل في هذه الآيات على أن للإنسان وصفا به يصير أهلا لما عليه وليت شعري أي دلالة للعتق على ذلك وأي حاجة إلى اعتبار الاستعارة في كل فرد من مفردات الكلام وأيضا لما كان مبنى هذه الاستدلالات على أن الإنسان يلزمه ويجب عليه شيء فلا بد فيه من وصف به يصير أهلا لذلك لم يكن حاجة إلى هذه التكاليف بل دلالة

قوله تعالى أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة على هذا المعنى أظهر وكذا ثبوت الحقوق له لا يدل على أن فيه وصفا هو الذمة لجواز أن يكون ذلك لذات الإنسان على أن استحقاق الرزق غير مختص بالإنسان فيلزم ثبوت الذمة لكل دابة

(٢/٣٣٨)

قوله فإن مر سانحا السانح ما ولاك ميامنه أي يمر من مياسرك إلى ميامنك والبارح بالعكس والعرب تتطير بالبارح وتتفاءل بالسانح لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى ينحرف فبهذا الاعتبار استعير الطائر لما هو سبب الخير والشر من قضاء اللّه تعالى وقدره وعمل العبد فإن ما قدر للعبد بمنزلة طائر يطير إليه من عش الغيب ووكر القدر ولا يخفى ما في كلام المصنف رحمه اللّه تعالى من التسامح حيث جعل الطائر استعارة لسبب الخير والشر أي قضاء اللّه تعالى وقدره وأعمال العباد ثم قال فالمعنى ألزمناه ما قضي له من خير وشر فجعل الطائر عبارة عن نفس الخير والشر المقضي به ثم القضاء هو الحكم من اللّه تعالى والأمر أولا والقدر هو التقدير والتفصيل بالإظهار والإيجاد ثانيا وفي كلام الحكماء أن القضاء عبارة عن وجود جميع المخلوقات في الكتاب المبين واللوح المحفوظ مجتمعة مجملة على سبيل الإبداع والقدر عبارة عن وجودها مفصلة منزلة في الأعيان بعد حصول الشرائط كما قال عز وجل وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم وقريب منه ما يقال إن القضاء ما في العلم والقدر ما في الإرادة وقد يقال إن اللّه تعالى إذا أراد شيئا قال له كن فيكون فهناك شيئان الإرادة والقول فالإرادة قضاء والقول قدر

قوله فقبل الولادة يعني أن الجنين قبل الانفصال عن الأم جزء منها من جهة أنه ينتقل بانتقالها ويقر بقرارها ومستقل بنفسه من جهة التفرد بالحياة والتهيؤ للانفصال فيكون له ذمة من وجهة حتى يصل وجوب الحقوق له كالإرث والوصية والنسب لا لوجوبها عليه حتى لو اشترى الولي له شيئا لا يجب عليه الثمن

وأما بعد الانفصال عن الأم فيصير ذمته مطلقة لصيرورته نفسا مستقلة من كل وجه فيصير أهلا للوجوب له وعليه حتى كان ينبغي أن يجب عليه كل حق يجب على

(٢/٣٣٩)

البالغ إلا أنه لما لم يكن أهلا للأداء لضعف بنيته والمقصود من الوجوب هو الأداء اختص واجباته بما يمكن أداؤه عنه فلهذا احتيج إلى تفصيل الواجبات وتميز ما يجب عليه عما لا يجب وهو ظاهر من الكتاب

قوله كنفقة القرب فإنها صلة تشبه المؤمن من جهة أنها تجب على الغني كفاية لما يحتاج إليه أقاربه بمنزلة النفقة على نفسه بخلاف نفقة الزوج فإنها تشبه الأعراض من جهة أنها وجبت جزاء للاحتباس الواجب عليها عند الرجل وإنما جعلت صلة لا عوضا محضا لأنها لم تجب بعقد المعاوضة بطريق التسمية على ما هو المعتبر في الأعواض فلكونها صلة تسقط بمعنى المدة إذا لم يوجد التزام كنفقة الأقارب ولشبهها بالأعواض تصير دينا بالالتزام

قوله وإن كان عاقلا أي الصبي لا يتحمل الدية وإن كان ذا عقل وتمييز لأن الدية وإن كانت صلة إلا أنها تشبه جزاء التقصير في حفظ القاتل عن فعله والصبي لا يوصف بذلك ولهذا لا تجب على النساء ثم في

قوله وإن كان عاقلا إيهام أن المراد وإن كان من العاقلة لكنه ليس بمراد لأن تحمل الدية لا يتصور إلا من العاقلة فلا معنى للتأكيد بقوله وإن كان من العاقلة

قوله فالعبادات لا تجب عليه أي على الصبي

فإن قلت من جملة العبادات الإيمان وهو ليس ببدني ولا مالي لكونه عمل القلب

قلت جعله من البدنية تغليبا أو باعتبار اشتماله على الإقرار الذي هو عمل اللسان وذهب فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى إلى أن الصبي إذا عقل يجب عليه نفس

(٢/٣٤٠)

الإيمان وإن لم يجب عليه أداؤه لأن نفس الوجوب يثبت بأسبابه على طريق الجبر إذا لم يخل عن فائدة وحدوث العالم وهو السبب متقرر في حقه

وأما الخطاب فإنما هو لوجوب الأداء وهو ليس بأهل له فلو أدى الإيمان بالإقرار مع التصديق وقع فرضا لأن الإيمان لا يحتمل النفل أصلا ولهذا لا يلزمه تجديد الإيمان بعد البلوغ فإن الصبا يصلح عذرا في سقوط وجوب الأداء لأنه مما يحتمل السقوط بعد البلوغ بعذر النوم والإغماء بخلاف نفس الوجوب فإنه لا يحتمل السقوط بحال والصبا لا ينافيه فيبقى نفس الوجوب ولهذا لو أسلمت امرأة الصبي وهو يأباه بعد ما عرضه القاضي عليه يفرق بينهما وذهب الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى إلى أنه لا وجوب عليه ما لم يبلغ وإن عقل لأن الوجوب لا يثبت بدون حكمه وهو الأداء لكن إذا أدى يكون الإيمان المؤدى فرضا لأن عدم الوجوب إنما كان بسبب عدم الحكم فقط وإلا فالسبب والمحل قائم فإذا وجد وجد كالمسافر إذا صلى الجمعة تقع فرضا

قوله

وأما المالية فلأن المقصود هو الأداء يعني أن الغرض من شرعية العبادات المالية كالزكاة مثلا هو الأداء ليظهر المطيع عن العاصي لا المال لأن اللّه تعالى غني عن العالمين وليس المعنى أن اللّه تعالى أراد الأداء من كل مكلف حتى يلزم من عدم أداء البعض خلاف مراد اللّه تعالى وهو محال ألا يرى أنه لم يخلق الجن والإنس إلا لمعرفته ولا يلزم من عدم معرفة البعض خلاف مراد اللّه تعالى فعلى هذه الإجابة إلى ما قيل إن المعنى المقصود هو الأداء في حق من علم اللّه تعالى منه الائتمار

وأما في حق غيره فالمقصود الابتلاء وإلزام الحجة

فإن قيل قد تجري النيابة في المالية كما إذا وكل غيره بأداء زكاته فينبغي أن يجب على الصبي ويؤدي عنه وليه أجيب بأن فعل النائب في النيابة الاختيارية ينتقل إلى المنوب عنه فيصلح عبادة بخلاف النيابة الجبرية كنيابة الولي

قوله مؤنة محضة كالعشر والخراج يعني بالمحض أنه بحسب الأصل والقصد لا يخالطه شيء من معنى العبادات والعقوبات وقد سبق أن معنى العبادة في العشر والعقوبة في الخراج إنما هو بحسب الوصف وليس بمقصود

(٢/٣٤١)

قوله والكاملة أي القدرة الكاملة تكون بالعقل الكامل أي المقرون بقوة البدن وذلك لأن المعتبر في وجوب الأداء ليس مجرد فهم الخطاب بل مع قدرة العمل به وهو بالبدن فإذا كانت كلتا القدرتين منحطة عن درجة الكمال كما في الصبي الغير العاقل أو إحداهما كما في الصبي العاقل أو المعتوه البالغ كانت الأهلية ناقصة

قوله فما يثبت بالقدرة الناقصة أقسام لأنها

إما حقوق اللّه تعالى أو حقوق العباد والأول

إما حسن لا يحتمل القبح

وإما قبيح لا يحتمل الحسن

وإما متردد بينهما والثاني

إما نفع محض أو ضرر محض أو متردد بينهما صارت ستة وأحكامها مذكورة في المتن

(٢/٣٤٢)

قوله وهو باطل فيما هو حسن وفيه نفع محض يعني أن الإيمان وفروعه حسن وفيه نفع محض فلا يليق بالشارع الحكيم الحجر عنه

فإن قيل هو يحتمل الضرر بالالتزام والعهدة حيث يأثم بتركه فالجواب أنه لا ضرر فيه إلا من جهة لزوم الأداء ولزوم الأداء هو موضوع عن الصبي لأنه مما يحتمل السقوط بعد البلوغ بعذر النوم والإغماء والإكراه

وأما نفس الأداء وصحته فنفع محض لا ضرر فيه

فإن قيل نفس الأداء أيضا يحتمل الضرر في حق أحكام الدنيا كحرمان الميراث عن مورثه الكافر والفرقة بينه وبين زوجته المشركة فالجواب أنا لا نسلم أنهما مضافان إلى إسلام الصبي بل إلى كفر المورث والزوجة ولو سلم فهما من ثمرات إسلامه وأحكامه اللازمة منه ضمنا لا من أحكامه الأصلية الموضوعة هو لها لظهور أن الإيمان إنما وضع لسعادة الدارين وصحة الشيء إنما تعرف من حكمه الأصلي الذي وضع هو له لا مما يلزمه من حيث إنه من ثمراته وهذا كما أن الصبي لو ورث قريبه أو وهب منه قريبه فقبله يعتق عليه مع أنه ضرر محض لأن الحكم الأصلي للإرث والهبة هو الملك بلا عوض لا العتق الذي ترتب عليهما في هذه الصورة

قوله ألا ترى أنهما أي حرمان الإرث عن المورث الكافر والفرقة عن الزوجة الوثنية

(٢/٣٤٣)

يثبتان فيما إذا ثبت إيمان الصبي تبعا بأن أسلم أحد الأبوين ولم يعد إضرارا يمنع صحة ثبوت الإيمان لكونهما من الثمرات واللوازم لا من المقاصد والأحكام الأصلية للإيمان

قوله

وأما الكفر فيعتبر من الصبي أيضا كما يعتبر منه الإيمان إذ لو عفي عنه الكفر وجعل مؤمنا لصار الجهل باللّه تعالى علما به لأن الكفر جهل باللّه تعالى وصفاته وأحكامه على ما هي عليه والجهل لا يجعل علما في حق العباد فكيف في حق رب الأرباب فيصح ارتداد الصبي في حق أحكام الآخرة اتفاقا لأن العفو عن الكفر ودخول الجنة مع الشرك مما لم يرد به شرع ولا حكم به عقل كذا في حق أحكام الدنيا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه تعالى حتى تبين منه امرأته المسلمة ويحرم الميراث من مورثه المسلم لأنه في حق الردة بمنزلة البالغ لأن الكفر محظور لا يحتمل المشروعية بحال ولا يسقط بعذر وإنما لم يقتل لأن وجوب القتل ليس بمجرد الارتداد بل بالمحاربة وهو ليس من أهلها كالمرأة وإنما لم يقتل بعد البلوغ لأن اختلاف العلماء في صحة إسلامه حال الصبا شبهة في إسقاط القتل

(٢/٣٤٤)

قوله بلا عهدة أي لا يلزم الصبي والعبد بتصرفاتهما بطريق الوكالة عهدة لأن ما فيه احتمال الضرر لا يملكه الصبي إلا أن يأذن الولي فيندفع قصور رأيه بانضمام رأي الولي فيلزمه العهدة

قوله ولا مباشرته لأن ولاية الولي نظرية وليس من النظر إثبات الولاية فيما هو ضرر محض وقال الإمام السرخسي رحمه اللّه تعالى الحق أنه لا ضرر في إثبات أصل الحكم حتى يملك إيقاع الطلاق عند الحاجة ولو أسلمت الزوجة وأبى الزوج فرق بينهما وكذا إذا ارتد الزوج وحده

قوله إلا القرض أي الإقراض إذ استقراض مال الصبي يجوز للأب دون القاضي

وأما الإقراض فإنما يجوز للقاضي لأن الإقراض قطع الملك عن العين ببدله في ذمة من هو غير ملي في الغالب فيشبه التبرع فلا يملكه الولي

وأما القاضي فيمكنه أن يطلب مليا ويقرضه مال اليتيم ويكون البدل مأمون التلف باعتبار الملاءة وعلم القاضي والقدرة على التحصيل من غير دعوى وبينة وهذا معنى كون القاضي أقدر على استيفائه وفي رواية يجوز للأب أيضا

(٢/٣٤٥)

قوله وما كان مترددا بينهما أي محتملا للنفع والضرر كالبيع ويحتمل الربح والخسران وكذا الشراء والإجارة والنكاح والمصنف رحمه اللّه تعالى جعل احتمال الضرر باعتبار خروج البدل عن الملك حتى لو باع الشيء بأضعاف قيمته كان ضررا ونفعا ويلزمه أن لا يندفع الضرر بحال قط وقد ذكر أن احتمال الضرر يندفع بانضمام رأي الولي

قوله لأنه أي الصبي أهل لحكمه أي حكم ما هو متردد بين النفع والضرر إذا باشره الولي بنفسه وذلك أنه يملك الثمن إذا باع الولي ماله ويملك العين إذا اشتراها له ويملك الأجرة إذا أجر عينا له

(٢/٣٤٦)

قوله وتوسيع طريق حصول المقصود حيث يثبت بمباشرة الولي ومباشرة الصبي

قوله وعندهما أي تصرف الصبي بإذن الولي فيما يحتمل النفع والضرر وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه تعالى إنما هو بطريق أنه يجعل بمنزلة مباشرة الولي العمل بنفسه حتى كان الصبي آلة فيقتصر على ما يقتصر عليه تصرف الولي وعبارة فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أن رأي الولي شرط للجواز وعموم رأيه كخصوصه فيجعل كأن الولي باشره بنفسه يعني أن رأي الولي شرط لجواز التصرف

إما بنفسه أو بالصبي ورأيه فيما إذا تصرف الصبي عام حيث جاوز تصرفه إلى تصرف الغير وفيما إذا باشر بنفسه خاص لا يتجاوزه فيجعل عموم رأيه بأن عمل بيد الغير كخصوصه بأن يعمل بيد نفسه فيصير كأن الولي باشر بنفسه

قوله

وأما وصيته فباطلة جواب سؤال يمكن تقريره بوجهين أحدهما أن الوصية نفع محض لأنه يحصل بها الثواب في الآخرة بعد الاستغناء عن المال بالموت بخلاف الهبة والصدقة فإن فيهما تضرر زوال الملك في الحياة فعلى هذا التقرير كان ينبغي أن يذكر هذا عقيب الحكم بأن ما فيه نفع محض يملكه الصبي وثانيهما أن الوصية مما يتردد بين النفع والضرر لا سيما إذا كانت في جهة الخير لحصول الثواب في الآخرة مع تضرر إبطال الإرث الذي هو نفع للمورث وعلى هذا لا يتم جواب المصنف رحمه اللّه تعالى لأن غايته بيان التضرر في الوصية ويلزم منه صحتها بإذن الولي ولا رواية في ذلك بل طريق الجواب أنا لا نسلم أنها تتضمن نفعا يعتد به بل هي ضرر محض والنفع الذي تضمنته إنما وقع باتفاق الحال وهو أنه حالة الموت فلا يعتد به بمنزلة ما لو باع ماله

(٢/٣٤٧)

بأضعاف قيمته لم يجز وكما لو طلق امرأته المعسرة الشوهاء ليتزوج أختها الموسرة الحسناء ولا يخفى ضعفه ويمكن تطبيق جواب المصنف رحمه اللّه تعالى على التقرير الثاني بأن يقال مراده أن ضررها أكثر لأن نقل الملك إلى الأقارب أفضل عقلا وشرعا لما فيه من صلة الرحم ولأن ترك الورثة أغنياء خير من تركهم فقراء بالنص وترك الأفضل في حكم الضرر المحض وبهذا يشعر

قوله إلا أنها شرعت في حق البالغ كالطلاق يعني أن الضرر المحض قد يشرع للبالغ لكمال أهليته كالطلاق وفي كونه ضررا محضا نظر

قوله فصل لما ذكر الأهلية بنوعيها شرع فيما يعترض عليهما فيزيلهما أو أحدهما أو يوجب تغييرا في بعض أحكامهما ويسمى العوارض جمع عارض على أنه جعل اسما بمنزلة كاتب وكاهل من عرض له كذا أي ظهر وتبدى ومعنى كونها عوارض أنها ليست من الصفات الذاتية كما يقال البياض من عوارض الثلج ولو أريد بالعروض الطريان والحدوث بعد العدم لم يصح في الصغر إلا على سبيل التغليب ثم العوارض نوعان سماوية إن لم يكن للعبد فيها اختيار واكتساب ومكتسبة إن كان له فيها دخل باكتسابها أو ترك إزالتها والسماوية أكثر تغييرا وأشد تأثيرا فقدمت وهي أحد عشر الجنون والصغر والعته والنسيان والنوم والإغماء والرق والمرض والحيض والنفاس والموت فالجنون اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب بأن لا يظهر آثارها وبتعطل أفعالها

إما لنقصان جبل عليه دماغه في أصل الخلقة

وإما لخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال بسبب خلط أو آفة

وإما لاستيلاء الشيطان عليه وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه بحيث يفرح ويفزع من غير ما يصلح سببا

قوله لمنافاته أي لمنافاة الجنون القدرة التي بها يتمكن من إنشاء العبادات على النهج الذي اعتبره الشرع وبانتفاء القدرة تنتفي الأهلية فينتفي وجوب الأداء فينتفي نفس الوجوب

قوله لكنهم قالوا الجنون

إما ممتد أو غير ممتد وكل منهما

إما أصلي بأن يبلغ مجنونا

(٢/٣٤٨)

أو طارئ بعد البلوغ فالممتد مطلقا مسقط للعبادات وغير الممتد إن كان طارئا فليس بمسقط استحسانا لوجوه الأول الإلحاق بالنوم والإغماء بجامع كونه عذرا عارضا زال قبل الامتداد مع عدم الحرج في إيجاب القضاء

الثاني أنه لا ينافي أهلية نفس الوجوب لبقاء الذمة بدليل أنه يرث ويملك والإرث والملك من باب الولاية ولا ولاية بدون الذمة إلا أنه إذا انتفى الأداء تحقيقا وتقديرا بلزوم الحرج في القضاء ينعدم الوجوب

الثالث أن المجنون أهل للثواب لأنه يبقى مسلما بعد الجنون والمسلم يثاب والثواب من أحكام الوجوب فيكون أهلا للوجوب في الجملة ولا حرج في إيجاب القضاء فيكون الأداء ثابتا تقديرا بتوهمه في الوقت ورجائه بعد الوقت هذا إذا كان الجنون الغير الممتد طارئا

وأما إذا كان أصليا فعند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى مسقط بناء للإسقاط على الأصالة أو الامتداد وعند محمد رحمه اللّه تعالى ليس بمسقط بناء للإسقاط على الامتداد فقط والاختلاف في أكثر الكتب مذكور على عكس ذلك وجه التسوية بين الأصل والطارئ أمران أحدهما أن الأصل في الجنون الحدوث والطريان إذ السلامة عن الآفات هي الأصل في الجبلة فيكون أصالة الجنون أمرا عارضا فيلحق بالأصل وهو الجنون الطارئ وثانيهما أن زوال الجنون بعد البلوغ دل على أن حصوله كان لأمر عارض على أصل الخلقة لا لنقصان جبل عليه دماغه فكان مثل الطارئ وجه التفرقة أيضا أمران أحدهما أن الطريان بعد البلوغ رجح جانب العروض فجعل عفوا عند عدم الامتداد إلحاقا بسائر العوارض بخلاف ما إذا بلغ مجنونا فزال فإن حكمه حكم الصغر فلا يوجب قضاء ما مضى وثانيهما أن الأصلي يكون لآفة في الدماغ مانعة عن قبول الكمال فيكون أمرا أصليا لا يقبل اللحاق بالعدم والطارئ قد اعترض على محل كامل للحوق آفة فيلحق بالعدم

(٢/٣٤٩)

قوله ثم الامتداد في الصلاة يعني أن الامتداد عبارة عن تعاقب الأزمنة وليس له حد معين فقدروه بالأدنى وهو أن يستوعب الجنون وظيفة الوقت وهو اليوم والليلة في الصلاة لأنه وقت جنس الصلاة وجميع الشهر في الصوم حتى لو أفاق بعض ليلة يجب القضاء وقيل الصحيح أنه لا يجب إذ الليل ليس بمحل للصوم فالجنون والإفاقة فيه سواء ثم اشترطوا في الصلاة التكرار ليتأكد الكثرة فيتحقق الحرج إلا أن محمدا اعتبر نفس الواجب أعني جنس الصلاة فاشترط تكرارها وذلك بأن تصير الصلوات ستا وهما اعتبرا نفس الوقت إقامة للسبب الظاهر أعني الوقت مقام الحكم تيسيرا على العباد في سقوط القضاء فلو جن بعد الطلوع وأفاق في اليوم الثاني قبل الظهر يجب القضاء عند محمد رحمه اللّه تعالى لعدم تكرر جنس الصلوات حيث لم تصر الصلوات ستا وعندهما لا يجب لتكرر الوقت بزيادته على اليوم والليلة بحسب الساعات وإن لم يزد بحسب الواجبات ولم يشترطوا في الصوم التكرار لأن من شرط المصير إلى التكرار أن لا يزيد على الأصل ووظيفة الصوم لا تدخل إلا بمضي أحد عشر شهرا فيصير التبع أضعاف الأصل ولا يلزمنا زيادة المرتين في غسل أعضاء الوضوء تأكيدا للفرض لأن السنة وإن كثرت لا تماثل الفريضة وإن

قلت فضلا على أن تزيد عليها والامتداد في الزكاة باستيعاب الحول لأنه كثير في نفسه وعند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى في رواية هشام عنه يقام الأكثر مقام الكل تيسيرا وتخفيفا في سقوط الواجب

قوله وذلك لا يكون حجرا لأن الحجر هو أن يتم الفعل بركنه ويقع في محله ويصدر عن أهله ثم لا يعتبر حكمه نظرا للصبي أو الولي وإيمان المجنون استقلالا إنما لم يعتبر لعدم ركنه وهو الاعتقاد بخلاف إيمانه تبعا لأحد أبوين فإنه يصح لأن الاعتقاد ليس ركنا له ولا شرطا وبهذا يظهر الجواب عما يقال إن غاية أمر التبع أن يجعل بمنزلة الأصل فإذا لم يصح بفعل نفسه لعدم صلوحه لذلك فبفعل غيره أولى

(٢/٣٥٠)

قوله وإذا أسلمت امرأته لو ذكر بالفاء على أنه تفريع على صحة إيمانه تبعا لكان أنسب يعني لو أسلمت كتابية تحت مجنون كتابي له ولي كتابي يعرض الإسلام على الولي فإن أسلم صار المجنون مسلما تبعا له وبقي النكاح وإلا فرق بينهما وكان القياس التأخير إلى الإفاقة كما في الصغر إلا أن هذا استحسان لأن للصغر حدا معلوما بخلاف الجنون ففي التأخير ضرر للزوجة مع ما فيه من الفساد لقدرة المجنون على الوطء

قوله ويصير مرتدا تبعا لأبويه فيما إذا بلغ مجنونا وأبواه مسلمان فارتدا ولحقا معه بدار الحرب وذلك لأن الكفر باللّه تعالى قبيح لا يحتمل العفو بعد تحققه بواسطة تبعية الأبوين بخلاف ما إذا تركاه في دار الإسلام فإنه مسلم تبعا للدار وكذا إذا بلغ مسلما ثم جن أو أسلم عاقلا فجن قبل البلوغ فإنه صار أهلا للإيمان بتقرر ركنه فلا ينعدم بالتبعية أو عروض الجنون

قوله فإنه أي المجنون يؤاخذ بضمان الأفعال في الأموال كما إذا أتلف مال إنسان لتحقق الفعل حسا مع أن المقصود هو المال وأداؤه يحتمل النيابة بخلاف أقواله فإنه لا يعتد بها شرعا لانتفاء تعقل المعاني فلا تصح أقاريره وعقوده وإن أجازها الولي

(٢/٣٥١)

قوله ولا يلزم على هذا الحرمان بالكفر والرق كما إذا ارتد الصبي العاقل أو استرق فإنه لا يستحق الإرث

أما الكافر فلأنه لا ولاية له وهي السبب للإرث على ما يشير إليه

قوله تعالى حكاية عن حال زكريا عليه الصلاة والسلام فهب لي من لدنك وليا يرثني

وأما الرقيق فلأنه ليس أهلا للملك

قوله وحكمه أي حكم العته حكم الصبا مع العقل وذلك لأن الصبي في أول حاله عديم العقل فألحق به المجنون وفي الآخر ناقص العقل فألحق به المعتوه فلا يمنع صحة القول والفعل حتى يصح إسلامه وتوكيله في بيع مال الغير والشراء له وفي طلاق امرأته وإعتاق عبده ويمنع ما يوجب إلزام شيء يحتمل السقوط فلا يصح طلاق امرأته وإعتاق عبده ولو بإذن الولي ولا بيعه ولا شراؤه لنفسه بدون إذن الولي ويطالب بالحقوق الواجبة بالإتلاف لا بالعقود كثمن المشترى وتسليم المبيع ولا يجب عليه العقوبات والعبادات وفي التقويم أنه يجب عليه العبادات احتياطا

(٢/٣٥٢)

قوله إلا أن امرأة المعتوه إذا أسلمت لا يؤخر عرض الإسلام على المعتوه إلى كمال العقل هذا الاستدراك ليس كما ينبغي لأنه لا فرق بين المعتوه والصبي العاقل في عدم تأخير عرض الإسلام لأن إسلامهما صحيح فصح خطابهما وإلزامهما لأن ذلك الحق العبد وهو الزوجة وإنما سقط عنهما خطاب الأداء فيما يرجع إلى حق اللّه تعالى خاصة وإنما التأخير في حق الصغير خاصة كذا في شرح الجامع وغيره

قوله ومنها النسيان وهو عدم ما في الصورة الحاصلة عند العقل عما من شأنه الملاحظة في الجملة أعم من أن يكون بحيث يتمكن من ملاحظتها أي وقت شاء ويسمى هذا ذهولا وسهوا أو يكون بحيث لا يتمكن من ملاحظتها إلا بعد تجشم كسب جديد وهذا هو النسيان في عرف الحكماء والنسيان لا ينافي الوجوب لبقاء القدرة بكمال العقل ويكون عذرا في حقوق العباد لأنها محترمة لحاجتهم لا للابتلاء وبالنسيان لا يفوت هذا الاحترام فلو أتلف مال إنسان ناسيا يجب عليه الضمان

وأما في حقوق اللّه تعالى فإما أن يقع المرء في النسيان بتقصير منه كالأكل في الصلاة حيث لم يتذكر مع وجود المذكر وهو هيئة الصلاة فلا يكون عذرا

وإما لا بتقصير منه فيكون عذرا سواء كان معه ما يكون داعيا إلى النسيان ومنافيا للتذكر كالأكل في الصوم لما في الطبيعة من النزوع إلى الأكل أو لم يكن كترك التسمية عند الذبح فإنه لا داعي إلى تركها لكن ليس هناك ما يذكر إخطارها بالبال وإجراءها على اللسان فسلام الناسي في القعدة يكون عذرا حتى لا تبطل صلاته إذ لا تقصير من جهته والنسيان غالب في تلك الحالة لكثرة تسليم المصلي في القعدة فهي داعية إلى السلام

(٢/٣٥٣)

قوله وهو أي النوم لما كان عجزا عن الإدراكات أي الإحساسات الظاهرة إذ الحواس الباطنة لا تسكن في النوم وعن الحركات الإرادية أي الصادرة عن قصد واختيار بخلاف الحركات الطبيعية كالتنفس ونحوها أوجب تأخير الخطاب بالأداء إلى وقت الانتباه لامتناع الفهم وإيجاد الفعل حالة النوم ولم يوجب تأخير نفس الوجوب وأسقطها حال النوم لعدم إخلال النوم بالذمة والإسلام ولإمكان الأداء حقيقة بالانتباه أو خلفا بالقضاء والعجز عن الأداء إنما يسقط الوجوب حيث يتحقق الحرج بتكثير الواجبات وامتداد الزمان والنوم ليس كذلك عادة واستدل على بقاء نفس الوجوب بقوله عليه الصلاة والسلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإنه لو لم تكن الصلاة واجبة لما أمر بقضائها قيل وفي لفظ عن إشارة إلى وجوبها حال النوم وإلا لما كان نائما عن الصلاة

قوله وأبطل أي النوم عبارات النائم فيما يعتبر فيه الاختيار كالبيع والشراء والإسلام والردة والطلاق والعتاق لانتفاء الإرادة والاختيار في النوم حتى أن كلامه بمنزلة ألحان الطيور ولهذا ذهب المحققون إلى أنه ليس بخبر ولا إنشاء ولا يتصف بصدق ولا كذب

قوله فإذا قرأ في صلاته نائما لا تصح هذا هو مختار فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى وذكر في النوادر أن قراءة النائم تنوب عن الفرض وفي النوازل إن تكلم النائم يفسد صلاته وذلك لأن الشرع جعل النائم كالمستيقظ في حق الصلاة وذكر في المغني أن عامة المتأخرين على أن قهقهة

(٢/٣٥٤)

النائم في الصلاة تبطل الوضوء والصلاة جميعا

أما الوضوء فبالنص الغير الفارق بين النوم واليقظة

وأما الصلاة فلأن النائم فيها بمنزلة المستيقظ وعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى تفسد الوضوء دون الصلاة حتى كان له أن يتوضأ ويبني على صلاته لأن فساد الصلاة بالقهقهة مبني على أن فيها معنى الكلام وقد زال ذلك بزوال الاختيار في النوم بخلاف الحدث فإنه لا يفتقر إلى الاختيار وقيل على العكس ولما كان في القهقهة من معنى الكلام حتى كأنها من جنس العبارات صح تفريع مسألة القهقهة على إبطال النوم عبارات النائم

قوله ومنها الإغماء اعلم أنه ينبعث عن القلب بخار لطيف يتكون من ألطف أجزاء الأغذية يسمى روحا حيوانيا وقد أفيضت عليه قوة تسري بسريانه في الأعصاب السارية في أعضاء الإنسان فينتشر في كل عضو قوة تليق به ويتم بها منافعه وهي تنقسم إلى مدركة ومحركة

أما المدركة فهي الحواس الظاهرة والباطنة على ما مر

وأما المحركة فهي التي تحرك الأعضاء بتمديد الأعصاب أو إرخائها لينبسط إلى المطلوب أو ينقبض عن المنافي فمنها ما هي مبدأ الحركة إلى جلب المنافع ويسمى قوة شهوانية ومنها ما هي مبدأ الحركة إلى دفع المضار ويسمى قوة غضبية وأكثر تعلق المدركة بالدماغ والمحركة بالقلب فإذا وقعت في القلب أو الدماغ آفة بحيث تتعطل تلك القوى عن أفعالها أو إظهار آثارها كان ذلك إغماء فهو مرض وليس زوالا للعقل كالجنون وإلا لعصم منه

(٢/٣٥٥)

الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثم الإغماء فوق النوم في إيجاب تأثير الخطاب وإبطال العبادات لأن النوم حالة طبيعية كثيرة الوقوع حتى عده الأطباء من ضروريات الحيوان استراحة لقواه والإغماء ليس كذلك فيكون أشد في العارضية ولأن تعطل القوى وسلب الاختيار في الإغماء أشد لأن مواده غليظة بطيئة التحلل ولهذا يمتنع فيه التنبيه ويبطؤ الانتباه بخلاف النوم فإن سببه تصاعد أبخرة لطيفة سريعة التحلل إلى الدماغ فلذا ينتبه بنفسه أو بأدنى تنبيه ولقلة وقوع الإغماء وندرته لا سيما في الصلاة كان مانعا للبناء حتى لو انتقض الوضوء بالإغماء في الصلاة لم يجز البناء عليها قليلا كان أو كثيرا بخلاف ما إذا انتقض الوضوء بالنوم مضطجعا من غير تعمد فإنه يجوز له أن يبني على صلاته لأن النص بجواز البناء إنما ورد في الحدث الغالب الوقوع

قوله ومنها الرق هو في اللغة الضعف ومنه رقة القلب وثوب رقيق ضعيف النسج وفي الشرع عجز حكمي بمعنى أن الشارع لم يجعله أهلا لكثير مما يملكه الحر مثل الشهادة والقضاء والولاية ونحو ذلك وهو حق اللّه تعالى ابتداء بمعنى أنه ثبت جزاء للكفر فإن الكفار لما استنكفوا عن عبادة اللّه تعالى وألحقوا أنفسهم بالبهائم في عدم النظر والتأمل في آيات التوحيد جازاهم اللّه تعالى بجعلهم عبيد عبيده متملكين مبتذلين بمنزلة البهائم ولهذا لا يثبت الرق على المسلم ابتداء ثم صار حقا للعبد بقاء بمعنى أن الشارع جعل الرقيق ملكا من غير نظر إلى معنى الجزاء وجهة العقوبة حتى إنه يبقى رقيقا وإن أسلم واتقى

قوله وهو أي الرق لا يحتمل التجزي بأن يصير المرء بعضه رقيقا ويبقى البعض حرا لأنه أثر الكفر ونتيجة القهر ولا يتصور فيهما التجزي وكذا لا يتصور إيجاب العقوبة على البعض مشاعا وكذا العتق الذي هو ضد الرق لا يحتمل التجزي بأن يعتق بعض العبد ويبقى بعضه رقيقا لأن فيه تجزي الرق ضرورة وقد يقال سلمنا امتناع تجزي الرق ابتداء لكن لا نسلم امتناعه بقاء لأن وصف الملك يقبل التجزي فيجوز أن يثبت الشرع للمولى حق الخدمة في البعض ويعمل العبد لنفسه في البعض الآخر مشاعا ولا يثبت الشهادة والولاية ونحو ذلك لأنها لا تقبل التجزي ولأنها مبنية على

(٢/٣٥٦)

كمال الأهلية فتنعدم برق البعض

فإن قيل الرق والحرية متضادان فلا يجتمعان أجيب بأنه لا يدل على امتناع أن يكون الموصوف بالحرية بعينه موصوفا بالرق ولا قائل بذلك بل المحل متصف بهما مشاعا كما إذا ملك زيد نصف العبد مشاعا فإنه قد اجتمع فيه ملكية زيد وعدم ملكيته باعتبار النصفين

قوله وكذا الإعتاق اختلف القائلون بعدم تجزي العتق في تجزي الإعتاق فذهب أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه تعالى إلى عدم تجزيه بمعنى أن إعتاق البعض إعتاق للكل لأن العتق لازم الإعتاق لأنه مطاوعة يقال أعتقته فعتق مثل كسرته فانكسر والمطاوعة هي حصول الأثر من تعلق الفعل المتعدي بمفعوله وأثر الشيء لازم له والعتق ليس بمنجز اتفاقا بين علمائنا فكذا الإعتاق إذ لو تجزأ الإعتاق بأن يقع من المحل على جزء دون جزء لزم تجزي العتق ضرورة والحاصل أن محل الإعتاق والعتق هو العبد وتجزيهما إنما هو باعتبار المحل فتجزي أحدهما تجزي الآخر وذهب أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى إلى أن الإعتاق متجزي وأنه لا يستلزم العتق حتى لو أعتق البعض لا يثبت للعبد الحرية في البعض ولا في الكل بل يكون رقيقا في الشهادة وسائر الأحكام إذ لو ثبت العتق لثبت في الكل لعدم التجزي ولا سبب لذلك مع تضرر المالك به فيتوقف في الحكم بالعتق إلى أن يؤدي السعاية ويسقط الملك بالكلية فيعتق وذلك لأن الإعتاق إزالة الملك إذ لا تصرف للمولى في حقه وحقه في الرقيق هو المالية والملك وهو متجزئ فكذا إزالته كما إذا باع نصف العبد ثم زوال الملك بالكلية يستلزم زوال الرق لأن الملك لازم له إذ الرق إنما يثبت جزاء للكفر وإنما بقي بعد الإسلام لقيام ملك المولى وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم وزوال بعض الملك لا يستلزم العتق لبقاء المملوكية في الجملة بل زوال بعض الملك من غير نقله إلى

(٢/٣٥٧)

مالك آخر يكون إيجادا للبعض من علة ثبوت العتق وهو لا يوجب العتق كالقنديل لا يسقط ما بقي شيء من المسكة

فإن قيل ففي إزالة كل الملك عن الرقيق إزالة حق اللّه تعالى وليس للعبد ذلك أجيب بأن الممتنع للعبد إزالة حق اللّه تعالى قصدا وأصلا لا ضمنا وتبعا وحق اللّه تعالى وإن كان أصلا في ابتداء الرق جزاء على الكفر لكنه تبع بقاء فإن الأصل هو الملكية والمالية ولهذا لا يزول الرق بالإسلام ففي الإعتاق إزالة حق العبد قصدا وأصلا ولزم منه زوال حق اللّه تعالى ضمنا وتبعا وكم من شيء يثبت ضمنا ولا يثبت قصدا وإلى هذا أشار بقوله ففي الابتداء ثبوت حق العبد يتبع ثبوت حق اللّه تعالى وفي البقاء بالعكس

فإن قيل فأي أثر للإعتاق عند إزالة بعض الملك أجيب بأن أثره فساد الملك في الباقي حتى لا يملك المولى بيع معتق البعض ولا إبقاء في ملكه ويصير هو أحق بمكاسبه ويخرج إلى الحرية بالسعاية وبالجملة يصير كالمكاتب إلا أن المكاتب يرد إلى الرق بالعجز عن المال لأن السبب فيه عقد يحتمل الفسخ وهذا لا يرد لأن سببه إزالة الملك لا إلى أحد وهي لا تحتمل الفسخ وإلى هذا أشار بقوله فمعتق البعض مكاتب عنده أي عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى إلا في الرد إلى الرق

قوله والرق يبطل مالكية المال لأن الرقيق مملوك مالا فلا يكون مالكا لأن المملوكية والمالية تنبئ عن العجز والابتذال والمالكية عن القدرة والكرامة فيتنافيان وليس المراد أنه مملوك من حيث إنه مال فلا يصير مالكا لمال حتى يرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون مملوكا من جهة أنه مال مبتذل ومالكا من جهة أنه آدمي مكرم وقيد المالكية والمملوكية بالمالية لأنه لا تنافي بين المملوكية متعة وبين المالكية مالا وبالعكس فالرقيق وإن كان مدبرا أو مكاتبا لا يملك شيئا من أحكام ملك المال ولو بإذن المولى فلا يملك المكاتب التسري لابتنائه على ملك الرقبة دون المتعة وخص المكاتب والتسري بالذكر ليعلم الحكم في غير ذلك بطريق الأولى لأن في المكاتب

(٢/٣٥٨)

الرق ناقص حتى إنه أحق بمكاسبه وفي التسري مظنة ملك المتعة كالنكاح ولهذا صح عند مالك

قوله ولا يبطل أي الرق مالكية النكاح والحياة والدم لأن الرقيق ليس بمملوك في حكم هذه الأشياء بل بمنزلة المبقى على أصل الحرية إلا أنه يحتاج في النكاح إلى إذن المولى لما فيه من نقصان المالية بوجوب المهر المتعلق برقبة العبد ويصح منه الإقرار بالحدود والقصاص والسرقة المستهلكة لأن الحياة والدم حقه لاحتياجه إليهما في البقاء ولهذا لا يملك المولى إتلافهما

وأما الإقرار بالسرقة القائمة الموجبة للقطع دون المال فيصح إن كان العبد مأذونا فيقطع لأن الدم ملكه ويرد المال لوجود الإذن وإن كان محجورا فعند أبي حنيفة يصح في حق القطع ورد المال جميعا وعند محمد رحمه اللّه تعالى لا يصح في شيء منهما وعند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى يصح في حق القطع دون المال لأبي يوسف رحمه اللّه تعالى أنه أقر بشيئين القطع وهو على نفسه لأنه مالك دمه فيثبت والمال وهو على المولى فلا يصح ولمحمد رحمه اللّه تعالى أن إقراره بالمال باطل لكونه على المولى فيبقى المال للمولى ولا قطع على العبد في سرقة مال مولاه وأيضا المال أصل والقطع تبع فإذا بطل الأصل لم يثبت التبع ولأبي حنيفة رحمه اللّه تعالى أن إقراره بالقطع صحيح لأنه مالك دمه فيصح في حق المال بناء عليه لأن إقراره بالقطع قد لاقى حالة البقاء والمال في حالة البقاء تابع للقطع حتى يسقط عصمة المال باعتباره ويستوفى القطع بعد استهلاكه هذا كله إذا كذبه المولى وقال المال مالي وإن صدقه يقطع في الفصول كلها

قوله وينافي يعني أن الرق ينبئ عن العجز والمذلة فينافي كمال أهلية الكرامات البشرية الدنيوية من الذمة والحل والولاية

أما الذمة فلأنها صفة بها صار الإنسان أهلا للإيجاب

(٢/٣٥٩)

والاستيجاب دون سائر الحيوانات

وأما الحل فلأن استفراش الحرائر والسكن والازدواج والمحبة وتحصين النفس والتوسعة في تكثير النسل على وجه لا يلحقه إثم من باب الكرامة ولهذا زاد النبي عليه الصلاة والسلام إلى التسع وجاز له ما فوقها

وأما الولاية فلأن تنفيذ القول على الغير شاء أو لم يشأ غاية الكرامة ونهاية السلطنة وإذا انتفى كمال الأمور المذكورة ضعفت ذمة الرقيق عن احتمال الدين حتى لا يطالب به إلا إذا انضم إلى الذمة مالية الرقبة والكسب جميعا فحينئذ يتعلق الدين بها فيستوفى من الرقبة والكسب بأن يصرف أولا إلى الدين الكسب الموجود في يده فإن لم يكن أو لم يف يصرف إليه مالية الرقبة بأن يباع إن أمكن وإلا فيستسعي كالمدبر والمكاتب هذا إذا لم يكن في ثبوت الدين تهمة

وأما إذا كان كالدين الذي أقر به المحجور والعقر الذي لزمه بالدخول بالعقد الفاسد فيما إذا تزوج بغير إذن المولى فلا يباع فيه الرقيق ولا يصرف إليه كسبه بل يؤخر أداؤه إلى أن يعتق ويحصل له مال

أما الدين فلأنه متهم في حق المولى لا في حق نفسه

وأما العقر فلأنه قيمة البضع بشبهة العقد ولا شبهة في حق المولى لعدم رضاه فلا يظهر ثبوت العقر في حقه فلا يستوفى من مالية الرقبة ولا من الكسب لأنهما حق المولى

قوله وينصف الحد لأن تغليظ العقوبة بتغليظ الجناية على حق المنعم وذلك بتوافر النعم

(٢/٣٦٠)

وكمال الكرامة وهي ناقصة في حق العبد بالإضافة إلى الحر فينصف حده القابل للتنصيف كالجلد بخلاف القطع في السرقة وكذا العدة تعظيم لملك النكاح في حق النساء فتنصف وتكون عدة الأمة حيضتين لأن الواحدة لا تنتصف فلا بد من التكامل احتياطيا وكذا في القسم يكون للأمة نصف الحرة وفي الطلاق يكون طلاق الأمة ثنتين لأنه لم يمكن تنصيف الثلاثة على السواء فجعل نصف الثلاثة ثنتين اعتبارا لجانب الوجود وذهابا إلى ما هو الأصل من بقاء الحل والمعتبر عند الشافعي رحمه اللّه تعالى في تنصيف الطلاق رق الزوج حتى كأن طلاق العبد ثنتين سواء كانت الزوجة أمة أو حرة لقوله عليه الصلاة والسلام الطلاق بالرجال والعدة بالنساء ولأنه المالك للطلاق كالنكاح فيعتبر حاله

واحتج المصنف رحمه اللّه تعالى على كون المعتبر رق الزوجة بأن عدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية يعني أن الطلاق مشروع لتفويت الحل الذي صارت المرأة به محلا للنكاح فمحل التصرف حل المحلية فمتى كان حل المرأة أزيد كان محلية الطلاق في حقها أوسع وظاهر أن حل الأمة أنقص من حل الحرة كما أن حل العبد أنقص من حل الحر على التناصف فيفوت حل محلية الأمة بنصف ما يفوت به حل محلية الحرة ثم لا يخفى أن ليس عدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية بل معناه أن تعدد الطلاق إنما يتحقق عند اتساع المملوكية حتى ينقص بطلاق واحد شيء

(٢/٣٦١)

من المملوكية المتسعة وبالثنتين أكثر وبالثلاث الكل والمعتبر في عدده رعاية جانب المملوكية لا المالكية ومعنى المملوكية هاهنا حل المرأة التي هو من باب الكرامة والأمة ناقصة فيه لا المملوكية المالية التي هي في الأمة أقوى

فإن قيل المملوكية لا تتحقق بدون المالكية فكلما زادت المملوكية زادت المالكية فيكون اتساع المملوكية مستلزما لاتساع المالكية فإن مالكية ثلاثة عبيد أوسع من مالكية عبدين فيجب أن يعتبر بالرجال أيضا لأن مالكية الحر أوسع من مالكية الرقيق فيلزم تنصيف الطلاق برق الرجل أيضا لنقصان مالكيته فيكون طلاق الحرة تحت العبد ثنتين كطلاق الأمة تحت الحر فالجواب أن حال الزوج في الاتساع والتضييق قد اعتبرت مرة حيث تنصف عدد زوجات الرقيق من الأربع إلى الثنتين بالإجماع فلو اعتبرت في حق الطلقات أيضا لزم النقصان من النصف لأن الحر يملك اثنتي عشرة طلقة بحسب أربع زوجات فيجب أن يملك العبد ست طلقات يوقعها على زوجتين تحقيقا للتنصيف ولو تنصف الطلاق في حقه أيضا يلزم أن لا يملك إلا أربع تطليقات وهذا أقل من الست التي هي نصف اثني عشر

قوله ولما كان أحد الملكين يريد أنه يتفرغ على منافاة الرق لكمال الكرامات نقصان دية الرقيق حتى لو قتل خطأ يجب على عاقلة الجاني قيمته للمولى بشرط أن تنقص عن دية الحر وإن

(٢/٣٦٢)

كانت قيمته أضعاف ذلك وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى تجب القيمة بالغة ما بلغت وذلك لأن في الرقيق جهة المالية وجهة النفسية فاعتبر الشافعي رحمه اللّه تعالى جهة المالية لأن المال يجب للمولى وملكه في العبد ملك مال ولأن الواجب فيه النقود دون الإبل ولأنه يختلف باختلاف الصفات من الحسن والأخلاق وغيرهما والصفات إنما تعتبر في ضمان الأموال دون النفوس واعتبر أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى جهة النفسية لأنها أصل والمالية تبع يزول بزوال النفسية كما إذا مات العبد دون العكس كما إذا أعتق وضمان النفسية إنما هو باعتبار خطرها وذلك بالمالكية فإنها كمال حال الإنسان والمالكية نوعان مالكية المال وكمالها بالحرية ومالكية النكاح وثبوتها بالذكورة فالمرأة قد انتفت فيها إحدى المالكيتين وثبتت الأخرى بكمالها فانتقصت ديتها بالتنصيف

وأما العبد فقد ثبت له مالكية النكاح بكمالها وإنما توقفت على إذن المولى دفعا للضرر في ماله لا لنقصان في مالكية العبد ولم ينتف فيه مالكية المال بالكلية حتى يناسب تنصيف ديته بل إنما يتمكن فيها نقصان لأنها بشيئين ملك الرقبة وهو منتف للعبد وملك اليد أعني التصرف وهو ثابت له فلزم بواسطة نقصان ملك اليد نقصان شيء من قيمته فقدرناه بعشرة دراهم لأنه قد اعتبره الشرع في أقل ما يستولى به على الحرة استمتاعا وهو المهر وفي أقل ما يقطع به اليد التي هي بمنزلة نصف البدن

وقد نقل عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه لا يبلغ بقيمة العبد دية الحر وينقص منها عشرة دراهم

(٢/٣٦٣)

فإن قيل المنتفى في العبد هو أحد شقي مالكية المال فكان ينبغي أن ينقص من قيمته الربع توزيعا على ما به خطر المحل أعني مالكية النكاح ومالكية المال رقبة ويدا

قلنا مالكية اليد أقوى من مالكية الرقبة إذ الانتفاع والتصرف هو المقصود وملك الرقبة وسيلة إليه بخلاف ملك المال وملك النكاح فإن كلا منهما أمر مستقل فكانا على التناصف هذا تقرير كلامهم واعترض عليه المصنف رحمه اللّه تعالى بوجهين أحدهما أنه لو صح ما ذكرتم لزم أن لا يجري التنصيف في شيء من أحكام العبد إذ لم يتمكن في كماله إلا نقصان ما أقل من النصف بل من الربع على ما مر فيجب أن يكون نقصانه في النكاح والطلاق وغير ذلك بأقل من النصف واللازم باطل إجماعا وثانيهما أن مالكية النكاح لو كانت ثابتة للرقيق بكمالها لزم أن لا يجري النقصان في شيء مما يتعلق بالنكاح والازدواج كعدد الزوجات والعدة والقسم والطلاق لأنها مبنية على مالكية النكاح وهي كاملة واللازم باطل والجواب عن الأول أن تنصيف عدد الزوجات ليس باعتبار نقصان خطر النفس أعني المالكية حتى يلزم أن يكون النقصان بأقل من النصف كما في الدية بل باعتبار الحل المبني على الكرامة والرقيق ناقص فيه نقصانا لا يتعين قدره فقدره الشرع بالنصف إجماعا بخلاف الدية فإنها باعتبار خطر النفس المبني على الملكية ونقصان الرقيق في ذلك أقل من النصف والحاصل أن النقصان في الشيء يوجب النقصان في الحكم المرتب عليه لا في حكم لا يلائمه فالنقصان في المالكية يوجب النقصان في الدية لا في عدد المنكوحات والنقصان في الحل بالعكس وعن الثاني أن تنصيف عدد الزوجات ليس لنقصان المالكية بل لنقصان الحل وكمال مالكية النكاح وإن لم يوجب نقصان عدد الزوجات لكنه لا ينافي أن يوجبه أمر آخر هو نقصان الحل ثم ما ذكره من أن ثبوت كمال مالكية النكاح في الرقيق يوجب أن يكون كل ما هو من باب الازدواج كاملا في الأرقاء ليس بمستقيم لأن كثيرا من ذلك كالطلاق والعدة والقسم إنما يكون باعتبار الزوجة والأمة لا تملك النكاح أصلا فضلا عن كمال المالكية

قوله وإنما انتقص يريد أن العلة في نقصان دية العبد أن المعتبر فيه جانب المالية فلا يلزم التنصيف بل القيمة لكنها إذا بلغت دية الحر أو زادت عليها ينتقص منها شيء اعتبرها الشرع في

(٢/٣٦٤)

صورة أخرى كعشرة دراهم احترازا عن شبهة مساواة العبد بالحر أو زيادته عليه فإن شبهة الشيء معتبرة بحقيقته وكما أن حقيقة المساواة منتفية فكذلك شبهتها وإنما جعل ذلك شبهة المساواة لا حقيقتها لأن قيمة العبد إنما تكون باعتبار المملوكية والابتذال ودية الحر باعتبار المالكية والكرامة والأول دون الثاني حقيقة وإن زاد عليه صورة فلا مساواة حقيقة وينبغي أن يحمل كلام المصنف رحمه اللّه تعالى على ما ذكره الشيخ أبو الفضل الكرماني رحمه اللّه تعالى من أن الواجب في نفسه ضمان النفس ولكن في جانب المستحق هو ضمان مال فيظهر حكم المالية في حق السيد وإلا فنفس العبد معصومة مصونة عن الهدر معتبرة في إيجاب الضمان بالقصاص والكفارة حق اللّه تعالى والمالية قائمة بها تابعة لها تزول بزوالها كما في الموت دون العكس كما في العتق وأيضا المقصود في الإتلاف في القتل هو النفسية عادة لا المالية والضمان للمتلف وأيضا الضمان يجب على العاقلة دون الجاني وكل ذلك يدل على أن المعتبر هو النفسية وكون الدية للمولى لا ينافي ذلك كالقصاص يستوفيه المولى والمال يجب للعبد ولهذا تقضى ديونه منه إلا أن المولى أحق الناس به فهو يستوفيه

قوله وهو أهل للتصرف يعني أن الرق لا ينافيه مالكية اليد والتصرف حتى إن المأذون يتصرف لنفسه بطريق الأصالة ويثبت له اليد على اكتسابه بناء على أن الإذن فك الحجر الثابت بالرق ورفع المانع من التصرف حكما وإثبات اليد للعبد في كسبه بمنزلة الكتابة حتى إن الإذن في

(٢/٣٦٥)

نوع من التجارة يكون إذنا في الكل ولا يصح الحجر في البعض بعد الإذن العام أو الخاص ولا يقبل الإذن التأقيت لأنه إسقاط وقال الشافعي رحمه اللّه تعالى ليس تصرفه لنفسه بأهليته بل بطريق الاستفادة عن المولى كالوكيل ويده في الاكتساب يد نيابة كالمودع واحتج بأنه لو كان أهلا للتصرف لكان أهلا للملك لأن التصرف وسيلة إلى الملك وسبب له والسبب لم يشرع إلا لحكمه واللازم باطل إجماعا فكذا الملزوم وإذا لم يكن أهلا للتصرف لم يكن أهلا لاستحقاق اليد إذ اليد إنما تستفاد بملك الرقبة أو التصرف وتحقيق ذلك أن التصرف تمليك وتملك ومعنى التملك الصيرورة مالكا ومعنى التمليك الإخراج عن ملكه إلى ملك الغير ولا ملك إلا للمولى وحاصل الجواب أن المقصود الأصلي من التصرفات ملك اليد وهو حاصل للعبد وملك الرقبة وسيلة إليه وعدم أهليته للوسيلة لا يوجب عدم أهليته للمقصود وإنما يلزم ذلك لو لم يكن إلى المقصود طريق إلا بتلك الوسيلة وهو ممنوع والدليل على أن الرقيق أهل للتصرف وملك اليد أنه أهل للتكلم والذمة

أما الأول فلأنه عاقل تقبل رواياته في الأخبار والديانات وشهادته في هلال رمضان ويجوز توكيله

وأما الثاني فلأنه أهل للإيجاب والاستيجاب ولذا يخاطب بحقوق اللّه تعالى ويصح إقراره بالحدود والقصاص والدين ولا يملك المولى ذمته حتى لا يجوز أن يشتري شيئا على أن الثمن في ذمته

وأما إقراره على العبد بدين فإنما يصح من جهة أن مالية العبد مملوكة له كالوارث يقر على مورثه بالدين وإذا كان أهلا للتكلم والذمة صح أن يلتزم شيئا في ذمته فيجب أن يكون له طريق إلى قضائه دفعا للحرج اللازم من أهلية الإيجاب في الذمة بدون أهلية القضاء وأدنى طرق القضاء ملك اليد فيلزم ثبوته للعبد وهو المطلوب

فإن قيل الرقيق مملوك فلا يكون مالكا لا يدا ولا رقبة أجيب بأنه مملوك مالا فلا يكون مالكا مالا واليد ليست بمال بدليل أن الحيوان يثبت دينا في الذمة بمقابلة اليد كما في عقد الكتابة ومثله في النكاح والطلاق فلا يثبت بمقابلة المال كما في البيع

فإن قيل ملك الرقبة حكم للتصرف ومسبب عنه فإذا كان تصرف العبد يقع لنفسه فكيف يقع ملك الرقبة للمولى أجيب بأن التصرف ينعقد للعبد فيكون حكمه له لأنه نتيجة تصرفه إلا أنه لما لم

(٢/٣٦٦)

يبق أهلا للملك بعدما أوقع الملك له استحقه المولى بطريق الخلافة عن العبد لأنه أقرب الناس إليه لكونه مالك رقبته فالمولى إنما يتلقى الملك من جهة العبد كالوارث مع المورث فلذا قال أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى إن دين العبد يمنع ملك المولى في كسبه وهذا معنى ما ذكره في الهداية أن الإذن فك الحجر وإسقاط الحق وعند ذلك يظهر مالكية العبد بخلاف الوكيل لأنه يتصرف في مال غيره فيثبت له الولاية من جهته وحكم التصرف وهو الملك واقع للعبد حتى كان له أن يصرفه إلى قضاء الدين والنفقة وما استغنى عنه يخلفه المالك فيه وعلى هذا يجب أن يحمل ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى من أن المأذون كالوكيل في أنه إذا اشترى شيئا يقع الملك للمولى كما يقع للموكل يعني أن الملك يقع للمولى مالا كما يقع للموكل ابتداء

وأما

قوله في بقاء الإذن فمعناه على ما ذكره المصنف رحمه اللّه تعالى أن المأذون كالوكيل في حال بقاء الإذن في مسائل مرض المولى وعامة مسائل المأذون حتى يكون تصرفه كتصرفه يصح فيما يصح ويبطل فيما يبطل وإنما قال في حال بقاء الإذن لأنه في حال ابتداء الإذن ليس كالوكيل إذ الوكالة لا تثبت إلا فيما وكل به والإذن يعم وإنما قال في حال مرض المولى لأنه في حال صحة المولى ليس كالوكيل إذ يصح منه المحاباة الفاحشة ولا تصح من الوكيل وإنما قال عامة مسائل المأذون لأنه ليس كالوكيل في مسألة التوكيل بالاشتراء إذا اشترى بغبن فاحش فإنه يصح من المأذون ولا يصح من الوكيل وقال فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى ولذلك أي ولأن المولى خلف عن العبد في ملك الرقبة جعلنا العبد في حكم الملك وفي حكم بقاء الإذن كالوكيل في مسائل مرض المولى وعامة مسائل المأذون يعني يكون للمولى حجر المأذون بدون رضاه كما أن له عزل الوكيل بدون رضاه بخلاف المكاتب فإنه ليس كالوكيل في حكم بقاء الكتابة إذ ليس للمولى عزله بدون تعجيزه نفسه

قوله وهو أي الرقيق معصوم الدم بمعنى أنه يحرم التعرض له بالإتلاف حقا له ولصاحب الشرع لأن العصمة نوعان مؤثمة توجب الإثم فقط على تقدير التعرض للدم وهي بالإسلام ومقومة توجب مع الإثم الضمان أي القصاص أو الدية وهي بالإحراز بدار الإسلام والعبد يساوي الحر في الأمرين فيساويه في العصمتين فيقتل الحر بالعبد قصاصا لأن مبنى الضمان على العصمتين والمالية لا تخل بهما وقال الشافعي رحمه اللّه تعالى القصاص منبئ عن المماثلة والمساواة ومبني على الكرامات البشرية والمالية تخل بذلك على ما مر

قوله والرق يوجب نقصانا في الجهاد لأنه ينافي مالكية منافع البدن إلا ما استثني من الصوم والصلاة فلا يحل له القتال بدون إذن المولى وإذا قاتل بإذنه أو بغير إذنه لم يستحق السهم الكامل بل يرضخ له لأن استحقاق الغنيمة إنما هو باعتبار معنى الكرامة وفي الحديث أنه كان عليه الصلاة

(٢/٣٦٧)

والسلام يرضخ للمماليك ولا يسهم لهم وهذا بخلاف تنفيل الإمام فإن استحقاق السلب إنما هو بالقتل أو بالإيجاب من الإمام والعبد يساوي الحر في ذلك

قوله وينافي الولايات كلها بمنزلة التفسير لما سبق من أنه ينافي كمال أهلية الولاية لئلا يتوهم منه أن له ولاية ضعيفة كالذمة وذلك لأنه لا ولاية له على نفسه فكيف يتعدى إلى غيره فعلى هذا لا يصح أمان العبد المحجور لأن أمانه تصرف على الناس ابتداء بإسقاط حقوقهم في أموال الكفار وأنفسهم اغتناما واسترقاقا والتصرف على الغير ولاية بخلاف أمان المأذون فإنه ليس من باب الولاية بل باعتبار أنه بواسطة الإذن صار شريكا للغزاة في الغنيمة بمعنى أنه من حيث إنه إنسان مخاطب يستحق الرضخ إلا أن المولى يخلفه في الملك المستحق كما في سائر أكسابه فإذا أمن الكافر فقد أسقط حق نفسه في الغنيمة أعني الرضخ فصح في حقه أولا ثم تعدى إلى الغير ولزم سقوط حقوقهم لأن الغنيمة لا تتجزأ في حق الثبوت والسقوط وهذا كما تصح شهادته بهلال رمضان لأنه يثبت في حقه ابتداء ثم يتعدى إلى الغير ضرورة وليس هذا من ضرورة الولاية

فإن قيل فالمحجور أيضا يستحق الرضخ فينبغي أن يصح أمانه أجيب بأن المحجور يستحق الرضخ استحسانا لأنه غير محجور عن الاكتساب وعما هو نفع محض فإذا فرغ عن القتال سالما وزال ضرر المولى وأصيبت الغنيمة ثبت الإذن من المولى دلالة فصار شريكا بعد الفراغ عن القتال لا حال القتال أو قبله حتى يكون الأمان إسقاطا لحقه ابتداء ثم يتعدى إلى غيره فالحاصل أنه لا شركة له في الغنيمة حال الأمان لعدم الإذن وإنما يستحق بعده

قوله فلا تجب الدية في جناية العبد يعني إذا كانت خطأ

وأما في العمد فيجب القصاص ويكون هذا ضمانا على المولى بأن يقال عليك تسليم العبد بالجناية إلى وليها صلة في جانب المولى وعوضا في جانب المتلف عليه أعني المجني عليه إذا كانت الجناية غير القتل والورثة إذا كانت القتل فتكون رقبة العبد بمنزلة الأرش

فإن قيل المهر يجب في ذمة العبد بمقابلة ما ليس بمال وهو ملك النكاح أو منافع البضع أجيب بأنه ليس بضمان إذ لا تلف ولا صلة لأنه إنما وجب عوضا عما استوفاه من الملك أو المنافع

قوله إلا أن يختار المولى الفداء فإنه لا يجب عليه دفع العبد وإن أفلس وعجز عن الفداء وذلك لأن الأرش أصل في الجناية الخطأ لأنه الثابت بالنص وإنما صير إلى الدفع ضرورة أن العبد

(٢/٣٦٨)

ليس بأهل للصلة وقد ارتفعت الضرورة باختيار المولى الفداء فعاد الأمر إلى الأصل ولم يبطل بالإفلاس وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه يصير اختيار المولى الفداء بمنزلة الحوالة كأن العبد أحال بالواجب على المولى لأن الأصل في الجناية أن يصرف الجاني إليها كما في العمد وقد عدل عن ذلك في الخطأ من الحر لتعذر الصرف فصار اختيار الفداء نقلا عن الأصل إلى العارض كما في الحوالة فإذا لم يسلم الحق لصاحبه عاد إلى الأصل

قوله ومنها الحيض والنفاس جعلهما معا أحد العوارض لاتحادهما صورة وحكما وهما لا يسقطان أهلية الوجوب ولا أهلية الأداء لبقاء الذمة والعقل وقدرة البدن إلا أنه ثبت بالنص أن الطهارة عنهما شرط للصلاة على وفق القياس لكونهما من الأحداث والأنجاس وللصوم على خلاف القياس لتأديه مع الحدث والنجاسة ثم في قضاء الصلاة حرج لدخولها في حد الكثرة فسقط وجوبها حتى لم يجب قضاؤها ولا حرج في قضاء الصوم لأن الحيض لا يستوعب الشهر والنفاس يندر فيه فلم يسقط إلا وجوب أدائه ولزوم القضاء وقد سبق ذلك في بحث الوقت

قوله ومنها المرض يعني غير ما سبق من الجنون والإغماء

قوله مستندا إلى أوله أي حال كون الحجر مستندا إلى أول المرض لأن سبب الحجر مرض مميت وسبب الموت هو المرض عن أصله لأنه يحصل بضعف القوى وترادف الآلام

قوله وما لا يحتمله أي الفسخ كالإعتاق الواقع على حق الغريم بأن يعتق المريض عبدا من ماله المستغرق بالدين أو على حق الوارث بأن يعتق عبدا تزيد قيمته على ثلث ماله

قوله نظرا له وليعلم كلاهما متعلق بقوله جوزها إلا أن الأول تعليل لتجويز الوصية والثاني لتقييده بالقليل وهذا ما قال فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى لكن الشرع جوز ذلك نظرا له بقدر الثلث استخلاصا على الورثة بالقليل ليعلم أن الحجر والتهمة فيه أصل فقوله نظرا له علة

(٢/٣٦٩)

للتجويز وقوله استخلاصا أي استيثارا من الوصي لنفسه على الورثة بالقليل علة لتقييد التجويز بقدر الثلث وقوله ليعلم أن الحجر والتهمة أي تهمة إيثار الأجنبي على الأقارب باعتبار ضغينته له أصل في باب الإيصاء علة لتقييد الاستخلاص بالقليل

قوله بأن يبيع يعني لو باع من أحد الورثة عينا من أعيان التركة بمثل القيمة كان وصية صورة حيث آثر الوارث بعين من أعيان ماله بمقابله لا معنى الاسترداد العوض منه فلا يجوز عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى لأن حق الورثة كما يتعلق بالمالية يتعلق بالعينية فيما بينهم وعندهما يجوز لعدم الإخلال بثلثي المال

وأما بيعه من الأجنبي فيجوز اتفاقا إذ لا حجر للمريض من التصرف مع الأجنبي فيما لا يخل بالثلثين

قوله ولا يجوز للمريض البيع من أحد الورثة أو الغرماء بمثل القيمة هذا مما لا يوجد له رواية بل الروايات متفقة على أنه يجوز للمريض أن يبيع العين من بعض الغرماء بمثل القيمة وعدم الجواز مختص بالورثة وذلك لأن حق الغريم إنما يتعلق بالمعنى وهو المالية لا بالصورة حتى أنه يجوز للوارث أن يستخلص العين لنفسه ويقضي الدين من مال آخر بخلاف الورثة فإن حقهم

(٢/٣٧٠)

يتعلق فيما بينهم بالمالية والعينية جميعا حتى لا يجوز لبعضهم أن يجعل شيئا لنفسه بنصيبه من الميراث ولا أن يأخذ التركة ويعطي الباقين القيمة

وأما إذا قضى المريض حق بعض الغرماء فإنما يشاركه الباقون من جهة أن المريض ممنوع عن إيثار البعض بقضاء دينه لا من جهة أن حقهم تعلق بعين المال فيما بينهم

قوله ومنها الموت هو آخر العوارض السماوية فقيل هو صفة وجودية خلقت ضدا للحياة لقوله تعالى خلق الموت والحياة وقيل هو عديم الحياة عما من شأنه الحياة أو زوال الحياة ومعنى الخلق في الآية التقدير

والأحكام في حق الموت

إما دنيوية أو أخروية والدنيوية

إما تكليفات وحكمها السقوط إلا في حق الإثم أو غيرها وهو

إما أن يكون مشروعا لحاجة غيره أو لا والأول

إما أن يتعلق بالعين وحكمه أن يبقى ببقاء العين أو بالذمة ووجوبه

إما بطريق الصلة وحكمه السقوط إلا أن يوصي به أولا بطريق الصلة وحكمه البقاء بشرط انضمام المال أو الكفيل إلى الذمة والثاني

إما أن يصلح لحاجة نفسه وحكمه أن يبقى ما تنقضي به الحاجة أو لا وحكمه أن يثبت للورثة والأخروية حكمها البقاء سواء يجب له على الغير أو للغير عليه من الحقوق المالية والمظالم أو يستحقه من ثواب الآخرة بواسطة الطاعات أو عقاب واسطة المعاصي وهذه جملة ما فصله في الكتاب

قوله وإن كان دينا لا يبقى بمجرد الذمة لأن الذمة قد ضعفت بالموت فوق ما تضعف بالرق إذ الرق يرجى زواله بخلاف الموت ولأن أثر الدين في توجه المطالبة ويستحيل مطالبة الميت فإذا

(٢/٣٧١)

انضم إلى الذمة مال أو كفيل تقوى الذمة لأن المال محل للاستيفاء الذي هو المقصود من الوجوب وذمة الكفيل مقوية لذمة الأصيل ومتهيئة لتوجه المطالبة وإذا لم يكن مال ولا كفيل لم تصح الكفالة عن الميت عند أبي حنيفة لأن الكفالة التزام المطالبة ولا مطالبة فلا التزام وعندهما تصح لأن الموت لا يبرئ الذمة عن الحقوق ولهذا يطالب بها في الآخرة إجماعا وفي الدنيا أيضا إذا ظهر له المال ويثبت حق الاستيفاء لو تبرع أحد عن الميت

وأما العجز عن المطالبة لعدم قدرة الميت فلا يمنع صحة الكفالة كما إذا كان المديون حيا مفلسا ويؤيده ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بجنازة رجل من الأنصار فقال لأصحابه هل على صاحبكم دين فقالوا نعم درهمان أو ديناران فامتنع عن الصلاة عليه فقال علي أو أبو قتادة رضي اللّه تعالى عنهما هما علي يا رسول اللّه فصلى عليه والجواب أن المطالبة الدنيوية ساقطة هاهنا لضعف المحل بخلاف المفلس والحديث يحتمل العدة احتمالا ظاهرا إذ لا تصح الكفالة للغائب المجهول على أنه لا دلالة فيه على أنه لم يكن للميت مال ومعنى المطالبة في الآخرة راجع إلى الإثم فلا يفتقر إلى بقاء الذمة فضلا عن قوتها وإذا ظهر له مال فالذمة تتقوى به لكونه محل الاستيفاء والتبرع إنما يصح من جهة أن الدين باق في حق من له الحق وإن كان ساقطا في حق من عليه الحق لأن السقوط بالموت إنما هو لضرورة فوت المحل فيتقدر بقدر الضرورة فيظهر في حق من عليه دون من له

قوله حتى يترتب منها أي من التركة حقوق الميت كمؤن تجهيزه ثم قضاء ديونه ثم تنفيذ وصاياه من ثلث الباقي وإنما يقدم التجهيز على الدين إذا لم يتعلق بالعين كالمرهون والمستأجر والمشترى قبل القبض والعبد الجاني ونحو ذلك ففي هذه الصور صاحب الحق أحق بالعين

قوله لحاجته أي لحاجة المولى إلى الثواب الحاصل بالإعتاق وإنما اقتصر على ذلك لأن

(٢/٣٧٢)

الحاجة التي هي باعتبار المالية حاصلة في عود المكاتب إلى الرق ثم لا يخفى أن حاجة المكاتب فوق حاجة المولى لأنه يحتاج إلى صيرورته معتقا منقطعا عنه أثر الكفر باقيا عليه أثر الحياة لحرية أولاده إذ الرق أثر الكفر الذي هو موت حكمي فتبقى الكتابة بعد موت المكاتب كما تبقى بعد موت المولى بل بالطريق الأولى

قوله

وأما المملوكية فتابعة يعني أن مملوكية الميت وإن لم يكن محتاجا إليها إلا أنه حكم ببقائها في المكاتب ضمنا وتبعا لبقاء المالكية يدا ضرورة أن عقد الكتابة لا يمكن بقاؤه بدون بقاء المملوكية رقبة إذ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وهاهنا بحث وهو أن حرية المكاتب الميت لا بد من أن يستند إلى زمان فإن حكم ببقاء الكتابة والمملوكية بعد الموت لزم استناد العتق إلى ما بعد الموت ولا معنى لذلك وإن جعل الحرية مستندة إلى آخر أجزاء الحياة على ما قيل أن بالموت يتحول بدل الكتابة من الذمة إلى التركة فيحصل فراغ ذمة المكاتب وهو يوجب الحرية إلا أنه لا

(٢/٣٧٣)

يجوز الحكم بها ما لم يصل المال إلى المولى فإذا وصل حكم بحريته في آخر جزء من حياته فقد استندت المالكية والمملوكية وتقرر العتق إلى وقت الموت فلا تكون المملوكية باقية بعد الموت فلا يكون عقد الكتابة باقيا والجواب أن معنى بقاء الكتابة حرية الأولاد وسلامة الاكتساب عند تسليم الورثة المال إلى المولى ونفوذ العتق في المكاتب شرط لذلك فيثبت ضمنا وإن لم يكن المحل قابلا كالملك في المغصوب لما ثبت شرطا لملك البدل ثبت عند أداء البدل مستندا إلى وقت الغصب وإن كان المغصوب حال أداء البدل هالكا

قوله ويثبت الإرث أي ولأنه ببقاء ما تنقضي به حاجة الميت يثبت الإرث بطريق الخلافة عنه نظرا له لأنه يحتاج إلى من يخلفه في أمواله ففوض الشرع ذلك إلى أقرب الناس إليه نظرا له من جهة أن انتفاع أقاربه بأمواله بمنزلة انتفاعه نفسه بها

قوله والخلافة إذا ثبت سببها وهو مرض الموت فإنه مفض إلى الموت الذي هو السبب حقيقة يصير الميت أي المريض في مرض الموت محجورا عن التصرفات التي تبطلها تلك الخلافة فكذلك إذا ثبتت الخلافة بتنصيص الأصل بأن قال أوصيت لفلان بكذا أو قال لعبده أنت حر بعد

(٢/٣٧٤)

موتي أو إذا مت فأنت حر فإن كلا من الإيصاء وتعليق العتق بالموت استخلاف

أما الأول فلأن الإيصاء إثبات عقد الخلافة في ملكه للموصى له مقدما على الوارث فاعتبر للحال سببا لإثبات الخلافة

وأما الثاني فلأن التعليق بالموت لا يمنع السبب عن الانعقاد لأنه تعليق بحال زوال الملك وهو غير صحيح فلا بد من أن ينعقد السبب حال بقاء الملك ويثبت الحق على سبيل التأجيل وبهذا يتبين أن التعليق بغير الموت من الأمور التي على خطر الوجود كدخول الدار أو من الأمور الكائنة بيقين كمجيء الغد مثلا ليس استخلافا إذ لا يلزم منه انعقاد السبب في الحال ففي الصورتين أعني الوصية والتعليق بالموت تثبت الخلافة إلا أن الحق إن كان مما لا يحتمل الفسخ كالعتق بحجر الأصل عن إبطال الخلافة وإن كان مما يحتمله كالوصية بالمال كان له إبطال الخلافة بالبيع والهبة والرجوع ونحو ذلك لأن الحق غير لازم فلم يلزم سببه ويدخل في ذلك الوصية برقبة العبد فإنها وإن كانت استخلافا إلا أنه تمليك ووصية بالمال وهو مما يحتمل الفسخ والإبطال

قوله دون سقوط التقوم أي المدبر لا يصير كأم الولد في سقوط التقوم لأن الإحراز للمالية أصل في الأمة والتمتع تبع ولم يوجد في المدبر ما يوجب بطلان هذا الأصل بخلاف أم الولد فإنها لما استفرشت واستولدت صارت محرزة للمتعة وصارت المالية تبعا فسقط تقومها حتى لا تضمن بالغصب وبإعتاق أحد الشريكين نصيبه منها

(٢/٣٧٥)

قوله

وأما ما لا يصلح لحاجته أي حاجة الميت كالقصاص فإن الجناية وقعت على حق أولياء الميت لانتفاعهم بحياته فيثبت لهم القصاص ابتداء تشفيا للصدور ودركا للثأر لا انتقالا من الميت

فإن قيل المتلف نفس الميت وقد كان انتفاعه بحياته أكثر من انتفاع غيره فينبغي أن يثبت القصاص حقا له

قلنا نعم إلا أنه خرج عند ثبوت الحق عن أهلية الوجوب فيثبت ابتداء للولي القائم مقامه على سبيل الخلافة كما يثبت الملك للموكل ابتداء عند تصرف الوكيل بالشراء خلافة عن الوكيل فالسبب انعقد في حق المورث والحق وجب للوارث فصح عفو المورث رعاية لجانب السبب وصح عفو الوارث قبل موت المورث رعاية لجانب الواجب مع أن العفو مندوب فيجب تصحيحه بقدر الإمكان وهذا استحسان والقياس أن لا يصح لما فيه من إسقاط الحق قبل ثبوته سيما إسقاط المورث فإنه إسقاط لحق الغير قبل أن يجب

قوله حتى لا ينتصب بعض الورثة خصما عن البقية يعني لو أقام الوارث الحاضر بينة على القصاص فحبس القاتل ثم حضر الغائب كلف أن يعيد البينة ولا يقضى لهما بالقصاص قبل إعادة البينة لأنه ثبت لهما ابتداء فكل واحد منهما في حق القصاص كأنه منفرد وليس الثبوت في حق أحدهما ثبوتا في حق الآخر بخلاف ما يكون موروثا كالمال وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه تعالى القصاص موروث لأن خلفه وهو المال موروث إجماعا والخلف لا يخالف حكم الأصل والجواب أن ثبوت القصاص حقا للورثة ابتداء إنما هو لضرورة عدم صلوحه لحاجة الميت فإذا انقلب مالا بالصلح أو بالعفو والمال يصلح لحوائج الميت من التجهيز وقضاء الديون وتنفيذ الوصايا ارتفعت الضرورة وصار الواجب كأنه هو المال إذ الخلف إنما يجب به الأصل فيثبت الفاضل من حوائج الميت لورثته خلافة لا أصالة

(٢/٣٧٦)

قوله

وأما العوارض المكتسبة أي التي يكون لكسب العباد مدخل فيها بمباشرة الأسباب كالسكر أو بالتقاعد عن المزيل كالجهل وهي

إما أن تكون من ذلك المكلف الذي يبحث عن تعلق الحكم به كالسكر والجهل

وإما أن تكون من غيره عليه كالإكراه فمن الأولى أي التي تكون من المكلف الجهل وهو عدم العلم عما من شأنه فإن قارن اعتقاد النقيض فمركب هو المراد بالشعور بالشيء على خلاف ما هو به وإلا فبسيط وهو المراد بعدم الشعور وأقسامه فيما يتعلق بهذا المقام أربعة جهل لا يصلح عذرا ولا شبهة وهو في الغاية وجهل هو دونه وجهل لا يصح شبهة وجهل يصلح عذرا فالأول جهل الكافر باللّه تعالى ووحدانيته وصفات كماله ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإنه مكابرة أي ترفع عن انقياد الحق واتباع الحجة إنكارا باللسان وإباء بالقلب بعد وضوح الحجة وقيام الدليل

فإن قلت الكافر المكابر قد يعرف الحق وإنما ينكره جحودا واستكبارا قال اللّه تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ومثل هذا لا يكون جهلا

قلت من الكفار من لا يعرف الحق ومكابرته ترك النظر في الأدلة والتأمل في الآيات ومنهم من يعرف الحق وينكره مكابرة وعنادا قال اللّه تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الآية ومعنى الجهل فيهم عدم التصديق المفسر بالإذعان والقبول

قوله ونحوها أي مثل المذكورات كهبة الخمر والوصية بها والتصدق بها وأخذ العشر من قيمتها وكذا الخنزير

(٢/٣٧٧)

قوله فيحد قاذفه أي قاذف المسلم الذي وطئ في نكاح المحارم حال الكفر وهذا تفريع على ثبوت الإحصان وقوله وتجب به النفقة تفريع على صحة النكاح لا على ثبوت الإحصان فلا يكون عطفا على

قوله فيحد قاذفه بل على ما قبله وكذا

قوله ولا يفسخ أي نكاح المحارم برفع أحد الزوجين الكافرين الأمر إلى القاضي وطلب حكم الإسلام إلا أن يجتمع الزوجان على الترافع فحينئذ يفسخ وإذا لم تكن هذه الفروع الثلاثة متعلقة بثبوت الإحصان كان في تأخيرها عنه ثم إيراد الدليل على ثبوت الإحصان منضما إلى الدليل على تقوم الخمر نوع تعقيد وسوء ترتيب وإنما وقع في ذلك لتغييره أسلوب كلام فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى حيث أورد هذا الكلام جوابا عما قال الشافعي رحمه اللّه تعالى إن ديانتهم تعتبر دافعة للتعرض لا للخطاب لأن مجرد الجهل لا يصلح عذرا فكيف المكابرة والعناد

لكن أمرنا بتركهم ما يدينون وعدم التعرض لهذا بسبب عقد الذمة فلا يحد شاربهم لكن لا يثبت إيجاب الضمان على متلف الخمر ولا صحة بيعها ولا إيجاب النفقة على ناكحي المحارم ولا الحد على قاذفه فأجاب بأن تقوم المال وإحصان النفس أيضا من باب العصمة وهي الحفظ على التعرض فكانت الأحكام المذكورة من ضروريات ذلك

(٢/٣٧٨)

قوله وأكلهم الربا وقد نهوا عنه من سهو القلم والصواب وأخذهم الربا

قوله فإن ديانة الكافر يعني ما يكون مختصا به مخالفا للإسلام لا تكون صحيحة بخلاف ما يوافق الإسلام كحرمة الزنا وحرمة القتل بغير حق

قوله بل المراد أن معتقدهم أي ما كان شائعا من دينهم متفقا عليه فيما بينهم سواء وردت به شريعتهم أو لم ترد وسواء كان حقا أو باطلا دافع كنكاح المحارم في دين المجوسي فإنه وإن كان باطلا غير ثابت في كتابهم إلا أنه شائع فيما بينهم لم تثبت حرمته عندهم فيكون ديانة لهم بخلاف الربا عند اليهود فإن حرمته ثابتة في التوراة فارتكابه فسق منهم لا ديانة اعتقدوا حله وليس المراد

(٢/٣٧٩)

بمعتقدهم ما يعتقده بعض منهم كما إذا اعتقدوا حد جواز السرقة أو القتل بغير حق فإنه لا يكون دافعا أصلا فالحاصل أن المراد بالديانة الدافعة هو المعتقد الشائع الذي يعتمد على شرع في الجملة قال شيخ الإسلام رحمه اللّه تعالى في المبسوط إن نكاح المحارم وإن حكم بصحته لا يثبت به الإرث لأنه ثبت بالدليل جواز نكاح المحارم في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام ولم يثبت كونه سببا للميراث في دينه فلا يثبت سببا للميراث باعتقادهم وديانتهم لأنه لا عبرة لديانة الذمي في حكم إذا لم يعتمد على شرع

(٢/٣٨٠)

قوله ولا كذلك من ليس في نكاحها إشارة إلى الجواب عن القياس على مجوسي خلف بنتين إحداهما زوجته وتقريره أن من ليس في نكاح المتناكحين يعني البنت التي ليست بزوجة وهو المراد بالوارث الآخر ليس بمنزلة زوج المحرم حتى يؤاخذ بديانته لأن الضرر يلحقه من غير التزام منه فيكون تعدية بخلاف تضرر الزوج بالنفقة فإنه بالتزامه

فإن قيل ينبغي أن تؤاخذ البنت الغير المنكوحة بديانتها واعتقادها لأنها مجوسية ولا يلتفت إلى نزاعها في زيادة الميراث لأنه بمنزلة نزاع الزوج في النفقة أجيب بأنه لا يصح نزاع الزوج لأنه التزم هذه الديانة حيث نكح المحرم بخلاف البنت الغير المنكوحة

(٢/٣٨١)

قوله وغناها يعني أن المال في نفسه إن قل وإن كثر والحاجة دائمة لإمكان الحياة إلى يوم القيامة

قوله كجهل صاحب الهوى مثل جهل المعتزلة بزيادة صفات اللّه تعالى على الذات وكونه تعالى مرئيا في الجنة بالأبصار وكونه خالقا للشرور والقبائح وبجواز الشفاعة لحط الكبائر وجواز العفو عما دون الكفر وعدم خلود الفساق في النار وإنما لم يكن هذا الجهل عذرا لكونه مخالفا للدليل الواضح من الكتاب والسنة والمعقول وإنما كان دون جهل الكافر لأن صاحب الهوى مؤول للقرآن أي يصرفه عن ظواهره الدالة على نقيض معتقده ويحمله على وفق معتقده لا أن ينبذه وراء ظهره مثل الكافر وفي عبارة فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى أنه متأول بالقرآن أي متمسك به صارف إياه إلى ما يوافق اعتقاده وإنما لزمنا مناظرته وإلزامه لأنه مسلم ملتزم لأحكام الشرع معترف بحقية القرآن ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام

قوله وكجهل الباغي هو الخارج عن طاعة الإمام الحق بتأويل فاسد وشبهة طارئة فإن كان

(٢/٣٨٢)

له منعة فقد سقطت ولأنه الإلزام لتعذره حسا وحقيقة فيعمل بتأويله الفاسد فلا يؤاخذ بضمان ما أتلف من مال أو نفس لكن يسترد منه ما كان في يده لأنه لا يملكه والمراد أنه يفتى بوجوب أداء الضمان فيما بينهم لكنهم لا يلزمون ذلك في الحكم لأن تبليغ الحجة الشرعية قد انقطعت بمنعة قائمة حسا فيما يحتمل السقوط بخلاف الإثم فإن المنعة لا تظهر في حق الشارع ولا تسقط حقوقه وإن لم يكن له منعة فلا مانع من تبليغ الحجة وإلزام الحكم فيؤاخذ بالضمان ويجب علينا محاربة الباغي لقوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه ولأن البغي معصية ومنكر ونهي المنكر فرض وذلك بالقتال وقيل إنما تجب محاربتهم إذا اجتمعوا وعزموا على القتال لأنها إنما تجب بطريق الدفع

قوله ولم يحرم الميراث بقتله أي قتل الباغي لوجود السبب مع عدم المانع إذ القتل إنما يكون مانعا إذا كان محظورا ليكون الحرمان جزاء وعقوبة عليه لا إذا كان مأمورا به كقتل الباغي والقتل رجما أو قصاصا وكذا لا يحرم الباغي الميراث بقتل مورثه العادل لأن قتله حق في زعم الباغي بناء على تأويله وتمسكه بما عرضت له من الشبهة وولايتنا منقطعة عنه لمكان المنعة فكان قتلهم أهل الحق في حق الأحكام لا في حق الأثام بمنزلة الجهاد لأن انضمام المنعة وانقطاع ولاية الإلزام إلى التأويل الفاسد يجعله بمنزلة الجهاد الصحيح في حق التوريث كما في حق الضمان وهذا إذا قال الوارث كنت على الحق وأنا الآن على الحق وإلا فيحرم اتفاقا

قوله ولما كان الدار واحدة يعني أن تملك المال بطريق الاستيلاء يتوقف على كمال اختلاف الدار ووجوب الضمان بالإتلاف ينبئ عن كمال العصمة وذلك عند اتحاد الدار من كل وجه فنحن لا نملك مال الباغي حتى إذا انكسرت شوكة البغاة نرد عليهم أموالهم لاتحاد الدار لأنهم في دار الإسلام لكن لا تضمن أموالهم بالإتلاف لأن اختلاف الديانة مع وجود المنعة يوجب شبهة اختلاف الدار فيوجب سقوط العصمة من وجه فلو

قلنا بعدم الملك وبوجوب الضمان جعلنا العصمة من وجه بمنزلة العصمة الكاملة ولو

قلنا بالملك وعدم الضمان جعلنا اتحاد الدار بمنزلة اختلافها ولو

قلنا بالملك والضمان كان متناقضا لأن إثبات الملك معناه عدم الضمان فتعين القول بعدم الملك مع عدم الضمان كما في غصب غير المتقوم

فإن قيل لا تناقض بين الملك وضمان البدل كما في المغصوب

قلنا لو ملكه لم يجب رده العينة والملك بالضمان إنما يصح استنادا لا ابتداء

(٢/٣٨٣)

قوله وكجهل من خالف في اجتهاده الكتاب يريد أن الجهل

إما أن يكون في نفس الدين وأصوله وهو الغاية أو لا وهو دونه وذلك

إما أن تكون في أصول المذهب كما مر أو في فروعه وذلك

إما أن يكون مخالفا للقياس وخبر الواحد فيصلح عذرا أو للكتاب والسنة المشهورة والإجماع فيكون مثل جهل صاحب الهوى وقيد السنة بالمشهورة لأن مخالفة المتواتر تكون كفرا لكونه قطعيا وفيه بحث لأن الكتاب أيضا كذلك فمخالفته إنما لا تكون كفرا إذا لم يكن المتن قطعي الدلالة ولا فرق في هذا بين الكتاب والسنة

وأما عند قطعية المتن والدلالة فالمخالف كافر لا محالة فلا بد هاهنا من تقييد الكتاب بأن لا يكون قطعي الدلالة وتقييد السنة بأن تكون مشهورة أو تكون متواترة غير قطعية الدلالة فمن مخالفة الكتاب القول بحل متروك التسمية عمدا عند ذبحه تمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم اللّه عليه وبأن المؤمن ذاكر بقلبه التسمية وإن تركها عمدا لقوله عليه الصلاة والسلام تسمية اللّه في قلب كل مؤمن ومنها القول بجواز القضاء بشاهد ويمين تمسكا بما روي أن رسول اللّه عليه الصلاة والسلام قضى بشاهد ويمين والعمل بخبر الواحد مع قيام نص الكتاب خطأ في الاجتهاد إلا أن نص الكتاب ليس بقطعي لأن

قوله تعالى وإنه لفسق يحتمل أن يكون حالا فيكون قيدا للنهي عن أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه ويحتمل أن يراد بما لم يذكر اسم اللّه عليه الميتة أو ما ذكر عليه غير اسم اللّه لقوله تعالى وإنه لفسق فإن الفسق هو ما أهل لغير اللّه به وقوله تعالى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يحتمل أن يكون بيانا لحصر البينة التي هي الشهادة المحضة في رجلين ورجل وامرأتين وهذا لا ينافي ثبوت نوع آخر من البينة هي شهادة الواحد مع اليمين

(٢/٣٨٤)

ومن مخالفة السنة المشهورة أعني

قوله عليه الصلاة والسلام البينة على المدعي واليمين على من أنكر ما ذهب إليه الشافعي رحمه اللّه تعالى في أحد قوليه في مسألة القسامة وهي أن يوجد قتيل لا يدرى قاتله وادعى الولي قتله على واحد أو جماعة من أنه إن ظهر لوث أي علامة يغلب على الظن صدق دعواه يستحلف الولي خمسين يمينا ثم يقضى له بالدية على عاقلة القاتل في صورة الخطأ

وأما في صورة العمد ففي القول الجديد يقضى بالدية على القاتل وفي القديم بالقصاص وهو مذهب مالك وأحمد تمسكا بقوله عليه السلام لأولياء مقتول وجد في خيبر أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم أي دم قاتل صاحبكم إلى آخر الحديث فظهر أن كلام المصنف رحمه اللّه تعالى في تقرير القولين ليس على ما ينبغي وأنه لا جهة لتخصيص القصاص فإنه مخالف بقوله عليه الصلاة والسلام البينة للمدعي واليمين على من أنكر وهو مشهور ومن مخالفة الإجماع القول بجواز بيع أم الولد تمسكا بما روي عن جابر بن عبد اللّه أنه قال كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول اللّه وبأن المالية ثبتت بيقين وارتفاعها بالولادة مشكوك فإن الآثار الدالة على منع بيعها قد اشتهرت وتلقاها القرن الثاني بالقبول فصار مجمعا عليه

(٢/٣٨٥)

قوله كمن صلى الظهر أورد مسألتين أولاهما مثال للجهل في موضع الاجتهاد الصحيح والثانية تتميم وتكميل للأولى لا مثال آخر لأن فيها مخالفة الإجماع فلا يكون الاجتهاد صحيحا

قوله ولم يقض الظهر بناء أي بنى عدم قضاء الظهر على أنه لم يكن عالما بعدم الوضوء حين صلى وأن الصلاة المؤداة بغير وضوء من غير علم بذلك لا يجب قضاؤها وهذا مخالف للإجماع

(٢/٣٨٦)

قوله وإذا عفا أحد الوليين واقتص الآخر بجهله بالعفو أو بأن عفو أحد الأولياء يسقط القود فعليه الدية لا القصاص لأن هذا جهل في موضع الاجتهاد ولما ذهب إليه بعض أهل المدينة من أن القصاص إذا ثبت لوليين كان لكل منهم التفرد بالقتل حتى لو عفا أحدهما كان للآخر القتل إلا أن الظاهر أن هذا مخالف للإجماع فلا يكون اجتهادا صحيحا بل هو جهل في موضع الاشتباه لأنه علم بوجوب القصاص وما ثبت فالظاهر بقاؤه وأيضا الظاهر عدم نفاذ التصرف في حق الغير فيكون محل الاشتباه ويصير شبهة في درء الحد

قوله إذ هذه الكفارة يعني كفارة الصوم تندرئ بالشبهة لترجيح جانب العقوبة فيها وهذا إذا استفتى فقيها فأفتاه بفساد الصوم فحصل له الظن بذلك أو بلغه الحديث أعني

قوله عليه السلام أفطر الحاجم والمحجوم ولم يعرف نسخه ولا تأويله وإلا فعليه الكفارة اتفاقا وعند أبي

(٢/٣٨٧)

يوسف تجب الكفارة وإن كان ظنه مستندا إلى الحديث لأنه ليس للعامي الأخذ بظواهر الأخبار وإنما التمسك بها للفقهاء والقول بفساد الصوم بالحجامة وإن كان قد ذهب إليه الأوزاعي إلا أنه ليس اجتهادا صحيحا لمخالفته الإجماع

وقوله ومن زنى بجارية امرأته أو والده يظن أنها تحل له بناء على أن مال الزوجة مال الزوج من وجه لفرط الاختلاط أو حل الزوجة يوجب حل مملوكتها وأن ملك الأصل ملك الجزء أو حلال له فهذا شبهة اشتباه أعني الشبهة في الفعل وهي أن يظن ما ليس بدليل الحل دليلا فيظن الحل فيسقط الحد للشبهة لكن لا يثبت النسب ولا تجب العدة لأن الفعل قد تمحض زنا بخلاف شبهة الحل وتسمى شبهة الدليل وهي أن يوجد الدليل الشرعي النافي للحرمة لكن تخلف الحكم عنه لمانع كما إذا وطئ جارية الابن فإنه يسقط الحد ويثبت النسب والعدة لأن الفعل لم يتمحض زنا نظرا إلى الدليل أعني

قوله عليه السلام أنت ومالك لأبيك

وأما شبهة جارية الأخ أو الأخت فليست محلا للاشتباه لا شبهة فعل ولا شبهة محل فلا يسقط الحد

قوله

وأما جهل يصلح عذرا كمن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلى دار الإسلام فجهله

(٢/٣٨٨)

بالأحكام من الصلاة والصوم ونحو ذلك يكون عذرا له في الترك حتى لا يجب بعد المهاجرة قضاء مدة اللبث في دار الكفر لأنه لا بد من سماع الخطاب حقيقة أو تقديرا بشهرته في محله

قوله فأنزل اللّه تعالى وما كان اللّه ليضيع إيمانكم المذكور في عامة التفاسير أنها نزلت حين نزول آية التوجه إلى الكعبة فقالوا كيف من مات قبل التحويل من إخواننا

قوله وقصة تحريم الخمر هي أن بعض الصحابة كانوا في سفر فشربوا الخمر بعد التحريم لعدم علمهم بحرمتها فنزل ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعن ابن كيسان أنه لما نزل تحريم الخمر والميسر قال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه يا رسول اللّه كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا الميسر وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون بتحريمها وهم يطعمونها فنزلت

(٢/٣٨٩)

قوله والبكر أي وكجهل البكر بالنكاح فيما إذا زوجها ولي غير الأب أو الجد من الكفء بمهر المثل أو زوجها الأب أو الجد من غير الكفء أو بغبن فاحش فإنه يكون عذرا حتى يكون لها الفسخ بعد العلم بالنكاح

وأما إذا زوجها الأب أو الجد من الكفء بمهر المثل لم يكن لها الفسخ لكمال النظر ووفور الشفقة ولو زوجها غير الأب والجد من غير كفء أو بغبن فاحش لم يصح النكاح أصلا وإنما صرحت بذلك لأنه قد اشتهر في بعض البلاد نقلا عن المصنف رحمه اللّه تعالى أنه يصح النكاح في هذه الصورة لكن يكون لها الفسخ وهكذا أورده في شرحه للوقاية ولا يوجد له رواية أصلا

قوله لأن طلب العلم واجب عليها أي على البكر وتقرير القوم أن جهل البكر بالخيار ليس

(٢/٣٩٠)

بعذر لاشتهار العلم في دار الإسلام وعدم المانع من التعلم في جانبها بخلاف الأمة فإن اشتغالها بخدمة السيد مانع وعلى هذا الإيراد الاعتراض بأن البكر قبل البلوغ لم تكلف بالشرائع لا سيما بالمسائل الخفية

قوله حتى يشترط للقضاء ثمة أي في فسخ البكر بعد البلوغ لا هنا أي لا في فسخ المعتقة لأن فسخ البكر للإلزام على الغير وتوهم ترك النظر من الولي وهو غير متيقن فلا يتم إلا بالقضاء حتى لو مات أحدهما بعد الفسخ قبل القضاء يرثه الآخر وفسخ المعتقة يثبت بنفس الخيار لأنه لدفع زيادة الملك ولا سبيل إليه إلا بدفع أصل الملك فلا يفتقر إلى القضاء وتحقيق ذلك أن المرأة تبطل حقا مشتركا لدفع زيادة حق عليها والزوج يثبت زيادة حق عليها لاستيفاء حق مشترك فلهذا جعلنا الدفع في حق المرأة قصدا وإبطال الملك ضمنا وفي حق الزوج زيادة الملك أصلا واستيفاء ضمنا

قوله ومنها أي ومن العوارض المكتسبة السكر وهي حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه فيتعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة والقبيحة والسكر حرام إجماعا إلا أن الطريق المفضي إليه قد يكون مباحا كسكر المضطر إلى شرب الخمر والسكر الحاصل من الأدوية والأغذية المتخذة من غير العنب والغذاء ما ينفعل عن الطبيعة فتنصرف فيه وتحيله إلى مشابهة المتغذي فيصير جزءا منه وبدلا عما يتحلل والدواء ما يكون فيه كيفية خارجة عن الاعتدال بها تنفعل الطبيعة عنه وتعجز عن التصرف فيه وقد يكون محظورا كالسكر الحاصل من الخمر التي يحرم قليلها وكثيرها أو من المثلث وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم رقق بالماء وترك حتى اشتد يحل شربه عند أبي حنيفة وأبي يوسف لاستمراء الطعام والتقوي على قيام الليالي وصيام الأيام

وأما على قصد السكر فلا حتى لو سكر منه يحد اتفاقا

وأما نقيع الزبيب

(٢/٣٩١)

وهو الماء الذي ألقي فيه الزبيب ليخرج منه حلاوته فإن لم يطبخ حتى اشتد وغلا وقذف بالزبد فهو حرام وإن طبخ أدنى طبخ يحل شرب القليل منه في ظاهر الرواية

قوله حتى الطلاق والعتاق صرح بذلك نفيا لما روي عن أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى أن الرجل إذا كان عالما بفعل البنج فأكله يصح طلاقه وعتاقه

قوله فهذا خطاب متعلق بحالة السكر ليس المراد أن

قوله تعالى وأنتم سكارى قيد للخطاب أعني لا تقربوا حتى يلزم أن يكون الخطاب في حالة سكرهم بل هو قيد لما تعلق به خطاب المنع وتحقيق ذلك أن الحال في مثل صل وأنت صالح أو لا تصل وأنت سكران ليس قيدا للأمر والنهي بل للمأمور به والمنهي عنه بمعنى أطلب منك صلاة مقرونة بالصحو وكف النفس عن الصلاة المقرونة بالسكر وذلك لأن العامل في الحال هو فعل المذكور لا فعل الطلب فقوله تعالى غير محلي الصيد فيمن جعله حالا من

قوله أوفوا يكون قيدا للإيفاء لا لطلبه حتى يلزم عدم وجوب الإيفاء عند كونهم محلين للصيد أي معترضين له في الإحرام فالمعنى أنهم خوطبوا في حالة الصحو بأن لا يقربوا الصلاة حالة السكر فيلزم كونهم مخاطبين أي مكلفين بذلك حال السكر فلا يكون السكر منافيا لتعلق الخطاب ووجوب الانتهاء فالسكر من الشراب المحرم أو المثلث لا يبطل أهلية الخطاب أصلا لتحقق العقل والبلوغ إلا أنه يمنع استعمال العقل بواسطة غلبة السرور فيلزمه جميع التكاليف من الصلاة والصوم وغيرهما وإن كان لا يقدر على الأداء ولا يصح منه الأداء وتصح عباراته في الطلاق والعتاق والبيع والإقرار وتزويج الصغار والتزوج والإقراض والاستقراض وسائر التصرفات سواء شرب مكرها أو طائعا وذلك لأن مبنى الخطاب على اعتدال الحال وقد أقيم البلوغ عن العقل مقامه تيسيرا وبالسكر لا يفوت إلا قدرة فهم الخطاب بسبب هو معصية فيجعل في حكم الموجود زجرا له ويبقى التكليف متوجها في حق الإثم ووجوب القضاء بخلاف ما إذا كان بآفة سماوية كالنوم فإنه يصلح عذرا دفعا للحرج

قوله وإذا أسلم أي السكران إن أسلم يصح ترجيحا لجانب الإيمان وكون الأصل هو الاعتقاد فلو تكلم بكلمة الكفر لا يرتد لأن الاعتقاد لا يرتفع إلا بالقصد إلى تبدله أو بما يدل عليه ظاهرا وهو التكلم في حالة يعتبر فيها القصد وهي حالة الصحو وهذا كالمكره يصح إسلامه ولا يصح ارتداده

(٢/٣٩٢)

قوله لأن السكر دليله الرجوع إذ السكران لا يستقر على أمر فيقام مقام الرجوع لأن حقوق اللّه تعالى مبنية على المساهلة بخلاف ما إذا أقر بما لا يحتمل الرجوع كالقصاص والقذف أو باشر سبب الحد بأن زنى أو قذف في حالة السكر فإنه لا يسقط عنه الحد

أما في الإقرار بما لا يحتمل الرجوع فلأنه لا يسقط بصريح الرجوع فكيف بدليله

وأما في المباشرة فلأنه معاين فلا أثر لدليل الرجوع لكن يتوقف في إقامة الحد إلى الصحو ليحصل الانزجار

فإن قلت السكر موجب للحد فإذا تحقق أنه سكران فما معنى إقراره بالشرب ثم توقف وجوب الحد على إقراره في الصحو

قلت السكر قد يكون من غير الشراب المحرم أو المثلث والسكر منهما قد يكون بالشرب كرها أو اضطرارا فيتوقف الحد على إقامة البينة أو الإقرار بأنه شرب الشراب المحرم أو المثلث طوعا فيشترط الإقرار حال الصحو

قوله وزاد أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى يعني اعتبر في حق وجوب الحد السكر بمعنى زوال العقل بحيث لا يميز بين الأشياء ولا يعرف الأرض من السماء إذ لو ميز ففي السكر نقصان وفي النقصان شبهة العدم فيندرئ به الحد

وأما في غير وجوب الحد من الأحكام فالمعتبر عنده أيضا اختلاط الكلام حتى لا يرتد بكلمة الكفر ولا يلزمه الحد بالإقرار بما يوجب الحد

قوله ومنها الهزل فسره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى باللعب وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له لفظ فتوهم بعضهم من ظاهره أنه يشمل المجاز إلا أنه أراد بالوضع ما هو أعم من وضع اللفظ للمعنى ومن وضع التصرفات الشرعية لأحكامها وأراد بوضع اللفظ ما هو أعم من الوضع الشخصي كوضع الألفاظ لمعانيها الحقيقية أو النوعي كوضعها لمعانيها المجازية وهذا معنى ما يقال إن الوضع أعم من العقلي والشرعي فإن العقل يحكم بأن الألفاظ لمعانيها حقيقة أو مجازا وأن التصرفات الشرعية لأحكامها والمصنف رحمه اللّه تعالى أوضح المقصود ففسر الهزل بعدم إرادة المعنى الحقيقي والمجازي باللفظ ودخل في ذلك التصرفات الشرعية لأنها صيغ وألفاظ موضوعة لأحكام تترتب عليها ويلزم معانيها بحسب الشرع

قوله ولا يشترط كونه يعني لا يجب أن تجري المواضعة في نفس العقد لأنه يفوت

(٢/٣٩٣)

المقصود من المواضعة وهو أن يعتقد الناس لزوم العقد بخلاف خيار الشرط فإنه لدفع الغبن ومنع الحكم عن الثبوت بعد انعقاد السبب فلا بد من اتصاله بالعقد

قوله ولا اختيار المباشرة والرضى بها يعني أن الهازل يتكلم بصيغة العقد مثلا باختياره ورضاه لكنه لا يختار ثبوت الحكم ولا يرضاه الاختيار هو القصد إلى الشيء وإرادته والرضى هو إيثاره واستحسانه فالمكره على الشيء مثلا يختار ذلك ولا يرضاه ومن هاهنا قالوا إن المعاصي والقبائح بإرادة اللّه تعالى لا يرضاه لقوله تعالى إن اللّه لا يرضى لعباده الكفر

قوله وهي أي التصرفات

إما إنشاءات أو إخبارات أو اعتقادات لأن التصرف إن كان إحداث حكم شرعي فإنشاء وإلا فإن كان القصد منها إلى بيان الواقع فإخبارات وإلا فاعتقادات والإنشاء

إما أن يحتمل الفسخ أو لا والأول

إما أن يتواضع المتعاقدان على أصل العقد أو الثمن بحسب قدره أو جنسه وعلى التقادير الثلاثة

إما أن يتفقا على الإعراض عن الهزل والمواضعة أو على بناء العقد عليها أو على أن لا يحضرهما شيء

وإما أن لا يتفقا على شيء من ذلك وحينئذ

إما أن يدعي أحدهما الإعراض والآخر البناء أو عدم حضور شيء أو يدعي أحدهما البناء والآخر عدم حضور شيء وأحكام الأقسام بعضها مشروح في الكتاب وبعضها متروك لانسياق الذهن إليه

قوله لعدم الرضى بالحكم لو قال لعدم اختيار الحكم لكان أولى لأنه المانع عن الملك لا عدم الرضا كالمشتري من المكره فإنه يملك بالقبض لوجود الاختيار وإن لم يوجد الرضا

(٢/٣٩٤)

قوله فإن نقضه أي العقد الذي اتفقا على أنه مبني على المواضعة أحدهما أي أحد المتعاقدين انتقض لأن لكل واحد ولاية النقض لكن الصحة تتوقف على اختيارهما جميعا لأنه بمنزلة شرط الخيار للمتعاقدين فإجازة أحدهما لا تبطل خيار الآخر وقدر أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى مدة الخيار بثلاثة أيام اعتبارا بالخيار المؤبد حتى يتقرر الفساد بمضي المدة وعندهما يجوز الاختيار ما لم يتحقق النقض وإنما قال في الثلاث دون الثلاثة اعتبارا بالليالي

قوله عملا بالعقد يعني أن الأصل في العقد الشرعي اللزوم والصحة حتى يقوم المعارض لأنه إنما شرع للملك والجد هو الظاهر فيه فاعتبار العقد أولى من اعتبار المواضعة وعندهما لا يصح العقد في الصورتين أعني صورة الاتفاق على أن لم يحضرهما شيء والاختلاف في الإعراض والبناء لأن العادة جارية بأن يبنيا على المواضعة كي لا يكون الاشتغال بها عينا فإنهما إنما تواضعا

(٢/٣٩٥)

للبناء عليه صونا للمال عن يد المتغلب والقول بأن الأصل في العقد الصحة واللزوم والمعارض بأن المواضعة سابقة والسبق من أسباب الترجيح والجواب أن العقد متأخر والمتأخر يصلح ناسخا للمتقدم إذا لم يعارضه ما يغيره كما إذا اتفقا على البناء وهاهنا لم يتحقق المغير لأن أحدهما يدعي عدم المضي فالعقد باعتبار أن أصله الجد واللزوم من غير تحقق معارض يكون ناسخا للمواضعة السابقة

قوله فعلى أصل أبي حنيفة رحمه اللّه يجب أن يكون عدم الحضور كالإعراض عملا بالعقد فيصح في الصورتين وعلى أصلهما عدم الحضور كالبناء ترجيحا للمواضعة بالعادة والسبق فلا يصح العقد في شيء من الصورتين وهذا مأخوذ من صورة اتفاقهما على أن لم يحضرهما شيء فإنه عند أبي حنيفة رحمه اللّه بمنزلة الإعراض وعندهما بمنزلة البناء وهاهنا بحث وهو أن انحصار الأقسام في الستة إنما هو على تقدير اعتبار الاتفاق والاختلاف في نفس الإعراض والبناء والذهول أي عدم الحضور

وأما على تقدير اعتبارهما في ادعاء المتعاقدين على ما يشعر به كلام فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى فالأقسام ثمانية وسبعون لأن المتعاقدين

إما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا فالاتفاق

إما على إعراضهما

وإما على بنائهما

وإما على ذهولهما

وإما على بناء أحدهما وإعراض الآخر أو ذهوله

وإما على إعراض أحدهما وذهول الآخر فصور الاتفاق ست وإن اختلفا فدعوى أحد المتعاقدين يكون

إما إعراضهما

وإما بناؤهما

وإما ذهولهما

وإما بناؤه مع إعراض الآخر أو ذهوله

وإما إعراضه مع بناء الآخر أو ذهوله

وإما ذهوله مع بناء الآخر أو إعراضه يصير

(٢/٣٩٦)

تسعة وعلى كل تقدير من التقادير التسعة يكون اختلاف الخصم بأن يدعي إحدى الصور الثمانية الباقية فتصير أقسام الاختلاف اثنين وسبعين حاصلة من ضرب التسعة في الثمانية ولا خفاء في أن تمسك أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى بأن الأصل في العقد الصحة وتمسكهما بأن العادة جارية بتحقيق المواضعة السابقة يدل على أن الكلام فيما إذا اختلفا في دعوى الإعراض والبناء مثلا

وأما إذا اتفقا على الاختلاف في الإعراض والبناء بأن يقر كلاهما بإعراض أحدهما وبناء الآخر فلا قائل بالصحة واللزوم وهذا ظاهر

قوله والفرق بين البناء هنا وثمة يعني إذا وقعت المواضعة في قدر الثمن وبنيا عليها فأبو حنيفة رحمه اللّه تعالى لا يعتبر المواضعة السابقة ويحكم بلزوم الألفين لا الألف المتواضع عليه وقد كان يعتبر البناء على المواضعة في نفس العقد ويحكم بفساد العقد وثبوت الخيار فيحتاج إلى الفرق بين البناء هنا أي في صورة المواضعة في قدر الثمن والبناء ثمة أي في صورة المواضعة في نفس العقد ووجه الفرق أن المواضعة السابقة إنما تعتبر إذا لم يوجد ما يعارضها ويدافعها وهاهنا قد وجد ذلك لأنها لو اعتبرت يلزم فساد العقد لتوقف انعقاده على شرط ليس من مقتضيات العقد وفيه نفع لأحد المتعاقدين وهو قبول العقد فيما ليس بداخل في العقد كأحد الألفين في صورة البيع بألفين والمواضعة على أن يكون الثمن ألفا ولو

قلنا بفساد العقد يلزم ترجيح الوصف على الأصل لأن المتعاقدين قد جدا في أصل العقد فيلزم صحته وإنما هزلا في الثمن الذي هو وصف لكونه وسيلة لا مقصودا فلو اعتبرناه وحكمنا بفساد العقد لزم إهدار الأصل لاعتبار الوصف وهو باطل فلا بد من القول بصحة العقد ولزوم الألفين اعتبارا للتسمية والحاصل أن اعتبار المواضعة في الثمن وتصحيح أصل العقد متنافيان وقد ثبت الثاني ترجيحا للأصل فينتفي الأول وبهذا يخرج الجواب عما يقال إنهما قصدا بذكر الألف الآخر السمعة من غير أن يحتاج إلى اعتباره في تصحيح العقد فكان ذكره والسكوت عنه سواء كما في النكاح

قوله والفرق لهما يعني إذا وقعت المواضعة في جنس الثمن بأن باع بمائة دينار وقد تواضعا على أن يكون الثمن ألف درهم فالبيع صحيح واللازم مائة دينار وسواء بنيا على المواضعة أو عرضا أو لم يحضرهما شيء

أما أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى فقد مر على أصله من عدم اعتبار المواضعة ترجيحا للأصل وتصحيحا للعقد بما سميا من البدل ضرورة افتقاره إلى تسمية البدل

وأما

(٢/٣٩٧)

أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه تعالى فقد احتجا إلى الفرق بين المواضعة في جنس الثمن والمواضعة في قدره ووجهه أن العمل بالمواضعة مع صحة البيع ممكن في الأولى دون الثانية لأن البيع ممكن في صورة البناء لا يصح بدون تسمية البدل فإذا اعتبرت المواضعة كان البدل ألف درهم وهو غير مذكور في العقد والمذكور في العقد يكون مائة دينار وهي غير البدل بخلاف المواضعة في القدر فإنه يمكن تصحيح البيع مع اعتبارها بأن ينعقد بالألف الموجود في الألفين

قوله

وإما أن يحتمل النقض عطف على

قوله

إما أن يحتمل النقض وفي الكلام خلل وذلك لأنه قال

أما الإنشاءات فإما أن يحتمل النقض أو لا فذكر المعطوف والمعطوف عليه جميعا ثم قال فما يحتمله كالبيع فكان الصواب أن يقول ها هنا وما لا يحتمله أي النقض بمعنى أنه لا يجري فيه الفسخ والإقالة فثلاثة أقسام لأنه

إما أن يكون فيه مال بأن يثبت بدون شرط وذكر أو لا والأول

إما أن يكون المال تبعا أو مقصودا

قوله وكله صحيح استدل على صحة الكل وبطلان الهزل بالحديث والمعقول

أما الحديث فيحتمل أن يكون لإثبات صحة الثلاثة المذكورة فقط ويحتمل أن يكون لإثبات صحتها عبارة وصحة غيرها دلالة

وأما المعقول فيفيد صحة الكل وحاصله أن الهزل لا يمنع انعقاد السبب وعند انعقاد السبب يوجد حكمه ضرورة عدم التراخي والرد في حكم هذه الأسباب بخلاف البيع واعترض بالطلاق المضاف مثل أنت طالق غدا وأجيب بأن المراد بالأسباب العلل والطلاق المضاف ليس بعلة بل سبب مفض وإلا لاستند إلى وقت الإيجاب كالبيع بشرط الخيار

(٢/٣٩٨)

قوله وفي قدر البدل يعني إذا وقعت المواضعة في قدر المهر بأن يذكر في العقد ألفان ويكون المهر ألفا فإن اتفق المتعاقدان على الإعراض عن المواضعة فاللازم هو المسمى في العقد أعني الألفين وإن اتفقا على بناء النكاح على المواضعة فاللازم ألف

أما عندهما فظاهر كما في البيع

وأما عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى فيحتاج إلى الفرق بين النكاح والبيع حيث يعتبر في النكاح المواضعة دون التسمية وفي البيع بالعكس ووجهه أن البدل في البيع وإن كان وصفا وتبعا بالنسبة إلى البيع إلا أنه مقصود بإيجاب لكونه أحد ركني البيع ولهذا يفسد البيع بفساده أو جهالته وبدون ذكره فيترجح البيع بالثمن بمعنى أنه يجب تصحيح البيع لتصحيح الثمن بخلاف البدل في النكاح فإنه إنما شرع إظهارا لخطر المحل لا مقصودا وإنما المقصود ثبوت الحل في الجانبين للتوالد والتناسل

قوله وعلى البناء يعني أن وقت المواضعة في جنس البدل بأن يذكرا في العقد مائة دينار على أن يكون المهر ألف درهم وقد اتفقا على البناء على المواضعة فاللازم مهر المثل إجماعا لأنه بمنزلة التزوج بدون المهر إذ لا سبيل إلى ثبوت المسمى لأن المال لا يثبت بالهزل ولا إلى ثبوت المتواضع عليه لأنه لم يذكر في العقد بخلاف المواضعة في القدر فإن المتواضع عليه قد يسمى في العقد مع الزيادة وبخلاف البيع فإن فيه ضرورة إلى اعتبار التسمية لأنه لا يصح بدون تسمية الثمن والنكاح يصح بدون تسمية المهر وإن اتفقا على أن لم يحضرهما شيء أو اختلفا في الإعراض والبناء فاللازم عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى في رواية محمد رحمه اللّه تعالى هو مهر المثل لأن الأصل بطلان المسمى عملا بالهزل لئلا يصير المهر مقصودا بالصحة بمنزلة الثمن في البيع ولما بطل المسمى لزم مهر المثل وفي رواية أبي يوسف رحمه اللّه تعالى هو المسمى قياسا على البيع

(٢/٣٩٩)

وعندهما اللازم مهر المثل بناء على أصلهما من ترجيح المواضعة بالسبق والعادة فلا يثبت المسمى لرجحان المواضعة وعدم ثبوت المال بالهزل ولا المتواضع عليه لعدم التسمية فيلزم مهر المثل

قوله ومنه أي مما لا يحتمل النقض ما يكون المال فيه مقصودا حتى لا يثبت بدون الذكر كما إذا طلق امرأته على مال بطريق الهزل أو طلقها على ألفين مع المواضعة على أن المال ألف أو طلقها على مائة دينار مع المواضعة على أن المال ألف درهم وكذا في العتق على مال والصلح عن دم عمد ففي صورة الإعتاق على الإعراض أو على أن لم يحضرهما شيء والاختلاف في الإعراض والبناء يقع الطلاق ويجب المال

أما عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى فلترجيح العقد على المواضعة

وأما عندهما فلأن الهزل بمنزلة خيار الشرط والخيار باطل عندهما لأن قبول المرأة شرط لليمين فلا يحتمل الخيار كسائر الشروط وذلك كما إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا على

(٢/٤٠٠)

ألف درهم على أنك بالخيار ثلاثة أيام فقالت قبلت فعندهما يقع الطلاق ويلزم المال وعنده إن ردت الطلاق في الثلاثة أيام بطل الطلاق وإن أجازت أو لم ترد حتى مضت المدة فالطلاق واقع والألف لازم وهذا معنى

قوله وعند أبي حنيفة رحمه اللّه لا يقع الطلاق ولا يجب المال حتى تشاء المرأة فمسألة الهزل في الخلع على كلا المذهبين بمنزلة مسألة الخلع بشرط الخيار على مذهبهما وهذا معنى

قوله فكذا في مسألتنا على كلا المذهبين

وأما في صورة الاتفاق على البناء فعندهما يقع الطلاق ويلزم المال لأنه لا أثر للّهزل في ذلك

فإن قلت الهزل وإن لم يؤثر في التصرف كالطلاق ونحوه إلا أنه مؤثر في المال حتى لم يثبت بالهزل أجيب بأن المال هاهنا يجب بطريق التبعية في ضمن الطلاق لأنه بمنزلة الشرط فيه والشروط اتباع وكم من شيء يثبت ضمنا ولا يثبت قصدا والتبعية بهذا المعنى لا تنافي كونه مقصودا بالنظر إلى العاقد بمعنى أنه لا يثبت إلا بالذكر

فإن قلت المال في النكاح أيضا تبع وقد أثر الهزل فيه

قلت تبعيته في النكاح ليست في حق الثبوت لأنه يثبت وإن لم يذكر بل بمعنى أن المقصود هو الحل والتناسل لا المال وهذا لا ينافي الأصالة بمعنى الثبوت بدون الذكر وعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى يتوقف الطلاق على مشيئة المرأة لإمكان العمل بالمواضعة بناء على أن الخلع لا يفسد بالشروط الفاسدة بخلاف البيع والعمل بالمواضعة أن يتعلق الطلاق بجميع البدل ولا يقع في الحال بل يتوقف على اختيارها

قوله

وأما تسليم الشفعة أي طلب الشفعة لا يخلو

إما أن يكون طلب مواثبة بأن يطلبها كما علمها حتى تبطل بالتأخير أو طلب تقرير بأن ينتهض بعد الطلب ويشهد ويقول إني طلبت الشفعة وأطلبها الآن أو طلب خصومة بأن يقوم بالأخذ والتملك فتسليم الشفعة بطريق الهزل قبل المواثبة يبطل الشفعة بمنزلة السكوت وبعده يبطل التسليم فتكون الشفعة باقية لأن التسليم من جنس ما

(٢/٤٠١)

يبطل بالخيار لأنه في معنى التجارة لكونه استبقاء أحد العوضين على الملك فيتوقف على الرضا بالحكم وكل من الخيار والهزل يمنع الرضا بالحكم فيبطل به التسليم

قوله وكذا الإبراء أي إبراء الغريم أو الكفيل يبطل بالهزل لأن فيه معنى التملك ويرتد بالرد فيؤثر فيه الهزل كخيار الشرط

قوله

وأما الإخبارات فيبطلها الهزل سواء كانت إخبارا عما يحتمل الفسخ كالبيع والنكاح أو لا يحتمله كالطلاق والعتاق وسواء كانت إخبارا شرعا ولغة كما إذا تواضعا على أن يقرا بأن بينهما نكاحا أو بأنهما تبايعا في هذا الشيء بكذا أو لغة فقط كما إذا أقر بأن لزيد عليه كذا وذلك لأن الإخبار يعتمد صحة المخبر به أي تحقق الحكم الذي صار الخبر عبارة عنه وإعلاما بثبوته أو نفيه والهزل ينافي ذلك ويدل على عدمه فكما أنه يبطل الإقرار بالطلاق والعتاق مكرها كذلك يبطل الإقرار بهما هازلا لأن الهزل دليل الكذب كالإكراه حتى لو أجاز ذلك لم يجز لأن الإجازة إنما تلحق شيئا منعقدا يحتمل الصحة والبطلان بالإجازة لا يصير الكذب صدقا وهذا بخلاف إنشاء الطلاق والعتاق ونحوهما مما لا يحتمل الفسخ فإنه لا أثر فيه للّهزل على ما سبق

قوله فيكون أي الهازل بالردة مرتدا بنفس الهزل لا بما هزل به لما فيه من الاستخفاف

(٢/٤٠٢)

بالدين وهو من أمارات تبدل الاعتقاد بدليل

قوله تعالى حكاية إنما كنا نخوض ونلعب الآية وفي هذا جواب عما يقال إن الارتداد إنما يكون بتبدل الاعتقاد والهزل ينافيه لعدم الرضا بالحكم

قوله ترجيحا لجانب الإيمان يعني أن الأصل في الإنسان هو التصديق والاعتقاد

قوله ومنها أي من العوارض المكتسبة السفه فإن السفيه باختياره يعمل على خلاف موجب العقل مع بقاء العقل فلا يكون سماويا وعلى ظاهر تفسير فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى يكون كل فاسق سفيها لأن موجب العقل أن لا يخالف الشرع للأدلة القائمة على وجوب اتباعه وفسره المصنف رحمه اللّه تعالى بالخفة الباعثة على العمل بخلاف موجب العقل تنبيها على المناسبة بين المعنى الشرعي واللغوي فإن السفه في اللغة هو الخفة والحركة ومنه زمام سفيه وتخصيصا له بما هو مصطلح الفقهاء من السفه الذي يبتنى عليه منع المال ووجوب الحجر ونحو ذلك

قوله لأن التبذير أصله مشروع التبذير هو تفريق المال على وجه الإسراف أي مجاوزة الحد والمراد بأصل التبذير نفس تفريق المال

قوله وأجمعوا على منع ماله يعني إذا بلغ الصبي سفيها يمنع عنه ماله لقوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل اللّه لكم قياما أي لا تؤتوا المبذرين أموالهم الذين

(٢/٤٠٣)

ينفقونها فيما لا ينبغي وإضافة الأموال إلى الأولياء على معنى أنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال اللّه تعالى ولا تقتلوا أنفسكم ولأنهم المتصرفون فيها القوامون عليها ثم علق إيتاء الأموال إياهم بإيناس رشد وصلاح منهم على وجه التنكير المفيد للتقليل حيث قال اللّه تعالى فإن آنستم منهم رشدا أي إن عرفتم ورأيتم فيهم صلاحا في العقل وحفظا للمال فادفعوا إليهم أموالهم فأقام أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى السبب الظاهر للرشد وهو أن يبلغ سن الجدودة فإنه لا ينفك عن الرشد إلا نادرا مقام الرشد على ما هو المتعارف في الشرع من تعلق الأحكام بالغالب فقال يدفع إليه المال بعد خمس وعشرين سنة أونس منه الرشد أو لم يؤنس وهما تمسكا بظاهر الآية فقالا لا يدفع إليه المال ما لم يؤنس منه الرشد ثم بعد الإجماع على منع مال من بلغ سفيها اختلفوا في حجر من صار سفيها بعد البلوغ فجوزه أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه تعالى تمسكا بوجوه الأول هذا الحجر بطريق النظر دون العقوبة والزجر والسفيه وإن لم يستحق النظر له من جهة أنه فاسق لكن يستحق النظر من جهة دينه ومن جهة أنه مسلم ولهذا جاز عفو اللّه تعالى في الآخرة عن صاحب الكبيرة وإن لم يتب وحسن عفو الولي والمجني عليه في الدنيا عن القصاص والجنايات ولا شك أن المسلم حال السفه يفتقر إلى النظر له فيحجر

الثاني القياس على منع المال فإنه إنما منع عنه ليبقى ملكه ولا يزول بالإتلاف فلا بد من منع نفاذ التصرفات وإلا لأبطل ملكه بإتلافه بالتصرفات ولم يكن المولى في الحفظ إلا الكلفة والمؤنة الثالث أنه إنما صحح عبارات العاقل وجوز تصرفاته ليكون نفعا له بتحصيل المطالب فإذا صار ذلك ضررا عليه كان نفعه في الحجر فيجب

الرابع أن في الحجر دفع الضرر عن أهل الإسلام فإن السفيه بإتلافه وإسرافه يصير مطية لديون الناس ومظنة لوجوب النفقة عليه من بيت المال فيصير على المسلمين وبالا وعلى بيت مالهم عيالا كما حكاه المصنف رحمه اللّه تعالى فإنه وإن كان حذاقة واحتيالا في الوصول إلى المقصود لكنه سفه من جهة أن من لا يملك فلسا قد أعتق جارية بألف دينار

(٢/٤٠٤)

قوله دخل في سوق النخاسين لفظة في زائدة والمكابدة المقاساة والتلبيس التخليط وإخفاء الأمر على الغير والتطريق أن يمشي أمام الرجل ويقال طرقوا وذلك عادة الكبار والنمرقة وسادة صغيرة والعثنون شعيرات طوال تحت حنك البعير يعبر به عن اللحية وفي

قوله عرف فنونه إيهام أي فنون الحيل والتزوير أو العلوم التي من جملتها الفقه الذي يعرف به هذا الحكم وكذا في

قوله ينتف عثنونه يحتمل عود الضمير إلى البائع والمشتري ولما كان هاهنا مظنة الاعتراض بأنه لا وجه لحجر الإنسان عن التصرف في ملكه بناء على ضرر غيره أجاب بأنه جائز عند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى كما في استحداث الطاحون للأجرة ونصب المنوال لاستخراج الإبريسم من الفليق وأمثال ذلك مما يكون للجيران ضرر بين فلهم المنع والأظهر أنه ليس من هذا القبيل بل من قبيل الحجر لدفع ضرر العامة فإنه مشروع بالإجماع كحجر المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس وعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى لا يجوز حجر السفيه لأنه حر مخاطب إذ الخطاب بالأهلية وهي بالتمييز والسفه لا يوجب نقصانا فيه بل عدم عمل به مكابرة وتركا للواجب ولهذا يخاطب بحقوق الشرع ويحبس في ديون العباد وتصح عباراته في الطلاق والعتاق ويجب عليه العقوبات التي تندرئ بالشبهات مع أن ضرر النفس أشد من ضرر المال فتصرفه يكون صادرا عن أهله في محله فلا يمنع

وأما ما تمسكا به فالجواب عن الأول أن عدم فعله بموجب العقل لما كان مكابرة لم يستحق النظر له كمن قصر في حقوق اللّه تعالى مجانة أو سفها لا يستحق وضع الخطاب عنه نظرا له ولو

(٢/٤٠٥)

سلم فالنظر له لدينه جائز لا واجب كالعفو عن القصاص فلا يدل على وجوب الحجر

فإن قيل في ترك الحجر ضرر بالمسلم من غير نفع لأحد فيجب الحجر بخلاف العفو عن القصاص فإن في القصاص حياة أجيب بأن في حجر السفيه أيضا ضررا هو إبطال أهليته وإلحاقه بالبهائم بخلاف منع المال بالنص وعن الثاني بأنا لا نسلم كون الحكم في منع المال معقول المعنى ولو سلم فلا يجوز أن يكون الحجر عن المال عقوبة وزجرا على ما ذهب إليه بعض المشايخ فإن سببه وهو مكابرة العقل ومخالفة الشرع جناية والحكم وهو منع المال صالح للعقوبة وجاز تفويضه إلى الأولياء دون الأئمة لكونه عقوبة تعزير وتأديب ولا مدخل للقياس في العقوبات ولو سلم أن الحكم معقول وأن الحجر نظر لا عقوبة فلا نسلم صحة القياس فإن منع اليد عن المال إبطال نعمة زائدة وإلحاق للسفيه بالفقراء بخلاف الحجر فإنه إبطال نعمة أصلية هي العبارة والأهلية إذ بها يمتاز الإنسان عن سائر أنواع الحيوان ففيه ضرر عظيم وتفويت لنعمة عظيمة وإلحاق له بالبهائم وفي ترك الجواب عن الوجهين الأخيرين ميل ما إلى اختيار ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه تعالى

قوله ثم إذا كان الحجر يعني حجر السفيه عندهما لما كان بطريق النظر له وهذا يختلف بحسب الأحكام لزم أن يلحق في كل صورة بمن يكون الإلحاق به أنظر له وأليق بحاله ففي الاستيلاد يجعل كالمريض حتى يثبت نسب الولد منه وفي ملك ابنه بالشراء والقبض يجعل كالمكره حتى يعتق الابن وفي لزوم الثمن أو القيمة في مال المحجور في هذه الصورة يجعل كالصبي حتى لا يلزمه ذلك

فإن قيل ففي هذه الصورة يجب أن تكون سعاية العبد للمحجور نظرا له أجيب بأن الغنم بالغرم كما أن الغرم بالغنم فإذا لم يجب على المحجور شيء لم يسلم له شيء وكانت سعاية الغلام في قيمته للبائع

(٢/٤٠٦)

قوله وهذا الحجر يعني الحجر المختلف فيه الذي يكون للمكلف عن التصرفات في ماله نظرا له قد يكون بسبب في ذاته كالسفه وقد يكون بسبب خارج كالدين وذلك بأن يخاف زوال قابلية المال للصرف إلى الديون أو يمنع المديون عن التصرف فالأول أي الحجر بسبب السفه يحصل عند محمد بنفس السفه ولا يتوقف على قضاء القاضي لأنه بمنزلة الصبا والجنون والعته في ثبوت الحجر به نظرا للسفيه وعند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى يتوقف على أن يحجره القاضي لأنه متردد بين النظر بإبقاء الملك والضرر بإهدار عبارته فلا بد في ترجيح أحد الجانبين من القضاء والثاني أن حجر المديون خوفا من تلجئة يتوقف على قضاء القاضي اتفاقا بينهما لأنه لأجل النظر للغرماء فيتوقف على طلبهم ويتم بالقضاء والثالث وهو حجر المديون لامتناعه عن صرف المال إلى الدين يكون بأن يبيع القاضي أمواله عروضا كانت أو عقارا لما روي أن معاذا رضي اللّه تعالى عنه ركبته الديون فباع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ماله وقسم ثمنه بين الغرماء بالحصص ولأن بيع ماله لقضاء دينه مستحق عليه وهو مما يجري فيه النيابة فينوب القاضي منابه كما إذا أسلم عبد الذمي وأبى الذمي أن يبيعه فإن القاضي يبيعه ولما كان هذا الحجر في أمر خاص قال فهذا ضرب حجر

قوله التلجئة هي المواضعة المذكورة أي في أصل التصرف أو في قدر البدل أو جنسه على ما سبق في باب الهزل إلا أنها لا تكون إلا سابقة والهزل قد يكون مقارنا فبهذا الاعتبار هو أخص قال في المغرب التلجئة هي أن يلجئك إلى أن تأتي أمرا باطنا خلاف ظاهره وفي المبسوط أن معنى ألجئ إليك داري أجعلك ظهرا لأتمكن بجاهك من صيانة ملكي يقال التجأ فلان إلى فلان وألجأ ظهره إلى كذا وقيل معناه أنا ملجأ مضطر إلى ما أباشره من البيع منك ولست بقاصد حقيقة

(٢/٤٠٧)

قوله على أن لا يصح تصرفه إلا مع الغرماء يعني في المال الذي يكون في يده وقت الحجر

وأما فيما يكتسب بعده فينفذ تصرفه مع كل أحد

قوله ومنها السفر وهو خروج مديد

فإن قلت الخروج مما لا يمتد

قلت المراد أنه خروج عن عمرانات الوطن على قصد مسير يمتد ثلاثة أيام ولياليها فما فوقها بسير الإبل ومشي الأقدام

قوله واختلفوا في الصلاة يعني في التخفيف الحاصل بالسفر في الصلاة فعند الشافعي رحمه اللّه تعالى هو رخصة حتى يكون الإكمال مشروعا وعندنا أثره في إسقاط الشطر حتى يكون ظهر المسافر وفجره سواء واستدل على ذلك بأربعة أوجه الأول الأثر كما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها وقال مقاتل كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي بمكة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشاء فلما عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس فصارت الركعتين للمسافر وللمقيم أربع إلا أن قول الصحابي ليس بحجة عند الشافعي رحمه اللّه تعالى الثاني أن حد النافلة هو ما يمدح فاعله ولا يذم تاركه شرعا أو ما هو في هذا المعنى يصادق على الركعتين الأخيرتين من ظهر المسافر مثلا وللخصم أن يقول إن الركعتين إنما يكونان فرضا إذا نوى الإتمام وحينئذ لا نسلم أنه لا يذم

(٢/٤٠٨)

تاركهما الثالث أن النبي عليه الصلاة والسلام سماها صدقة حيث قال إنها صدقة تصدق اللّه تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقة اللّه والصدقة فيما لا يحتمل التمليك إسقاط لا غير الرابع أن التخيير إنما شرع فيما يكون للعبد فيه يسر كخصال الكفارة وصوم رمضان وهاهنا لا يسر في الإكمال فلا فائدة في التخيير وقد سبق ذلك في بحث الرخصة

قوله ولما كان السفر بالاختيار يعني فرق بين المسافر والمريض بأن المسافر إن نوى صوم رمضان شرع فيه أي لم يفسخه قبل انفجار الصبح لا يجوز له الإفطار بخلاف المريض وذلك لأن الضرر في المريض مما لا مدفع له فربما يتوهم قبل الشروع أنه لا يلحقه الضرر وبعد الشروع علم لحوق الضرر من حيث لا مدفع له بخلاف المسافر فإنه يتمكن من دفع الضرر الداعي إلى الإفطار بأن لا يسافر ولفظ قيل يوهم أن هذا قول البعض وليس كذلك بل المراد أنه حكم بذلك وكذا لفظ فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى قيل له معناه حكم للمسافر وأفتى في حقه وضبط المسائل في هذا المقام أن العذر

إما أن يكون قائما في أول اليوم أو لا فإن كان قائما فإن ترك الصوم فله

(٢/٤٠٩)

ذلك فإن صام فإن كان العذر هو المرض يجوز الإفطار وإن كان السفر لم يجز لكن لو أفطر لم تجب الكفارة وإن لم يكن قائما بل إنما طرأ في أثناء النهار فلا بد من نية الصوم والشروع فيه فإن مضى عليه فذاك وإلا فإما أن يطرأ العذر ثم الإفطار أو بالعكس فعلى الأول إن كان العذر هو المرض جاز الإفطار وإن كان السفر لم يجز لكن لو أفطر لم تجب عليه الكفارة وعلى الثاني لم يجز الإفطار أصلا لكن لو أفطر ففي المرض تسقط الكفارة وفي السفر لا تسقط لأن المرض سماوي يتبين به أن الصوم لم يجب عليه والسفر اختياري يجب الصوم مع طريانه لكنه بسبب المبيح في الجملة فإن قارن الإفطار كان شبهة في سقوط الكفارة وإن كان متأخرا لم يؤثر لأن الكفارة قد وجبت بالإفطار عن صوم واجب من غير اقتران شبهة

قوله على أن المعصية منفصلة لما استدل الشافعي رحمه اللّه تعالى على عدم كون سفر المعصية من أسباب الرخص بوجهين أحدهما أن الرخصة نعمة فلا تنال بالمعصية ويجعل السفر معدوما في حقها كالسكر يجعل معدوما في حق الرخص المتعلقة بزوال العقل لكونه معصية وثانيهما

قوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإنه جعل رخصة أكل الميتة منوطة بالاضطرار حال كون المضطر غير باغ أي خارج على الإمام ولا عاد أي ظالم على المسلمين بقطع الطريق فيبقى في غير هذه الحالة على أصل الحرمة ويكون الحكم كذلك في سائر الرخص بالقياس أو بدلالة النص أو بالإجماع على عدم الفصل أجيب عن الأول بأن المعصية هي البغي والتمرد والإباق مثلا لا نفس السفر بل المعصية منفصلة عن السفر من كل وجه إذ قد يوجد بدونه كالباغي أو الآبق المقيم وقد يكون السفر مندوبا

(٢/٤١٠)

فتقطع المعصية كما إذا خرج غازيا فاستقبله الغير فقطع عليهم الطريق والنهي لمعنى منفصل عنه من كل وجه لا ينافي مشروعيته كالصلاة في الأرض المغصوبة مع أن المشروع أصل فلأن لا ينافي سببيته لحكم مع أن السبب وسيلة أولى وأيضا صفة القربة في المشروع مقصودة بخلاف صفة الحل في السبب لأنه وسيلة ومنافاة النهي لصفة القربة المبنية على الطلب والأمر أشد من منافاته لصفة الحل الثابت بمجرد الإباحة فالنهي لمعنى منفصل إذا لم يمنع صفة القربة عن المشروع فلأن لا يمنع صفة الحل عن السبب أولى وهذا بخلاف السكر فإنه حدث من شرب المسكر وهو حرام وعن الثاني بأن الإثم وعدمه لا يتعلق بنفس الإضرار بل بالأكل فلا بد في الآية من تقدير فعل أي فمن اضطر فأكل ويكون ذلك الفعل هو العامل في الحال أي فأكل حال كونه غير باغ ولا عاد فيجب أن يعتبر البغي والعداء في الأكل الذي سيقت الآية لبيان حرمته وحله أي غير متجاوز في الأكل قدر الحاجة على أن عاد مكرر للتأكيد أي غير طالب للمحرم وهو يجد غيره ولا متجاوز قدر ما يسد الرمق ويدفع الهلاك أو غير متلذذ ولا متزود أو غير باغ على مضطر آخر ولا متجاوز سد الجوعة

قوله ومنها الخطأ وهو أن يفعل فعلا من غير أن يقصده قصدا تاما وذلك أن تمام قصد الفعل بقصد محله وفي الخطأ يوجد قصد الفعل دون قصد المحل وهذا مراد من قال إنه فعل يصدر بلا قصد إليه عند مباشرة أمر مقصود سواء ويجوز المؤاخذة بالخطأ لقوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا فإنه لو لم يجز لم يكن للدعاء فائدة وعند المعتزلة لا يجوز لأن المؤاخذة إنما هي على الجناية وهي بالقصد والجواب أن ترك التثبت منه جناية وقصد بهذا الاعتبار جعل الخطأ من العوارض المكتسبة

قوله ويصلح مخففا أي سببا للتخفيف فيما هو صلة واجبة بالفعل دون المحل كالدية في القتل الخطأ فإنها صلة لأنها لم تقابل بمال كالضمان ووجبت على الفعل دون المحل فوجبت على العاقبة في ثلاث سنين تخفيفا على الخاطئ وقد صرح فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى في بحث

(٢/٤١١)

الإكراه بأن الدية ضمان المتلف والكفارة جزاء الفعل وصرح كثير من المحققين بأن الدية جزاء المحل دون الفعل بدليل أنه يتحد باتحاد المحل وقد مر تحقيق ذلك في بحث الصبي وعبارة فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى هاهنا أن الخطأ لما كان عذرا صلح سببا للتخفيف بالفعل فيما هو صلة لا تقابل مالا

قوله إذ لا ينفك أي الخطأ عن ضرب تقصير وهو ترك التثبت والاحتياط فهو بأصل الفعل مباح وبترك التثبت محظور فيكون جناية قاصرة يصلح سببا لجزاء قاصر

قوله ويقع طلاقه إن طلاق المخطئ كما إذا أراد أن يقول أنت جالس فقال أنت طالق وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى لا يقع لأن الاعتبار بالكلام إنما هو بالقصد الصحيح وهو لا يوجد في المخطئ كالنائم وجوابه مذكور في الكتاب وفي

قوله لا مقام اليقظة والرضى جواب عما يقال لو كان البلوغ من عقل قائما مقام القصد في الطلاق لوجب أن يصح طلاق النائم إقامة للبلوغ مقام القصد وأن يقوم البلوغ مقام الرضى في التصرفات المفتقرة إلى الرضى كالبيع والإجارة لأن الرضى أمر باطن كالقصد وحاصل الجواب أن السبب الظاهر إنما يقوم مقام الشيء إذا كان ذلك الشيء خفيا يعسر الوقوف عليه وعدم القصد وأهلية استعمال العقل في النائم معلوم بلا حرج وكذا وجود الرضى وعدمه لأن الرضا نهاية الاختيار بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحو ذلك ولما كان عدم القصد في النائم ووجود الرضى في غيره مما لا يعسر الوقوف عليه لم يحتج إلى إقامة الشيء مقامهما بل جعل الحكم متعلقا بحقيقتهما وهذا ظاهر لكن في

قوله لا مقام اليقظة تسامح لأن المعترض يقول بإقامة البلوغ مقام القصد لا مقام اليقظة فإن انتفاء

(٢/٤١٢)

يقظة النائم أمر ظاهر ولأن الذي يحتاج إلى إثباته في أهلية الأحكام واعتبار الكلام هو العمل عن قصد وهو الأمر الباطن الذي يحتاج إلى إقامة شيء مقامه لا حقيقة اليقظة وكأنه عبر باليقظة عن القصد واستعمال العقل لما بينهما من الملابسة والمراد أن السبب الظاهر إنما يقام مقام الشيء عند خفاء وجوده وعدمه وعدم القصد في النائم مدرك بلا حرج وكذا عدم الرضى في المكره

قوله كالبيع فإنه يعتمد القصد تصحيحا للكلام ويعتمد الرضى لكونه مما يحتمل الفسخ بخلاف الطلاق فإنه يبتني على القصد دون الرضى فلو أراد أن يقول سبحان اللّه فجرى على لسانه بعت هذا الشيء منك بكذا وقبله المخاطب وصدقه في أن البيع إنما جرى على لسانه خطأ فهو كبيع المكره ينعقد نظرا إلى أصل الاختيار لأن الكلام صدر عنه باختياره أو بإقامة البلوغ مقام القصد لكن يكون فاسدا غير نافذ لعدم الرضى حقيقة

(٢/٤١٣)

قوله

وأما الذي من غيره أي القسم الثاني من العوارض المكتسبة وهو الذي يكون من غير المكلف هو الإكراه وهو حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختار مباشرته لو خلي ونفسه فيكون معدما للرضى لا للاختيار إذ الفعل يصدر عنه باختياره لكنه قد يفسد الاختيار بأن يجعله مستندا إلى اختيار آخر وقد لا يفسد بأن يبقى الفاعل مستقلا في قصده وحقيقة الاختيار هو القصد إلى مقدور متردد بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر فإن استقل الفاعل في قصده فصحيح وإلا ففاسد وبهذا الاعتبار يكون الإكراه

إما ملجئا بأن يضطر الفاعل إلى مباشرة الفعل خوفا من فوات النفس أو ما هو في معناها كالعضو

وإما غير ملجئ بأن يتمكن الفاعل من الصبر من غير فوات النفس أو العضو وهو سواء كان ملجئا أو غير ملجئ لا ينافي أهلية الوجوب ولا الخطاب بالأداء لبقاء الذمة والعقل والبلوغ ولأن ما أكره عليه

إما فرض أو مباح أو رخصة أو حرام وكل ذلك من آثار الخطاب حتى أنه يؤخر على ذلك الفعل المكره عليه مرة كما إذا كان فرضا كالإكراه بالقتل على شرب الخمر ويأثم مرة أخرى كما إذا كان حراما كالإكراه على قتل مسلم بغير حق أو يؤجر على الترك في الحرام والرخصة ويأثم في الفرض والمباح وكل من الأجر والإثم إنما يكون بعد تعلق الخطاب والمراد بالإباحة أنه يجوز له الفعل ولو تركه وصبر حتى قتل لم يأثم ولم يؤجر وبالرخصة أنه يجوز له الفعل لكن لو صبر حتى قتل يؤجر عملا بالعزيمة وبهذا يسقط الاعتراض بأنه إن أريد بالإباحة أنه يجوز له الفعل ولو تركه وصبر حتى قتل لا يأثم فهو معنى الرخصة وإن أريد أنه لو تركه يأثم وهو معنى الفرض وقال الإمام البرغري رحمه اللّه تعالى إن فعل المكره مباح كالقتل والزنا وفرض كشرب الخمر وأكل الميتة ومرخص له كإجراء كلمة الكفر والإفطار وإتلاف مال الغير ولعل فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى إنما فرق بين كلمة الكفر والإفطار للفرق بينهما قبل الإكراه حيث تسقط حرمة الإفطار بالعذر كالسفر والمرض بخلاف حرمة كلمة الكفر فإنها لا تسقط قبل الإكراه بحال

قوله ولا الاختيار أي الإكراه ولا ينافي الاختيار لأنه حمل للفاعل على أن يختار ما هو أهون

(٢/٤١٤)

عند الحامل وأرفق له ويحتمل أن يريد ما هو أيسر على الفاعل من القتل والضرب ونحو ذلك مما أكره به

قوله وأصل الشافعي أي القاعدة التي قررها الشافعي رحمه اللّه تعالى في باب الإكراه هو أن الإكراه

إما أن يحرم الإقدام عليه وهو الإكراه بغير حق أو لا وهو الإكراه بحق والثاني لا يقطع الحكم عن فعل الفاعل كإكراه الحربي على الإسلام فيصح إسلامه بخلاف إكراه الذمي فإنه ليس بحق لقوله عليه السلام اتركوهم وما يدينون والأول

إما أن يكون عذرا شرعيا أو لا فإن كان عذرا شرعيا بأن يحل للفاعل على الإقدام على الفعل فهو يقطع الحكم عن فعل الفاعل سواء أكره على قول أو عمل لأن صحة القول بقصد المعنى وصحة الحكم باختياره والإكراه يفسد القصد والاختيار وأيضا نسبة الحكم للفاعل بلا رضاه إلحاق الضرر به وهو غير جائز لأنه معصوم محترم الحقوق والعصمة تقتضي أن يدفع عنه الضرر بدون رضاه لئلا يفوت حقوقه بدون اختياره ثم إذا قطع الحكم عن الفاعل فإن أمكن نسبة الفعل إلى الحامل أي المكره كالإكراه على إتلاف مال الغير نسب إليه وإن لم يمكن بطل الفعل كالإكراه على الإقرار وسائر الأقوال وإن لم يكن عذرا شرعيا بأن لا يحل له إقدام على الفعل كما إذا أكره على القتل أو الزنا لا يقطع الحكم عن الفاعل حتى يجب القصاص والحد على القاتل والزاني مكرهين

(٢/٤١٥)

قوله وطلاق المولي بالضم اسم الفاعل من الإيلاء يعني لو أكره المولي على التطليق بعد مضي مدة الإيلاء فطلق وقع الطلاق لأنه يستحق التفريق بعد مضي المدة كامرأة العنين بعد الحول فإذا امتنع عن ذلك كان الإكراه حقا

وأما قبل مضي المدة فالإكراه باطل فلا يقع الطلاق

قوله والإكراه بالقتل والحبس عنده أي الشافعي رحمه اللّه تعالى سواء لأن في الحبس ضررا كالقتل والعصمة تقتضي دفع الضرر قال الإمام محيي السنة الإكراه أن يخوفه بعقوبة تنال من بدنه لا طاقة له بها وكان المخوف ممن يمكن تحقيق ما يخوف بها فيدخل فيه القتل والضرب المبرح وقطع العضو وتخليد السجن لا إذهاب الجاه وإتلاف المال ونحو ذلك

قوله وأصلنا يعني أن الأصل المقرر عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى وأصحابه أن الإكراه إن كان ملجئا وعارض اختيار الفاعل اختيار صحيح من الحامل فإما أن يكون المكره عليه من قبيل الأقوال أو من قبيل الأفعال فإن كان من قبيل الأقوال فإن كان مما لا ينفسخ كالطلاق كان نافذا وإلا كان فاسدا كالبيع والأقارير وإن كان من قبيل الأفعال فإن لم يحتمل كون الفاعل آلة للحامل كالزنا كان مقتصرا على الفاعل وإن احتمل فإن لزم من جعله آلة تبديل محل الجناية كان مقتصرا على الفاعل كإكراه المحرم على قتل الصيد وإن لم يلزم نسب إلى الحامل ابتداء كالإكراه على إتلاف المال أو النفس والمراد بالإكراه الملجئ ما يكون التخويف بالقتل دون الحبس أو الضرب ومعنى إفساده الاختيار أن الإنسان مجبول على حب حياته وذلك يحمله على الإقدام على ما أكره عليه فيفسد اختياره من هذا الوجه ومعنى كون الفاعل آلة أن الحامل يمكنه إيجاد الفعل المطلوب بنفسه فإذا حمل عليه غيره بوعيد التلف صار كأنه فعل بنفسه وإن لم يمكنه مباشرة ذلك الفعل بنفسه يبقى مقصورا على الفاعل

(٢/٤١٦)

قوله فالأقوال كلها لا تحتمل ذلك يعني أن شيئا من الأقوال لا يحتمل كون الفاعل آلة للحامل عليه لامتناع التكلم بلسان الغير

وأما ما يقال من أن كلام الرسول كلام المرسل فهو مجاز إذ العبرة بالتبليغ وهو قد يكون مشافهة وقد يكون بواسطة وذكر في الطريقة البرغرية أنه لا نظر إلى التكلم بلسان الغير لأنه ممتنع غير متصور وإنما النظر إلى المقصود من الكلام وإلى الحكم فمتى كان في وسعه تحصيل ذلك الحكم بنفسه يجعل ذلك الغير آلة له ومتى لم يكن في وسعه ذلك لم يجعل غيره آلة فالرجل قادر على تطليق امرأته وإعتاق عبده فإذا وكل غيره يجعل فاعلا تقديرا واعتبارا بخلاف الحامل فإنه لا يقدر بنفسه على تطليق امرأة الغير وإعتاق عبد الغير فلا يصح أن يجعل الفاعل آلة

قوله فلأنه تنفيذ بالإكراه وهو يفسد الاختيار أولى يعني أن الإكراه دون الهزل وخيار الشرط في منع نفاذ التصرفات لأن كمال النفاذ بصحة اختيار السبب والحكم والرضى بهما جميعا ففي كل

(٢/٤١٧)

من الهزل وخيار الشرط قد انتفى الاختيار والرضى في جانب الحكم وإن وجدا في جانب السبب وفي الإكراه لم ينتف الاختيار في السبب ولا في الحكم لكنه فسد والفاسد ثابت من وجه بخلاف المعدوم من كل وجه فانتفاء شرائط كمال النفاذ في الإكراه أقل فهو بالقبول أجدر والنفاذ فيه أظهر واعترض المصنف رحمه اللّه تعالى بأن هاهنا أمورا أربعة هي اختيار السبب والحكم والرضى بهما ففي الهزل يوجد اختيار السبب والرضى به مع الصحة وينتفي اختيار الحكم والرضى به وفي الإكراه يوجد اختيار السبب والحكم مع الفساد وينتفي الرضى بهما ففي كل من الهزل والإكراه يوجد الاثنان من الأمور الأربعة لكن مع الصحة في الهزل ومع الفساد في الإكراه فلا يكون الإكراه أولى بالقبول والنفاذ والمصنف رحمه اللّه تعالى لم يتعرض لوجود اختيار الحكم في الإكراه ليتوهم غاية رجوحيته فيظهر قوة الاعتراض وعلى ما ذكرنا يمكن الجواب بأن في كل من الإكراه والهزل أمرين من الأمور الأربعة إلا أن الأمرين اللذين في الإكراه أقوى من جهة أن الحكم هو المقصود والسبب وسيلة إليه وأن الاختيار هو المعتبر في عامة الأحكام ونفاذ التصرفات والرضى قد يكون وقد لا يكون وفساد الاختيار لا يوجب المرجوحية لأن الفاسد بمنزلة الصحيح فيما لا يحتمل الفسخ لأنه إذا انعقد ينفذ ولا يحتمل تخلف الحكم

قوله وإذا اتصل أي الإكراه بقبول المال بأن أكرهت امرأة بوعيد تلف أو حبس على أن تقبل من زوجها الخلع على ألف درهم فقبلت ذلك منه وهي مدخول بها يقع الطلاق لأنه لم يتوقف إلا على القبول وقد وجد ولا يلزمها المال لأنه توقف على الرضا ولم يوجد كما إذا طلق الصغيرة فقبلت يقع الطلاق لوجود القبول ولا يلزمها المال لبطلان التزامها وإنما اشترط اتصال الإكراه

(٢/٤١٨)

بقبول المال أي أن يتحد محلهما بأن تكره المرأة لأنه لو أكره على تطليق امرأته على مال يقع الطلاق لأن الإكراه لا يمنع الطلاق ويلزمها المال لأنها التزمت المال طائعة بإزاء ما سلم لها من البينونة

أما إذا اتصل الهزل بقبول المال فيصح التطليق لكن يتوقف وقوع الطلاق على التزام المرأة المال وعلى الرضا به فإن التزمته وقع الطلاق ولزم المال وإلا فلا طلاق ولا مال وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه تعالى يقع الطلاق ويلزمها المال من غير توقف على الرضا وجه قول أبي حنيفة رحمه اللّه أنه قد تحقق في الهزل الرضا بالسبب دون الحكم فيصح التزام المال موقوفا على تمام الرضا بمنزلة خيار الشرط في جانب الزوجة فإنه لما دخل على الحكم فقط لم يمنع وجود الرضا بالسبب بل بالحكم فيتوقف وجود الحكم أعني وقوع الطلاق ولزوم المال على الرضا بالحكم فإن وجد ثبت وإلا فلا وإنما قال في جانبها لأن الخلع من جانب الزوج يمين فلا يقبل خيار الشرط ووجه قولهما أن الهزل يعدم الرضا والاختيار في الحكم دون السبب فيصح إيجاب المال بوجود الرضا في السبب وتحقيقه أن ما يدخل على الحكم دون السبب فهو لا يؤثر في الخلع بالمنع كشرط الخيار لأن أثره في المنع ولم يؤثر في أحد الحكمين وهو الطلاق بالمنع فلا يؤثر في الآخر وهو لزوم المال لأنه تابع فيتبع الطلاق ويلزم لزومه وما يدخل على السبب كالإكراه يؤثر بالمنع في المال دون الطلاق لأن المال في الخلع لا يجب إلا بالذكر فيه كالثمن في البيع فلا بد له من صحة الإيجاب لثبوت الثمن والداخل على السبب كالإكراه يمنع الإيجاب في البيع فكذا في الخلع والداخل على الحكم لا يمنعه في البيع لكن يمنع اللزوم وهنا لا يمنع اللزوم لأن الطلاق مقصود والمال تبع فحيث لا يمنع لزوم المتبوع لم يمنع لزوم التابع لأن حكم التابع يؤخذ من المتبوع أبدا

قوله وإن كانت أي الأقوال مما ينفسخ ويتوقف على الرضا تنعقد فاسدة

أما الانعقاد فلصدورها عن أهلها في محلها

وأما الفساد فلأن الرضا شرط النفاذ فلو أجاز التصرف بعد زوال الإكراه صريحا أو دلالة صح لزوال المعنى المفسد ثم الإكراه الملجئ كالإكراه بالقتل وغير الملجئ كالإكراه بالضرب سواء فيما ينفسخ ويتوقف على الرضا لأن الرضا منتف في النوعين فينتفي النفاذ والنظر في حد الإكراه من الضرب أو الحبس مفروض إلى رأي الحاكم

قوله وكذا أي مثل التصرفات التي لا تنفسخ الأقارير كلها من الماليات وغيرها في أنها تفسد بالإكراه الملجئ وغير الملجئ لأن الإقرار خبر يتمثل بين الصدق والكذب وإنما يوجب

(٢/٤١٩)

الحقوق باعتبار رجحان جانب الصدق أي وجود المخبر به فإذا تحقق الإكراه وعدم الرضى وهو دليل على الكذب أي عدم وجود المخبر به لم تثبت الحقوق

فإن قيل الإكراه يعارضه أن الصدق هو الأصل في المؤمن ووجود المخبر به هو المفهوم من الكلام فلا يقوم دليل على عدم المخبر به

قلنا المعارضة إنما تنفي المدلول لا الدليل فغاية ما في الباب أنه لا يبقى رجحان لجانب الصدق أو الكذب فلا تثبت الحقوق بالشك

قوله والأفعال منها ما لا يحتمل ذلك أي كون الفاعل آلة للحامل ومنها ما يحتمل فالأول يقتصر على الفاعل وذلك مثل الأكل والشرب حتى لا يرجع إلى الحامل شيء من أحكامهما المتعلقة بهما من حيث إنهما أكل أو شرب كما إذا أكره صائم صائما على الإفطار فإنه يبطل صوم الفاعل لا الحامل

وأما ما يتعلق بذلك من حيث إنه إتلاف كما إذا أكرهه على أكل مال الغير فقد اختلفت الروايات في أن الضمان على الفاعل أو على الحامل وكذا في الزنا لو أكرهه عليه كان العقر على الزاني لكن لو أتلفت الجارية بذلك ينبغي أن يكون الضمان على الحامل أي المكره والثاني وهو ما يحتمل كون الفاعل آلة للحامل قسمان لأنه

إما أن يلزم من جعله آلة تبديل محل الجناية أو لا

أما القسم الأول فيقتصر على الفاعل ولا يتعلق بالحامل إذ لو نسب إلى الحامل وجعل الفاعل بمنزلة الآلة عاد على موضعه بالنقض لأن تبديل محل الجناية يستلزم مخالفة الحامل لأنه إنما حمله بالإكراه على الجناية في ذلك المحل ومخالفة الحامل تستلزم بطلان الإكراه لأنه عبارة عن حمل الغير على ما يريده الحامل ويرضاه على خلاف رضا الفاعل وهو فعل معين في محل معين فإذا فعل غيره كان طائعا بالضرورة لا مكرها وأورد فخر الإسلام رحمه اللّه لذلك مثالين لأن تبديل محل الجناية قد لا يستلزم تبديل ذات الفعل وقد يستلزمه فالأول كما إذا أكره محرم محرما على قتل صيد فقتله يقتصر على الفاعل لأن الحامل إنما أكرهه على الجناية على إحرام نفسه فلو جعل الفاعل آلة للحامل لزم الجناية على إحرام الحامل لا إحرام الفاعل فلم يكن آتيا بما أكرهه عليه فلا يتحقق الإكراه

فإن قيل الاقتصار على الفاعل ينبغي أن يكون في حق الإثم فقط دون الجزاء إذ الكفارة تجب في الصورة المذكورة على كل من الفاعل والحامل

قلنا الفعل هاهنا هو قتل الصيد باليد والكفارة المترتبة على ذلك مقتصرة على الفاعل

وأما الكفارة الواجبة على الحامل فإنما هي مترتبة على قتل الصيد بإكراه الغير عليه كما في الدلالة عليه أو الإشارة إليه وتحقيق ذلك أن موجب الكفارة هو الجناية على الإحرام وكل من الفاعل والحامل جان على إحرام نفسه

أما الفاعل فبقتل الصيد بيده

وأما الحامل فبإكراه الغير عليه فالفعل الذي هو القتل باليد لم يتجاوز الفاعل في حق ما وجب به من الجزاء والثاني وهو ما يكون تبديل محل الجناية مستلزما لتبديل ذات الفعل كما إذا أكره الغير على بيع الشيء وتسليمه فيقتصر التسليم على الفاعل إذ لو نسب إلى الحامل وجعل الفاعل آلة لزم

(٢/٤٢٠)

التبديل في محل التسليم بأن يصير مغصوبا لأن التسليم من جهة الحامل يكون تصرفا في ملك الغير على سبيل الاستيلاء فيصير البيع والتسليم غصبا

أما إذا نسب التسليم إلى الفاعل وجعل متمما للعقد حتى إن المشتري يملك المبيع ملكا فاسدا لانعقاد البيع وعدم نفاذه فلا يلزم ذلك وقد يقال إن الفعل في المثالين المذكورين ليس مما يحتمل كون الفاعل آلة إذ لا يصح أن يجعل الشخص آلة للغير في القتل من حيث إنه جناية ولا في التسليم من حيث إنه إتمام للعقد لأنه لا يقدر أحد على الجناية على إحرام الغير ولا على تملك مال الغير وإتمام تصرفه وما ذكره فخر الإسلام رحمه اللّه تعالى من أنه لو جعل آلة لتبدل محل الجناية معناه أنه وإن لم يحتمل ذلك لكن لو فرض لبطل الإكراه والجواب أن المراد باحتمال الفعل كون الفاعل آلة أنه يحتمل ذلك في نفسه وبالنظر إلى صورته ولا خفاء في أن الفاعل في القتل والتسليم يصلح أن يكون آلة بمنزلة السيف والطرف وإنما يمتنع ذلك من حيث اعتبار الجناية وإتمام التصرف وهو أمر زائد على نفس الفعل

قوله والإعتاق وإن كان لا يحتمل ذلك يعني أن من التصرفات ما يتضمن معنيين يمكن نسبة أحدهما إلى الغير وكون الفاعل آلة ولا يمكن ذلك في الآخر كما إذا أكره الغير على إعتاق عبده من حيث إنه قول وتكلم بالصيغة ينسب إلى الفاعل إذ لا يحتمل كون الفاعل آلة فيصبح العتق لكونه صادرا عن المالك ومن حيث إنه إتلاف للمال ينسب إلى الحامل ويجعل الفاعل آلة لأن الإتلاف يحتمل ذلك بخلاف الأقوال فيجب للفاعل على الحامل قيمة العبد موسرا كان أو معسرا ويكون الولاء للفاعل لأنه بالإعتاق وهو مقتصر على الفاعل ولا يمتنع ثبوت الولاء لغير من وجب عليه الضمان كما في الرجوع عن الشهادة على العتق ثم لا يخفى أن إيراد هذا الكلام من غير هذا المقام أنسب

(٢/٤٢١)

قوله وإن لم يلزم منه هذا هو القسم الثاني وهو الذي لا يلزم من جعل الفاعل آلة تبديل محل الجناية كإتلاف المال والنفس وحكمه أن يضاف الحكم إلى الحامل ابتداء لا نقلا من الفاعل إليه على ما ذهب إليه بعض المشايخ فموجب الجناية من ضمان المال والقصاص والدية والكفارة يجب على الحامل ابتداء فلو أكرهه على رمي صيد فأصاب إنسانا فالدية على عاقلة الحامل والكفارة عليه ولو أكرهه على قتل الغير عمدا فعند زفر رحمه اللّه تعالى القصاص على الفاعل لأنه

(٢/٤٢٢)

قتل لإحياء نفسه عمدا وعند أبي يوسف رحمه اللّه تعالى لا قصاص على أحد بل الواجب الدية على الحامل في ماله في ثلاث سنين لأن القصاص إنما هو بمباشرة جناية تامة وقد عدمت في كل من الحامل والفاعل لبقاء الإثم في حق الآخر وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه تعالى القصاص على الحامل فقط لأن الإنسان مجبول على حب الحياة فيقدم على ما يتوصل به إلى بقاء الحياة بقضية الطبع بمنزلة آلة اختيارا لها كالسيف في يد القاتل فيضاف الفعل إلى الحامل

وأما في حق الإثم فالفاعل لا يصلح آلة لأنه لا يمكن لأحد أن يجني على دين غيره ويكتسب الإثم لغيره لأنه قصد القلب ولا يتصور القصد بقلب الغير كما لا يتصور التكلم بلسان الغير ولو فرضناه آلة يلزم تبدل محل الجناية حينئذ تكون على دين الحامل وهو لم يأمر الفاعل بذلك فينتفي الإكراه وإذا لم يمكن جعله آلة لزم نسبة الإثم إلى كل من الحامل والفاعل

أما الحامل فلقصده قتل نفس محترمة

وأما الفاعل فلإطاعته المخلوق في معصية الخالق وإيثاره نفسه على من هو مثله وتحقيقه موت المقتول بما في وسعه وفي هذا الكلام تصريح بأن لزوم تبدل محل الجناية على تقدير جعل الفاعل آلة مفروض فيما لا يحتمل كون الفاعل آلة ولو ذهبنا إلى أن نفس القتل يحتمل ذلك لم يكن لقوله لكن في الإثم لا يمكن جعله آلة معنى لأن المعبر في الاحتمال وعدمه هو نفس الفعل

قوله والحرمات أنواع ما مر كان حكم الأفعال المكره عليها في أنها بمن تتعلق وإلى من تنسب وهذا بيان الإقدام عند الإكراه على الأفعال التي لا يجوز الإقدام عليها عند الاختيار في أنه يكون حراما أو مباحا أو مرخصا فيه فالحرمات

إما أن تحتمل السقوط أو لا والثاني

إما أن تحتمل الرخصة أو لا فهي بهذا الاعتبار ثلاثة أنواع نوع لا يحتمل السقوط ولا الرخصة ونوع يحتمل السقوط ونوع يحتمل الرخصة فقط والثالث

إما أن يكون في حقوق اللّه تعالى أو في حقوق العباد وحقوق اللّه تعالى

إما أن تحتمل السقوط أو لا ولكل من هذه الأقسام حكم مبين في الكتاب

قوله والزنا يعني زنا الرجل بالمرأة لأنه الزاني حقيقة وإنما المرأة ممكنة من الزنا فزناها من قبيل ما يحتمل الرخصة

قوله لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده إذ في فوات النفس فوات اليد من غير عكس هذا بالنسبة إلى صاحبها

وأما بالنسبة إلى الغير فليس حرمة النفس فوق حرمة اليد لكن ليس حرمة يد

(٢/٤٢٣)

غيره فوق حرمة ذلك الغير حتى لو أكرهه بالقتل على قطع يد الغير لم يحل ذلك للفاعل ولو فعل كان آثما كما في الإكراه على القتل لأن طرف المؤمن في الحرمة بمنزلة نفسه في حق الغير حتى لا يحل للمضطر قطع طرف الغير ليأكله

وأما إلحاق الأطراف بالأموال فإنما هو في حق صاحبها لا في حق الغير فإن الناس يبذلون أموالهم صيانة لنفس الغير ولا يبذلون أطرافهم لذلك

قوله والزنا قتل

أما من جهة أن من لا نسب له بمنزلة الميت

وأما من جهة أنه لا تجب النفقة على الزاني لعدم النسب ولا على المرأة لعجزها عن ذلك فيهلك الولد والولد في صورة كون المرأة متزوجة وإن كان ينسب إلى الفراش وتجب نفقته على الزوج إلا أن الزوج ربما ينفي مثل هذا النسب فيهلك الولد

قوله والإكراه الملجئ يبيحها أي يبيح المحرمات حرمة تحتمل السقوط لأنه قد استثني عن تحريم الميتة ونحوها حالة الاضطرار بمعنى أنه لا تثبت الحرمة فيها فتبقى الإباحة الأصلية ضرورة والإكراه الملجئ بخوف تلف النفس أو العضو نوع من الاضطرار وإن اختص الإضرار بالمخمصة تثبت بالإكراه بدلالة النص لما فيه من خوف فوات النفس أو العضو فلو امتنع المكره عن أكل الميتة ونحوها حتى قتل كان آثما إن كان عالما بسقوط الحرمة وإن لم يعلم فيرجى أن لا يكون آثما كذا في المبسوط

وأما الإكراه الغير الملجئ فلا يبيح المحرمات لعدم الاضطرار لكنه يورث الشبهة حتى لو شرب الخمر بالإكراه الغير الملجئ لا يحد

قوله وحرمة لا تسقط هذا هو النوع الثالث من أنواع الحرمة وهي حرمة لا تحتمل السقوط بمعنى أنه لا يحل متعلقها قط لكن قد يرخص للعبد في فعله مع بقاء الحرمة وهي

إما في حقوق

(٢/٤٢٤)

اللّه تعالى أو في حقوق العباد بمعنى أن الحرام قد يكون بترك حق من حقوق اللّه تعالى غير محتمل للسقوط كالإيمان أو يحتمل له كالصلاة وقد يكون بترك حق من حقوق العباد كعدم التعرض لمال المسلم فالإكراه على إجراء كلمة الكفر على اللسان إكراه على حرام لا تسقط حرمته وهو ترك الإيمان الذي هو حق من حقوق اللّه تعالى غير محتمل للسقوط بحال وذلك لأن الكفر حرام صورة ومعنى حرمة مؤبدة وإجراء كلمة الكفر كفر صورة إذ الأحكام متعلقة بالظاهر فتكون حراما أبدا إلا أن الشارع رخص فيه بشرط اطمئنان القلب بالإيمان بقوله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان والإكراه على ترك الصلاة إكراه على حرام لا يحتمل السقوط لأن حرمة ترك الصلاة ممن هو أهل للوجوب مؤبدة لا تسقط بحال لكن الصلاة حق من حقوق اللّه تعالى محتمل للسقوط في الجملة بالأعذار وكذا الصوم والحج ونحو ذلك من العبادات

قوله وزنا المرأة من هذا القسم يعني إذا أكرهت المرأة على الزنا فتمكينها من الزنا حرام حرمة مؤبدة هي من حقوق اللّه تعالى المحتملة للسقوط فإن حرمة الزنا حق اللّه فرخص للمرأة مع بقاء الحرمة في الإكراه الملجئ ولا يرخص في غير الملجئ لكن يسقط الحد للشبهة وفي كون حرمة الزنا مما يحتمل السقوط نظر فالأولى أن يراد بقوله وزنا المرأة من هذا القسم أن حرمته من قبيل الحرمة التي لا تسقط لكن تحتمل الرخصة ثم لا يخفى أن

قوله وهي أي تلك الحرمة

إما في حقوق اللّه تعالى إلخ مشعر بأن تلك الحقوق تغاير تلك الحرمة ومتعلقاتها فإن الحرام هو إجراء كلمة الكفر وحق اللّه تعالى هو الإيمان وفي العبادات الحرام هو ترك الصلاة مثلا وحق اللّه تعالى هي الصلاة فيكون في

قوله فإن حرمة الزنا عليها حق اللّه تعالى تسامح والتحقيق أن العصمة من الزنا حق اللّه تعالى وتركها حرام حرمة لا تسقط أبدا لكن تحتمل الرخصة

قوله ويحد هو أي يحد الرجل المكره على الزنا إكراها غير ملجئ لأن الإكراه الملجئ لا يكون رخصة في حقه كما في حق المرأة حتى يكون غير الملجئ شبهة رخصة نعم لا يحد الرجل

(٢/٤٢٥)

في الإكراه الملجئ استحسانا لأن الحد للزجر ولا حاجة إليه عند الإكراه لأنه كان منزجرا إلى حين خوف فوات النفس أو العضو فالإقدام عليه رفع لذلك لا قضاء للشهوة وانتشار الآلة لا يدل على الطواعية لأنه قد يكون طبعا بالفحولة المركبة في الرجال

قوله

وأما في حقوق العباد عطف على

قوله

أما في حقوق اللّه تعالى فإتلاف مال المسلم حرام حرمة هي من حقوق العباد لأن عصمة المال ووجوب عدم إتلافه حق للعباد والحرمة متعلقة بترك العصمة كما ذكر في حرمة إجراء كلمة الكفر أن الإيمان حق اللّه تعالى ومعنى كون الحرمة فيه أنها متعلقة بتركه وتلك الحرمة أعني حرمة إتلاف مال المسلم لا تسقط بحال لأنه ظلم وحرمة الظلم مؤبدة لكنها تحتمل الرخصة حتى لو أكره على إتلاف مال المسلم إكراها ملجئا رخص فيه لأن حرمة النفس فوق حرمة المال لأنه مهان مبتذل ربما يجعله صاحبه صيانة لنفس الغير أو طرفه لكن إتلاف مال المسلم في نفسه ظلم وبالإكراه لا تزول عصمة المال في حق صاحبه لبقاء حاجته إليه فيكون إتلافه وإن رخص فيه باقيا على الحرمة فإن صبر على القتل كان شهيدا لأنه بذل نفسه لدفع الظلم كما إذا امتنع عن ترك الفرائض من العبادات حتى قتل إلا أنه لما لم يكن في معنى العبادات من كل وجه بناء على أن الامتناع عن الترك فيها من باب إعزاز الدين قيدوا الحكم بالاستثناء فقالوا كان شهيدا إن شاء اللّه تعالى ولما كانت الحرمة التي لا تسقط لكن تحتمل الرخصة في حقوق العباد مثلها في حقوق اللّه تعالى المحتملة للسقوط وحقوق الغير المحتملة له قال وحكمه حكم أخويه بمعنى أن حكم هذا القسم حكم القسمين السابقين اللذين هما قسمان لهذا القسم وبهذا يظهر أن في

قوله المراد بأخويه حرمة لا تحتمل السقوط وحرمة تحتمله لكن لم تسقط وهما حق اللّه تعالى تسامحا لأن احتمال السقوط وعدمه في القسمين السابقين إنما هو صفة الحقوق لا صفة الحرمة نفسها وذلك كالإيمان والصلاة فإن حرمة تركهما لا تسقط أصلا لكن نفس الصلاة تحتمل السقوط في الجملة بالأعذار بخلاف الإيمان

قوله ويجب الضمان أي يجب على من أكره غيره على إتلاف مال المسلم ضمان ما أتلف لأن المال معصوم حقا لصاحبه فلا يسقط بحال وهذا الحكم معلوم مما سبق أن في صورة الإكراه على إتلاف مال المسلم أو نفسه ينسب الفعل إلى نفس الحامل ويجعل الفاعل آلة إلا أن في ذكره هاهنا تصريحا بالمقصود وختما للكتاب على لفظ وجود العصمة عصمنا اللّه تعالى بعونه الكريم عن اتباع الهوى ووفقنا اللّه تعالى بلطفه العميم لسلوك طريق الهدى إنه ولي العصمة والتوفيق ومنه الهداية إلى سواء الطريق وقد اتفق صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة أحسن اللّه تعالى العقبى في اختتامها وأجرى الخيرات فيما بقي من شهورها وأيامها فراغ بنان البيان وأسنان الأقلام عن نظم ما جمعت من الفوائد ورقم ما سمعت من الفوائد وضبط ما ركبت له مطايا الفكر في ظمأ الهواجر واقتحمت له موارد السهر في ظلم الدياجر وودعت في بغيته حبيب الدعة ولذيذ الكرى وعند الصباح يحمد القوم السرى والحمد للّه على نعمه العظام ومنحه الجسام والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله وأصحابه البررة الكرام

(٢/٤٢٦)