Geri

   

 

 

İleri

 

فصل الهزل

وأما الهزل فتفسيره اللعب وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ليس المراد من الوضع هاهنا وضع أهل اللغة لا غير كالأسد للّهيكل المعلوم والإنسان للحيوان الناطق بل المراد وضع العقل أو الشرع فإن الكلام موضوع عقلا لإفادة معناه حقيقة كان أو مجازا والتصرف الشرعي موضوع لإفادة حكمه فإذا أريد بالكلام غير موضوعه العقلي وهو عدم إفادة معناه أصلا أريد بالتصرف غير موضوعه الشرعي وهو عدم إفادته الحكم أصلا فهو الهزل وتبين بما ذكرنا الفرق بين المجاز والهزل فإن الموضوع العقلي الكلام وهو إفادة المعنى في المجاز مرادا وإن لم يكن الموضوع له اللغوي مرادا وفي الهزل كلاهما ليس بمراد ولهذا فسره الشيخ باللعب إذ اللعب ما لا يفيد فائدة أصلا وهو معنى ما نقل عن الشيخ أبي منصور رحمه اللّه أن الهزل ما لا يراد به معنى وعبارة بعضهم أن الهزل كلام لا يقصد به ما صلح له الكلام بطريق الحقيقة ولا ما صلح له بطريق المجاز

وقوله وهو ضد الجد إشارة إلى أنه مخالف للمجاز كما أنه مخالف للحقيقة لأن مقابل المجاز الحقيقة ومقابل الهزل الجد والمجاز داخل في الجد كالحقيقة فكان الهزل مخالفا لهما ولهذا جاز المجاز في كلام صاحب الشرع ولا يجوز الهزل فيه لاستلزامه خلوه عن الإفادة وهو باطل فصار الهزل ينافي اختيار الحكم والرضاء به يعني لما كان تفسير الهزل ما قلنا إنه لا يرد به ما وضع له كان الهزل منافيا لاختيار الحكم والرضاء به ضرورة ولكنه لا ينافي الرضاء بمباشرة السبب واختيار المباشرة لأن الهازل يتكلم بما هزل به عن اختيار ورضاء فصار الهزل في جميع التصرفات بمنزلة خيار الشرط فإن الخيار بعدم الرضاء والاختيار

(٤/٤٩٦)

جميعا في حق الحكم لأن عمله في الحكم لا غير ولا يعدم الرضاء والاختيار في حق مباشرة السبب لأن

قوله بعت واشتريت يوجد برضاء العاقد واختياره فكذا في الهزل يوجد الرضاء والاختيار في حق السبب ولا يوجد في حق الحكم إلا أن الهزل في البيع يفسده وخيار الشرط لا يفسده على ما سنبينه وإنما جمع بين الرضاء والاختيار لأن الاختيار قد ينفك عن الرضاء كما في مسائل الإكراه وشرطه أي شرط ثبوت الهزل واعتباره في التصرفات أن يكون صريحا مشروطا باللسان بأن تقول إني أبيع هذا الشيء هازلا أو أتصرف التصرف الفلاني هازلا ولا يكتفى فيه بدلالة الحال

إلا أنه لا يشترط ذكر الهازل في العقد إذ لو شرط ذلك لا يحصل المقصود وهو أن يعتقد الناس التصرف الذي هزل به جدا ولا يكون كذلك حقيقة بخلاف خيار الشرط فإنه يشترط ذكره في نفس العقد ولا يكتفى باشتراطه باللسان قبل العقد لأنه لدفع الغبن ومنع الحكم عن الثبوت بعد انعقاد السبب ولا يحصل ذلك إلا بأن يكون متصلا بالعقد والتلجئة هي الهزل ذكر في المغرب أن التلجئة أن تلجئك إلى أن تأتي أمرا باطنه خلاف ظاهره فتكون التلجئة نوعا من الهزل والهزل أعم منها لأن اشتراطه قد يكون سابقا على العقد وقد يكون مقارنا له بأن نقول بعتك هازلا واشتراط التلجئة لا يكون إلا سابقا على العقد كذا قيل والأظهر أنهما سواء في الاصطلاح كما أشار إليه الشيخ وفي المبسوط معنى

قوله ألجئ إليك داري أجعلك ظهرا لا تمكن بجاهك من صيانة ملكي يقال التجأ فلان إلى فلان وألجأ ظهره إلى كذا والمراد هذا المعنى وقيل معناه أنا ملجأ مضطر إلى ما أباشره من البيع معك ولست بقاصد حقيقة لكنه الضمير للشأن لما كان أثر الهزل ما قلنا إنه ينافي اختيار الحكم والرضاء به فيجب تخريجها أي تخريج الأحكام مع الهزل على هذا الحد أي على انقسامها في حكم الرضاء والاختيار فكل حكم يتعلق بالسبب ولا يتوقف ثبوته على الرضاء والاختيار يثبت مع الهزل وكل حكم يتعلق بالرضاء والاختيار لا يثبت مع الهزل كما

(٤/٤٩٧)

سيأتيك بيانه

وذلك أي تخريج الأحكام مع الهزل بحسب انقسامها في الرضاء على وجوه فيما يحتمل النقض مثل البيع والإجارة أو فيما لا يحتمله مثل الطلاق والعتاق فهذا وجه إنما جعلهما وجها ليصير الجميع أربعة إذ أكثر تقاسيم الكتاب عليها

المواضعة الموافقة يقال واضعته في الأمر إذا وافقته عليه والتواضع هاهنا بمعنى التوافق على الشيء فانعقد العقد فاسدا غير موجب للملك وإن حصل القبض بخلاف ما إذا كان الفساد في البيع بوجه آخر حيث يوجب الملك عند القبض لأن الهزل ألحق بشرط الخيار وأنه يمنع ثبوت الملك في العقد الصحيح ففي العقد الفاسد أولى أن يمنع كخيار المتبايعين معا يعني إذا شرط الخيار لكل واحد من المتبايعين في العقد لا يثبت الملك به لواحد منهما لأن خيار كل واحد يمنع زوال ملكه عما في يده فكذا الهزل لأنهما لما اتفقا عليه صار كل واحد منهما هازلا فكان بمنزلة اشتراط الخيار لهما على احتمال الجواز متصل بقوله انعقد فاسدا فإن نقض العقد

أحدهما يعني في مسألة الهزل انتقضت لأن لكل واحد منهما ولاية النقض فينفرد به وإن أجازاه جاز لأن البيع إنما لم يكن مفيدا حكمه لعدم اختيارهما للحكم وقد اختار ذلك بالإجازة وإن أجاز

أحدهما وسكت الآخر لم يجز على صاحبه لأن الهزل لما كان بمنزلة اشتراط الخيار لهما كان المخير مسقطا خياره ولكن خيار الآخر يكفي في المنع من جواز العقد فإن أجاز صاحبه بعد فالبيع جائز لأنهما قد أسقطا خيارهما

وعند أبي حنيفة رحمه اللّه يجب أن يكون وقت الإجازة مقدرا بالثلاث حتى لو أجازاه في الثلاث صح العقد بعده لم يصح كما في الخيار المؤبد لو أسقطاه في الثلث يصح لتقرر الفساد بمضي المدة كذا هاهنا ولهذا أي ولأن الهزل بمنزلة خيار المتبايعين لم يقع الملك بهذا البيع هزلا وإن اتصل به القبض حتى لو كان المبيع عبدا فقبضه المشتري وأعتقه لا ينفذ لأن الملك غير

(٤/٤٩٨)

ثابت لعدم اختيارهما للحكم بالقصد إلى الهزل فيتوقف الحكم على اختيارهما له فقبل الاختيار لا ملك للمشتري فلا ينفذ إعتاقه بخلاف المشتري من المكره مختارا للحكم غير راض به لأن الحكم للجد من الكلام وإنما أكره على الجد وأجاب إلى ذلك فلهذا ينفذ إعتاقه بعد القبض حتى لو كان أكره على بيع تلجئة فباعه لم يجز إعتاق المشتري فيه أيضا ودلالة هذه الجملة أي الدليل على ما ذكرنا أن الهزل لا ينافي الأهلية ولا الاختيار والرضاء بمباشرة السبب أن الهزل لا يؤثر في النكاح بالنسبة وهي

قوله عليه السلام ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين فعلم به أي بعدم تأثيره في النكاح أنه لا ينافي الإيجاب أي السبب إذ لو كان منافيا لنفس الكلام وانعقاده سببا لما صح النكاح لأنه لا ينعقد بالكلام الفاسد ألا ترى أنه لا ينعقد بعبارة المجنون لفسادها فعلم أن كلام الهازل صحيح في انعقاده سببا

قوله

وأما إذا اتفقا على الإعراض عن المواضعة فالبيع صحيح لازم لأن تلك المواضعة لم تكن لازمة فترتفع بما قصدا من الجد ألا ترى أن العقد بعد العقد يكون ناسخا للعقد الأول فالعقد بعد المواضعة أولى أن يكون ناسخا لها وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء عند العقد أو اختلفا في البناء والإعراض فقال

أحدهما بنينا على تلك المواضعة وقال الآخر بل أعرضنا عنها فإن العقد صحيح عند أبي حنيفة رحمه اللّه في الحالين أي فيما إذا لم يحضرهما شيء وفيما إذا اختلفا فإن العقد باطل أي فاسد إلا أن يوجد النص على ما ينقضها وهو اتفاقهما على الإعراض كذلك أي كما بينا أن العقد صحيح

قوله أي قول أبي حنيفة رحمه اللّه في كتاب الإقرار لكن أبا يوسف قال قال أبو

(٤/٤٩٩)

حنيفة رحمهما اللّه فيما أعلم يعني ذكر أبو يوسف لفظة فيما أعلم حين روى قول أبي حنيفة وذلك لا يوجب شكا في الرواية لأن من مذهب أبي يوسف رحمه اللّه أن من قال لفلان علي ألف درهم فيما أعلم أنه لازم لأنه يخبر عن واجب عليه والإنسان يعرف حقيقة الحال فيما عليه فكان

قوله فيما أعلم بمنزلة

قوله فيما أتيقن به وكان الإخبار عن نفسه بالعلم مؤكدا لإقراره لا مبطلا له فكذلك هاهنا يكون

قوله فيما أعلم تأكيدا للرواية أنه يخبر عن تحقق لا تشكيكا فيكون الخلاف ثابتا في المسألتين ومنهم أي ومن المشايخ من اعتبر هذا أي

قوله فيما أعلم هاهنا بقول الشاهد أشهد أن لهذا على هذا ألف درهم فيما أعلم أنه أي قول الشاهد باطل بالاتفاق لأن

قوله فيما أعلم استثناء ليقينه وبيان لشكه بمنزلة فيما أحسب أو أظن فكذا هاهنا يكون

قوله فيما أعلم تشكيكا لأن الرواية عن الغير كالشهادة عليه فلم يثبت الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم اللّه لأن ما روي لما لم يثبت للشك والأصل هو الموافقة لم يثبت الاختلاف فيكون البيع فاسدا في المسألتين بالاتفاق

والصحيح هو الأول وهو أن

قوله هاهنا للتحقيق لا للتشكيك فكان الاختلاف ثابتا لأن المعلى روى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم اللّه مطلقا أن البيع جائز ولأن اعتبار

قوله هاهنا فيما أعلم بمسألة الإقرار أولى من اعتباره بمسألة الشهادة لأن الإقرار إخبار محض عما كان ثابتا في الزمان الماضي ولم يشترط لصحته زيادة توكيد والرواية مثله فتلحق به فأما الشهادة ففيها معنى الإلزام ويشترط فيها زيادة توكيد حتى اختصت بلفظة الشهادة الدالة على المعاينة وحضور الحادثة ولا تتأدى بلفظة أعلم أو أتيقن فكان قول الشاهد فيما أعلم موهما للشك في الشهادة فلذلك ترد الشهادة كذا في بعض الشروح

وقوله فيما أعلم ملحق برواية أبي يوسف لا بفتوى أبي حنيفة رد لما زعم بعض المشايخ أنه ملحق بجواب أبي حنيفة لا بكلام أبي يوسف رحمهما اللّه حتى قال الإمام خواهر زاده رحمه اللّه في هاتين المسألتين قال أبو حنيفة رحمه اللّه في كتاب الإقرار البيع جائز فيما أعلم

وذكر في كتاب الإكراه أن البيع جائز على قول أبي حنيفة فيما يعلمه أبو يوسف رحمهما اللّه وقالا البيع فاسد فألحق

قوله

(٤/٥٠٠)

فيما أعلم بقول أبي حنيفة وعلى تقدير أن يكون ملحقا بقوله لا يكون الاختلاف ثابتا لأن من مذهبه أن

قوله فيما أعلم موجب للشك في جميع المواضع فلا يثبت

قوله مع التردد والشك

كما لو قال أنا أشك في جواب هذه المسألة فلا يثبت الاختلاف وغرض الشيخ رحمه اللّه إثبات الاختلاف فقال هو ملحق برواية أبي يوسف وقد تبين أن عنده هذا اللفظ لا يوجب شكا في الرواية فيكون الاختلاف ثابتا فصار كأن أبا يوسف قال إن فيما أتيقن وأعلم ما قال أبو حنيفة رحمه اللّه في هاتين المسألتين أن البيع جائز وجه قول أبي حنيفة رحمه اللّه أن الأصل في العقود الشرعية الصحة واللزوم وإنما يتغير لعارض فمن ادعى عدم البناء على المواضعة فهو متمسك بالأصل فكان القول

قوله وكان دعوى الآخر البناء على المواضعة كدعواه خيار الشرط فلا يقبل يوضحه أن تلك المواضعة لم تكن لازمة بل ينفرد

أحدهما بإبطالها فإعراض

أحدهما عن تلك المواضعة كإعراضهما وإذا بطلت المواضعة بقي العقد صحيحا ثم اختلافهما في بناء العقد على المواضعة بمنزلة اختلافهما في أصل المواضعة ولو ادعى

أحدهما المواضعة السابقة وجحده الآخر كان القول قول المنكر وكان البيع صحيحا حتى تقوم البينة للآخر على هذا القول منهما فكذا إذا اختلفا في البناء عليها

وفيما إذا اتفقا على أنه لم يحضرهما شيء إنما صح البيع لأن مطلقه يقتضي الصحة والمواضعة السابقة لم تذكر في العقد فلا تكون مؤثرة فيه

كما لو تواضعا على شرط خيار أو أجل ولم يذكرا ذلك في العقد لم يثبت الخيار والأجل فهذا مثله وهو معنى

قوله العقد المشروع لإيجاب حكمه في الظاهر جد أي العقد شرع لإيجاب حكمه وهو الملك في الأصل وهو في الظاهر جد هاهنا لعدم اتصال الهزل به نصا فهو أي الجد أولى بالتحقيق لكونه أصلا من المواضعة التي هي عارضة وجه قولهما أن الظاهر يشهد لمن يدعي البناء على المواضعة لأنهما ما تواضعا إلا ليبنيا عليه صونا للمال عن يد المتغلب فيكون فعلهما بناء على تلك المواضعة باعتبار الظاهر ما لم يتحقق خلافه لأنه إذا لم يجعل بناء عليها كان اشتغالهما بها اشتغالا بما لا يفيد ولو سلمنا أن الظاهر هو الصحة كما قال أبو حنيفة رحمه اللّه كان هذا الظاهر معارضا له فترجح السابق منهما إذ السبق من أسباب الترجيح وذلك لأن حالة الهزل لم يعارضها شيء فثبت حكمه بلا معارض والسكوت في حالة العقد أو الاختلاف في البناء والإعراض لا يصلح معارضا لأنه غير متعرض للجد ولا للّهزل فلذلك وجب العمل بالسابق

والجواب لأبي

(٤/٥٠١)

حنيفة رحمه اللّه أن الآخر يصلح ناسخا للأول إذا لم يتصل به ما يوجب تغيره نصا لأن الجد هو الأصل في الكلام شرعا وعقلا وكما يجب حمل الكلام عليه إذا لم تسبقه مواضعة على الهزل يجب حمله عليه إذا سبقه مواضعة إن أمكن عملا بالأصل وقد أمكن هاهنا لخلوه عن الهزل نصا وعدم اتفاقهما على البناء على الهزل فيحمل عليه ويجعل ناسخا للمواضعة السابقة لأنها تحتمل الإبطال

بخلاف ما إذا اتفقا على البناء على المواضعة لوجود التصريح بالعمل بخلاف موجب الشرع والعقل فلا يمكن الحمل على الصحة والتسمية صحيحة عند أبي حنيفة رحمه اللّه حتى ينعقد البيع بألفين عنده وهو أصح الروايتين عنه وفي الرواية الأخرى ينعقد البيع بينهما بألف والألف الذي هزلا به باطل وهو قولهما لما ذكرنا من الأصل يعني من الجانبين فإن عنده الأصل هو الجد والعمل به أولى ما أمكن وعندهما الأصل هو المواضعة فكان العمل بها أحق عند الإمكان

قوله

وأما إذا اتفقا على البناء على المواضعة فإن الثمن ألفان عند أبي حنيفة رحمه اللّه أيضا في إحدى الروايتين عنه وهي رواية كتاب الإقرار وهي الأصح وعندهما ينعقد البيع بألف درهم وهو رواية محمد في الإملاء عن أبي حنيفة رحمهما اللّه لأنهما قصدا السمعة بذكر أحد الألفين ولا حاجة في تصحيح العقد إلى اعتبار تسميتهما الألف الذي هزلا به فكان ذكره والسكوت عنه سواء كما في النكاح ولأبي حنيفة رحمه اللّه أن المواضعة السابقة إنما تعتبر إذا لم يوجد منهما ما يدل على الإعراض عنها وقد وجد هاهنا ما يدل عليه لأنهما جدا في أصل العقد وقصدا بيعا جائزا ولو اعتبرت المواضعة في البدل لصار العقد فاسدا لأن أحد الألفين غير داخل في العقد فيصير قبول العقد فيه شرطا لانعقاد البيع بألف ويصير كأنه قال بعتك بألفين على أن لا يجب أحد الألفين لأن عمل الهزل في منع الوجوب لا في الإخراج بعد الوجوب بمنزلة شرط الخيار وهذا شرط فاسد لأنه ليس من مقتضيات العقد وفيه نفع لأحد المتعاقدين أو لهما فيفسد به العقد كما إذا جمع بين حر وعبد في البيع وفصل الثمن

وإذا كان كذلك لم يمكن العمل بما قصدا من تصحيح العقد وهو المراد بالمواضعة في أصل العقد مع العمل بالمواضعة في البدل لاندفاع

(٤/٥٠٢)

كل واحد من المواضعتين بالأخرى فكان العمل بالمواضعة في أصل العقد وهي أن ينعقد البيع صحيحا عند تعارض المواضعتين أولا من العمل بالمواضعة في الوصف وهي أن لا يجب الألف الثاني لأن الوصف تابع والأصل متبوع فكان هو أولى بالاعتبار من الوصف ودليل كون الثمن بمنزلة الوصف قد مر في باب النهي وإذا كان العمل بالأصل أولى وجب اعتبار التسمية فكان الثمن ألفين بخلاف تلك المواضعة يعني المواضعة على الهزل بأصل العقد إذا اتفقا على البناء حيث العمل بها بالاتفاق لأنه لم يوجد هناك معارض يمنع عن العمل بها وقد وجد المعارض هاهنا وهو قصدهما إلى تصحيح العقد فلذلك سقط العمل بها وقد ذكر أبو يوسف رحمه اللّه في هذا الفصل أي في الهزل بقدر البدل في روايته قول أبي حنيفة رحمه اللّه فيما أعلم كما ذكره في الفصل الأول وهو الهزل بأصل العقد ولكن المعلى روى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم اللّه

قوله مطلقا من غير قيد فيحتمل

قوله فيما أعلم على التحقيق لا على التشكيك

قوله

وأما إذا تواضعا على البيع بمائة دينار على أن يكون الثمن ألف درهم فإن البيع جائز بالمسمى بالاتفاق على كل حال سواء اتفقا على الإعراض أو على البناء أو على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا وهذا استحسان وفي القياس البيع فاسد لأنهما قصدا الهزل بما سميا ولم يذكرا في العقد ما قصدا أن يكون ثمنا ولا يكتفى بالذكر قبل العقد بل يشترط ذكر البدل فيه فبقي البيع بلا ثمن وجه الاستحسان أن البيع لا يصح إلا بتسمية البدل وهما قصدا الجد في أصل العقد هاهنا فلا بد من تصحيحه وذلك بأن ينعقد البيع بما سميا من البدل يوضح ما ذكرنا أن المعاقدة بعد المعاقدة في البيع إبطال للعقد الأول فإنهما لو تبايعا بمائة دينار ثم تبايعا بألف درهم كان البيع الثاني مبطلا للأول فكذلك يجوز أن يكون البيع بعد المواضعة بخلاف جنس ما تواضعا عليه مبطلا للمواضعة كذا في المبسوط ففرق أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه بين هذا أي بين الهزل في جنس البدل وبين الهزل في قدره وقالا ينعقد البيع هناك بالألف لأن العمل بالمواضعتين وهما

(٤/٥٠٣)

المواضعة على صحة أصل العقد والمواضعة على الهزل في مقدار البدل ممكن بأن يجعل العقد منعقدا بألف وإن كان المسمى ألفين لأن الألف في الألفين موجود والهزل بالألف الآخر شرط لا طالب له لأنهما وإن ذكراه في العقد لا يطلبه واحد منهما لاتفاقهما على أنه هزل وليس لغيرهما ولاية المطالبة وكل شرط لا طالب له من جهة العباد لا يفسد به العقد كما إذا اشترى فرسا على أن يعلفه كل يوم كذا منا من الشعير أو اشترى حمارا على أن لا يحمل عليه أكثر من كذا منا من الحنطة لا يفسد به العقد كذا هنا

وهو جواب عن كلام أبي حنيفة رحمه اللّه وإذا كان كذلك ينعقد البيع بألف ويبطل الآخر فأما هاهنا أي في الهزل بجنس البدل فالعمل بالمواضعة في العقد وهي أن يقع العقد صحيحا مع المواضعة بالهزل أي مع العمل بها غير ممكن لما ذكر فصار العمل بالمواضعة في العقد وهي أن ينعقد صحيحا أولى لأن العقد أصل والثمن تبع ولا يمكن العمل بها إلا باعتبار التسمية فلذلك انعقد البيع على الدنانير المسماة لا على الدراهم

قوله أما فيما لا يحتمل النقض أي لا يجري فيه الفسخ والإقالة بعد ثبوته فكذا لا مال فيه أصلا أي لا يثبت المال فيه بدون الشرط والذكر ولم يذكر أيضا

قوله عليه السلام ثلاث جدهن جد الحديث ففي المنصوص عليه الحكم ثابت بالنص وفي الباقي ثابت بالدلالة لا بالقياس كذا قيل وحكم هذه الأسباب أي العلل لا يحتمل الرد والتراخي أي لا يحتمل الرد بالإقالة والفسخ ولا التراخي بخيار الشرط وبالتعليق بسائر الشروط لأن خيار الشرط لا يؤثر في هذه الأشياء بل يبطل والتعليق بسائر الشروط يؤخر السبب بحكمه إلى حين وجود الشرط ولا يلزم عليه الطلاق المضاف فإنه سبب في الحال وقد تراخى حكمه لأنا نقول المراد من الأسباب العلل والطلاق المضاف سبب مفض إلى الوقوع وليس بعلة في الحال ولهذا لا يستند حكمه إلى وقت الإيجاب ولو كان علة لاستند كما في البيع بشرط الخيار فثبت أن هذه الأسباب لا تقبل الفصل عن أحكامها فلا يؤثر فيها الهزل كما لا يؤثر خيار الشرط لأن الهزل لا يمنع من انعقاد السبب وإذا انعقد وجد

(٤/٥٠٤)

حكمه لا محالة بخلاف البيع فإنه يقبل الرد والفسخ وحكمه يقبل التراخي عنه بشرط الخيار فلا جرم أثر فيه الهزل ألا ترى أنه أي هذا النوع

قوله أما الهزل بأصله فباطل وصورته أن يقول لامرأة إني أريد أن أتزوجك بألف تزوجا باطلا وهزلا ووافقته المرأة ووليها على ذلك وحضر الشهود هذه المقالة ثم تزوجها كان النكاح لازما في القضاء وفيما بينه وبين اللّه تعالى بما سميا من المهر للحديث ولما ذكرنا أن الهزل إنما يؤثر فيما يحتمل الفسخ بعد تمامه والنكاح غير محتمل للفسخ ولهذا لا يجري فيه الرد بالعيب وخيار الرؤية فلا يؤثر فيه الهزل

وأما الهزل بالقدر فيه أي بقدر البدل في النكاح بأن يقول لامرأة ووليها أو قال لوليها دونها إني أريد أن أتزوجك أو أتزوج فلانة بألف درهم وأظهر في العلانية ألفين وأجابه الولي أو المرأة إلى ذلك فتزوجها على ألفين علانية كان النكاح جائزا بكل حال والمهر ألفان إن اتفقا على الإعراض وألف بالاتفاق إن اتفقا على البناء لأنهما قصدا الهزل بذكر أحد الألفين والمال مع الهزل لا يجب بخلاف مسألة البيع عند أبي حنيفة رحمه اللّه في هذا الوجه حيث يجب تمام الألفين عنده لأن ذكر أحد الألفين على وجه الهزل بمنزلة شرط فاسد والشرط الفاسد يؤثر في البيع ولا يؤثر في النكاح لا في أصل العقد ولا في الصداق كذا في المبسوط أن النكاح جائز بألف بخلاف البيع حيث ينعقد بألفين في هاتين الصورتين لأن المهر تابع في النكاح إذ المقصود الأصلي فيه ثبوت الحل في الجانبين الذي به يحصل التناسل وإنما شرع المال فيه إظهارا لخطر المحل لا مقصودا ولهذا يصح النكاح بدون ذكر المهر ويتحمل فيه من الجهالة ما لا يتحمل في غيره

فلا يجعل أي المهر مقصودا بالصحة أي بصحة التسمية بأن يرجح جانب الجد على الهزل إذ لو اعتبرت صحة التسمية فيه كما في البيع وجعل المهر ألفين لصار المهر بنفسه مقصودا بالصحة إذ أصل النكاح صحيح بلا شبهة لعدم تأثير الهزل فيه ولعدم افتقاره في الصحة إلى

(٤/٥٠٥)

ذكر المهر وهو لا يصلح مقصودا فيه بخلاف الثمن في البيع فإنه مقصود فيه بالصحة لأنه أحد ركني البيع ولهذا يفسد البيع بفساده وجهالته كما يفسد بفساد المبيع وجهالته ولا يصح البيع بدون ذكره وإذا كان مقصودا وجب تصحيحه بترجيح جانب الجد على الهزل إذا أمكن ولا يقال الثمن تابع في البيع أيضا لأنه بمنزلة الوصف على ما مر لأنا نقول وهو تابع بالنسبة إلى المبيع في محلية البيع ولكنه مقصود بالنسبة إلى البائع إذ لا غرض له في البيع سوى حصول الثمن ولهذا كان أحد ركني البيع لأنه مبادلة مال بمال ولا يتحقق المبادلة بدونه إلا أنه ركن زائد كالقراءة في الصلاة مع سائر الأركان والإقرار مع التصديق في الأيمان فأما المهر في النكاح فليس بمقصود أصلا لأن الغرض منه ثبوت الحل في الجانبين كما بينا فلذلك افترقا

وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما اللّه أن المهر ألفان في هذين الوجهين كما في البيع لأن التسمية في الصحة مثل ابتداء البيع أي التسمية بالمهر في حكم الصحة وافتقاره إليها مثل ابتداء البيع من حيث إن التسمية في النكاح لا تثبت إلا قصدا ونصا كابتداء البيع لا يثبت إلا قصدا ونصا وكذا الجهالة الفاحشة تمنع صحتها كما تمنع صحة البيع وكذا الهزل يؤثر فيها بالإفساد كما يؤثر في ابتداء البيع وفي ابتداء البيع أي فيما هزلا بأصل البيع واتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا جعل أبو حنيفة رحمه اللّه العمل بصحة الإيجاب في الصورتين أولى من العمل بالمواضعة ترجيحا للصحة على الفساد فكذلك هذا أي فكالبيع المهر لأن الهزل مؤثر في تسميته بالإفساد كما في البيع وهذا أصح لأن فيه إهدار جانب الهزل واعتبار الجد الذي هو الأصل في الكلام

قوله وإن اتفقا على البناء وجب مهر المثل بالإجماع لأنهما قصدا الهزل بما سمياه في العقد ومع الهزل لا يجب المال وما تواضعا على أن يكون صداقا بينهما لم يذكراه في العقد والمسمى لا يثبت بدون التسمية فإذا لم يثبت واحد منهما صار كأنه تزوجها على غير مهر فيكون لها مهر مثلها بخلاف فصل الألف والألفين لأن هناك قد سميا ما تواضعا على أن يكون مهرا وزيادة لأن في تسمية الألفين تسمية الألف وبخلاف البيع لأن البيع لا يصح إلا بتسمية الثمن فيجب الإعراض عن المواضعة واعتبار التسمية ضرورة والنكاح يصح بلا تسمية فيمكن العمل بالمواضعة وتؤثر في فساد التسمية

وإن

(٤/٥٠٦)

اتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فعلى رواية محمد وجب مهر المثل بلا خلاف لأن المهر تابع فيجب العمل بالهزل لئلا يصير مقصودا بالصحة إذ لا حاجة لانعقاد النكاح إلى صحته كما في الألف والألفين في هذين الوجهين وإذا وجب العمل بالهزل بطلت التسمية فيبقى النكاح بلا تسمية فيجب مهر المثل وعلى رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما اللّه يجب المسمى وبطلت المواضعة كما في البيع لأن التسمية في حكم الصحة مثل ابتداء البيع إلى آخر ما بينا

قوله

وأما الذي يكون المال فيه مقصودا إنما كان المال في هذا القسم مقصودا لأن المال لا يجب فيه بدون الذكر فلما شرطا المال فيه علم أنه فيه مقصود فإن ذلك على هذه الأوجه أيضا يعني الأوجه الثلاثة المنقسمة على اثني عشر وجها فإنهما إما إن هزلا بأصل التصرف أو بقدر البدل فيه أو بجنسه وكل وجه على أربعة أوجه فإن هزلا بأصله الضمير راجع إلى الذي بان طلق امرأته على مال أو خالعها بطريق الهزل أو أعتق عبده على مال على وجه الهزل أو صالح عن دم العمد هازلا وقد تواضعا قبل ذلك على أنه هزل ثم اتفقا على البناء فقد ذكر في كتاب الإكراه في الخلع لأن الطلاق واقع والمال لازم من غير ذكر خلاف

قال الشيخ رحمهم اللّه وهذا الجواب عندنا أراد به نفسه قول أبي يوسف ومحمد فأما عند أبي حنيفة رحمه اللّه فالطلاق لا يقع لأن الهزل بمنزلة خيار الشرط لما مر

وقد نص عن أبي حنيفة رحمه اللّه يعني في الجامع الصغير إلى آخره فقد ذكر فيه رجل قال لامرأته أنت طالق ثلاثا على ألف درهم على أنك بالخيار ثلاثة أيام فقالت قبلت إن ردت الطلاق في الثلاثة الأيام بطل الطلاق وإن اختارت الطلاق في الثلاثة الأيام أو لم ترد حتى مضت المدة فالطلاق واقع والألف لازم للزوج

وأما على قولهما فالطلاق واقع والمال لازم والخيار باطل لأن قبولها شرط لليمين فلا يحتمل الخيار كسائر الشروط ولأبي حنيفة رحمه اللّه إن جانبها يشبه البيع لأنه تمليك مال بعوض

ألا ترى أن البداية لو كانت من جانبها فرجعت قبل قبول الزوج صح رجوعها ولو قامت عن مجلسها قبل قبول الزوج

(٤/٥٠٧)

بطل كما في البيع وإنما جعل ذلك شرطا في حق الزوج فأما في نفسه فهو تمليك مال جعل شرطا بهذا الوصف كرجل قال لآخر إن بعتك هذا العبد بكذا فعبدي هذا الآخر حر إنه معلق بالمعارضة فكذلك هذا وإذا كان كذلك ثبت فيه الخيار فإذا بطل بحكم الخيار بطل كونه شرطا لأن كونه شرطا بهذا الوصف وهو أنه تمليك مال كذا في شرح الجامع الصغير للمصنف رحمه اللّه وهو المراد من

قوله لما عرف ثمة أي في الموضع الذي نص عليه فيه فكذلك هذا أي مثل الخيار الهزل يكون على الاختلاف لكنه أي لكن خيار الشرط غير مقدر بالثلاث في الخلع وأمثاله عنده حتى لو اشترطا الخيار أكثر من ثلاث جاز بخلاف البيع لأن الشرط في باب الخلع على وفاق القياس إذ الطلاق من الإسقاطات وتعليقها بالشروط جائز مطلقا فلا يجب التقدير بمدة

أما الشرط في البيع فعلى خلاف القياس لأنه من الإثباتات وتعليقها بالشروط لا يجوز لكنه ثبت فيه بالنص مقدرا بالثلث فيجب اعتبار هذه المدة ويبطل اشتراط الخيار فيما وراء الثلاث عملا بالقياس كذا في بعض الشروح فعلى هذا لا يبطل خيار المرأة فيما نحن فيه بمضي الثلاث لأن الهزل بمنزلة شرط الخيار مؤبدا فيكون لها خيار ثابت فيما فوق الثلاث كما هو ثابت لها في الثلاث فكان لها ولاية النقض والإثبات متى شاءت عند أبي حنيفة رحمه اللّه وعندهما يبطل الهزل ولقائل أن يقول ينبغي أن يكون الخيار مقدرا بالثلاث في الخلع وأمثاله لأن ثبوته في جانب من وجب عليه المال باعتبار معنى المعاوضة لا باعتبار معنى الطلاق وإذا كان كذلك وجب أن يتقدر بالثلاث كما في حقيقة البيع ويمكن أن يجاب عنه بأن المال وإن كان مقصودا فيه بالنظر إلى العاقد لكنه تابع في الثبوت للطلاق الذي هو مقصود العقد كمال الثمن تابع في البيع وبالنظر المقصود يلزم أن لا يتقدر بالثلاث كما بينا وإن هزلا بالكل أي بأصل التصرف والبدل جميعا لكنهما أعرضا عن المواضعة وقع الطلاق ووجب المال بالإجماع أما عندهما فظاهر إذ الهزل لا يمنع من وقوع الطلاق ووجوب المال

وأما عنده فكذلك لبطلان الهزل باتفاقهما على الإعراض عنه وإن اختلفا فالقول قول من يدعي الإعراض عند أبي حنيفة رحمه اللّه حتى لزم التصرف ووجب المال

(٤/٥٠٨)

لأنه جعل الهزل مؤثرا في أصل الطلاق بالمنع من الوقوع كما جعله مؤثرا في البيع ثم عند اختلاف المتعاقدين في البيع يعتبر قول من يدعي الإعراض ترجيحا للجد الذي هو أصل عنده على الهزل الذي هو خلاف الأصل وكذلك هاهنا وعندهما هو أي التصرف جائز أي لازم والمال واجب

ولا يفيد الاختلاف أي اختلاف المتعاقدين في البناء على الهزل والإعراض عنه لأن الهزل عندهما لا يؤثر في أصل التصرف ولا في المال في حال اتفاقهما على البناء ففي حال الاختلاف أولى وإن سكتا ولم يحضرهما شيء فالتصرف جائز لازم حتى وقع الطلاق ولزم المال بالإجماع لبطلان الهزل عندهما ولرجحان الجد عنده فصار الجواب في الفصلين واحدا وحصل الاتفاق على الجواب فيهما مع اختلاف التجرع

قوله فإن اتفقا على البناء فعندهما الطلاق واقع لأن الهزل لا يؤثر فيه بالمنع عندهما مع أنهما جادان في أصل التصرف والمال كله لازم لأن الهزل وإن كان مؤثرا في المال لكن المال ثابت في ضمن الخلع تبعا فلا يؤثر فيه الهزل إذ العبرة للمتضمن لا للمتضمن كالوكالة الثابتة في ضمن عقد الرهن تلزم بلزومه فلذلك يجب تمام المسمى فإن قيل لا يستقيم جعل المال في هذا النوع تبعا لأنه سماه فيه مقصودا ب

قوله

وأما الذي يكون المال فيه مقصودا ولئن سلمنا أنه فيه تبع لا نسلم أن الهزل لا يؤثر فيه كما لا يؤثر في أصله لأن المال في النكاح تابع وقد أثر الهزل فيه حتى كان المهر ألفا فيما إذا هزلا فيه بقدر البدل دون الألفين كما مر بيانه قلنا المال هاهنا مقصود بالنظر إلى العاقد

فأما في حق الثبوت فهو تابع للطلاق أو العتاق الذي هو مقصود العقد لأنه بمنزلة الشرط فيه والشروط أتباع على ما عرف فيؤخذ حكمه من الأصل فلا يؤثر فيه الهزل فأما المال في النكاح فتابع بالنظر إلى العاقدين لأن مقصود كل واحد في الأصل حل الاستمتاع بالآخر وحصول الازدواج دون المال فأما في حق الثبوت فله نوع أصالة حيث لا يتوقف ثبوته على اشتراط العاقدين بل يثبت بلا ذكر ويثبت مع النفي صريحا وإذا كان كذلك يعتبر هو بنفسه في حكم الهزل فيؤثر فيه الهزل كما يؤثر في سائر الأموال على أن الإمام شمس الأئمة رحمه اللّه ذكر في شرح كتاب الإكراه في باب التلجئة أنهما لو تواضعا في النكاح

(٤/٥٠٩)

على ألف في السر ثم عقدا في العلانية بألفين كان النكاح جائزا بألف ثم قال وكذا الطلاق على مال والعتاق عليه ولم يذكر خلافا فعلى هذه الرواية كان الطلاق على مال مثل النكاح إذا كان الهزل في قدر البدل في أن البدل ما تواضعا عليه في السر دون المسمى فلا يحتاج إلى فرق وعند أبي حنيفة رحمه اللّه يجب على الأصل الذي ذكرنا له أن يتعلق الطلاق باختيارها أي باختيار المرأة الطلاق بجميع المسمى على سبيل الجد لأن يتعلق بكل البدل لأنه إنما يتعلق بما علقه الزوج به إذ هو المالك للطلاق وهو إنما علقه بجميع البدل حيث ذكر الألفين في العقد دون الألف وقد عرف أن الهزل غير مؤثر في جانبه كما لا يؤثر خيار الشرط لأن الخلع في جانبه يمين فإنه تعليق الطلاق بقبول المرأة البدل والهزل لا يؤثر في اليمين فكان الهزل والجد فيه سواء وإذا كان كذلك كان الطلاق متعلقا بجميع البدل

وقد تعلق بعضه أي بعض البدل بالشرط وهو اختيار المرأة يعني لما تعلق الطلاق بجميع البدل كان شرط وقوعه قبول الجميع والمرأة لم تقبل الجميع لأنها هازلة في قبول أحد الألفين والهزل مؤثر في جانبها كخيار الشرط فصار كأنها قبلت أحد الألفين في الحال وتعلق قبولها الألف الآخر بإعراضها عن الهزل وقبولها إياه بطريق الجد فهو معنى

قوله وقد تعلق بعضه بالشرط وإذا كان كذلك لا يقع الطلاق في الحال كما لو قال أنت طالق على ألفين فقبلت أحد الألفين ولم تقبل الآخر وعلى رواية المبسوط يقع الطلاق ويلزم الألف فإن قيل لما ألحق جانب المرأة بالبيع ينبغي أن يقع الطلاق في الحال بجميع البدل عنده كما في البيع في هذا الفصل فإنه ينعقد بجميع المسمى قلنا إنما ينعقد البيع بتمام المسمى لعدم إمكان العمل بالمواضعة فإنه يؤدي إلى فساد العقد على ما بينا فأما الخلع فلا يفسد بالشروط الفاسدة فأمكن العمل بالمواضعة فيه والعمل بها يوجب هاهنا أن يتعلق الطلاق بجميع البدل ولا يقع في الحال فلذلك افترقا

قوله

وأما إذا هزلا بأصل المال أي بجنسه فذكرا الدنانير تلجئة وغرضهما الدراهم فإن المسمى في العقد هو الواجب عندهما في هذا الوجه بكل حال سواء اتفقا على البناء أو على الإعراض أو على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا لأن الهزل غير مؤثر في

(٤/٥١٠)

أصل التصرف عندهما ولا في المال تبعا له فصار المسمى بمنزلة ما لا يحتمل الفسخ أيضا تبعا للأصل

وأما عند أبي حنيفة رحمه اللّه فإن اتفقا على البناء توقف الطلاق على قبول المرأة المسمى بطريق الجد واختيارها الطلاق لأن الهزل لما كان بمنزلة شرط الخيار منع صحة قبول المرأة المسمى في العقد فصار كأنه علق الطلاق بقبول الدنانير وهي لم تقبل فيتوقف إلى القبول كما في شرط الخيار وفي الوجوه الثلاثة الباقية وقع الطلاق ووجب المال اعتبارا للجد وأشير في المبسوط إلى أن الطلاق يقع ويجب المسمى بكل حال من غير ذكر خلاف وكذلك هذا في نظائره أي مثل ثبوت الحكم والتفريع في الخلع ثبوت الحكم والتفريع في نظائره من الإعتاق على مال والصلح عن دم العمد يعني الكل سواء في الحكم والتفريع

قوله

وأما تسليم الشفعة أي بطريق الهزل طلب الشفعة على ثلاثة أوجه طلب المواثبة وهو أن يطلبها كما علم بالبيع حتى لو لم يطلب على الفور بطلت شفعته

والثاني طلب التقرير والإشهاد وهو أن ينهض بعد الطلب ويشهد على البائع أو على المشتري أو عند العقار على طلب الشفعة فيقول إن فلانا اشترى هذه الدار وأنا شفيعها وقد طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك وبهذا الطلب تستقر شفعته حتى لا تبطل بالتأخير بعد في ظاهر الرواية

والثالث طلب الخصومة والتملك فإذا سلم الشفعة هازلا قبل طلب المواثبة بطلت شفعته لأن التسليم بطريق الهزل كالسكوت مختارا إذ اشتغاله بالتسليم هازلا سكوت عن طلب الشفعة على الفور ضرورة وأنها تبطل بحقيقة السكوت مختارا بعد العلم بالبيع لأنه دليل الإعراض فكذا بالسكوت حكما وبعد الطلب والإشهاد أي بعد طلب المواثبة وطلب الإشهاد التسليم بطريق الهزل باطل والشفعة باقية لأن التسليم من جنس ما يبطل بخيار الشرط حتى لو سلم الشفعة بعد طلب المواثبة والتقرير على أنه بالخيار ثلاثة أيام بطل التسليم وبقيت الشفعة لأن تسليم الشفعة في معنى التجارة لأنه استبقاء أحد العوضين على ملكه ولهذا يملك الأب والوصي تسليم شفعة الصبي عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللّه كما يملكان البيع والشراء له فيتوقف على الرضاء بالحكم والخيار يمنع الرضاء به فيبطل التسليم فكذا الهزل يمنع

(٤/٥١١)

الرضاء بالحكم فيبطل به التسليم كما يبطل بخيار الشرط وتبقى الشفعة

وكذلك أي ومثل تسليم الشفعة إبراء الغريم في أنه يبطل بالهزل حتى لو أبرأه هازلا لا يصح ويبقى الدين على حاله لأنه لو قال أبرأتك على أني بالخيار لا يسقط الدين لأن في الإبراء معنى التمليك ولهذا يرتد بالرد وإلى معنى التمليك أشير في قوله تعالى وأن تصدقوا خير لكم فيؤثر فيه خيار الشرط فكذا الهزل يؤثر فيه لأنه بمنزلة خيار الشرط

وكذا لو أبرأ الكفيل هازلا لا يصح مع أنه مما لا يرتد بالرد لأنه يحتمل الفسخ بدليل أنه لو صالح الكفيل على عين وهلكت العين أو ردها بعيب ينفسخ الصلح وتعود الكفالة فإذا كان كذلك يعمل فيه الهزل فيمنعه من الثبوت كالخيار كذا رأيت مكتوبا بخط شيخي قدس اللّه روحه

قوله

وأما القسم الثاني أي من الأقسام الأربعة المذكورة في أول هذا الفصل ذكر في المبسوط ولو تواضعا على أن يخبرا أنهما تبايعا هذا العبد أمس بألف درهم ولم يكن بينهما بيع في الحقيقة ثم قال البائع للمشتري قد كنت بعتك عبدي هذا يوم كذا بكذا وقال الآخر صدقت فليس هذا ببيع لأن الإقرار خبر متميل بين الصدق والكذب والمخبر عنه إذا كان باطلا فبالإخبار به لا يصير حقا

ألا ترى أن فرية المفترين وكفر الكافرين لا يصير حقا بإخبارهم به وهاهنا ثبت كون المخبر عنه كذبا بالمواضعة السابقة فلا يصير حقا بالإقرار ولو أجمعا على إجازته بعد ذلك لم يكن بيعا لأن الإجازة إنما تلحق العقد المنعقد وبالإقرار كاذبا لا ينعقد العقد فلا تلحقه الإجازة

ألا ترى أنهما لو صنعا مثل ذلك في طلاق أو عتاق أو نكاح لم يكن ذلك نكاحا ولا طلاقا ولا عتاقا وكذلك لو أقر بشيء من ذلك من غير تقدم المواضعة لم يكن ذلك نكاحا ولا طلاقا ولا عتاقا فيما بينه وبين ربه عز وجل وإن كان القاضي لا يصدقه في الطلاق والعتاق على أنه كذب إذا أقر به طائعا فثبت الفرق بين الإقرار والإنشاء في هذه التصرفات مع التلجئة كما ثبت مع الإكراه

لأنه أي الإقرار يعني صحته يعتمد صحة المخبر به أي وجوده وتحققه في الماضي

والهزل يدل على عدم المخبر به في الماضي فيمنع انعقاده أصلا فصار ذلك كله أي الإقرار بما يحتمل الفسخ وبما لا يحتمله من جنس ما يحتمل النقض من حيث إن الجميع يعتمد وجود المخبر به فيؤثر الهزل في الكل ألا ترى أن الإقرار بالطلاق والعتاق يبطل بالكره أصلا حتى كانت المرأة زوجته والعبد عبده كما كانا لما قلنا

(٤/٥١٢)

إن الإقرار خبر متردد بين الصدق والكذب والإكراه دليل ظاهر على أنه كاذب فيما يقر به قاصد إلى دفع الشر عن نفسه فكذلك أي فكما يبطل بالإكراه يبطل بالهزل لأنه دليل ظاهر على أنه كاذب فيه إذ لو لم يكن كاذبا لما كان هذا الإقرار منه هزلا بطلانا لا يحتمل الإجازة لأن الإجازة تلحق بشيء ينعقد ويحتمل الصحة والبطلان وهذا الإقرار لم ينعقد موجبا لشيء أصلا لكونه كذبا وبالإجازة لا يصير الكذب صدقا بوجه فكان كبيع الحر بخلاف البيع أو الإجارة هزلا لأنه إنشاء يعتمد انعقاده أهلية المتكلم وصحة العبارة وقد تحققنا وهو محتمل للصحة والفساد فيجوز أن ينعقد موقوفا على الإجازة

قوله لا بما هزل به جواب عما يقال إن مبنى الردة على تبدل الاعتقاد ولم يوجد هاهنا لوجود الهزل فإنه ينافي الرضاء بالحكم فينبغي أن لا يكون الهزل بالردة كفرا كما في حال الإكراه والسكر فقال الهزل بالردة كفر لا بما هزل به لكن بعين الهزل يعني أنا لا نحكم بكفره باعتبار أنه اعتقد ما هزل به من الكفر بل نحكم بكفره باعتبار أن نفس الهزل بالكفر كفر لأن الهازل وإن لم يكن راضيا بحكم ما هزل به لكونه هازلا فيه فهو جاد في نفس التكلم به مختار للسبب راض به فإنه إذا سب النبي عليه السلام هازلا مثلا أو دعا للّه تعالى شريكا هازلا فهو راض بالتكلم به مختار لذلك لذلك وإن لم يكن معتقدا لما يدل عليه كلامه والتكلم بمثل هذه الكلمة هازلا استخفاف بالدين الحق وهو كفر قال اللّه تعالى قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم فصار المتكلم بالكفر بطريق الهزل مرتدا بعين الهزل لاستخفافه بالدين الحق لا بما هزل به أي لا باعتقاد ما هزل به إلا أن أثرهما أي أثر الهزل بالكفر وأثر ما هزل به سواء في إزالة الإيمان وإثبات الكفر بخلاف المكره على الكفر لأنه غير راض بالسبب والحكم جميعا بل يجريه على لسانه اضطرارا ودفعا للشر عن نفسه غير معتقد له أصلا

ولا يقال إن الهازل لا يعتقد الكفر أيضا لأنا نقول هو معتقد للكفر لأن مما يجب اعتقاده حرمة الاستخفاف بالدين وعدم الرضاء به ولما رضي بالهزل معتقدا له كان كافرا كذا في بعض الشروح فأما الكافر إذا هزل بكلمة الإسلام وتبرأ عن دينه هازلا فيجب أن يحكم بإيمانه في أحكام الدنيا لأن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان وقد باشر أحد الركنين وهو

(٤/٥١٣)

الإقرار باللسان على سبيل الرضاء والإقرار هو الأصل في أحكام الدنيا فيجب الحكم بالإيمان بناء عليه كالمكره على الإسلام إذا أسلم يحكم بإسلامه بناء على وجود أحد الركنين مع أنه غير راض بالتكلم بكلمة الإسلام وهو بمنزلة إنشاء لا يقبل حكمه الرد والتراخي فإنه إذا أسلم لا يحتمل أن يكون حكم الإسلام متراخيا عنه ولا يحتمل أن يرد إسلامه بسبب كما يرد البيع بخيار العيب والرؤية فكان بمنزلة الطلاق والعتاق فلا يؤثر فيه الهزل

قوله

وأما القسم الرابع أي من أقسام العوارض المكتسبة فهو السفه السفه في اللغة وهو الخفة والتحرك يقال تسفهت الرياح الثوب إذا استخفته وحركته ومنه زمام سفيه أي خفيف وفي الشريعة هو عبارة عن خفة تعتري الإنسان فتحمله على العمل بخلاف موجب العقل والشرع مع قيام العقل حقيقة كذا ذكر في عامة الشروح وهذا التعريف يتناول ارتكاب جميع المحظورات فإن ارتكابها من السفه حقيقة إلا أن الشيخ رحمه اللّه قيد بقوله من وجه لأن في اصطلاح الفقهاء غلب هذا الاسم على تبذير المال وإتلافه على خلاف مقتضى العقل والشرع ولم يفهم عند إطلاقه ارتكاب معصية أخرى مثل شرب الخمر والزنا والسرقة وإن كان ذلك سفها حقيقة فكأنه بذكر هذا القيد يشير إلى أن غرضه تعريف السفه المصطلح الذي تكلم الفقهاء فيه وتعلق الأحكام به من منع المال ووجوب الحجر لا جميع أنواع السفه ولهذا فسره بقوله وهو السرف والتبذير الضمير راجع إلى العمل أي نعني بالعمل بخلاف موجب الشرع من وجه إلى آخره السرف والتبذير لأن أصل البر متعلق بقوله وإن كان أصله أي أصل ذلك العمل مشروعا والسرف والإسراف مجاوزة الحد والتبذير تفريق المال إسرافا وذلك أي السفه لا يوجب خللا في الأهلية لأنه لا يخل بالقدرة ظاهرا لسلامة التركيب وبقاء القوى الغريزية على حالها ولا باطنا لبقاء نور العقل بكماله إلا أنه يكابر عقله في عمله فلا جرم يبقى مخاطبا بتحمل أمانة اللّه عز وجل فيخاطب بالأداء في الدنيا ابتلاء ويجازى عليه في الآخرة

وإذا بقي أهلا لتحمل أمانة

(٤/٥١٤)

اللّه عز وجل ووجوب حقوقه بقي أهلا في حقوق العباد وهي التصرفات بالطريق الأولى لأن حقوق اللّه تعالى أعظم فإنها لا تحمل إلا على من هو كامل الحال

ألا ترى أن الصبي أهل للتصرفات مع أنه ليس بأهل لإيجاب حقوق اللّه عز وجل وتحمل أمانته فمن هو أهل لتحمل أمانته أولى أن يكون أهلا للتصرفات فثبت أن السفه لا يمنع أحكام الشرع ولا يجب سقوط الخطاب عن السفيه بحال سواء منع منه المال أو لم يمنع حجر عليه أو لم يحجر وأجمعوا أن السفيه يمنع ماله في أول ما يبلغ بالنص يعني إذا بلغ سفيها يمنع عنه ماله لقوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل اللّه لكم قياما أي لا تؤتوا المبذرين أموالكم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي أموالهم التي في أيديكم أضاف الأموال إلى الأولياء وهي في الحقيقة أموال غيرهم لأنها من جنس ما يقيم الناس به معايشهم كما قال ولا تقتلوا أنفسكم وكما تقول لمن قدم طعاما بين يديك هذا طعامي في منزلي كل يوم أي من جنسه أو لأنهم القوامون عليها والمتصرفون فيها التي جعل اللّه لكم قياما أي تقومون بها ولو ضيعتموها لضعتم فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم ثم علق الإيتاء بإيناس الرشد أي بإبصاره فقال جل جلاله فإن آنستم منهم رشدا أي عرفتم ورأيتم فيهم صلاحا في العقل وحفظا للمال فادفعوا إليهم أموالهم فقال أبو حنيفة رحمه اللّه إذا بلغ السفيه خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس منه الرشد دفع المال إليه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه لا يدفع إلى السفيه ما لم يؤنس منه الرشد لأنه تعالى علق الإيتاء بإيناس الرشد فلا يجوز قبله لأن المعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط ألا ترى أن عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد لا يدفع إليه المال بهذه الآية فكذا إذا بلغ خمسا وعشرين سنة لأن السفه يستحكم بطول المدة

ولأن السفه في حكم منع المال بمنزلة الجنون والعته وإنهما يمنعان دفع المال إليه بعد خمس وعشرين سنة كما قبله فكذلك السفه واستدل أبو حنيفة رحمه اللّه بقوله تعالى ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا معناه مخافة أن يكبروا فيلزمكم دفع المال إليهم وبقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم والمراد البالغون وسموا يتامى لقرب عهدهم به فهذا تنصيص على وجوب دفع مال اليتيم إليه بعد البلوغ إلا أنه قام الدليل على منع المال منه عند البلوغ إذا لم

(٤/٥١٥)

يؤنس منه الرشد فإنه تعالى قال حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيكون بيانا إن دفع المال إليه عقيب البلوغ بشرط إيناس الرشد وما يقرب من البلوغ في معنى حالة البلوغ فأما إذا بعد عن ذلك فوجوب دفع المال إليه مطلق لما تلونا غير معلق بشرط والمعنى فيه أن منع المال بعد البلوغ لبقاء أثر الصبي وبقاء أثره كبقاء عينه في منع المال وأثره قد يبقى إلى أن يمضي عليه زمان وينقطع بعدما بلغ خمسا وعشرين سنة لتطاول الزمان فيجب دفع المال ولهذا قال أبو حنيفة رحمه اللّه لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لم يمنع منه المال لأن هذا ليس بأثر الصبا فلا يعتبر في منع المال أو منع المال على سبيل التأديب له والاشتغال بالتأديب ما لم ينقطع رجاء التأديب فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس رشده فقد انقطع رجاء التأديب لأنه يتوهم أن يصير جدا في هذه المدة فلا معنى بعد ذلك لمنع المال منه بطريق التأديب

ثم نقول إن الإنسان في أول أحوال البلوغ قد لا يفارقه السفه لقربه بزمان الصبا وبعد تطاول الزمان به لا بد من أن يستفيد رشدا ما بطريق التجربة والامتحان إذ التجارب تفاح العقول والشرط رشد نكرة فيتحقق بأدنى ما ينطلق عليه الاسم كما في سائر الشروط المنكرة فسقط المنع أي منع المال بوجود هذا النوع من الرشد لأنه أي منع المال إما عقوبة ثبتت زجرا له عن الفعل الحرام وهو التبذير أو حكم لا يعقل معناه لأن منع المال عن مالكه مع كمال عقله وتميزه غير معقول إذ الملك هو المطلق الحاجز فيتعلق الحكم بعين النص أي المنصوص عليه وهو ما إذا لم يوجد منه رشد تحقيقا ولا تقديرا لأن ما كان عقوبة أو غير معقول المعنى لا يمكن تعديته فإذا دخله أي منع المال الثابت بطريق العقوبة شبهة بحصول الشرط من وجه وهو إصابة نوع من الرشد بالتجربة سقط لأن العقوبة تسقط بالشبهة أو صار الشرط أي شرط الدفع في حكم الوجود من وجه بوجود دليله وهو استيفاء مدة التجربة يعني على تقدير أن يكون حكما ثابتا بالنص غير معقول المعنى يسقط أيضا لأن الشرط الثابت بالنص رشد نكرة فإذا وجد رشد ما فقد تحقق الشرط فوجب جزاؤه وهو دفع المال إليه

قوله واختلفوا في وجوب النظر للسفيه بجعله محجورا عن التصرفات وإثبات الولاية للغير على ماله صونا لماله عن الضياع كما وجب للصبي والمجنون فقال أبو حنيفة

(٤/٥١٦)

رحمه اللّه لا يجوز الحجر عليه عن التصرفات لأنه حر مخاطب فيكون مطلق التصرف في ماله كالرشيد فإن كونه مخاطبا يثبت أهلية التصرف إذ التصرف كلام ملزم وأهلية الكلام بكونه مميزا والكلام الملزم بكونه مخاطبا وبالحرية تثبت الملكية وبكون المال خالص ملكه تثبت المحلية وبعدما صدر التصرف من أهله في محله لا يمتنع نفوذه إلا لمانع والسفه لا يصلح مانعا من نفوذ التصرف لأن بالسفه لا ينتقص العقل ولكن السفيه يكابر عقله في التبذير مع علمه بقبحه وفساد عاقبته فلم يجز أن يكون السفه سببا للنظر لكونه معصية والدليل أن السفيه يحبس في ديون العباد بطريق العقوبة ولا يسقط عنه الخطاب بحقوق الشرع حتى يعاقب على تركها ولا يبطل في ذلك أي فيما ذكرنا من حقوق الشرع وحقوق العباد عباراته حتى صح طلاقه وعتاقه ونكاحه ونذره ويمينه وإقراره على نفسه بالأسباب الموجبة للعقوبة

ولا يعطل عليه أسباب الحدود والعقوبات حتى لو شرب الخمر أو زنى أو سرق أو قتل إنسانا عمدا يقام عليه الحدود ويجب عليه القصاص وهذه العقوبات تندرئ بالشبهات فلو بقي السفه معتبرا بعد البلوغ عن عقل في إيجاب النظر لكان الأولى أن يعتبر فيما يندرئ بالشبهات ولو جاز الحجر عليه بطريق النظر لكان الأولى أن يحجر عليه عن الإقرار بالأسباب الموجبة للعقوبة لأن ضرره يلحق بنفسه والمال تابع للنفس فإذا لم ينظر له في دفع الضرر عن نفسه فعن ماله أولى

وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم اللّه يجوز الحجر عليه بهذا السبب عن التصرفات المحتملة للفسخ وهي ما يبطله الهزل دون ما لا يبطله كالنكاح والطلاق ونحوهما إلا أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما اللّه قالا إن الحجر عليه على سبيل النظر له وقال الشافعي رحمه اللّه على سبيل الزجر والعقوبة ويظهر الخلاف فيما إذا كان مفسدا في دينه مصلحا في ماله كالفاسق فعنده يحجر عليه بهذا النوع من الفساد بطريق الزجر والعقوبة ولهذا لم يجعل الفاسق أهلا للولاية وعندهما لا يحجر عليه

احتج أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه بقوله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل نص على إثبات الولاية على السفيه وذلك لا يتصور إلا بعد الحجر عليه وبما روي أن عبد اللّه بن جعفر رضي اللّه عنهما كان يفني ماله في اتخاذ الضيافات حتى اشترى للضيافة دارا بمائة ألف وفي رواية بأربعين ألف دينار فطلب علي من

(٤/٥١٧)

عثمان رضي اللّه عنهما أن يحجر عليه فقال الزبير بن العوام لعبد اللّه أشركني فيها فأشركه فبلغ ذلك عثمان رضي اللّه عنه فقال كيف أحجر على رجل شريكه الزبير وهو كان معروفا بالكياسة في التجارة فثبت أنهم كانوا يرون الحجر بسبب التبذير وبأن السفيه مبذر في ماله فيحجر عليه نظرا له كالصبي بل أولى لأن الصبي إنما يحجر عليه لتوهم التبذير وهو متحقق هاهنا فلأن يكون محجورا عليه كان أولى وكان هذا الحجر بطريق النظر واجبا حقا للمسلمين فإن أبا بكر الجصاص رحمه اللّه كان يقول ضرر السفه يعود إلى الكافة فإنه لما أفنى ماله بالسفه والتبذير صار وبالا على الناس وعيالا عليهم يستحق النفقة من بيت المال والحجر على الحر لدفع الضرر عن العامة مشروع بالإجماع كما في المفتي لما جن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس وحقا لدينه لا لسفه لأنه وإن كان عاصيا لسفه فهو مستحق النظر باعتبار أصل دينه فإنه بالنظر إلى أصل دينه حبيب اللّه تعالى ولهذا لو مات يصلى عليه وكذا كل فاسق حقا لإسلامه والدليل عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنهما شرعا بطريق النظر للمأمور والمنهي حقا لدينه وللمسلمين

قوله لا لسفه إشارة إلى الجواب عما قال أبو حنيفة رحمه اللّه السفه جناية منه فلا يستحق به النظر وعما قال الشافعي رحمه اللّه السفيه جان فيستحق الحجر بطريق العقوبة لا بطريق النظر فقال النظر له واجب لا باعتبار أن الجناية مستدعية للنظر ولكن باعتبار أن العبد المسلم يستحق النظر في عامة أحواله وعند السفه يفوت له النظر وتظهر الحالة التي تمس الحاجة إلى وجوب النظر له فنظر الشرع له في هذه الحالة لوجود المعنى الداعي إلى النظر

ألا يرى أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن حتى كان العفو عن القصاص وعن كل جناية مندوبا إليه قال تعالى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف فمن عفا وأصلح فأجره على اللّه وكذا العفو عنه في الآخرة حسن وإن مات مصرا على الكبيرة من غير توبة عند أهل السنة حتى جاز أن يدخله اللّه الجنة بفضله وكرمه من غير تقديم عقوبة رغما لأنوف المعتزلة وقاساه بمنع المال فإن منع المال عنه كان بطريق النظر ليبقى مصونا عن التلف ولا يضيع بالتبذير والإسراف فكذلك الحجر عليه لأن منع المال غير مقصود لعينه بل لإبقاء ملكه ولا يحصل هذا المقصود ما لم يقطع لسانه عن ماله تصرفا فإنه إذا كان مطلق التصرف لا يفيد منع المال شيئا وإنما يكون فيه زيادة مؤنة وكلفة على الولي في حفظ ماله إلى أن يتلفه بتصرفه

وإنما لم

(٤/٥١٨)

يثبت الحجر في حق الطلاق والعتاق والنكاح ونحوها لأن المحجور عليه لسبب السفه في التصرفات كالهازل فإن الهازل يخرج كلامه على غير نهج كلام العقلاء لقصد اللعب به دون ما وضع الكلام له لا لنقصان في عقله فكذلك السفيه يخرج كلامه في التصرفات على غير نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله فكل تصرف لا يؤثر فيه الهزل كالنكاح والطلاق لا يؤثر فيه السفه أيضا وكل تصرف يؤثر فيه الهزل وهو مما يحتمل الفسخ يؤثر فيه السفه

قوله وقال أبو حنيفة رحمه اللّه يعني في الجواب عن كلامهما أن النظر من هذا الوجه وهو أنه مستحق للنظر بعد الجناية جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة يجوز العفو ولا يجب ومن أصلهما أن الحجر واجب فلا يصح الاستدلال ثم النظر على هذا الوجه إنما يحسن إذا لم يتضمن ضررا فوق هذا النظر هاهنا قد تضمن ذلك كما ذكر في الكتاب بخلاف منع المال عنه لأنه إنما ثبت بالنص غير معقول المعنى لما بينا فلا يمكن تعديته إلى غيره ولأنه ثبت بطريق العقوبة عند بعض مشايخنا لا بطريق النظر فإن سببه جناية وهو مكابرة العقل واتباع الهوى والحكم المتعلق به وهو منع المال يصلح جزاء كإيجاب المال فيجعل جزاء فإنا عرفنا سائر الأجزية بهذا الطريق وهو إنا نظرنا إلى سبب فوجدناه جناية ونظرنا إلى الحكم فوجدناه صالحا للعقوبة فسميناه عقوبة كالجلد في الزنا وقطع اليد في السرقة وإذا ثبت أنه عقوبة لا يمكن تعديته إلى منع اللسان وقصر العبارة لأن القياس لا يجري في العقوبات

ولا يقال إن المنع لو كان عقوبة لفوض أي الإمام والأولياء هم المخاطبون به دون الأئمة لأنا نقول هو عقوبة تعزير وتأديب لا حد فيجوز أن يفوض إلى الأولياء كما في تعزير العبيد والإماء ولئن سلمنا أن النص معقول المعنى وأنه معلول بعلة النظر لا بالعقوبة لا نسلم جواز قياس الحجر على المنع أيضا لعدم المساواة لأن منع المال إبطال نعمة زائدة عليه وهي اليد وإلحاقه بالفقراء وإثبات الحجر إبطال ولايته وأهليته وإلحاقه بالبهائم وهي نعمة أصلية لأن الإنسان يمتاز من سائر الحيوان بالبيان فبان جواز إلحاق ضرر يسير به في منع نعمة زائدة وإلحاقه بالفقراء لتوفير النظر عليه لا يستدل على جواز إلحاق الضرر العظيم

(٤/٥١٩)

به بتفويت النعمة الأصلية وإلحاقه بالبهائم لمعنى النظر له

والجواب عن الآية أن المراد من السفيه على ما قيل هو الصبي الذي عقل فإن بعض تصرفاته يخرج عن نهج الاستقامة ومن الضعيف الصبي الصغير ومن الذي لا يستطيع أن يمل المجنون وقيل المراد من السفيه هو المبذر الذي اختلفنا فيه ولكن المراد من الولي هو ولي الحق لا ولي السفيه وفي الآية كلام طويل وعن الحديث أن عليا رضي اللّه عنه لم يطلب الحجر بسبب السفه بدليل أن عثمان رضي اللّه عنه ترك الحجر بسبب إشراك الزبير ومن يرى الحجة لا يترك بمثل هذا العذر فإن الغبن الواقع في العقد لا يرتفع بإشراك الغير ولكن يحتمل أن عليا رضي اللّه عنه رآه إسرافا حين أنفق مالا عظيما في شراء دار وهي حظ الدنيا لأنه متى أنفق على هذا الوجه في كل حظوظ الدنيا ربما يقصر في حظوظ الآخرة فثبت أن ذلك كان على سبيل التخويف وعن قولهم لا فائدة في منع المال مع إطلاق التصرف أن السفيه إنما يتلف ماله عادة في التصرفات التي لا يتم إلا بإثبات اليد على المال من اتخاذ الضيافة والهبة والصدقة فإذا كانت يده مقصورة عن المال لا يتمكن من تنفيذ هذه التصرفات فيحصل المقصود بمنع المال منه وإن كان لا يحجر عليه ثم أجاب الشيخ لهما عما قال أبو حنيفة رحمه اللّه ميلا منه إلى قولهما بقوله وقالا هذه الأمور يعني اليد واللسان والأهلية صارت حقا للعبد رفقا به يعني ثبتت هذه الأمور للعبد لأجل أن يرتفق بها العبد فإذا أدى ثبوت هذه الأمور إلى الضرر في حقه وفي حق المسلمين وجب الرد أي رد هذه الأشياء لدفع الضرر عن نفسه كي لا يصير ثبوتها عائدا على موضوعه بالنقض ولدفع الضرر عن المسلمين وفي بعض النسخ بدون الواو وهو الأظهر

وقوله وإن لم يكن للمسلمين حق في عين المال أي مال السفيه إشارة إلى رد ما أجيب عن قولهما فإنهما لما قالا النظر واجب بالحجر حقا للمسلمين أجيب عنه بأنه لا ضرر في حقهم لأنه يتصرف في خالص ملكه لا حق لأحد فيه فلا يجب الحجر فردا ذلك الجواب وقالا إنه وإن تصرف في خالص ملكه ولا حق للمسلمين في ماله يؤدي تصرفه إلى الإضرار بالمسلمين في المال فيجب دفعه عنهم بالحجر في الحال وهذا أي وجوب الرد لدفع الضرر عن المسلمين قياس ما روي عن أبي يوسف رحمه اللّه فيمن تصرف في خالص ملكه بما يضر جيرانه يمنع حتى لو اتخذ طاحونة للأجرة يمنع ولو نصب منوالا لاستخراج الإبريسم من الفيلق فللجيران المنع إذا تضرروا بالدخان ورائحة الديدان وللجيران منع دقاق الذهب لتضررهم بدقه وكذا النداف إذا كان ضرره بينا يمنع كذا في مختصر المنية من غير ذكر خلاف فثبت أن شرعية الحجر على السفيه عنه هما بطريق النظر

(٤/٥٢٠)

قوله وإنما يجب أن ينظر إلى ما فيه نظر له أبدا يعني لا يجعل السفيه عندهما كالهازل في جميع التصرفات ولا كالصبي ولا كالمريض بل المعتبر في حقه توفير النظر عليه لأن الحجر ثبت لمعنى النظر له فبحسبه يلحق ببعض هذه الأصول

فإذا أعتق عبدا نفذ عتقه لأن السفه كالهزل ولكنه يسعى في قيمته عند محمد رحمه اللّه لأن الحجر ثبت بمعنى النظر له فيكون بمنزلة الحجر على المريض لغرمائه وورثته وهناك وجبت السعاية للغرماء في كل القيمة وللورثة في ثلثي القيمة إذا لم يكن عليه دين ردا للعتق بقدر الإمكان فكذا هاهنا وإن جاءت جارية بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه والجارية أم ولد لا سبيل عليها لأحد بعد موته لأن توفير النظر في إلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاء لحاجته إلى إبقاء نسله وصيانة مائه فيلحق في هذا بالمريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته كان هو في ذلك كالصحيح حتى إنها تعتق من جميع ماله بموته ولا تسعى هي ولا ولدها في شيء لأن حاجته مقدمة على حق غرمائه ولو اشترى هذا المحجور عليه ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا ويعتق الغلام حين قبضه ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه لأنه ملك ابنه ثم يسعى في قيمته للبائع ولا يكون للبائع في مال المشتري شيء من ذلك لأنه وإن ملكه للقبض فالتزام الثمن أو القيمة منه بالعقد غير صحيح لما فيه من الضرر عليه فهو في هذا الحكم ملحق بالصبي

ولو حلف باللّه أو نذر نذورا من هدي أو صدقة لم ينفذ له القاضي شيئا من ذلك ولم يدعه يكفر أيمانه لأنه محجور عليه عن التصرف في ماله فيما يرجع إلى الإتلاف فهو ملحق بالصبي في هذا الحكم أيضا ولكنه يصوم لكل يمين حنث فيها ثلاثة أيام متتابعة وإن كان هو مالكا لأن يده مقصورة عن ماله فهو بمنزلة ابن السبيل المنقطع عن ماله فله أن يكفر بالصوم

قوله وهو أي الحجر بسبب النظر عندهما أنواع حجر بسبب السفه مطلقا يعني سواء كان أصليا بأن بلغ سفيها أو عارضا بأن حدث بعد البلوغ رشيدا وذلك أي هذا الحجر يثبت عند محمد بنفس السفه بدون حجر القاضي أصليا كان أو عارضا لأن الدلالة قد قامت لنا على أن السفه في ثبوت الحجر به نظير الجنون والعته والصغر والرق

(٤/٥٢١)

والحجر يثبت بنفسها من غير حاجة إلى قضاء القاضي فكذلك بالسفه وأبو يوسف رحمه اللّه يقول لا يصير محجورا عليه ما لم يحجر عليه القاضي في الوجهين لأن الحجر عليه لمعنى النظر له وهو متردد بين النظر والضرر ففي إبقاء الملك له نظر وفي إهدار

قوله ضرر وبمثل هذا لا يترجح أحد الجانبين منه إلا بقضاء القاضي يوضحه أن السفه ليس بشيء محسوس وإنما يستدل عليه بأن يغبن في التصرفات وقد يكون ذلك للسفه وقد يكون حيلة لاستجلاب قلوب المجاهرين فإذا كان محتملا مترددا لا يثبت حكمه إلا بقضاء القاضي بخلاف الصغر والجنون والعته ولأن الحجر بهذا السبب مختلف فيه بين العلماء فلا يثبت إلا بقضاء القاضي كالحجر بسبب الدين

فلو أدرك سفيها فلم يرفع أمره إلى القاضي حتى باع شيئا من تركة والده وأقر بديون ووهب هبات وتصدق بصدقات صح جميعها عند أبي يوسف خلافا لمحمد

رحمهما اللّه النوع الثاني من الحجر أن المديون إذا امتنع عن بيع ماله لقضاء الدين باع القاضي عليه أمواله عروضا كان أو عقارا عندهما وعند أبي حنيفة رحمه اللّه لا يبيع عليه ماله إلا أحد النقدين بالآخر استحسانا لقضاء دينه احتجا في ذلك بحديث معاذ رضي اللّه عنه فإنه ركبته الديون فباع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ماله وقسم ثمنه بين غرمائه بالحصص وقال عمر رضي اللّه عنه في خطبته إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حزن وإن أسيفع جهينة قد رضي من دينه

وأمانته أن يقال قد سبق الحاج فادان معرضا فأصبح وقد رين عليه ألا إني بائع عليه ماله وقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص ممن كان له عليه دين فليغد ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان هذا اتفاقا منهم على أنه يباع على المديون ماله وبأن بيع المال لقضاء الدين من ثمنه مستحق عليه بدليل أنه يحبس إذا امتنع منه وهو مما تجري فيه النيابة والأصل أن من امتنع عن إيفاء حق مستحق عليه وهو مما تجري فيه النيابة ناب القاضي منابه كالذمي إذا أسلم عبده فأبى أن يبيعه باعه القاضي والعنين بعد مضي المدة إذا أبى أن يفارقها ناب القاضي منابه في التفريق بينهما وأبو حنيفة رحمه اللّه استدل بقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وبيع المال على المديون بغير رضاه ليس بتجارة عن تراض وبأن بيع المال غير مستحق عليه فإن المستحق عليه قضاء الدين وبيع المال غير متعين لقضاء الدين فإنه يتمكن من قضائه بالاستيهاب والاستقراض وسؤال الصدقة من الناس فلا يكون للقاضي تعيين هذه الجهة عليه بمباشرة بيع ماله عند امتناعه كالإجارة والتزويج

الدليل عليه أنه يحبسه بالاتفاق ولو جاز له بيع ماله لم يشتغل بحبسه لما فيه من الإضرار به وبالغرماء في تأخير وصول حقهم إليهم فلا معنى للمصير إليه بدون الحاجة

(٤/٥٢٢)

وهذا بخلاف عبد الذمي إذا أسلم لأن عند إصرار المولى على الشرك إخراج العبد عن ملكه مستحق عليه بعينه فينوب القاضي منابه

وكذلك في حق العنين لما تحقق عجزه عن الإمساك بالمعروف استحق عليه التسريح بعينه فأما مبادلة أحد النقدين بالآخر بأن كان عليه دراهم وماله دنانير ففي القياس ليس له أن يباشر هذه المصارفة لما بينا أن هذا الطريق غير متعين لما هو مستحق عليه وهو قضاء الدين وفي الاستحسان يفعل ذلك

الدراهم والدنانير جنسان صورة وجنس واحد معنى ولهذا يضم

أحدهما إلى الآخر في حكم الزكاة ولو كان ماله من جنس الدين صورة كان للقاضي أن يقضي به دينه فكذلك إذا كان ماله من جنس الدين معنى ولكن لا يكون لصاحب الدين ولاية الأخذ من غير قضاء كما لو ظفر بجنس حقه لأنهما جنسان صورة وإن كانا جنسا واحدا حكما فلعدم المجانسة صورة لا ينفرد صاحب الدين بأخذه ولوجود المجانسة معنى كان للقاضي أن يقضي دينه وتأويل حديث معاذ رضي اللّه عنه أنه عليه السلام إنما باع ماله بسؤاله لأنه لم يكن وفاء بدينه فسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتولى بيع ماله لينال ماله بركة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيصير وفاء بدينه

وهذا لأن عندهما يأمر القاضي المديون ببيع ماله أولا فإذا امتنع فحينئذ يبيع ماله ولا يظن بمعاذ أنه كان يأبى أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياه ببيع ماله حق يحتاج ببيعه عليه بغير رضاه فإنه كان سمحا جوادا لا يمنع أحدا شيئا ولأجله ركبته الديون فكيف يمتنع من قضاء دينه بماله بعد أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمشهور في حديث أسيفع أن عمر رضي اللّه عنه قال إني قاسم ماله بين غرمائه فيحمل على أن ماله كان من جنس دينه وإن ثبت البيع فإنما كان برضاه

ألا ترى أن عندهما القاضي لا يبيعه إلا عند طلب الغرماء ولم ينقل أن الغرماء طالبوه بذلك وإنما المنقول أنه ابتدأهم بذلك وأمرهم أن يغدوا إليه فدل أنه كان ذلك برضاه كذا في المبسوط

قوله والثالث أن يخاف على المديون إلى آخره إذا خيف على من ركبته الديون أن يلجئ ماله بطريق الإقرار أو البيع فطلب الغرماء من القاضي أن يحجر عليه لا يحجر القاضي عليه عند أبي حنيفة رحمه اللّه وعندهما يحجر عليه وبعد الحجر لا ينفذ تصرفه في المال الذي كان في يده عند الحجر وينفذ تصرفاته فيما يكتسب من المال بعده وفي هذا الحجر نظر للمسلمين فإذا جاز الحجر عليه عندهما بطريق النظر له فلذلك يحجر عليه لأجل النظر للمسلمين

وعند أبي حنيفة رحمه اللّه كما لا يحجر على المديون نظرا له لا يحجر عليه نظرا للغرماء لما في الحيلولة بينه وبين التصرفات في ماله من الضرر عليه وإنما

(٤/٥٢٣)

يجوز النظر لغرمائه بطريق لا يكون فيه ألحق الضرر به إلا بقدر ما ورد الشرع به وهو الحبس في الدين لأجل ظلمه الذي تحقق بالامتناع من قضاء الدين مع تمكنه منه وخوف التلجئة ظلم موهوم منه فلا يجعل كالمتحقق ثم الضرر في إهدار

قوله فوق الضرر في حبسه ولا يستدل بثبوت الأدنى على ثبوت الأعلى كما في منع المال من السفيه مع الحجر ثم هذا الحجر عندهما لا يثبت إلا بقضاء القاضي ومحمد رحمه اللّه يفرق بين هذا وبين الأول فيقول هذا الحجر لأجل النظر للغرماء فيتوقف على طلبهم وذلك لا يتم إلا بقضاء القاضي والحجر على السفيه لأجل النظر له وهو غير موقوف على طلب أحد فثبت حكمه بدون القضاء فتبين بما ذكرنا من إيجاب الحجر في هذين الوجهين أن طريق الحجر عندهما هو النظر للمسلمين لا أن تكون نفس السفه الذي هو معصية من أسباب النظر فإن السفه لم يوجد في هاتين الصورتين وقد وجب الحجر نظرا للمسلمين هو معنى

قوله والرجل غير سفيه إلى آخره

لكنه أي السفه بمنزلة العضل أي المنع من الأولياء في أنه يوجب الحجر نظرا فإن الولي إذا امتنع عن تزويج المرأة عند خطبة الكفء وخيف فوته يزوجها القاضي منه ويصير الولي محجورا ساقط الولاية في هذا العقد حتى لم تكن له ولاية إبطاله نظرا للمرأة لا أن يكون العضل الذي هو ظلم من أسباب النظر له فكذا السفيه إذا أتلف ماله يحجر عليه نظرا للمسلمين لا أن يكون السفه بنفسه من أسباب النظر له

قوله