باب العوارض المكتسبةإنما جعل الجهل من العوارض وإن كان أمرا أصليا لأنه أمر زائد على حقيقة الإنسان وثابت في حال دون حال كالصغر ومن المكتسبة لأن إزالته باكتساب العلم في قدرة العبد فكان ترك تحصيل العلم منه اختيارا بمنزلة اكتساب الجهل باختيار بقائه فكان مكتسبا من هذا الوجه وجعل السكر من العوارض المكتسبة وإن لم يكن حصوله في قدرة العبد لأن سببه وهو شرب المسكر باختياره وغرضه من الشرب حصول السكر كما أن غرض شارب الماء حصول الري فكان السكر مضافا إلى كسبه نظرا إلى السبب والغرض ولا يلزم عليه الرق فإنه جعل من العوارض السماوية وإن كان سببه وهو الكفر باختيار العبد لأن غرضه من الكفر ليس حصول الرق ولأن السبب هو الاستيلاء على الكافر لا الكفر المجرد والاستيلاء ليس في قدرته واختياره فكان الرق سماويا قوله أما الجهل فكذا قيل الجهل اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به واعترض عليه بأنه يستلزم كون المعدوم شيئا إذ الجهل يتحقق بالمعدوم كما يتحقق بالموجود أو كون المعدوم المجهول غير داخل في الحد وكلاهما فاسد وقيل هو صفة تضاد العلم عند احتماله وتصوره واحترز به عن الأشياء التي لا علم لها فإنها لا توصف بالجهل لعدم تصور العلم فيها قال السيد الإمام أبو القاسم رحمه اللّه في كتاب رياضة الأخلاق الجهل يذكر ويراد به عدم الشعور ويذكر ويراد به الشعور بالشيء على خلاف ما هو به ويذكر ويراد به السفه قال اللّه تعالى وأعرض عن الجاهلين وقال عمرو بن كلثوم ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا (٤/٤٥٧) فالقسم الأول فطرية وليس بعيب لشموله قال اللّه تعالى واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وإنما العيب التقصير في إزالة الجهل ودواؤه التعلم والقسم الثاني هو الغلط ودواؤه التوقف والتثبت وسببه الجهل الخلقي مع العجلة والعجب والقسم الثالث سيذكر في موضعه إن شاء اللّه عز وجل المكابرة والجحود الإنكار بعد حصول العلم ووضوح الدليل قال اللّه تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وعن هذا قيل لو سأل القاضي المدعى عليه بعد دعوى المدعي أتجحد أم تقر فبأيهما أجاب يكون إقرارا فالكفر جحود بعد وضوح الدليل لأن الآيات الدالة على وحدانية الصانع جل جلاله وكمال قدرته وعظمة ألوهيته لا تعد كثرة ولا تخفى على من له أدنى لب كما قال أبو العتاهية فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده جاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وكذا الدليل على صحة رسالة الرسل من المعجزات القاهرة والحجج الباهرة ظاهرة محسوسة في زمانهم لا وجه إلى ردها وإنكارها وقد نقلت تلك المعجزات بعد انقراض زمانهم بالتواتر قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا فكان إنكارها بمنزلة إنكار المحسوس فلذلك لم يجعل عذرا بوجه قوله وقد اختلف في ديانة الكافر على خلاف الإسلام أي في اعتقاده حكما من الأحكام على خلاف ما ثبت في الإسلام فقال أبو حنيفة رحمه اللّه إنها تصلح دافعة للتعرض حتى لو باشر ما دان به لا يتعرض له بوجه وهذا بالاتفاق ودافعة لدليل الشرع يعني ديانته تمنع بلوغ دليل الشرع إليه في الأحكام التي تحتمل التغير مثل تحريم الخمر والخنزير وتحريم نكاح المحارم ونحوها فلا يثبت الخطاب في حقه فيبقى الحكم الذي كان قبل الخطاب في حقه على الصحة كما كان لقصور الخطاب عنه والدليل على قصور الخطاب عنه أن الأصل فيما يتبدل من الأحكام بشرع جديد أن لا يثبت في حقنا بنزول الخطاب حتى يبلغنا لأنه لا يمكن الإيمان والعمل به قبل البلوغ إلا أن الخطاب بعدما شاع يلزم لكل من علم به ومن لم يعلم لأن الرسول عليه السلام لا يمكنه التبليغ إلى كل واحد (٤/٤٥٨) من أفراد الناس وإنما في وسعه الإشاعة في الناس لا غير فصارت الإشاعة بمنزلة التبليغ إلى كل واحد منهم فلا يعذر الجاهل بالخطاب بعد الإشاعة لبلوغ الخطاب إليه حكما يصير بمنزلة من بلغه الخطاب فلم يعمل به ثم بلوغ الخطاب لم يثبت في حق الكافر لأنه لا يعتقد صدق المبلغ ولا يرى كلامه حجة والشرع أمرنا أن لا يتعرض له إذا قبل الذمة فبقي على الجهل كما في الخطاب الذي لم يشع وخطاب نبي لم يثبت معجزته بعد وخرج الخطاب بإنكاره الرسول ويأمر الشرع إيانا أن نتركهم عليه عن كونه حجة في حقه فصار البلوغ وعدمه في حقه بمنزلة قوله استدراجا متعلق بقاصر أي قصور الخطاب عن الكافر ليس للتخفيف عليه ولكن للاستدراج وهو التقريب إلى العذاب بوجه لا شعور له به يقال استدرجه إلى كذا أي أدناه منه على التدريج ومكرا وهو الأخذ على غرة وتحقيقا لقوله عليه السلام الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فإنه لا خطاب في الجنة ولا تكليف بل فيها ما تشتهي الأنفس والدنيا للكافر بهذه المثابة وهذا في كل حكم يثبت بالشرع لا يثبت في حقنا إلا بعد العلم بالخطاب وقبله يبقى على ما كان ثابتا فأما في كل حكم لا يحتمل التبدل فلا أي لا يكون ديانته دافعة لدليل الشرع حتى إنه الضمير للشان لا يعطي للكفر حكم الصحة بحال يعني لا يعتبر ديانة الكافر بعبادة الأوثان والنار وبما يباشره من الكفر أصلا لأنه مما لا يحتمل أن يحل بحال والمغير إنما يعمل فيما يحتمل ويبتنى على هذا أي على أن ديانتهم دافعة عنده للتعرض والخطاب جميعا أنه أي أبا حنيفة رحمه اللّه جعل الخطاب بتحريم الخمر كأنه غير نازل في حقهم في أحكام الدنيا بمنزلة الخطاب بتحريم الميتة في حق المضطر وما أشبه ذلك نحو هبة الخمر والوصية والتصدق بها وأخذ العشر من قيمتها وكذلك أي ومثل تحريم الخمر تحريم الخنازير في أن الخطاب بالتحريم غير (٤/٤٥٩) نازل في حقهم حتى كان الخمر والخنزير في حقهم كالشاة والخل في حقنا وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه أيضا وعند الشافعي رحمه اللّه لا يجب بإتلاف خمر الذمي شيء سواء أتلفه مسلم أو ذمي وجعل أي أبو حنيفة رحمه اللّه لنكاح المحارم بين الكفار حكم الصحة إذا دانوا بصحته بمنزلة نكاح المجوسية لأن التحريم لم يثبت في حقهم لقصور الخطاب عنهم حتى لو تزوج المجوسي بمحرم ودخل بها لم يسقط إحصانها حتى وجب الحد لهما على قاذفهما وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهما اللّه لا يجب وإذا طلبت المرأة النفقة بذلك النكاح قضى بها عنده خلافا لهم ولو رفع أحدهما الأمر إلى القاضي وطلب حكم الإسلام لا يفرق بينهما عنده حتى يحتمل على الترافع ويفرق عندهم لأنه أي ديانة البنت المنكوحة لا تصلح حجة متعدية على البنت الأخرى وضمن التعدي معنى الإجماع فوصل بكلمة على فكذلك أي فكما لم تجعل الدية متعدية في الإرث وجب أن لا تجعل متعدية في هذه المسائل وحاصله أنه ينبغي أن لا يعتبر ديانتهم في إثبات هذه الأحكام لأن في اعتبارها إثبات التعدي على الغير كما لم تعتبر في الإرث قوله هذا يتناقض أي ما ذكرت من عدم اعتبارها في هذه الصور يؤدي إلى التناقض لأنا قد اعتبرنا ديانتهم في أخذ العشر لأنا نأخذ نصف العشر من خمور أهل الذمة أي من قيمتها إذا مروا بها على العاشر والعشر من خمور أهل الحرب أي من قيمتها باعتبار ديانتهم ويجب ذلك على من تولى ذلك الأمر حتى لو لم يأخذا ثم ولم تعتبر ديانتهم في حقنا لما أخذنا منهم شيئا كما ذهب إليه الشافعي رحمه اللّه وكذا الأنكحة (٤/٤٦٠) التي هي فاسدة بين المسلمين تقع صحيحة فيما بينهم إذا دانوا بصحتها فإن عامة العلماء قالوا في ذمي تزوج أختين أو عشر نسوة ثم فارق إحدى الأختين أيتهما كانت أو فارق الست من العشر في حال الكفر بقي نكاح من بقي إذا أسلموا على الصحة وقال محمد والشافعي رحمهما اللّه في الحربي تزوج خمس نسوة في عقد متفرقة أو عقدة واحدة ثم أسلموا جميعا كان له أن يختار الأربع منهن ولو وقع فاسدا لم ينقلب صحيحا ولذلك قال الشافعي رحمه اللّه في أهل الذمة تبايعوا الخمور وتقابضوا إن العشر يؤخذ من أثمان الخمور وإن علم به العاشر وإن أسلموا بقوا على ذلك ولو وقع على الفساد لم يطلب الملك الفاسد بالإسلام ولم يثبت الملك على أصله فثبت أن هذه العقود تقع على الصحة بلا خلاف باعتبار ديانتهم كذا في الأسرار فلو لم تعتبر ديانتهم فيما بيننا لم تثبت هذه الأحكام بعد الإسلام وإذا ثبت أن ديانتهم معتبرة بالاتفاق كان القول بعدم اعتبارها بعد ذلك تناقضا وهذه غير متعدية أي هذه الديانة التي توجب علينا أخذ العشر وإثبات هذه الأحكام لا تسمى متعدية بالاتفاق مع وجود إلزام فيها بل هي حجة عليهم في أخذ العشر منهم فكذا فيما نحن فيه وقوله إلا أنه أي العشر أو نصف العشر لا يؤخذ من الخنزير جواب عما يقال لما كان أخذ العشر بناء على ديانتهم وأنهم قد دانوا بتقوم الخنزير كما دانوا بتقوم الخمر فوجب أن يؤخذ العشر أو نصف العشر من قيمة الخنزير كما يؤخذ من قيمة الخمر فأجاب بأن حق الأخذ للإمام بالحماية وليس له ولاية حماية الخنزير لنفسه فلا يملك حمايته لغيره وله ولاية حماية الخمر لنفسه للتخليل فيتعدى إلى غيره قوله وحقيقة الجواب كذا يعني ما قلنا إنه تناقض لمنع ورود السؤال وصحته في نفسه فأما على تقدير صحة السؤال فالجواب أنا لا نجعل الديانة متعدية في جميع ما ذكرنا من المسائل أما في مسألة الخمر فلأنها كانت متقومة في الأصل لكن سقط تقومها بالنص وديانتهم لما منعت الإلزام بالدليل أي ألزامنا إياهم سقوط التقوم بالدليل بقي تقومها على ما كان في الأصل فكانت ديانتهم دافعة للإلزام لا مثبتة للتقوم وذلك أي لتقوم شرط الضمان لأنه وصف المحل والمحال بأوصافها شروط والضمان وجب جزاء على الجناية فلا يجب بتقوم المتلف لكن يجب بإتلاف المتلف الذي هو فعله القائم به ولهذا سمي ضمان التعدي والكافر بديانته دفع سقوط التقوم فبقي التقوم على ما كان فيجب (٤/٤٦١) الضمان بوجود شرطه مضافا إلى سببه وهو إتلاف مال الذمي الذي في زعم المتلف أنه متقوم في حق الذمي وإذا لم يضف الضمان إلى تقوم المحل لم تصر الديانة متعدية إذ لو كان مضافا إليه لكانت الديانة متعدية حينئذ لأن التقوم ساقط في حق المسلم فلم يكن السبب موجودا في حقه فلو وجب الضمان لوجب بإثبات التقوم في حقه بديانة الكافر وذلك غير جائز وكذلك أي وكما أن التقوم شرط الضمان إحصان المقذوف شرط وجوب حد القذف لا علته إنما العلة هي القذف لأنه هو الجناية الموجبة للجزاء ولهذا يضاف إليه والكافر بديانته منع سقوط إحصانه الثابت قبل الوطء فيبقى على ما كان فيجب الحد على القاذف مضافا إلى قذفه الذي هو جناية بوجود شرطه وهو الإحصان فكانت الديانة دافعة لا موجبة لأن وجوب الحد لم يضف إلى الإحصان فأما النفقة فإنها شرعت أي وجبت بطريق الدفع في الأصل أي دفع الهلاك عن المنفق عليه لأن سبب النفقة عجز المنفق عليه ومن أسباب العجز الاحتباس الدائم فإن دوامه من غير إنفاق يؤدي إلى الهلاك إذ لا بقاء للإنسان عادة بدون النفقة فتبين أن إيجاب النفقة على الزوج لدفع الهلاك عن المرأة لكونها محبوسة على الدوام لحقه فكانت المرأة في طلب النفقة دافعة للّهلاك عن نفسها بديانتها لبقائها محبوسة لحقه فلا يكون ديانتها موجبة عليه شيئا والدليل على أن النفقة تجب بطريق الدفع أن الأب يحبس بنفقة الابن الصغير أي بسبب منعها عنه لأنه بمنع النفقة عنه يصير بمنزلة القاصد لهلاكه إذ لا بقاء له عادة بدون النفقة فيحل للابن دفع الهلاك عن نفسه بحبس أبيه أو يحل للقاضي دفع الهلاك عن الصغير العاجز بحبس أبيه لأجل النفقة كما يحل دفعه أي دفع الأب بالقتل أو دفع الابن أباه بالقتل إذا قصد الأب قتل الابن ولا يحل حبس الأب بدين الابن جزاء إذ الحبس جزاء الظلم والمماطلة كما لا يحل قتل الأب بسبب قتل الابن قصاصا فثبت أن وجوب النفقة بطريق الدفع وإذا كان كذلك أي كان وجوب النفقة بطريق الدفع أو كان الشأن كما بينا أن وجوب الضمان والحد والنفقة لم يثبت والديانة بل بشيء آخر كانت الديانة دافعة لا موجبة بخلاف الميراث لأنه صلة (٤/٤٦٢) مبتدأة ليس فيه معنى الدفع فلو وجب أي ثبت الميراث للبنت المنكوحة بديانتها كانت ديانتها بصحة النكاح موجبة على البنت الأخرى استحقاقها زيادة الميراث لا دافعة ولا يقال البنت الأخرى قد تدينت بصحة هذا النكاح أيضا حيث اعتقدت المجوسية فيكون استحقاق زيادة الميراث عليها بناء على التزامها بديانتها لأنا نقول لما خاصمت إلى القاضي في الميراث دل على أنها لم تعتقد ذلك وقد ذكر في الأسرار ولا ترث المنكوحة بالنكاح لأنه فاسد في حق التي نازعت في الإرث ودانت بالفساد وذكر في الطريقة البرغرية أن كثيرا من مشايخنا قالوا المذكور في هذه المسألة قولهما فأما على قياس قول أبي حنيفة رحمه اللّه فينبغي أن تستحق الميراث بالزوجية أيضا لأن عنده هذا النكاح محكوم بالصحة وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه أن النكاح وإن كان محكوما بالصحة لا يثبت الإرث به لأنه ثبت لنا بالدليل جواز نكاح المحارم في شريعة آدم عليه السلام ولم يثبت كونه سببا للميراث في دينه فلا يثبت سببا للميراث باعتقادهم وديانتهم لأنه لا عبرة لديانة الذمي في حكم إذا لم يعتمد على شرع ولم يثبت بديانتنا لأن نكاح المحارم في ديانتنا فاسد بخلاف نكاح الأجانب لأنه سبب للميراث في ديننا فيكون سببا في حقهم إذا اعتقدوا ذلك وإذا لم يفسخ أي نكاح المحارم بمرافعة أحد الزوجين فلم يجعل ديانة الذي لم يرفع الأمر إلى القاضي ملزمة على الذي رفعه إليه ولكن جعلنا ديانته دافعة لما ألزمه صاحبه عليه وذلك لأنهما قد دانا جميعا بصحة هذا النكاح حين أقدما على مباشرته فإذا جاء أحدهما طالبا لحكم الإسلام فهو الملزم على صاحبه شيئا لم يعتقده والآخر مصر على اعتقاده كما كان فيكون دافعا بديانته إلزام الغير عليه بخلاف ما إذا ترافعا جميعا لأنهما قد التزما حكم الإسلام في هذه الحادثة فيجري عليهما هذا أي ما أجبنا عن فصل النفقة جواب قد قيل فكأنه رحمه اللّه لم يرض بهذا الجواب لأن أبا يوسف ومحمدا رحمهما اللّه لم يسلما أن النفقة تجب بطريق الدفع وجعلاها صلة مبتدأة كالنكاح وسببها النكاح أيضا كما أن سبب الميراث وهو النكاح فلذلك اختار جوابا آخر وأشار إلى فساد هذا الجواب بقوله الجواب الصحيح عندي عن فصل النفقة إنهما لما تناكحا فقد دانا بصحته فأخذ الزوج بديانته لأن ديانته حجة عليه فوجب عليه النفقة ولم تصح منازعة الزوج في منع (٤/٤٦٣) النفقة بدعوى فساد النكاح من بعد أي من بعد ما أقدم على التزوج ودان بصحته لأنه التزم موجب النكاح حين أقدم عليه فلا يملك إسقاطه بدون رضا صاحب الحق بخلاف منازعة من ليس في نكاحهما في مسألة الإرث وهي البنت الأخرى لأنها لم تلزم هذه الديانة أي الديانة بصحة النكاح حيث نازعت في الإرث ولم يسبق منها ما يدل على الالتزام و قوله وأما القاضي جواب عما يقال إن ديانته لو صلحت حجة عليه في الإيجاب لم يصلح حجة على القاضي في إيجاب القضاء عليه بهذه الخصومة فكانت ديانته متعدية إليه فقال إنما لزم القاضي القضاء بالتقلد دون الخصومة فلا يكون الخصومة ملزمة عليه بل تكون شرطا قوله وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه فكذلك قالا أيضا أي قالا كما قال أبو حنيفة رحمه اللّه إن ديانتهم دافعة للتعرض ودافعة للتعرض لدليل الشرع في الأحكام فيبقى الحكم الثابت قبل الخطاب على ما كان في حقهم لكن هذا في كل حكم كان أصليا قبل الخطاب على وجه لو لم يرد الخطاب لبقي مشروعا في حق المسلمين فأما في حكم ضروري لم يثبت بطريق الأصالة في شريعة قط ولو لم يرد الخطاب في شريعتنا لم يمكن إبقاؤه في حق المسلمين فلا فتقوم الخمر وإباحة شربها وتقوم الخنزير وإباحته كانت أحكاما أصلية قبل شريعتنا فبقصور الدليل بسبب ديانتهم يمكن أن يبقى على الأمر الأول أي على التقوم والإباحة فيجب القول بتقوم الخمر والخنزير في حقهم وبوجوب الضمان على متلفهما وبصحة تصرفاتهم فيهما كما قال أبو حنيفة رحمه اللّه فأما نكاح المحارم فلم يكن أصليا في شريعة وإنما شرع في شريعة آدم عليه السلام بطريق الضرورة بدليل أنه لم يكن يحل للرجل أخته من بطنه وإنما كان يحل له أخته من بطن آخر ولم يبق مشروعا بعده فعلم أنه كان ضروريا وإذا كان كذلك أي كان جواز نكاح المحارم غير أصلي لم يجز استبقاء جوازه أو حله لقصر الدليل أي بسبب قصوره عنهم فهذا الطريق يقتضي عدم صحة نكاح المحارم في حقهم إلا أنا لما أمرنا بترك التعرض لهم لم نمنعهم عن ذلك كما لم نمنعهم عن عبادة الأوثان فإذا رفع أحدهما الأمر إلى القاضي وجب عليه القضاء بالفسخ لفساد النكاح وإذا وطئها بهذا النكاح سقط إحصانه لأنه وطئ بالنكاح الفاسد فلا يجب الحد بقذفه ولأن حد القذف يعني ولئن سلمنا أن النكاح (٤/٤٦٤) صحيح فيما بينهم لا يجب الحد على قاذفه أيضا لأن قيام دليل التحريم أي تحريم الشرع المحارم عاما يصير شبهة في درء الحد عن القاذف فإن في زعم القاذف أنه صادق في قوله يا زان لقيام دليل الحرمة وإن كان في زعم المقذوف أنه كاذب وهذا الطريق يشير إلى أن النكاح صحيح والقضاء بالنفقة على الطريق الأول وهو أن نكاح المحارم ليس بأمر أصلي باطل لما قلنا إنه لما لم يكن أصليا لم يجز استبقاؤه لقصور الدليل فلا يوجب النفقة لفساده كالأنكحة الفاسدة بين المسلمين وأما على هذا الطريق الثاني فكذا يعني أن الطريق الثاني هو أن النكاح صحيح والحد يسقط بالشبهة وإن كان يقتضي أن يصح القضاء بالنفقة لأنها لا تسقط بالشبهة لكنه لا يصح أيضا على هذا الطريق لأن النفقة من جنس الصلات المستحقة بالنكاح ابتداء كالميراث لا أنها تجب بطريق الدفع كما قاله أبو حنيفة رحمه اللّه بدليل أنه لم يشترط لوجوب النفقة على الزوج حاجة المرأة إليها فإنها وإن كانت غنية فائقة في اليسار تستوجب النفقة على الزوج ولو كان وجوبها بطريق الدفع لما وجبت عند عدم الحاجة بوجود اليسار كما لا يجب نفقة الصغير على الأب ونفقة الأبوين على الولد إذا كان لهم مال وإذا كان كذلك لا يمكن القول بإيجابها على الزوج لأن ديانتها تصير حينئذ موجبة كما قلنا جميعا في مسألة الميراث وهو خلاف الإجماع والجواب لأبي حنيفة رحمه اللّه عن هذا الكلام أن الحاجة الدائمة بدوام الحس لا يردها المال المقدر يعني أنها وإن كانت غنية تحتاج إلى النفقة لأن احتباسها لحقه على الدوام ومالها وإن كان كثيرا مقدر فلا يفي بالحاجة الدائمة لأنه لا يبقى مع دوام الحبس فثبت أن وجوب النفقة بطريق الدفع كما قلنا ولما لم يحل هذا لجواب عن تكلف اختار الشيخ في فصل النفقة جوابا آخر كما بينا قوله وأما الشافعي رحمه اللّه فإنه جعل الديانة دافعة للتعرض لا غير يعني لم يجعلها دافعة للخطاب لأن خطاب التحريم تناول الكافر كما تناول المسلم وقد بلغه الخطاب حقيقة أو تقديرا بالإشاعة في دار الإسلام وهو من أهل الدار وإنكاره تعنت وجهل والجهل لا على سبيل التعنت ليس بعذر رفع التعنت أولى إلا أن الشرع أمرنا أن لا (٤/٤٦٥) نتعرض لهم بسبب عقد الذمة وذلك لا يدل على صحة ما دانوا به من الأحكام كما لا يدل على صحة ما دانوا من الكفر فما يرجع إلى التعرض من الأحكام لا يثبت في حقهم وما لا يرجع إليه يثبت فلا يجب على الذمي حد الشرب لأنه شرع زاجرا في المستقبل وفي إيجابه عليه تعرض له في المستقبل فأما سائر الأحكام مثل إثبات التقوم وإيجاب الضمان على المتلف وصحة البيع وإيجاب النفقة على الزوج وإيجاب الحد على القاذف فلا يثبت لأن ديانة الكافر ليست بحجة على غيره بل أثرها في دفع التعرض عنه لا غير والجواب عنه أي عن كلام الشافعي لأبي حنيفة رحمهما اللّه أن تقويم الأموال وإحصان النفوس من باب العصمة وتفسيرها الحفظ عن التعرض فيكون في تحقيق العصمة لنفوسهم وأموالهم تحقيق الحفظ لها عن التعرض أيضا يعني كما أن إسقاط حد الشرب عن الكافر بديانته له من باب ترك التعرض وحفظه عنه إثبات تقوم الخمر وإبقاء الإحصان بديانته من باب الحفظ عن التعرض أيضا لأن الأموال والنفوس لا تصير معصومة عن تعرض المسلمين إلا بإيجاب الضمان عليهم عند الإتلاف فكان ذلك من ضرورات الحفظ عن التعرض كسقوط حد الشرب ولا يلزم عليه أي على ما ذكرنا أن ديانتهم معتبرة في دفع التعرض ودفع الخطاب عنهم عدم اعتبار ديانتهم في استحلال الربا حتى إن الذمي إذا باع درهما بدرهمين من ذمي آخر ثم ترافعا إلى القاضي أو أسلما أو أسلم أحدهما يجب نقضه كما لو باشره مسلم ولم يعتبر في ذلك ديانته لحل ذلك التصرف وجوازه لأن ذلك أي استحلال الربا منهم ليس بديانة لأن من ديانتهم تحريم الربا قال اللّه تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل اللّه كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وذلك أي استحلال الربا منهم في كونه فسقا مثل خيانتهم فيما اؤتمنوا من كتبهم بتغيير الأحكام وتبديل صفات النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنهم نهوا عن ذلك أي عن الخيانة على تأويل المذكور فكانت الخيانة منهم فسقا لا ديانة ولهذا ذمهم اللّه بقوله يحرفون الكلم عن مواضعه فكذلك الربا وذلك الاستحلال منهم بمنزلة ما لو استحلوا الزنا أو السرقة فإن ذلك لا يعتبر في حقهم حتى يجب إقامة الحد عليهم لأنه فسق منهم وليس بديانة لأن الزنا والسرقة حرمان في الأديان كلها فكذلك استحلال الربا ولهذا يستثنى عليهم هذه الأشياء في عقد الذمة فشرط عليهم أن لا (٤/٤٦٦) يقتلوا وأن لا يسرقوا وأن لا يزنوا وأن لا يستربوا وإلا يقال ينبغي أن يكون استحلال الربا فسقا من اليهود فإن النهي تحقق في حقهم دون غيرهم من المجوس وعبدة الأوثان الذين لم يؤمنوا بكتاب ولا نبي لأنا نقول كان شرع تحريم الربا عاما ولم يكن الربا مشروعا قط في دين من الأديان لأنه من باب الظلم وهو حرام في الأديان كلها ولم يكن عقد الذمة مشروعا في ذلك الوقت ليعتبر مانعا من بلوغ الخطاب فيثبت التحريم في حق الجميع قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه وإنما استثنى عليهم أنواع تصرف يقع بيننا وبينهم على الشركة كالربا ونحوه لأنه لو جاز لهم مباشرتها واعتادوا فيما بينهم فعلوا مثل ذلك في عقودهم معنا فتعذر على التاجر الاحتراز عنه فأما عقود معاملات تجري بينهم خاصة لا يتعدى شرها إلينا فتركوا وديانتهم كالأنكحة وشرب الخمر قوله وأما القسم الثاني وهو الجهل الذي دون جهل الكافر ولكنه لا يصلح عذرا أيضا فجهل صاحب الهوى في صفات اللّه عز وجل مثل جهل المعتزلة بالصفات فإنهم أنكروها حقيقة بقولهم أنه تعالى عالم بلا علم قادر بلا قدرة سميع بلا سمع بصير بلا بصر وكذا في سائر الصفات ومثل جهل المشبهة فإنهم قالوا بجواز حدوث صفات اللّه عز وجل وزوالها عنه مشبهين اللّه تعالى بخلقه في صفاته وهذا الجهل باطل لا يصلح عذرا في الآخرة لأنه مخالف للدليل الواضح الذي لا شبهة فيه سمعا وعقلا أما السمع فقوله تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء أنزله بعلمه إن اللّه هو الرزاق ذو القوة المتين إن اللّه لذو فضل على الناس إلى غيرها من الآيات فإنها تدل على أن للّه تعالى صفات هي معان وراء الذات وأما العقل فهو أن المحدثات كما دلت على وجود الصانع جل جلاله دلت على كونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا فوجب أن يكون له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وأن تكون هذه الصفات معاني وراء الذات إذ يحيل العقل أن يحكم بعالم لا علم له وحي لا حياة له وقادر لا قدرة له ولا يفرق بين قول القائل ليس بعالم وبين قوله لا علم له وكذا في جميع الصفات وقد عرف بدلالة العقل أيضا أن ما هو محل الحوادث حادث فلا يجوز أن تكون صفاته تعالى حادثة لاستلزامه حدوث الذات الذي هو محال فثبت بالدليل الواضح الذي لا شبهة فيه أنه تعالى موصوف بصفات الكمال منزه عن النقيصة والزوال وأن (٤/٤٦٧) صفاته قائمة بذاته وليست بأعراض تحدث وتزول بل هي أزلية لا أول لها أبدية لا آخر لها فكان ما ذهب إليه أهل الأهواء باطلا وجهلا بعد وضوح الدليل فلا يصلح عذرا في الآخرة وكذا جهلهم بأحكام الآخرة مثل جهل المعتزلة بسؤال المنكر والنكير وعذاب القبر والميزان والشفاعة لأهل الكبائر وجواز العفو عما دون الشرك وجواز إخراج أهل الكبائر الموحدين من النار وإنكارهم إياها ومثل إنكار الجهمية خلود الجنة والنار وأهاليهما جهل باطل لأن الدلائل الناطقة بهذه الأحكام من الكتاب والسنة كثيرة واضحة لا تخفى على من تأمل فيها عن إنصاف فالجهل بها لا يكون عذرا في الآخرة كجهل الكافر وكذلك جهل الباغي وهو الذي خرج عن طاعة الإمام الحق ظانا أنه على الحق والإمام على الباطل متمسكا في ذلك بتأويل فاسد فإن لم يكن له تأويل فحكمه حكم اللصوص كما سنبينه لا يصلح عذرا لأنه مخالف للدليل الواضح فإن الدلائل على كون الإمام العادل على الحق مثل الخلفاء الراشدين ومن سلك طريقتهم لائحة على وجه يعد جاحدها مكابرا معاندا وتوضيحه يتوقف على معرفة قصة البغاة وهي ما روي أن المخالفة لما استحكمت بين علي ومعاوية رضي اللّه عنهما وكثر القتال والقتل بين المسلمين جعل أصحاب معاوية المصاحف على رءوس الرماح وقالوا لأصحاب علي رضي اللّه عنه بيننا وبينكم كتاب اللّه تعالى ندعوكم إلى العمل به فأجاب أصحاب علي رضي اللّه عنه إلى ذلك وامتنعوا عن القتال ثم اتفقوا على أن يأخذوا حكما من كل جانب فمن اتفق الحكمان على إمامته فهو الإمام وكان علي رضي اللّه عنه لا يرضى بذلك حتى اجتمع عليه أصحابه فوافقهم عليه فاختير من جانب معاوية عمرو بن العاص وكان داهيا ومن جانب علي أبي موسى الأشعري وكان من شيوخ الصحابة فقال عمرو لأبي موسى نعزلهما أولا ثم نتفق على واحد منهما فأجابه أبو موسى إليه ثم قال لأبي موسى أنت أكبر سنا مني فاعزل عليا أولا عن الإمامة فصعد أبو موسى المنبر وحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ودعا للمؤمنين والمؤمنات وذكر الفتنة ثم أخرج خاتمه من أصبعه وقال أخرجت عليا عن الخلافة كما أخرجت خاتمي من أصبعي ونزل ثم صعد عمرو المنبر فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ودعا للمؤمنين والمؤمنات وذكر الفتنة ثم أخذ خاتمه وأدخله في أصبعه وقال أدخلت معاوية في الخلافة كما أدخلت خاتمي هذا في أصبعي فعرف علي رضي اللّه عنه أنهم أفسدوا عليه الأمر فخرج على علي رضي اللّه عنه قريب من اثني عشر ألف رجل من عسكره زاعمين أن عليا كفر حين ترك حكم اللّه وأخذ بحكم الحكمين فهؤلاء هم الخوارج الذين تفرقوا في البلاد (٤/٤٦٨) وزعموا أن من أذنب فقد كفر وكان هذا منهم جهلا باطلا لأنه مخالف للدليل الواضح فإن إمامة علي رضي اللّه عنه ثبتت باختيار كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار كما ثبتت إمامة من قبله به والرضاء بحكم الحكم فيما لا نص فيه أمر أجمع المسلمون على جوازه منصوص عليه في الكتاب فكيف يكون معصية وكذا المسلم لا يكفر بالمعصية فإن اللّه تعالى أطلق اسم الإيمان على مرتكب الذنب في كثير من الآيات كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم وتوبوا إلى اللّه جميعا أيها المؤمنون ونحوها فجهلهم بعد وضوح الأدلة لا يكون عذرا كجهل الكافر إلا أنه أي لكن صاحب الهوى أو الباغي متأول بالقرآن أي متمسك به مؤول له على وفق رأيه فإن نافي الصفات تمسك بأنه تعالى وصف ذاته بالوحدانية في القرآن ونزه نفسه عن الشريك في آيات كثيرة فلو أثبتنا الصفات له لكانت قديمة ولكانت أغيارا للذات وإثبات الأغيار في الأزل مناف للتوحيد ومجوز الحدوث في الصفات تعلق بنحو قوله تعالى وجاء ربك هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك والباغي احتج بقوله تعالى إن الحكم إلا للّه ومن يعص اللّه ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها فكان هذا الجهل دون الجهل الأول من هذا الوجه وإن كان لا يصلح عذرا في الآخرة ولكنه أي هذا الجاهل وهو الباغي وصاحب الهوى لما كان من المسلمين لأنه بالبغي لم يخرج عن الإسلام وكذلك بالهوى إذا لم يغل فيه أو ممن ينتحل الإسلام يعني إذا غلا في هواه حتى كفر ولكنه ينتسب إلى الإسلام مع ذلك كغلاة الروافض والمجسمة لزمنا مناظرته وإلزامه قبول الحق بالدليل فلم نعمل بتأويله الفاسد فإذا استحل الباغي الأموال أو الدماء بتأويل أن مباشرة الذنب كفر لا يحكم بإباحتها في حقه بتأويله كما حكمنا بإباحة الخمر في حق الكافر بديانته لأنه يعتقد الإسلام حقا فأمكن مناظرته وإلزام الحجة عليه بخلاف الكافر لأن ولاية المناظرة والإلزام منقطعة فوجب العمل بديانته في حقه فلذلك قلنا إذا أتلف الباغي مال العادل أي (٤/٤٦٩) نفسه ولا منعة له يضمن كما لو أتلفه غيره لبقاء ولاية الإلزام وكذلك أي وكوجوب الضمان سائر الأحكام التي تلزم المسلمين تلزمه لأنه مسلم وولاية الإلزام باقية فإذا صار للباغي منعة سقط عنه ولاية الإلزام بالدليل حسا وحقيقة فوجب العمل بتأويله الفاسد فلم يؤخذ بضمان في نفس ولا مال بعد التوبة كما لم يؤخذ أهل الحرب به بعد الإسلام وقال الشافعي رحمه اللّه يلزم الضمان وإن كان له منعة لأنه مسلم ملتزم أحكام الإسلام وقد أتلف بغير حق فيجب عليه الضمان لأنه من أحكام الإسلام ولا عبرة لتأويله لأنه مبطل في ذلك وكيف يعتبر اعتقاده بعدما التزم أحكام الإسلام لإثبات أمر على خلافه بخلاف الحربي لأنه غير ملتزم حكم الإسلام أصلا ولنا حديث الزهري قال وقعت الفتنة وأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا متوافرين فاتفقوا على أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو موضوع وكل مال أتلف بتأويل القرآن فهو موضوع وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع وأن تبليغ الحجة الشرعية قد انقطعت بمنعه قائمة حسا فلم تثبت حجة الإسلام في حقهم كما لو انقطعت بحجر شرعي بأن قبل الكافر الذمة لأن حجج الشرع فيما يحتمل الثبوت والسقوط لا تلزم إلا بعد البلوغ فإذا انقطع البلوغ عدمت الحجة فكان تدين كل قوم عن تأويل بمنزلة تدين الآخر من غير مزية ل أحدهما على الآخر والاستحلال بحكم مخالفة الدين حكم يجوز أن يكون كما جاز لنا في البغاة وإن كانوا مسلمين فساوى تدينهم تديننا حال قيام الحرب وانقطاع ولاية الإلزام بالمنعة القائمة كما جعل كذلك في أهل الحرب وحق الأنكحة وهذا بخلاف الإثم فإن الباغي يأثم وإن كان له منعة لأن المنعة لا تظهر في حق الشارع والخروج على اللّه تعالى حرام أبدا والجزاء واجب للّه تعالى أبدا إلا أن يعفو فأما ضمان العباد فيحتمل أن لا يكون كما في الخمر وإنما وجب شرعا فلا يجب إلا بعلم الخطاب والتأمل فيه وبخلاف الباغي الذي ليس بممتنع لأن المانع من التبليغ وهو المنعة لم يتحقق فكان جهله بالحجة بسبب تعنته في الإعراض عن سماع الحجة والتأمل فيه ولا عبرة للتعنت فصار العدم به كأن لا عدم كذا في الأسرار وهذا إذا هلك المال في يده فإن كان قائما في يده وجب رده على صاحبه لأنه لم يملك ذلك بالأخذ كما لا نملك مال أهل البغي والتسوية بين الفئتين المقاتلتين بتأويل الدين في الأحكام أصل وقد روي عن محمد رحمه اللّه أنه قال أفتي في أهل البغي إذا تابوا بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس والأموال ولا ألزمهم ذلك في الحكم لأنهم كانوا معتقدين الإسلام وقد ظهر لهم خطؤهم في التأويل إلا أن ولاية الإلزام كانت منقطعة (٤/٤٧٠) للمنعة فلا يجبرون على أداء الضمان في الحكم ولكن نفتي به فيما بينهم وبين ربهم ولا نفتي أهل العدل بمثله لأنهم محقون في قتالهم وقتلهم ممتثلون للأمر كذا في المبسوط وحاصل هذا الفصل أن المغير للحكم اجتماع التأويل والمنعة فإذا تجرد أحدهما عن الآخر لا يتغير الحكم في حق ضمان المصاب حتى لو أن قوما غير متأولين غلبوا على مدينة فقتلوا الأنفس واستهلكوا الأموال ثم ظهر عليهم أهل العدل أخذوا بجميع ذلك لتجرد المنعة عن التأويل قوله ووجبت المجاهدة لمحاربتهم أي لأجل محاربتهم يعني إنما وجبت مقاتلتهم بطريق الدفع لا أن تجب ابتداء كما تجب مقاتلة الكفار فإن عليا رضي اللّه عنه قال للخوارج في خطبته ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا يعني حتى تعزموا على القتال بالتجمع والتحيز عن أهل العدل فدل أنهم ما لم يعزموا على الخروج لا يتعرض لهم بالقتل والحبس فإذا تجمعوا وعزموا على الخروج وجب على كل من يقوى على القتال أن يقاتلهم مع إمام المسلمين لقوله تعالى فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه والأمر للوجوب ولأنهم قصدوا أذى المسلمين وتهييج الفتنة وإماطة الأذى وتسكين الفتنة من أبواب الدين وخروجهم معصية ففي القيام بقتالهم نهي عن المنكر وهو فرض والإمام فيه علي رضي اللّه عنه فإنه قام بالقتال وأخبر أنه مأمور بذلك بقوله أمرت بقتال المارقين والناكثين والقاسطين ووجب قتل أسرائهم والتذفيف على جريحهم ذكر هاهنا لفظ الوجوب وذكر في المبسوط بلفظه لا بأس فقيل لا بأس بقتل أسيرهم إذا كانت لهم فئة لأن شره لم يندفع ولكنه مقهور لو تخلص لتحيز إلى فئته فإذا رأى الإمام مصلحة في قتله فلا بأس بأن يقتله وإذا لم يبق لهم فئة لا يقتل لأن إباحة القتل لدفع البغي وقد اندفع وكان علي رضي اللّه عنه يحلف من باشره منهم أن لا يخرج عليه ثم يخلي سبيله وكذلك لا بأس بأن يجهز على جريحهم إذا كانت فئتهم باقية لأنه إذا برئ عاد إلى الفتنة والشر بقوة تلك الفئة ولأن في قتل الأسير والإجهاز كسر شوكة أصحابه فإذا بقيت لهم فئة يحصل هذا المقصود بذلك بخلاف ما إذا لم تبق لهم فئة والتذفيف الإسراع في القتل والمراد من التذفيف هاهنا إتمام القتل ولم نضمن نحن أموالهم بالإتلاف لما ذكر في الكتاب ودماءهم لأن قتلهم واجب على المسلمين (٤/٤٧١) فلا يوجب ضمانا ولم نحرم عن الميراث حتى لو قتل العادل في الحرب مورثه الباغي ورثه لأن الإسلام جامع بين الوارث والمورث في الدين فلم يثبت اختلاف الدين الذي هو مانع من الإرث باختلاف ديانتهما والقتل بحق فلا يصلح سببا للحرمان كالقتل رجما أو قصاصا لأن حرمان الميراث عقوبة شرعت جزاء على قتل محظور فالقتل المأمور به لا يصلح أن يكون سببا له وهم أي أهل البغي لم يحرموا عن الميراث حتى لو قتل الباغي أخاه العادل وقال كنت على الحق وأنا الآن على الحق ورثه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه وإن قال كنت على باطل لم يرثه وقال أبو يوسف رحمه اللّه لا يرثه بحال لأنه قتل بغير حق فيحرم به عن الميراث كما لو قتله ظلما من غير تأويل وهذا لأن اعتقاده وتأويله لا يكون حجة على مورثه العادل ولا على سائر ورثته إنما يعتبر ذلك في حقه خاصة يوضحه أن تأويل أهل البغي عند انضمام المنعة إليه يعتبر على الوجه الذي يعتبر في حق أهل الحرب وتأثير ذلك في إسقاط ضمان النفس والمال لا في حكم التوريث فكذلك تأويل أهل البغي ولهما أن المقاتلة بين الفئتين بتأويل الدين فتستويان في الأحكام وإن اختلفا في الإمام كما في سقوط الضمان وذلك لأن ولاية الإلزام لما انقطعت بالمنعة كان القتل منهم في حكم الدنيا في حكم الجهاد بناء على ديانتهم لأنهم اعتقدوا أنفسهم على الحق وخصومهم على الباطل فكانت مقاتلتهم الخصوم جهادا في زعمهم وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وإن كان باطلا في الحقيقة وقوله اعتقاده لا يكون حجة على مورثه العادل فاسد لأن اعتقاده كما لا يكون حجة على العادل في حكم التوريث لا يكون حجة في حكم سقوط حقه عن الضمان ولكن لما انقطعت ولاية الإلزام بانضمام المنعة إلى التأويل جعل الفاسد من التأويل كالصحيح في ذلك الحكم فكذا في حق التوريث كذا في المبسوط قوله ووجب حبس الأموال أي أموال أهل البغي زجرا لهم عن البغي وعقوبة كما وجب قتل نفوسهم فإذا تفرق جمعهم وانكسرت شوكتهم ترد عليهم أموالهم لأنها لم تتملك لبقاء العصمة والإحراز فيها ولأن الملك بطريق الاستيلاء لا يثبت ما لم يتم بالإحراز بدار تخالف دار المستولى عليه ولم يوجد لأن دار الفئتين واحدة وقيل لعلي رضي اللّه عنه يوم الجمل ألا تقسم بيننا ما أفاء اللّه علينا قال فمن يأخذ منكم عائشة (٤/٤٧٢) وإنما قال ذلك استبعادا لكلامهم وإظهارا لخطئهم فيما طلبوا وقد جمع ما أصاب من عسكر أهل النهروان في رحبة الكوفة فمن كان يعرف شيئا أخذه وهي بحكم الديانة مختلفة حيث اعتقد كل واحد من الفريقين أن الفريق الآخر على الباطل وأن دماءهم مباحة وقد غلبوا على دار الإسلام وجعلوها دار الحرب حيث لزمنا محاربتهم قوله وكذلك أي ومثل جهل الباغي وصاحب الهوى جهل من خالف في اجتهاده الكتاب والسنة الواو بمعنى أو مثل الفتوى ببيع أمهات الأولاد كان بشر المريسي وداود الأصبهاني ومن تابعه من أصحاب الظواهر يقولون بجواز بيع أم الولد متمسكين في ذلك بما روي عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما أنه قال كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبأن المالية والمحلية للبيع قبل الولادة معلومة فيها بيقين فلا ترتفع بعد الولادة بالشك وعند جمهور العلماء لا يجوز بيعها لدلالة الآثار المشهورة عليه مثل قوله عليه السلام لمارية أعتقها ولدها وقوله عليه السلام أيما أمة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه رواه ابن عباس رضي اللّه عنهما وما روي عن سعيد بن المسيب رحمه اللّه أنه قال أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعتق أمهات الأولاد من غير الثلث وأن لا يبعن في دين وما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه كان ينادي على المنبر إلا أن بيع أمهات الأولاد حرام ولا رق عليها بعد موت مولاها وقد تلقاها القرن الثاني بالقبول وانعقد الإجماع على عدم جواز بيعها فكان القول بالجواز مخالفا للأحاديث المشهورة والإجماع فكان مردودا ومثل القول بالقصاص في القسامة إذا وجد القتيل ولا يدرى قاتله تجب القسامة على أهل المحلة والدية على عواقل أهل المحلة عندنا ولا يجب القصاص بحال وقال مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في القديم إن كان بين القتيل وأهل المحلة عداوة ظاهرة أو لوث وهو ما يغلب به على ظن القاضي والسامع صدق المدعي يؤمر الولي بأن يعين القاتل منهم ثم يحلف الولي خمسين يمينا أنه قتله عمدا فإذا حلف يقتص له من القاتل (٤/٤٧٣) متمسكين في ذلك بظاهر قوله عليه السلام لأولياء المقتول الذي وجد في خيبر أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم الحديث أي دم قاتل صاحبكم وحجة من أبى وجوب القصاص بالقسامة الأحاديث المشهورة فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى بالقسامة والدية على اليهود في قتيل وجد بين أظهرهم وروى زياد بن أبي مريم أن رجلا جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال إني وجدت أخي قتيلا في بني فلان فقال اختر من شيوخهم خمسين رجلا فيحلفون باللّه ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا فقال وليس لي من أخي إلا هذا قال نعم ولك مائة من الإبل وفي الحديث أن قتيلا وجد بين وداعة وأرحب وكان إلى وداعة أقرب فقضى عمر رضي اللّه عنه عليهم بالقسامة والدية فقالوا لا أيماننا تدفع عن أموالنا ولا أموالنا تدفع عن أيماننا فقال حقنتم دماءكم بأيمانكم وأغرمكم الدية بوجود القتيل بين أظهركم وكان ذلك منه بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فحل محل الإجماع فكان القول بوجوب القصاص بها مخالفا لهذه الأدلة الظاهرة المشهورة ولقوله عليه السلام البينة على المدعي واليمين على من أنكر فكان مردودا ومثل استباحة متروك التسمية عمدا عملا بقوله عليه السلام تسمية اللّه في قلب كل مؤمن وبالقياس على متروك التسمية بالنسيان مخالف لقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه وإنه لفسق ومثل إيجاب القضاء بالشاهد الواحد ويمين المدعي عملا بما روي أن النبي عليه السلام قضى بذلك مخالف للكتاب وهو قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم إلى أن قال وأدنى أن لا ترتابوا وللحديث المشهور وهو قوله عليه السلام البينة على المدعي واليمين على من أنكر كما مر بيانه في باب الانقطاع فيكون مردودا ففي هذه المسائل ونظائرها إن اعتمد الخصم على القياس فهو منه عمل بالاجتهاد على خلاف الكتاب أو السنة وإن اعتمد على الخبر فهو عمل منه بالغريب من السنة على خلافهما أو خلاف أحدهما فيكون فاسدا لأنا أمرنا متصل بقوله ليس بعذر أصلا أي أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم ومن المعروف العمل بالكتاب والسنة المشهورة ومن المنكر مخالفتهما أو مخالفة أحدهما ومن النصيحة الإرشاد إلى الصواب وإظهار الحق بالمناظرة وإقامة الدليل فيجب علينا ذلك ويجب على الخصم الطلب والقبول فلا يكون جهله عذرا بوجه وعلى هذا وهو أن العمل بالاجتهاد على خلاف الكتاب أو السنة المشهورة باطل يبتنى ما ينفذ فيه قضاء القاضي وما لا ينفذ فإن وجد فيه العمل بخلاف الكتاب أو السنة كما في هذه الأمثلة لا ينفذ لأنه باطل وإن عدم فيه ذلك كما في عامة المجتهدات ينفذ (٤/٤٧٤) قوله وأما القسم الثالث وهو الجهل الذي يصلح شبهة فهو الجهل في موضع تحقق فيه الاجتهاد من غير أن يكون مخالفا للكتاب أو السنة وهو المراد بالصحيح أو في غير موضع الاجتهاد أي لم يوجد فيه اجتهاد ولكنه موضع الاشتباه صلى الظهر على غير وضوء يعني غير عالم بعدم الوضوء ثم صلى العصر على وضوء ذاكرا لذلك وهو يظن أن الظهر أجزأه لكونه غير عالم بعدم الوضوء فيه فالعصر فاسدة كالظهر عندنا فكان عليه أن يعيدهما جميعا لأن ظنه بجواز الظهر جهل واقع على خلاف الإجماع لأن ظهره فاسد بلا خلاف فكان من القسم الثاني لا من هذا القسم وكان الحسن بن زياد رحمه اللّه يقول إنما يجب مراعاة الترتيب على من يعلم فأما من لا يعلم به فليس عليه ذلك لأنه ضعيف في نفسه فلا يثبت حكمه في حق من لا يعلم به وكان زفر رحمه اللّه يقول إذا كان عنده أن ذلك يجزيه فهو في معنى الناسي للفائتة فيجزيه فرض الوقت ولأن العصر لو لم يجز إنما لا يجوز باعتبار الترتيب وهو مجتهد فيه فكان ظنه في موضع الاجتهاد فيعتبر لكنا نقول إن كان الرجل مجتهدا قد ظهر عنده أن مراعاة الترتيب ليست بفرض فهو دليل شرعي وكذلك إن كان ناسيا فهو معذور غير مخاطب بأداء الفائتة قبل أن يتذكر فأما إذا كان ذاكرا وهو غير مجتهد فمجرد ظنه ليس بدليل شرعي فلا يعتبر فإن قضى الظهر وحدها وهذا الفرع هو المقصود من إيراد هذا المثال ثم صلى المغرب وهو يظن أن العصر أجزأته جاز المغرب ويعيد العصر فقط لأن ظنه بجواز العصر جهل في موضع الاجتهاد في ترتيب الفوائت فإن الخلاف بين العلماء في وجوب الترتيب خلاف معتبر فكان دليلا شرعيا وحاصل الفرق أن فساد الظهر بترك الوضوء فساد قوي مجمع عليه فكانت متروكة بيقين فيظهر أثر الفساد فيما يؤدي بعدها ولم يعذر بالجهل فأما فساد العصر بسبب ترك الترتيب فضعيف مختلف فيه فلا تكون متروكة بيقين فلا يتعدى حكمه إلى صلاة أخرى لأن وجوب الترتيب ثبت بالسنة في متروكة بيقين علما وعملا وهو كمن جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد بطل العقد فيهما بخلاف ما إذا جمع بين قن ومدبر كذا في المبسوط قوله وقال أصحابنا إلى آخره إذا كان الدم بين اثنتين فعفا أحدهما ثم قتله الآخر عمدا فإن لم يعلم بعفو الشريك أو علم بذلك ولم يعلم أن بعفو أحدهما يسقط (٤/٤٧٥) القود فعليه الدية كاملة في ماله عندنا وقال زفر رحمه اللّه عليه القصاص لأن القود سقط بعفو أحدهما علم الآخر به أو لم يعلم اشتبه عليه حكمه أو لم يشتبه فبقي مجرد الظن في حق الآخر والظن غير مانع من وجوب القصاص بعدما تقرر سبب كما لو قتل رجلا على ظن أنه قتل وليه ثم جاء وليه حيا كان عليه القصاص وحجتنا في ذلك أنه قد علم وجوب القصاص وما علم ثبوته فالأصل بقاؤه واجبا في حقه ظاهرا والظاهر يصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات وكذا إذا علم بالعفو ولم يعلم أن القود سقط به لأن الظاهر أن تصرف الغير في حقه غير نافذ وسقوط القود عند عفو أحدهما باعتبار معنى خفي وهو أن القصاص لا يحتمل التجزي فإنما اشتبه عليه حكم قد يشتبه فيصير ذلك بمنزلة الظاهر في إيراث الشبهة بخلاف ما إذا علم أن القود سقط بالعفو ثم قتله عمدا حيث يجب القصاص لأن هناك قد ظهر المسقط عنده وأقدم على القتل مع العلم بالحرمة وقد يجوز أن يسقط القود باعتبار ظنه كما لو رمى إلى شخص ظنه كافرا فإذا هو مسلم وإذا سقط القود عنه بالشبهة لزمته الدية في ماله لأن فعله عمد ثم يحسب له منها بنصف الدية لأن يعفو الشريك وجب له نصف الدية على المقتول فيصير نصف الدية قصاصا بالنصف ويؤدي ما بقي كذا في المبسوط فعلى هذا كان المراد من قوله لأن جهله حصل في موضع الاجتهاد أن الاجتهاد يقتضي أن يثبت لكل واحد منهما ولاية الاستيفاء على الكمال لأن إثبات ما لا يتجزأ لاثنين يوجب ثبوته لكل واحد منهما كاملا كولاية الإنكاح على ما مر بيانه لا أن المراد منه أن بقاء ولاية الاستيفاء بعد عفو أحد الشريكين للآخر أمر مجتهد فيه كما أن الترتيب في المسألة الأولى أمر مجتهد فيه فإن أحدا من الفقهاء لم يقل بذلك وذكر في التهذيب أن القصاص إذا ثبت لاثنين كان لكل واحد منهما أن ينفرد بقتله عند بعض أهل المدينة حتى لو عفا أحدهما كان للآخر قتله فعلى هذا كان سقوط القصاص بعفو البعض أمرا مجتهدا فيه إن كان ذلك الاجتهاد صحيحا فلا يحتاج كلام الشيخ إلى تأويل وفي حكم يسقط بالشبهة يعني بعدما حصل جهله في موضع الاجتهاد حصل في حكم يسقط بالشبهة وهو القصاص فكان أولى بالاعتبار من الجهل في المسألة الأولى قوله وكذلك أي وكالولي القاتل في أن الجهل يصلح شبهة صائم احتجم ثم أفطر على ظن أن الحجامة فطرته وظن أن على ذلك التقدير أي تقدير أن الحجامة فطرته لم تلزمه الكفارة بالإفطار بعدها أو ظن أن على تقدير الأكل بعد حصول الإفطار (٤/٤٧٦) بالحجامة لم تلزمه الكفارة وقوله لما قلنا متعلق بكذلك لأنه يتضمن جواب المسألة فإن جوابها ليس بمذكور صريحا على هذا الوجه الذي بينا يعني وكما يسقط القصاص بجهل الولي تسقط الكفارة بجهل صائم إلى آخره لما قلنا إن حصول الجهل في موضع الاجتهاد وفي حكم يسقط بالشبهة معتبر وظن هذا الصائم في موضع الاجتهاد إذ الأوزاعي يقول بفساد الصوم بالحجامة معتمدا على قوله عليه السلام حين رأى رجلين حجم أحدهما صاحبه أفطر الحاجم والمحجوم وفي موضع يسقط بالشبهة لأن كفارة الصوم تسقط بالشبهات لترجح جانب العقوبة فيها على ما مر بيانه وظني أن قوله وعلى ذلك التقدير زيادة وقعت من الكاتب وأن قوله لم تلزمه الكفارة جواب المسألة ولما قلنا متعلق به لأن الكلام مستقيم متضح بدون تلك الزيادة ثم ما ذكر الشيخ من سقوط الكفارة بالظن في هذه المسألة ليس بمجرى على ظاهره فإن شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه ذكر في شرح كتاب الصوم أن الصائم لو احتجم فظن أن ذلك يفطره ثم أكل متعمدا ولم يستفت عالما ولم يبلغه الحديث نسخه أو بلغه وعرف تأويله وجبت عليه الكفارة لأن ظنه حصل في غير موضعه فإن انعدام ركن الصوم بوصول الشيء إلى باطنه ولم يوجد وفساده بالاستقاء والحيض بخلاف القياس فيكون ظنه مجرد جهل وهو غير معتبر فإن استفتى فقيها يؤخذ منه الفقه ويعتمد على فتواه فأفتاه بالفساد فأفطر بعد ذلك متعمدا لا تجب عليه الكفارة لأن على العامي أن يعمل بفتوى المفتي إذا كان المفتي ممن يؤخذ منه الفقه ويعتمد على فتواه وإن كان يجوز أن يكون مخطئا فيما يفتي لأنه لا دليل للعامي سوى هذا فكان معذورا فيما صنع ولا عقوبة على المعذور ولو لم يستفت ولكن بلغه الحديث ولم يعرف نسخه ولا تأويله قال أبو حنيفة ومحمد والحسن بن زياد رحمهما اللّه لا كفارة عليه لأن الحديث وإن كان منسوخا لا يكون أدنى درجة من الفتوى إذا لم يبلغه النسخ فيصير شبهة وقال أبو يوسف رضي اللّه عنه عليه الكفارة لأن معرفة الأخبار والتمييز بين صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها مفوض إلى الفقهاء فليس للعامي أن يأخذ بظاهر الحديث لجواز أن يكون مصروفا عن ظاهره أو منسوخا إنما له الرجوع إلى الفقهاء والسؤال عنهم فإذا لم يسأل فقد قصر فلا يعذر وهكذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه اللّه أيضا فتبين أن الظن في هذه المسألة (٤/٤٧٧) بدون اعتماده على فتوى أو حديث ليس بمعتبر وأن قول الأوزاعي لا يصير شبهة لأنه مخالف للقياس قوله ومن زنى بجارية امرأته بيان القسم الثاني وهو الجهل في موضع الشبهة أي الاشتباه واعلم أن الشبهة الدارئة للحد نوعان شبهة في الفعل وتسمى شبهة اشتباه لأنها تنشأ من الاشتباه وشبهة في المحل وتسمى شبهة الدليل والشبهة الحكمية فالأولى هي أن يظن الإنسان ما ليس بدليل الحل دليلا فيه ولا بد فيها من الظن ليتحقق الاشتباه والثانية أن يوجد الدليل الشرعي النافي للحرمة في ذاته مع تخلف حكمه عنه لمانع اتصل به وهذا النوع لا يتوقف تحققه على ظن الجاني واعتقاده فمن هذا القسم ما لو وطئ الأب جارية ابنه فإنه لا يجب عليه الحد وإن قال علمت أنها علي حرام لأن المؤثر في إيراث الشبهة الدليل الشرعي وهو قوله عليه السلام أنت ومالك لأبيك وهو قائم فلا يفترق في الحال بين الظن وعدمه في سقوط الحد ومن القسم الأول ما إذا وطئ الابن جارية أبيه وجارية أمه أو وطئ الرجل جارية امرأته فإن قال ظننت أنها تحل لي لا يجب الحد عليهما عندنا وقال زفر رحمه اللّه يجب عليهما الحد لأن السبب وهو الزنا قد تقرر بدليل أنهما لو قالا علمنا بالحرمة يلزمهما الحد فلو سقط إنما يسقط بالظن والظن لا يغني من الحق شيئا كمن وطئ جارية أخيه أو أخته وقال ظننت أنها تحل لي ولكنا نقول قد تمكنت بينهما شبهة اشتباه لأن مال المرأة من وجه مال لزوج وقيل في تأويل قوله تعالى ووجدك عائلا فأغنى أي بمال خديجة ولأنها حلال له فربما يشتبه عليه أن حال جاريتها كحالها وكذا في جارية الأب والأم قد يشتبه ذلك باعتبار أن الأملاك متصلة بين الآباء والأبناء والمنافي دائرة والولد جزء أبيه وأمه فربما يشتبه أنها لما كانت حلالا للأصل تكون حلالا للجزء أيضا فيصير الجهل أي الجهل بالحرمة والتأويل أي تأويل أن الجارية تحل لي كما تحل نفس المرأة وكما تحل جاريتي لأبي بالتملك شبهة في سقوط الحد لأن شبهة الاشتباه مؤثرة في سقوط الحد على من اشتبه عليه كقوم سقوا على مائدة خمرا فمن علم منهم أنه خمر يجب عليه الحد ومن لم يعلم لا يحد دون النسب والعدة يعني يثبت النسب بهذه الشبهة وإن ادعاه ولا تجب العدة بها لأن الفعل تمحض زنا في نفسه فيمنع ثبوت النسب ووجوب العدة وإن سقط الحد للاشتباه بخلاف الشبهة الحكمية حيث لا يثبت بها النسب ويجب بها العدة كما يسقط بها الحد لأن الفعل لم يتمحض زنا نظرا إلى (٤/٤٧٨) قيام الدليل لهذا لم يفترق الحال فيها بين العلم بالحرمة وعدمه وهذا بخلاف ما لو زنى بجارية أخيه أو أخته وقال ظننت أنها تحل لي حيث لم يجعل الجهل شبهة في سقوط الحد لأن منافع الأملاك بينهما متباينة عادة فلا يكون هذا محل الاشتباه فلا يصير الجهل شبهة وكذلك أي كما لا يحد الولد بوطء جارية أبيه عند عدم العلم بالحرمة ويصير جهله شبهة في سقوط الحد لا يحد الحربي الذي أسلم ودخل دارنا فشرب الخمر إذا لم يعلم بالحرمة يصير جهله شبهة في سقوطه بخلاف ما إذا زنى ظانا أنه ليس بحرام وبخلاف الذمي الذي أسلم وشرب الخمر ظانا أنها حلال حيث يحدان جميعا وهذا أي التفرقة بين شرب الخمر وبين الزنا في الحربي والتفرقة بين الحربي وبين الذمي في شرب الخمر بناء على الأصل الذي ذكرناه وهو أن الجهل في موضع الاشتباه يصلح شبهة دارئة للحد وفي غير موضع الاشتباه لا يصلح لذلك فجهل الحربي بحرمة الخمر في موضع الاشتباه لأنها ثبتت بالخطاب وهو منقطع عن أهل الحرب ودارهم دار الجهل وضياع الأحكام فيصلح جهله شبهة دارئة للحد فأما جهله بحرمة الزنا ففي غير محله لأن الزنا حرام في الأديان كلها فلم يتوقف العلم بحرمته على بلوغ خطاب الشرع لتحقق حرمته قبله فلا يصلح شبهة في سقوط الحد وكذا جهل الذمي بحرمة الخمر لأنه من أهل دار الإسلام وتحريم الخمر شائع فيها فلم يصر جهله شبهة لعدم مصادفته محله بل الاشتباه وقع من تقصيره في الطلب فلا يعذر قوله وأما القسم الرابع وهو الذي يصلح عذرا فهو كذا والفرق بين هذا القسم وبين القسم الثالث أن هذا القسم بناء على عدم الدليل والقسم الثالث بناء على اشتباه ما ليس بدليل بالدليل كذا قيل فالجهل في دار الحرب من مسلم لم يهاجر يكون عذرا في الشرائع حتى لو مكث مدة ولم يصل فيها أو لم يصم ولم يعلم أن عليه الصلاة والصوم لا يكون عليه قضاؤهما وقال زفر رحمه اللّه يجب عليه قضاؤهما لأن بقبول الإسلام صار ملتزما لأحكامه ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله به وذلك لا يسقط القضاء بعد تقرر السبب الموجب كالنائم إذا انتبه بعد مضي وقت الصلاة ونحن نقول إن الخطاب النازل خفي في حقه لعدم بلوغه إليه حقيقة بالسماع ولا تقديرا باستفاضته وشهرته لأن دار الحرب ليست بمحل استفاضة أحكام الإسلام فيصير الجهل بالخطاب عذرا لأنه غير مقصر (٤/٤٧٩) في طلب الدليل وإنما جاء الجهل من قبل خفاء الدليل في نفسه حيث لم يشتهر في دار الحرب بسبب انقطاع ولاية التبليغ عنهم وكذلك أي وكالخطاب في حق أهل الحرب في الخفاء الخطاب في أول ما ينزل فإنه خفي في حق من لم يبلغه من المسلمين لعدم استفاضته بينهم فيصير الجهل به عذرا مثل ما روينا بضم الراء في قصة أهل قباء فإنهم صلوا صلاة الظهر إلى بيت المقدس بعد نزول فرض التوجه إلى الكعبة وافتتحوا العصر متوجهين إليه أيضا فأخبروا بتحول القبلة إلى الكعبة وهم في الصلاة فتوجهوا إليها وأتموا صلاتهم وجوز ذلك لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأن الخطاب لم يبلغهم وعليه حمل الشيخ قوله تعالى وما كان اللّه ليضيع إيمانكم أي صلاتكم إلى بيت المقدس والمذكور في التفسير أن النبي عليه السلام لما توجه إلى الكعبة قالوا كيف من مات قبل التحويل من إخواننا فنزلت هذه الآية وقصة تحريم الخمر فإن بعض الصحابة كانوا في سفر فشربوا بعد التحريم لعدم علمهم بحرمتها فنزل قوله ليس على الذين آمنوا الآية وعن ابن كيسان لما نزل تحريم الخمر والميسر قال أبو بكر رضي اللّه عنه يا رسول اللّه كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا الميسر وكيف بالغاصبين عنا في البلدان لا يشعرون بتحريمها وهم يطعمونها فأنزل اللّه تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي من الأموات والأحياء في البلدان إثم فيما طعموا من الخمر والقمار إذا ما اتقوا ما حرم اللّه عليهم سواهما وقيل اتقوا الشرك وآمنوا باللّه وعملوا الصالحات في إيمانهم ثم اتقوا يعني الأحياء في البلدان الخمر والقمار إذا جاءهم تحريمها وآمنوا صدقوا بتحريمها ثم اتقوا ما تحرم عليهم بعد هذا بنص يرد في التحريم لبعض ما أحل لهم وأحسنوا فيما تعبدهم اللّه واللّه يحب المحسنين فهذا معنى ذكر التقوى ثلاثا في هذه الآية كذا في التيسير فثبت بما ذكرنا أن حكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب قبل علمه به إذ ليس (٤/٤٨٠) في وسعه الائتمار قبل العلم فلذلك يعذر فأما إذا انتشر الخطاب في دار الإسلام فقد تم التبليغ من صاحب الشرع إذ ليس في وسعه التبليغ إلى كل واحد إنما الذي في وسعه الإشاعة ألا ترى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم جعل نفسه مبلغا إلى الكافة يبعث الكتب والرسل إلى ملوك الأطراف حتى كان يقول ألا هل بلغت اللّهم فاشهد فعلم أن التبليغ يتم باشتهار الخطاب واستفاضته فمن جهل من بعد شهرته فإنما أتي من قبل تقصيره أي ابتلي بالجهل من هذه الجهة يقال من هاهنا أتيت أي من هاهنا دخل عليك البلاء ومنه قول الأعرابي وهل أتيت إلا من الصوم أي وهل أتاني المحذور إلا من الصوم لأن الخطاب صار متيسر الإصابة بالاشتهار لا من قبل خفاء الدليل فلذلك قلنا إذا أسلم الذمي في دار الإسلام ومكث مدة ولم يصل ولم يعلم بوجوبها كان عليه قضاؤها لأنه في دار شيوع الأحكام ويرى شهود الناس الجماعات ويمكنه السؤال عن أحكام الإسلام فترك السؤال والطلب تقصير منه فلا يعذر كمن لم يطلب الماء في العمر ظانا أن الماء معدوم فتيمم وصلى والماء موجود لم تجز صلاته لأنه مقصر في ترك الطلب في موضع الماء غالبا بخلاف ما إذا ترك الطلب في المفازة على ظن عدم الماء وتيمم وصلى حيث جازت صلاته لأنه ليس بمقصر بترك الطلب في هذا الموضع فإذا لم يكن على طمع من الماء لم يلزمه الطلب لعدم الفائدة وإنما قيد بقوله والماء موجود لأنه إذا لم يكن موجودا في الواقع جازت صلاته كذا في بعض الحواشي قوله وكذلك أي وكجهل من أسلم في دار الحرب جهل الوكيل بالوكالة وجهل المأذون بالإذن يكون عذرا حتى لو تصرفا قبل بلوغ الخبر إليهما لم ينفذ تصرفهما على الموكل والمولى ولو وكله ببيع شيء يتسارع إليه الفساد ولم يعلم بالوكالة حتى فسد ذلك الشيء لم يضمن شيئا ولو وكله بشراء شيء بعينه فاشتراه الوكيل لنفسه قبل العلم بالوكالة يصح وبعد العلم لا يصح ولو باع متاعا للموكل قبل العلم بالوكالة لا ينفذ على الموكل بل يتوقف على إجازته كبيع الفضولي لأن فيه أي في التوكيل والإذن ضرب إيجاب وإلزام حيث يلزمهما حقوق العقد من التسليم والتسلم ونحوهما ويمتنع على الوكيل شراء شيء وكل بشرائه بعينه وبيع شيء وكل بيعه ممن لا يقبل شهادته له ويطالب العبد بعهدة تصرفاته بعد الإذن في الحال ولم يكن مطالبا بها قبل الإذن فكما لا يثبت (٤/٤٨١) حكم العزل والحجر في حقهما قبل العلم لدفع الضرر عنهما لا يثبت حكم الوكالة والإذن لذلك أيضا ألا ترى أن حكم الشرع لا يلزم في حقه مع كمال ولايته قبل العلم به فلأن لا يثبت حكم من جهة العبد الذي هو قاصر الولاية كان أولى إلا أنه أي لكنه لا يشترط فيمن يبلغ الوكيل أو العبد أو يبلغ الإذن أو الوكالة إليهما العدالة بالاتفاق وإن كان المبلغ فضوليا لأن التوكيل أو الإذن ليس بإلزام محض وإن كان فيه إلزام من الوجه الذي قلنا بل هو أي الوكيل أو العبد يخير بعد بلوغ الخبر إليه في قبول الوكالة والإذن وتحقق معنى الإلزام من الوجه الذي بينا لا يخل بهذا الاختيار بوجه فلذلك لا يشترط فيه شيء من شرائط الإلزام أي الشهادة وجهل الوكيل بالعزل وجهل المأذون بالحجر عذر لخفاء الدليل ولزوم الضرر على كل واحد منهما بصحة العزل والحجر إذ الوكيل يتصرف على أن يلزم تصرفه على الموكل والعبد يتصرف على أن يقضي دينه من كسبه ورقبته وبالعزل والحجر يلزم التصرف على الوكيل ويتأخر دين العبد إلى العتق ويؤدي بعد العتق من خالص ملكه وفيه من الضرر ما لا يخفى قوله وجهل مولى العبد الجاني فيما يتصرف فيه أي في العبد إذا جنى العبد جناية يخير المولى بين الدفع والفداء فإذا تصرف المولى في هذا الجاني بالبيع أو بالإعتاق ونحوهما بعد العلم بجنايته يصير مختارا للفداء وهو الأرش فإن لم يعلم بالجناية حتى تصرف فيه ببيع ونحوه لا يصير مختارا للفداء بل يجب عليه الأقل من القيمة ومن الأرش ويصير جهله بالجناية عذرا وجهل الشفيع بالشفعة أي بسبب ثبوت الشفعة وهو البيع يكون عذرا حتى إذا علم بالبيع بعد زمان يثبت له حق الشفعة لأن الدليل أي دليل العلم في الصور الأربع خفي في حق هؤلاء لأن هذه الأمور لا تكون مشهورة ويستبد الموكل بالعزل والمولى بالحجر والعبد بالجناية وصاحب الدار بالبيع فأنى يحصل العلم للوكيل والعبد والمولى والشفيع بهذه الأمور وفيه أي في كل واحد من هذه الأمور إلزام ضرر حيث يلزم التصرف بالعزل على الوكيل وتصير العين مضمونة عليه وتبطل ولاية المأذون في التصرفات بالحجر ويلزم على المولى الدفع أو الفداء بجناية العبد ويلزم على الشفيع ضرر الجار بالبيع وإذا كان كذلك يتوقف ثبوتها على العلم كأحكام الشرع فشرط (٤/٤٨٢) أبو حنيفة يعني ولما كان في كل واحد منها معنى الإلزام شرط أبو حنيفة رحمه اللّه في الذي يبلغه من غير رسالة العدد أو العدالة ولم يشترط كليهما لأنه من حيث إنه تصرف في حق نفسه دون الإلزامات المحضة في الأموال وغيرها فلذلك لم يشترط فيه إلا أحد شطري الشهادة وقد مر تحقيقه في باب بيان محل الخبر وكذلك أي ومثل قوله في اشتراط أحد شطري الشهادة في تبليغ هذه الأمور قوله في تبليغ الشرائع إلى الحربي الذي أسلم ولم يهاجر يعني تشترط العدالة أو العدد عنده ولا تشترط عندهما ومنهم من يقول تشترط العدالة في قولهم جميعا لأنه من أخبار الدين والعدالة فيها شرط بالاتفاق ومنهم من يقول لا تشترط وهو الأصح لأن كل أحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ قال عليه السلام نضر اللّه امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها فهذا المبلغ نظير الرسول من المولى والموكل وفي خبر الرسول لا تشترط العدالة في المخبر فكذا هذا وقد مر بيان هذه المسألة أيضا وكذلك أي ومثل جهل هؤلاء المذكور من جهل المرأة البكر البالغة بإنكاح الولي يكون عذرا حتى لا يكون سكوتها قبل العلم رضا بالنكاح لأن دليل العلم خفي في حقها لاستبداد الولي بالإنكاح وفيه إلزام حكم النكاح عليها فيشترط العدد أو العدالة في المبلغ عنده ولا يشترط عندهما وكان قوله مثله وقع زائدا لا حاجة إلى ذكره لأن قوله وكذلك يدل على ما يدل هو عليه قوله وكذلك أي وكجهل هؤلاء جهل الأمة إذا أعتقت الأمة المنكوحة ثبت لها الخيار إن شاءت أقامت مع الزوج وإن شاءت فارقته لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم لبريدة حين عتقت ملكت بضعك فاختاري وهو يمتد إلى آخر المجلس لأنه ثابت بتخيير الشرع فيكون بمنزلة الثابت بتخيير الزوج ويسمى هذا خيار العتاقة فإن لم تعلم بالإعتاق أو علمت به ولكن لم تعلم بثبوت الخيار لها شرعا كان الجهل منها عذرا حتى كان لها مجلس العلم بعد ذلك لأن الدليل أي دليل العلم بكل واحد منهما خفي في حقها أما في الإعتاق فظاهر لأن المولى مستبد به فلا يمكنها الوقوف عليه قبل الإخبار وأما في الخيار فلما ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه أن سبب ثبوت الخيار وهو زيادة الملك عليها خفي لا يعلمه إلا الخواص من الناس ولأنها مشغولة بخدمة المولى فلا تتفرغ لمعرفة أحكام الشرع فلا يقوم اشتهار الدليل في دار الإسلام مقام العلم ولأنها دافعة عن نفسها لزوم زيادة الملك عليها والجهل يصلح عذرا للدفع بخلاف الصغيرة إذا زوج الصغير أو الصغيرة غير الأب من (٤/٤٨٣) الأولياء يصح النكاح ويثبت لهما الخيار في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه وهو قول ابن عمر وأبي هريرة رضي اللّه عنهما لأن التزويج صدر ممن هو قاصر الشفقة بالنسبة إلى الأب وقد ظهر تأثير القصور في امتناع ثبوت الولاية في المال فيثبت لهما الخيار إذا ملكا أمر نفسهما بالبلوغ كالأمة إذا أعتقت ويسمى هذا خيار البلوغ وهو يبطل بالسكوت في جانبها إذا كانت بكرا لأن ثبوت الخيار لها لعدم تمام الرضاء منها ورضاء البكر البالغة يتم بسكوتها شرعا كما لو زوجت بعد البلوغ فسكتت ولذا لو بلغت ثيبا لا يبطل خيارها بالسكوت كما لا يبطل خيار الغلام به فإن لم تعلم بالنكاح وقت البلوغ كان الجهل منها عذرا لخفاء الدليل إذ الولي مستبد بالإنكاح وإن علمت بالنكاح ولم تعلم بالخيار لم تعذر وجعل سكوتها رضاء لأن دليل العلم بالخيار في حقها مشهور غير مستور لاشتهار أحكام الشرع في دار الإسلام وعدم المانع من التعلم قال شمس الأئمة رحمه اللّه خيار البلوغ أمر ظاهر يعرفه كل أحد ولظهوره ظن بعض الناس أنه يثبت في إنكاح الأب أيضا وهي لم تكن مشغولة قبل البلوغ بشيء يمنعها عن التعلم فكان سبيلها أن تتعلم ما تحتاج إليه بعد البلوغ فلا يتعذر بالجهل ولأنها أي الصغيرة تريد بذلك أي بالجهل بالخيار إلزام فسخ إنكاح على الزوج لأن خيار البلوغ شرع لإلزام النقض لا للدفع لأن من له الخيار لا يدفع ضررا ظاهرا فإن المسألة مصورة فيما إذا كان الزوج كفؤا والمهر وافرا ولم يفعل ذلك مجانة وفسقا فثبت أنه شرع للإلزام في حق الخصم الآخر والجهل لا يصلح حجة للإلزام والمعتقة تدفع الزيادة عن نفسها والجهل يصلح حجة للدفع ولهذا أي ولأن خيار البلوغ للإلزام وخيار المعتقة للدفع افترق الخياران في شرط القضاء فشرط القضاء لوقوع الفرقة في خيار البلوغ حتى لو مات أحدهما بعد الاختيار قبل القضاء يرثه الآخر ولم يشترط في خيار العتق بل تثبت الفرقة بنفس الخيار لأن السبب زيادة ملك الزوج عليها فإنه قبل العتق كان يملك مراجعتها في قرأين ولم يملك عليها تطليقتين وقد ازداد ذلك بالعتق فكان لها أن تدفع الزيادة ولا تتوصل إلى دفع الزيادة إلا بدفع أصل الملك فكما أن إثبات دفع الملك عند عدم رضاها يتم بها ولا يتوقف على القضاء فكذلك دفع زيادة الملك فأما في خيار البلوغ فلا يزداد الملك وإنما كان ثبوت الخيار لتوهم ترك النظر من الولي وذلك غير متيقن به فلا تتم الفرقة إلا بالقضاء فصار الحاصل أن الدفع في خيار العتاقة ظاهر مقصود (٤/٤٨٤) والإلزام ضمني فلا يتوقف على القضاء في خيار البلوغ الإلزام قصدي والدفع متوهم ضمني فيتوقف عليه قوله وعلى هذا الأصل وهو أن ما فيه إلزام على الغير لا يثبت بدون علمه قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما اللّه في صاحب خيار الشرط في البيع مشتريا كان أو بائعا إذا فسخ بغير محضر من صاحبه أي بغير علمه أن ذلك الفسخ لا يصح وله أن يرضى بعد ذلك ما لم يعلم الآخر بفسخه في مدة الخيار فإن علم ذلك في المدة تم الفسخ وليس له أن يرضى بعد ذلك وإن لم يعلم حتى مضت المدة بطل ذلك الفسخ وتم البيع وقال أبو يوسف رحمه اللّه فسخه جائز بغير محضر من الآخر وبغير علمه لأن الخيار خالص حق من له الخيار ولهذا لا يشترط رضاء صاحبه في تصرفه بحكم الخيار وموجب الخيار الفسخ أو الإجازة ثم الإجازة تتم بغير محضر الآخر كما تتم بغير رضاه فكذا الفسخ بل أولى لأن الخيار يشترط للفسخ لا للنفاذ إذ النفاذ ثابت بدون الخيار وهذا لأنه بمساعدة صاحبه على الشرط صار مسلطا على الفسخ من جهته ولهذا لا يشترط رضاه في تصرفه فلا يتوقف تصرفه على علمه كالوكيل إذا تصرف بغير حضرة الموكل وكالمخيرة إذا اختارت نفسها بغير حضرة الزوج بأن بلغها الخبر وهي غائبة وهذا بخلاف عزل الوكيل حيث يتوقف على علمه لأن الموكل ما تسلط على عزله بمعنى من قبل الوكيل وبخلاف خيار العيب لأن المشتري هناك غير مسلط على الفسخ وإنما له حق المطالبة بتسليم الجزء الفائت فإذا تحقق عجز البائع عنه تمكن من الفسخ فلا يتحقق عجزه إلا بمحضر منه ولهما أنه بالفسخ يلزم غيره حكما جديدا لم يكن فلا يثبت حكم تصرفه في حق ذلك الغير ما لم يعلم به كالموكل إذا عزل الوكيل حال غيبته يثبت حكم العزل في حقه ما لم يعلم به وهذا لأن الخيار وضع في الشرع لاستثناء حكم العقد لعدم الاختيار أي يمنع حكم العقد وهو الملك عن الثبوت لعدم رضاء صاحب الخيار به لأن هذا الشرط أو الخيار داخل في الحكم دون السبب فيؤثر فيه بالمنع بمنزلة الاستثناء يمنع دخول المستثنى في صدر الكلام فيصير العقد به أي باستثناء الحكم وامتناعه عن الثبوت أو بعدم الاختيار غير لازم لأن لفوات الاختيار والرضاء أثر في سلب اللزوم عن العقد كما في بيع المكره والهازل ثم يفسخ سائر العقود الجائزة من الوكالات والشركات والمضاربات لا أن الخيار (٤/٤٨٥) للفسخ لا محالة يعني لا أن يكون شرع الخيار لأجل الفسخ قصدا بغير علم صاحبه كما قال أبو يوسف رحمه اللّه إذ لو كان الخيار للفسخ لا محالة لم يكن له ولاية الإجازة لأنها ضد الفسخ وكيف يكون للفسخ وفيه سعي في نقض ما تم من جهته وهو باطل ألا ترى أنهما نصا على العقد وإثبات الخيار لا على الفسخ والفسخ ضد العقد فلا يكون موجبه كذا في الأسرار توضيحه أن اشتراط الخيار في العقود التي هي غير لازمة كالوكالة والشركة والمضاربة لا يجوز ولو كان اشتراط الخيار ليتمكن به من الفسخ بغير علم صاحبه لصح في هذه العقود لكونه محتاجا إليه فيها إذ هو لا يتمكن من فسخها بدون علم صاحبه وإن كان يتمكن بغير رضاه وحيث لم يصح عرفنا أن موجبه رفع صفة اللزوم فقط قال القاضي الإمام رحمه اللّه إن الخيار كان ثابتا للعاقد في أصل مباشرة العقد وإلزام الحكم جميعا فاستثناء أحد الخيارين ليبقى على ما كان لا يكون بإيجاب الغير له ذلك وتسليطه عليه كما إذا باع العبد إلا نصفه بقي النصف في ملكه كما كان لا أن المشتري أوجب له ملك النصف وإنما اعتبر مساعدة صاحبه لأنه لا يرضى بعقد لا حكم له والعقد يقوم بهما فلا يثبت إلا على الوجه الذي يتراضيان عليه ثم إذا رضي به فامتناع الحكم لعدم المثبت فثبت بما ذكرنا أن ولاية الفسخ له لانتفاء صفة اللزوم في حقه لا للتسليط فيصير هذا أي صاحب الخيار بالفسخ متصرفا على الآخر بما فيه إلزام أي إلزام يوجب الفسخ عليه بغير رضاه أو إلزام الضرر عليه لأنه ربما يتصرف في الثمن بعد مضي المدة معتمدا على صيرورة العقد لازما فيضمن فلا يصح إلا بعلمه كعزل الوكيل وحجر المأذون فصار الحاصل أن أبا يوسف رحمه اللّه يقول إن الخيار وإن شابه الاستثناء لكن لا بد فيه من مساعدة صاحبه في ثبوت الشرط فأشبه التسليط وهما نظرا إلى الحقيقة فقالا لما كان الخيار استثناء وهو منع الثبوت وذلك غير ثابت يعني بمعنى من الآخر كان حق الفسخ غير مسند إلى تسليط الآخر فشابه عزل الوكيل فعلى هذا الحرف تدور المسألة فإن قيل فائدة الخيار أن لا يلزمه حكم العقد إلا برضاه وفي التوقيف على علم صاحبه إضرار به لأن مدة الخيار مقدرة ومن الجائز أن يغيب في مدة الخيار فتفوت فائدة شرط الخيار لأن العقد يلزمه بدون رضاه قلنا إن التصرف متى توقف على شرطه فامتناع نفاذه لعدم الشرط لا يعد من باب الإضرار كالموكل لا يملك عزل الوكيل وتدارك حقه فيما بدا له من العزل لعدم شرط استيفاء حقه بلا شرط عدالة لأن الرسول قائم مقام المرسل وبعد الثلث لا يصح أصلا كما لو أخبره بنفسه للزوم العقد بمضي المدة وإن بلغه فضولي شرط العدد (٤/٤٨٦) أو العدالة عند أبي حنيفة رحمه اللّه لوجود معنى الإلزام في هذا الخبر خلافا لمحمد رحمه اللّه لأنه وإن وافقه في تحقق معنى الإلزام فيه لكنه لا يشترط في مثل هذا الخبر عددا ولا عدالة ونفذ الفسخ لوجود شرطه وهو علم صاحبه به في مدة الخيار وبعد الثلاث لا يصح التبليغ وإن وجد العدد والعدالة جميعا لصيرورة العقد لأنه ما يمضي المدة وبطل الفسخ لفوات شرطه وهو حصول العلم في المدة واشتراط الثلاث في هذه المسائل على أصل أبي حنيفة فأما عند محمد رحمهما اللّه فيعتبر نفس المدة ثلثا كانت أو غيره واللّه أعلم (٤/٤٨٧) |