باب الأمور المعترضة على الأهليةولما فرغ الشيخ رحمه اللّه من بيان الأهلية وما يبتنى عليها من الأحكام شرع في بيان أمور تعترض عليها فتمنعها عن إبقائها على حالها فبعضها يزيل أهلية الوجوب كالموت وبعضها يزيل أهلية الأداء كالنوم والإغماء وبعضها يوجب تغييرا في بعض الأحكام مع بقاء أصل أهلية الوجوب والأداء كالسفر على ما ستقف على تفصيلها إن شاء اللّه عز وجل والعوارض جمع عارضة أي خصلة عارضة أو آفة عارضة من عرض له كذا إذا ظهر له أمر يصده عن المضي على ما كان فيه من حد ضرب ومنه سميت المعارضة معارضة لأن كل واحد من الدليلين يقابل الآخر على وجه يمنعه عن إثبات الحكم ويسمى السحاب عارضا لمنعه أثر الشمس وشعاعها وسميت هذه الأمور التي لها تأثير في تغيير الأحكام عوارض لمنعها الأحكام التي تتعلق بأهلية الوجوب أو أهلية الأداء عن الثبوت ولهذا لم يذكر الشيخوخة والكهولة ونحوهما في جملة العوارض وإن كانت منها لأنه لا تأثير لها في تغيير الأحكام وإنما لم يذكر الحمل والإرضاع والشيخوخة القريبة إلى الفناء من العوارض وإن تغير بها بعض الأحكام لدخولها في المرض فكان ذكر المرض ذكرا لها كذا قيل وأورد عليه الجنون والإغماء فإنهما من الأمراض وقد ذكرهما على الانفراد وأجيب عنه بأنهما وإن دخلا في المرض لكنهما اختصا بأحكام كثيرة يحتاج إلى بيانها فأفردهما بالذكر سماوي وهو ما يثبت من قبل صاحب الشرع بدون اختيار للعبد فيه ولهذا نسب إلى السماء فإن ما لا اختيار للعبد فيه ينسب إلى السماء على معنى أنه خارج عن قدرة العبد نازل من السماء ومكتسب وهو ما كان لاختيار العبد فيه مدخل وقدم السماوي على المكتسب ذكرا لأنه أظهر في العارضية لخروجه عن اختيار العبد (٤/٣٧٠) وأشد تأثيرا في تغيير الأحكام من المكتسب وذكر الصغر من العوارض مع أنه ثابت بأصل الخلقة لكل إنسان لأن الإنسان قد يخلو عن الصغر كآدم وحواء صلى اللّه عليه ورضي عنها فإنهما خلقا كما كانا من غير تقدم صغر ثم اعترض الصغر على أولادهما ولأن ماهية الإنسان قد تعرف بدون وصف الصغر ولهذا كان الكبير إنسانا فكان الصغر أمرا عارضا على حقيقة الإنسان ضرورة وجعل الجهل من العوارض المكتسبة مع أنه أصلي لا اختيار له فيه قال اللّه تعالى واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا باعتبار أن العبد قادر على إزالته بتحصيل العلم فكان ترك تحصيل العلم بالاختيار مع القدرة عليه بمنزلة اختيار الجهل وكسبه وهذا كالكافر يجعل قادرا على أداء العبادات عند أصحابنا العراقيين بواسطة قدرته على الإسلام فكان تركه الإسلام مع القدرة عليه تركا لأداء العبادات مع القدرة على أدائها فلذلك جاز أن يعذب على تركها وهذا بخلاف الرق فإنه لم يجعل من العوارض المكتسبة وإن كان العبد متمكنا من إزالته في الأصل بواسطة الإسلام لأنه ثبت جزاء على الكفر ولا اختيار للعبد في ثبوت الأجزئة بل هي تثبت جبرا كحد الزنا والقذف والسرقة وبعدما يثبت لا يتمكن العبد من إزالته فكان من العوارض السماوية ثم إنه قدم الصغر في تعداد العوارض السماوية والجهل في تعداد العوارض المكتسبة لأنهما يثبتان في أول أحوال الآدمي وقدم الجنون على الصغر في تفصيل العوارض السماوية لأن حكم الصغر في بعض أحواله حكم الجنون فقدم بيان الجنون ليمكنه إلحاق الصغر به قوله أما الجنون فكذا قال الشيخ أبو المعين رحمه اللّه لا يمكن الوقوف على حقيقة الجنون إلا بعد الوقوف على حقيقة العقل ومحله وأفعاله فالعقل معنى يمكن به الاستدلال من الشاهد على الغائب والاطلاع على عواقب الأمور والتمييز بين الخير والشر ومحله الدماغ والمعنى الموجب انعدام آثاره وتعطيل أفعاله الباعث للإنسان على أفعال مضادة لتلك الأفعال من غير ضعف في عامة أطرافه وفتور في سائر أعضائه يسمى جنونا والأسباب المهيجة له إما نقصان جبل عليه دماغه وطبع عليه في أصل الخلقة فلم يصلح لقبول ما أعد لقبوله من العقل كعين الأكمه ولسان الأخرس وهذا النوع مما لا يرجى زواله (٤/٣٧١) ولا منفعة في الاشتغال بعلاجه وإما معنى عارض أوجب زوال الاعتدال الحاصل للدماغ خلقة إلى رطوبة مفرطة أو يبوسة متناهية وهذا النوع مما يعالج بما خلق اللّه تعالى لذلك من الأدوية وفي النوعين يتيقن بزوال العقل لفساد أصلي أو عارض في محله كما يتيقن بزوال القوة الباصرة عن العين العمياء لفساد فيها بأصل الخلقة أو بعارض أمر أصابها وإما استيلاء الشيطان عليه فيخيله الخيالات الفاسدة ويفزعه في جميع أوقاته فيطير قلبه ولا يجتمع ذهنه مع سلامة في محل العقل خلقة وبقائه على الاعتدال ويسمى هذا المجنون ممسوسا لتخبط الشيطان إياه وموسوسا لإلقائه الوسوسة في قلبه ويعالج هذا النوع بالتعاويذ والرقى وفي هذا النوع لا يحكم بزوال العقل فالقسم الأول وهو ما كان لنقصان جبل عليه غير زائل عادة لعدم جريان التبديل على خلق اللّه تعالى بمنزلة الكمه فهو بمعزل عما اختلف فيه العلماء فأما ما حصل منه بزوال الاعتدال أو بمس الشيطان فهو عارض على الأصل ثم القياس في الجنون أن يكون مسقطا للعبادات كلها أي مانعا لوجوبها أصليا كان أو عارضا قليلا كان أو كثيرا وهو قول زفر والشافعي رحمهما اللّه حتى قالا لو أفاق المجنون في بعض شهر رمضان لم يجب عليه قضاء ما مضى كالصبي إذا بلغ أو الكافر إذا أسلم في خلال الشهر وكذا إذا أفاق قبل تمام يوم وليلة لم يجب عليه قضاء ما فاته من الصلاة عندهما وذلك لأن الجنون ينافي القدرة لأنها تحصل بقوة البدن والعقل والجنون يزيل العقل فلا يتصور فهم الخطاب والعلم به بدون العقل والقدرة على الأداء لا تتحقق بدون العلم لأن العلم أخص أوصاف القدرة فتفوت القدرة بفوته وبفوت القدرة يفوت الأداء وإذا فات الأداء عدم الوجوب إذ لا فائدة في الوجوب بدون الأداء وحاصله أن أهلية الأداء تفوت بزوال العقل وبدون الأهلية لا يثبت الوجوب فلا يجب القضاء والدليل عليه أن الصبي أحسن حالا من المجنون فإنه ناقص العقل في بعض أحواله عديم العقل في بعض أحواله إلى الإصابة عادة والمجنون عديم العقل لا إلى الإصابة عادة وإذا كان الصغر يمنع الوجوب حتى لم يلزم الصبي قضاء ما مضى من الشهر إذا بلغ في خلال الشهر فالجنون أولى وهذا بخلاف المغمى عليه حيث يجب عليه قضاء ما مضى من الصوم عند الإفاقة وقضاء الصلاة إذا كان الإغماء أقل من يوم وليلة لأن أهليته قائمة لقيام العقل إذ الإغماء لا ينافي العقل بل هو عجز عن استعمال آلة القدرة كالنوم فكان العقل ثابتا كما كان كمن عجز عن استعمال السيف لم يؤثر ذلك في السيف بالإعدام فكذا الإغماء لكنهم يعني علماءنا الثلاثة استحسنوا فيه أي في الجنون إذا زال قبل (٤/٣٧٢) الامتداد فجعلوه عفوا أي ساقطا كأن لم يكن وألحقوه بالنوم والإغماء وبيانه أن الجنون من العوارض كالإغماء والنوم وقد ألحق النوم والإغماء بالعدم في حق كل عبادة لا يؤدي إيجابها إلى الحرج على المكلف بعد زوالهما وجعلا كأنهما لم يوجدا أصلا في حق إيجاب القضاء وأن العبادة كانت واجبة ففاتت من غير عذر فيلحق الجنون الموصوف بكونه عارضا بهما بجامع أن كل واحد عذر عارض زال قبل الامتداد وكذا الحكم في كل عذر عارض كالحيض والنفاس في حق الصوم هذا في حق إيجاب القضاء فأما في حق لحوق المأثم فالأمر مبني على الحقيقة لورود النص المنبئ وأن اللّه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وإلا ما آتاها ألا ترى أن الشرع ألحق العارض بالعدم في حق صحة الأداء حتى إن من نوى من الليل الصوم ثم نام ولم ينتبه إلا بعد غروب الشمس أو أغمي عليه أو جن ولم يفق إلى ذلك الوقت حكم بجواز الصوم مع أنه عبادة خالصة والإمساك ركن وهو فعل مقصود ولا بد في مثله من التحصيل بالاختيار وما به من العذر قد سلب اختياره لكن عند زوال العذر جعل هذا الفعل بمنزلة الفعل الاختياري بطريق إلحاق العذر الزائل بالعدم وإذا كان في حق الأداء الذي هو المقصود ففي حق الوجوب الذي هو وسيلة أولى أن يكون كذلك يوضحه أن الشرع ألحق العارض بالعدم في حق الأداء وقت تقرره حيث حكم بصحة الفعل الموجود في حالة النوم والإغماء ونحن في حق الوجوب ألحقنا العارض بالعدم بعد زواله وجعلنا السبب الموجود في تلك الحالة معتبرا في حق إيجاب القضاء عند زوال العارض فكان أولى بالصحة ولا يلزم عليه المرتد إذا أسلم في بعض الشهر حيث لا يلزمه قضاء ما مضى في حالة الردة وإن كانت الردة عارضة زالت وقد ظهر أثر كونها عارضة في حق التصرفات خصوصا على أصل أبي حنيفة رحمه اللّه فإن تصرفاته تنعقد على التوقف حتى لو أسلم يظهر أنه انعقدت على الصحة وجعلت كأن الردة لم تكن ففيما نحن فيه لأن تلحق بالعدم عند زوالها حتى وجب عليه القضاء كان أولى لأنا نقول الردة عندنا تلتحق بالكفر الأصلي في حق العبادات نصا حتى أوجبت إبطال ما مضى من الأعمال في حالة الإسلام وألحقت تلك الأعمال بالموجودة منها في حالة الكفر بقوله تعالى ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وقد عرف الحكم في الكفر الأصلي أنه لا يوجب قضاء ما مضى نصا فكذا هذا ولأن أهلية الوجوب تزول بالكفر فلا يثبت الوجوب فلا يمكن إيجاب القضاء بدون الوجوب قوله وذلك أي كون الجنون مسقطا للعبادات في القياس قل أو كثر وغير مسقط (٤/٣٧٣) لها في الاستحسان إذا قل باعتبار أن الجنون لما كان منافيا لأهلية الأداء لما بينا أن ثبوت هذه الأهلية بالعقل فزواله يكون منافيا لها كان القياس فيه ما قلنا إنه يسقط العبادات قل أو كثر ثم استوضح كونه منافيا للأهلية بقوله ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام عصموا عن الجنون لأنه يوجب بطلان الأهلية والتحاق الشخص بالبهائم وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام ولهذا كانت نسبتهم إلى الجنون كفرا لكنه أي الجنون إذا لم يمتد لم يكن موجبا حرجا أي لم يكن عدم اعتباره وإلحاقه بالعدم وإيجاب العبادة معه موقعا في الحرج على ما قلنا يعني قوله في باب أهلية الوجوب وإذا لم يمتد في شهر رمضان إلى آخره وقد اختلفوا فيه أي في الجنون الذي جعل عفوا إذا زال قبل الامتداد فقال أبو يوسف رحمه اللّه هذا أي إلحاقه بالنوم والإغماء وإيجاب القضاء عند زواله قبل الامتداد إذا كان عارضا يعني من كل وجه بأن حدث بعد البلوغ ليلحق بالعوارض أي ليمكن إلحاقه بها وجعله عفوا عند عدم الامتداد فأما إذا بلغ الصبي مجنونا كان حكم هذا الجنون حكم الصبا فإذا زال هذا الجنون في خلال الشهر صار في معنى الصبي إذا بلغ أي صار هذا المجنون في معنى الصبي إذا بلغ في خلال الشهر فلا يجب عليه قضاء ما مضى وقوله فإذا زال مع جوابه جواب أما وقال محمد رحمه اللّه هما سواء أي الجنون الأصلي والعارضي سواء في أن غير الممتد من كل واحد منهما ملحق بالعدم وقوله واعتبر ببيان المساواة أي اعتبر محمد رحمه اللّه حال الجنون الأصلي وهي امتداده وعدم امتداده وفرق بين الأمرين فيما يزول أي في الشيء الذي يزول هذا الجنون عنه من الواجبات مثل الصوم والصلاة ويلحق أي محمد الجنون الأصلي بأصل الجنون وهو كونه عارضا يعني الأصل في الجنون أن يكون عارضا نظرا إلى أن الأصل في الجبلة سلامتها عن الآفات فكان كون الجنون أصليا أمرا عارضا فيه فيلحق محمد رحمه اللّه هذا العارض بأصل ثم أشار إلى الفرق بينه وبين الصبا الذي ألحق أبو يوسف هذا الجنون به فقال وهو أي الجنون في أصل الخلقة متفاوت بين مديد يوجب سقوط الواجبات وقصير لا يوجب سقوطها بخلاف الصبا فإنه أمر أصلي ممتد مسقط للعبادات جميعا أو الضمير للجنون الأصلي أي الجنون الأصلي في أصل الخلقة متفاوت بين مديد موجب للحرج وبين قصير لا يوجبه كالعارضي فيلحق محمد هذا الأصل أي كون (٤/٣٧٤) الجنون أصليا في الحكم الذي لم يستوعبه هذا الجنون بالعارض أي جعل هذا الوصف فيه عارضا فلم يعتبره ولم يلحقه بالصبا بواسطته واعتبر أصله وهو كونه عارضا ففرق بين الممتد منه وغيره أو يلحق هذا الأصل أي الجنون الأصلي بالجنون العارض في الحكم الذي يستوعبه وذلك أي إلحاقه الأصل بالعارض أو إلحاق الجنون الأصلي بالجنون العارضي إنما يتحقق في زوال الجنون الأصلي قبل انسلاخ شهر رمضان فإنه يلحقه بزوال الجنون العارضي قبل الانسلاخ ويوجب قضاء ما مضى من الشهر بزواله ولا يوجبه أبو يوسف رحمه اللّه وكذا الحكم في الصلاة بأن بلغ مجنونا ثم زال الجنون قبل مضي يوم وليلة لزمه قضاء صلاة ما مضى عند من جعل الجنون الأصلي كالعارضي ولا يلزمه قضاؤها عند من فرق بينهما كذا في بعض الفوائد وذكر الاختلاف في المبسوط وفتاوى قاضي خان وعامة الكتب على عكس ما ذكر ها هنا فقيل وإن كان جنونه أصليا بأن بلغ مجنونا ثم أفاق في بعض الشهر فالمحفوظ عن محمد رحمه اللّه أنه ليس عليه قضاء ما مضى لأن ابتداء الخطاب يتوجه عليه الآن فيكون بمنزلة الصبي يبلغ وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما اللّه أنه قال في القياس لا قضاء عليه ولكني أستحسن فأوجب عليه قضاء ما مضى من الشهر لأن الجنون الأصلي لا يفارق الجنون العارضي في شيء من الأحكام وليس فيه رواية عن أبي حنيفة رحمه اللّه واختلف فيه المتأخرون على قياس مذهبه والأصح أنه ليس عليه قضاء ما مضى وذكر الشيخ أبو المعين رحمه اللّه في طريقته ما يوافقه فقال في ظاهر الرواية لا فرق بين الجنون الأصلي والعارضي وروى ابن سماعة عن محمد رحمه اللّه أنه جعل الذي بلغ مجنونا بمنزلة الصبي والكافر ولم يرد عن أبي حنيفة رحمه اللّه في هذا شيء منهم من جعل ما روي عن محمد تفسيرا لما أبهم في ظاهر الرواية ومنهم من يجعل هذا قول محمد رحمه اللّه خاصة وجه الفرق أن الجنون الحاصل قبل البلوغ حصل في وقت نقصان الدماغ لآفة فيه مانعة له عن قبول الكمال مبقية له على ما خلق عليه من الضعف الأصلي فكان أمرا أصليا فلا يمكن إلحاقه بالعدم فتلزمه الحقوق مقتصرة على الحال فأما الحاصل بعد البلوغ فقد حصل بعد كمال الأعضاء واستيفاء كل منها القوة فكان معترضا على المحل الكامل بلحوق آفة عارضة فيمكن إلحاقه بالعدم عند انتفاء الحرج في إيجاب الحقوق ووجه المساواة بينهما في الحكم أن الجنون الحاصل قبل البلوغ من قبيل العارض أيضا لأنه لما زال فقد دل ذلك على حصوله عن أمر عارض على أصل الخلقة لا لنقصان جبل عليه دماغه فكان مثل العارض بعد البلوغ (٤/٣٧٥) قوله وحد الامتداد يختلف باختلاف الطاعات لأن بعضها مؤقت باليوم والليلة وبعضها بالشهر وبعضها بالسنة فأما الصلاة فكذا اعلم أن الامتداد في حق الصلاة وسائر العبادات يحصل بالكثرة الموقعة في الحرج لأن الجنون إذا امتد لا بد من أن يكون إيجاب العبادة معه موقعا في الحرج لا يمكنه أداء العبادة مع هذا الوصف وإذا زال وقد وجبت العبادات عليه في حال الجنون اجتمعت واجبات حال الجنون وحال الإفاقة في وقت واحد فيحرج في أدائها لكثرتها ثم لما لم تكن للكثرة نهاية يمكن ضبطها اعتبر أدناها وهو أن يستوعب العذر وظيفة الوقت إلا أن وقت جنس الصلاة يوم وليلة وهو وقت قصير في نفسه فأكدت كثرتها بدخولها في حد التكرار ثم اختلف أصحابنا فيما يحصل به التكرار فاعتبر محمد رحمه اللّه دخول نفس الصلوات في حد التكرار بأن تصير الصلوات ستا لأن التكرار يتحقق به وأقام أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه الوقت فيه أي في دخول الصلاة في حد التكرار مقام الصلاة يعني أنهما اعتبرا الزيادة على يوم وليلة باعتبار الساعات هكذا ذكر الاختلاف الفقيه أبو جعفر رحمه اللّه وفائدة الاختلاف تظهر فيما إذا جن بعد طلوع الشمس ثم أفاق في اليوم الثاني قبل الزوال أو قبل دخول وقت العصر فعند محمد رحمه اللّه يجب عليه القضاء لأن الصلاة لم تصر ستا فلم يدخل الواجب في حد التكرار حقيقة وعندهما لا قضاء عليه لأن وقت الصلوات الخمس وهو اليوم والليلة قد دخل في حد التكرار وإن لم يدخل الواجب فيه والوقت سبب فيقام مقام الواجب الذي هو مسببه للتيسير على المكلف بإسقاط الواجب عنه قبل صيرورته مكررا كما أقيم السفر مقام المشقة وقد روي أن ابن عمر رضي اللّه عنهما أغمي عليه أكثر من يوم وليلة فلم يقض الصلاة والعبرة في المنصوص عليه لعين النص لا للمعنى والجنون فوق الإغماء في هذا الحكم فيلحق به دلالة والامتداد في الصوم بأن يستغرق الجنون شهر رمضان وهذا اللفظ يشير إلى أنه لو أفاق في جزء من الشهر ليلا أو نهارا يجب القضاء وهو ظاهر الرواية وذكر في الكامل نقلا عن الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه اللّه أنه لو كان مفيقا في أول ليلة من رمضان فأصبح مجنونا واستوعب الجنون باقي الشهر لا يجب عليه القضاء وهو الصحيح لأن الليل لا يصام فيه فكان الجنون والإفاقة فيه سواء وكذا لو أفاق في ليلة من الشهر ثم أصبح (٤/٣٧٦) مجنونا ولو أفاق في آخر يوم من رمضان في وقت النية لزمه القضاء وإن أفاق بعده اختلفوا فيه والصحيح أنه لا يلزم القضاء لأن الصوم لا يفلح فيه ثم لم يعتبر التكرار في حق الصوم كما اعتبر في حق الصلاة لوجهين أحدهما أنا إنما شرطنا دخول الصلاة في حد التكرار تأكيدا لوصف الكثرة فإن أصل الكثرة يحصل باستيعاب الجنس وإنما يصار إلى المؤكد إذا لم يزدد المؤكد على الأصل وفي باب الصوم لا يمكن اعتباره لأن المؤكد فيه يزداد على الأصل إذ لا يأتي وقت وظيفة أخرى ما لم يمض أحد عشر شهرا فيزداد ما شرع تابعا على ما شرع بطريق الأصالة وهو فاسد ولا يلزم عليه زيادة المرتين على المرة الواحدة في الوضوء فإنها شرعت لتأكيد الفرض مع أنها أكثر عددا من الأصل لأنها لم تشرع شرطا لاستباحة الصلاة بطريق الوجوب بل الزائد سنة والسنن والنوافل وإن كثرت لا تماثل الفرض فلا يرد نقضا لأن المطلوب نفي المماثلة بين التبع والأصل وقد حصل بخلاف ما نحن فيه لأن الزائد فيه شرط كالأصل فلم يجز أن يكون مثلا له والثاني أن الصوم وظيفة السنة لا وظيفة الشهر وإن كان أداؤه في بعض أوقاتها كالصلوات الخمس وظيفة اليوم والليلة وإن كان أداؤها في بعض الأوقات ولهذا كان رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما وجعل صوم رمضان مع ست من شوال بمنزلة صيام الدهر كله كما ورد به الحديث ثم كما مضى الشهر دخل وقت وظيفة أخرى إذ الاستيعاب لا يتحقق إلا بوجود جزء من شوال فكان الجنس كالمتكرر بتكرر وقته ويتأكد الكثرة به فلا حاجة إلى اعتبار تكرار حقيقة الواجب فكان هذا مثل ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه في الصلاة قوله وفي الزكاة أي الامتداد في حق الزكاة بأن يستغرق الجنون الحول عند محمد وهو رواية ابن رستم عنه ورواية الحسن عن أبي حنيفة والمروي عن أبي يوسف رحمهم اللّه في الأمالي قال صدر الإسلام وهذا هو الأصح لأن الزكوات تدخل في حد التكرار بدخول السنة الثانية وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما اللّه أن امتداده في حق الزكاة بأكثر السنة ونصف السنة ملحق بالأقل لأن كل وقتها الحول إلا أنه مديد جدا فقدر بأكثر الحول عملا بالتيسير والتخفيف فإن اعتبار أكثر السنة أيسر وأخف على المكلف من اعتبار تمامها لأنه أقرب إلى سقوط الواجب من اعتبار الجميع كما أن اعتبار الوقت (٤/٣٧٧) في حق الصلاة أيسر من اعتبار حقيقتها فإذا زال الجنون قبل هذا الحد الذي ذكرنا في كل عبادة وهو أصلي كان على الاختلاف المذكور بين أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه وقد بينا ذلك في حق الصوم والصلاة وبيانه في حق الزكاة فيما إذا بلغ الصبي مجنونا وهو مالك لنصاب فزال جنونه بعد مضي ستة أشهر ثم تم الحول من وقت البلوغ وهو مفيق وجبت عليه الزكاة عند محمد رحمه اللّه لأنه لا يفرق بين الأصلي والعارضي ولا تجب عند أبي يوسف رحمه اللّه بل يستأنف الحول من وقت الإفادة لأنه بمنزلة الصبي الذي بلغ الآن عنده ولو كان الجنون عارضيا فزال بعد ستة أشهر يجب الزكاة بالإجماع لأنه زال قبل الامتداد عند الكل ولو زال الجنون بعد مضي أحد عشر شهرا يجب الزكاة عند محمد سواء كان الجنون أصليا أو عارضيا لوجود الزوال قبل الامتداد ولمساواة الأصلي العارضي عنده وعند أبي يوسف رحمه اللّه لا تجب بوجود الزوال بعد الامتداد قوله وقد بينا يعني في آخر باب دفع العلل الطردية وباب بيان الأهلية أن الجنون لا ينافي أهلية الوجوب لأنها تثبت بالذمة والصلاحية لحكم الوجوب أي فائدته المقصودة منه وهو استحقاق ثواب الآخرة وباحتمال الأداء والجنون لا ينافي الذمة لأنها ثابتة لكل مولود من البشر على ما مر بيانه ولا ينافي حكم الواجب أيضا لأنه لا ينافي الإسلام إذ المجنون يبقى مسلما بعد جنونه فلا ينافي استحقاق ثواب الآخرة ولا ينافي احتمال الأداء أيضا لأن الأداء مرجو عنه بالإفاقة في الوقت وخلفه وهو القضاء متوهم بالإفاقة خارج الوقت وذلك كاف للوجوب كما في الإغماء فثبت أنه لا ينافي أهلية الوجوب يبينه أن الأداء متصور عنه فإنه لو نوى الصوم ليلا ثم أصبح مجنونا يصح منه صوم ذلك اليوم لأن الركن بعد النية ترك المفطرات وأنه يتصور منه كما يتصور من العاقل والترك من حيث هو ترك لا يفتقر إلى القصد والتمييز وإذا تصور منه الأداء كان أهلا للوجوب لأن من كان أهلا للأداء كان أهلا للوجوب ألا ترى متعلق بقوله لا ينافي الذمة أي أن المجنون يرث ويملك وثبوت الإرث من باب الولاية لأن الوراثة خلافة والوارث يخلف المورث ملكا تصرفا حتى إن ما يقطع الولاية كالرق واختلاف الدين يمنع التوارث ولا يلزم عليه وراثة الصبي وإن لم يكن من أهل الولاية لأنه عدم في حق الصبي أهلية مباشرة التصرف ولم ينعدم أهلية الملك والوراثة خلافة الملك والولي يقوم مقامه في التصرف وكذا الملك ولاية لأنه استيلاء على المحل شرعا والولاية لا تثبت بدون الذمة إلا أن ينعدم متعلق بقوله لا ينافي أهلية الوجوب أي إلا أن ينعدم الأداء تحقيقا وتقديرا بأن لزم منه حرج فحينئذ يصير (٤/٣٧٨) الوجوب معدوما أي لا يثبت أصلا بناء على عدم الأداء لهذا أي ولعدم منافاته أهلية الوجوب قلنا إن المجنون يؤاخذ بضمان الأفعال في الأموال على الكمال حتى لو أتلف مال إنسان يجب عليه الضمان كما يجب على العاقل لأن المجنون أهل لحكم وجوب المال وهو الأداء على ما قلنا في باب الأهلية أن المال هو المقصود في حقوق العباد دون الفعل والمقصود يحصل بأداء النائب فكان المجنون من أهل وجوبه كالصبي واحترز بقوله على الكمال عن ضمان الأفعال في الأنفس فإنه لو جنى جناية موجبة للقصاص لا يجب عليه القصاص الذي هو ضمان هذا الفعل على الكمال ويجب الدية على العاقلة كما في الخطأ قوله وإذا ثبتت الأهلية للمجنون كان هذا العارض وهو الجنون من أسباب الحجر يعني أن المجنون ليس بعديم الأهلية بحيث لا يعتبر أفعاله وأقواله جميعا كالبهائم بل له أصل الأهلية حيث يثبت له الإرث والملك واعتبر من أفعاله ما لا يتوقف صحته على العقل ولكن لما فات عقله بعارض الجنون كان هذا العارض من أسباب الحجر عليه فيما يتوقف صحته على العقل نظرا له كالصبا والرق فإنهما من أسباب الحجر نظرا للصغير والمولى والحجر عن الأقوال صحيح لأن اعتبارها بالشرع فيجوز أن يسقط اعتبارها شرعا بعارض بخلاف الأفعال فإنها توجد حسا لا مرد لها فلا يتصور الحجر عنها شرعا ففسدت عباراته حتى لم تصح أقاريره وعقوده وغيرها مما يتعلق بالعبارة لأن صحة الكلام بالعقل والتمييز فبدونهما لا يمكن اعتباره وقلنا لم يصح إيمان المجنون حتى لو كان أبواه كافرين فأقر بوحدانية اللّه تعالى وصحة الرسالة لا يحكم بإسلامه لأن ركن الإيمان لم يوجد وهو عقد القلب والأداء الصادران عن عقل بخلاف الصبي حيث صح إيمانه لوجود ركنه على ما مر فلم يكن حجرا أي لم يكن القول بعدم صحة إيمانه حجرا عن الإيمان وهذا جواب عما يقال ما ذكرتم حجر عن الإيمان لأن عدم اعتبار إقراره بالتوحيد مع وجوده حقيقة ليس إلا بطريق الحجر وقد أنكرتم الحجر عن الإيمان في مسألة إيمان الصبي فقال ليس هذا من باب الحجر لأن عدم الحكم لعدم الركن لا يعد حجرا وكذا الحكم في سائر عباراته أيضا فإنها ليست بمعتبرة أصلا لفوات العقل حتى لم تنفذ بإجازة الولي فكان المراد من الحجر فيها إخراجها من الاعتبار من الأصل وتسميته محجورا عنها توسع بخلاف (٤/٣٧٩) الحجر في أقوال العبد والصبي لأنها صادرة عن عقل فيجوز أن تعتبر ولكنها لم تعتبر لحق المولى والصبي فيكون إطلاق الحجر فيها بطريق الحقيقة ولكن الإيمان مشروع متعلق بقوله لم يصح إيمانه أي لم يصح إيمانه بنفسه ولكنه مشروع في حقه بطريق التبعية حتى صار مؤمنا تبعا لأبويه كما شرع في حق الصبي كذلك أي كما بينا ذكر محمد رحمه اللّه في الجامع الكبير وسنبينه ولم يصح التكليف بوجه أي لم يصح تكليف المجنون بالإيمان بوجه سواء كان بالغا أو لم يكن لأن صحة التكليف مبنية على العقل الذي هو آلة القدرة وقد عدم إلا في حقوق العباد فإن تكليفه بالإيمان يصح فيما يرجع إلى حقوقهم بالطريق المذكور في الكتاب وبيانه مجنون نصراني زوجه أبوه النصراني امرأة نصرانية فأسلمت المرأة فالقياس أن لا يعرض الإسلام على الأب ولكن يؤخر حتى يعقل وفي الاستحسان يعرض على الأب وجه القياس أن العرض وجب على الزوج وثبت له حق الإمساك بإسلامه فوجب تأخيره إلى حال عقله كما في الصغير وجه الاستحسان أن الجنون ليس له غاية معلومة فالتأخير إلى حال العقل يعد إبطالا لحقها مع أن فيه فسادا لأن المجنون قادر على الوطء فصار التأخير ضررا محضا وفسادا وكلاهما غير مشروع فتعذر الإمساك بالأصل وهو إسلامه بنفسه فوجب النقل إلى ما يخلفه وهو الإمساك بإسلامه تبعا وفيه صيانة الحقين بقدر الإمكان فصار أولى من إبطال أحدهما فإن أسلم الأب بقيا على النكاح وإلا يفرق بينهما وهذا بخلاف الصغير إذا أسلمت امرأته حيث يؤخر العرض إلى حال عقله لأن للصغر غاية فصار انتظار عقله تأخيرا جامعا للحقين ولم يكن إبطالا فلم يصح النقل إلى الخلف مع القدرة على الأصل إليه أشير في شرح الجامع للمصنف قال شمس الأئمة رحمه اللّه ليس المراد من عرض الإسلام على والده أن يعرض بطريق الإلزام ولكن على سبيل الشفقة المعلومة من الآباء على الأولاد عادة فلعل ذلك يحمله على أن يسلم ألا ترى أنه لو لم يكن له والدان جعل القاضي له خصما وفرق بينهما فهذا دليل على أن الآباء سقط اعتبارهم هاهنا للتعذر وأن ما ذكر محمد من العرض على سبيل الشفقة حتى قالوا الأب والأم في ذلك سواء قوله وما كان ضررا يحتمل السقوط مثل الصلاة والزكاة والصوم وسائر العبادات فإن إلزامها نوع ضرر في حقه وإنها تسقط بأعذار ومثل الحدود والكفارات فإنها تسقط (٤/٣٨٠) بالشبهات فغير مشروع في حق المجنون لأنها لما سقطت بأعذار وشبهات لأن تسقط بعذر الجنون المزيل للعقل كان أولى وكذا الطلاق والعتاق والهبة وما أشبهها من المضار غير مشروع في حقه حتى لا يملكها عليه وليه كما لا تشرع في حق الصبي لأنها من المضار المحضة وما كان قبيحا لا يحتمل العفو مثل الكفر فثابت في حقه حتى أنه يصير مرتدا تبعا لأبويه لأن التصرف الضار وإن كان غير ثابت في حقه إلا أن الكفر باللّه قبيح لا يحتمل العفو فلا يمكن القول برده بعد تحققه من الأبوين وإذا ثبت في حقهما ثبت في حقه أيضا لأنه تبع لهما في الدين ألا ترى أن الإسلام لا يمكن أن يثبت في حقه بطريق الأصالة لعدم تصور ركنه منه وإنما يثبت بطريق التبعية فإذا ارتد أبواه وزالت التبعية في الإسلام لا وجه إلى جعله مسلما بطريق الأصالة فلو لم يحكم بردته لوجب أن يعفو ردتهما وهو فاسد فلزم القول بثبوت الردة في حقه ضرورة وإنما ثبتت الردة في حقه تبعا إذا بلغ مجنونا وأبواه مسلمان فارتدا ولحقا به بدار الحرب فإن لحقا بدار الحرب وتركاه في دار الإسلام لا تثبت الردة في حقه لأنه مسلم تبعا للدار إذ الإسلام يستفاد بأحد الأبوين بالدار فإذا بطل حكم الإسلام من جهة الأبوين ظهر أثر دار الإسلام لأنه كالخلف عن الأبوين ولو أدرك عاقلا مسلما وأبواه مسلمان ثم جن فارتدا ولحقا به بدار الحرب لم يصر تبعا لهما في الردة لأنه صار أصلا في الإيمان فلا يصير تبعا بعده بحال وكذا لو أسلم قبل البلوغ وهو عاقل ثم جن لم يتبع أبويه بحال لأنه صار أصلا في الإيمان بتقرر سببه وهو الاعتقاد والإقرار فلم ينعدم ذلك بالأسباب التي اعترضت فبقي مسلما إليه أشير في نكاح الجامع قوله وأما الصغر في أول أحواله فمثل الجنون فيسقط عن الصغير ما يسقط عن المجنون ولم يصح إيمانه ولا تكليفه به بوجه لأنه أي الصغير والضمير راجع إلى مدلول الصغر عديم التمييز والعقل كالمجنون والتمييز معنى يعم جميع الحيوانات به تعرف ما تحتاج إليه من المنافع والمضار التي يتعلق بها بقاؤها ركبه اللّه في طباعها والعقل مختص بالإنسان به يدرك عواقب الأمور وحقائق الأشياء وقد عدم الصغير كليهما في أول أحواله فكان مثل المجنون بل أدنى حالا منه لأنه قد يكون للمجنون تمييز وإن لم يكن له عقل وهو عديم الأمرين وأما إذا عقل أي ترقى الصبي عن أولى درجات الصغر إلى أوساطها وظهر فيه شيء من آثار العقل فقد أصاب ضربا أي نوعا من أهلية الأداء فكان ينبغي أن (٤/٣٨١) يثبت في حقه وجوب الأداء بحسب ذلك لكن الصبا عذر مع ذلك أي مع أنه قد أصاب ضربا من الأهلية لأنه ناقص العقل بعد لبقاء الصبا وعدم بلوغ العقل غاية الاعتدال فسقط به أي بهذا العذر ما يحتمل السقوط عن البالغ من حقوق اللّه تعالى مثل الصلاة والصوم وسائر العبادات فإنها تحتمل السقوط بأعذار وتحتمل النسخ في أنفسها وتثبت بأسباب جعلية مثل الوقت والمال والبيت فيجوز أن تسقط بهذا العذر الذي هو رأس الأعذار وأن لا يجعل تلك الأسباب أسبابا في حق الصبي لعدم الخطاب ولكن لا يسقط ما لا يحتمل السقوط فقلنا لا يسقط عنه فرضية الإيمان لأنه فرض دائم لا يحتمل السقوط لأنه تعالى إله دائم منزه عن التغير والزوال فكان وجوب التوحيد دائما بدوام الألوهية لكن العبد ربما يعذر عن الإجابة بعذر حقيقي أو تقديري بأن لم يكن له قدرة الفعل والعقل أو العقل كالصلاة المشروعة في الوقت فرضا فإن العبد يعذر عن الإجابة بعذر حقيقي أو تقديري كالنوم وفقد الطهارة فإذا الإجابة واجبة على العبد بشرط الطاقة فيعذر بزوال الطاقة عن الإجابة مع بقاء وجوب التوحيد كذا قرر الشيخ رحمه اللّه في بعض مصنفاته حتى إذا أداه الصبي كان فرضا لا نفلا لأنه ليس بمتنوع إلى فرض ونفل ألا ترى أن الصبي إذا آمن في صغره لزمه أحكام بنيت على صحة الإيمان من حرمان الميراث ووقوع الفرقة ووجوب صدقة الفطر عليه وهي أحكام جعلت تبعا للإيمان الفرض فعرفنا أن إيمانه في حال الصبا وقع فرضا وقوله الإيمان الفرض تأكيد لا أنه بيان نوع الإيمان فإن الإيمان ليس بمتنوع إلى فرض ونفل كما قلنا وكذلك أي وكما تلزمه هذه الأحكام لم يجعل مرتدا إذا بلغ ولم يعد كلمة الشهادة ولو كان الإيمان السابق منه نفلا لما أجزأ عن الإيمان الفرض لأن النفل أدنى حالا من الفرض لفوات وصف الفرضية عنه فلا يجزئ عن الفرض كما لو صلى صبي في أول الوقت ثم بلغ في آخره لا ينوب المؤدى عن الفرض ولا يلزم عليه الوضوء قبل الوقت لأنه نفل وينوب عن الوضوء الفرض في الوقت لأن الوضوء تبع للصلاة غير مقصود ولهذا يصح بدون نية كستر العورة وإنما المقصود حصول الطهارة لتوقف صحة الصلاة عليه وهذا المقصود يحصل بالنفل كما يحصل بالفرض بخلاف الإيمان فإنه رأس الطاعات وأصل العبادات فلا يمكن أن يتأدى الفرض منه بغيره كذا في بعض الفوائد قوله ووضع أي أسقط عن الصبي التكليف بأداء الإيمان لأن وجوب الأداء يثبت بالخطاب ولا خطاب في حقه ولأن أداء الإيمان يحتمل السقوط عن البالغ فإن لم (٤/٣٨٢) يصادف وقتا يتمكن فيه من الإقرار فصدق بقلبه صح إيمانه بالإجماع وكذا إذا أكره على الكفر يسقط عنه وجوب الإقرار ويرخص له الإقدام على كلمة الكفر مع طمأنينة القلب فإذا سقط الوجوب عن البالغ بعذر الإكراه يجوز أن يسقط عن الصبي بعذر الصبا أيضا كذا قيل وهذا في حق سقوط وجوب الإقرار مستقيم فأما وجوب الاعتقاد فينبغي أن لا يسقط عن الصبي لأنه لا يسقط عن البالغ بحال وسياق كلام الشيخ وهو قوله وجملة الأمر ما قلنا أن يوضع عنه العهدة يدل على سقوط وجوب الاعتقاد عنه أيضا لأن إيجابه عليه لا يخلو عن عهدة أي تبعة وهي لزوم عذاب الآخرة على تقدير الترك كما في حق البالغ وذكر في بعض الشروح أن معنى قوله وضع عنه التكليف وإلزام الأداء أن إلزام أداء الإيمان بالنظر في الآيات ووصف اللّه تعالى كما هو بأسمائه وصفاته ساقط عنه وهو مما يحتمل السقوط عن البالغ بالنوم والإغماء وكذا إذا وصف باللسان مرة لا يلزمه بعد فيصح القول بالسقوط عن الصبي قوله وجملة الأمر أي الأمر الكلي في باب الصغر وحاصل أحكامه أن يوضع عن الصبي العهدة أي يسقط عنه عهدة ما يحتمل العفو والمراد بالعهدة هاهنا لزوم ما يوجب التبعة والمؤاخذة ويصح منه وله أي من الصبي بأن يباشر بنفسه وللصبي بأن يباشر غيره لأجله ما لا عهدة أي لا ضرر فيه كقبول الهبة وقبول الصدقة وغيرهما مما هو نفع محض لأن الصبا من أسباب المرحمة طبعا فإن كل طبع سليم يميل إلى الترحم على الصغار وشرعا لقوله عليه السلام من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا فجعل سببا للعفو عن كل عهدة يحتمل العفو أي جعل الصبا سببا لإسقاط كل تبعة وضمان يحتمل السقوط عن البالغ بوجه واحترز به عن الردة فإنها لا يحتمل العفو وعن حقوق العباد فإنها حقوق محترمة تجب لمصالح المستحق وتعلق بقائه بها فلا يمنع وجوبها بسبب الصبا كما لا يمتنع في حق البالغ بعذر ولذلك أي ولكون الصبا سببا للعفو عن كل عهدة تحتمل العفو لا يحرم الصبي الميراث بسبب القتل حتى لو قتل مورثه عمدا أو خطأ يستحق ميراثه لأن موجب القتل يحتمل السقوط بالعفو وبأعذار كثيرة فيسقط بعذر الصبا (٤/٣٨٣) ويجعل كأن المورث مات حتف أنفه ولأن الحرمان ثبت بطريق العقوبة وفعل الصبي لا يصلح سببا للعقوبة لقصور معنى الجناية في فعله بخلاف الدية فإنها تجب لعصمة المحل وهو أهل لوجوبه عليه إذ الصبا لا ينفي عصمة المحل ولا يلزم عليه أي على عدم حرمان الصبي عن الإرث بالقتل حرمانه عنه بالرق والكفر حتى لو ارتد الصبي العاقل والعياذ باللّه أو استرق لا يستحق الإرث عن قريبه لأن الرق ينافي أهلية الإرث لأن أهليته بأهلية الملك إذ الوراثة خلافة الملك والرق ينافي الملك لما سنبينه ولأن توريث الرقيق عن قريبه توريث الأجنبي عن الأجنبي حقيقة لأن الرقيق لما لم يكن أهلا للملك يثبت الملك ابتداء لمولاه وذلك باطل ولأنه ألحق بالأموال والمال ليس بأهل للإرث وكذلك الكفر أي وكالرق الكفر في أنه ينافي الإرث لأن الكفر ينافي أهلية الولاية على المسلم بقوله عز وجل ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا والإرث مبني على الولاية ألا ترى إلى قوله عز وجل إخبارا عن زكريا عليه السلام فهب لي من لدنك وليا يرثني فإنه يشير إلى أن الإرث مبني على الولاية كذا ذكر الشيخ رحمه اللّه في شرح التقويم وانعدام الحق وهو الإرث هاهنا لعدم سببه وهو الولاية كما في الكفر أو عدم أهليته أي أهلية المستحق كما في الرق لا يعد جزاء أي عقوبة فلا يمتنع بسبب الصبا ألا ترى أن من لا يملك الطلاق لعدم ملك النكاح أو العتق لعدم ملك الرقبة لا يعد ذلك عقوبة فكذلك هذا ثم الشيخ رحمه اللّه أشار هاهنا إلى أن الولاية سبب الإرث وذكر في عامة الكتب أن سبب الإرث هو اتصال الشخص بالميت بقرابة أو زوجية أو ولاء فعلى هذا كانت الولاية من شروط الأهلية كالحرية إلا أن الشيخ لما نظر إلى أن الكافر لا يخرج بكفره عن أهلية الإرث مطلقا فإنه يرث من كافر آخر وذلك لا يثبت بدون الأهلية بخلاف الرقيق فإنه لا يرث من أحد أصلا فلم يكن أهلا للميراث بوجه جعل الكفر مزيلا للسبب والرق مزيلا للأهلية فعلى هذا يكون الاتصال بالميت مع الولاية سببا فبانتفاء الولاية ينتفي السببية قوله وأما العته بعد البلوغ فكذا العته آفة توجب خللا في العقل فيصير صاحبه مختلط الكلام فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء وبعضه كلام المجانين وكذا سائر أموره (٤/٣٨٤) فكما أن الجنون يشبه أول أحوال الصبا في عدم العقل يشبه العته آخر أحوال الصبا في وجود أصل العقل مع تمكن خلل فيه فكما ألحق الجنون بأول أحوال الصغر في الأحكام ألحق العته بآخر أحوال الصبا في جميع الأحكام أيضا حتى أن العته لا يمنع صحة القول والفعل كما لا يمنعها الصبا مع العقل فيصح إسلام المعتوه وتوكله ببيع مال غيره وطلاق منكوحة غيره وعتاق عبد غيره ويصح منه قبول الهبة كما يصح من الصبي لكنه أي العته يمنع العهدة أي ما يوجب إلزام شيء ومضرة كالصبا فلا يطالب المعتوه في الوكالة بالبيع والشراء بنقد الثمن وتسليم المبيع ولا يرد عليه بالعيب ولا يؤمر بالخصومة فيه ولا يصح طلاقه امرأة نفسه ولا إعتاقه عبد نفسه بإذن الولي وبدون إذنه ولا بيعه وشراؤه لنفسه بدون إذن الولي لأن كل ذلك من العهدة والمضار ولما ذكر أن العهدة ساقطة عن الصبي والمعتوه لزم عليه وجوب ضمان ما يستهلك المعتوه والصبي من الأموال عليهما فإنه من العهدة وقد ثبت في حقهما فأجاب عنه ب قوله وأما ضمان ما يستهلك من المال فليس بعهدة أي ليس من العهدة المنفية عنهما لأن المنفي عنهما عهدة تحتمل العفو في الشرع وضمان المتلف لا يحتمل العفو شرعا لأنه حق العبد ولأن العهدة إذا استعملت في حقوق العباد يراد بها ما يلزم بالعقود في أغلب الاستعمال وهو المراد بها هاهنا وضمان المستهلك ليس من هذا القبيل فلا يكون عهدة لكنه أي الضمان شرع جبرا لما استهلك من المحل المعصوم ولهذا قدر بالمثل وكون المستهلك صبيا معذورا أو معتوها أي بالغا معتوها لا ينافي عصمة المحل لأنها ثابتة لحاجة العبد إليه لتعلق بقائه وقوام مصالحه به وبالصبا والعتة لا يزول حاجته إليه عنه فبقي معصوما فيجب الضمان على المستهلك ولا يمتنع بعذر الصبا والعته بخلاف حقوق اللّه تعالى فإنها تجب بطريق الابتلاء وذلك يتوقف على كمال العقل والقدرة وبخلاف الحقوق الواجبة بالعقود لأنها لما وجبت بالعقد وقد خرج كلامهما عن الاعتبار عند استلزامه المضار لم يجعل العقود أسبابا لتلك الحقوق في حقهما قوله ويوضع عنه أي عن المعتوه الخطاب كما يوضع عن الصبي فلا يجب عليه العبادات ولا يثبت في حقه العقوبات كما في حق الصبي وهو اختيار عامة المتأخرين وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه في التقويم أن حكم العته حكم الصبا إلا في حق العبادات فإنا لم نسقط به الوجوب احتياطا في وقت الخطاب وهو البلوغ بخلاف الصبا لأنه (٤/٣٨٥) وقت سقوط الخطاب وذكر صدر الإسلام مشيرا إلى هذا القول أن بعض أصحابنا ظنوا أن العته غير ملحق بالصبا بل هو ملحق بالمرض حتى لا يمنع وجوب العبادات وليس كما ظنوا بل العته نوع جنون فيمنع وجوب أداء الحقوق جميعا إذ المعتوه لا يقف على عواقب الأمور كصبي ظهر فيه قليل عقل وتحقيقه أن نقصان العقل لما أثر في سقوط الخطاب عن الصبي كما أثر عدمه في حقه أثر في سقوط الخطاب بعد البلوغ أيضا كما أثر عدمه في السقوط بأن صار مجنونا لأنه لا أثر للبلوغ إلا في كمال العقل فإذا لم يحصل الكمال بحدوث هذه الآفة كان البلوغ وعدمه سواء قال الشيخ رحمه اللّه الخطاب يسقط عن المجنون كما يسقط عن الصبي في أول أحوال الصبا تحقيقا للعدل وهو أن لا يؤدي إلى تكليف ما ليس في الوسع ويسقط عن المعتوه كما يسقط عن الصبي في آخر أحوال الصبا تحقيقا للفضل وهو نفي الحرج عنه نظرا ومرحمة عليه ويولى عليه أي يثبت الولاية على المعتوه لغيره كما يثبت على الصبي لأن ثبوت الولاية من باب النظر ونقصان العقل مظنة النظر والمرحمة لأنه دليل العجز ولا يلي هو على غيره لأنه عاجز عن التصرف بنفسه فلا يثبت له قدرة التصرف على غيره ولما جمع الشيخ بين أول أحوال الصبا والجنون وبين آخر أحواله والعته ذكر ما يقع به الفرق بين هذه الأشياء من الحكم فقال وإنما يفترق الجنون والصغر أي لا فرق بين الجنون والصغر والمراد به أول أحوال الصبا الذي لا عقل فيه للصبي إلا في أن هذا العارض أي الجنون غير محدود إذ ليس لزواله وقت معين ينتظر له فقيل إذا أسلمت امرأة المجنون عرض على أبيه أو أمه الإسلام في الحال ولا يؤخر العرض إلى أن يعقل المجنون لأن فيه إبطالا لحق المرأة والصغر محدود فوجب تأخير العرض حتى لو زوج النصراني ابنه الصغير الذي لا يعقل امرأة نصرانية أسلمت المرأة وطلبت الفرقة لم يفرق بينهما وتركا عليه حتى يعقل الصبي ولا يجب عرض الإسلام على أحد في الحال لأن للصغير حق الإمساك للنكاح بإسلام مثله وفي التعجيل تفويته وليس في ترك الفرقة إلا تأخير من غير ضرر ولا فساد في الحال لأن عقل الصبي في أوانه معهود على ذلك أجرى اللّه العادة فكان التأخير أولى فإذا عقل عرض عليه القاضي الإسلام فإن أسلم وإلا فرق بينهما وإنما صح العرض وإن كان الصبي لا يخاطب بأداء الإسلام لأن الخطاب إنما يسقط عنه فيما هو حق اللّه تعالى دون حق العباد ووجوب العرض هاهنا لحق المرأة فيتوجه الخطاب عليه ولا (٤/٣٨٦) يؤخر إلى بلوغ الصبي لأن إسلام الصبي العاقل صحيح عندنا فيتحقق الإباء منه فلا يؤخر حق المرأة إلى البلوغ كذا في شرح الجامع قوله وأما الصبي العاقل والمعتوه العاقل فلا يفترقان يعني في وجوب العرض في الحال كما لا يفترقان في سائر الأحكام حتى لو أسلمت امرأة المعتوه الكافر يجب العرض على نفسه في الحال كما يجب في إسلام امرأة الصبي العاقل لأن إسلام المعتوه صحيح لوجود العقل كإسلام الصبي العاقل نص على صحة إسلامه في مختصر التقويم بخلاف المجنون لأن إسلامه لما لم يصح لعدم العقل لم يفد العرض عليه فوجب العرض على وليه دفعا للظلم عن المرأة بقدر الإمكان فإن قيل قد وضع محمد رحمه اللّه العرض على ولي المعتوه في الجامع فقال معتوه نصراني زوجه أبوه النصراني امرأة نصرانية فأسلمت المرأة يعرض على أبيه الإسلام إلى آخره قلنا المراد منه المجنون فإن سياق الكلام في تلك المسألة ونظائرها يدل عليه وقد يطلق المعتوه على المجنون لأن العته يشابه الجنون وإنما قيد المعتوه بالعاقل احترازا عن المجنون فإن الصبي العاقل والمجنون وإن استويا في وجوب العرض في الحال قد افترقا في أن الواجب في حق الصبي على نفسه دون وليه وفي المجنون العرض على وليه دون نفسه فحصل مما ذكرنا أن المجنون يساوي المعتوه والصبي العاقل في وجوب العرض في الحال ويفارقهما في أن الواجب في حقه العرض على وليه وفي حقهما العرض على أنفسهما ويفارق المجنون الصغير في الوجوب في الحال وفي الوجوب على الولي أيضا ويفارق المعتوه الصغير الذي لا يعقل في الوجوب في الحال ويساويه في الوجوب على النفس دون الولي وكذا الصبي العاقل قوله وأما النسيان فكذا قيل النسيان معنى يعتري الإنسان بدون اختياره فيوجب الغفلة عن الحفظ وقيل هو عبارة عن الجهل الطارئ ويبطل اطراد هذين التعريفين بالنوم والإغماء وقيل هو جهل الإنسان بما كان يعلمه ضرورة مع علمه بأمور كثيرة لا بآفة واحترز بقوله مع علمه بأمور كثيرة عن النائم والمغمى عليه فإنهما خرجا بالنوم والإغماء من أن يكونا عالمين بأشياء كانا يعلمانها قبل النوم والإغماء وبقوله لا بآفة عن الجنون فإنه جهل بما كان يعلمه الإنسان قبله مع كونه ذاكرا لأمور كثيرة لكنه بآفة وقيل هو آفة تعترض للمتخيلة مانعة من انطباع ما يرد من الذكر فيها وقيل هو أمر بديهي لا يحتاج إلى التعريف إذ كل عاقل يعقل النسيان من نفسه كما يعلم الجوع والعطش ثم إنه لا (٤/٣٨٧) ينافي الوجوب لأنه لا ينافي العقل ولا حكم الفعل ولا القول كذا في مختصر التقويم ولكنه يحتمل أن يجعل عذرا في حق اللّه تعالى لأنه يعدم القصد إذ القصد إلى فعل بعينه لا يتصور قبل العلم به كقصد زيارة زيد لا يتصور بدون زيد فصار في حكم العجز فلا جرم يمكن أن يجعل عذرا في بعض حقوق اللّه عز وجل قال أبو اليسر النسيان سبب للعجز لأن الناسي يعجز عن أداء الحقوق بسبب النسيان فيمنع وجوب أداء الحقوق كسائر الأعذار عند عامة أصحابنا لكنه لا يمنع وجوب الحقوق فإنه لا يخل بالأهلية وإيجاب الحقوق على الناس لا يؤدي إلى إيقاعه في الحرج ليمتنع الوجوب به إذ الإنسان لا ينسى عبادات متوالية تدخل في حد التكرار غالبا فصار في حكم النوم ولهذا قرن النبي صلى اللّه عليه وسلم بين نسيان الصلاة والنوم عنها في قوله من نام عن صلاة أو نسيها الحديث وفي حقوق العباد لا يجعل النسيان عذرا حتى لو أتلف مال إنسان ناسيا يجب عليه ضمانه لأن حقوق العباد محترمة لحاجتهم كما مر بيانه لا للابتلاء لأنه ليس للعبد على العبد حق الابتلاء ليظهر طاعته له بل حقه في نفسه وأنها محترمة فيستحق حقوقا تتعلق بها قوامها كرامة من اللّه تعالى وبالنسيان لا يفوت هذا الاستحقاق فلا يمتنع وجوبها وحقوق اللّه تعالى ابتلاء لأنه جل جلاله غني عن العالمين وله أن يبتلي عباده بما شاء فكان إيجاب الحقوق منه على العباد ابتلاء لهم مع غناء عن أفعالهم وأقوالهم قال اللّه تعالى ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن اللّه لغني عن العالمين قوله لكن النسيان استدراك من قوله وفي حقوق العباد لا يجعل عذرا يعني أنه لا يجعل عذرا في حقوق العباد بوجه لكنه إذا كان غالبا يصلح عذرا في حقوق اللّه تعالى وقوله يلازم الطاعة صفة لغالبا وقوله جعل من أسباب العفو خبر لكن أي إذا كان النسيان غالبا في عبادة بحيث يلازمها وأراد بالملازمة أن لا يخلو الطاعة عنه في الأغلب إما بطريق الدعوة أي دعوة الطبع إلى ما يوجب النسيان مثل النسيان في الصوم فإنه غالب فيه لأن الطبع لما دعا إلى الأكل والشرب بسبب الصوم أوجب ذلك النسيان الصوم لأن النفس لما اشتغلت بشيء يكون ذلك سببا لغفلتها عن غيره عادة وإما باعتبار حال البشر مثل التسمية أي مثل نسيان التسمية في الذبيحة فإن ذبح الحيوان يوجب خوفا وهيبة لنفور الطبع عنه ويتغير منه حال البشر ولهذا لا يحسن الذبح كثير من الناس فيكثر الغفلة عن التسمية في (٤/٣٨٨) تلك الحالة لاشتغال قلبه بالخوف وليس المراد بيان حصر غلبة النسيان على هذين الوجهين بل المراد بيان بعض أسباب الغلبة بدليل أن سلام الناسي في الصلاة غالب وليس بهذين الطريقين جعل أي النسيان الموصوف من أسباب العفو في حق اللّه تعالى فجعل كأن المفطر لم يوجد فيبقى الصوم وجعل كأن التسمية قد وجدت فتحل الذبيحة وإنما جعلت التسمية على الذبيحة من حقوق اللّه عز وجل لأن الثابت عند وجودها الحل وعند عدمها الحرمة وهما من حقوق اللّه عز وجل لأنه من جهة صاحب الحق اعترض لحدوثه بصنع اللّه تعالى وانقطاع اختيار العبد عنه بالكلية ثم قسم النسيان ليميز بين ما لا يصلح عذرا وما يصلح فقال والنسيان ضربان ضرب أصلي وأراد به ما يقع فيه الإنسان من غير أن يكون معه شيء من أسباب التذكر وهذا القسم يصلح عذرا لغلبة وجوده وضرب يقع المرء فيه بالتقصير بأن لم يباشر سبب التذكر مع قدرته عليه وهذا الضرب يصلح للعتاب أي لا يصلح عذرا للتقصير لعدم غلبة وجوده قال الشيخ رحمه اللّه إنما يصير النسيان عذرا في حق الشرع إذا لم يكن غفلة فأما إذا كان عن غفلة فلا يكون عذرا كما في حق آدم عليه السلام وكنسيان المرء ما حفظه مع قدرته على تذكاره بالتكرار فإنه إنما يقع فيه بتقصيره فيصلح سببا للعتاب ولهذا يستحق الوعيد من نسي القرآن بعدما حفظه مع قدرته على التذكار بالتكرار ولهذا قال أبو يوسف رحمه اللّه في مسافر نسي الماء في رحله وتيمم وصلى أنه يعيد لأن هذا نسيان صدر عن تقصير لأن رحل المسافر معدن الماء عادة بمنزلة قربة عامرة فكان مقصرا بترك الطلب فلا يعذر بهذا النسيان قوله والنسيان في غير الصوم والذبيحة لم يجعل عذرا مثل مباشرة المحرم أو المعتكف ما يفسد إحرامه واعتكافه ناسيا لإحرامه واعتكافه ومثل تكليم المصلي في صلاته في أي ركن كان ناسيا لصلاته ومثل تسليمه في غير القعدة ناسيا أو تسليمه على الغير في أي حال كان حتى فسد الحج والاعتكاف والصلاة بهذه الأشياء ولم يجعل النسيان عذرا لأن هذا النسيان ليس مثل النسيان المنصوص عليه في غلبة الوجود وهو نسيان الصوم والتسمية في الذبيحة لوجود هيئة مذكرة لهؤلاء تمنعهم عن النسيان إذا نظروا إليها فكان وقوعهم فيه لغفلتهم وتقصيرهم فلا يمكن إلحاقه بالمنصوص عليه حتى إن سلام الناسي لما كان غالبا بأن سلم في القعدة الأولى ظانا أنها القعدة الأخيرة عد عذرا حتى لا تفسد صلاته به لأن القعدة محل السلام وليس للمصلي هيئة تذكره أنها القعدة الأولى فيكون مثل النسيان في الصوم فلذلك يجعل عذرا (٤/٣٨٩) قوله وأما النوم فكذا النوم فترة طبيعية تحدث في الإنسان بلا اختيار منه وتمنع الحواس الظاهرة والباطنة عن العمل مع سلامتها واستعمال العقل مع قيامه فيعجز العبد به عن أداء الحقوق وهو معنى قوله فيعجز عن استعمال قدرة الأحوال أي يعجز عن الإدراكات الحسية بعدم قدرته على استعمال الحواس والأحوال أيضا أفعاله الاختيارية كالقيام والقعود والذهاب ونحوها فهو يعجز بالنوم عن تحصيل القدرة التي يحصل بها هذه الأحوال عند استعمال الآلات السليمة لأنه لا اختيار له في تلك الحالة وفي عبارة أهل الطب هو سكون الحيوان بسبب منع رطوبة معتدلة منحصرة في الدماغ الروح النفساني من الجريان في الأعضاء وقوله فعجز عن كذا ليس بتحديد النوم إذ الإغماء ونحوه داخل فيه لكنه بيان أثر النوم فأوجب تأخير الخطاب للأداء اللام متعلقة بالخطاب يعني حكم النوم تأخير حكم الخطاب في حق العمل به لا سقوط الوجوب لاحتمال الأداء حقيقة بالانتباه أو احتمال خلفه وهو القضاء على تقدير عدم الانتباه وهذا لأن نفس العجز لا يسقط أصل الوجوب وإنما يسقط وجوب العمل إلى حين القدرة إلا أن يطول زمان الوجوب ويتكثر الواجب فحينئذ يسقط دفعا للحرج والنوم لا يمتد عادة بحيث يخرج العبد في قضاء ما يفوته في حال نومه فإنه لا يمتد ليلا ونهارا عادة وإذا كان أي النوم كذلك أي كما بينا أنه غير ممتد وغير مستلزم للحرج لم يسقط الوجوب به لأنه لا يخل بالأهلية لأهلية وجود العبادات بالذمة وبالإسلام والنوم لا يخل بهما قال أبو اليسر وقد أجمع المسلمون على هذا ثم أوضح الشيخ ما ذكر بإيراد قوله عليه السلام من نام عن صلاة الحديث فإن قوله فليصلها إذا ذكرها دليل على أن الوجوب ثابت في حق النائم والناسي وقال الإمام البرغري في هذا الحديث إشارة إلى أن الصلاة واجبة حالة النوم ولكن تأخر وجوب أدائها بعذر النوم لأنه عليه السلام قال من نام عن صلاة ولو لم تكن واجبة حالة النوم لما كان نائما عن الصلاة قوله وينافي الاختيار أصلا لأن الاختيار بالتمييز ولم يبق للنائم تمييز فلذلك بطلت عبارات النائم فيما بني على الاختيار مثل الطلاق والعتاق والإسلام والردة والبيع والشراء وصار كلامه لعدم التمييز والاختيار بمنزلة ألحان الطيور فلا يعتبر فإن قيل لا (٤/٣٩٠) يشترط الاختيار في الطلاق والعتاق بدليل وقوعهما في حالة الخطأ والإكراه والهزل وقد قال عليه السلام ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الحديث فينبغي أن يقعا في حالة النوم أيضا قلنا لا بد فيهما من الاختيار لأن الكلام لا يعتبر بدونه ولكن لا يشترط فيهما الرضاء بالحكم وفي الهزل والخطأ والإكراه أصل الاختيار موجود وإن عدم الرضاء فيها بالحكم فلا تمنع وقوعهما فأما النوم فيعدم أصل الاختيار وإليه أشار بقوله أصلا فيمنع صيرورة العبارة كلاما قوله والمصلي إذا قرأ في صلاته وهو نائم في حال قيامه لم تصح قراءته هو المختار لما قلنا وكذا لا يعتد قيامه وركوعه وسجوده من الفرض لصدورها لا عن اختيار وأما القعدة الأخيرة فلا نص فيها عن محمد وقيل إنها تعتد من الفرض لأنها ليست بركن ومبناها على الاستراحة فيلائمه النوم فيجوز أن يحتسب من الفرض بخلاف سائر الأفعال فإن مبناها على المشقة فلا يتأدى في حالة النوم وذكر في المنية إذا نام في القعدة كلها ثم انتبه فعليه أن يقعد قدر التشهد فإن لم يفعل فسدت صلاته وذكر في النوادر أن قراءة النائم تنوب عن الفرض لأن الشرع جعل النائم كالمسقط في حق الصلاة كذا في الذخيرة وإذا تكلم النائم في صلاته لم تفسد صلاته لأنه ليس بكلام لصدوره ممن لا تمييز له وهو مختار المصنف وذكر في المغني وفتاوى قاضي خان والخلاصة أن المصلي إذا نام وتكلم في حالة النوم تفسد صلاته من غير ذكر خلاف وفي النوازل إذا تكلم في الصلاة وهو في النوم تفسد صلاته هو المختار وإذا قهقه النائم في صلاته لا رواية في هذه المسألة عن محمد أيضا فقال الحاكم أبو محمد الكفيني تفسد صلاته ويكون حدثا لأنه قد ثبت بالنص أن القهقهة في صلاة ذات ركوع وسجود حدث وقد وجدت ولا فرق في الأحداث بين النوم واليقظة ألا ترى أنه لو احتلم يجب الغسل كما لو أنزل بشهوة في اليقظة وتفسد صلاته لأن النائم في الصلاة كالمستيقظ وبهذا أخذ عامة المتأخرين احتياطا كذا في المغني وعن شداد بن أوس عن أبي حنيفة رحمهما اللّه أنها تكون حدثا ولا تفسد صلاته حتى كان له أن يتوضأ ويبني على صلاته بعد الانتباه لأن فساد الصلاة بالقهقهة باعتبار معنى الكلام فيها وقد زال بالنوم لفوات الاختيار أما تحقق الحدث فلا يفتقر إلى الاختيار فلا يمتنع بالنوم وكأن القهقهة في هذه الحالة حدثا سماويا بمنزلة الرعاف فلا تفسد الصلاة وقيل تفسد صلاته ولا تكون حدثا وهذا هو المذكور في عامة نسخ الفتاوى (٤/٣٩١) لأن فساد الصلاة باعتبار معنى الكلام في القهقهة والنوم كاليقظة في حق الكلام عند الأكثر كما قلنا وأما كونها حدثا فباعتبار معنى الجناية وقد زال بالنوم ألا ترى أن قهقهة الصبي في الصلاة لا يكون حدثا لزوال معنى الجناية عن فعله ومختار المصنف رحمه اللّه أنه أي فعل القهقهة من النائم لا يكون حدثا ولا يفسد الصلاة لما ذكر في الكتاب قوله وأما الإغماء فكذا الإغماء فتور يزيل القوى ويعجز به ذو العقل عن استعماله مع قيامه حقيقة كذا فسره الشيخ أبو المعين رحمه اللّه وقال غيره هو آفة توجب انحلال القوة الحيوانية بغتة وإنه لا يخل بالأهلية كالنوم لأن العجز عن استعمال العقل لا يوجب عدم العقل فيبقى الأهلية ببقائه كمن عجز عن استعمال السيف لم يؤثر ذلك في السيف بالإعدام ألا ترى أنه لا يولى عليه كما يولى على الصبي والمجنون وأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن معصوما عنه ولو كان فيه زوال العقل يعصم عنه كما عصم عن الجنون قال اللّه تعالى ما أنت بنعمة ربك بمجنون وهو أي الإغماء أشد من النوم يعني في كونه عارضا وفي فوت الاختيار والقوة لأن النوم فترة أصلية أي طبيعية بحيث لا يخلو الإنسان عنه في حال صحته فمن هذا الوجه يختل كونه عارضا وإن تحققت العارضية فيه باعتبار أنه زائد على معنى الإنسانية ولا يزيل أصل القوة أيضا وإن أوجب العجز عن استعمالها ويمكن إزالته بالتنبيه وهذا أي الإغماء عارض من كل وجه لأن الإنسان قد يخلو عنه في مدة حياته فكان أقوى من النوم في العارضية وهو ينافي القوة أصلا لما قلنا أنه مرض مزيل للقوى ولهذا لا يمكن إزالته بفعل أحد بخلاف النوم لأنه عجز عن استعمال القوة مع وجودها ولهذا يزول بالتنبيه ألا ترى توضيح لكونه أشد من النوم يعني ظهر أثر شدته في الحكم حيث صار الإغماء حدثا في كل حال مضطجعا كان أو قاعدا أو قائما أو راكعا أو ساجدا والنوم ليس بحدث في بعض الأحوال لأنه بذاته لا يوجب استرخاء المفاصل إلا إذا غلب فحينئذ يصير سببا للاسترخاء فيكون حدثا ثم ذكر فرقا آخر بين الإغماء والنوم فقال والنوم لازم للإنسان بأصل الخلقة فيكون كثير الوقوع فلهذا كان النوم من المضطجع في الصلاة إذا لم يتعمده حدثا لا يمنع البناء بمنزلة الرعاف وقيد بالمضطجع لأن نوم الراكع والساجد والقائم في الصلاة ليس بحدث وبعدم (٤/٣٩٢) التعمد لأن المصلي إذا نام مضطجعا متعمدا انتقض وضوءه وبطلت صلاته بلا خلاف فأما إذا نعس في الصلاة من غير تعمد فمال نائما حتى اضطجع فقد اختلف فيه قال بعضهم ينتقض طهارته ولم يفسد صلاته لأنه حدث سماوي فله أن يتوضأ ويبني وقال بعضهم لا تفسد صلاته ولا ينتقض طهارته كما لو نام في السجود كذا في فتاوى قاضي خان ثم بين وجهين في الإغماء كل واحد منهما يمنع البناء فقال والإغماء من العوارض النادرة في الصلاة فلم يكن في معنى ما ورد به النص وهو الحدث الذي يغلب وجوده في جواز البناء وهو أي الإغماء فوق الحدث في المنع من الصلاة لأنه مع كونه حدثا في جميع الأحوال مخل بالعقل وكل واحد منهما مؤثر في المنع من الأداء لأنه مفتقر إلى كل واحد منهما كذا في بعض الفوائد فلم يلحق الإغماء بالحدث لهذين الوجهين كما لم تلحق الجنابة به ومنع البناء على كل حال مضطجعا كان المغمى عليه أو غير مضطجع قليلا كان الإغماء أو كثيرا ويختلفان أي النوم والإغماء فيما يجب من حقوق اللّه تعالى بطريق الخبر فيصلح الإغماء عذرا مسقطا في البعض ولا يصلح النوم عذرا مسقطا بحال لأن الإغماء مرض ينافي القوة أصلا فلا يجب الأداء في الحال للعجز وقد يحتمل الامتداد يعني في حق بعض الواجبات على وجه يوجب الحرج أي يوجب عدم اعتبار امتداده الحرج بدخول الواجب في حد التكرار فيسقط به أي بالحرج أو بالامتداد أداء الواجب عنه أصلا يعني يسقط عنه حقيقة الأداء للعجز وخلفه وهو القضاء للحرج وإذا بطل الأداء أي سقط وجوب الأداء أصلا بطل الوجوب أي نفس الوجوب لما قلنا في باب الأهلية أن الوجوب غير مقصود بنفسه بل المقصود منه الأداء فلما سقط لم تبق الوجوب لعدم الفائدة وهذا أي سقوط الأداء بالإغماء عند امتداده استحسان وكان القياس أن لا يسقط بالإغماء شيء وإن طال كما ذهب إليه بشر بن غياث المريسي لأنه مرض لا يؤثر في العقل ولكنه يوجب خللا في القدرة الأصلية فيؤثر في تأخير الأداء ولا يوجب سقوط القضاء كالنوم والفرق ما ذكرنا أن الإغماء قد يقصر وقد يطول عادة في حق بعض الواجبات فإذا قصر اعتبر بما يقصر عادة وهو النوم فلا يسقط به القضاء وإذا طال اعتبر بما يطول عادة وهو الجنون والصغر فيسقط القضاء وامتداد الإغماء في الصلاة أن يزيد على يوم وليلة باعتبار الأوقات عند أبي حنيفة وأبي يوسف وباعتبار الصلاة عند محمد (٤/٣٩٣) رحمهم اللّه على ما فسرناه في الجنون وقال الشافعي رحمه اللّه امتداده باستيعاب وقت الصلاة حتى لو كان مغمى عليه وقت صلاة كامل لا يجب عليه القضاء لأن وجوب القضاء يبتنى على وجوب الأداء وفرق بين النوم والإغماء فإن النوم عن اختيار منه بخلاف الإغماء ولكنا استحسناه لحديث علي رضي اللّه عنه فإنه أغمي عليه أربع صلوات فقضاهن وعمار بن ياسر أغمي عليه يوما وليلة فقضى الصلوات وعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أغمي عليه أكثر من يوم وليلة فلم يقض الصلوات فعرفنا أن امتداده في الصلاة بما ذكرنا كذا في المبسوط وذكر في بعض المواضع أن القضاء يجب على المغمى عليه بالإجماع إذا لم يزدد الإغماء على يوم وليلة وذلك يدل على أن قوله فيه مثل قولنا فيحمل على أن له فيه قولين وفي الصوم لا يعتبر امتداده حتى لو كان مغمى عليه في جميع الشهر ثم أفاق بعد مضيه يلزمه القضاء إن تحقق ذلك إلا عند الحسن البصري رحمه اللّه فإنه يقول سبب وجوب الأداء لم يتحقق في حقه لزوال عقله بالإغماء ووجوب القضاء يبتنى عليه وقلنا إن الإغماء عذر في تأخير الصوم إلى زواله لا في إسقاطه لأن سقوطه بزوال الأهلية أو بالحرج ولا تزول الأهلية به لما بينا ولا يتحقق الحرج به أيضا لأنه إنما يتحقق فيما يكثر وجوده وامتداده في حق الصوم نادر لأنه مانع من الأكل والشرب وحياة الإنسان شهرا بدون الأكل والشرب لا تتحقق إلا نادرة فلا يصلح لبناء الحكم عليه وفي الصلاة امتداده غير نادر فيوجب حرجا فيجب اعتباره وفي ذلك أي في اعتبار امتداده في حق الصلاة جاءت السنة كما بينا فلم يوجب حرجا متصل بقوله وفي الصوم نادر أي لم يوجب امتداده في الصوم حرجا قوله أما الرق فكذا الرق في اللغة هو الضعف يقال ثوب رقيق أي ضعيف النسج ومنه رقة القلب وفي عرف الفقهاء هو عبارة عن ضعف حكمي يتهيأ الشخص به لقبول ملك الغير فيتملك بالاستيلاء كما يتملك الصيد وسائر المباحات واحترز بالحكمي عن الحسي فإن العبد ربما يكون أقوى من الحر حسا لأن الرق لا يوجب خللا في سلامة البنية ظاهرا وباطنا لكنه وإن قوي عاجز عما يملكه الحر من الشهادة والقضاء والولاية والتزوج ومالكية المال وغيرها ولا يلزم عليه أن أهل الحرب أرقاء حتى ملكوا (٤/٣٩٤) بالاستيلاء ثم إن تصرفاتهم نافذة وأنكحتهم صحيحة وشهادتهم فيما بينهم مقبولة وأملاكهم ثابتة لأن ثبوت وصف الرق فيهم بالنسبة إلينا حتى صاروا عرضة للتملك في حقنا فأما فيما بينهم فلهم حكم الأحرار بناء على ديانتهم فيما بينهم بالحرمة فيثبت هذه الأحكام في حقهم شرع أي الرق جزاء في الأصل أي في أصل وضعه وابتداء ثبوته فإن الكفار لما استنكفوا عبادة اللّه عز وجل وصيروا أنفسهم ملحقة بالجمادات حيث لم ينتفعوا بعقولهم وسمعهم وأبصارهم بالتأمل في آيات اللّه تعالى والنظر في دلائل وحدانيته جازاهم اللّه تعالى في الدنيا بالرق الذي صاروا به محال الملك وجعلهم عبيد عبيده وألحقهم بالبهائم في التملك والابتذال ولكونه جزاء الكفر في الأصل لا يثبت على المسلم ابتداء ولكنه في البقاء صار من الأمور الحكمية أي صار في حالة البقاء ثابتا بحكم الشرع حكما من أحكامه من غير أن يراعي فيه معنى الجزاء ومن غير أن يلتفت إلى جهة العقوبة فيه حتى يبقى العبد رقيقا وإن أسلم وصار مع الأتقياء ويكون ولد الأمة المسلمة رقيقا وإن لم يوجد منه ما يستحق به الجزاء وهو كالخراج فإنه في الابتداء يثبت بطريق العقوبة حتى لا يبتدئ على المسلم لكنه في حال البقاء صار من الأمور الحكمية حتى لو اشترى المسلم أرض الخراج لزم عليه الخراج والعرضة المعرض للأمر أي الذي نصب لأمر فعلة من العرض يقال فلان جعل عرضة للبلاء أي منصوبا له بحيث يعرض عليه ومنه قوله تعالى ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم أي معرضا لها فتبتذلوه بكثرة الحلف به والمعنى هاهنا أن الإنسان بسبب الرق يصير معرضا ومنصوبا للتملك والابتذال أي الامتهان قوله وهو وصف لا يحتمل التجزي أصله التجزؤ بالهمز لكن الفقهاء لينوا الهمزة تخفيفا كما هو مذهب بعض العرب في المهموزات فصار تجزوا بالواو ثم قلبوا الواو ياء لوقوعها طرفا مضموما ما قبلها فقالوا التجزي ومثله التوضؤ والتوضي أي الرق لا يحتمل التجزي ثبوتا وزوالا وقال محمد بن سلمة البلخي من مشايخنا أنه يحتمل التجزي ثبوتا حتى لو فتح الإمام بلدة ورأى الصواب في أن يسترق أنصافهم نفذ ذلك منه والأصح أنه لا يتجزأ لأن سببه وهو القهر لا يتجزى إذ لا يتصور قهر نصف الشخص شائعا دون النصف والحكم يبتنى على السبب كذا في المبسوط ولأنه أثر الكفر وهو لا يتجزأ ولأنه شرع عقوبة وجزاء ولا يتصور إيجاب العقوبة على النصف مشاعا دون النصف والحاصل أن (٤/٣٩٥) المحل لا يتجزأ في قبول هذا الوصف كما لا يتجزأ في اتصافه بالعلم والجهل وكما أن المرأة لا تتجزأ في اتصافها بالحل والحرمة ثم استدل على أن ما ذكره هو مذهب أصحابنا بالمسألة المذكورة فإن محمدا ذكرها في آخر دعوى الجامع من غير ذكر خلاف فدل أنه مذهب أصحابنا جميعا أنه يجعل عبدا في شهادته وإن لم يثبت الملك للمقر له إلا في النصف حتى لو انضم إليه مثله لم يجعلا بمنزلة حر واحد في الشهادة كما جعلت المرأتان بمنزلة رجل واحد فيها وفي جميع أحكامه مثل الحدود والإرث والنكاح والحج والجمعة قوله وكذلك أي ومثل الرق العتق الذي هو ضد الرق في أنه لا يقبل التجزي لأن العتق في الشرع عبارة عن قوة حكمية يصير الشخص به أهلا للمالكية والشهادة والولاية ويمتنع بها عن يد المستولي حتى لا يملكه وإن قهره كذا قال القاضي الإمام في الأسرار وثبوت مثل هذه القوة لا يتصور في البعض الشائع دون البعض وفي قوله هو ضده إشارة إلى دليل عدم تجزيه فإن الرق لما لم يكن متجزيا لزم منه أن لا يكون العتق متجزيا لأن هذا المحل لا يخلو عن أحد هذين الضدين إذ لا واسطة بين الحرية والرق فلزم من عدم تجزي الرق عدم تجزي العتق ضرورة وهذا باتفاق بين أصحابنا حتى أن معتق البعض لا يكون حرا أصلا أي لا يثبت له حرية في البعض ولا في الكل عند أبي حنيفة رحمه اللّه وإن كان مذهبه أن الإعتاق يتجزأ بل هو رقيق في شهادته وسائر أحكامه كما كان وإنما هو مكاتب جواب ما يقال إن معتق البعض لما كان مثل العبد في الأحكام فما فائدة الإعتاق فقال إن معتق البعض مكاتب أي صار حكمه بالإعتاق حكم المكاتب من حيث إن المولى لا يملك بيعه وأن العبد أحق بمكاسبه وأنه يخرج إلى الحرية بالسعاية وأن بعض الملك زال عنه كما زال عن المكاتب ملك اليد للمولى إلا أنه لا يرد إلى الرق بالتعجيز بخلاف المكاتب لأن السبب في المكاتب عقد يحتمل الفسخ وهو الكتابة والسبب هاهنا إزالة ملك لا إلى أحد وذلك لا يحتمل الفسخ فأبو حنيفة رحمه اللّه في معتق البعض اعتبر جانب الشريك فالملك لما بقي عنده في نصيبه تعذر إثبات العتق في الحال لأنه لو ثبت لثبت في الكل لعدم تجزيه فتوقف في الحكم بالعتق إلى أن يؤدي السعاية ويسقط الملك بالكلية فحينئذ يحكم بالعتق وأبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه نظرا إلى جانب العبد فإنه لما استحق العتق في النصف عملا بإضافة الإعتاق إليه ثبت في الكل لعدم تجزيه كما في الطلاق فثبت بما ذكرنا أن الرق والعتق لا يقبلان التجزي باتفاق بين أصحابنا وعند الشافعي رحمه اللّه إن صدر العتق من موسر فكذلك وإن صدر من معسر فإنه يحتمل التجزي وكذلك الرق حتى لو أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد وهو (٤/٣٩٦) معسر عتق نصيبه وبقي الباقي رقيقا كما كان يباع ويوهب لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من أعتق شقصا له في عبد ضمن لشريكه إن كان موسرا وإلا عتق ما عتق ورق ما رق ولأن الإعتاق وجد في النصف فيثبت موجبه في القدر الذي أضيف إليه ولا استحالة في اتصاف البعض منه بالحرية والبعض بالرق لأن هذه أوصاف شرعية تذكر فكما قال أبو حنيفة رحمه اللّه في الملك أنه زال عن البعض وبقي في البعض فاتصف البعض بكونه مملوكا والبعض بكونه غير مملوك أقول في حق العتق النصف الذي زال الملك عنه حر والنصف الآخر رقيق إلا أن لهذا الوصف آثارا منها ما يمكن إظهار الأثر في البعض وهو المالكية ومنها ما لا يمكن وهو الشهادة والولاية فأثبتنا ما أمكن وتوقفنا فيما تعذر إلى حين تمام العتق والجواب ما بينا أن الجمع بين الرق والحرية في شخص واحد مستحيل لأنهما وصفان متضادان لا يتجزيان كما لا يمكن الجمع بين الحل والحرمة في شخص واحد وما ذكر من الحديث معارض بما سنذكره فلا يصح التمسك به أو ما دل بأن المراد من قوله عتق ما عتق يعتق سماه عتيقا باعتبار المآل ومن قوله رق ما رق حقيقة لأنه رقيق ولا كلام فيه إنما الكلام في أنه هل يبقى على حاله رقيقا أم يخرج إلى العتق بالسعاية ولا ذكر له في هذا الخبر كذا في الطريقة البرغرية ثم إن أصحابنا كما اتفقوا على عدم تجزي الرق والعتق اتفقوا على أن الملك وهو المعنى المطلق للتصرف الحاجز للغير عنه قابل للتجزؤ ثبوتا وزوالا بل أجمع الكل عليه فإن الرجل لو باع عبده من اثنين يجوز بالإجماع وثبت الملك لكل واحد منهما في النصف ولو باع نصف عبده يبقى الملك له في النصف الآخر بالإجماع ويزول عن النصف المبيع لا غير وإذا عرفت أحكام الرق والعتق والملك في التجزي فاعلم أنهم اختلفوا في تجزي الإعتاق فقال أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه الإعتاق لا يتجزأ حتى لو أعتق نصف عبده أو أعتق أحد الشريكين نصيبه يعتق كله لقوله عليه السلام من أعتق شقصا له في عبد أعتق كله ليس للّه فيه شريك ولأن الإعتاق انفعاله العتق أي لازمه الذي يتوقف وجوده عليه يقال أعتقته فعتق كما يقال كسرته فانكسر فلا يتصور الإعتاق بدون العتق كما لا يتصور الكسر بدون الانكسار لاستحالة وجود الملزوم بدون اللازم وإذا لم (٤/٣٩٧) يكن الانفعال هاهنا وهو العتق متجزئا لم يكن الفعل وهو الإعتاق متجزيا ضرورة كالتطليق والطلاق فإن الطلاق الذي هو انفعال التطليق لما لم يكن متجزيا لم يكن التطليق الذي هو الفعل متجزئا ولا وجه للقول يتوقف الإعتاق لأنه صدر من المالك فوجب تنفيذه ونفاذه في البعض يستدعي ثبوت العتق في الكل ولا معنى لقول من قال إن الإعتاق تصرف في المالية دون إثبات العتق لأن الحيوان يثبت دينا في الذمة في باب الإعتاق وأن إعتاق ما ليس بما يصح كالجنين وكأم الولد على أصل أبي حنيفة رحمه اللّه ولو كان الإعتاق تصرفا في المالية لما ثبت الحيوان دينا في الذمة فيه لأنه لا يثبت في الذمة بدلا عن المال يوضحه أن الاستيلاد الذي هو حق العتق لا يتجزأ حتى لو استولد الجارية المشتركة صارت كلها أم ولد له فحقيقة العتق بعدم التجزي أولى وكذلك إعتاق أم الولد لا يتجزأ حتى لو ادعى الشريكان ولد جارية مشتركة بينهما وصارت أم ولد لهما ثم أعتق أحدهما نصيبه عتق نصيب الآخر في الحال فكذا إعتاق القنة وقال أبو حنيفة رحمه اللّه الإعتاق يتجزأ حتى لو أعتق شقصا من عبد لا يعتق الكل ولكن يفسد الملك في الباقي حتى لم يكن له أن يملكه الغير ولا أن يبقيه في ملكه بل يصير كالمكاتب على ما بينا لقوله عليه السلام من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا وإن كان معسرا يبقى العبد في نصيبه غير مشقوق عليه أي يؤخذ منه على المهلة والرق ولما روى سالم عن أبيه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من أعتق شقصا له في عبد كلف عتق بقيته وهو المراد من قوله عليه السلام عتق كله أي سيصير عتيقا بإخراج الباقي إلى العتق بالسعاية فكان بيانا أنه لا يستدام فيه الرق ولأن الإعتاق إزالة ملك اليمين بالقول فيتجزأ من المحل كالبيع وذلك لأن نفوذ تصرف المالك باعتبار ملكه وهو مالك للمالية دون الرق لأنه اسم لضعف شرعي ثابت في أهل الحرب مجازاة وعقوبة على كفرهم كما قلنا وهو لا يحتمل التملك لأنه شرع عقوبة بالجناية على حق اللّه تعالى فإن حرمة الكفر حقه على الخصوص فيكون جزاؤه حقا له كحد الزنا فلا يصلح أن يكون مملوكا للمولى وتعلق بقاء الملك ببقاء الرق في المحل لا يدل على أنه مملوك له كتعلقه بالحياة فإنها شرط للملك ثبوتا وبقاء وذلك لا يدل على أن الحياة مملوكة له وإذا ثبت أنه لا يملك إلا المالية كان الإعتاق منه تصرفا في إزالة ملك المالية فيقبل التجزي لأن العبد من حيث إنه مال متجز كالثوب إلا أنه إذا أزاله إلى العبد والعبد لا يملك نفسه كان (٤/٣٩٨) إسقاطا للمالية وإسقاطها يوجب زوال الرق وثبوت العتق فكان فعله إعتاقا بواسطة إزالة المالية على معنى أنه إذا تم إزالة الملك بطريق الإسقاط يعقبه العتق لا أن يكون فعل المزيل ملاقيا للرق كالقاتل فعله لا يحل الروح وإنما يحل البنية ثم بنقض البنية تزهق الروح فيكون فعله قتلا وكشراء القريب يكون إعتاقا بواسطة التملك لا بدون الواسطة فهذا معنى قوله الإعتاق إزالة لملك متجز تعلق به أي بهذه الإزالة على تأويل الإسقاط حكم لا يتجزأ وقوله لأنه أي العتق عبارة عن سقوط الرق دليل على أن العتق متعلق بالإعتاق بواسطة أي لا نعني ثبوت العتق الذي هو القوة الشرعية إلا سقوط الرق الذي هو الضعف الشرعي لأن زوال الضعف يوجب قوة بحبسه لا محالة وسقوط الرق حكم لسقوط كل الملك وذلك لأن ثبوت الرق في الأصل لما كان بطريق العقوبة كان ينبغي أن لا يبقى الرق بعد صيرورته من أهل دار الإسلام وإن ثبتت الحرية بالمعنى الأصلي وهو أن الآدمي مكرم محترم إلا أنه يمتنع ثبوت الحرية لقيام ملك المولى فكان بقاء الرق بعد صيرورته من أهل دار الإسلام لتعلق حق المولى فما دام حق المولى قائما في المحل يبقى الرق وينبغي العتق وإذا زال الملك والمالية بالكلية انتفى الرق وحدث العتق فثبت أن سقوط الرق حكم سقوط الملك بالكلية وقوله لأنه أي العتق عبارة عن سقوط الرق تسامح في العبارة لأنه عبارة عن ثبوت القوة إلا أن سقوط الرق من لوازمه فيعتبر به عنه كما أن الحركة ليست بعبارة عن زوال السكون بل معنى يلزم من وجوده زوال السكون فيجوز أن يعبر بالحركة عن زوال السكون ومثله تفسير الموت بزوال الحياة فإنه تفسير بلازمه أو هو أمر وجودي يلزم منه زوال الحياة عند أهل السنة وصار ذلك أي إسقاط الملك الذي هو متجز وتعلق العتق الذي هو غير متجز به كإعداد أعضاء الوضوء في حكم الغسل فإنها متجزئة فيه وتعلق بها أي بغسلها إباحة الصلاة التي هي غير متجزئة حتى كان غاسل بعض الأعضاء متطهرا ومزيلا للحدث عن ذلك البعض ويتوقف إباحة الصلاة على غسل الباقي وكذلك أي كإعداد أعضاء الوضوء إعداد الطلاق للتحريم فإنها متجزئة وتعلق بها الحرمة الغليظة التي هي غير متجزئة حتى كان موقع الطلقة والطلقتين مطلقا ويتوقف ثبوت الحرمة على كمال العدد فكذا هاهنا إلا أن العبد استحق بإزالة الملك حق العتق لأن الإزالة لما صحت استحق أن يعتق بقدره لأن الإعتاق أقوى من التدبير والاستيلاد ولما استحق العتق للحال ولم يحتمل النقض وجب تكميله من طريق السعاية فيجعل العبد مكاتبا بين (٤/٣٩٩) حر وعبد ولأن في الكتابة تأخر حق العبد في العتق وفي القول يعتق الكل بطلان ملك الذي لم يعتق فكان التأخير أولى كذا في الأسرار وبما ذكرنا خرج الجواب عما يقال قد ذكرتم في مسألة استعارة ألفاظ العتق للطلاق أن معنى اللفظ إثبات العتق الذي هو القوة وذلك موجب التصرف شرعا وقلتم أيضا في مسألة الشهادة على إعتاق المولى عبده أنها لا تقبل بدون دعوى العبد لأن الإعتاق إثبات العتق وهو حقه ثم ذكرتم هاهنا أنه إزالة الملك لا إثبات العتق وهو تناقض لأن تصرف المولى وإن كان ملاقيا للملك والمالية لكنه طريق لثبوت العتق فكان العتق مضافا إلى تصرفه لأنه سلك طريق حدوثه وأعمل العلة فيعطى لتصرفه حكم العلة كما لو قطع الحبل حتى سقط القنديل يقال أسقط لأنه أعمل العلة وهي الثقل بإزالة المسكة ومتى ثبت أنه تصرف في المالية بالإسقاط لإحداث العتق كان المقصود من التصرف العتق وبه يسمى التصرف ثم إذا أردت الاستعارة لا بد من أن ينظر إلى المعنى الذي قصد بالتصرف وهو إثبات العتق الذي ينبئ عن القوة لأن الاتصال بين اللفظين إنما يكون في المعنى الخاص الذي هو مقصود التصرف دون الطريق الذي ليس بمقصود وفي مسألتنا العتق غير ثابت بعد وإنما نحن في طريق الوصول إلى المقصود فنراعي معنى إزالة الملك والمالية فنقول هو متصرف في الملك وهو متجز وما دام شيء من المالية قائما في المحل لا يثبت العتق كالقنديل يبقى معلقا ما دام شيء من المسكة قائما وعلى هذا النمط يجري تخريج المسائل في اعتبار المقصود من التصرف واعتبار طريق ما هو المقصود كذا ذكر الشيخ أبو الفضل رحمه اللّه في إشارات الأسرار وأما استدلالهم بأن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة فيه فليس بصحيح لأنه إنما لا يثبت دينا في الذمة في عقد تمليك المال بالمال لئلا يؤدي إلى الربا إذ فيه ضرب جهالة فيحتمل استيفاء الزيادة وأما في عقد إسقاط المال فلا يؤدي إليه فيثبت وإنما جاز إعتاق الجنين لأنه في البطن مال على ما عرف في الغصب وكذا أم الولد مال عند أبي حنيفة رحمه اللّه ولكن لا قيمة لها فيصح إعتاقها لوجود المالية ولا يجب الضمان باستهلاكه لعدم التقوم وقولهم الاستيلاد لا يتجزأ غير مسلم أيضا بدليل أن مدبرة بين اثنين لو استولدها أحدهما صار نصيبه أم ولد له ونصيب الآخر بقي على حاله وكذا مكاتبا بين اثنين استولدها أحدهما لا يصير نصيب الآخر أم ولد له فأما القنة فإنما يصير كلها أم ولد له لا لأنه غير متجز ولكن لأن السبب قد تحقق في جميعها وهو ثبوت نسب الولد والنسب قد ثبت في جميعها فقلنا بانتقال ملك الشريك إليها بالقيمة إن كان ممكنا وذلك في القنة دون المدبرة والمكاتبة فيقتصر حكمه فيهما على نصيبه ويتعدى إلى (٤/٤٠٠) نصيب الشريك في القنة وكذا إعتاق أم الولد متجز إذ لم يعتق بإعتاقه إلا النصف ولكن النصف الآخر يعتق لعدم الفائدة في إبقاء الرق فإن رق أم الولد لما لم يكن متقوما عنده لم يمكن إيجاب المال عليها باعتبار احتباس ملك الشريك عندهما فلم يكن في إبقاء الملك فائدة فيعجل عتق الباقي وفي القنة في إبقاء الرق فائدة فيبقى للسعاية قوله وهذا الرق أي الذي نحن بصدده وكأنه احترز بلفظ الإشارة عن النكاح فإنه يسمى رقا ولا يمنع مالكية المال يبطل مالكية المال حتى لا يملك العبد شيئا من المال وإن ملكه المولى لقيام المملوكية مالا يعني مملوكيته من حيث المالية لا من حيث الإنسانية فلا يتصور أن يكون مالكا من هذا الوجه لأن المالكية تنبئ عن القدرة والمملوكية تنبئ عن العجز وهما متنافيان فلا يجتمعان بجهة واحدة فإن قيل يجوز أن يكون مملوكا من حيث إنه مال ومالكا من حيث إنه آدمي كما قلنا في مالكية غير المال قلنا لو قيل بمالكيته من حيث إنه آدمي يلزم منه أن يكون المال مالكا وذلك لا يجوز لأن المالك مبتذل للمال والمال مبتذل ولا يجوز أن يكون المبتذل مبتذلا في حالة بخلاف مالكية ما ليس بمال لأن الضرورة داعية إلى إثباتها كما سنبينه كذا في بعض الشروح فإن قيل ينبغي أن لا يبقى بالرق أهلية ملك التصرف كما لا يبقى أهلية ملك المال لأن العبد مملوك تصرفا كما أنه مملوك له مالا قلنا إنه مملوك له تصرفا في نفسه بيعا وترويجا وقد فاتت له أهلية هذا التصرف وكان نائبا عن المولى متى باشره بأمره ولكنه لم يصر مملوكا من حيث التصرف في ذمته أن المولى لا يملك الشراء بثمن يجب في ذمة عبده ابتداء فيبقى له الأهلية في ملك هذا التصرف كما إنه لما يصر مملوكا تصرفا عليه في الإقرار بالحدود والقصاص بقي مالكا لذلك التصرف كذا في مأذون المبسوط وإذا ثبت أن الرق يبطل مالكية المال لا تثبت الأحكام المبنية على الملك في حق الرقيق فلا يملك العبد والمكاتب التسري وإن أذن لهما المولى بذلك كما لا يملكان الإعتاق لأنه من أحكام الملك كالإعتاق وقال مالك رحمه اللّه يجوز لهما التسري لأن ملك المتعة يثبت بعد النكاح أو الشراء فإذا كان العبد أهلا لملك المتعة كان أهلا بالطريق الآخر لأن ملك المتعة الذي يثبت بالنكاح أقوى مما يثبت بالشراء والجواب ما بينا أن سببه وهو ملك الرقبة لا يثبت في حق العبد لعدم أهليته فكذا حكمه بخلاف النكاح ولا تأثير لإذن المولى في إثبات الأهلية إنما تأثيره في إسقاط حقه عند قيام أهلية العبد والسرية الأمة التي بوأتها بيتا وأعددتها للوطء فعلية من السر وهو النكاح يقال (٤/٤٠١) تسررت جارية وتسريت كما يقال تظننت وتظنيت وخص المكاتب بالذكر مع أن حكم المدبر كذلك لأنه صار أحق بمكاسبه لحريته يدا فيوهم ذلك جواز التسري له فأزال الوهم بذكره قوله وحتى لا يصح منهما حجة الإسلام يعني لما أبطل الرق مالكية المال لا يصح من العبد والمكاتب حجة الإسلام لأن القدرة والاستطاعة من شرائط وجوب الحج ولا قدرة للرقيق أصلا لأنها بمنافع البدن والمال والعبد لا يملك شيئا منهما أما المال فلما قلنا وأما المنافع فلأن المولى لما ملك رقبته كانت المنافع حادثة على ملكه لأن ملك الذات علة لملك الصفات فكانت منافعه للمولى إلا ما استغنى عليه أي المولى في سائر القرب البدنية من الصلاة والصوم فإن القدرة التي يحصل بها الصوم الفرض والصلاة الفرض ليست للمولى بالإجماع والعبد فيها مبقى على أصل الحرية وإذا كان كذلك كان الحج المؤدى قبل وجود شرطه نفلا فلا ينوب عن الفرض بخلاف الفقير إذا حج ثم استغنى حيث جاز ما أدى عن الفرض لأن ملك المال ليس بشرط الوجوب لذاته وإنما شرط للتمكن من الوصول إلى موضع الأداء ألا ترى أن المكي الذي هو في موضع الأداء لا يعتبر في حقه ملك المال الموجود وفي حق الأفاقي لا يتقدر المال بنصاب بل يختلف ذلك باعتبار القرب والبعد فعرفنا أن الشرط هو التمكن من الوصول إلى موضع الأداء فبأي طريق وصل إليه الفقير وجب عليه الأداء وكان أداؤه حاصلا بمنافعه التي هي حقه فكان فرضا فأما منافع العبد فلمولاه وبإذن المولى لا يخرج المنفعة عن ملكه فإنما أداه بما هو ملك غيره فلا يتأدى به الفرض كما لو أدى الكفارة بالمال لا يصح لأنها يتأدى بتمليك المال وهو للمولى لا لنفسه وهذا بخلاف الجمعة إذا أداها بإذن المولى حيث يقع عن الفرض لأن الجمعة تؤدى في وقت الظهر خلفا عن الظهر ومنافعه لأداء الظهر مستثنى من حق المولى فكان أداؤه الجمعة بمنافع مملوكة له فجاز عن الفرض كذا في المبسوط وقوله فأما الزاد والراحلة جواب عما يقال إن القدرة على الزاد والراحلة شرط للوجوب كقدرة البدن فكان أداء الفقير قبل هذه القدرة أداء قبل الوجوب كأداء العبد والصبي فينبغي أن لا يتأدى به الفرض ولا يقع عن حجة الإسلام فقال اشتراط الزاد والراحلة لليسر يعني اليسر الذي يندفع به الحرج ويخرج به الواجب عن الإمكان البعيد إلى الإمكان العادي لا اليسر الذي به (٤/٤٠٢) يصير الواجب سمحا سهلا لينا كيسر الزكاة فإن ذلك لا يحصل إلا بأعوان وخدم ومراكب على ما مر بيانه وهي ليست بشرط فلم يجب الأداء على الفقير لعدم القدرة على الزاد والراحلة وصح الأداء منه لوجود أصل القدرة قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه في الأسرار السبب هو البيت وهو موجود فتوجه الخطاب إذا جاء وقته على من هو أهل الخطاب بالحج والفقير منهم لأنه ملك استطاعة الأداء لكن يلحقه المشقة بلا زاد وراحلة فتأخر الوجوب عنه إلى ملك الزاد والراحلة تيسيرا له وحقا له فلم يمنع ذلك صحة التعجيل كالمسافر يعجل الصوم قوله والرق لا ينافي مالكية غير المال وهو النكاح والدم والحياة لأن الجهة مختلفة فإن العبد لم يصر بالرق مملوكا من حيث النكاح والدم والحياة فلم يمتنع مالكيته لهذه الأشياء به وكان في حق هذه الأشياء مبقيا على أصل الحرية لأنه من خواص الإنسانية والضرورة داعية إلى إثبات هذه المالكية أيضا لأن العبد مع صفة الرق أهل للحاجة إلى النكاح وإلى البقاء فيكون أهلا لقضائها وهو لا يملك الانتفاع بأمة المولى وطئا عند الحاجة كما يملك الانتفاع بمال مولاه أكلا ولبسا عند الحاجة وليست له أهلية ملك اليمين فإذا لا طريق له لدفع هذه الحاجة إلا النكاح فيثبت له مالكية النكاح وإنما توقف نفاذه منه على إذن المولى دفعا للضرر عنه فإن النكاح مستلزم للمهر وفي إيجابه بدون رضاء المولى إضرار به لأن المهر يتعلق برقبة العبد إذ لم يوجد مال آخر يتعلق به وماليتها حق المولى فلم يكن بد من إجازته ألا ترى أن المولى لو أسقط حقه عن المالية بالإعتاق نفذ النكاح الصادر من العبد بدون إجازته ولو أجاز بدون الإعتاق كان المالك للبضع العبد دون المولى ويشترط الشهود عند النكاح لا عند الإجازة فعرفنا أن حكم النكاح يثبت للعبد وأنه هو المالك للنكاح دون المولى ولا يقال إن المولى يملك إجباره على النكاح ولو كان مالكا لا يملك إجباره عليه لأنا نقول إنما يملك إجباره تحصينا لملكه عن الزنا الذي هو سبب الهلاك والنقصان لأنه مالك ولهذا كان العبد هو المالك للبضع بعد الإجبار دون المولى وهو المالك للطلاق الذي هو رفع النكاح فثبت أنه هو المالك للنكاح وكذا الدم والحياة لأنه محتاج إلى البقاء ولا بقاء له إلا ببقائهما فثبت له ملك الدم والحياة كما يثبت مالكية النكاح ولهذا لا يملك المولى إتلاف دمه لأنه لا ملك له فيه وصح إقرار العبد بالقصاص لأنه إقرار بأن ولي القصاص يستحق إراقة دمه وهو في ذلك مثل الحر فكان هذا إقرارا على نفسه لا على حق المولى فيصح ويؤخذ به في الحال وتقبل الحرية لأنه مبق على أصل الحرية في حق الدم والحياة (٤/٤٠٣) قوله وينافي أي الرق كمال الحال في أهلية الكرامات الموضوعة للبشر في الدنيا واحترز به عن الكرامات الموضوعة له في الآخرة فإن العبد يساوي الحر فيها لأن أهليتها بالتقوى ولا رجحان للحر على العبد في التقوى مثل الذمة فإن الإنسان بها يصير أهلا للإيجاب ولا استيجاب ويمتاز بها عن سائر الحيوان فتكون كرامة والحل فإن استفراش الحرائر وتوسعة طرق قضاء الشهوة على وجه لا يستلزم لحوق إثم سلامة كرامة بلا شبهة ولهذا اتسع الحل في حق النبي صلى اللّه عليه وسلم لزيادة شرفه وكرامته على كافة الخلق والولاية فإنها تنفيذ الأمر على الغير شاء أو أبى ولا شك أن ذلك كرامة لأنه من باب السلطنة حتى أن ذمته أي ذمة الرقيق ضعفت بسبب رقه لأنه من حيث إنه صار مالا بالرق صار كأنه لازمه له أصلا ومن حيث إنه إنسان مكلف لا بد من أن يكون له ذمة فقلنا بوجود أصل الذمة ولكنها ضعفت بالرق فلم يحتمل الدين أي لم تقو على تحمل بنفسها لضعفها حتى لا يمكن المطالبة به بدون انضمام مالية الرقبة أو الكسب إليها إذا لا معنى لاحتمالها الدين إلا صحة المطالبة فإذا ضمت إليها مالية الرقبة والكسب تعلق الدين بها فيستوفى من الرقبة والكسب كذمة المريض لما ضعفت بانعقاد سبب الخراب وجب ضم الكسب إليها لتعلق الدين بها وليس المراد من تعلق الدين بالكسب أن العبد يستسعى فيه بل المراد منه أن الكسب الموجود في يده يصرف إلى الدين أولا فإن لم يف به أو لم يكن له كسب فحينئذ تصرف مالية الرقبة إليه ولا تباع الرقبة بالدين ما بقي الكسب بالإجماع إليه أشير في الأسرار إلا أن لا يمكن بيعه فيستسعى في الدين كالمدبر والمكاتب ومعتق البعض عند أبي حنيفة رحمه اللّه ولذلك أي ولأن مالية الرقبة والكسب يضم كل واحد إلى ذمة العبد لتحتمل الدين قلنا إن الدين متى ثبت بسبب لا تهمة فيه أي بسبب ظهر في حق المولى أنه الضمير للشأن يباع بسبب ذلك الدين رقبة العبد ليستوفى الدين من الثمن إن لم يختر المولى لهذا مثل دين الاستهلاك بأن استهلك العبد المأذون والمحجور مال الأجنبي يجب الضمان ويستوفى من رقبته إن لم يفده المولى ولم يكن له كسب في يده وهذا بلا خلاف لأنه دين ظاهر في حق المولى لثبوته حسا وعيانا ودين التجارة بأن تصرف المأذون وركبه دين يستوفى من كسبه أو مالية رقبته عندنا إن لم يكن كسب ولم يفده المولى فيباع في الدين وقال الشافعي رحمه اللّه لا يباع العبد في دين التجارة لأن (٤/٤٠٤) رقبته كسب المولى فلا تباع بدين التجارة كسائر أكسابه وهذا لأن مال المولى إنما يشتغل بهذا الدين بالإذن وإنما أذن له في التجارة فلا يشتغل غير مال التجارة بدينها لأن الإذن لم يحصل لغيرها بخلاف دين الاستهلاك لأنه كان يشغل رقبته قبل الإذن فكذا بعده ولأن دين الاستهلاك لم يجد محلا آخر سوى الرقبة يتعلق به فلو لم يتعلق بها هدر أملاك الناس فعلقناه بها إذ يجوز أن يكون الرقبة هالكة في جناية ودين التجارة وجد محلا آخر يتعلق به وهو الكسب الحاصل بالتجارة فإن دين التجارة لا يجب إلا ويدخل الكسب في يده فلما كان الكسب حاصلا بالتجارة وهو مقابل بدين التجارة أمكن تعليقه به فلا حاجة إلى التعليق برقبة وقلنا هذا دين وجب على العبد مطلقا لأنه ظهر وجوبه بإقرار المولى والعبد جميعا أو ثبت بسبب معاين وهو الشراء فيتعلق برقبته كدين الاستهلاك وهذا لأن حاجتنا في تعلق الدين برقبة العبد إلى ظهور التعلق في حق المولى لا إلى رضاه به فإن دين الاستهلاك يتعلق برقبته بدون رضاه فإذا ظهر لا بد من استيفاء من موضعه وهو مالية الرقبة لأنها أقرب الأموال إليه وهو محتاج إلى تفريع ذمته فكان التعلق بها أولى فإن قيل لو كانت الرقبة محلا لتعلق دين التجارة بها لكان الاستيفاء منها مقدما على الاستيفاء من الكسب لكونها أقرب إليه من الكسب قلنا حق الغريم متى وصل إليه من أي موضع وصل لم يصح مطالبته بالاستيفاء من موضع آخر لأنه لا فائدة فيه ألا ترى أن المولى إذا قضى دين العبد من ماله واستخلص الكسب لنفسه لم يكن للغريم حق المطالبة من الكسب ولا يدل ذلك على أن الدين غير متعلق بالكسب فكذلك إذا وصل إليه من الكسب لم يكن له حق المطالبة بالاستيفاء من الرقبة وفي البداية بالكسب نظر للمولى حيث لا يزول ملكه عن رأس ماله فيتصرف ويربح ونظر للغريم حيث لم ينقطع حقه عن الكسب بالبيع ولم يضق محل حقه فلهذا قدمنا الاستيفاء من الكسب وإن كان التعلق بالرقبة أسبق من التعلق بالكسب كذا في الأسرار والطريقة البرغرية وإذا لم يثبت أي الدين في حق المولى بأن لم يظهر سببه في حقه تأخر الدين إلى عتقه أي لا يطالب العبد به في الحال بل يؤخر إلى أن يعتق ولم يتعلق هذا الدين برقبته أي بمالية رقبته ولا بكسبه لأنهما حق المولى وهو غير ظاهر في حقه مثل دين ثبت بإقرار المحجور وكذبه المولى فإنه لا يثبت في حق المولى لتكذيبه إياه فيه ولكنه ثابت في حق العبد لأنه غير متهم في حق نفسه فيؤاخذ به بعد العتق كرجل أخبر بحرية عبد في يد رجل وأنكر ذو اليد لم يظهر حكمه ما لم يملكه المخبر وإن كان خبره صحيحا لأنه ليس بحجة على غيره وهو حجة (٤/٤٠٥) عليه فكان ثبوت حكمه بقدر كونه حجة ودين التجارة كخبر اتصل به تصديق ذي اليد واحترز بقوله المحجور عن المأذون له فإن إقراراه بالدين صحيح في حق المولى ومثل أن يتزوج العبد امرأة بغير إذن مولاه ويدخل بها حتى وجب العقر لا يؤاخذ به في الحال لأنه دين وجب على العبد قيمة للبضع بشبهة العقد وهي العقد الفاسد الواقع بدون إذن المولى وهذه الشبهة معدومة في حق المولى لعدم رضاه به فلا يظهر ثبوته في حقه قوله وكذلك الحل أي وكما ضعفت الرقبة بالرق انتقص الحل الذي يبتنى عليه ملك النكاح ويصير المرء به أهلا للنكاح فيتسع ذلك الحل بالحرية لزيادة فضيلتها على الرق كما اتسع بفضيلة النبوة في حق النبي صلى اللّه عليه وسلم فيتزوج الحر أربعا ويقصر بسبب الرق إلى النصف حتى لا ينكح العبد إلا مرأتين حرتين كانتا أو أمتين وقال مالك رحمه اللّه له أن يتزوج أربعا لأن الرق لا يؤثر في مالكية النكاح حتى لا يخرج العبد من أهلية النكاح وما لا يؤثر فيه الرق فالحر والعبد فيه سواء كملك الطلاق وملك الدم في حق الإقرار بالقود وقلنا إن الرق مؤثر في تنصيف ما كان متعددا في نفسه كالجلد في الحدود وعدد الطلاق وأقراء العدة وذلك لأن استحقاق النعم بوصف الإنسانية وقد أثر الرق لانتصافها حتى انتقصت أهلية استحقاق النعم فلا بد أن يؤثر لانتصاف النعمة والحل نعمة فلذلك أثر الرق في نقصانه إلى النصف كما يدل عليه إشارة قوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وقد روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال لا يتزوج العبد أكثر من ثنتين وكذلك أي وكما يقصر حل الرجال إلى النصف بالرق حل النساء يقصر بالرق إلى النصف أيضا لأن الحل الذي يبتنى عليه عقد النكاح نعمة لأجانب النساء كما هو نعمة لأجانب الرجال لأنه سبب للسكن والأزواج والمحبة وتحصين النفس وتحصيل الولد والمرأة تحتاج إلى هذه الأمور كالرجل وسبب لحصول المهر ووجوب النفقة الدارة وهما تختصان بها فكان الحل نعمة لأحقها بالطريق الأولى ألا ترى للأب ولاية تزويج الصغيرة مع أن الولاية عليها نظر فكما ينتصف ذلك الحل برق الرجل ينتصف برق المرأة ولا يمكن إظهار التنصيف لأجانبها بتنقيص العدد لأن المرأة الواحدة لا تحل إلا لواحد فيظهر التنصيف باعتبار الأحوال ثم نقول الأحوال ثلاث حال التقدم على نكاح الحرة وحال التأخر عنه وحال المقارنة ولكن الحالة الواحدة لا تحتمل التجزؤ فتغلب (٤/٤٠٦) الحرمة على الحل فيجعل الأمة محللة لإحالة التقدم على الحرة محرمة لإحالتي المقارنة والتأخر أو نقول لا الحقيقة ليس إلا حالتين حالة الانضمام إلى الحرة وحالة الانفراد عنها فنجعل محللة لإحالة الانفراد محرمة لإحالة الانضمام إلى الحرة والعدة يتنصف لأنها نعمة لا حق النساء لما فيها من تعظيم ملك النكاح فيؤثر الرق لا تنصيفها فكانت عدة الأمة حيضتين والطلاق ينتصف لما سنبين فكان طلاقها اثنين وكان ينبغي أن يكون عدتها حيضة ونصفا وطلاقها طلقة ونصفا لكن الواحد لا يقبل التنصيف فيتكامل ولا يسقط لأن جانب الوجود راجح على جانب العدم والاحتياط فيه أيضا قوله لكن عدد الطلاق استدراك من قوله ويقصر بالرق إلى النصف حتى لا ينكح العبد إلا امرأتين يعني أثر رق الرجل لا عدد الأنكحة فكان ينبغي أن يؤثر لا عدد الطلاق كما قال الشافعي رحمه اللّه لأن ملك الطلاق مختص بالرجال كملك النكاح أو هو مبني على ملك النكاح لكن لم يؤثر لأن عدد الطلاق كذا وكشفه أن عدد الطلاق معتبر بالنساء عندنا حتى كانت المرأة حرة يملك الزوج عليها ثلاث تطليقات وإن كان عبدا وإن كانت المرأة أمة لا يملك الزوج عليها إلا تطليقتين وإن كان حرا وهو مذهب علي وابن مسعود رضي اللّه عنهما وقال الشافعي رحمه اللّه عدده معتبر بالرجال فيعتبر فيه رق الرجل وحريته وهو مذهب عثمان وزيد وعائشة رضي اللّه عنهم وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه كان يقول ينتقص برق أيهما كان احتج الشافعي رحمه اللّه بقوله عليه السلام الطلاق بالرجال والعدة بالنساء وبأن الرجل هو المالك للطلاق كما أنه هو المالك للنكاح فوجب أن يعتبر حاله فيه دون حالها لأن المرأة مملوكة لا النكاح والطلاق ونقصان حال المملوك بالرق يوجب زيادة لا المملوكية ولا نقصانا فيها ألا ترى أن رق المرأة فتح عليه بابا من المملوكية كان مسدودا قبله فإنها قبل الرق كانت تملك وتوطأ بملك النكاح لا غير وبعد الاسترقاق تملك وتوطأ بملك اليمين والنكاح جميعا وإذا كان كذلك يستحيل أن يسد عليها ما كان مفتوحا قبله بخلاف رق الرجل فإنه يسد عليه بابا من الملك كان مفتوحا عليه فإنه قبل الاسترقاق كان يستمتع بملك اليمين والنكاح وبعد الاسترقاق لا يمكنه الاستمتاع بملك اليمين فلما ظهر لرقه أثر لا تنقص مالكيته النكاح ولم يظهر لرقها أثر في تنقيص المملوكية يعتبر رقه في تنصيف عدد الطلاق ومالكيته دون رقها ولنا أن ملك التصرف مع كمال حال المتصرف يزداد بزيادة محل التصرف وينتقص (٤/٤٠٧) بانتقاصه فإن من ملك عبدا واحدا ملك إعتاقا واحدا ومن ملك عبدين ملك إعتاقين وعلى هذا سائر التصرفات وهاهنا محل التصرف حل المحلية فإن الطلاق مشروع لتفويت الحل الذي صارت المرأة به محلا للنكاح فمتى كان حلها أزيد كان محلية الطلاق في حقها أوسع وعلى العكس بالعكس وهو معنى قوله وعدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية وحل الأمة على النصف من حل الحرة كما أن حل العبد على النصف من حل الحر وإذا كان حلها على النصف فإن نصف ما يفوت به حل الحرة وهو تطليقة ونصف إلا أن الطلاق الواحد لا يتجزأ مكمل وصار ما يفوت به حل الأمة طلاقين ولأن المرأة لما صارت محل النكاح بالحل الذي ذكرنا كان النكاح في حق الأمة أنقص منه في حق الحرة والطرق من حقوق النكاح مستفاد به فينتقص بنقصان النكاح كما ينتقص سائر حقوقه من العدة والقسم ومدة الإيلاء هذا الكلام في الحر إذا تزوج أمة فأما العبد إذا تزوج حرة فنقول الرق أثر في حله فرده من الأربع إلى اثنتين فوجب أن يبقى في هذا النصف كالحر على ما هو الأصل في الأحكام المتشطرة بأعذار وأسباب أن يبقى الشطر على ما كان قبله يوضحه أن الحر يملك ثنتي عشرة تطليقة يوقعها على أربعة نسوة فينبغي أن يملك العبد ست تطليقات يوقعها على امرأتين ليتحقق التنصيف فلو قلنا بأن الباقي ينتصف في حق العبد مرة أخرى لبقي الربع وتأثير الرق في التنصيف لا في التربيع وما روي من الحديث معارض بقوله عليه السلام طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان ومؤول بأن مباشرة الطلاق إلى الرجال وقوله رق الأمة يفتح عليها بابا من المملوكية فلا يسد بابا كان منفتحا إنما يستقيم إذا لم يكن بين المنفتح بالرق والذي كان منفتحا قبله تناف بل التنافي ثابت بين المتعة بملك اليمين وملك النكاح فإن الاستمتاع بملك اليمين إذا ثبت بطل الآخر فإن من اشترى امرأته فسد النكاح ثم نقول لما صارت عرضة للمتعة بالمالية اختل كونها محلا للنكاح لأن الاستباحة بملك اليمين قهر واستذلال فلا يكون زيادة على النعمة والاستباحة بملك النكاح نعمة وازدواج فيتنصف بالرق وقوله في الكتاب عدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية توسع وتسمية للحال باسم المحل لأن الطلاق إنما يتعدد إذا اتسعت المملوكية فكان اتساع المملوكية متسعة بخلاف ثم الطلاق وذكر في الفوائد أن النكاح والطلاق متقابلان فإذا كان عدد الأنكحة عبارة عن اتساع المالكية كان عدد الطلاق عبارة عن اتساع المملوكية تحقيقا للمقابلة (٤/٤٠٨) قوله ولذلك أي ولأن الرق ينافي كمال الحال في أهلية الكرمات تنصفت الحدود في حق العبد والأمة لأن تغلظ العقوبة بتغلظ الجناية وتغلظ الجناية بتوافر النعم فإن النعمة لما كملت في حق شخص كانت جنايته على حق المنعم أعظم من جناية من لم تكمل النعمة في حقه والدليل عليه أن النعمة لما كملت في حق المحصن باستيفاء حظه من الحرة المنكوحة كانت جناية الزنا منه أغلظ حتى استحق الرجم ولما كملت النعمة في حق أزواج النبي صلى اللّه عليه ورضي عنهن بتشرفهن بمصاحبته كان شرع العقوبة على تقدير الجناية ضعف العقوبة المشروعة في حق غيرهن كما قال تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وقد أثر الرق في تنصيف النعم في حق العبد والأمة كما بينا أثره في تنصيف العقوبة أيضا قال تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وهذا في الحد الذي يمكن تنصيفه فأما فيما لا يمكن ذلك فيتكامل كالقطع في السرقة فإن الحر والعبد فيه سواء تنصف القسم حتى كان للأمة الثلث من القسم وللحرة الثلثان لأنه نعمة فينتصف بالرق كسائر النعم وقد روي أنه عليه السلام قال للحرة يومان من القسم وللأمة يوم قوله ولذلك أي ولما ذكرنا من منافاة الرق كمال الحال انتقصت قيمة نفس العبد حتى إذا قتل العبد خطأ وجبت على عاقلة الجاني قيمته عندنا قلت القيمة أو كثرت ولكن لا تزاد على دية الحر حتى لو كانت قيمته عشرين ألف درهم مثلا لا يزاد الواجب على عشرة آلاف درهم ويتنقص من عشرة آلاف عشرة دراهم وعند الشافعي رحمه اللّه تجب قيمته على الجاني لا على العاقلة بالغة ما بلغت وهو قول أبي يوسف الآخر وروى ابن سماعة عنه أن مقدار الدية من قيمة العقد بتحمله على العاقلة وما زاد على ذلك إلى تمام القيمة في مال الجاني وأجمعوا على أن في الغصب تجب قيمته بالغة ما بلغت وعلى أن الجمع بين ضمان النفس والمال غير ممكن كذا في إشارات الأسرار وعلى أن معنى النفسية والمالية موجودان في العبد لكن الخلاف في الترجيح فرجحنا معنى النفسية ورجح الخصم المالية مستدلا بأن القيمة إذ انتقصت عن الدية تجب القيمة وإن هذا الضمان يجب للمولى وملكه في العبد ملك مال وأنه يجب فيه جنس نقد السوق الذي يختص بضمان المال ولا مدخل للإبل فيه كذا في المبسوط وأنه يختلف باختلاف أوصاف المتلف في الحسن والجمال والصفات تعتبر في ضمان الأموال دون الدماء فثبت أن الواجب بدل المالية فيجب تقديره بالقيمة بالغة ما بلغت كما في الغصب (٤/٤٠٩) ونحن نقول إن النفسية من العبد معصومة مصونة عن الهدر معتبر في إيجاب الضمان بالقصاص والكفارة حقا للّه تعالى فكان اعتبارها في إيجاب الضمان أولى من اعتبار المالية لأنها أصل والمالية قائمة بها فإن المالية لو زالت بالعتق تبقى النفسية ولو زالت النفسية بالموت لم تبق المالية وكذا الفعل يسمى قتلا لوروده على النفسية فإن الأموال لا تقصد بالقتل عادة وإنما تقصد به النفوس لمعنى التشفي أو لانتقام وفوات المالية فيه تبع فعرفنا أن الأصل فيه معنى النفسية ثم إيجاب الضمان بمعنى النفسية لإظهار حظر المحل وخطره باعتبار صفة المالكية لأن كمال حال الإنسان في الإضافة ينتهي بكمال المالكية وتمام المالكية بالحرية والذكورة فإن بالحرية تثبت مالكية المال وبالذكورة تثبت مالكية النكاح وقد انتقصت مالكية العبد بالرق فإنه ينافي مالكية المال كما بينا فلا بد من أن ينقص بدله كما انتقصت دية الأنثى عن دية الرجل بصفة الأنوثية التي توجب نقصانا في المالكية وذلك لأن بني آدم خلقوا أزواجا ذكورا أو إناثا وعلق مصالح معاشهم وبقاؤهم إلى يوم القيامة بالازدواج والنساء مملوكات للرجال في الازدواج فانتقصت دياتهن بصفة الأنوثة التي بها صرن مملوكات فعرفنا أن نقصان المالكية هو المؤثر في نقصان الدية دون غيرها من الأوصاف ولهذا لم ينتقص بالفسق ولا بالزمانة ولا بفوات الأطراف لعدم انتقاص المالكية بهذه المعاني قوله لكن نقصان الأنوثة إلى آخره جواب سؤال وهو أن يقال قد ألحق الرق بالأنوثة في إيجاب تنقيص المالكية فوجب أن يستويا في قدر النقصان حتى كان النقصان في الرق بقدر النصف كما في الأنوثة فقال إنهما قد استويا في إثبات أصل النقصان لكن لم يستويا في مقداره فإن نقصان الأنوثة أي النقصان الحاصل بها في أحد ضربي المالكية وهما مالكية المال ومالكية النكاح بالعدم فإن المرأة تملك المال رقبة وتصرفا ويدا ولا تملك النكاح أصلا بل هي مملوكة فيه فزوال إحدى المالكيتين بالكلية عادت ديتها إلى النصف وهذا أي الانتقاص الحاصل بالرق نقصان في أحدهما أي أحد ضربي المالكية لا بالعدم فإن العبد في مالكية النكاح مثل الحر ومالكية المال لم تزل عنه بالكلية فإنها بأمرين ملك الرقبة وملك التصرف وأقوى الأمرين ملك التصرف لأن الغرض المتعلق بالمالكية وهو الانتفاع بالملك يحصل به وملك الرقبة وسيلة إليه والعبد وإن لم يبق أهلا للملك رقبة فهو أهل للتصرف في المال الذي هو أصل وأهل لاستحقاق اليد على المال فإن المأذون استحق اليد على كسبه كالمكاتب فلهذا يتعلق الدين بكسبه (٤/٤١٠) الذي في يده لأن يد المكاتب لازمة ويده غير لازمة كالإجارة مع العارية وكذا لو أودع العبد مالا غيره لا يملك المولى الاسترداد من المودع مأذونا كان العبد أو محجورا كذا في عامة شروح الجامع الصغير فوجب القول بنقصان في الدية لا بالتنصيف وبما ذكرنا خرج الجواب عما يقال يجب على هذا التخريج أن ينتقص ديته عن دية الحر بمقدار الربع لانتقاص مالكيته من مالكية الحر لأنا قد بينا وتبين أيضا أن مالكية اليد والتصرف أقوى من مالكية الرقبة فلذلك لا يمكن في التنقيص اعتبار الربع بل ينقص ماله خطر في الشرع وهو عشرة دراهم لأنها أقل ما يستولى به على الحرة استمتاعا وأقل ما يستحق به قطع اليد المحترمة التي لها حكم نصف البدن في بعض الأحكام ويؤيد ما ذكرنا قول ابن مسعود رضي اللّه عنه لا يبلغ بقيمة العبد دية الحر وينقص منها عشرة دراهم ومثل هذا الأثر في حكم المسموع من الرسول صلى اللّه عليه وسلم فإن قيل لا نسلم أن مالكية النكاح كاملة للعبد بل هي ناقصة الوجهين أحدهما توقفها على إذن المولى بخلاف الحر والثاني اقتصارها على امرأتين بخلاف الحر حيث تجاوزت مالكيته إلى الأربع قلنا التوقف على الإذن لا يدل على النقصان كما في حق الصبي فإن مالكيته كاملة مع توقفها على إذن الولي وذلك لأن التوقف لدفع الضرر عن المولى أو عن الصبي لا لثبوت المالكية فلا يدل على نقصانها وكذا تنصيف عدد الأنكحة في حق العبد ليس لنقصان المالكية ولكن لتنصيف الحل فإن مالكيته فيما ملكه من النكاح مثل مالكية الحر بلا نقصان وأما الجواب عن استدلالهم بما إذا انتقصت قيمة المقتول عن دية الحر فهو أن الضمان ضمان الدم في قليل القيمة أيضا ولهذا يجري فيه القسامة وتتحمله العاقلة إلا أن الموجب لنقصان دمه صيرورته مالا التي انتقصت بها مالكيته فما دام يمكننا نقص ديته باعتبار قيمته مالا نقصنا بذلك السبب الذي انتقص به وهو المالية ويكون ذلك الناقص بسبب الاعتبار بالمال بدل دمه لا بدل ماليته وإذا لم يكن إثبات النقصان بالإعتاق بالاعتبار مالا بأن ازدادت قيمة المالية على دية الحر وجب النقص شرعا لكن يقدر له خطر وهو عشرة على ما بينا ووجوب الضمان للمولى لا يدل على أنه بدل المالية لأن القصاص وجب للمولى أيضا وهو بدل النفس بالإجماع بل الضمان يجب للعبد ولهذا يقضى دين العبد من بدل دمه ولكن العبد لا يصلح مستحقا للمال فيستوفيه المولى الذي هو أولى الناس به كما يستوفي القصاص قال الإمام أبو الفضل الكرماني الواجب في نفسه ضمان النفس ولكن في جانب المستحق هو ضمان مال فيظهر حكم المالية في حق اليد (٤/٤١١) قوله وهذا عندنا أي كون العبد أهلا للتصرف في المال ولاستحقاق اليد على المال مذهبنا فإن المأذون يتصرف بنفسه بطريق الأصالة ويثبت له اليد على إكسابه فكان الإذن فك الحجر الثابت بالرق ورفعا للمانع من التصرف حكما وإثبات اليد للعبد في كسبه بمنزلة الكتابة إلا أن اليد الثابتة بالإذن غير لازمة لحد الإذن عن العوض واليد الثابتة بالكتابة لازمة لأنها بعوض بمنزلة الملك المستفاد بالهبة مع المستفاد بالبيع وعند الشافعي رحمه اللّه هو ليس بأهل للتصرف بنفسه ولا لاستحقاق اليد ولكنه يستفيد التصرف واليد بالإذن من المولى فهو يتصرف للمولى بطريق النيابة كالوكيل بتصرف للموكل ويده في الأكساب يد نيابة بمنزلة يد المودع ويبتنى عليه أن الإذن في نوع من التجارة يكون إذنا في الأنواع كلها عندنا وعند الشافعي لا يكون كذلك بل يختص الإذن بذلك النوع وأن الحجر في نوع بعد الإذن العام أو الخاص لا يصح عندنا وعنده يصح وأن الإذن لم يقبل التوقيت عندنا لو أذن لعبده شهرا أو سنة كان مأذونا أبدا إلى أن يحجر عليه لأن هذا إسقاط الحق والإسقاط لا يقبل التوقيت وعنده يحتمل أن يقبل التوقيت احتج الشافعي رحمه اللّه بأن المقصود من التصرف حكمه وهو الملك وأنه يحصل للمولى للعبد لأنه بالرق خرج من أن يكون أهلا للملك ولهذا لو اشترى زوجة المولى يفسد النكاح ولو تزوج أمة من مكاسبه يصح لعدم ملكه في الكسب وإذا لم يكن أهلا للملك الذي هو المقصود من التصرف لم يكن أهلا لسببه وهو التصرف لأن التصرف شرع لحكمه لا لذاته فلا ينفصل عنه وإذا لم يكن أهلا للتصرف بنفسه لم يكن أهلا لاستحقاق اليد أيضا لأن اليد لا يستفاد إلا بملك التصرف أو بملك الرقبة وقد عدم الأمران في حقه وإذا ثبت أنه ليس بأهل للتصرف بنفسه كان تصرفه بعد الإذن واقعا للمولى بطريق النيابة كتصرف الوكيل يوضحه أن التصرف تمليك أو تملك فإنه إذا اشترى شيئا كان متملكا لذلك الشيء والملك يثبت للمولى بلا خلاف فالتملك يقع له وإذا باع ما اشترى فقد باع ملك المولى فكان التمليك واقعا للمولى ولا معنى لقول من قال التصرف يقع له والحكم يثبت للمولى لأنا لا نعقل من قول القائل أن العقد له سوى وقوع الحكم له لأن العقد كلام موجب للحكم وبدون الحكم هو كلام ولا ينطلق عليه اسم التصرف فإذا أخذ اسم التصرف من ناحية الحكم كان قول القائل وقع التصرف له إشارة إلى الحكم لا محالة وهذا هو المراد من قولنا الوكيل متصرف للموكل فإن تصرفه من حيث إنه كلام لا يقع له ولكن (٤/٤١٢) من حيث كونه مستجلبا للحكم الشرعي يقع فكذا المولى بالإذن استعمله فيما يوجده العبد من التصرف فكان تصرفه واقعا للمولى فيقصر على ما وقع الإذن فيه ولا يثبت له عموم التصرف إلا بالتنصيص كالوكيل وقلنا إن أهلية التكلم غير ساقطة إلى آخره يعني أن التصرف كلام معتبر جعل سببا لحكم شرعا ومحله ذمة صالحة لالتزام الدين واعتبار الكلام بصدوره عن الأهل وأهلية التكلم للعبد غير ساقطة بالإجماع لأنها تثبت بالعقل والعقل لا يختل بالرق وهذا صح توكله وقبلت رواياته في الدين وإخباراته في الديانات نحو الهدايا وطهارة الماء ونجاستها وقبلت شهادته بهلال رمضان وكذلك أي وكما أن الأهلية غير ساقطة بالرق الذمة مملوكة للعبد لا للمولى لأن الذمة عبارة عن وصف في الشخص يصير به أهلا للإيجاب والاستيجاب كما بينا ومن هذا الوجه لم يصر مملوكا للمولى ولهذا بقي مخاطبا بحقوق اللّه تعالى ويصح إقراره بالحدود والقصاص وكذا قابل للدين حتى يؤاخذ به بعد العتق ولو أراد المولى أن يتصرف في ذمته بأن يشتري شيئا على أن الثمن في ذمته لا يقدر عليه ولو كانت مملوكة للمولى لقدر عليه فثبت أنها مملوكة للعبد وقابلة للدين بدليل ثبوت دين الاستهلاك في ذمته وبدليل أن العبد المحجور لو أقر على نفسه بالدين صح الإقرار ووجب الدين في ذمته حتى لو كفل به إنسان يصح ويؤاخذ به في الحال وإن كان العبد يؤاخذ به بعد العتق وهذا لأن صلاحية الذمة لالتزام الديون من كرامات البشر وبالرق لم يخرج من أن يكون من البشر فإن قيل لا نسلم أن الذمة مملوكة للعبد بل هي مملوكة للمولى بدليل أنه لو أقر على العبد بدين صح إقراره ولو لم تكن مملوكة له لما صح إقراره بالدين عليه كما لم يصح على الأجنبي قلنا صحة إقراره باعتبار أن مالية العبد مملوكة له لا باعتبار ملكه في ذمته بدليل أنه يصح إقراره بقدر مالية الرقبة ولو كانت صحته باعتبار الملك في الذمة وهي متسعة لكان ينبغي أن يصح الإقرار بما زاد على المالية وإن كثر كما لو أقر على نفسه وهو كالوارث يقر بالدين على مورثه يصح وإن لم تكن ذمته مملوكة له لأن موجب إقراره استحقاق التركة من يده كذلك هاهنا موجب هذا الإقرار استحقاق مالية الرقبة والكسب فيصح ولا يقال إن العبد يؤاخذ بهذا الدين بعد العتق ولو لم يكن الدين واجبا في ذمته بإقرار المولى لما أخذ بعد العتق لأنا نقول إنما يؤاخذ به بعد العتق لأن مالية رقبته صارت مشغولة بالدين وقد أتلفها المولى بالإعتاق فيضمن ويضمن العبد أيضا لأن منفعة الإعتاق سلمت له وصارت المالية المشغولة مصروفة إليه فيلزمه السعاية كالراهن المعسر إذا أعتق عبده المرهون يلزم العبد السعاية وإن لم يكن عليه دين لأنه صرف إليه مالية رقبة مشغولة بالرهن كذلك هاهنا (٤/٤١٣) ثم ذكر الشيخ مقدمة أخرى فقال وإذا صار أي كان العبد أهلا للحاجة فإنه مع الرق أهل لها كان أهلا لقضاء الحاجة أيضا إذ لو لم يكن أهلا له لوقع في الحرج وهو مدفوع وأدنى طرق قضاء الحاجة ملك اليد كما أن أعلاها ملك الرقبة مع ملك اليد وهذا الكلام جواب عما قالوا إنه بالرق خرج من أهلية التصرف لأنه لم يبق أهلا لحكمه وهو الملك فقال إنه باعتبار الحاجة بقي أهلا لملك اليد الذي هو من أحكام التصرف وهو أي ملك اليد الحكم الأصلي للتصرف لأن شرع التصرف لدفع الحاجة وهي تندفع باليد لأن تمكنه من الانتفاع يحصل بها فكان ملك اليد الحكم الأصلي للتصرف وملك العين شرع للتوصل إليه لقطع طمع الأغيار عن العين إذا الملك هو المطلق الحاجز أي المطلق للتصرف للمالك والحاجز للغير عن التصرف في المملوك بدون إذن المالك وهو المراد من قوله ضرب قدرة شرع للضرورة أي لضرورة التوصل إلى المقصود وتسميته قدرة توسع لأنه الاختصاص المطلق الحاجز كما قلنا إلا أنه لما كان مطلقا للتصرف كان من أسباب القدرة على الانتفاع فلذلك سماه قدرة وكذلك أي وكما أن ملك اليد يثبت للعبد للحاجة وملك اليد بنفسه غير مال أيضا فجاز أن يثبت للعبد لأن الرق لا ينافي مالكية غير المال والدليل على أنه ليس بمال أن الحيوان يثبت دينا في الذمة في عقد الكتابة بمقابلة ملك اليد كما يثبت في النكاح والطلاق ولو كان ملك اليد مالا لما ثبت الحيوان دينا في الذمة بمقابلته كما لا يثبت في البيع لأن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة بمقابلة المال لما عرف ولا يلزم عليه أن الحيوان يثبت دينا في الذمة في النكاح مع أن المملوك بالنكاح وهو منافع البضع في حكم المال لأنا لا نسلم أن المملوك بالنكاح مال ألا ترى أنه لا يضمن بالإتلاف بقتل المرأة وبالشهادة الكاذبة على الطلاق ولئن سلمنا أنه في حكم الأموال فذلك أمر حكمي يظهر أثره في بعض المسائل لا في المنع من ثبوت الحيوان دينا في الذمة فيه فإنه ليس بمال حقيقة على أنا نلزم الخصم على أصله وعنده المملوك بالنكاح ليس بمال حقيقة ولا حكما وإذا كان كذلك أي إذا كان الأمر كما بينا من بقاء أهلية العبد للتكلم وكون الذمة مملوكة له وكونه أهلا لملك اليد الذي هو الحكم الأصلي للتصرف كان العبد أصلا في حكم العقد الذي هو محكم أي أمر أصلي مقصود منه وهو منه وهو ملك اليد والمولى يخلف العبد فيما هو من الزوائد وهو ملك الرقبة لعدم أهليته فالحاصل أن للتصرف حكمين أحدهما مقصود أصلي وهو ملك اليد والآخر أمر زائد شرع وسيلة إلى الأول وهو ملك الرقبة والعبد إن لم (٤/٤١٤) يبق أهلا للثاني فهو أهل لما هو مقصود منهما وهو ملك اليد فكان في التصرف عاملا لنفسه لثبوت حكمه الأصلي له وكان تصرفه كشراء رب المال شيئا من مال المضاربة فإنه يصح لإفادته ملك اليد واعلم أن لمشايخنا رحمهم اللّه في ثبوت الملك للمولى طريقين أحدهما أن ملك اليد بالتصرف يقع للعبد وملك الرقبة للمولى والعبد مع هذا عامل لنفسه لأن عمل الإنسان متى دار بين أن يقع له وبين أن يقع لغيره كان واقعا له كالمكاتب لما كان كسبه للسيد من وجه ولنفسه من وجه لم يجعل نائبا عن المولى بل هو عامل لنفسه فكذا هذا والثاني أن ملك الرقبة لا يقع للمولى حكما للتصرف لأنه ينعقد للعبد فيكون حكمه له لأنه نتيجة تصرفه إلا أنه لما لم يبق أهلا للملك تعذر الإيقاع له فاستحقه المولى لا بالتصرف ولكن بطريق الخلافة عن العبد لأنه أقرب الناس إليه لقيام ملكه لا الرقبة ولهذا قال أبو حنيفة رحمه اللّه دين العبد يمنع ملك المولى في كسبه المولى إنما يتلقى الملك من جهة العبد كالوارث مع المورث فثبت أن المولى يملك إكسابه بسبب ملكه في رقبته لا بتصرف العبد وإلى هذا الطريق أشار الشيخ بقوله والمولى يخلفه فيما هو من الزوائد ولا يقال لو كان العبد متصرفا لنفسه وكان حكم تصرفه واقعا له لكان ينبغي أن ينفذ تصرف العبد المحجور فيما إذا اشترى ثم أعتق لسقوط حق المولى كما لو تزوج ثم أعتق وكما لو باع الراهن الرهن ثم افتكه ينفذ البيع لسقوط حق المرتهن ولما لم ينعقد هاهنا علم أنه نائب عن المولى في التصرف لأنا نقول العبد وإن كان متصرفا لنفسه يقع ملك الرقبة لمولاه فلما انعقد التصرف موجبا للملك للمولى لا يمكن تنفيذه على العبد بعد العتق عند زوال المانع من ثبوت الملك له لأن التصرف متى وقع لجهة لا ينفذ لجهة أخرى بخلاف النكاح لأنه ينفذ على الوجه الذي توقف إذ الملك واقع للعبد فيه وكذا في الرهن يكون الملك في الثمن للراهن فيمكن تنفيذهما عند زوال المانع من غير تغيير فثبت بما ذكرنا أن العبد المأذون يتصرف لنفسه وأن حكمه الأصلي يثبت له كالمكاتب إلا أنه قبل الإذن كان ممنوعا عن التصرف لحق المولى مع قيام الأهلية لأن الدين إذا وجب في الذمة يتعلق بمالية الرقبة والكسب استيفاء فإذا أذن فقد رضي بسقوط حقه فكان الإذن فكا للحجر كالكتابة فلا يقبل التخصيص بنوع دون نوع ثم فك الحجر بهذين السببين بمنزلة الفك العام الذي يحصل بالعتق وذلك لا يختص بنوع دون نوع سواء أطلق أو صرح بالنهي عن سائر الأنواع لأن هذا التقييد تصرف في غير ملكه فكذا هاهنا (٤/٤١٥) قوله ولذلك أي ولأن الملك لا يثبت للعبد بل المولى يخلفه فيه ولأن الإذن غير لازم جعلنا العبد في حكم الملك وفي حكم بقاء الإذن كالوكيل وإن كان هو أصيلا في نفس التصرف وثبوت ملك اليد لأنه لما لم يكن أهلا لملك الرقبة حتى وقع الملك للمولى كان هو كالوكيل والمولى كالموكل حيث ثبت الملك له ولما كان للمولى حق الحجر عليه بعد الإذن بدون رضاه كما كان للموكل عزل الوكيل بدون رضاه كان العبد المأذون في حكم بقاء الإذن بمنزلة الوكيل أيضا بخلاف المكاتب فإن المولى لا يملك عزله بدون تعجيزه نفسه فلم يمكن جعله بمنزلة الوكيل في حكم بقاء الكتابة وقوله في مسائل مرض المولى متعلق بقوله في حكم الملك وقوله وعامة مسائل المأذون أو أكثرها متعلق ببقاء الإذن أي جعلناه في حكم الملك في مسائل مرض المولى وفي حق بقاء الإذن في عامة مسائل المأذون كالوكيل فمن أمثلة القسم الأول ما إذا أذن لعبده في التجارة ثم مرض المولى فباع العبد بعض ما كان في يده من تجارته أو اشترى شيئا فحابى في ذلك بغبن فاحش أو يسير ثم مات المولى فجميع ما فعل العبد جائز عند أبي حنيفة رحمه اللّه من ثلث مال المولى لأن الملك لما كان واقعا للمولى كما كان واقعا للموكل في تصرف الوكيل يتغير تصرف العبد بمرض المولى لتعلق حق ورثته بملكه كما يتغير تصرف الوكيل بمرض الموكل وصار كما إذا باشره المولى بنفسه لاستدامته الإذن بعد مرضه فيعتبر من الثلث وكذا الحكم عندهما في المحاباة بغبن يسير فأما المحاباة بغبن فاحش فباطلة وإن كانت تخرج من ثلث المال لأن المأذون عندهما لا يملك هذه المحاباة حتى لو باشرها في صحة المولى كانت باطلة ولو كان الذي حاباه بعض ورثة المولى كانت المحاباة باطلة لأن مباشرة العبد كمباشرة المولى المريض لا يملك المحاباة في شيء مع وارثه ولو أقر المأذون في مرض مولاه بدين أو غصب أو وديعة قائمة أو مستهلكة أو غيرها من ديون التجارة وعلى المولى دين ثبت في صحته بدئ بدين الصحة من تركته ومن رقبة العبد وكسبه فإن فضل من رقبته وكسبه شيء فهو للذي أقر له العبد لأن رقبته وكسبه ملك المولى فإقراره فيه كإقرار المولى ولو أقر المولى كان دين الصحة مقدما فهذا مثله ففي هذه المسائل وأمثالها جعل المأذون فيما يرجع إلى الملك والمولى بمنزلة المولى الموكل حتى اعتبر مرضه في هذه التصرفات ولم يعتبر صحة العبد ومن أمثلة (٤/٤١٦) الثاني أن العبد المأذون إذا أذن لعبده في التجارة فحجر المولى الأول لا ينحجر الثاني كالوكيل إذا وكل وقد كان قال له الموكل اعمل برأيك لا ينعزل بعزل الأول ولو مات المولى صار محجورين كما لو مات الموكل صار معزولين ويشترط العلم للمأذون بالحجر لصحته كما يشترط علم الوكيل بالعزل ولو أخرج المأذون من ملكه لم تبق للعبد ولاية أن يقبض شيئا مما كان على غريمه وقت الإذن كالوكيل بالبيع ليس له ولاية قبض الثمن بعد العزل ولو أذن لعبده في التجارة ثم جن المولى جنونا مطبقا أو ارتد والعياذ باللّه وقتل فيه لو لحق بدار الحرب صار العبد محجورا كالوكيل يصير معزولا ففي هذه المسائل ونظائرها جعل العبد كالوكيل في حال بقاء الإذن قوله والرق لا يؤثر في عصمة الدم إلى آخره عصمة الدم وهي حرمة تعرضه بالإتلاف حقا له ولصاحب الشرع على نوعين عندنا مؤثمة وهي التي توجب الإثم على تقدير التعرض للدم ولا توجب الضمان أصلا ومقومة وهي التي توجب الإثم والضمان جميعا على تقدير التعرض ثم إن كان التعرض عمدا فالضمان هو القصاص وإن كان خطأ فالدية والإثم يرتفع في العصمتين بالكفارة إن كان القتل خطأ وبالتوبة والاستغفار إن كان عمدا فالرق لا يؤثر في عصمة الدم مؤثمة كانت أو مقومة بالإسقاط والتنقيص وإنما في قيمة أي قيمة الدم جواب عما يقال كيف لا يؤثر الرق في عصمة الدم وقد انتقصت قيمته الواجبة بسبب العصمة بالرق فقال أثره في تنقيص القيمة لما بينا لا في العصمة لأن العصمة المؤثمة تثبت بالإيمان والمقومة تثبت بدار الإيمان أي بالإحراز بها والعبد فيه أي في كل واحد من الأمرين مثل الحر بلا نقصان أما في الإيمان فظاهر وأما في الإحراز بالدار فلأنه يتم بعد وجوده حقيقة بما يوجب القرار في هذه الدار بأن أسلم لو التزم عقد الذمة والرق مما يوجب ذلك لأن الإنسان بالرق يصير تبعا للمولى فإذا كان المولى محرزا بدار الإسلام يصير العبد محرزا بها أيضا كسائر أمواله ولذلك أي ولكون العبد مماثلا للحر في العصمة يقتل الحر بالعبد قصاصا عندنا وقال الشافعي رحمه اللّه لا يقتل الحر به لانتفاء المماثلة بينهما فيما يبتنى عليه القصاص وهو النفسية لأنها عبارة عن ذات موصوفة بأنواع الكرامات التي اختص بها وصارت بها أشرف من سائر الحيوان وقد تمكن في العبد معنى المالية التي تخل بتلك الكرامات فاختلت النفسية بمجاوزة المالية فكان العبد في مقابلة الحر دونه في النفسية فالحر نفيس من كل وجه والعبد نفس ومال فامتنع القصاص والدليل في انتقاص النفسية انتقاص البدل ولا يلزم عليه قتل الذكر (٤/٤١٧) بالأنثى مع أنها دون الذكر في استحقاق الكرامات ولهذا انتقص بدل دمها عن بدل دم الرجل لأن ذلك ثبت بالنص على خلاف القياس ولما ما ذكرنا أن نفس العبد معصومة على سبيل الكمال لمساواته الحر في سبب العصمة والدليل على كمال العصمة وجوب القصاص بقتله إذا كان القاتل عبدا ولو اختلت العصمة لما وجب القصاص بقتله أصلا لأن ذلك يوجب شبهة الإباحة ولا يجب القصاص مع الشبهة ومجاورة المالية لا تخل بالنفسية والعصمة لأن الوصف الذي يبتنى عليه القصاص وتثبت لأجله العصمة كونه متحملا أمانة اللّه عز وجل إذ التحمل والأداء لا يمكن إلا بالبقاء والبقاء لا يتحقق بدون العصمة وهذا وصف أصلي لا ينفك عنه وما عداه من الحرية والمالكية والعقل صفات زائدة أثبتت لتكميل الوصف المطلوب ولا تعلق للقصاص بها وقد وجدت المساواة هاهنا في المعنى الأصلي يبتنى عليه القصاص وكانت العصمة لأجله فلا وجه لمنع القصاص فأما نقصان البدل فلنقصان الأوصاف الزائدة فهي معتبرة في تنقيص البدل وتكميله فأما حق القصاص فلا بدليل جريان القصاص بين الذكر والأنثى وثبوت التفاوت بينهما في البدل يوضحه أن العبد لو قتل عبدا ثم أعتق يستوفى القصاص منه ولو لم يتساوى الحر والعبد في المعنى الموجب للقصاص لمنع العتق عن الاستيفاء إذ المانع قبل الاستيفاء بمنزلة المانع حالة الوجوب قوله وأوجب الرق نقصا في الجهاد لا شبهة في أن الرق لا يوجب خللا في قوى البدن حسا لكن القدرة على نوعين قدرة بالمال وقدرة بالبدن والرق كما ينافي مالكية المال ينافي مالكية منافع البدن لأنها تبع للبدن لقيامها به والبدن ملك المولى وملك الأصل علة لملك التبع فكانت المنافع ملكا أيضا تبعا للبدن غير أن الشرع استثنى منافع بدنه عن ملك المولى في بعض العبادات كالصلاة والصوم نظرا للعبد ولم يستثن في البعض نظرا للمولى كالحج والجهاد فلهذا لا يحل له القتال بغير إذن المولى بالإجماع ولذلك أي ولأن الرق أوجب نقصا فيه قلنا لا يستوجب العقد السهم الكامل من الغنيمة بحال وهو مذهب العامة لأنه إن حضر ولم يقاتل لا يكون له شيء لأن مولاه التزم مؤنته للخدمة لا للقتال به فكان كالتاجر وإن قاتل بإذن مولاه أو بغير إذنه يرضخ له ولا يسهم وعند أهل الشام يسهم للعبد والصبي والمرأة لأنه عليه السلام أسهم يوم خيبر للنساء والصبيان والعبد وتمسكت العامة بحديث فضالة بن عبيد رضي اللّه عنه أنه عليه السلام كان يرضخ للمماليك ولا يسهم لهم وبأن العبد غير مجاهد بنفسه فإن للمولى أن يمنعه من الخروج والقتال ولا يستوي بينه وبين الحر الذي هو أهل للجهاد بنفسه ولكن يرضخ له إذا قاتل لمعنى التحريض (٤/٤١٨) فإن قيل أليس أن الإمام إذا نفل عاما بأن قال من قتل قتيلا فله سلبه فإنه يستوي في استحقاق السلب بين الحر والعبد وربما كان سلب قتيله أكثر من سهم الحر فلم لا يجوز أن يستوي بينهما في استحقاق السهم قلنا لأن استحقاق السلب بعد التنفيل إما أن يكون بالقتل أو بالإيجاب من الإمام ولا تفاوت بينهما في ذلك بخلاف استحقاق الغنيمة فإنه باعتبار معنى الكرامة والعبد أنقص حالا في أهلية الكرامات من الحر ألا يرى أن في الاستحقاق في التنفيل يستوي بين الفارس والراجل ولا يدل ذلك على أنه يجوز التسوية بينهما في استحقاق الغنيمة وما تمسكوا به من الحديث محمول على الرضخ لما روي عن عمير مولى آبي اللحم أنه قال شهدت خيبر وأنا مملوك فلم يسهم لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كذا في السير الكبير والمبسوط فتبين بما ذكرنا أن ما ذكر في بعض شروح المختصر أن المحجور هو الذي يستوجب الرضخ فأما المأذون له في القتال فيستوجب السهم الكامل لالتحاقه بالحر بالإذن وهم قوله وانقطعت الولايات متصل بقوله مثل الذمة والحل والولاية فبين الذمة والحل ثم شرع في بيان الولاية يعني لا تثبت الولاية المتعدية مثل ولاية الشهادة والقضاء والتزويج وغيرها للعبد لأنها تنبئ عن القدرة الحكمية إذ الولاية تنفيذ الأمر على الغير شاء أو أبى والرق عجز حكمي فينافي الولاية كما ينافي مالكية المال ثم الأصل في الولايات ولاية المرء على نفسه ثم التعدي منه إلى غيره عند وجود شرط التعدي ولا ولاية للعبد على نفسه فكيف تتعدى إلى غيره ولذلك أي ولانقطاع الولايات كلها بالرق بطل أمان العبد المحجور عليه عن القتال عند أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف وعند محمد والشافعي والرواية الأخرى عن أبي يوسف رحمهم اللّه صح أمانة لأنه مسلم من أهل نصرة الدين بما يملكه والإيمان نصرة الدين بالقول فإنه شرع لمنفعة تعود إلى المسلمين وهي دفع شر الكفار عنهم والنصرة بالقول مملوكة له إذ ليس فيها إبطال حق المولى بوجه فكان العبد فيها مثل الحر بخلاف القتال بالنفس فإنه نصرة بما لا يملكه لأن فيه إبطال حق المولى عن منافعه وتعريض ماليته للّهلاك فلا يملكه العبد ولأنه بالإيمان يلتزم حرمة التعرض لهم في نفوسهم وأموالهم ثم يتعدى ذلك إلى غيره فصار كشهادته على هلال (٤/٤١٩) رمضان لأنه يملك عقد الذمة فيملك الإيمان لأنه أقوى من عقد الذمة واحتج أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه بأن الإيمان منه تصرف على الغير ابتداء فلا يصح وإن لم يكن فيه ضرر للمولى كالشهادة وذلك لأنه إلزام على الغير من غير أن يلزمه شيء لأنه لا حق له في أموال الناس ولا في أنفسهم اغتناما واسترقاقا حتى لو قاتل لا يملك الرضخ بل يملكه مولاه وليس له حق القتل أيضا لأنه ممنوع عنه لحق المولى شرعا وإذا ثبت أنه لا حق له تبين أن إيمانه تصرف على الغير ابتداء بطريق الولاية ولا ولاية على الغير لأنها إنما تثبت إذا كان كامل الولاية في نفسه والكمال في حقه لا يثبت إلا بالحرية فلذلك لا يصح إيمانه وبأنه غير مالك للجهاد أصلا يعني أن الإيمان من توابع القتال والعبد لا يملك الجهاد لأنه يكون بالنفس أو بالمال ونفسه مملوكة لغيره وليس هو من أهل ملك المال فلا يملك الإيمان كالذمي والصبي والمجنون بيانه أن الإيمان وإن كان ترك القتال صورة لكنه من جملة الجهاد معنى لأنه قد تتفق حالة يكون بالمسلمين ضعف فتكون المصلحة في الإيمان ليستعدوا للجهاد بعد والاستعداد للجهاد من جملته وتوابعه ولأن المقصود دفع شر الكفار وإعزاز الدين وبالإيمان يحصل هذا المقصود كما يحصل بالجهاد وإذا ثبت أنه تبع وهو لا يملك الأصل وهو الجهاد فلا يملك ما هو من توابعه لأن عدم الأصل بأي علة كانت يدل على عدم التابع لأن وجود التبع بوجود الأصل لا بعلة الأصل ولا معنى لما قالوا إنه بالإيمان التزم حرمة التعرض لهم في نفوسهم لأنه إنما يكون كذلك إذا كان متمكنا من الجهاد فإذا لم يكن متمكنا منه كان ملزما غيره ابتداء لا ملتزما وليس للعبد هذه الولاية فأما عقد الذمة فيتمحض منفعة للمسلمين لأن الكفار إذا طلبوا ذلك يفترض على الإمام إجابتهم إليه فيصح من العبد كقبول الهبة والصدقة أما الإيمان فمتردد بين المنفعة والضرر ولهذا لا يفترض إجابة الكفار إليه إذا طلبوا ذلك وفيه إبطال حق المسلمين في الاستغنام والاسترقاق فلا يملكه ألا ترى أن التصرف الذي يوهم الضرر في حق المولى خاصة كالبيع والشراء لا يملكه العبد بنفسه فما فيه إلحاق الضرر بالمسلمين أولى أن لا يملكه ويلزم على ما ذكرنا صحة إيمان العبد المأذون له في القتال بالإجماع فأجاب وقال وإذا كان العبد مأذونا له بالجهاد لم يصر بالإذن أهلا للولاية لبقاء المنافي وهو الرق فينبغي أن لا يصح إيمانه بعد الإذن كما لا يصح شهادته وقضاؤه وجميع ما يتعلق بالولاية لكنه إنما صح لأن الأمان أي الإيمان بسبب الإذن في الجهاد يخرج عن أقسام الولاية باعتبار أن المأذون له في الجهاد صار شريكا في الغنيمة من حيث إنه استحق رضخا فيها (٤/٤٢٠) وإذا آمن فقد أسقط حق نفسه في الغنيمة فلزمه حكم الإيمان ثم تعدى إلى الغير لعدم تجزئه فلم يكن هذا الإيمان من باب الولاية فيصح مثل شهادته برؤية هلال رمضان حيث تصح لأنها ليست من باب الولاية بل هي التزام الصوم على نفسه أولا ثم تعدى الحكم إلى غيره فإن قيل العبد المحجور عن القتال مثل المأذون له استحقاق الرضخ إذا قاتل فينبغي أن يصح إيمانه لشركته في الغنيمة أيضا قلنا قد ذكر في السير الكبير أن العبد إذا قاتل بغير إذن مولاه في القياس لا شيء له لأنه ليس من أهل القتال وإنما يصير أهلا له عند إذن المولى فيكون حاله كحال الحربي المستأمن إن قاتل بإذن الإمام يستحق الرضخ وإلا فلا وفي الاستحسان يرضخ له لأنه غير محجور عن الاكتساب وعما يتمحض منفعة فيكون هو كالمأذون فيه من جهة المولى دلالة لأنه إنما حجر عن القتال لدفع الضرر عن المولى لأنه لا يكون مشغولا بخدمة المولى حالة القتال وربما يقتل فإذا فرغ عن القتال سالما وأصاب الغنيمة وزال الضرر يثبت الإذن منه دلالة وهو نظير القياس والاستحسان في العبد المحجور إذا آجر نفسه وسلم من العمل وإذا تقرر هذا تبين أنه لم يكن شريكا في الغنيمة حين آمنهم أما على وجه القياس فظاهر وكذا على وجه الاستحسان لأن الشركة إنما تثبت له بعد الفراغ من القتال لا قبله وحين ثبتت الشركة لم يبق وقت الإيمان وحين آمنهم لم تكن الشركة ثابتة فيكون الإيمان منه تعريضا لحق المسلمين بالإبطال ابتداء لأن حقهم حين آمن ثابت بالنظر إلى السبب فكان من باب الولاية وأجاب الإمام البرغري رحمه اللّه عنه بأن الإيمان إنما شرع لكونه وسيلة إلى القتال في المستقبل بالاستعداد كما ذكرنا فيملكه من يملك القتال في المستقبل وهذا العبد الذي قاتل بغير إذن المولى واستحق الرضخ محجور عن القتال في المستقبل لأنا حكمنا بصحة قتاله ورفعنا الحجر عنه في الماضي لا في المستقبل فلا يملك الإيمان وهو مثل العبد المحجور إذا اشترى شيئا وباعه وربح ربحا كثيرا كان تصرفه نافذا والربح سالما للمولى لأن تنفيذ تصرفه نفع محض في هذه الحالة ولكنه لو تبرع بشيء لا يصح لأن التبرع إنما صار مشروعا في حقه لكونه وسيلة إلى التجارة في المستقبل والحجر في المستقبل قائم فلا يصح التبرع منه فإن قيل كيف تثبت الشركة للعبد في الغنيمة وقد ثبت أن الرق ينافي مالكية المال بل الشركة إنما تثبت لمولاه لأن رضخ العبد له لا للعبد والدليل عليه ما ذكر في السير الكبير أن العبد المقاتل إذا أعتق بعدما أصابوا غنائم فإنه يرضخ لمولاه منها ولو أسلم الذمي المقاتل بعد إصابة الغنيمة فإنه يسهم له لأن بإسلام الذمي لا يتبدل المستحق (٤/٤٢١) فيمكن أن يجعل الإسلام كالموجود عند ابتداء السبب ويعتق العبد بتبدل المستحق لأن الرضخ يكون لمولاه مستحقا بالعبد كما يكون السهم له مستحقا بالفرس وبعد العتق الاستحقاق للعبد فلا يمكن أن يجعل العتق كالموجود عند ابتداء السبب لأن ذلك يبطل استحقاق المولى أصلا فتبين أنه لا شركة للعبد أصلا في الغنيمة فينبغي أن لا يصح إيمانه وإن كان مأذونا في الجهاد لأنه يصير إلزاما على الغير ابتداء قلنا الاستحقاق ثابت للعبد لأنه إنسان مخاطب ولكن المولى يخلفه في ملك المستحق كما يخلفه في ملك سائر أكسابه فيكون الشركة ثابتة نظرا إلى السبب بخلاف الفرس فإنه ليس من أهل الاستحقاق أصلا والدليل عليه أن العبد المقاتل بإذن مولاه لو مات قبل الإحراز والقسمة لا شيء لمولاه اعتبارا بموت من له سهم ولو مات الفرس في هذه الحالة أو بعدما جاوز الدرب لا يبطل سهم الفارس واللّه أعلم قوله وعلى هذا الأصل وهو أن الرق لا ينافي مالكية غير المال من الدم والحياة صح إقرار العبد محجورا كان أو مأذونا بالحدود والقصاص أي بما يوجب الحدود والقصاص عليه لأنه لما كان مبقى على أصل الحرية في حق الدم والحياة حتى لم يملك المولى إراقة دمه وإتلاف حياته ولم يصح إقرار المولى عليه بالحدود والقصاص كان إقراره ملاقيا حق نفسه قصدا فيصح كما يصح من الحر ولا يمنع صحته لزوم إتلاف ماليته التي هي حق المولى لأنه بطريق التبع كما بينا في الأمان بخلاف إقرار العبد المحجور بالمال لا يصح في حق المولى لأنه يلاقي حق الغير وهو المالية قصدا فيمنع الصحة ضرورة وصح إقرار العبد بالسرقة المستهلكة مأذونا كان أو محجورا عندنا حتى وجب القطع ولم يجب ضمان المال وقال زفر رحمه اللّه لا قطع عليه ويؤخذ بضمان المال في الحال إن كان مأذونا وبعد العتق إن كان محجورا لأن إقراره في حق المال يلاقي حقه إن كان مأذونا فإنه يلاقي ذمته وهو منفك الحجر في ذلك فأما في حق القطع فيلاقي نفسه والفك بحكم الإذن لم يتناولها ألا ترى أنه لو أقر بأن نفسه لفلان كان إقراره باطلا فكذا إقراره بما يوجب استحقاق نفسه أو جزءا منها يكون باطلا وجه قولنا أن وجوب الحد على العبد باعتبار أنه آدمي مخاطب لا باعتبار أنه مال مملوك وهو في هذا المعنى مثل الحر مأذونا كان أو محجورا فإقراره فيما يرجع إلى استحقاق الجزء كإقرار الحر ولهذا لا يملك المولى الإقرار عليه بذلك وما لا يملك المولى على عبده فالعبد فيه ينزل منزلة الحر كالطلاق يوضحه أنه لا تهمة في إقراره لأن ما يلحقه من الضرر باستيفاء العقوبة منه فوق ما (٤/٤٢٢) يلحق المولى والإقرار حجة عند انتفاء التهمة وبالقائمة صح من المأذون يعني إذا أقر العبد المأذون بسرقة مال قائم بعينه في يده صح في حق المال بالإجماع فيرد على المسروق منه لأن إقراره في حق المال لا في حق نفسه وهو الكسب لأنه منفك الحجر في ذلك فيصح وفي حق القطع صح عندنا خلافا لزفر رحمه اللّه لما مر من الوجهين وفي المحجور اختلاف معروف وإذا أقر العبد المحجور بسرقة مال قائم في يده بعينه فعند أبي حنيفة رحمه اللّه يصح إقراره بهما أي بالحد والمال فيقطع يده ويرد المال على المسروق منه وعند محمد رحمه اللّه لا يصح بهما فلا يجب القطع ولا الرد على المسروق منه وهو قول زفر رحمه اللّه أيضا وعند أبي يوسف رحمه اللّه يصح بالحد دون المال فيقطع يده ويكون المال للمولى وذلك أي الاختلاف المذكور فيما إذا كذبه المولى وقال المال مالي فأما إذا صدقه فإنه يقطع ويرد المال إلى المسروق منه بلا خلاف وجه قول محمد رحمه اللّه أن إقرار المحجور عليه باطل لأن كسبه ملك مولاه وما في يده كأنه في يد المولى ألا ترى أنه لو أقر فيه بالغصب لا يصح فكذلك بالسرقة وإذا لم يصح إقراره في حق المال بقي المال على ملك مولاه فلا يمكن أن يقطع في هذا المال لأنه ملك المولى ولا في مال آخر لأنه لم يقر بالسرقة فيه ثم المال أصل في هذا الباب بدليل أن المسروق منه لو قال أبغي المال دون القطع تسمع خصومته وعلى العكس لا تسمع وإن المال يثبت بدون القطع ولا يتصور ثبوت القطع قبل ثبوت المال فإذا لم يصح إقراره فيما هو الأصل لم يصح فيما يبتنى عليه أيضا وجه قول أبي يوسف رحمه اللّه أنه أقر بشيئين بالقطع وبالمال للمسروق منه وإقراره حجة في حق القطع دون المال فيثبت ما كان إقراره فيه حجة دون الآخر لأن أحد الحكمين ينفصل عن الآخر ألا ترى أنه قد يثبت المال دون القطع كما إذا شهد بالسرقة رجل وامرأتان ويجوز أن يثبت القطع دون المال كما لو أقر بسرقة مال يستهلك وجه قول أبي حنيفة رحمه اللّه أنه لا بد من قبول إقراره في حق القطع لما بينا أنه في ذلك مبقى على أصل الحرية ولأن القطع هو الأصل فإن القاضي يقضي بالقطع إذا ثبت السرقة عنده بالبينة ثم من ضرورة وجوب القطع عليه كون المال مملوكا لغير مولاه لاستحالة أن يقطع العبد في مال هو مملوك لمولاه وبثبوت الشيء يثبت ما كان ضرورته كما لو باع أحد التوأمين فأعتقه المشتري ثم ادعى البائع نسب الذي عنده يثبت (٤/٤٢٣) نسب الآخر منه ويبطل عتق المشتري فيه للضرورة فهذا مثله كذا في المبسوط قوله وعلى هذا الأصل وهو أن الرق ينافي مالكية المال أو أن الرق ينافي كمال الحال في أهلية الكرامات حتى أن ذمته ضعفت برقه بحيث لم تحتمل الدين بنفسها قلنا في جنايات العبد خطأ أن رقبته تصير جزاء أي يصير العبد للمجني عليه جزاء بجنايته والوجوب على المولى دون العبد فيقال للمولى عليك تسليم العبد بالجناية إلى وليها إلا أن يختار الفداء بالأرش فيخير المولى بين الدفع بالجناية كما وجب أو الفداء بالأرش وقال الشافعي رحمه اللّه حكم جنايته على الآدمي كحكم جنايته على البهيمة وإتلاف المال فيقال للمولى إما أن تؤدي أو يباع عليك العبد فيكون الوجوب على العبد في الأصل كذا في الأسرار والخلاف يظهر في اتباعه بعد العتق فعنده يؤاخذ بتكميل الأرش بعد العتق وعندنا لا يؤاخذ به هو يقول الأصل في ضمان الجناية وجوبه على الجاني وأوجب الشرع على العاقلة حمالة عنه بطريق المواساة بعذر الخطأ ولا عاقلة للعبد لأن العقل بالقرابة وقد انقطع حكمها بالرق بالإجماع فبقي الضمان عليه فيباع فيه ويستوفى منه بعد العتق فأما وجوب الدفع فغير مشروع في موضع على أن في شرع الدفع تسوية بين قلة الجناية وكثرتها وهي مما يرده القياس ونحن نقول الواجب في باب القتل ضمان هو صلة في جانب من وجب عليه كأنه يهب شيئا مبتدأ لأن كون المتلف غير مال ينافي وجوب الضمان على المتلف وكون الدم مما لا ينبغي أن يهدر يوجب الحق للمتلف عليه فوجب الضمان صلة في جانب المتلف وعوضا في جانب المتلف عليه ولكونه صلة لا تصح الكفالة بالدية كما لا تصح ببدل الكتابة كأنها لم تجب بعد ولا يجب الزكاة فيها إلا بحول بعد القبض كأنها هبة ثم كون هذا الضمان صلة يمنع الوجوب على العبد لأنه ليس بأهل للصلة ولهذا لا يستحق عليه صلة الأقارب ولا يمكن أن يهب شيئا وإذا لم يمكن إيجابه عليه لكونه صلة ولا عاقلة له بالإجماع ليجب عليهم ولا يمكن إهدار الدم جعل الشرع رقبة العبد مقام الأرش حتى لا يكون الاستحقاق على العبد ولا يصير الدم هدرا أيضا إذ الأصل في الدم أن يضمن بقدر الممكن ولأن في ضمان الاستهلاك وجب الضمان في ذمة العبد وإذا تبع فيه صار في المال ذاهبا فيه وقد تعذر اعتبار الوجوب في الذمة هاهنا لكون الواجب صلة فيصار إلى الدفع لأن فيه ذهابه بالجناية وهو مال ضمان الاستهلاك ولهذا لم يختلف الحكم بقلة الجناية وكثرتها لأن ذلك يظهر في حكم الوجوب في الذمة وقد تعذر ذلك هاهنا يصير إلى ذهابه فيه وهذا لا يوجب التفرقة وقوله ولكنه صلة من تتمة قوله ما ليس بمال والضمير راجع إلى ما وكأنه احترز به عن وجوب المهر في ذمة العبد (٤/٤٢٤) فإنه يجب مقابلا بما ليس بمال وهو ملك النكاح أو منافع البضع إلا أنه يجب عوضا عما حصل له من الملك أو المنافع المستوفاة فلا يكون صلة والضمان هاهنا يجب عما ليس بمال من غير أن يدخل في ملكه شيء فكان صلة قوله إلا أن يختار المولى الفداء متصل بقوله يصير جزاء أي يصير رقبته جزاء في جميع الأحوال إلا حال مشية المولى الفداء فيصير أي الواجب عائدا إلى الأصل وهو الأرش فإنه هو الأصل في الخطأ عنده والنقل إلى الدفع لعارض الرق فإذا أعاد الأمر إلى الأصل لا يبطل بالإفلاس وعندهما يصير الواجب بمعنى الحوالة أي بمعنى الحال به على المولى أو يصير التزامه الفداء بمعنى الحوالة كان العبد أحال بالواجب على المولى فيعود بالإفلاس إلى رقبته كما في الحوالة الحقيقة وحاصل المسألة أن المولى إذا اختار الفداء وليس عنده ما يؤديه إلى ولي الجناية كان الأرش دينا في ذمته والعبد عبده عند أبي حنيفة رحمه اللّه لا سبيل لغيره عليه وعندهما إن أدى الدية مكانه وإلا دفع العبد إلى الأولياء إلا إن رضوا بأن يبيعوه بالدية فلم يكن لهم بعد ذلك أن يرجعوا على العبد وجه قولهما أن نفس العبد صار حقا لولي الجناية إلا أن المولى يتمكن من تحويل حقهم من العبد إلى الأرش باختياره الفداء فإذا أعطاهم الأرش كان هذا تحويلا لحقهم من محل إلى محل فيه وفاء لحقهم فيكون صحيحا منه وإذا كان مفلسا كان هذا إبطالا لحقهم لا تحويلا إلى محل يعد له فيكون ذلك باطلا من المولى وهذا لأن الخيار للمولى بطريق النظر من الشرع له إنما ثبت على وجه لا يتضرر به صاحب الحق فإذا آل إلى الضرر كان باطلا كما في الحوالة فإن انتقال الدين إلى ذمة المحتال عليه ثابت بشرط أن يسلم لصاحب الحق فإذا لم يسلم عاد إلى المحيل كما كان ولأن الأصل أن يكون الجاني هو المصروف إلى جنايته كما في العمد وإنما صير إلى الأرش في الخطأ إذا كان الجاني حرا لتعذر الدفع فكان اختيار المولى الفداء نقلا من الأصل إلى العارض فكان بمعنى الحوالة كان صاحب الحق أحيل على المولى فإذا توى ما عليه بإفلاسه يعود إلى الأصل كما في سائر الحوالات وأبو حنيفة رحمه اللّه يقول في جناية العبد قد خير المولى بين الدفع والفداء والمخير بين شيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك واجبا من الأصل كالمكفر إذا اختار أحد الأنواع الثلاثة فهاهنا باختياره الفداء تبين أن الواجب هو الدية في ذمة المولى من الأصل وإن العبد فارغ من الجناية فلا يكون لأولياء الجناية عليه سبيل ولأن الموجب الأصلي في القتل الخطأ هو الأرش فإنه هو الثابت بالنص وهو قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة (٤/٤٢٥) ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا وفي العبد إنما صير إلى الدفع ضرورة أنه ليس بأهل للصلة فلما ارتفعت الضرورة باختيار المولى الفداء عاد الأمر إلى الأصل فلا يبطل بالإفلاس وقيل هذه المسألة مبنية في التحقيق على اختلافهم في التفليس فعنده لما لم يكن التفليس معتبرا لأن المال غاد ورائح كان هذا التصرف من المولى تحويلا لحق الأولياء إلى ذمته لا إبطالا وعندهما لما كان التفليس معتبرا والمال في ذمة المفلس كان تاويا كان هذا الاختيار من المولى إبطالا لحق الأولياء كذا في المبسوط وغيره وهذا أي الرق بجميع أحكامه التي بينا أصل لا يحصى فروعه قوله وأما المرض فكذا قيل المرض حالة للبدن خارجة عن المجرى الطبيعي وعبارة بعضهم هو هيئة للحيوان يزول بها اعتدال الطبيعة والمذكور في بعض كتب الطب أن المرض هيئة غير طبيعية في بدن الإنسان يجب عنها بالذات آفة في الفعل وآفة الفعل ثلاث التغير والنقصان والبطلان فالتغير أن يتخيل صورا لا وجود لها خارجا والنقصان أن يضعف بصره مثلا والبطلان العمى وأنه لا ينافي أهلية الحكم أي ثبوت الحكم ووجوبه على الإطلاق سواء كان من حقوق اللّه تعالى كالصلاة والزكاة أو من حقوق العباد كالقصاص ونفقة الأزواج والأولاد والعبد ولا أهلية العبارة لأنه لا يخل بالعقل ولا يمنعه عن استعماله حتى صح نكاح المريض وطلاقه وإسلامه وانعقد تصرفاته وجميع ما يتعلق بالعبارة ولما لم يكن المرض منافيا للأهليتين كان ينبغي أن يجب على المريض العبادات كاملة كما تجب على الصحيح وأن لا يتعلق بماله حق الغير ولا يثبت الحجر عليه بسببه لكنه لما كان سبب الموت بواسطة ترادف الآلام والموت عجز خالص حقيقة وحكما ليس فيه يشوب القدرة بوجه كان المرض من أسباب العجز أي موجبا له بزوال القوة وانتقاصها ولما كان الموت علة لخلافة الورثة والغرماء في المال لأن بالموت يبطل أهلية الملك فيخلفه أقرب الناس إليه والذمة تخرب بالموت فيصير المال الذي هو محل قضاء الدين مشغولا بالدين فيخلفه الغريم في المال كان المرض من أسباب تعلق حق الوارث والغريم بماله في الحال لأن الحكم يثبت بقدر دليله ولأن التعلق لما ثبت بالموت حقيقة يستند هذا الحكم إلى أول المرض لأن الحكم يستند إلى أول السبب كمن جرح رجلا خطأ ثم كفر قبل السراية ثم سرى يصح التكفير لأن وجوب التكفير حكم (٤/٤٢٦) متعلق بالموات فيستند إلى سبب القتل فيظهر في الآخرة أنه أداها بعد الوجوب فيجوز فكذلك في مسألتنا هذه خراب الذمة وتعلق الدين بالمال حكم الموت فيستند إلى سببه وهو المرض ثم لكون المرض من أسباب العجز شرعت العبادات على المريض بقدر المكنة أي الطاعة قائما أو قاعدا أو مستلقيا على ما عرف في فروع الفقه ولكونه من أسباب تعلق حق الوارث والغريم بالمال كان من أسباب الحجر على المريض بقدر ما يقع به صيانة الحق أي حق الوارث والغريم وهو مقدار الثلثين في حق الوارث لتعلق حقه بهذا القدر وجميع المال في حق الغريم إن كان الدين مستغرقا حتى لا يؤثر المرض أي في الحجر فيما لا يتعلق به حق غريم مثل ما زاد على الدين ولا وارث مثل ما زاد على ثلثي ما بقي من الدين أو على ثلثي الجميع إن لم يكن عليه دين ومثل ما يتعلق به حاجة المريض كالنفقة وأجرة الطبيب والنكاح بمهر المثل ونحوها قوله وإنما يثبت به أي بالمرض الحجر إذا اتصل بالموت مستندا إلى أول المرض لأن علة الحجر مرض مميت لا نفس المرض فقبل وجود الوصف لا يثبت الحجر لعدم التمام بوصفه وإذا اتصل بالموت صار أصل المرض موصوفا بالأمانة والسراية إلى الموت من أوله لأن الموت يحصل بضعف القوى وترادف الآلام وكل جزء من المرض مضعف موجب لألم بمنزلة جراحات متفرقة سرت إلى الموت فإنه يضاف إلى كلها دون الأخيرة فتم المرض علة الحجر باتصاله بالموت من حين أصل المرض الذي أضناه كالنصاب صار متصفا بالنماء عند تمام الحول من أول الحول فيستند حكمه وهو الحجر إلى أصل المرض والتصرف وجد بعده فصار تصرف المحجور عليه ولكن لما لم يعلم قبل اتصاله بالموت أنه يتصل به أم لا لم يمكن إثبات الحجر بالشك إذ الأصل هو الإطلاق فقيل كل تصرف واقع من المريض إلى آخره كالإعتاق إذا وقع على حق غريم بأن أعتق المريض عبدا من ماله المستغرق بالدين أو وارث بأن أعتق عبدا قيمته تزيد على الثلث فحكم هذا المعتق حكم المدبر قبل الموت حتى كان عبدا في شهادته وسائر أحكامه وإذا لم يقع إعتاقه على (٤/٤٢٧) حق غريم أو وارث بأن كان في المال وفاء بالدين وهو يخرج من الثلث نفذ في الحال لعدم تعلق حق أحد به قوله وكان القياس أن لا يملك المريض الإيصاء لما قلنا أن المرض سبب تعلق حق الغير بالمال وذلك موجب للحجر والإيصاء تبرع فلا يصح منه لكونه محجورا عليه كما لا يصح من العبد والصبي لكن الشرع جوز ذلك أي الإيصاء نظرا له بقدر الثلث بقوله عليه السلام إن اللّه تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم فضعوه حيث شئتم وبقوله عليه السلام في حديث سعد بن مالك رضي اللّه عنه حين قال أفأوصي بمالي كله إلى أن قال فبثلثه الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس استخلاصا أي استخصاصا واستيثارا له على الورثة بالقليل وهو الثلث ليعلم باستخلاص القليل دون الكثير أن الحجر والتهمة أي تهمة إيثاره الأجنبي على الوارث باعتبار ضغينة كانت معه له فيه أي في الإيصاء أصل حتى يستحب أن ينقص الوصية من الثلث ولا يبلغها إلى الثلث لما عرف وقوله نظرا تعليل لجواز الإيصاء وقوله استخلاصا تعاليل لاكتفاء على الثلث إن جاز ذلك ولو قيل لكن الشرع جوز له ذلك بقدر الثلث نظرا له واستخلاصا لكان أوضح ويحتمل أن يكون استخلاصا بدلا من نظرا فيستقيم بغير واو أو يكون عطفا بغير واو على مذهب من جوزه قوله ولما تولى الشرع الإيصاء للورثة كان الإيصاء للورثة مفوضا إلى المريض في ابتداء الإسلام بقوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف وقد كان يجري في ذلك ميل إلى البعض ومضارة للبعض فنسخ ذلك بقوله تعالى يوصيكم اللّه في أولادكم الآية بين النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك بقوله إن اللّه تعالى أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث فالشيخ رحمه اللّه أشار إلى ما ذكرنا بقوله ولما تولى الشرع الإيصاء للورثة أي بقوله تعالى يوصيكم اللّه في أولادكم وأبطل إيصاءه أي نسخ إيصاء المريض للورثة بتولية بنفسه لعجز العبد عن حسن التدبير في مقدار ما يوصي به (٤/٤٢٨) لكل واحد لجهله بذلك كما قال تعالى لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا أو لقصده مضارة البعض كما وقعت الإشارة إليه في قوله تعالى غير مضار وكان هذا نسخ تحويل كنسخ القبلة إلى الكعبة بطل ذلك أي إيصاء العبد لهم من كل وجه ويمكن أن يجعل هذا جواب سؤال وهو أن يقال لما أجاز الشرع له الإيصاء بالثلث واستخلصه للمريض كان ينبغي أن يجوز إيصاؤه بذلك للوارث لعدم تعلق حق الورثة كما جاز للأجنبي وكما لو وهب شيئا من ماله لبعض ورثته في حال الصحة مع أن الشرع شرع في حق المريض الوصية للورثة بقوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الآية لكن الشرع لما تولى إيصاء الورثة بنفسه ونسخ إيصاءه لهم بطل ذلك من كل وجه صورة ومعنى وحقيقة وشبهة لأن الشرع لما حجره عن إيصال النفع إلى وارثه من ماله في هذه الحالة صارت صورة إيصال النفع ومعناه وحقيقته وشبهته سواء لأن الصورة والشبهة ملحقتان بالحقيقة في موضع التحريم ثم بين أمثلة هذه الأشياء فمثال الصورة بيع المريض من الوارث شيئا من أعيان التركة فإنه لا يصح أصلا عند أبي حنيفة رحمه اللّه سواء كان بمثل القيمة أو لم يكن وعندهما يصح بمثل القيمة لأنه ليس في تصرفه إبطال حق الورثة عن شيء مما يتعلق حقهم به وهو المالية فكان الوارث والأجنبي فيه سواء يوضحه أنه كما كان ممنوعا من الوصية للوارث كان ممنوعا من الوصية بما زاد على الثلث للأجنبي ثم البيع بمثل القيمة من الأجنبي في جميع ماله صحيح ولا يكون ذلك وصيته بشيء فكذلك مع الوارث وأبو حنيفة رحمه اللّه يقول إنه آثر بعض ورثته بعين من أعيان ماله بقوله وهو محجور عن ذلك لحق سائر الورثة فلا يجوز كما لو أوصى بأن يعطي أحد ورثته هذه الدار بنصيبه من الميراث وهذا لأن حق الورثة كما يتعلق بالمالية يتعلق بالعين فيما بينهم حتى لو أراد بعضهم أن يجعل شيئا لنفسه بنصيبه من الميراث لا يملك ذلك بدون رضاء سائر الورثة فكما أنه لو قصد إيثار البعض بشيء من المالية رد عليه قصده فكذلك إذا قصد إيثاره بالعين فلذلك يمنع بيعه منه بمثل القيمة بأكثر بخلاف الأجنبي فإنه غير ممنوع من التصرف معه فيما يرجع إلى العين وإنما يمنع من إبطال حق الورثة عن ثلثي ماله وليس في البيع بمثل القيمة من الأجنبي إبطال حق الورثة بشيء من ماله وتبين بما ذكرنا أن البيع من الوارث إيصاء له صورة من حيث إنه إيثار له بالعين وإن (٤/٤٢٩) لم يكن إيصاء معنى لاسترداد العوض منه نقيضه عقد المعاوضة فلذلك لا يصح ومثال الإيصاء معنى الأقارير فإن المريض إذا أقر بعين أو بدين لوارثه لا يصح عندنا وقال الشافعي رحمه اللّه يصح لأن الحجر بسبب المرض إنما ثبتت عن التبرع بما زاد على الثلث مع الأجنبي وعن التبرع مع الوارث أصلا ولا حجر عليه فيما يرجع إلى السعي في فكاك رقبته فكان إقراره في الصحة والمرض سواء ألا ترى أن إقراره بالوارث صحيح مع أن فيه إضرارا بالوارث المعروف فكذا إقراره للوارث ولنا أن في إقراره لبعض الورثة تهمة الكذب إذ من الجائز أن يكون غرضه في هذا الإقرار إيصال مقدار المال المقر به إلى الوارث بغير عوض فيكون وصية من حيث المعنى وإن كان إقرارا صورة فيكون حراما لأن شبهة الحرام حرام ولأن الإقرار وإن كان إخبارا فقد جعل كالإيجاب من وجه حتى إن من أقر لإنسان بجارية لا يستحق أولادها وإذا كان كالإيجاب من وجه فهو إيجاب مال لا يقابله مال والمريض ممنوع عن مثله مع الوارث أصلا فرجحنا هذا الجانب في حق الوارث ورجحنا جانب الإقرار في حق الأجنبي وصححناه في جميع المال وهذا بخلاف الإقرار بالوارث لأنه لم يلاق محلا تعلق به حق الورثة مع أن النسب من الحوائج الأصلية فيكون مقدما على حق الورثة وكذا لم يصح إقرار المريض باستيفاء دينه الذي على الوراث منه وإن لزم الوارث الدين في حال صحة المقر لأن هذا إيصاء له بمالية الدين من حيث المعنى فإنها تسلم له بغير عوض وكذا لو كان وارثه كفيلا عن أجنبي للمريض عليه دين أو كان أجنبي كفيلا عن وارثه الذي له عليه دين بطل إقراره باستيفائه لتضمنه براءة الوارث عن الدين أو عن الكفالة وقوله وإن لزمه في الصحة رد لما روي عن أبي يوسف رحمه اللّه أنه إذا أقر باستيفاء دين كان له على الوارث في حال الصحة يجوز لأن الوارث لما عامله في الحصة فقد استحق براءة ذمته عند إقراره باستيفاء الدين منه فلا يتغير ذلك الاستحقاق بمرضه ألا ترى أنه لو كان دينه على أجنبي فأقر باستيفائه في مرضه كان صحيحا في حق غرماء الصحة لكنا نقول إقراره بالاستيفاء في الحاصل إقرار بالدين لأن الديون تقضى بأمثالها فيجب للمديون على صاحب الدين عند القبض مثل ما كان له عليه ثم يصير قصاصا بدينه فكان هذا بمنزلة الإقرار بالدين فلا يصح بخلاف إقراره بالاستيفاء من الأجنبي لأن المنع هناك لحق غرماء الصحة وحق الغرماء عند المرض لا يتعلق بالدين إنما يتعلق بما يمكن استيفاء ديونه منه فلم يصادف إقراره بالاستيفاء محلا تعلق حقهم به فأما حق الورثة بالعين والدين جميعا لأن الوراثة خلافة والمنع من الإقرار للوارث إنما كان لحق الورثة (٤/٤٣٠) فإقراره بالاستيفاء في هذا الإقرار بالدين لأنه يصادف محلا هو مشغول بحق الورثة فلا يجوز مطلقا كذا في المبسوط ومثال الحقيقة ظاهر ولهذا لم يذكره الشيخ وأما مثال الشبهة فهو ما إذا باع المريض الحنطة الجيدة بالرديئة أو الفضة الجيدة بالرديئة من وارثه فإنه لا يجوز لأن فيه شبهة الوصية بالجودة إذ عدوله عن خلاف الجنس إلى الجنس يدل على أن غرضه إيصال منفعة الجودة إليه فإنها لا تتقوم عند المقابلة بالجنس فقومت الجودة في حقه دفعا للضرر عن الورثة فإن حقهم تعلق بالأصل والوصف جميعا كما تقومت في حق الصغار دفعا للضرر عنهم فإن الأب أو الوصي لو باع مال الصغير من نفسه أو من غيره تتقوم الجودة فيه حتى لم يجز له بيع الجيد من ماله بالرديء من جنسه أصلا كذا هاهنا ألا ترى أنه لو باع الجيد بالرديء من الأجنبي يعتبر خروجه من الثلث ولو لم يكن الجودة معتبرة لم يتوقف على خروجه من الثلث بل جاز مطلقا كما لو باع شيئا بمثل القيمة قوله وحجر المريض عن الصلة نحو الهبة والصدقة والمحاباة وغيرها إلا من الثلث لما قلنا من تعلق حق الغير بماله الموجب للحجر ومن استخلاص الثلث له بطريق النظر ولذلك أي ولكونه محجورا عن الصلة فيما وراء الثلث والحاصل إن ما يجب للّه تعالى خالصا من الحقوق المالية إن أداه بنفسه في مرضه يعتبر من الثلث سواء وجبت مالا من الابتداء كالزكاة وصدقة الفطر أو صارت مالا بسبب العجز كالفدية في الصلاة والصوم والإنفاق في الحج وإن لم يؤده بنفسه لا يصير دينا في التركة بعد الموت مقدما على الميراث ثم إن أوصى به ينفذ من الثلث كسائر التبرعات وإن لم يوص به يسقط في أحكام الدنيا وإن كان مؤاخذا به في الآخرة وعند الشافعي رحمه اللّه إن أداه بنفسه كان معتبرا من جميع المال وإن لم يؤد يصير دينا في جميع التركة مقدما على الميراث والوصية كديون العباد أوصى به أو لم يوص فتبين به أن قوله عندنا متعلق بالمسألتين وإشارة إلى الخلاف فيها احتج الشافعي بحديث الخثعمية فإنه عليه السلام شبه فيه دين اللّه تعالى بدين العباد بقوله أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضينه الحديث ثم دين العباد يقضى من جميع التركة مقدما على الميراث فكذا دين اللّه تعالى وبأنه حق كان مطالبا به في حياته وتجري النيابة في إبقائه فيستوفى من تركته بعد وفاته كديون العباد وذلك لأن المال خلف عن الذمة بعد الموت في الحقوق التي تقضى بالمال والوارث قائم مقام المورث في أداء ما يجري النيابة في أدائه ألا ترى أن بعد الإيصاء يقوم مقامه (٤/٤٣١) في الأداء فكذلك قبله ولنا أن المال خرج من ملك الذي كان في ملكه وصار ملكا للوارث ولم يجب على الوارث شيء ليؤخذ ملكه به فلا يصير دينا في التركة لأن حق اللّه تعالى متى اجتمع مع حق العبد في محل يقدم حق العبد ثم الواجب في حقوق اللّه تعالى فعل الإيتاء لا نفس المال ولا يصلح فيه إقامة المال مقام الذمة بعد الموت ولا يمكن أن يجعل الوارث نائبا في الأداء لأن الواجب عبادة فلا بد فيه من فعل ممن يجب عليه حقيقة أو حكما وخلافة الوارث تثبت جبرا بدون اختيار من المورث وبمثلها لا يتأدى العبادة واستيفاء الواجب لا يجوز إلا من الوجه الذي وجب فإذا لم يمكن إيجابه من ذلك الوجه لم يبق أصلا إلا أن يوصي فيكون نظير وصيته بسائر التبرعات فينفذ من الثلث قوله ولما تعلق حق الغرماء إلى آخره إشارة إلى الجواب عما قيل حق المرتهن قد تعلق بالمرهون كما تعلق حق الغريم والوارث بالمال في المرض بل هو أقوى لأنه مانع عن التصرف في الرهن والانتفاع به للراهن وحق الوارث والغريم لا يمنع من ذلك ثم حق المرتهن لا يمنع نفاذ إعتاق الراهن لبقاء الملك فينبغي أن لا يمنع حق الوارث والغريم أيضا لبقاء الملك فقال إنما تعلق حق الغرماء والورثة بالمال صورة ومعنى في حق أنفسهم أما معنى فظاهر وأما صورة فلأن المريض لا يملك البيع من وارثه بمثل القيمة وبأكثر كما لا يملك أن يحابيه ولا يملك الوارث أن يأخذ بنصيبه عينا من التركة أيضا بدون رضاء الباقي ومعنى في حق غيرهم وهم الأجانب حتى جاز بيعه من الأجنبي بمثل القيمة وسوق هذا الكلام يشير إلى أن حق الغرماء متعلق بالمال صورة ومعنى كحق الوارث لكنه نص في المبسوط أن حق الغرماء متعلق بالمعنى وهو المالية لا بعين المال ولهذا كان للوارث أن يستخلص العين لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر وذكر في الذخيرة أيضا أن الحر المحجور عليه بسبب الدين إذا باع ماله من أحد الغرماء بمثل قيمته صح كما لو باعه من أجنبي آخر بمثل القيمة ولكن لو حاص الثمن بدينه لا يجوز لأن في المقاصد إيثارا للبعض بالقضاء وأنه ممنوع عنه كالمريض مرض الموت فهذه الرواية تدل على أن بيع المريض من الغريم بمثل القيمة يجوز فتبين بهذا أن حق الغرماء متعلق بالمعنى دون الصورة في حق أنفسهم كما في حق الأجانب فكان الضمير في أنفسهم وغيرهم راجعا إلى الورثة دون الغرماء وكان لفظ الغير متناولا للغرماء والأجانب جميعا أي حق الكل متعلق بالمال فحق الورثة متعلق به صورة ومعنى في حق أنفسهم ومتعلق به معنى في حق غيرهم من الأجانب والغرماء وحق الغرماء متعلق به معنى لا صورة في حق (٤/٤٣٢) أنفسهم وفي حق غيرهم وإذا كان كذلك صار إعتاق المريض واقعا على محل مشغول بعينه بحق الغير أي حق ملك الرقبة صورة ومعنى بالصورة فلم ينفذ إلى آخر ما ذكر في الكتاب وهذا أي المرض مع أحكامه أصل كثير الفروع قوله وأما الحيض والنفاس فكذا الحيض في الشريعة دم ينفضه رحم المرأة السليمة عن الداء والصغر واحترز بقوله رحم المرأة عن الرعاف والدماء الخارجة من الجراحات وعن دم الاستحاضة فإنه دم عرق لا رحم وبقوله السليمة عن الداء عن النفاس فإن النفساء في حكم المريضة حتى اعتبر تصرفها من الثلث وبالصغر عن دم تراه من هي دون بنت تسع السنين فإنه ليس بمعتبر في الشرع والنفاس الدم الخارج من قبل المرأة عقيب الولادة وأنهما لا يعدمان أهلية لا أهلية الوجوب ولا أهلية الأداء لأنهما لا يخلان بالذمة ولا بالعقل والتمييز ولا بقدرة البدن فكان ينبغي أن لا تسقط بهما الصلاة كما لا يسقط الصوم لكن الطهارة عن الحيض والنفاس شرطت للصلاة على وفاق القياس كالطهارة عن سائر الأحداث والأنجاس وقد شرعت الصلاة بصفة اليسر فإنها وإن وجبت بقدرة ممكنة لكن في شرعها نوع يسر من حيث إنها وجبت خمس مرات في اليوم والليلة ولم تجب خمسين مرة كما في الأمم الماضية ومن حيث إن الحرج مدفوع فيها حتى لو لحق المصلي حرج في القيام سقط القيام عنه إلى القعود ثم إلى الإيماء والاستلقاء على الظهر على ما عرف وفي فوت الشرط فوت الأداء ضرورة لتوقف المشروط على الشرط وفي وضع الحيض والنفاس ما يوجب الحرج في القضاء أي قضاء الصلوات فإن الحيض لما لم يكن أقل في ثلاث أيام ولياليها كان الواجب داخلا في حد التكرار لا محالة وكذا النفاس في العادة يكون أكثر من مدة الحيض فيتضاعف الواجبات فيه أيضا وهو مستلزم للحرج وهو مدفوع شرعا فلذلك أي للزوم الحرج وضع أي أسقط القضاء عن الحائض والنفساء وقد جعلت الطهارة عنهما أي عن الحيض والنفاس شرطا لصحة الصوم أيضا نصا وهو ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الحائض تدع الصوم والصلاة في أيام أقرائها وما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت لامرأة سألتها ما بالنا نقضي الصوم ولا نقضي الصلاة في الحيض أحرورية أنت كنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نقضي الصوم ولا نقضي (٤/٤٣٣) الصلاة بخلاف القياس لأن الصوم يتأدى مع الحدث والجنابة بالاتفاق فيجوز أن يتأدى مع الحيض والنفاس أيضا لولا النص فيؤثر اشتراطها في المنع من الأداء ولم يتعد إلى القضاء أي إلى إسقاط القضاء يعني لما كانت الطهارة عن الحيض والنفاس شرطا لأداء الصوم بخلاف القياس لا يظهر لزومها فيما وراء صحة الأداء بل جعل في حق القضاء كأن الطهارة ليست بشرط وأنها تركت الأداء مختارا فيجب القضاء ولم يكن في قضائه أي قضاء الصوم حرج لأن الحيض لا يزيد على عشرة أيام ولياليها فلا يتصور أن يكون مستغرقا لوقت الصوم وهو الشهر فلم يسقط أصل الصوم أي أصل وجوبه عن الذمة وإن سقط أداؤه كمن أغمي عليه ما دون يوم وليلة فإن قيل ينبغي أن يكون النفاس مسقطا للقضاء إذا استوعب الشهر كما كان مسقطا لقضاء الصلاة قلنا حكمه مأخوذ من الحيض في الصلاة والصوم فلما لم يكن الحيض مسقطا للصوم بوجه كان حكم النفاس كذلك وإن استوعب الشهر ولما أسقط الحيض الصلاة لا محالة أسقط النفاس أيضا وإن لم يستوعب اليوم والليلة وكذا وقوعه في وقت الصوم من النوادر فلا يبنى الحكم عليه كالإغماء إذا استوعب الشهر بخلاف الصلاة فإن وقوعهما في آوان الصلاة من اللوازم فأثر في إسقاط القضاء لدخول الواجب في حد التكرار لا محالة ولا يلزم عليه الجنون فإنه يسقط القضاء عند استغراق الشهر وإن كان وقوعه في وقت الصوم من النوادر أيضا لأن الجنون معدم للأهلية أصلا فكان القياس فيه أن يسقط وإن لم يستوعب إلا أنا تركناه بالاستحسان إذا لم يستوعب كما بينا فأما النفاس فلا يخل بالأهلية فلا يوجب سقوط القضاء فاقترفا كذا في بعض فوائد هذا الكتاب قوله وأما الموت فكذا الموت ضد الحياة لأنه أمر وجودي عند أهل السنة لقوله تعالى الذي خلق الموت والحياة ولهذا قيل تفسير الموت بزوال الحياة تفسير بلازمه لأنه لما كان ضد الحياة يلزم من وجوده زوال الحياة ولما كانت الحياة (٤/٤٣٤) من أسباب القدرة كان الموت موجبا للعجز لا محالة لفوات الشرط فلهذا قال إنه عجز كله أي ليس فيه جهة القدرة بوجه واحترز عن المرض والرق والصغر والجنون فإن العجز بهذه العوارض متحقق ولكنه ليس بخالص لبقاء نوع قدرة فيها للعبد بخلاف الموت مناف لأهلية أحكام الدنيا مما فيه تكليف لأن التكليف بأحكام الدنيا يعتمد القدرة فإذا تحقق العجز اللازم الذي لا يرجى زواله سقط التكليف بها في الدنيا ضرورة وهو الأداء عن اختيار هذا الغرض بالنسبة إلى المكلف من حيث الظاهر فأما بالنسبة إلى صاحب الشرع فالمقصود من التكليف تحقق الابتلاء ليظهر ما علم مع بقاء اختيار العبد فيكون مبتلى بين أن يفعله باختياره فيثاب به وبين أن يتركه باختياره فيعاقب عليه ولهذا أي ولفوت الغرض وهو الأداء عن اختيار قلنا إن الزكاة تبطل أي تسقط عن الميت في حكم الدنيا حتى لا يجب أداؤها من التركة خلافا للشافعي رحمه اللّه بناء على أن الفعل هو المقصود في حقوق اللّه تعالى عندنا وقد فات وعنده المال هو المقصود دون الفعل حتى لو ظفر الفقير بمال الزكاة كان له أن يأخذ مقدار الزكاة وسقط الزكاة به عنده كما في دين العباد وعندنا ليس له ولاية الأخذ ولا يسقط به الزكاة كما مر بيانه وكذلك أي ومثل حكم الزكاة حكم سائر القرب في السقوط وإنما يبقى عليه المأثم لا غير لأن الإثم من أحكام الآخرة وهو ملحق بالأحياء في تلك الأحكام قوله وأما القسم الثاني وهو الذي شرع عليه لحاجة غيره فلا يخلو من أن يكون متعلقا بالعين أو لم يكن فإن كان حقا متعلقا بالعين كالمرهون والمستأجر والمغصوب والمبيع الوديعة يبقى ببقائه أي ببقاء العين على تأويل المعين لأن فعل العبد في العين غير مقصود إذ المقصود في حقوق العباد هو المال والفعل تبع لتعلق حوائجهم بالأموال وإذا كان كذلك يبقى حق العبد في العين بعد موت من كانت العين في يده لحصول المقصود وإن فات الفعل منه وإن لم يكن متعلقا بالعين بل كان متعلقا بالذمة فلا يخلو من أن يكون وجوبه بطريق الصلة كالنفقة أو لم يكن كالديون الواجبة بالمعاوضة فإن كان (٤/٤٣٥) دينا لم يبق بمجرد الذمة حتى يضم إليه أي إلى الذمة على تأويل المذكور أو الضمير راجع إلى المجرد لأن الرق يرجى زواله غالبا يعني بالإعتاق لأنه أمر مندوب إليه وهذا أي الموت لا يرجى زواله غالبا وإن احتمل ذلك بطريق الكرامة كما كان في زمان عيسى وعزير عليهما السلام بطريق المعجزة فلما لم يحتمل ذمة العبد الدين بدون انضمام مالية الرقبة والكسب إليها لضعفها لا تحتمله ذمة الميت بالطريق الأول قوله ولهذا أي ولأن الذمة لا تحتمل الدين بنفسها قال أبو حنيفة رحمه اللّه إن الكفالة عن الميت المفلس لا تصح إذا لم يبق كفيل لأن الذمة لما خربت أو ضعفت بالموت بحيث لا يحتمل الدين بنفسها صار الدين كالساقط في أحكام الدنيا لفوات محله وإن بقي في أحكام الآخرة وذلك لأن الذمة ثابتة للإنسان بكونه مخاطبا متحملا أمانة اللّه عز وجل وبالموت خرج من أهلية الخطاب والتحمل لعدم صلاحه لهما فعرفنا أن ذمته لم تبق صالحة لوجوب الحقوق في أحكام الدنيا وإن بقيت في حق أحكام الآخرة لكون الميت معدا للحياة الآخرة كالجنين معدا للحياة الدنيا ألا ترى أنها لم تبق محلا لوجوب الحقوق فيها ابتداء بعد الموت وكما يشترط المحل لابتداء الالتزام يشترط لبقاء الحق لأن ما يرجع إلى المحل الابتداء والبقاء فيه سواء فثبت أن الدين لم تبق في أحكام الدنيا لعدم محله ويدل على سقوطه في أحكام الدنيا ما أشير إليه في الكتاب وهو أن ثبوت الدين أي وجوده يعرف بالمطالبة ولهذا فسر الدين بأنه وصف شرعي يظهر أثره في توجيه المطالبة وقد سقطت المطالبة هاهنا لاستحالة مطالبة الميت بالدين وعدم جواز مطالبة غيره إذ لم يبق مال يؤمر الوارث أو الوصي بالأداء منه ولا كفيل يطالب به والكفالة شرعت لالتزام المطالبة بما على الأصيل لا لالتزام أصل الدين بدليل بقاء الدين بعد الكفالة على الأصيل كما كان قبلها واستحالة حلول الشيء الواحد محلين في وقت واحد وقد عدمت المطالبة هاهنا فلا يصح التزام المطالبة بعد سقوطها ألا ترى أن هذا الدين في حكم المطالبة دون دين الكتابة إذ المكاتب يطالب بالمال وإن كان لا يحبس فيه وهناك لا تصح الكفالة لتأديها إلى أن يكون ما على الكفيل أزيد مما على الأصيل فهنا أولى أن لا يصح لأنها تؤدي إلى أن يلزم على الكفيل ما ليس على الأصيل أصلا بخلاف العبد المحجور يقر بالدين فتكفل عنه رجل صح هذا التكفل منه وإن لم يكن العبد مطالبا به لأن ذمة العبد في (٤/٤٣٦) حق نفسه كاملة لأنه حي عاقل بالغ مكلف فتكون محلا للدين والمطالبة ثابتة إذ يتصور أن يصدقه المولى فيطالب في الحال ويتصور أن يعتقه المولى فيطالب بعد العتق فلما تصورت المطالبة في الحال وفي ثاني الحال بقيت المطالبة مستحقة عليه فيصح التزامها بعقد الكفالة ثم إذا صحت الكفالة يؤخذ الكفيل به في الحال وإن كان الأصيل غير مطالب به لأن تأخر المطالبة عن الأصيل مع توجهها لعذر عدم في حق الكفيل كمن كفل بدين عن مفلس حي يؤاخذ به في الحال وإن لم يؤاخذ الأصيل به لأن العذر المؤخر وهو الإفلاس مختص بالأصيل بخلاف ما إذا كفل بدين مؤجل على الأصيل حيث لا يطالب به الكفيل قبل حلول الأجل لأن المطالبة قد سقطت عن الأصيل إلى انقضاء الأجل فلا يقدر الكفيل على التزامها حالة وقوله وإنما ضمت المالية إليها جواب عما يقال لما كملت ذمته في حقه ينبغي أن لا يجب ضم مالية الرقبة إليها لاحتمالها الدين كما في حق الحر فقال إنما ضمت مالية الرقبة إلى الذمة لأجل احتمال الدين في حق المولى ليمكن استيفاء الدين من المالية التي هي حق المولى إذا أظهر الدين في حقه لا لأن الذمة ليست بكاملة في حق العبد وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم اللّه تصح الكفالة عن الميت وإن لم يخلف مالا ولا كفيلا لأن الدين واجب عليه بعد موته إذ الموت لم يشرع مبرما للحقوق الواجبة عليه ولا مبطلا لها ألا ترى أنه لو أخلف كفيلا به ثم كفل به إنسان بعد موته صح ولو كان موته مفلسا يوجب سقوط الدين عنه لما صحت الكفالة بعد الموت وإن كان به كفيل لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل ألا ترى أن الميت أهل لوجوب الدين عليه ابتداء فإنه لو حفر بئرا في الطريق فتلف فيها مال أو إنسان بعد موته يجب الضمان عليه فلأن يبقى عليه الدين الواجب في حياته كان أولى فثبت أن الدين باق في الذمة بعد الموت وهو واجب التسليم والإيفاء موصوف بأنه مطالب حقا للمدعي ولهذا يطالب به في الآخرة بالإجماع ولو ظهر له مال يطالب به في الحال ولو تبرع أحد عن الميت بالأداء يثبت حق الاستيفاء وهو فوق المطالبة إذ الاستيفاء هو المطلوب منها فلما كان حق الاستيفاء باقيا علم أن المطالبة مملوكة أيضا لكنه عجز عن المطالبة لإفلاس الميت وعدم قدرته على الأداء كدرة لإنسان أسقطها آخر في البحر كانت مملوكة لصاحبها ولا يأخذها للعجز والعجز عن المطالبة لا يمنع صحة الكفالة كما لو كفل عن حي مفلس وكما لو كان (٤/٤٣٧) الدين مؤجلا قالوا وجميع ما ذكرنا مؤيد بما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتي بجنازة رجل من الأنصار فقال لأصحابه هل على صاحبكم دين فقالوا نعم درهمان أو ديناران فامتنع عن الصلاة عليه فقال علي وأبو قتادة رضي اللّه عنهما هما علي يا رسول اللّه فصلى عليه فلو لم تصح الكفالة لما صلى لأن المانع كان هو الدين ومتى لم تصح الكفالة لم يتغير حكمه فبقي مانعا والجواب عنه أنا لا نسلم أن هذا الدين مطالب به في أحكام الدنيا لأن ذلك العدم أي عدم المطالبة باعتبار معنى في المحل وهو ضعف الذمة أو خرابها فيكون الدين غير مطالب بنفسه لمعنى فيه وهو سقوطه لعدم المحل لا لعجز بالمعنى فينا كالذي ليس له على أحد دين لا يمكن له المطالبة بالدين لعدم الدين لا لعجز فيه عن المطالبة كذا هنا بخلاف الدرة الساقطة في البحر فإن العجز عن الأخذ لمعنى فينا لا لأنها غير ممكن الأخذ في نفسها وبخلاف الكفالة عن المفلس الحي فإن الذمة كاملة محتملة للدين بنفسها فيبقى الدين مستحق المطالبة كما كان إذ لا يستحيل مطالبة المفلس خصوصا عند أبي حنيفة رحمه اللّه لأن الإفلاس لا يتحقق عنده فتصح الكفالة وبخلاف الدين المؤجل لأن المطالبة فيه مستحقة على سبيل التأجيل فيصح التزامها بعقد الكفالة واستدلالهم بالحديث ليس بصحيح إذ ليس في الحديث أنه لم يكن هناك مال ويحتمل أنه قد كان وعرفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وليس فيه أيضا أن هذه كفالة صحيحة مبتدأة على وجه يبتنى عليه أحكام الكفالة من توجه المطالبة والملازمة والحبس والجبر على القضاء بل احتمل الإقرار واحتمل العدة وهي أقرب الوجوه لأن الكفالة لا تصح للغائب عند الأكثر ولا يصح للمجهول بلا خلاف وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم كما كان يتبين بالمال لأن الظاهر هو إمكان القضاء قبل الهلاك كذا في الأسرار قوله ولهذا أي ولأن سقوط الدين عن الميت وتعذر الإيجاب عليه لضرورة ضعف الذمة أو خرابها لذمة الميت المديون مضافا صفة مصدر محذوف أي لزوما مضافا إلى سبب صح في حياته بأن حفر بئرا في الطريق فتلف فيها إنسان أو مال بعد موته لزم ضمان النفس على عاقلته وضمان المال في ماله مع أنه لم يبق أهلا لوجوب الحقوق عليه لأن سبب الضمان لما وجد منه في حالة الحياة أمكن إسناد الوجوب إلى أول السبب (٤/٤٣٨) وقد كانت الذمة صالحة للوجوب في ذلك الوقت فوجب القول بالضمان لاندفاع الضرورة المانعة عن الإيجاب بإمكان إسناده إلى حال كمال الذمة ولهذا أي ولأن الذمة لا يحتمل الدين بنفسها ولكنها إذا تفوت بالمؤكد احتملته صح الضمان عن الميت إذا خلف مالا أو كفيلا لأنه ترك مالا فقد تفوت الذمة به لأنه محل الاستيفاء الذي هو المقصود من الوجوب وقد صار المال عونا للذمة في بعض المحال لتحمل الدين كما في العبد والمريض وإذا كان كذلك يبقى الدين ببقائه فتصبح الكفالة وكذا إذا خلف كفيلا لأن ذمة الكفيل لما انضمت إلى ذمة الأصيل في تحمل المطالبة تفوت ذمته بعد موته ببقاء ذمة الكفيل فيبقى الدين في ذمته فتصح الكفالة وقيل معناه ولأن السقوط لضرورة ضعف الذمة صح الضمان عن الميت إذا خلف مالا أو كفيلا لاندفاع الضرورة وذلك أنه إذا خلف مالا أمكن استيفاء الدين من المال ومطالبة الوصي به لتعلق حق الغريم بالمال في حال المرض ولما تعلق الدين بالمال حال قيام الذمة والمتعلق بالمال لا يكون إلا للاستيفاء بقي الدين بعد الموت لأن سقوطه لم يكن باعتبار براءة من عليه الحق أصلا بل لضرورة راجعة إلى المحل فيتقدر بقدرها فإذا وجد له محل بوجه يبقى والمال محل الاستيفاء فيبقى في حق الاستيفاء ولما بقي صحت الكفالة وإذا خلف كفيلا تحول الدين إلى ذمته بخراب ذمة الأصيل لأن الكفالة وإن كانت ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة لا في أصل الدين ولكنها ينعقد مجوزة لتحول الدين إلى ذمة الكفيل عند الضرورة كما إذا أدى الكفيل الدين أو وهب له يتحول الدين من ذمة الأصيل إلى ذمة الكفيل ضرورة صحة الأداء والهبة وقد دعت الضرورة هاهنا إلى التحول ليمكن إيفاء حكم الكفالة فوجب القول به فلذلك تصح الكفالة فالطريق الأول يقتضي أن يصح الكفالة عن الأصيل وعن الكفيل أيضا والطريق الثاني يوجب أن يصح عن الكفيل دون الأصيل إليه أشير في الطريقة البرغرية ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا قتل المفلس المديون عمدا فكفل بالدين الذي عليه إنسان صحت وإن لم يكن القصاص مالا لأنه بعرض أن يصير مالا بعفو بعض الشركاء أو بتمكن الشبهة فلتوهم توجه المطالبة في الدنيا بقضاء ذلك الدين يجعل الدين باقيا حكما فتصح الكفالة وأما المتبرع إذا أدى فإنما صح لأن الأداء يلاقي جانب صاحب الحق دون المديون حتى لو كان في حال حياته لم يصر المديون مؤديا بل يبرأ كما لو أبرأه رب الدين عنه والدين باق في حق صاحب الدين لأنه لم يخرج من أن يكون مستحقا بموت الآخر وحكم السقوط عن المديون لضرورة فوت المحل فيتقدر بقدر الضرورة فيظهر في حق من عليه دون من له كذا في الأسرار قوله وإن كان شرع عليه بطريق الصلة أي وإن كان ما وجب عليه لحاجة الغير (٤/٤٣٩) مشروعا عليه بطريق الصلة كنفقة المحارم والزكاة وصدقة الفطر ونحوها بطل بالموت أي سقط به لأن ضعف الذمة بالموت فوق ضعفها بالرق والرق يمنع وجوب الصلاة فالموت به أولى إلا أن يوصي فيصح من الثلث لأن الشرع جوز تصرفه في الثلث نظرا له ونفع الوصية راجع إليه فيجب تصحيحها نظرا له قوله وأما الذي أي الحكم الذي شرع للعبد وهو القسم الثالث فبناء على حاجته لأن مرافق البشر أي ما يرتفقون به من المشروعات إنما شرعت لحاجتهم لأن العبودية لازمة للبشر فإنها صفة تثبت فيهم لكونهم مخلوقين محدثين بخلق اللّه عز وجل وبإحداثه ولا يتصور زوال هذه الصفة عنهم والعبودية مستلزمة للحاجة لأنها تنبئ عن العجز والافتقار فشرعت لهم من المرافق ما تندفع به حوائجهم والموت لا ينافي الحاجة لأنها تنشأ عن العجز الذي هو دليل النقصان ولهذا قيل الحاجة نقص يرتفع بالمطلوب وينجبر به ولا عجز فوق الموت فعرفنا أن الموت لا ينافي الحاجة وإذا كان كذلك يبقى له أي للميت مما كان مشروعا له لحاجته ما يقتضى به الحاجة ولذلك أي ولأن بقاء التركة على ملكه للحاجة قدم جهازه ثم ديونه لأن الحاجة إلى التجهيز أقوى منها إلى قضاء الدين فوجب تقديم التجهيز على قضاء الدين ألا ترى أن في حال الحياة لباسه مقدم على حق الغرماء حتى لم يكن لهم أن ينزعوا ثيابه لمساس حاجته إليها فكذا بعد الممات وإنما يقدم التجهيز على الدين إذا لم يكن حق الغير متعلقا بالعين فأما إذا كان متعلقا بها كما في المستأجر والمرهون والمشترى قبل القبض والعبد الجاني ونحوها فصاحب الحق أحق بالعين وأولى بها من صرفها إلى التجهيز لتعلق حقه بالعين تعلقا مؤكدا ولذلك أي ولبقاء الحاجة صحت وصاياه كلها إذا لم تجاوز الثلث لأن الشرع لما نظر له وقطع حق الوارث عن الثلث لحاجته إلى تدارك ما فرط في حياته صحت وصاياه واقعة أي منفذة بأن أوصى بنفسه بشيء أو تبرع في حال مرضه بشيء أو أعتق عبدا أو دبره أو ما أشبه ذلك ومفوضه أي إلى الورثة بأن أوصى بإعتاق عبد بعد موته أو ببناء مسجد أو رباط من ثلث ماله ونحوها ولذلك أي ولبقاء ما ينقضي به حاجته بقيت الكتابة بعد موت المولى بلا خلاف لأن صحة الكتابة باعتبار مالكيته ليصير معتقا ويحصل له البدل مع ذلك بمقابلة فوات ملك الرقبة وحاجته إلى الأمرين بعد الموت باقية لأنه يحتاج إلى حصول الإعتاق منه (٤/٤٤٠) بعد الموت ليحصل الولاء له وليتخلص به من العذاب على ما قال عليه السلام أيما مسلم أعتق مؤمنا أعتق اللّه تعالى بكل عضو منه عضوا من النار ويحتاج إلى حصول بدل الكتابة على ملكه ليستوفى منه ديونه فيتخلص به من العذاب أيضا فلذلك تبقى الكتابة بعد موته قوله ولذلك أي وللاحتياج إلى بقاء الكتابة بقيت الكتابة عندنا بعد موت المكاتب عن وفاء فتؤدي كتابته ويحكم بحريته في آخر أجزاء حياته حتى يكون ما بقي ميراثا لورثته وهو مذهب علي وابن مسعود رضي اللّه عنهما وقال زيد بن ثابت رضي اللّه عنه ينفسخ الكتابة بموته والمال كله للمولى وبه أخذ الشافعي رحمه اللّه لأن المعقود عليه هو الرقبة إذ العقد يضاف إليها وعن فساد العقد يرجع إلى قيمتها كما يرجع إلى قيمة المبيع عند فساد العقد وقد فات بموته قبل سلامته له فيوجب انفساخ العقد كما لو مات عاجزا وكما لو هلك المبيع قبل القبض ولأنه لو بقي إنما يبقى ليعتق المكاتب بوصول البدل إلى المولى إذا المقصود من العقد في جانبه تحصيل الحرية والميت ليس بمحل للعتق ابتداء لما في العتق من إحداث قوة المالكية وذلك لا يتصور في الميت ولأن الرق من شرطه والميت لا يوصف بالرق ولا يجوز أن يستند العتق إلى حال حياته لأن المتعلق بالشرط لا يسبق الشرط وفي إسناده إلى حال حياته إثبات العتق قبل وجود الشرط وهو الأداء وهذا بخلاف ما إذا مات المولى لأن بعد موت المولى أمكن القول ببقاء الكتابة لأن محل العقد قائم قابل للعتق والمولى إنما يصير معتقا عند أداء البدل بالكلام السابق وذلك قد صح ولزم في حال الحياة فموته لا يبطل الكتابة فأما العبد فمحل العتق وإنما يحتاج إلى محلية التصرف حال نفوذه وثبوت حكمه وقد بطلت المحلية فيبطل الحكم يوضح ما ذكرنا أن الصحيح إذا علق طلاق امرأته بشرط ثم جن أو أغمي عليه فوجد الشرط يقع الطلاق وإن لم يكن المجنون أو المغمى عليه أهلا للإيقاع عند وجود الشرط ولو أبانها وانقضت عدتها ثم وجد الشرط لا يقع الطلاق لأنها لم تبق محلا للطلاق ولو أوصى بعتق عبده أو قال لعبده أنت حر بعد موتي كان صحيحا ولو قال بعد موتك كان لغوا فعرفنا أن الفرق ثابت بين موت المولى وبين موت المكاتب ونحن نقول المكاتبة عقد معاوضة وتمليك على سبيل الاستحقاق واللزوم فإن المكاتب ملك بها يده وتصرفه من حيث الاكتساب ومكاسبه من حيث اليد والتصرف أيضا على سبيل اللزوم وهو معنى قوله المكاتب مالك بحكم عقد الكتابة والمولى ملك في مقابلته مال الكتابة من حيث يطالبه بذلك ويحبسه عليه وإن لم يملك أصل المال وثبت للمكاتب بما ملك حق أن يؤدي (٤/٤٤١) الكتابة من ملكه فيحرز به نفسه وحريته كما يثبت للمالك حق أن يقبض فيتمم ملكه في أصل المال فهذا يتمم ملكه بالقبض في رقبة المال والمكاتب يتم إحراز نفسه بالأداء من ملكه لكل أحد حق قبل صاحبه بالعقد بحق المالكية الثابتة بهذا العقد وتبين أن مالكية المكاتب تثبت لحاجته إلى إحراز نفسه وصيرورته معتقا بواسطة هذه المالكية كما أن مالكية المولى الثابتة بهذا العقد شرعت لحاجته إلى ملك البدل وصيرورته معتقا بواسطته وإحرازه الولاء الذي صار المعتق به بمنزل الولد وهي أي حاجة المكاتب إلى الحرية أقوى الحوائج لأن الحرية رأس مال الحي في أحكام الدنيا إذ الرقيق في حكم الأموات لأن الرق أثر الكفر الذي هو موت حكما ويدخل بالعتق في أحكام الأحياء والدليل على كونها أقوى الحوائج أنه ندب في هذا العقد إلى حط بعض البدل بقوله عز ذكره وآتوهم من مال اللّه الذي آتاكم ليكون أقرب إلى حصول المقصود وهو العتق ثم ما ثبت من المالكية للمولى يبقى بعد موته لحاجته إلى ملك البدل ونسبة الولاء إليه بصيرورته معتقا فلأن ما ثبت للمكاتب من المالكية بعد موته لحاجته إلى حصول الحرية كان أولى لأن حاجته إلى تحصيل الحرية فوق حاجة مولاه إلى الولاء و قوله وأما المملوكية فتابعة في الباب جواب عما يقال لو قلتم ببقاء ملكية المكاتب لزم القول ببقاء مملوكيته إذ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولا يمكن القول ببقاء مملوكيته بعد الموت لأن إبقاء المالكية لمعنى الكرامة ولا كرامة في إبقاء المملوكية لأنها تنبئ عن الذل والهوان وإذا لم تبق المملوكية لا يتصور أن يصير معتقا بعد موته فنفسخ الكتابة فقال بقاء المملوكية يكون تبعا لبقاء المالكية لا مقصودا بنفسه وبيانه أنا قد احتجنا إلى بقاء المالكية ولا يمكن ذلك إلا ببقاء المملوكية ومحلية التصرف إلى وقت الأداء فيبقى المملوكية شرطا لتحقيق المالكية وليست هي بمقصودة بالبقاء إنما المالكية هي المقصودة استدلالا بجانب المولى لكن من شرط بقائها بقاء المملوكية ليمكن إبدال العتق فيها فتحقق المالكية والشروط اتباع فبقيناها تبعا يوضحه أن المكاتب يبقى بعد الموت مالكا من وجه لا من كل وجه لأنه في حال الحياة كذلك ومن ضرورة بقائه مالكا من وجه أن يبقى معه مملوكية من وجه إذ لو لم يبق مملوكا من وجه لصار مالكا من كل وجه ولم يكن في حال الحياة كذلك ولما ثبت أن المملوكية باقية من وجه حكمنا بنفوذ العتق لوجود شرطه وتقررت به مالكيته التي استفادها بالعقد وإذا ثبت استندت إلى آخر أجزاء حياته لأن الإرث ثبت من وقت الموت فلا بد من إسناد المالكية والعتق المقرر لها (٤/٤٤٢) إلى وقت الموت كما في جانب المولى ثبت ملك البدل عند القبض واستند ملكه إلى حال حياته فكذلك هاهنا كذا في الطريقة البرغرية ومن أصحابنا من حكم بقاء المملوكية قصدا فقال لما جاز أن تبقى مالكية المولى بعد موته ليصير معتقا جاز أن تبقى مملوكية المكاتب بعد موته ليصير حرا لأن المملوكية التي هي تنبئ عن الضعف أليق بحال الميت من المالكية التي هي ضرب قوة والدليل على جواز بقاء المملوكية بعد موته لحاجته أن كفن العبد بعد موته على مولاه ولا سبب لاستحقاقه عليه سوى المملوكية ومنهم من يقول لا نحكم ببقاء المملوكية ولا نجعله حرا بعد الموت ولكنا نسند حريته إلى حال حياته لأن بدل الكتابة كان في ذمته والدين يتحول من الذمة إلى التركة لأن الذمة لا تبقى محلا صالحا للدين بعد الموت ولهذا حل الأجل بالموت فإذا تحول بدل الكتابة إلى التركة فرغت الذمة منه وفراغ ذمة المكاتب يوجب حرمته إلا أنه لا نجوز الحكم بحريته ما لم يصل المال إلى المولى فإذا وصل المال إليه حكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته ومنهم من يقول لا حاجة إلى إبقاء المملوكية فإن حكمنا بحريته بعد الموت ثم أسندناها إلى حال الحياة لأن المقصود من إبقاء حرية أولاده وسلامة أكسابه لا حريته قصدا والولد قائم قابل للعتق والكسب قابل للملك ولكن الشرط نفوذ العتق في المكاتب فيثبت عتقه شرطا لا مقصودا فلا يراعى فيه كون المحل قابلا لهذا الحكم كما أن الملك في المغلوب لما ثبت شرطا لملك البدل لا مقصودا بنفسه ثبت عنه إذ البدل مستندا إلى وقت الغصب وإن كان المغصوب مالكا وآبقا وقت الأداء ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا قتل المكاتب خطأ وقد ترك وفاء بمكاتبته حيث يضمن القاتل قيمته لا ديته ولو حكم بموته حرا لكان المضمون ديته لأنا أسندنا حريته إلى آخر أجزاء حياته والجرح وجد قبله ومن جرح مكاتبا ثم عتق ثم توى يضمن قيمته لا ديته لأن الوجوب مضاف إلى الجرح وهو عبد في تلك الحالة ولا يلزم أيضا ما إذا أوصى إلى رجل أو لرجل بشيء لا يجوز إيصاؤه ووصيته وكذا لو قذفه إنسان بعد موته عن وفاء وأداء بدل كتابته لا يحد ولو حكم بحريته في حال حياته لجاز إيصاؤه ولحد قاذفه لأنا قد بينا أن إسناد حريته في حكم الكتابة للضرورة فلا يظهر فيما لا ضرورة فيه ولأن الحرية الثابتة بالإسناد ثابتة من وجه دون وجه فلا يثبت بها الإحصان والحد لا يجب بقذف غير المحصن فأما الحرية فيثبت مع الشبهة وكذا الميراث فلا يمنع للإسناد بثبوتها قوله ولهذا أي ولأنه تبقى بعد الموت ما ينقضي به حاجة الميت وجبت المواريث أي ثبتت بطريق الخلافة عن الميت لأن حاجته إلى من يخلفه في أمواله بعد (٤/٤٤٣) موته وخروجه عن أهلية الملك باقية فأقام الشرع أقرب الناس إليه مقامه ليكون انتفاعه بملك الميت بمنزلة انتفاعه بنفسه فيكون نظرا من هذا الوجه ولكن من حيث إن حقيقة الانتفاع لا يحصل له وفي الانتفاع الحكمي وهو حصول الثواب له الوارث والأجنبي سواء لا يكون فيه زيادة نظر فكان نظرا له من وجه فهذا معنى قوله نظرا له من وجه بخلاف تعلق الغريم بماله وأيضا دينه فإن نفعه راجع إليه لأن الدين حائل بينه وبين الجنة فكان إيفاؤه سببا بوصوله إلى الجنة وخلاصه من العذاب فكان نظرا له من كل وجه وقوله دينا متعلق بالنسب والسبب جميعا ودينا كمولى العتاقة والموالاة والزوج والزوجة أو دينا بلا نسب وسبب كعامة المسلمين فإن من مات ولا وارث له يوضع ماله في بيت المال الذي أعد لحوائج المسلمين قوله ولهذا أي ولأن الموت من أسباب الخلافة لما بينا أن المواريث تجب بهذا الطريق صار التعليق بالموت أي تعليق الإيجاب به سواء كان إسقاطا بأن قال إذا مت فأنت حر أو تمليكا بأن أوصى بشيء من ماله والمراد من التعليق الإضافة يخالف سائر وجوه التعليق حتى صح تعليق التمليك به إذ معنى الوصية بالمال هو التعليق ولم يصح بسائر الشروط ولزم تعليق العتق به بحيث لم يجز إبطاله بالبيع عندنا ولم يلزم تعليقه بسائر الشروط بهذه المثابة حتى جاز إبطاله بالبيع وكذا التعليق بالموت لا يمنع انعقاد السبب في الحال كشرط الخيار في البيع بخلاف سائر التعليقات وحاصل هذا الفصل أن بيع المدبر المطلق وهو الذي علق عتقه بمطلق موت المولى بأن قال لعبده إذا مت فأنت حر أو أنت حر عن دبر مني أو دبرتك لا يجوز عندنا وعند الشافعي يجوز واتفقوا على أن بيع المدبر المقيد بأن قال المولى إن مت من مرضي هذا وإن قدم غائبي أو إن شفى اللّه مريضي فأنت حر بعد موتي يجوز احتج الشافعي رحمه اللّه بأن التدبير وصية لأنه إيجاب مضاف إلى ما بعد الموت ولهذا يعتبر من الثلث ولو كان إيجابا للحال لما اعتبر من الثلث والوصية لا تمنع التصرف كما إذا أوصى به لرجل ولا يقال هذه وصية لازمة لأنها تعليق عتق بشرط لأنا نقول اللزوم من هذا الوجه لا يمنع التصرف في أن بيع العبد المحلوف بعتق جائز سواء علق عتقه بشرط كائن كمجيء غد أو بشرط فيه خطر كدخول الدار ونحن نقول هذا شخص تعلق عتقه بمطلق موت المولى فوجب أن لا يجوز بيعه كما في أم الولد وتحقيقه ما أشير إليه في الكتاب أن الموت من أسباب الخلافة لما بينا في المواريث (٤/٤٤٤) فيصير التعليق أي تعليق الإيجاب إسقاطا كان أو تمليكا بالموت وهو أمر كائن بيقين إيجاب حق لمن وقع له الإيجاب في الحال بطريق الخلافة عن الميت وقوله وهو كائن بيقين لبيان تحقيق الخلافة فإن الموت لما كان كائنا لا محالة كان التعليق به إثبات الخلافة بلا شك قال القاضي الإمام أبو زيد والإمام فخر الدين البرغري رحمهما اللّه إن الإيصاء إثبات عقد الخلافة في ملكه للموصى له مقدما على الوارث فاعتبر للحال سببا لإثبات الخلافة كالنسب والولاء وذلك لأن حال الموت حال زوال الملك وتعليق الإيجاب إسقاطا كان أو تمليكا بحال زوال الملك لا يصح فعلم أن السبب يكون منعقدا حال بقاء الملك والحق ثابت لكن على سبيل التأجيل ألا ترى أن الخلافة يعني الخلافة الثابتة بالشرع إذا ثبت سببها وهو مرض الموت ثبت بذلك السبب حق للخليفة وهو الوارث يصير المريض بثبوت ذلك الحق له محجورا عن التصرف الذي يبطل ذلك الحق فكذلك إذا ثبت سبب الخلافة بالنص أي بتنصيص الأصل بأن قال أوصيت لفلان بكذا أو قال لعبده أنت حر بعد موتي أو إذا مت فأنت حر يثبت للموصى له وللعبد بهذا السبب حق في الموصى به وفي الرقبة في الحال على وجه يصير الموصى محجورا عن إبطاله إذا كان لازما وصار المال من ثمراته أي ثمرات ثبوت سبب الخلافة يعني به أن الإيصاء إثبات للخلافة والملك يثبت حكما لثبوت سبب الخلافة لا أن يكون الإيصاء تصرفا في المال قصدا فإنه لو قال أوصيت لفلان بثلث مالي ولا مال له يصح حتى لو حدث له مال ثم مات كان ثلثه للموصى له ولو كان تمليكا للمال قصدا كان قيام المال شرطا وبدليل أن الملك يثبت للموصى له بموت الموصي من غير قبول كما يثبت في المواريث ويمتنع بالدين كما يمتنع به ملك وارث فثبت أن الإيصاء إيجاب سبب الخلافة للحال ويثبت حكمه عند الموت ولما كان سببا للحال يثبت للموصى له حق في الحال يصير حقيقة عند الموت كما في حق الوارث فينظر من بعد أي من بعد ثبوت الحق بثبوت سبب الخلافة فإن كان الحق غير لازم بأصله كما في الوصية بالمال كان للموصي ولاية إبطاله بالبيع والهبة والرجوع ونحوها لأن سبب الخلافة وإن كان منعقدا لكن الحق الثابت به وهو حق الملك غير لازم فلم يلزم سببه أيضا قال القاضي الإمام رحمه اللّه الخلافة في المال لا تلزم لأنها خلافة تبرع بالمال ولو وهب ونجز الإيجاب لم يلزم ما لم يسلم ويقع الملك فهذا أولى وإن كان الحق لازما بأصله مثل حق العتق بالتدبير منع هذا الحق الاعتراض عليه من المولى بما (٤/٤٤٥) يبطله للزوم هذا الحق في نفسه لأن العتق لازم لا يحتمل النقض فحق العتق الثابت بناء على ثبوت السبب لا يحتمله أيضا كما في أم الولد وللزم في سببه وهو معنى التعليق فإن تعليق العتق سائر الشروط لازم لا يحتمل النقض لكونه يمينا فتعليقه بالموت الذي هو كائن لا محالة وسبب للخلافة أولى باللزوم وإنما قال معنى التعليق لأن قوله أنت حر بعد موتي إضافة وليس بتعليق صورة ولكن فيه معنى التعليق باعتبار تأخر الحكم عن زمان الإيجاب فلذالك أي للزوم حق العتق من الوجهين بطل بيع المدبر قال شمس الأئمة رحمه اللّه هذا السبب يعني التدبير تقوى من وجهين أحدهما أن المتعلق مما لا يحتمل الإبطال والثاني أن التعليق بما هو كائن لا محالة وهو موجب للخلافة فلهذه القوة لا يحتمل الإبطال والفسخ بالرجوع عنه ويجب للمدبر به حق الحرية في الحال على وجه يمتنع بيعه ويثبت استحقاق الولاء للمولى على وجه لا يجوز إبطاله بخلاف التعليق بسائر الشروط فإن دخول الدار ونحوه ليس بكائن لا محالة والتدبير المقيد ليس بكائن لا محالة والتعليق بمجيء رأس الشهر ليس بسبب للخلافة والوصية برقبة العبد لغيره تمليك يحتمل الإبطال بعد ثبوته وإلى هذا المعنى أشار القاضي الإمام رحمه اللّه أيضا فقال التدبير عتق مضاف إلى وقت فيلزم كالإضافة إلى غد وإنما أضيف إلى الموت الذي هو سبب الخلافة فيعتبر سببا في الحال لاستحقاق العتق بعد الموت كالنسب فيصير حكمه مأخوذا من أصلين لا من أصل واحد كقول الرجل لآخر أعتق عبدي إن شئت فإنه يلزم ويقتضي الجواب في المجلس بخلاف التوكيل وبخلاف اليمين لأنه من حيث إنه تعليق بشرط المشيئة يمين بالعتق فيلزم ومن حيث إنه مفوض إلى مشيئته تمليك إذ المالك هو الذي يفعل إن شاء وإن شاء يترك فيقتضي الجواب في المجلس كما لو قال أمر عبدي بيدك فيؤخذ حكمه من أصلين لا من أصل واحد فتبين بهذا أنه لا بد من الأمرين المذكورين في الكتاب للتفصي عن عهدة ما يرد سؤالا على هذا الأصل وصار ذلك أي المدبر في عدم جواز البيع لاستحقاق حق العتق كأم الولد فإنها استحقت بسبب الاستيلاد شيئين حق العتق للحال لما بينا ممن تعلق العتق بالموت الذي هو أمر كائن وهذا بالاتفاق وسقوط التقويم عند أبي حنيفة رحمه اللّه حتى لا تضمن بالغصب ولا بإعتاق أحد الشريكين نصيبه منها عنده وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه هي متقومة لأن الثابت حق العتق وذلك مؤثر في امتناع البيع دون سقوط التقوم كما في المدبرة إلا أن المدبرة تسعى للغرماء (٤/٤٤٦) والورثة وأم الولد لا تسعى لهم لأنها مصروفة إلى حاجته الأصلية وحاجته مقدمة على حق الغرماء والورثة كحاجته إلى الجهاز والكفن أما التدبير فليس من أصول حوائجه فيعتبر من الثلث وأبو حنيفة رحمه اللّه يقول إن التقوم يثبت بالإحراز فإن الصيد قبل الإحراز لا يكون متقوما وبعده يصير متقوما وقد ذهب الإحراز هاهنا لأن الأمة في الأصل أي الأصل في الأمة أنها تحرز لماليتها والمتعة منها تابعة ولهذا صح شراء أخته من الرضاع وشراء الأمة المجوسية وشراء الأختين وإن لم يوجد فيهن المتعة فإذا صارت فراشا بالاستيلاد صارت محصنة محرزة للمتعة كالمنكوحة وصارت المالية منها تابعة وذلك لأنه لم يوجد في الشرع صورة يكون الإحراز للأمرين مقصودا فإذا ثبت الإحراز للفراش مقصودا لم يبق الإحراز للمالية مقصودا فصار الإحراز عدما في حكم المالية فلذلك أي لعدم الإحراز ذهب التقوم وقد ينفصل ملك المتعة عن ملك المالية كما في المنكوحة فيجوز أن تبقى المتعة وتذهب المالية فتعدى الحكم الأول وهو ثبوت حق العتق في الحال على وجه يمنع من البيع إلى المدبر لوجود معناه وهو تعلق العتق بالموت الذي هو كائن لا محالة دون الثاني وهو سقوط التقوم لعدم ما يوجبه وهو الإحراز للمتعة ولهذا فارقت المدبرة أم الولد في أنها لا تسعى للورثة والغرماء وتسعى المدبرة لهم لأن صفة المالية والتقوم لما لم تبق في أم الولد لا يتعلق بها حق الغرماء والورثة فلا تسعى لهم بل تعتق من كل المال والمدبرة لما أحرزت للمالية لا للمتعة تقومت في حق الغرماء والورثة فيتعلق بها حقهم فلذلك وجب عليها السعاية لهم قوله ولهذا أي ولأن المالكية تبقى بعد الموت بقدر ما ينقضي به حاجة الميت قلنا إن المرأة تغسل زوجها بعد الموت في عدتها لأن النكاح في حكم القائم للحاجة ما لم ينقض العدة لأن ملك النكاح لا يحتمل التحول إلى الورثة فبقي موقوفا على الزوال بانقضاء العدة كما بعد الطلاق الرجعي ولو ارتفع النكاح بالموت فقد ارتفع إلى خلف وهو العدة وهي حق النكاح فتقوم مقام حقيقته في إبقاء حل المس والنظر كيف وقد قالت عائشة رضي اللّه عنها لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا (٤/٤٤٧) نساؤه تعني لو علمنا أن الرسول عليه السلام يغسل بعد الوفاة لما غسله إلا نساؤه وقد أوصى أبو بكر رضي اللّه عنه إلى امرأته أسماء أن تغسله وكذا أبو موسى الأشعري رضي اللّه عنه بخلاف المرأة إذا ماتت لم يكن لزوجها أن يغسلها وقال الشافعي رحمه اللّه له ذلك لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لعائشة رضي اللّه عنها لو مت غسلتك وكفنتك وصليت عليك وقد غسل علي فاطمة رضي اللّه عنها بعد موتها ولأن الملك جعل كالقائم في حق الرجل لحاجته إلى الغسل فجعل كذلك في حقها أيضا لأن ملك الحل مشترك بينهما ولنا أن النكاح بموتها ارتفع بجميع علائقه فلا يبقى حل المس والنظر كما لو طلقها قبل الدخول بها وذلك لأن المرأة مملوكة في النكاح وقد بطلت أهلية المملوكية بالموت فلا تبقى أي المملوكية حقا للمرأة لأن ذلك أي المملوكية حق عليها فلا يمكن إبقاؤها حكما بعد فوات المحل بالموت لعدم الحاجة إلى إبقائها نظرا إلى الأصل لأنها لم تشرع لحاجة المملوك إليها بخلاف المالكية فإنها شرعت للحاجة فيجوز أن يحكم ببقائها بعد الموت عند بقاء محل الملك للحاجة ثم استوضح انقطاع النكاح في جانبها بالكلية بقوله ألا ترى أنه لا عدة على الزوج بعد موت المرأة حتى حل له التزوج بأختها وأربع سواها من غير تراخ ولو بقي بعد موتها ضرب من الملك لوجبت مراعاته بالعدة لأن ملك النكاح ثبوتا لم يشرع غير مؤكد حتى تأكد بالحجة أي الشاهد والمال أي المهر والمحرمية أي حرمة المصاهرة فكذا في حال الزوال بالموت وجب مراعاة حقه بالعدة لأن النكاح إذا تأكد لا يمكن قطعه بمرة بل تجب العدة ليستحق الانقطاع بمضيها فيصير حق الزوج مؤدى بالبقاء على ملكه مدة ويعود حق المرأة في نفسها إليها وهاهنا لم يجب العدة أصلا فعلم أن في جانبها لم يوجد شيء من الملك ومعنى قوله عليه السلام غسلتك قمت بأسباب غسلك وقد روي أن أم أيمن غسلت فاطمة رضي اللّه عنهما ولو ثبت أن عليا غسلها فذلك لادعائه الخصوصية به حيث قال لابن مسعود رضي اللّه عنه حين أنكر عليه ذلك أما علمت أن رسول اللّه عليه السلام قال فاطمة زوجتك في الدنيا والآخرة (٤/٤٤٨) قوله وأما الذي لا يصلح لحاجته أي الميت وهو رابع الأقسام الأربعة فالقصاص لأنه شرع لدرك الثأر ولتشفي الصدور ولإبقاء الحياة على الأولياء بدفع شر القاتل والميت لم يبق أهلا لهذه الأشياء ولا حاجة له إليها وقد وجب القصاص عند انقضاء حياة المقتول وعند انقضاء حياته لا يجب له أي لا يثبت له إلا ما يصلح لقضاء حوائجه من تجهيزه وتكفينه وقضاء ديونه وتنفيذ وصاياه والقصاص لا يصلح لهذه الحوائج أصلا وقد وقعت الجناية على حق أولياء الميت من وجه لانتفاعهم بحياته فإنهم كانوا يستأنسون به وينتصرون به على الأعداء وينتفعون بماله عند الحاجة فأوجبنا القصاص للورثة ابتداء يعني لا يثبت للميت أولا ثم ينتقل إليهم بحيث تجري فيه سهام الورثة كما ينتقل سائر الحقوق بل يثبت لهم ابتداء لحصول منفعة التشفي لهم دون الميت ولوقوع الجناية على حقهم من وجه والسبب انعقد للميت لأن المتلف نفسه وحياته وقد كان منتفعا بحياته أكثر من انتفاع أوليائه بها فكانت الجناية واقعة على حقه فينبغي أن يجب القصاص له من هذا الوجه لكنه لما خرج عند ثبوت الحكم عن أهلية الوجوب له وجب ابتداء الولي لقائم مقامه على سبيل الخلافة كما ثبت الملك للمولى في كسب عبده المأذون ابتداء على سبيل الخلافة عن العبد وكما ثبت الملك للموكل ابتداء عند تصرف الوكيل بالشراء خلافة عن الوكيل ويؤيده قوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا بين أن ابتداء ثبوت القصاص للولي القائم مقام المقتول كذا في المبسوط وغيره قوله ولهذا أي ولما ذكرنا من الوجهين صح عفو الوارث عنه أي عن القصاص أو عن القاتل قبل موت المجروح استحسانا والقياس أن لا يصح لأن حقه إنما يثبت بعد موت المورث فعفوه قبل موت المجروح يكون إسقاطا للحق قبل ثبوته فيكون باطلا كما لو أبرأ الوارث من عليه دين لمورثه قبل موته وصح عفو المجروح استحسانا أيضا والقياس أن لا يصح لأن القصاص إنما يجب بعد الموت للوارث لا للمورث لما بينا أن الوارث هو المنتفع به دون المورث فيكون المورث بعفوه مسقطا حق الغير ومسقطا للحق قبل وجوبه أيضا وكلاهما باطل وجه الاستحسان أن السبب يجعل قائما مقام حقيقة وجوب الحق في صحة العفو ثم باعتبار نفس الواجب الحق للوارث لما قلنا إن القصاص في النفس لا يجب (٤/٤٤٩) إلا بعد الموت والمورث بعد الموت ليس بأهل أن يجب هذا الحق له فيجب للوارث وباعتبار أصل السبب الحق للمورث لأن السبب جناية على حقه وبعد وجود هذا السبب هو من أهل أن يجب له الحق فصححنا عفو الوارث استحسانا مراعاة للواجب وصححنا عفو المورث أيضا استحسانا مراعاة للسبب وهذا لأن العفو مندوب إليه قال اللّه تعالى فمن تصدق به فهو كفارة له ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور فيجب تصحيحه بقدر الإمكان قوله ولهذا قال أبو حنيفة أي ولأن القصاص يجب بعد انقضاء الحياة قال أبو حنيفة رحمه اللّه إن القصاص غير مورث يعني لا يثبت على وجه يجري فيه سهام الورثة بل يثبت ابتداء للورثة لما قلنا الغرض من درك الثأر أي الحقد يقال أدرك ثأره إذا قتل قاتل حميمه وإن تسلم أي وسلامة حياة أولياء المقتول وعشائره كما قال تعالى ولكم في القصاص حياة وذلك أي الغرض المذكور يرجع إلى الورثة لا إلى الميت فعرفنا أنه لا يثبت على سبيل الإرث بل يثبت لهم ابتداء وقوله لكن القصاص واحد جواب عما يقال لما كان وجوب القصاص لدرك خمر وسلامة الحياة للأولياء كان ينبغي أن لا يملك البعض استيفاء القصاص بدون حضور الباقين فأجاب بقوله لكن القصاص إلى آخره كذا قيل والأولى أن يقال لما بين أنه يثبت للورثة ابتداء شرع في بيان أنه يثبت لكل واحد على الكمال لا أنه يثبت قصاص واحد للجميع كما قال الخصوم فقال لكن القصاص واحد يعني في جانب المحل وهو القاتل بلا خلاف لأنه لم يباشر إلا قتلا واحدا فلا يجب عليه الإجزاء واحدا ولا حاجة لصحة الوجوب إلى إثبات التعدد حكما وكل واحد كأنه يملك وحده يعني في جانب المستحقين هو في حكم المتعدد لأن الإيجاب لهم لم يستقم إلا بهذا الطريق ذلك لأن القصاص لا يحتمل التجزيء إذ لا يمكن إزالة الحياة عن بعض المحل دون البعض وقد ثبت بسبب لا يحتمل التجزيء وهو القتل وقد تعذر إيجاب البعض ابتداء بالإجماع فأما إن تكامل في حق كل واحد منهم أو يبطل لتعذر إثباته متجزئا ولم يبطل بالإجماع فثبت أنه تكامل في حق كل واحد كأن ليس معه غيره بمنزلة ولاية النكاح فإنها تثبت لكل واحد من الأولياء كأن ليس معه غيره وهذا ليس بإيجاب زيادة في حق القاتل لأن هذا التعدد لا يظهر في حقه بوجه وإذا كان (٤/٤٥٠) كذلك ملك كل واحد منهم الاستيفاء بانفراده لأنه لا زيادة في حق من عليه القصاص فإذا عفا أحدهم أو استوفاه سقط القصاص أصلا لأن في صورة الاستيفاء قد فات المحل فيستحيل بقاؤه بدون المحل وفي صورة العفو لو بقينا القصاص للباقين بعد عفو أحدهم كان من ضرورته تعدد القصاص الواجب في المحل وهو غير متعدد في المحل بالإجماع وقبل العفو لو قلنا كل واحد منهم يكون متمكنا من الاستيفاء لا يكون ممن ضرورته تعدد القصاص كذا في المبسوط ثم القصاص وإن بطل في الصورتين لكن المال يجب في صورة العفو للباقين ولا يجب شيء في صورة الاستيفاء للباقين ولا للقاتل الذي وجب القصاص عليه بناء على أن تعذر القصاص إن كان من جانب من عليه القصاص يجب المال لأن القتل حينئذ يصير في معنى الخطأ فيوجب المال وإن كان من جانب من له القصاص لا يجب شيء لأن الامتناع من جهته فالتعذر في مسألة العفو من جانب من عليه القصاص إذ الامتناع لمرعاة الحرمة لبعض نفسه فإن بعض نفسه قد حبي بالعفو فصار في معنى الخطأ فيجب المال لغير العافي ولا يجب شيء لأن تعذر الاستيفاء في حقه كان بإسقاطه والتعذر في مسألة الاستيفاء من جانب من له القصاص لأنه لا يقدر على الاستيفاء بعد فوات المحل بالقتل كما لا يقدر عليه بعد فواته بالموت فلذلك لا يجب شيء قوله وملك الكبير استيفاءه إذا كان سائرهم صغارا في قول أبي حنيفة رحمه اللّه وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي وابن أبي ليلى رحمهم اللّه لم يملك ذلك بل يتوقف حتى يكبروا لأن القصاص حق مشترك بين الورثة فلا ينفرد أحدهم باستيفائه كالدية وكالعبد المشترك بين اثنين إذا قتل لا ينفرد أحدهما بالاستيفاء وكالورثة إذا كان فيهم كبير غائب وهذا لأن الواجب قصاص واحد لأن المقتول نفس واحدة ويكون ذلك واجبا للمقتول بمنزلة الدية لأن الجناية وردت عليه ثم تثبت للورثة إرثا عنه بطريق الخلافة ولهذا تثبت على قدر سهامهم ويظهر ذلك عند انقلاب القصاص مالا يعفو أحدهم فإن نصيب الباقين ينقلب مالا على قدر سهامهم فكان نصيب كل واحد منهم جزءا منه لأن استحقاق الميراث بسهام منصوص عليها كالنصف والثلث والربع ونحوها وبملك بعض القصاص لا يمكن استيفاء الكل ولا يقال إنه غير متجزئ لاستحالة قتل بعض الشخص دون بعضه فلا يتصور أن يثبت للورثة متبعضا لأنا نقول إنه لا يتجزأ وقوعا في المحل فأما في حق الاستحقاق فيجوز أن يتجزأ لأنه حكم شرعي فيجوز أن يثبت للمستحق الحق في البعض شرعا ولهذا لو عفا واحد لم يسقط كل الحق حتى انقلب مالا إلا أنه لما (٤/٤٥١) لم يتجزأ وقوعا في المحل كان طريق استيفائه أن يجتمعوا فيستوفوا ويتنزلوا بإجماعهم منزلة الميت كما إذا كان القصاص موروثا بأن قتل وله ابن ثم مات الابن عن ابنين وجب القصاص لهما واستوفيا دفعة واحدة فأما إطلاق الاستيفاء لكل واحد فيستدعى إثبات الحق لكل واحد على الكمال وأنه ممتنع لأنه تعديد المتحد وفيه إثبات على خلاف ما يقتضيه السبب وهو الإرث فإن المزاحمة متى ثبتت منع الإثبات له كلا والجواب أن وجوب القصاص للاستيفاء لأنه حكم شرعي يعرف بأثره والوجوب فيما يرجع إلى الاستيفاء لا يتجزأ لأن الاستيفاء لا يتجزأ وما لا يتجزأ إذا أضيف إلى جماعة وسبب ثبوت الكل موجود في حق كل واحد منهم ثبت لكل واحد منهم كلا كما بينا وإذ وجب كلا أطلقنا الاستيفاء لكل واحد فلا نحتاج إلى إنزالهم منزلة شخص واحد واندفع قولهم بأنه إثبات التعدد لأنا لا نثبت التعدد فيما يرجع إلى المحل بل نضيف هذا المتحد إلى كل واحد كأنه المتفرد به كما إذا قتل جماعة واحدا يقتص الكل به بهذا الطريق فإن القتل الحاصل في المحل يضاف إلى فعل كل واحد منهم إذا صلح للإضافة إليه وأما أحد الموليين فإنما لا ينفرد بالاستيفاء لأن السبب لم يكمل في حقه لأن حق الاستيفاء يثبت له بالملك وإنه ليس بكامل ولهذا لم يكن لأحد الموليين في الأمة ولاية تزويجها بانفراده أما القرابة فسبب كامل لاستحقاق الكل وإنما لا يثبت عند المزاحمة للتضايق لا لخلل في السبب بمنزلة المجتمعة في التركة ولا تجري هاهنا لأن المحل لا يقبله فأثبتنا كلا وكذا الحكم في القصاص الموروث لأن كل وارث استحق جزءا منه بعد موت المورث بالنص وثبوت الجزء مما لا يتجزأ كثبوت الكل وذكر الجزء فيما لا يحتمل الوصف بالتجزؤ كذكر الكل فيثبت لكل واحد منهم الكل باعتبار أن السبب لكل واحد منهم وهو القرابة كامل كذا في المبسوط قوله ولا يملكه إذا كان فيهم كبير غائب أي لا يملك الكبير الحاضر استيفاء القصاص إذا كان في الورثة كبير غائب وإن كان ثبت للحاضر جميع القصاص لأن في استيفائه شبهة العفو موجودة لاحتمال أن يكون الغائب قد عفا عن القاتل والحاضر لا يشعر به وعفو الغائب صحيح سواء علم بوجوده أو لم يعلم فلهذه الشبهة يمتنع الاستيفاء وهذا المعنى لا يوجد عند صغر بعض الورثة لأن الصغير ليس من أهل العفو وإنما يتوهم عفوه بعد بلوغه وشبهة عفو يتوهم اعتراضه لا يمنع استيفاء القصاص ويلزم على هذا الجواب أن السارق يقطع بخصومة المودع عند غيبة المالك إن احتمل أن المالك قد وهبه من السارق أو أقر له بالملك وكذا يقطع بغيبة الشهود مع توهم (٤/٤٥٢) الرجوع فأشار إلى الجواب بقوله ورجحان جهة وجوده لكونه مندوبا إليه شرعا يعني إنما اعتبرنا هذا الموهوم لأن المولى مندوب إلى العفو والإنسان يرغب فيما يندبه الشرع إليه فاعتبر هذا الاحتمال لرجحان جهة وجوده في المنع من الاستيفاء فأما الشاهد فغير مندوب إلى الرجوع والمالك غير مأمور بالإقرار فبقي مجرد الوهم فلا يعتبر على أن اعتبار الموهوم في هذه المسألة يوجب تأخير الاستيفاء إلى حضور الغائب لا إسقاط القود أصلا وهناك اعتبار يوجب إسقاط القطع لأنه يسقط بالتقادم فلا يدل اعتبار الموهم هاهنا على اعتباره هناك قوله ولذلك أي ولأن القصاص يجب للورثة ابتداء لا بطريق الإرث قال أبو حنيفة رحمه اللّه فيما إذا ادعى رجل دم أبيه على رجل وأخوه غائب وأقام بينة على ذلك تقبل ويحبس القاتل لأنه صار متهما بالدم فإذا حضر الغائب كلف أن يعيد البينة ولا يقضى لهما بالقصاص قبل إعادة البينة وعندهما لا يكلف إعادة البينة لأن عندهما القصاص واجب بطريق الإرث وأحد الورثة ينتصب خصما عن الميت فيما يثبت له وعليه والبينة متى أقامها خصم لم يجب إعادتها بعد ذلك ألا ترى أن القتل لو كان خطأ لم يكن على الغائب إذا حضر أن يعيد البينة ليستوفي نصيبه من الدية فكذلك هذا وعند أبي حنيفة رحمه اللّه كان القصاص واجبا للورثة ابتداء لا إرثا على المقتول لا يكون بعضهم نائبا عن البعض في إثبات حقه بغير وكالة منه كما لو اشتروا عبدا و جحد البائع فأقام أحدهم البينة فالبينة التي أقامها الحاضر لا تثبت القصاص في حق الغائب فلا بد له من إعادة البينة ليتمكن من الاستيفاء لأنا نجعل كل وارث في حق القصاص كأنه ليس معه غيره وليس من ضرورة ثبوت القصاص للذي أقام البينة ثبوته لغيره وهذا بخلاف الخطأ فإن المال وهو موروث للورثة عن الميت بعد الفراغ من حاجته بمنزلة سائر الأموال فينتصب كل وارث خصما عن الميت وعن سائر الورثة في إثباته كذا في المبسوط قوله وإذا انقلب القصاص مالا إشارة إلى الجواب عما قالوا إن القصاص يثبت بطريق الإرث بدليل أن خلفه وهو المال موروث بالإجماع فقال وإذا انقلب القصاص مالا بالصلح أو بعفو البعض أو بشبهة صار موروثا حتى يقتضي منه ديون الميت وينفذ وصاياه ويجري فيه سهام الورثة لأن موجب القتل في الأصل القصاص لأنه هو المثل صورة ومعنى (٤/٤٥٣) وعند الضرورة وهي تعذر الاستيفاء تجب الدية خلفا عن القصاص كما تجب القيمة عند فوت المثل صورة ومعنى وكما تجب الفدية عند تعذر القضاء في باب الصوم فإذا جاء الخلف جعل كأنه هو الواجب في الأصل لأن الخلف يجب بالسبب الذي يجب به الأصل والسبب وهو القتل انعقد للميت فيستند وجوب الحلف إليه وصار كأنه هو الواجب بهذا القتل كالدية في القتل خطأ وذلك أي الخلف يصلح لحوائج الميت من التجهيز والتكفين وقضاء الديون وتنفيذ الوصايا فيجعل موروثا كسائر التركة حتى يقدم حقوق الميت فيه على حق الورثة وكان له الأصل في القصاص أن يجب للميت أيضا لأنه واجب بمقابلة تفويت دمه وحياته لكنا أثبتنا للورثة ابتداء لمانع وهو أنه لا يصلح لحاجة الميت وإن درك الثأر الذي هو المقصود الأصلي حاصل للورثة لا للمقتول وفي الخلف عدم هذا المانع فجعل موروثا ألا ترى توضيح لقوله كأنه هو الواجب في الأصل أو توضيح لمفارقة الخلف الأصل في الميت لاختلاف حالهما أي حاليهما وهو أن الأصل لا يصلح لدفع حوائج الميت ولا يثبت مع الشبهة والخلف يصلح لذلك ويثبت مع الشبهة والخلف قد يفارق الأصل عند اختلاف الحال كالتيمم يفارق الوضوء في اشتراط النية لاختلاف حاليهما وهو أن الماء مطهر بنقسه والتراب ملوث كذلك هاهنا قوله ولهذا أي ولأن القصاص يجب ابتداء للورثة عند أبي حنيفة رحمه اللّه لأن درك الثأر حاصل لهم ويجب للمقتول ثم ينتقل إلى الورثة بطريق الخلافة عندهما وجب القصاص للزوج والزوجة عندنا وقال ابن أبي ليلى ليس لهما حق في القصاص لأن سبب استحقاقهما العقد والقصاص لا يستحق بالعقد لأن المقصود في القصاص التشفي والانتقام ويختص به الأقارب الذين ينصر بعضهم بعضا ولهذا لم يثبت للموصى له حق في القصاص ونحن نقول النكاح يصلح سببا للخلافة أي لاستحقاق الإرث بطريق الخلافة كالقرابة حتى لا يتوقف الملك على القبول ولا يرتد بالرد بخلاف الوصية ويصلح سببا لدرك الثأر أيضا لأنه بناء على المحبة والمحبة الثابتة بالزوجية مثل المحبة الثابتة بالقرابة بل فوقها فثبت أن الزوجية تصلح لاستحقاق القصاص على الأصلين إلى الأصلين وإلى الأصلين أشار الشيخ رحمه اللّه بقوله سببا للخلافة ودرك الثأر ولهذا أي ولأن النكاح يصلح سببا وجب بالزوجية نصيب في الدية وقال مالك رحمه اللّه لا يرث الزوج والزوجة من (٤/٤٥٤) الدية شيئا لأن وجوبها بعد الموت والزوجية تنقطع بالموات ونحن نقول إنها مال الميت حتى تقضى منها ديونه فيرث منها جميع ورثته كسائر أمواله وقوله الزوجية ترتفع بالموت مسلم ولكن سبب الخلافة زوجية قائمة إلى وقت الموت منتهية به لا زوجية قائمة في الحال ألا ترى أن سائر الأموال يستحق بهذه الزوجية فكذا الدية وقد أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لضحاك بن سفيان الكلابي أن يورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم وهو مذهب عمر وعلي وعامة الصحابة رضي اللّه عنهم ثم استوضح المسلمين بقوله ألا ترى أن للزوجية مزية تصرف في الملك أي في المال فإن بين الزوجين من البسوطة في الأموال ما لم يوجد مثلها بين الأقارب وذلك دليل المحبة والاتحاد فصار أي النكاح كالنسب في صلاحيته لاستحقاق القصاص والدية قوله وأما أحكام الآخرة فأربعة أيضا كأحكام الدنيا أحدها ما يجب له على الغير من الحقوق المالية والمظالم التي ترجع إلى النفس والعرض والثاني ما يجب للغير عليه من الحقوق والمظالم والثالث ما يلقاه من ثواب وكرامة بواسطة الإيمان واكتساب الطاعات والخيرات والرابع ما يلقاه من عقاب وملامة بواسطة المعاصي والتقصير في العبادات لأن القبر أي ثبوت هذه الأحكام في حق الميت باعتبار أن القبر للميت كالرحم للماء والمهاد للطفل من حيث إن الميت وضع فيه للخروج وللحياة بعد الفناء ولأحكام الآخرة روضة دار إن كان من أهل الكرامة والثواب أو حفرة نار إن كان من أهل الشقاوة والعقاب فكان للميت فيه حكم الأحياء فما يرجع إلى أحكام الآخرة كما أن للجنين في الرحم حكم الأحياء فما يرجع إلى أحكام الدنيا وذلك أي ما ذكرنا من الأحكام ثابت في حقه بعدما يمضي أي يجزئ عليه في هذا المنزل وهو القبر للابتلاء في الابتداء وهو سؤال المنكر والنكير فإن سؤالهما من الابتلاء والفتنة ولهذا سميا فتاني القبر وقد روي عن سفيان الثوري رحمه اللّه أنه قال إذا سئل الميت من ربك تراءى له الشيطان في صورة فيشير إلى نفسه أي أنا ربك فهذه فتنة عظيمة جعلها اللّه تعالى مكرمة للمؤمن إذا ثبته ولقنه الجواب فلذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت يدعو له بالثبات ويقول لأصحابه سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل تنويها متعلق بمعنى الابتلاء أي (٤/٤٥٥) جريان الابتلاء في ابتداء الوضع في القبر لأجل إعلاء أمره ومباهاته على أقرانه فإنه لما سئل وأجاب على مقتضى الإيمان وأمن فيه من فتنة الشيطان بعون اللّه الكريم المنان بشر بالراحة والرضوان وجعل قبره روضة من رياض الجنان ولا شك أن ذلك إعلاء الشأن وسبب المباهاة على الأقران وهذا في حق المسلم فأما في حق الكافر فالسؤال للإلزام والتخجيل لا للإكرام والتبجيل نرجو اللّه تعالى أن يصيره لنا روضة بكرمه وفضله وأن يعيذنا من فتنة القبر وعذابه بمنه وطوله إنه الكريم المنعم الديان ذو الطول والفضل والإحسان (٤/٤٥٦) |