Geri

   

 

 

İleri

 

باب شروط القياس

قوله أن لا يكون الأصل مخصوصا بحكمه بنص آخر اعلم أنه لا بد من بيان الأصل والفرع ها هنا لكثرة دورهما في المسائل في هذا الباب فنقول الأصل في القياس عند أكثر العلماء من أهل النظر هو محل الحكم المنصوص عليه كما إذا قيس الأرز على البر في تحريم بيعه بجنسه كان الأصل هو البر عندهم لأن الأصل ما كان حكم الفرع مقتبسا منه ومردودا إليه وذلك هو البر في هذا المثال وعند المتكلمين هو الدليل الدال على الحكم المنصوص عليه من نص أو إجماع كقوله عليه السلام الحنطة بالحنطة مثلا بمثل في هذا المثال لأن الأصل ما تفرع عليه غيره والحكم المنصوص عليه متفرع على النص فكان هو الأصل وذهبت طائفة إلى أن الأصل هو الحكم في المحل لأن الأصل ما ابتني عليه غيره وكان المعلم به موصلا إلى العلم أو الظن بغيره وهذه الخاصية موجودة في الحكم لا في المحل لأن حكم الفرع لا يتفرع على المحل ولا في النص والإجماع إذ لو تصور العلم بالحكم في المحل دونهما بدليل عقلي أو ضرورة أمكن القياس فلم يكن النص أصلا للقياس أيضا وهذا النزاع لفظي لإمكان إطلاق الأصل على كل واحد منها لبناء حكم الفرع على الحكم في المحل المنصوص عليه وعلى المحل والنص لأن كل واحد أصله وأصل الأصل أصل ولكن الأشبه أن يكون الأصل هو المحل كما هو مذهب الجمهور لأن الأصل يطلق على ما يبتنى عليه غيره وعلى ما لا يفتقر إلى غيره ويستقيم إطلاقه على المحل بالمعنيين أما بالمعنى الأول فلما قلنا

وأما بالمعنى الثاني فلافتقار الحكم ودليله إلى المحل ضرورة من غير عكس لأن المحل غير مفتقر إلى الحكم ولا إلى دليله ولأن المطلوب بيان الأصل الذي يقبل الفرع في التركيب القياسي ولا شك أنه بهذا الاعتبار هو المحل

وأما الفرع فهو المحل المشبه عند الأكثر كالأرز في المثال المذكور وعند الباقين

(٣/٤٤٣)

هو الحكم الثابت فيه بالقياس كتحريم البيع بجنسه متفاضلا وهذا أولى لأنه الذي يبتني على الغير ويفتقر إليه دون المحل إلا أنهم لما سموا المحل المشبه به أصلا سموا المحل الآخر فرعا وإذا ثبت هذا فنقول إن كان المراد من الأصل ها هنا النص المثبت للحكم فالمراد من الخصوص التفرد كما في قولك فلان مخصوص بعلم الطب أي منفرد به من بين العامة لا يشاركه فيه أحد لا المخصوص من صيغة عامة فإنه غير مانع عن القياس ألا ترى أن أهل الذمة لما خصوا عن عموم نص القتال ألحق بهم الشيوخ والصبيان والرهابين وغيرهم بالقياس والباء في بحكمه بمعنى مع وفي بنص آخر للسببية والمختص به غير مذكور الضمير راجع إلى الأصل أي يشترط أن لا يكون النص المثبت للحكم في المحل مختصا مع حكمه بذلك المحل بسبب نص آخر يدل على اختصاصه وتفرده به مثل

قوله عليه السلام ومن شهد له خزيمة فحسبه فإنه مختص مع حكمه وهو قبول شهادة الفرد بمحل وروده وهو خزيمة رضي اللّه عنه بسبب نص آخر يدل على اختصاصه به وهو قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإنه لما أوجب على الجميع مراعاة العدد لزم منه نفي قبول شهادة الفرد فإذا ثبت بدليل في موضع كان مختصا به ولا يعدوه للنص النافي في غيره

وإن كان المراد منه محل الحكم كما هو مذهب الجمهور فالمراد من الخصوص التفرد كما قلنا والباء في بحكمه صلة الخصوص وفي بنص آخر للسببية أي يشترط أن لا يكون محل الحكم مختصا بالحكم المشروع فيه بسبب نص آخر يدل على اختصاصه بهذا الحكم مثل خزيمة رضي اللّه عنه فإنه مختص أي متفرد بقبول شهادته وحده لا يشاركه فيه غيره وعرف هذا الاختصاص بقوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم

والمراد من الخصوص خصوص العموم إلا أنه أريد به خصوص بطريق الكرامة لا مطلق الخصوص فإنه لا يمنع من القياس والباء في بنص متعلقة بالخصوص والنص الآخر الدليل المخصص والمخصوص منه غير مذكور يعني يشترط أن لا يكون محل الحكم مخصوصا بحكمه عن قاعدة عامة بنص آخر يخصصه مثل خزيمة رضي اللّه عنه فإنه مخصوص بحكمه وهو قبول شهادته وحده عن العمومات الموجبة للعدد مثل قوله تعالى واستشهدوا شهيدين البقرة ٢٨٢

(٣/٤٤٤)

وأشهدوا ذوي عدل منكم بقوله عليه السلام من شهد له خزيمة فحسبه ولكن بطريق الكرامة فيمنع من إلحاق غيره به قياسا سواء كان مثله في الفضيلة أو فوقه أو دونه وهذا الوجه أوفق لظاهر الكتاب

قوله وأن لا يكون حكمه معدولا به عن القياس

الضمير في به راجع إلى الحكم والباء للتعدية فإن العدول لازم وهو الميل عن الطريق فلا يتأتى المجهول عنه إلا بالباء ويكون معناه مع الباء معنى الفاعل أي ومن شروطه أن لا يكون حكم الأصل عادلا عن سنن القياس أي مائلا عنه يعني لا يكون على خلافه وأن يتعدى الحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظير ولا نص فيه الضمير في بعينه عائد إلى الحكم وفي نظيره إلى الأصل وفي فيه إلى الفرع وهذا الشرط وإن كان شرطا في الحقيقة لتضمنه اشتراط التعدية وكون الحكم شرعيا وعدم تغييره في الفرع فإن

قوله بعينه يشير إليه ومماثلة الفرع الأصل وعدم وجود النص في الفرع إلا أن الكل لما كان راجعا إلى تحقق التعدية فإنها تتم بالجميع جعل الكل شرطا واحدا بخلاف الشرطين الأولين فإنهما ليسا من التعدية بل هما من شروط التعدية كذا في بعض الشروح وأن يبقى الحكم في الأصل أي النص الذي في المقيس عليه بعد التعليل على ما كان قبل التعليل يعني يشترط أن لا يتغير في الفرع وزاد بعض الأصوليين شروطا لم يذكرها الشيخ ومنها ما ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه أنه يشترط أن لا يكون التعليل متضمنا إبطال شيء من ألفاظ النص كإلحاق سائر السباع بالخمس المؤذيات في إباحة قتلها للمحرم بالتعليل فإنه يوجب إبطال لفظ الخمس المذكور في

قوله عليه السلام خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم لأنه لا يبقى على حاله بل يصير أكثر من خمس فكان هذا التعليل مبطلا له فيبطل ولم يذكره الشيخ لدخوله في الشرط الرابع ومنها ما ذكر غيره أن حكم الأصل يشترط أن يكون ثابتا ولا يكون منسوخا لأن الحكم يتعدى من الأصل إلى الفرع ولا يمكن ذلك إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل ويفهم هذا الشرط من

قوله وأن يتعدى الحكم إذ التعدي يتحقق في الثابت لا في المنسوخ

ومنها أن يكون حكم الأصل غير متفرع عن أصل آخر وهو مذهب أبي الحسن وأكثر أصحاب الشافعي خلافا للحنابلة وأبي عبد اللّه البصري من المعتزلة لأن الجامعة بين حكم الأصل وأصله أن أتحدث مع الجماعة بين حكم الأصل وفرعه فذكر الوسط ضائع لأنه تطويل غير مفيد كقول الشافعي في السفرجل إنه مطعوم فيكون ربويا قياسا على التفاح

(٣/٤٤٥)

ثم يقيس التفاح على البر بواسطة الطعم فيضيع ذكر الوسط وهو التفاح وإن لم تتحد العلتان فسد القياس لأن العلة التي بين الأصل وأصله لا يوجد في الفرع والعلة التي بين الأصل وفرعه ليس بمعتبرة لثبوت الحكم في الأصل بدونها كقول بعض أصحاب الشافعي في الجذام إنه عيب يفسخ به البيع فيفسخ به النكاح قياسا على الرتق ثم قاسوا الرتق على الجب عند توجه المنع بجامع فوات غرض الاستمتاع وفي

قوله الثابت بالنص إشارة إلى هذا الشرط يعني يشترط تعدي الحكم الشرعي الثابت بالنص لا بالقياس ومنها أن لا يكون الفرع متقدما على حكم الأصل إذ لو كان كذلك يلزم منه ثبوت حكم الفرع قبل ثبوت العلة لتأخر الأصل

وذلك كقياس الشافعي الوضوء على التيمم في الانتقال إلى النية فإن شرعية التيمم ثابتة بعد شرعية الوضوء فلا يجوز تعدية الحكم منه إلى الوضوء واعلم أن صاحب الميزان اعترض على الشروط الأربعة المذكورة في الكتاب بوجوه أحدها أن اشتراط الشرط الأول

والثاني إنما يستقيم على قول من يرى تخصيص العلة مثل القاضي الإمام أبي زيد ومن وافقه فأما عند من أنكر تخصيص العلة مثل الشيخين وعامة المتأخرين فلا يستقيم لأن النص إذا ورد بخلاف القياس تبين به أن ذلك القياس كان باطلا فكان اشتراط كون حكم الأصل غير معدول به عن القياس غير مستقيم ليتبين بطلان ذلك القياس بورود النص على خلافه بيانه أن الأكل لما جعل علة لفساد الصوم ثم ورد نص ببقاء الصوم مع الأكل ناسيا كان ذلك على فساد العلة فكيف يستقيم قولهم إنه ورد على خلاف القياس مع تبين فساد القياس وبطلانه بوروده وثانيها أنه ذكر التعدي وهو التجاوز وذلك لا يتحقق في الأوصاف ولو ثبت يلزم منه خلو محل النص عن الحكم إذ الشيء لا يثبت في محلين في زمان واحد وثالثها أن اشتراط تعدي حكم النص بعينه يمنع من ثبوت القياس فكيف يصلح شرطا لأن حكم النص في

قوله عليه السلام الحنطة بالحنطة مثلا بمثل حرمة الفضل على الكيل في الحنطة ولا يتصور ثبوته في الفرع لأن حرمة الفضل على الكيل في الجص والأرز مثلا غير حرمة الفضل في الحنطة

وأجيب عن الأول بأن المراد من كون حكم الأصل معدولا به عن القياس عند من أنكر تخصيص العلة الاعتبار بالقواعد المعلومة في الشرع في نظائره لو لم يرد النص فيه يدل على خلاف ما ورد النص به فكان ورود النص به مخالفا للقياس من حيث الصورة وعن الثاني أن المراد من التعدي ثبوت مثل الحكم المنصوص عليه من حيث الجواز والفساد والحل والحرمة في الفرع وعدم اقتصاره على الأصل لا التعدي الذي

(٣/٤٤٦)

يوجد في الأجسام وعن الثالث بأن المراد من تعدي عين الحكم تعدي مثله من غير تغير في نفس الحكم ومن غير نظر إلى المحل فإن كل عاقل يعرف أنه لما ذكر تعدي الحكم بعينه إلى الفرع لم يرد به عين ذلك الحكم متقيدا بذلك المحل بل أراد تعدي مثله إلى الفرع من غير أن يحدث بالتعليل فيه تغييرا مثل تعدية حكم نص الربا إلى الفروع فإنا قد عرفنا بدليل قطعي أو بدليل اجتهادي أن حكم النص حرمة الفضل على الكيل مطلقة لا حرمة الفضل على الكيل في الحنطة تعديناه إلى الجص والأرز بعلة القدر والجنس من غير تغيير فكان هذا تعدية حكم النص بعينه إلى فرع هو نظيره فكان صحيحا بخلاف تعدية صحة ظهار المسلم إلى ظهار الذمي فإنه تغيير للحرمة المتناهية في الأصل إلى إطلاقها في الفرع فكان فاسدا

قوله أما الأول أي اشتراط الشرط الأول فلأن الضمير للشأن متى ثبت اختصاصه أي يفرد الأصل بحكمه بالنص صار التعليل لتعديته إلى محل آخر مبطلا له أي للاختصاص الثابت بالنص

وذلك أي التعليل المؤدي إلى إبطال حكم النص باطل لأنه أي التعليل أو القياس لا يعارض النص لدفع حكمه بوجه

وأما الثاني أي اشتراط الشرط الثاني وهو كونه غير معدول به عن القياس فلأن حاجتنا إلى إثبات الحكم في الفرع بالقياس لأن القياس يرد هذا الحكم ويقتضي عدمه فلا يستقيم إثباته به كالنص إذا ورد نافيا لحكم لا يستقيم إثباته به لأنه يصير نافيا ومثبتا لشيء واحد في زمان واحد واعلم أن بعض المحققين ذكر في تصنيف له في أصول الفقه أنه اشتهر بين الفقهاء أن المعدول به عن القياس لا يقاس عليه غيره ولكنه إلى تفصيل فنقول الخارج من القياس على أربعة أوجه أحدها ما استثني وخصص عن قاعدة ولم يعقل فيه معنى التخصيص فلا يقاس عليه غيره كتخصيص أبي بردة بجواز تضحية العتاق وتخصيص خزيمة بقبول شهادته وحده

وثانيها ما شرع ابتداء ولا يعقل معناه فلا يقاس غيره عليه لتعذر العلة وتسميته معدولا عن القياس وخارجا عنه تجوز لأنه لم يسبق له عموم قياس ولا استثني حتى يسمى خارجا عن القياس

(٣/٤٤٧)

بعد دخوله فيه بل معناه أنه ليس منقاسا لعدم تعقل علته ومثاله أعداد الركعات ونصب الزكاة ومقادير الحدود والكفارات وجميع التحكمات المبتدأة التي لا يعقل فيها معنى وثالثها القواعد المبتدأة العديمة النظير لا يقاس عليها غيرها مع أنها يعقل معناها لأنه لم يوجد لها نظير خارج ما تناوله النص والإجماع وتسميته خارجا عن القياس تجوز أيضا وذلك كرخص السفر والمسح على الخفين ورخصة المضطر في أكل الميتة فإنا نعلم أن المسح على الخف إنما جوز لعسر النزع ومسيس الحاجة إلى استصحابه ولكن لا يقيس عليه العمامة والقفازين وما لا يستر جميع القدم لأنها لا تساوي الخف في الحاجة وعسر النزع وعموم الوقوع وكذلك رخصة السفر لا يشك في ثبوتها بالمشقة ولكن لا يقاس عليها مشقة أخرى لأن غيرها لا يشاركها في جملة معانيها ومصالحها فإن المرض لا يحوج إلى قصر الذات وإنما يحوج إلى قصر الحل بالرد من القيام إلى القعود ومن الركوع والسجود إلى الإيماء وكذا إباحة الميتة للمضطر للحاجة بلا شك ولكن لا يقاس غيره عليه لأن غيره ليس في معناه فهذه الأقسام لا يجري فيها القياس بالاتفاق ورابعها ما استثني عن قاعدة سابقة تطرق إلى استثنائه معنى فيجوز أن يقاس عليه كل مسألة دارت بين المستثنى والمستبقى وشاركت المستثنى في علة الاستثناء عند عامة الأصوليين خلافا لبعض أصحاب أبي حنيفة رحمه اللّه كما سيأتيك بيانه في آخر هذا الفصل إن شاء اللّه عز وجل

فتبين بهذا أن المراد من العدول به عن القياس ها هنا أنه لا يعقل معناه أصلا ويخالف القياس من كل وجه فإنه إذا كان موافقا له من وجه يجوز القياس عليه

قوله

وأما الثالث أي اشتراط الشرط الثالث فلأن القياس أي المقايسة محاذاة أي مساواة بين شيئين فلا ينفعل إلا في محله أي محل القياس يعني لا يثبت وجوده إلا في محل قابل له إذ محل الانفعال شرط في كل فعل كالحياة شرط ليصير الصدم ضربا والقطع قتلا والمحازاة لا تتصور في شيء واحد ولا في شيئين لم يكن

أحدهما نظيرا للآخر فلو لم يتعد الحكم إلى فرع بالتعليل كان المحل شيئا واحدا فلا يتحقق فيه المقايسة

وكذا إذا لم يكن الفرع نظيرا للأصل لاستحالة تحقق المساواة بين المختلفين فلذلك شرطنا التعدي من الأصل إلى فرع هو نظيره وإنما التعليل لإقامة حكم شرعي أي لإثباته يعني إنما شرطنا أن يكون الحكم شرعيا لا لغويا لأن الكلام في القياس على أصول

(٣/٤٤٨)

ثابتة شرعا فلا يعرف بالتأمل فيها إلا ما كان ثابتا شرعا فإن الطب أو اللغة لا يعرف بالتأمل في أصول الشرع

وأما دليل اشتراط تعدي الحكم بعينه وخلو الفرع عن النص فقد دخل فيما ذكر لأن المحاذاة لا يتحقق مع تغيير الحكم كذا إذا كان في الفرع نص لأنه يمنع من ثبوت حكم بالقياس في الفرع على خلافه وفي هذه الجملة خلاف يعني في بعض ما تضمنه الشرط الثالث من القيود خلاف كما سيقرع سمعك بيانه عن قريب إن شاء اللّه تعالى

قوله

وأما الشرط الرابع أي اشتراطه فلما قلنا أي في دليل الشرط الأول إن القياس لا يعارض النص على وجه يدفع حكم النص ويغيره فلو لم يبق حكم النص بعد التعليل في المنصوص على ما كان قبله كان هذا قياسا مغيرا لحكم النص فيكون باطلا فإن قيل تغيير حكم الأصل من لوازم القياس فإن حكم النص بالتعليل من الخصوص إلى العموم والعموم غير الخصوص وإذا كان كذلك أنى يستقيم أن يجعل بقاؤه على ما كان قبله من شرائط القياس وفيه سد باب القياس قلنا المراد من التغير أن يتغير بالتعليل ما كان مفهوما فيه لغة قبله مثل اشتراط التمليك في طعام الكفارة بالرأي كما قال الشافعي رحمه اللّه فإنه يلزم منه تغيير النص الوارد فيه وهو قوله تعالى فإطعام عشرة مساكين إذ الإطعام لغة جعل الغير طاعما ويحصل الخروج عن عهدته بالإجابة باشتراط التمليك بتغير هذا الحكم ولا يحصل الخروج عن العهدة إلا بالتمليك فأما تعليل نص الربا أو تعدية حكمه إلى سائر المكيلات والموزونات فلا يوجب تغييرا فيه إذ الحكم في الأشياء الستة بعد التعليل بقي على ما كان قبله

قوله مثال الأول أي نظير الشرط الأول أن اللّه تعالى شرط العدد في عامة الشهادات أي في جميع الشهادات المطلقة بقوله عز ذكره واستشهدوا شهيدين من رجالكم وأشهدوا ذوي عدل منكم اثنان ذوا عدل فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ويثبت بالنص قبول شهادة خزيمة وحده وهو ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم اشترى ناقة من أعرابي وأوفاه ثمنها ثم جحد استيفاء وجعل يقول هلم شهيدا فقال عليه السلام من يشهد لي فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد لك يا رسول اللّه إنك أوفيت الأعرابي ثمن الناقة فقال عليه السلام كيف تشهد لي ولم تحضرنا فقال يا رسول اللّه إنا نصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبره به من أداء ثمن الناقة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من شهد له

(٣/٤٤٩)

خزيمة فحسبه كذا في المبسوط

وروى أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في سننه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه ليقضيه ثمن فرسه فأسرع النبي صلى اللّه عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس لا يعلمون أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس فقال للنبي صلى اللّه عليه وسلم إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته فقال النبي عليه السلام حين سمع من الأعرابي ذلك أوليس قد ابتعته منك فقال الأعرابي لا واللّه ما بعتك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم بل ابتعته منك فطفق الناس يلوذون بالنبي والأعرابي وهما يتراجعان وطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا يشهد أني قد بايعتك فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي ويلك إن النبي لم يكن ليقول إلا حقا حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع بمراجعتهما وطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا يشهد أني قد بايعتك فقال خزيمة أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل النبي صلى اللّه عليه وسلم على خزيمة فقال بم تشهد قال بتصديقك يا رسول اللّه فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم شهادة خزيمة بن ثابت شهادة رجلين

وقوله لكنه تثبت كرامة له إشارة إلى الفرق بين تخصيص العام وبين تخصيص خزيمة بقول شهادته وحده حيث يجوز تعليل الدليل المخصص في العام ولا يجوز التعليل ها هنا لأن تخصيص خزيمة تثبت بطريق الكرامة وهي توجب انقطاع شركة الغير فتعليله لإلحاق غيره به سواء كان مثله في الفضيلة أو فوقه أو دونه يتضمن إبطال الحكم الثابت بالنص فيكون باطلا بخلاف تخصيص العام فإن تعليله لا يوجب إبطال شيء لبقاء صيغة العموم والدليل المخصص على ما كانا عليه قبله فيجوز حتى لو أدى إلى إبطال العموم بأن لم يبق بعد التعليل إلا واحد أو اثنان لا يجوز أيضا على ما مر لأنه يصير حينئذ إبطالا للنص بالقياس قال شيخنا العلامة مولانا حافظ الملة والدين رحمه اللّه إنما اختص بهذه الكرامة لاختصاصه من بين الحاضرين بفهم جواز الشهادة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بناء على

قوله كجواز الشهادة لغيره بناء على العيان فإن قول عليه السلام في إفادة العلم بمنزلة العيان والشرع قد جعل التسامع في بعض الأحكام بمنزلة العيان فكان قول الرسول عليه السلام بذلك أولى وحل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسع نسوة إكراما له لأنه تعالى قصر الحال في النساء على الأربع بقوله عز اسمه فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ثم خص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بإباحة التسع ولا شك أن إباحة النكاح من باب

(٣/٤٥٠)

الكرامة لأنه إثبات الولاية على حرة مثله ولهذا لا يملك العبد إلا تزوج امرأتين لنقصان حاله فكان إباحة الزيادة على الأربع للرسول صلى اللّه عليه وسلم إكراما له فلم يجز تعليله أي تعليل حل التسع الثابت لرسول اللّه عليه السلام لتعديته إلى غيره كما فعله الرافضة حيث جوزوا تزوج تسع نسوة لغير الرسول عليه السلام اعتبارا به فإنه أسوة لأمته في ما شرع له وعليه لأنه ثابت بطريق الكرامة وفي تعليله وتعديته إلى غيره إبطال الكرامة كما قلنا

قوله وكذلك أي وكما ثبت اشتراط العدد في عامة الشهادات بالنص ثبت بالنص وهو

قوله عليه السلام لحكيم بن حزام لا تبع ما ليس عندك أي في ملكك ونهيه عن بيع الآبق وعن بيع الخمر أن البيع يقتضي محلا مملوكا مقدورا أي مقدور التسليم حسا وشرعا حتى لو باع ما لا يملكه ثم اشتراه وسلمه أو باع العبد الآبق أو الخمر لا يجوز لعدم الملك في الأول وعدم القدرة على التسليم حسا وشرعا في الباقين وجوز السلم في الدين أي جوز السلم فيما ليس في ملكه ولا في يده على خلاف ذلك الأصل بالنص أيضا وهو

قوله عليه السلام من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم وما ثبت أي السلم بهذا النص إلا مؤجلا لأن ظاهر هذا النص يقتضي اشتراط هذه الأوصاف واقتصار الجواز عليها كما لو قيل من دخل داري فليدخل غاض البصر ومن كلمني فليتكلم بالصواب كان موجبه حرمة الدخول والتكلم إلا بصفة غض البصر والصواب فكان تقدير الكلام من أسلم منكم فلا يسلم إلا في كذا فكان الجواز مختصا بالسلم حال وجود هذه الأوصاف جميعا كاختصاص قبول شهادة المفرد بخزيمة وحل التسع بالنبي عليه السلام فلم يستقم إبطال الخصوص بالتعليل كما قال الشافعي رحمه اللّه لما جاز السلم مؤجلا يجوز حالا لكونه أبعد من الغرر ولأن المسلم فيه عوض دين وجب في عقد البيع فيثبت حالا ومؤجلا كثمن المبيع لأن التعليل لا يصلح لإبطال ما ثبت بالنص

فإن قيل قد عديتم حكم هذا النص من الكيل والموزون إلى الثياب والعدديات المتقاربة وغيرها بالتعليل فنحن نعديه إلى السلم الحال أيضا قلنا لا نسلم أن الحكم في غير المكيل والموزون ثبت بالتعليل بل بإشارة النص أو دلالته فإن

قوله عليه السلام في كيل معلوم ووزن معلوم يشير إلى أن الجواز باعتبار حصول العلم بالقدر فكل ما يحصل العلم بمقداره بالاستيضاف يكون في معناه فيلحق به بخلاف السلم الحال فإنه ليس في معنى المؤجل على ما سيأتيك بيانه إن شاء اللّه عز وجل ثم فرع الشافعي رحمه اللّه على هذا الأصل عدم انعقاد النكاح بلفظ الهبة فقال قد ثبت اختصاص رسول

(٣/٤٥١)

اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالنكاح بلفظ الهبة بالنص وهو قوله تعالى خالصة لك بعد

قوله عز اسمه وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي والخالصة مصدر مؤكد ك وعد اللّه ونظيرها العافية والكاذبة والخاطئة أي خلص لك انعقاد النكاح بالهبة خلوصا فلم يجز إبطال هذا الاختصاص بالتعليل لتعدية الحكم إلى نكاح غيره وقلنا لا نسلم أن المراد من الخلوص ما قلت بل المراد اختصاصه عليه السلام بسلامتها بغير عوض أي مهر والمعنى قد خلص لك إحلال الموهوبة بغير بدل خلوصا

وذلك لأنه تعالى قال في أول الآية إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن أي مهورهن وساق الكلام إلى أن قال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي فكان فيه بيان المنة عليه في كلا النوعين من النكاح ببدل وبغير بدل والدليل عليه أنه تعالى قال في سياق الآية قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم يعني فرضنا المهر عليهم وأحللنا لك بغير مهر وقال لكي لا يكون عليك حرج اللام متعلقة بقوله خالصة لك أي خالصة لك من دون المؤمنين لكي لا يكون عليك بضيق في أمر النكاح والحرج إنما يلحق الناس في لزوم المهر فأما في العدول من لفظ إلى لفظ فلا حرج خصوصا في حق من هو أفصح العرب والعجم

والمراد اختصاصه عليه السلام بأن لا تحل منكوحته لأحد بعده والمعنى خلص إحلال ما أحللنا لك من النساء خلوصا حتى لا يحل لأحد بعدك فإنه عليه السلام كان يتأذى بأن يكون الغير شريكا له في فراشه من حيث الزمان وعليه دل على قوله تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا

وقوله جل جلاله وأزواجه أمهاتهم وهذا أي الاختصاص من الوجهين اللذين ذكرناهما مما يعقل كرامة فأما الاختصاص باللفظ فلا لأن الاستعارة لا تختص بأحد بل الناس كلهم في الاستعارة ووجوه الكلام سواء والواو في

قوله وفي اختصاصه بمعنى أو ولفظة في أو لفظة اختصاصه في

قوله وفي اختصاصه زائدة ولو قيل واختصاصه بأن لا يحل أو قيل وفي أن لا يحل أحد بعده لكان أحسن

(٣/٤٥٢)

قوله وكذلك ثبت للمنافع أي وكما ثبت جواز السلم بالنص على خلاف القياس مختصا به ثبت للمنافع المعدومة حكم التقوم والمالية في باب عقود الإجارة أي في جميع أنواعها صحيحها وفاسدها بالنص مثل قوله تعالى وآتوهن أجورهن في حق الأظآر

وقوله تعالى إخبارا على أن تأجرني ثماني حجج

وقوله عليه السلام أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه

وقوله صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة أنا خصمهم من استأجر أجيرا فلم يعطه أجره الحديث مخالفا للقياس المعقول لما ذكرنا أن محل البيع مال متقوم مملوك مقدور التسليم والتقوم إنما يعتمد الوجود لأنه يثبت بالإحراز وأنه يتحقق في الموجود دون المعدوم والمنافع ليست بموجودة فضلا من أن يكون محرزة وبعد ما وجدت لا يمكن إثبات التقوم لها أيضا لأن التقوم عبارة عن اعتدال المعاني يقال قيمة هذا الثوب كذا من الدراهم أي يعادل هذا الثوب هذا القدر من الدراهم من حيث المعنى وهو المالية ولا بد في ذلك من المساواة في نفس الوجود ليمكن بعدها إثبات المساواة في المعنى وبين العين والمنافع تفاوت في نفس الوجود لأن العين جوهر يبقى ويقوم به العرض والمنفعة عرض لا يبقى ويقوم بالجوهر وبين ما يبقى ويقوم به غيره وبين ما لا يبقى ويقوم بغيره تفاوت فاحش فلا يمكن إثبات المعادلة بينهما معنى كما لا يمكن صورة إلا أنه تثبت تقومها بالنص في باب العقود غير معقول المعنى فيكون مختصا به كاختصاص قبول الشهادة بخزيمة وجواز السلم في المؤجل فلا يصح إبطال هذا الخصوص بالتعليل والتعدية إلى الإتلاف والغصب لما مر غير مرة ثم إيراد هذا المثال

وإن كان أليق بالشرط الثاني لكونه معدولا به عن القياس إلا أن بين الشرطين لما كان تأخيرا وارتباطا جاز إيراده في هذا الفصل فإنه مع كونه غير معقول المعنى مخصوص بحكمه عن قاعدة عامة بنص آخر يخالفها فلذلك أورده ها هنا

قوله ومثال الثاني من الشروط وهو أن لا يكون الأصل معدولا به عن القياس أن أكل الناسي أي حكم أكل الناسي للصوم وهو بقاء الصوم بعد تحقق الأكل معدول به

(٣/٤٥٣)

عن القياس لأن القياس الصحيح يوجب أن يفسد صومه لأن الشيء لا يبقى مع ما يضاده والأكل يضاد الصوم لأنه ترك للكف الواجب فوجب أن يفسد صومه وإن كان ناسيا لأن النسيان لا يعدم الفعل الموجود ولا يوجد الفعل المعدوم ألا ترى أن من أتلف مال إنسان ناسيا يضمن كما لو أتلفه ذاكرا ولو ترك ركنا من الصلاة ناسيا يفسد صلاته كما لو تركه ذاكرا فثبت أنه لا تأثير للنسيان في إعدام الموجود وإيجاد المعدوم فإن من ترك الصلاة أو الحج أو الزكاة ناسيا لا يجعل مؤديا بحال إلا أن حكم النسيان وهو كونه غير مؤثر في الإفساد ثبت بالنص وهو

قوله عليه السلام لذلك الأعرابي تم على صومك فإنما أطعمك اللّه وسقاك معدولا به عن القياس لا مخصوصا من النص

زعم الشافعي رحمه اللّه أن قوله تعالى أتموا الصيام إلى الليل يقتضي بعمومه أن يفسد صوم الناسي لأن الإمساك المأمور به فات عنه بالنسيان وكذا عموم

قوله عليه السلام الفطر مما دخل يقتضي ذلك إلا أن الناسي خص من هذين النصين بالحديث المشهور الذي ذكرنا والمخصوص من النص يقبل التعليل فيعلل بعدم القصد ويلحق به المخطئ والمكره والنائم الذي صب الماء في حلقه فقال الشيخ رحمه اللّه ليس هذا من قبيل التخصيص فإنه إنما يتحقق فيما كان داخلا في العموم ثم يخرج بالمخصص في تعليل النبي عليه السلام بقوله فإن اللّه أطعمك وسقاك إشارة إلى أن الناسي لم يكن داخلا فيه لأن الفعل غير مضاف إليه فلم يكن هو تاركا للكف بالأكل بل هو كان كما كان فلم يكن هذا تخصيصا بل هو حكم ثابت بخلاف القياس كما قلنا ويجوز أن يكون

قوله لا مخصوصا من النص ردا لما ذكره بعض مشايخنا في أصول الفقه أن الشرع حكم ببقاء صوم الناسي كرامة له مع فوات ركنه فكان الناسي مخصوصا بهذا الحكم كخزيمة بقبول الشهادة فلم يجز إلحاق غيره به فقال ليس هذا من قبيل التخصيص بطريق الكرامة إذ لو كان كذلك لم يجز إلحاق الغير به قياسا ولا دلالة وقد ألحق غير الأعرابي به وألحق الجماع ناسيا بالأكل بالاتفاق بطريق الدلالة فثبت أنه ليس بتخصيص بل هو ثابت معدولا به عن القياس

وإذا كان كذلك لم يصح التعليل أي تعليل ذلك النص أو الحكم ليقاس عليه والحال أن ذلك الحكم معدول به عن القياس فيصير التعليل بالنصب أي يصير التعليل حينئذ لضد ما وضع له أي وضع الحكم له لأنه إنما وضع معدولا به عن القياس ليقتصر

(٣/٤٥٤)

على المحل الذي ثبت فيه فلو علل وعدي إلى محل آخر يكون التعليل لضد ما وضع الحكم له إذ التعدي ضد الاقتصار أو الضمير في وضع للقياس أي يصير التعليل حال كونه معدولا به عن القياس لضد ما وضع القياس له لأن القياس يقتضي ثبوت الفطر وانتفاء الصوم في هذا الصورة كما قلنا فالتعليل لبقاء الصوم وتعديته إلى محل آخر يكون لضد ما وضع القياس له لأن انتقاء الصوم مع بقائه ضدان فلا يجوز أن يثبت به ضده كما لا يجوز أن يثبت الحكم بالنص النافي له فإن قيل هذا إنما يلزم إذا كان هذا الحكم مخالفا للقياس من كل وجه وليس كذلك فإن بقاء صوم الناسي باعتبار صيرورة الأكل معدوما لعدم القصد معقول فيجوز أن يلحق به المخطئ والمكره وغيرهما

قلنا قد بينا أنه لا أثر لعدم القصد في إيجاد المعدوم وإعدام الموجود كما قلنا فيكون مخالفا للقياس من كل وجه ولئن سلمنا أنه محل للقياس فلا يمكن إلحاق المخطئ والمكره به لما سيأتي بيانه

قوله ولم يثبت هذا الحكم جواب عما يقال إن حكم هذا النص قد تعدى بالتعليل إلى الجماع بالإجماع فلو كان مخالفا للقياس من كل وجه لما ثبت هذا الحكم في غير الأكل والشرب فقال لم يثبت هذا الحكم وهو بقاء الصوم في مواقعة الناسي بالتعليل بل بدلالة النص لأن الأكل والجماع سواء في قيام الركن وهو الصوم بالكف عنهما لثبوتهما بخطاب واحد وهو قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل بعد

قوله فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب اللّه لكم وكلوا واشربوا أي أتموا الكف عن هذه الأشياء الثلاثة إلى الليل فلم يكن للجماع اختصاص وكان النص الوارد في بعضها واردا في الكل لأن أحد المتساويين إذا ثبت له حكم يثبت للآخر أيضا ضرورة المساواة بينهما إذ لو لم يثبت لاختلفا فيثبت عدم المساواة حالة المساواة وهو فاسد

ولا يقال إن الصلاة وجبت بنص واحد ثم التفاوت في الأركان ثابت لأنا نقول ليس كذلك بل كل ركن ثبت بنص على حدة مثل قوله تعالى وقوموا للّه قانتين واركعوا واسجدوا فيجوز أن يظهر التفاوت بينهما فأما فيما نحن فيه فالإمساك عن الأشياء الثلاثة ثبت بنص واحد ولم يختص كل واحد بنص على حدة ونظيرهما الاغتسال والتوضؤ فإن الاغتسال لما ثبت بأمر واحد وهو قوله تعالى فاطهروا جعلت الأعضاء كلها كعضو واحد حتى جاز غسل عضو ببلل عضو آخر وفي التوضؤ لما اختص كل عضو بأمر على حدة جعل كل عضو منفردا عن الآخر حتى لم يجز غسل اليد ببلل الوجه وغسل الرجل ببلل اليد ثم استوضح ثبوته بطريق

(٣/٤٥٥)

الدلالة بقوله ألا ترى أن معنى الحديث لغة أن الناسي غير جان يعني من سمع

قوله عليه السلام أتم على صومك ومن أهل اللسان فقيها كان أو غير فقيه يفهم منه أن بقاء الصوم والأمر بالإتمام بعد الأكل باعتبار أن الناسي غير جان بالأكل على الصوم لأنه لما كان ناسيا للصوم لم يتصور منه الجناية عليه والقصد إلى هتك حرمته ولا على الطعام لأنه ليس بمحل للجناية وهذا المعنى بعينه ثابت في الجماع من غير تفاوت لأنه ليس بجناية على الصوم للنسيان ولا على البضع لأنه ليس بمحل لها فلم يبق بينهما فرق سوى اختلاف الاسم وذلك غير مانع من ثبوت الحكم بالدلالة كمن به سلس البول يتوضأ لوقت كل صلاة كالمستحاضة وكان الحكم فيه ثابتا بالدلالة لا بالقياس فكذا ها هنا على ما مر أي في باب الوقوف على أحكام النظم

قوله وكذلك ترك التسمية أي وكالأكل نسيا ترك التسمية على الذبح ناسيا جعل عفوا بالنص وهو

قوله عليه السلام حين سئل عمن ذبح فترك التسمية ناسيا كلوه فإن تسمية اللّه في فم كل امرئ مسلم وفي رواية ذكر اللّه في قلب كل مسلم معدولا به عن القياس فإن القياس يأبى حله لعدم شرطه إذ التسمية شرط للحل بالاتفاق أما عندنا فظاهر

وأما عند الشافعي فلأنه شرط الملة لتقوم مقام التسمية حتى لا يحل ذبائح أهل الشرك لعدم الملة وقد بينا أنه لا أثر للنسيان في إيجاب الشرط المعدوم كما لو صلى بغير طهارة ناسيا أو ترك إحضار الشهود في النكاح ناسيا فلم يحتمل التعليل بأن يقال الملة في الناسي قامت مقام التسمية وثبت به الحل فيتعدى الحكم به إلى العامد لأنه معدول به عن القياس مع أنه لا مساواة بينهما لأن الناسي لم يوجد منه قصد الترك والإعراض فبقيت الحالة الأصلية معتبرة له حكما فأما العامد فقد تعمد الإعراض والترك فلا يمكن إبقاؤها مع تحقق ما يردها منه كمن قدم إليه طعام حل له أكله بغير إذن لدلالة الحال ولو قيل له لا تأكل لا يحل ولأن حالة النسيان حال عذر وقيام الملة مقام التسمية ضرب من الخفة وثبوت الخفة حالة العذر لا يدل على ثبوتها بلا عذر

وقد روى الكلبي بإسناده عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في الناسي أنه يحل ذبيحته وتسمية ملته وإذا تعمد لم تحل كذا في الأسرار

قوله

وأما المستحسنات جواب عما قال بعض أصحابنا إن المستحسنات كلها

(٣/٤٥٦)

معدول بها عن القياس لمخالفة القياس الظاهر إياها إذ الاستحسان لا يذكر إلا في مقابلة القياس وإذا كان كذلك لا يجوز تعدية الحكم الثابت بالاستحسان إلى غيره لكونه معدولا به عن القياس فقال من المستحسنات ما ثبت معدولا به كما قلتم ومنها ما ثبت بدليل خفي أي بنوع من القياس إلا أنه خفي لا معدولا به عن القياس من كل وجه كما سنبينه فيجوز تعليله وتعديته إلى غيره

قوله

وأما الأصل إذا عارضه أصول يعني إذا ثبت حكم بنص وفيه معنى معقول إلا أنه يعارض ذلك الأصل أصول أخرى تخالفه فلا يسمى ذلك الأصل معدولا به عن القياس أي مخالفا له حتى جاز تعليله والحاصل أن الشرع إذا ورد بما يخالف في نفسه الأصول يجوز القياس عليه إذا كان له معنى يتعداه عند عامة أصحابنا منهم القاضي الإمام أبو زيد والشيخان ومن تابعهم من المتأخرين إليه وذهب عامة أصحاب الشافعي وعامة المتكلمين وليس هذا من قبيل المعدول به عن القياس وحكي عن بعض أصحابنا أنهم لم يجوزوا القياس عليه وعن الشيخ الإمام أبي الحسن الكرخي أنه منع جواز القياس عليه إلا إذا كانت علة منصوصة مثل ما روي أنه عليه السلام علل سؤر الهرة بأنها من الطوافين عليكم والطوافات لأن النص على العلة تنصيص بوجوب القياس أو كانت الأمة مجمعة على تعليله لأن الإجماع كالنص

أو كان ذلك الحكم موافقا لبعض الأصول وإن كان مخالفا للبعض كخبر التحالف عند اختلاف المتبايعين فإنه وإن كان مخالفا لقياس الأصول من وجه لكنه لما كان موافقا لبعض الأصول وهو أن ما يملك على الغير كان القول

قوله فيه قيس عليه الإجارة وعن محمد بن شجاع البلخي أن الحكم المخالف للقياس إن ثبت بدليل مقطوع به جاز القياس عليه وإلا فلا تمسك من لم يجوز القياس عليه بأن إثبات الشيء لا يصح مع وجود ما ينافيه فإذا كان القياس مانعا مما ورد به الأثر لم يجز استعمال القياس فيه لأنه يكون استعمالا للقياس مع ما ينافيه يوضحه أنه إذا جاز القياس على هذا الأصل لم يكن فرق بين هذا الأصل وبين سائر الأصول فيخرج حينئذ من كونه مخصوصا من القياس بخلاف ما إذا نص على علته لأن كل فرد وجدت فيه تلك العلة يصير كالمنصوص عليه ويصير كأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمرنا بأن نقيس عليه كل ما شاركه في العلة وكذا إذا حصل إجماع على جواز القياس عليه لأن الإجماع بمنزلة النص ولأن القياس على الأصل المعدول به عن القياس لا ينفك عن قياس يعارضه وهو القياس على سائر الأصول والقياس إذا لم ينفك عن قياس يعارضه يكون ساقطا لأن من شروطه انفكاكه عن المعارض فإن معارضة الدليل بالدليل يوجب التوقف

(٣/٤٥٧)

واحتج من جوز القياس عليه بأن ما يثبت بخلاف الأصول أصل يجب العمل به فجاز أن يستنبط منه ويقاس عليه غيره كما إذا كان موافقا للأصول وكان القياس عليه بعدما صار أصلا بنفسه كالقياس على سائر الأصول

غاية ما فيه أنه يلزم تعارض القياسين أعني القياس على هذا الأصل والقياس على سائر الأصول وذلك غير مانع عن القياس بل يجب على المجتهد الترجيح ويجوز أن يرجح القياس على سائر الأصول على القياس على هذا الأصل إن كان ثبوته بدليل غير مقطوع به لأن القياس على ما يفيد العلم أولى من القياس على ما يفيد الظن فأما إذا كان دليله مقطوعا به فلا ترجيح بما قلنا لأن الكل ثبت بدليل يفيد العلم فيطلب الترجيح من وجه آخر وتبين أن إثبات الحكم بهذا القياس لم يكن إثباتا بما ينافيه القياس ويمنعه لأنه ليس بثابت بالقياس الذي ينافيه وهو القياس على سائر الأصول بل القياس الذي يوافقه وهو القياس على الأصل الثابت بخلاف ذلك القياس كما لو كان في الحادثة نصان

أحدهما ناف والآخر مثبت لا يمتنع ثبوت الحكم ب

أحدهما إذا ظهر له نوع رجحان باقتضاء الآخر خلافه وإنما يمتنع إضافة النفي إلى النص المثبت أو عكسه فكذا ها هنا يوضحه أن الثابت بالاستحسان معدول به عن القياس الظاهر ثم جاز تعديته إلى غيره إذا كان معناه معقولا كما بينا وإن كان القياس الظاهر يقتضي خلافه وكذا الدليل المخصص للعام إذا عقل معناه يجوز تعليله وتخصيص عموم الكتاب به فلما لم يمنع العموم من قياس يخصه فأولى أن لا يكون القياس على العموم مانعا من قياس يخالفه لأن العموم أقوى من القياس على العموم

وذكر في المحصول إذا كان الحكم في المقيس عليه بخلاف قياس الأصول قال قوم من الشافعية والحنفية يجوز القياس عليه مطلقا ثم قال والحق أن ما ورد بخلاف قياس الأصول إن كان دليلا مقطوعا به كان أصلا بنفسه فكان القياس عليه كالقياس على غيره فوجب أن يرجح المجتهد أحد القياسين وإن كان غير مقطوع به فإن لم يكن علته منصوصة فلا شبهة في أن القياس على الأصول أولى من القياس عليه لأن القياس على ما طريق حكمه معلوم أقوى من القياس على ما طريقه غير معلوم وإن كانت منصوصة فالأقرب أنه يستوي القياس لأن القياس على الأصول طريق حكمه معلوم وإن كان طريق علته غير معلوم وهذا القياس طريق حكمه مظنون وطريق علته معلوم فكل واحد منهما قد اختص بحظ من القوة لأن التعليل لا يقتضي عدا من الأصول أي ليس من شرط صحة التعليل أن يكون للفرع أصول حتى تعلل ويعدى حكمها إلى الفرع ولكنه أي العدد من الأصول مما يصلح للترجيح أي يمكن ترجيح القياس المستنبط من

(٣/٤٥٨)

الأصول على المستنبط أصل واحد على مثال ما قلنا أي في آخر باب المعارضة في عدد الرواة فإن الأصل بمنزلة الراوي والوصف الذي به يعلل بمنزلة الحديث وفي رواية الأخبار قد يقع الترجيح بكثرة الرواة ولكن لا يخرج به من أن يكون رواية الواحدة معتبرة فكذا النص إذا كان معقول المعنى يجوز تعليله بذلك المعنى ليتعدى الحكم به إلى غيره وإن عارضه أصول أخرى

قوله من ذلك أي مما تضمنه هذا الشرط كون الحكم المعلول شرعيا أي الحكم الذي يعلل الأصل لتعديته إلى محل آخر يشترط أن يكون شرعيا لا لغويا عند جمهور العلماء وقال ابن شريح من أصحاب الشافعي والقاضي الباقلاني لا يشترط أن يكون الحكم شرعيا بل يجري القياس في الأسامي واللغات وهو مذهب جماعة من أهل العربية قالوا إنا رأينا أن عصير العنب لا يسمى خمرا قبل الشدة المطربة فإذا حصلت تلك تسمى خمرا وإذا زالت مرة أخرى زال الاسم والدوران يفيد ظن العلية فيحصل ظن أن العلة لذلك الاسم هي الشدة ثم رأينا الشدة حاصلة في النبيذ ويلزم من حصول علة الاسم ظن حصول الاسم وإذا حصل ظن أنه مسمى بالخمر وقد علمنا أن الخمر حرام حصل ظن أن النبيذ حرام والظن حجة فوجب الحكم بحرمة النبيذ ولأنه قد ثبت بالتواتر عن أهل اللغة أنهم جوزوا القياس في اللغة ألا ترى أن كتب النحو والتصريف والاشتقاق مملوءة من الأقيسة وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك الأقيسة إذ لا يمكن تفسير القرآن والأخبار إلا بتلك القوانين فكان ذلك إجماعا بالتواتر وتمسك الجمهور بقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها فإنه يدل على أنها بأسرها توقيفية فيمتنع أن يثبت شيء منها بالقياس ولأن القياس إنما يجوز عند تعليل الحكم في الأصل وتعليل الأسماء غير جائز لأنه لا مناسبة بين شيء من الأسماء وبين شيء من المسميات وإذا لم يصح التعليل لم يصح القياس ألبتة قال الغزالي رحمه اللّه إن العرب إن عرفتنا بتوقيفها أنا وضعنا اسم الخمر مثلا للمسكر المعتصر من العنب خاصة فوضعه لغيره تقول عليهم واختراع فلا يكون لغتهم بل يكون وضعا من جهتنا وإن عرفتنا أنها وضعته لكل ما يخامر العقل فاسم الخمر ثابت للنبيذ بتوقيفهم لا بقياسنا كما أنهم عرفونا أن كل مصدر له فاعل فإذا سمينا فاعل الضرب ضاربا كان ذلك عن توقيف لا عن قياس

وإن سكتوا عن الأمرين احتمل أن يكون الخمر اسم ما يعتصر من العنب خاصة واحتمال غيره فلم يحكم عليهم بأن لغتكم هذه وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعاني ويخصصونها بالمحل كما يسمون الفرس أدهم لسواده وكميتا لحمرته ولا يسمون الثوب المتلون به بذلك بل الآدمي المتلون

(٣/٤٥٩)

به بذلك الاسم لأنهم وضعوا الأدهم والكميت لا للأسود والأحمر بل لفرس أسود وأحمر وكما سموا الزجاج الذي يقر فيه المائعات قارورة أخذا من القرار ولا يسمون الكوز والحوض قارورة وإن قر فيه الماء فإذن كل ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم بالتوقف لا سبيل إلى إثباته ووضعه بالقياس فثبت بهذا أن اللغة وضع كلها توقيف لا مدخل للقياس فيها أصلا فإن قيل سلمنا أنه لا يجوز إثبات الأسامي لغة بالقياس ولكنا نثبت الأسماء الشرعية به فإن الشريعة لما وضعت أسماء لمعاني مثل الصلاة والزكاة والحج لاختصاصها بأحكام شرعية جاز قياس كل محل وجد فيه ذلك المعنى وتسميته بذلك الاسم وكل اسم بني عليه حكم شرعي فهو اسم شرعي لا لغوي فعلى هذا يثبت اسم الخمر للنبيذ شرعا ثم يحرم بالآية ويثبت اسم الزنا للواطة شرعا ثم يترتب عليها الحد بالنص وكذا النباش

قلنا الأسماء الثابتة شرعا تكون ثابتة بطريق معلول شرعا كالأسماء الموضوعة لغة تكون ثابتة بطريق يعرفه أهل اللغة ثم ذلك لا يختص بعلم واحد من أهل اللغة بل يشترك فيه جميع أهل اللغة لاشتراكهم في طريق معرفته فكذلك هذا الاسم يشترك في معرفته جميع من يعرف أحكام الشرع وما يكون بطريق الاستنباط والرأي لا يعرفه إلا القايس فتبين أنه لا يجوز إثبات الاسم بالقياس على أي وجه كان قاله شمس الأئمة رحمه اللّه تبين أيضا أن الدوران إنما يفيد ظن العلية فيما يحتمل الغلبة وها هنا لم يوجد الاحتمال لانتفاء المناسبة بين الألفاظ والمعاني أصلا وحصول العلم بأن شيئا من المعاني لم يكن داعيا للواضع إلى تسميته بذلك الاسم وإذا لم يوجد احتمال العلية لم يكن الدوران مفيدا ظن العلية وتبين أيضا أن الأقيسة المذكورة في اللغة ثابتة بالتوقيف في التحقيق

قوله ولهذا قلنا أي ولاشتراط كون الحكم شرعيا قلنا إن من علل أي أراد أن يثبت بالتعليل جواز استعمال ألفاظ الطلاق للعتق بأن يقول إنما يجوز استعمال لفظ الطلاق في العتاق لحصول زوال الملك فيه به وزوال الملك في العتق موجود فيجوز استعماله فيه أيضا أو نقول لما جازت استعارة ألفاظ العتق للطلاق جازت استعارة ألفاظ

(٣/٤٦٠)

الطلاق للعتق أيضا بالقياس عليه والجامع كون كل واحدة منهما مزيلة للملك كان رأي التعليل باطلا لأن الاستعارة باب أي نوع من اللغة لا بيان إلا بالتأمل في معاني اللغة فإن الألفاظ نوعان حقيقة ومجاز الحقيقة لا تعرف إلا بالسماع والمجاز لا يعرف إلا بالتأمل في معاني اللغة والوقوف على طريق الاستعارة عند أهل اللغة ومعلوم أن طريق الاستعارة فيما بين أهل اللغة غير طريق التعدية في أحكام الشرع فلا يمكن معرفة هذا النوع بالتعليل الذي هو لتعدية حكم الشرع فلهذا كان الاشتغال فيه بالتعليل باطلا وكذلك أي ومثل التعليل المذكور التعليل لجواز النكاح بألفاظ التمليك مثل البيع والهبة واستعارة كلمة النسب للتحرير مثل

قوله لعبده هذا ابني باطل أيضا لما قلنا إن طريقة التأمل فيما هو طريق الاستعارة عندهم دون القياس الشرعي فلا يفيد الاشتغال به شيئا وكذلك التعليل لشرط التمليك في الطعام أي التعليل لإثبات اشتراط التمليك في طعام كفارة اليمين ونحوها باطل عندنا لأن المقصود من هذا التعليل إما معرفة المعنى المراد من الإطعام أو تعدية حكم الكسوة إليه والإطعام اسم لغوي ولا مدخل للقياس في معرفة معنى الاسم لغة وكذلك الكسوة اسم لغوي فلا يكون ما يعقل أي يفهم بالكسوة حكما شرعيا ليصح تعديته بالتعليل إلى غيره بل يجب العمل بحقيقة كل واحد منهما

والإطعام فعل متعد لازمه طعم فحقيقة جعل الغير طاعما وذلك يحصل بالتمكين من الطاعم فيخرج به عن العهدة ثم يصح التمليك بدلالة النص لوجود معنى المنصوص فيه وزيادة على ما مر بيانه في باب الوقوف على أحكام النظم

وأما الكسوة في الحقيقة فاسم لما يلبس أي للملبوس وهو الثوب لا لمنافع اللباس وفعل اللبس وعين الملبوس لا يصير كفارة إلا بالتمليك فلذلك شرط فيها التمليك فبطل التعليل من كل وجه يعني لا يصح أن يقال شرط في الكسوة فيشترط في الإطعام قياسا ولا أن يقال حصل الخروج عن العهدة بالإباحة في الإطعام فيحصل بها في الكسوة أيضا لأن كل واحد اسم لغوي لا مدخل للقياس في معناه وكذلك التعليل لإثبات اسم الزنا للواطة بأن يقال سمي الزنا زنا لأنه إيلاج في فرج بطريق الحرمة وفي اللواطة هذا المعنى فيثبت فيها اسم الزنا فيدخل اللائط تحت قوله تعالى الزانية والزاني الآية واسم الخمر لسائر الأشربة

(٣/٤٦١)

يعني المسكرة بأن يقال سمي الخمر خمرا لأنها تخمر العقل فيسمى سائر الأشربة المسكرة خمرا لتحقق ذلك المعنى فيه قياسا حتى يدخل في عموم

قوله عليه السلام حرمت الخمر لعينها فيحد بشرب القليل والكثير منها كالخمر

واسم السارق للنباش بأن يقال سمي السارق سارقا لأنه يأخذ مال الغير في خفية ولهذا لا يسمى الغاصب به وهذه العلة موجودة في النباش فيثبت له اسم السارق قياسا ليدخل تحت عموم

قوله عز وجل والسارق والسارقة الآية باطل لما بينا أن من شرط القياس تعدية الحكم الشرعي وهذه أسماء لغوية فلا يجري فيها القياس

قوله

والثاني من هذه الجملة التي تضمنها الشرط الثالث التعدية فإن حكم التعليل التعدية عندنا أي تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بحيث يبطل التعليل دونه أي دون هذا الحكم وهو التعدية يعني ليس للتعليل حكم سوى التعدية عندنا فمتى خلا تعليل عن التعدية كان باطلا فعلى هذا يكون التعليل والقياس بمنزلة المترادفين وقال الشافعي هو صحيح أي التعليل صحيح من غير اشتراط التعدية وحكمه ثبوت الحكم في المنصوص بالعلة ثم إن كانت العلة متعدية يثبت الحكم بها في الفرع ويكون قياسا وإن لم يكن متعدية بقي الحكم مقتصرا على الأصل ويكون تعليلا مستقيما بمنزلة النص الذي هو عام والذي هو خاص فعلى هذا يكون التعليل أعم من القياس والقياس نوعا منه وحاصل هذا الفصل أن الأصوليين اتفقوا على أن تعدية العلة شرط صحة القياس وعلى صحة العلة القاصرة الثابتة بنص أو إجماع واختلفوا في صحة القاصرة المستنبطة كتعليل حرمة الربا في النقدين بعلة الثمنية فذهب أبو الحسن الكرخي من أصحابنا المتقدمين وعامة المتأخرين مثل القاضي الإمام أبي زيد ومتابعيه إلى فسادها وهو قول بعض أصحاب الشافعي أو أبي عبد اللّه البصري من المتكلمين

وذهب جمهور الفقهاء المتكلمين مثل الشافعي وعامة أصحابه أحمد بن حنبل والقاضي الباقلاني وعبد الجبار وأبي الحسين البصري إلى صحتها وهو مذهب مشايخ سمرقند من أصحابنا رئيسهم الشيخ أبو منصور رحمه اللّه وهو مختار صاحب الميزان تمسكوا في ذلك بأن هذا أي الرأي المستنبط من الكتاب والسنة من جنس الحجج التي تعلق بها أحكام الشرع لما مر

(٣/٤٦٢)

من الدلائل في باب القياس فوجب أن يتعلق به الإيجاب أي إثبات الحكم مطلقا سواء تعدى إلى فرع أو لم يتعد كسائر الحجج من الكتاب والسنة يثبت الحكم به خاصا كان أو عاما وهذا لأن الشرط في الوصف الذي يعلل الأصل به قيام دلالة التمييز بينه وبين سائر الأوصاف من التأثير أو الإخالة والمناسبة وذلك يتحقق في الوصف الذي يقتصر على المنصوص كما يتحقق في الوصف الذي يتعدى عن المنصوص إلى فرع آخر وبعدما وجد فيه شرط صحة التعليل به لا يثبت الحجر عن التعليل به إلا بمانع وكونه غير متعد لا يصلح أن يكون مانعا للإجماع على صحة العلة القاصرة المنصوصة إنما المانع ما يخرجه من أن يكون حجة كما في النص ولم يوجد وبأن صحة العلة لو كانت موقوفة على تعديها لما كان تعديها موقوفا على صحتها لأنه يلزم من ذلك توقف الصحة على التعدي وتوقف التعدي على الصحة وهو دور والتعدي متوقف على الصحة بالإجماع فلزم منه بطلان توقف الصحة على التعدي

وتمسك الفريق الأول بأن دليل الشرع لا بد من أن يوجب علما أو عملا إذ لو خلا عنهما لكان عبثا واشتغالا بما لا يفيد وهذا أي التعليل لا يوجب علما أصلا فإنه لا يوجب إلا غلبة الظن بلا خلاف ولا يوجب عملا في المنصوص عليه لأن وجوب العمل في المنصوص عليه مضاف إلى النص لا إلى العلة لأن النص فوق التعليل فلا يصح قطع الحكم وهو إيجاب العمل عن النص بالتعليل أو العدول عن أقوى الحجتين مع إمكان العمل به إلى أضعفهما مما يرده العقل فلم يبق للتعليل أثر إلا في الفرع ولا يثبت ذلك إلا بالتعدي فعرفنا أنه ليس للتعليل حكم سوى التعدية إلى الفروع فإذا خلا التعليل عنه كان باطلا فإن قيل الحكم بعد التعليل مضاف إلى العلة عندي في الأصل كما في الفرع لا إلى النص فكانت العلة دليل الحكم والنص دليل الدليل إذ لو لم يكن كذلك لم يمكن التعدية إلى الفرع إذ لا بد لها من اشتراك الأصل والفرع في العلة ألا ترى أنك تقول هذا الحكم ثبت في الأصل بهذا المعنى وهو موجود في الفرع فيتعدى الحكم به إليه ولأن الحكم لو لم يثبت بالعلة في المنصوص عليه لأدى إلى المناقضة فإن تخلف الحكم عن العلة دليل التناقض والفساد وذلك باطل ولأن العلة إنما تكون علة لتعلق الحكم بها فإذا

(٣/٤٦٣)

لم يكن حكم النص متعلقا بها لا تكون علة وإذا كان كذلك كان التعليل مبينا أن الموجب للحكم هو العلة فيكون مفيدا كما إذا كانت العلة منصوصة قلنا إضافة الحكم في المنصوص عليه إلى العلة غير مستقيم لأن الحكم قبل التعليل كان مضافا إلى النص فلو أضيف بعد التعليل إلى العلة كان التعليل مبطلا للنص لأنه لا يبقى له حكم والتعليل على وجه يكون مغيرا لحكم النص باطل فكيف إذا كان مبطلا له يوضحه أن العلة إنما جعلت موجبة عند عدم النص بإجماع الصحابة والمسلمين فلو جعلت موجبة في مورد النص لجعلت علة في غير موضعها وأنه لا يجوز لأنها علة شرعية فلا يمكن أن تجعل علة فيما لم يجعلها الشرع علة فيه

وقوله العلة وما يتعلق به الحكم مسلم ولكن في الفرع لا في الأصل

وأما اعتبارهم الأصل بالفرع في أن الحكم فيه مضاف إلى العلة ففاسد لأن الفرع يعتبر بالأصل فأما الأصل فلا يعتبر بالفرع في معرفة حكمه بحال

وأما صحة التعدية فلأن الحكم في الأصل بالنسبة إلى الفرع مضاف إلى العلة وإن كان مضافا إلى النص بالنسبة إلى نفسه فيتحقق شرط التعدية وهو اشتراك الأصل والفرع في العلة وهذا كتوقف أول الكلام على آخره إذا عطفت عليه جملة ناقصة فإن التوقف ثابت بالنسبة إلى الناقصة ليتحقق الاشتراك في الخبر لا بالنسبة إلى نفسه كما مر تحقيقه في باب أحكام الحقيقة والمجاز وهذا بخلاف العلة القاصرة المنصوصة فإن الشارع لما نص عليها أفادنا بذلك علما بأنها هي المؤثرة في الحكم ولا فائدة أعظم منه ولم يلزم منه تغيير حكم النص بالرأي أيضا بل الحكم مضاف إلى العلة ابتداء بالنص فكانت صحيحة

وأما ما ذكروا من لزوم المناقضة فوهم لأن المناقضة فيما إذا وجدت العلة ولا حكم معها لفساد فيها أما إذا استحق بما هو فوقه فلا يكون مناقضة ولا يخرج به من أن يكون علة ألا ترى أن الجار عندنا لا يستحق الشفعة مع وجود الشريك فوقه ولا يدل ذلك على أن الجواز ليس بسبب وأن الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس وإن كانا محجوبين بالأب لأن استحقاق نصيبها بالأبوة لم يخرج الأخوة من كونها سببا للحجب والاستحقاق كذا في مختصر التقويم ولا يقال يلزم مما ذكرتم تخصيص العلة لأنا نقول إنما يلزم ذلك لو قطع الحكم عن العلة في المنصوص عليه من كل وجه ولم يجعل كذلك بل أضيف الحكم إلى العلة

(٣/٤٦٤)

فيه بالنسبة إلى الفرع كما بينا فلا يكون تخصيصا إليه أشار أبو اليسر رحمه اللّه فإن قيل لا نسلم انحصار الفائدة على ما ذكرتم بل لها فوائد إحداها إثبات اختصاص النص بالحكم كما ذكر في الكتاب فلا يشتغل المجتهد بالتعليل للتعدية إلى الفرع بعدما عرف اختصاص النص به وثانيتها معرفة الحكمة المميلة للقلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق فإن القلوب إلى قبول الأحكام المعقولة أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد وثالثها المنع من تعدية الحكم عند ظهور علة أخرى معتدية إلا بدليل يدل على استقلال المعتدية بالعلية وعلى ترجحها على القاصرة ولولا القاصرة لتعدى الحكم بها من غير توقف على دليل مرجح وهي من الفوائد الجليلة وإذا ظهرت هذه الفوائد وجب القول بصحتها قلنا حصول هذه الفوائد بها ممنوع أما الأولى فلأن الاختصاص يحصل بترك التعليل لأنه كان ثابتا قبل التعليل إذ النص لا يدل بصيغته إلا على ثبوت الحكم في المنصوص عليه وإنما يتعمم بالتعليل فإذا ترك التعليل يبقى على الاختصاص على ما كان ضرورة فلم يحصل بهذا التعليل ما لم يكن ثابتا على أن التعليل بما لا يتعدى لا يمنع التعليل بما يتعدى لأنه كما يجوز أن يجتمع في الأصل وصفان كل واحد منهما يتعدى إلى فروع و

أحدهما أكثر تعدية من الآخر يجوز أن يجتمع وصفان يتعدى

أحدهما ولا يتعدى الآخر فيجب التعليل حينئذ بالوصف المتعدي لأنه أقرب إلى الاعتبار المأمور به من غير المتعدي فثبت أن بهذا التعليل لم يثبت اختصاص أصلا وكيف يثبت وبالإجماع بيننا وبينهم عدم العلة لا يوجب عدم الحكم لجواز أن يثبت الحكم بعلة أخرى فوجود القاصرة لا يدل على عدم الحكم في غير المنصوص لجواز ثبوته بعلة أخرى أيضا إليه أشار شمس الأئمة رحمه اللّه

وأما الثانية فلأن الوقوف على الحكمة من باب العلم لا من باب العمل والرأي لا يوجب علما بالاتفاق فلا تحصل هذه الفائدة بهذا التعليل غايته أنه يفيد ظنا بحكمة الحكم ولكن الشرع لم يعتبر الظن إلا لضرورة العمل بالبدن والقاصرة لا يتعلق بها عمل فوجب الإعراض عنها بالنظر إلى ما يفيد العلم أو يوجب العمل

وأما الثانية فلأنا لا نسلم أن القاصرة تعارض المتعدية على وجه يحتاج إلى دليل مرجح لأن المتعدية إذا ظهرت في موضع القاصرة وظهر تأثيرها فهي العلة عندنا دون القاصرة وعندكم المتعدية راجحة على القاصرة لكونها أكثر فائدة ولكونها متفقا عليها على ما نص في القواطع والمحصول

(٣/٤٦٥)

وغيرهما فإذن لم يتوقف ترجح المتعدية على دليل آخر وإذا كان كذلك لم يكن القاصرة دافعة للمتعدية بوجه فثبت أنه ليس فيها فائدة فكان وجودها وعدمها بمنزلة

وأما ما ذكروا من الدور فليس بلازم لأنه إنما يلزم لو كان توقف كل واحد من الصحة والتعدية توقف تقدم أعني مشروطا بتقدم كل منهما على الآخر وليس كذلك بل هو توقف معية كتوقف وجود كل واحد من المتضايفين على الآخر فلا يكون دورا

قوله ومن هذه الجملة أي مما تضمنه الشرط الثالث أن يكون المتعدي حكم النص بعينه من غير تغيير أي يشترط أن يثبت بالتعليل مثل حكم النص في الفرع من غير أن يثبت له تغير في الفرع بزيادة وصف أو سقوط قيد ونعني به المثلية في نفس الحكم من الجواز والفساد والحل والحرمة ونحوها لا في كونه قطعيا لأن ذلك لا يثبت بالقياس وإن استجمع شرائطه قال الشيخ في مختصر التقويم وهذا فصل دقيق يجب تحفظه فإن أكثر المقايسين غيروا حكم النص ولم يعدوه إلى فرعه بعينه من ذلك أي مما اعتبر فيه هذا الشرط قولنا بطلان السلم الحال فإن التعليل لتعدية حكم النص إليه لما أوجب تغييره في الفرع لزم القول ببطلانه لفوات شرطه وهو عدم التغير

وبيانه أن الشافعي رحمه اللّه جوز السلم الحال في الموجود دون المعدوم متمسكا بأن النبي عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم من غير اشتراط أجل وكان اشتراطه زيادة عليه فيكون مردودا ومعللا بأن السلم المؤجل لما جاز مع أن الأجل فيه خلاف ما يقتضيه العقد فإن مقتضاه ثبوت الملك ووجوب التسليم في الحال والأجل يخالفه جاز السلم الحال بالطريق الأولى لأن اشتراط البدل حالا تقرير لموجب العقد وتحقيقه أنه شرع رخصة ومعنى الترخيص فيه من وجهين

أحدهما سقوط مؤنة إحضار المبيع وإراءته للمشتري دفعا للحرج الذي يلحق الباعة بإحضاره مكان العقد أو بتأخر العقد إلى حضور المبيع

والثاني دفع حاجة الإفلاس

والمعنى الأول أولى بالاعتبار لأن في قول الراوي ورخص في السلم مبنيا على

قوله نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان إشارة إليه فإن عند يدل على الحضرة لا على الملك ولأن من له أكرار من حنطة لو باع الحنطة سلما يجوز إذا كان مؤجلا مع عدم حاجته إلى بيع الدين لقدرته على بيع العين ولو كان المعتبر فيه دفع حاجة الإفلاس لما جاز في هذه الصورة ثم لما جاز مؤجلا بناء على المعنى الثاني لأن يجوز حالا بناء على المعنى الأول كان أولى ويكون التزامه حالا دليلا على أن مقصوده دفع حاجة الإحضار والتزامه مؤجلا دليلا على أن مقصوده دفع حاجة الإفلاس فيكون كلا النوعين مشروعا وقلنا السلم الحال باطل لأن الشرع ورد بجواز السلم المؤجل وتعليله لتعدية حكمه إلى

(٣/٤٦٦)

الحال باطل لأن الشروع رد بجواز السلم المؤجل وتعليلة لتعدية حكمه إلى الحال غير ممكن لتأديته إلى حكم النص فكان باطلآ وذلك أن محل البيع حكمة إلى الحال غير ممكن لتأديته إلى تغيير حكم النص فكان باطلا وذلك أن محل البيع مال مملوك متقوم مقدور التسليم بالإجماع حتى لو باع الميتة أو باع ما لا يملكه ثم اشتراه وسلمه أو باع الخمر أو باع الآبق أو المغصوب المجحود لم يجز لفوات المالية في المسألة الأولى وعدم الملك في الثانية وعدم التقوم في الثالثة والعجز عن التسليم في الرابعة والمعقود عليه في السلم ليس بموجود قبل العقد فضلا من أن يكون مملوكا أو مقدور التسليم وبالعقد لا يصير موجودا حسا ولا مملوكا إذ لا يتصور أن يتملك الإنسان ما في ذمته بالسبب الذي وجب عليه لأنه إنما وجب في ذمته مملوكا عليه للغير لا له فلو ملكه لسقط عنه فكان الحكم الأصلي في السلم عدم الجواز إلا أن الشرع كما جوز بيع المنفعة في الإجارة قبل وجودها للحاجة جوز هذا العقد مع قيام المانع رخصة للحاجة وهي أن المفلس المعدم قد يحتاج إلى مباشرته ليحصل البدل مع عجزه عن تسليم المعقود عليه في الحال وقدرته على ذلك بعد مضي مدة معلومة بطريق العادة إما بالاكتساب أو بإدراك غلاته بمجيء أوانه فجوز له الشرع هذا العقد مع عدم الملك والعجز عن التسليم ولكن على وجه يقدر على التسليم عند وجوب التسليم

وذلك بأن يكون مؤجلا فإن الأجل لما كان سببا للقدرة أقيم مقامها في تصحيح العقد كما أقيمت العين مقام المنفعة في صحة إضافة العقد إليها فصار الأجل شرطا لا لعينه بل خلفا عن القدرة التي هي الشرط الأصلي في البيع فتبين أن هذه رخصة نقل للشرط الأصلي إلى ما يصلح خلفا عنه وهو الأجل لأنه يصلح وسيلة إليه فإن تيسر الأداء بعد مدة بالتكسب أو بمجيء وقت الحصاد ظاهر وإذا كان النص أي النص المرخص ناقلا أي للشرط الأصلي وهو القدرة الحقيقية إلى خلفه وهو القدرة الاعتبارية بإقامة الأصل مقامها لم يستقم التعليل للاستقاط اللام للعاقبة أي يجز تعليله على وجه يؤدي إلى إسقاط هذا الشرط أصلا والإبطال أي إبطاله أو إبطال حكم النص فإنه متى سقط الأجل الذي هو القدرة الاعتبارية لم يكن هذا تعدية حكم النص يكون إبطالا له وإثباتا لحكم آخر في الفرع لم يتناوله النص ألا ترى أن الشرع لما نقل الطهارة بالماء عند العجز إلى التيمم لم يجز تعليله على وجه يؤدي إلى إسقاط الطهارة

(٣/٤٦٧)

أصلا لأنه تغيير لحكم النص فكذا هذا ولا يقال لا يصلح أن يكون الأجل شرطا لصحة العقد بطريق الخلف عن القدرة لأن القدرة تشترط سابقة على العقد والأجل يثبت بعد انعقاد العقد حكما له فكيف يقوم مقامها ألا ترى أنه لو أسقط الأجل عقيب العقد من ساعته لم يفسد العقد

وكذا لو مات المسلم إليه عقيب العقد من ساعته ينقلب السلم حالا من غير أن يثبت القدرة لأنا نقول القدرة على التسليم شرط لتوجه الخطاب عليه بالتسليم فيراعى وجودها وقت وجوب التسليم ووجوب التسليم حكم العقد يثبت بعده والعقد لا ينعقد إلا والأجل المقدر على التسليم يثبت به فاستوفى العقد حكمه فلا حاجة إلى القدرة قبل العقد

وأما عدم فساد العقد بسقوط الأجل فلأن العقد إذا صح بوجوب الأجل القائم مقام القدرة لا يفسد بفواته بعد كما إذا أبق العبد المبيع قبل القبض إليه أشير في الطريقة البرغرية

وأما بناء الرخصة على سقوط مؤنة الإحضار ففاسد لأن معنى الرخصة اليسر والسهولة والتسليم إذا لزمه حالا عقيب العقد لا بد من أن يحضر المبيع قبل العقد ليمكنه التسليم عقيبه وإذا أحضر فأي فرق بين أن يبيعه سلما أو عينا وأي تفاوت في حق المشتري بين أن ينتظر إحضاره قبل العقد وبين أن ينتظر إحضاره عقيب العقد يوضحه الرخصة لو بنيت عليه يكون النهي عنه في

قوله صلى اللّه عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان بيع ما غاب عن المجلس وهو جائز بالإجماع فإنه لو باع شيئا غائبا له قد رآه المشتري وأشار إلى مكانه أو بينه صح

وبيان المكان والإشارة إليه غير متعذر ولو باع ما يحضر به قبل الملك ثم ملك وسلم لم يجز فثبت أن المراد من النهي بيع ما ليس في ملكه لا بيع ما ليس بحضرته وأن الرخصة في

قوله صلى اللّه عليه وسلم له ورخص في السلم واقعة على عدم الملك الذي هو مفسد بالإجماع لا على الغيبة عن المجلس

وأما

قوله لو باع ما هو موجود عنده سلما يجوز فلا يجد به نفعا لأن إقدامه على السلم دليل على أن ما عنده مستحق بحاجة أخرى فصار بمنزلة المعدوم كالماء المستحق بالشرب يجعل عدما في حق جواز التيمم ولأن الشرع لما بنى هذه الرخصة على العدم وهو أمر باطن أقيم السبب الظاهر الدال على العدم والعجز عن البيع الرابح وهو الإقدام على البيع بأوكس الأثمان مقامه كما أقيم السفر الذي هو سبب المشقة مقام المشقة التي هي أمر باطن في حق الترخص

وقوله ومن ذلك قولهم أي ومن التعليل الذي غير فيه حكم الأصل في الفرع قول

(٣/٤٦٨)

أصحاب الشافعي في الخاطئ والمكره يعني في الإفطار بأن تمضمض ذاكرا لصومه غير مبالغ فيه فسبق الماء حلقه أو صب الماء في حلقه أو أكره على الإفطار إن فعلهما لا يكون فطرا لعدم القصد كفعل الناسي فإنه لما لم يقصد الفطر لتعذر القصد إلى الشيء مع عدم العلم به لم يجعل فعله فطرا وإن وجد منه القصد إلى نفس الفعل فلأن لا يكون فعل الخاطئ فطرا مع أنه لم يقصد الفطر ولا الفعل كان أولى وكذا المكره على الفطر لأن الإكراه إذا كان بغير حق ينقل فعل المكره إلى الحامل عليه وإذا انتقل إليه لم يبق له فعل كالأكل ناسيا لما أضيف إلى صاحب الحق لم يبق للأكل فعل وهذا بخلاف ما إذا بالغ في المضمضة فسبق الماء حلقه حيث يفسد صومه عند بعض أصحاب الشافعي وإن لم يقصد الفطر لأن المبالغة في المضمضة محظورة منهي عنها في حالة الصوم فما تولد منها كان مضمونا عليه كمن حفر في الطريق يضمن ما تولد منه من تلف مال أو إنسان

قال الشيخ رحمه اللّه وهذا تعليل باطل وبين فساده من وجهين

أحدهما أن بقاء الصوم مع النسيان أي مع الأكل ناسيا ليس لعدم القصد فإن الركن يفوت بعدم الأداء وبعد ما فات ليس لعدم القصد إلى تفويته أثر في وجوده لأن العدم ليس بشيء فلا يصلح مؤثرا في الوجود ألا ترى أن من تسحر عن ظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع يفسد صومه لفوات ركنه وإن لم يوجد منه قصد إلى الفطر فإن القصد كما ينعدم بنسيان الصوم ينعدم بجهل اليوم وإن أغمي عليه قبل غروب الشمس وبقي كذلك إلى آخر الغد لا يكون صائما وإن انعدم منه القصد إلى ترك الصوم وأن من لم ينو الصوم أصلا لأنه لم يعلم شهر رمضان ولم يأكل شيئا لم يكن صائما والقصد إلى تفويت الصوم لم يوجد فإذا لم يكن لعدم القصد أثر في إيجاد الصوم مع عدم ما ينافي الصوم من الأكل لم يكن له أثر في وجود الصوم مع وجود ما ينافيه فعرفنا أن بقاء صوم الناسي ليس لعدم القصد لكنه متصل بقوله لعدم القصد أي لكن فعل الناسي وهو الأكل لم يجعل فطرا بالنص وهو

قوله عليه السلام أتم على صومك غير معلول أي غير معقول المعنى فلا يقاس عليه غيره وعلى ما قلنا أي في بيان أمثلة الشرط الثاني

وقوله وعلى هذا الأصل بيان الوجه الثاني في بطلان ذلك التعليل يعني يخرج فساد تعليله على هذا الأصل الذي نحن في بيانه هو أنه إن سلمنا أن نص الناسي معلول فإلحاق الخاطئ والمكره به غير مستقيم لأنه لا مساواة بين الناسي وبين الخاطئ والمكره في العذر وعدم القصد وذلك لأن النسيان أمر جبل أي خلق عليه الإنسان

(٣/٤٦٩)

لا صنع له فيه ولا يمكنه الاحتراز عنه بوجه فكان سماويا محضا فكان منسوبا إلى صاحب الحق من كل وجه كما أشار إليه

قوله عليه السلام إنما أطعمك اللّه وسقاك فلم يصلح لضمان حقه لأنه صدر منه فاستقام أن يجعل الركن باعتباره قائما حكما فأما الخطأ والإكراه فقد يمكن الاحتراز عنهما بالتثبت والاحتياط في المقدمات والالتجاء إلى الإمام العادل أنهما ليسا من جهة صاحب الحق فتعدية الحكم من الناسي إليهما يكون تغييرا لأن النص لما أوجب الحكم في المنصوص بمعنى فإثباته في الفرع بمعنى آخر لا يصلح علة لذلك الحكم يكون تغييرا له في الفرع لا تعدية لأن حكم الأصل ثابت بعلة وحكم الفرع ثابت بلا علة فكان غيره ألا ترى أن المريض لما سقط عنه القيام بسبب العذر الذي جاء من قبل صاحب الحق وهو المرض لم يجب عليه الإعادة قائما بعد البرء لم يجز تعديته إلى المقيد مع تحقق عجزه لأن عذره ليس من جهة صاحب الحق حتى وجب عليه الإعادة قائما بعد رفع القيد فكذا ها هنا فتبين بما ذكرنا أن حكم الأصل عدم ضمان حق أتلفه صاحب الحق والثابت في الفرع عدم ضمان حق أتلفه غير صاحب الحق بقدر له مدفع فكان تغييرا لا محالة

وإنما قيد بقوله من وجه لأن فعل العبد مضاف إلى اللّه تعالى خلقا إذ هو خالق أفعال العباد عند أهل السنة وإن كان مضافا إلى العبد كسبا فلهذا قال ومن وجه

قوله ومن ذلك أي ومما غير حكم الأصل في الفرع بالتعليل أن حكم النص في الأشياء الأربعة وهي الحنطة والشعير والتمر والملح تحريم متناء بالتساوي في المعيار بقوله إلا سواء بسواء وقد أثبته الخصم بعلة الطعم فيما لا معيار له كالتفاحة والسفرجل والحفنة غير متناه فكان خلاف ما أثبته الشرع إذ الحرمة المتناهية غير المؤبدة كالحرمة الثابتة بالرضاع أو المصاهرة غير الحرمة الثابتة بالطلقات الثلاث فيكون هذا تعليلا باطلا ولا يلزم عليه حرمة بيع المقلية بغير المقلية والدقيق بالحنطة فإنها غير متناهية بالكيل لأن الحرمة ما ثبتت في هذا المحل وإنما يثبت قبل القلي متناهية بالمساواة كيلا لكن العبد أبطل الكيل على نفسه بالقلي والطحن فإن الأجزاء بالقلي تكثر إذ تنتفخ الحنطة وبالطحن تنفرق فلا تعرف المساواة بعد بالكيل الذي جعل مسويا ومنهيا للحرمة فبقيت الحرمة غير متناهية ويجوز أن تثبت الحرمة متناهية ثم تبطل النهاية بصنع العباد فتبقى غير متناهية فأما إن ثبتت غير متناهية بإثبات الشرع وما أثبتها الشارع إلا متناهية فلا كذا في الطريقة البرغرية

ولكن لهم أن يقولوا نحن ما أثبتنا الحرمة بالتعليل بل بعموم النص وهو

قوله

(٣/٤٧٠)

عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام على ما مر بيانه والتعليل بالطعم لقصر الحكم على المنصوص كالتعليل بالثمنية لا للتعدية فلا يكون فيه تغيير ونحن وإن بينا أن التعليل بعلة قاصرة فاسدة لكن ذلك يوجب أن يكون فساد هذا التعليل باعتبار القصر لا باعتبار تغيير الحكم في الفرع فلم يكن من أمثلة هذا الفصل

قوله ومن ذلك أي ومن التعليل المغير للحكم في الفرع قول مخالفنا في تعيين النقود إلى آخره الدراهم والدنانير والفلوس الرائجة لا تتعين بالتعيين في عقود المعاوضات عندنا وعند زفر والشافعي وأصحابه تتعين وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا هلكت الدراهم المعينة أو استحقت لا ينفسخ العقد عندنا وعندهم ينفسخ ولو أراد المشتري أن يحبسها أو يعطي البائع مثلها قدرا وصفة له وذلك عندهم ليس له ذلك ولو مات المشتري مفلسا كان البائع أسوة للغرماء فيها وعندهم كان البائع أحق بها من غيره عللوا فيما ذهبوا إليه بأن التعيين تصرف حصل من أهله مضافا إلى محله مفيدا في نفسه فيصح كتعيين السلع أما الأهلية فظاهرة لأنها تثبت بالعقل والبلوغ والملك والجميع حاصل له ولهذا صح منه تعيين السلعة للبيع

وأما المحلية فلأن محل التعيين حقيقة يشغل حيزا من المكان لتمكن الإشارة إليه والنقد بهذه المثابة فكان محلا للتعيين ولهذا يتعين في الودائع والمغصوب حتى لو أراد المودع أو الغاصب أن يحبس الدراهم المودعة أو المغصوبة ويرد مثلها لم يكن له ذلك وكذا يتعين في الهبة حتى يكون للواهب حق الرجوع في عينها لا في مثلها

ويتعين في البيع أيضا حتى إن الغاصب إذا اشترى بالدراهم المغصوبة بعينها طعاما ونقدها لا يباح له تناوله ولو لم يتعين فحل له ذلك كما لو اشترى بدراهم مطلقة ثم نقد تلك الدراهم فثبت أنها محل للتعين

وأما كونه مفيدا ففي حق البائع والمشتري جميعا أما في حق البائع فلأنه يملك العين والملك في العين أكمل منه في الدين ولهذا لو أدى زكاة العين من الدين لا يجوز ولو حلف لا مال له وله على الناس ديون لا يحنث في يمينه ولأنه إذا ملك العين كان أحق بها من سائر غرمائه بعد موته ولا يملك المشتري إبطال حقه بالتصرف فيه فربما يكون ذلك من كسب حلال فيرغب فيه ما لا يرغب في غيره

وأما في حق المشتري فلأن ذمته لا تصير مشغولة بالدين ولا يطالب بشيء إذا هلكت الدراهم في يده وبهذا الطريق تتعين الدراهم في الوكالة حتى لو دفع دراهم ليشتري بها شيئا فهلكت بطلت الوكالة وإذا ثبتت هذه الجملة وجب أن يصح كتعيين السلع وإنما قيد بكونه مقيدا في نفسه احترازا عن تعيين صنجات الميزان فإنه لا يصح مع وجود الأهلية والمحلية لعدم الفائدة فإن ما عين من الصنجات وغيره سواء في الوزن

(٣/٤٧١)

ولأن الحكم قد يمتنع بعد ثبوت الأهلية والمحلية لعدم الفائدة فإن من اشترى عبد نفسه من نفسه لا يصح لعدم الفائدة ولو اشترى عبده وعبد غيره بثمن معلوم صح ودخل عبده في البيع لظهور الفائدة وهو انقسام الثمن عليهما بعد دخولهما في العقد ولم يدخل كان بيعا بالحصة ابتداء

قالوا ولا معنى لقولكم إن موجب العقد في جانب الثمن إيجاده في الذمة ابتداء لأن البيع ما شرع لإيجاد الأموال بل شرع لنقل الملك إلى الغير ولإثبات الملك فيها وذلك يقتضي أن يكون محل الملك موجودا في الجانبين تحقيقا لمعنى المعارضة فكانت العينية فيه أصلا والانتقال إلى الدين رخصة كما في جانب البيع

قوله هذا أي التعليل الذي ذكروه تغيير لحكم الأصل أي للحكم الأصلي في الفرع فيكون باطلا وذلك لأن حكم الشرع في الأعيان أن البيع يتعلق به وجوب ملكها يعني حكم الشرع في الأعيان أن يتعلق بالبيع ثبوت ملك الأعيان لا وجودها في نفسها ولهذا لا بد من وجودها في ملك البائع عند العقد ليصح العقد إلا في موضع الرخصة وحكم البيع في جانب الأثمان وجودها ووجوبها معا أي حكم البيع في جانب الثمن أن يوجد الثمن في ذمة المشتري ويجب عليه للبائع لأن الثمن لم يكن موجودا في الذمة قبل البيع فيوجد بعد البيع بصفة الوجوب فكان وجوده ووجوبه من أحكامه ثم استدل على أن ما ذكر هو الحكم الأصلي في جانب الثمن بوجوه ثلاثة فقال بدلالة ثبوتها في الذمة ديونا بلا ضرورة يعني أنها تثبت ديونا في الذمة مع القدرة على العين فإن من اشترى شيئا بدراهم غير عين وفي يده أو كيسه دراهم أو بين يديه دراهم موضوعة صح البيع ويثبت الثمن في الذمة فلو لم يكن ثبوته في الذمة أصليا وكان بحيث لا يجوز إلا من عذر لما جاز البيع عند عدم العذر ولنهي الشارع عنه واستثنى حالة العذر ليظهر لنا جهة فساده من جوازه كما فعل في جانب المبيع بأن نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم فعلمنا أن ثبوت الثمن دينا في الذمة حكم أصلي لا ضروري لثبوته في الذمة مطلقا سواء كان له دراهم أو لم تكن

فاندرج فيما ذكرنا الجواب عما يقال المبيع يثبت دينا في الذمة بلا ضرورة أيضا فإن من له أكرار حنطة لو باع حنطة سلما يجوز ثم لم يدل ذلك على أنه حكم أصلي فكذا ها هنا لأن النهي لما ورد عن بيع ما ليس عند الإنسان وثبت في مقابلته الرخصة في السلم علم أن ذلك ليس بأمر أصلي وأن الجواز في الصورة المذكورة بناء على الحاجة تقديرا كما مر بيانه وها هنا لم يرد نهي عن الشراء بثمن ليس في ملكه بل

(٣/٤٧٢)

قرر الشرع على العادة الجارية في الأسواق في الشراء بدراهم غير معينة فعلم أنه أمر أصلي

وقوله وبدلالة جواز الاستبدال بها أي بالأثمان وجه ثان في الاستدلال بأن الدينية في الثمن أصل يعني جواز الاستبدال بالثمن قبل القبض يدل أيضا على أن ثبوته في البيع أمر أصلي لا ضروري إذ لو كانت العينية فيه أصلا وكان العدول عنها إلى الدين رخصة بطريق الضرورة كما في السلم لبقي فيما وراء موضع الضرورة وهو الجواز بالثبوت في الذمة على حكم العينية لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها ولو بقي على حكم العينية لم يجز الاستبدال به قبل القبض كما لم يجز الاستبدال بالمبيع العين ألا ترى أن العينية لما كانت أصلا في البيع وكان العدول عنها إلى الدين رخصة بطريق الضرورة لم يظهر الدينية فيما وراء موضع الضرورة وكان للمسلم فيه حكم العين في حرمة الاستبدال به قبل القبض وصحة الفسخ عليه وحده بعد هلاك رأس المال ولما جاز الاستبدال بالثمن قبل القبض ولم يرد عليه الفسخ وحده بعد هلاك المبيع علم أن الثمن بخلاف السلعة وأن الدينية فيه أصل إليه أشير في الأسرار

فبهذا عرفت أن

قوله وهي ديون أي حال كونها ديونا إلى آخره لبيان الفرق بينه وبين السلم بأن دينيته أصل ودينية السلم عارض

وقوله وبدلالة أنه لم يجبر هذا النقص بقبض ما يقابله دليل ثالث على أصالة دينية الثمن يعني لو كانت العينية أصلا في الثمن لتمكن بالنقل إلى الدين ضرب عذر فيه لا محالة فإنه أبعد عن صاحبه من العين وهذا نقص فيه فكان يجب جبر هذا النقص بقبض ما يقابله وهو المبيع في المجلس كما وجب جبر غرر الدينية في المسلم فيه بقبض رأس المال في المجلس دينا كان أو عينا ولما لم يجب جبر هذا النقص بقبض المبيع علم أن الدينية فيه أصل فإذا صح التعيين انقلب الحكم شرطا يعني لما ثبت أن الحكم الأصلي في الثمن وجوده ووجوبه في الذمة لو صح التعيين لخرج وجود الثمن عن كونه حكما للبيع ولصار محلا لثبوت الملك فيه كما في جانب السلعة وقد عرفت أن المحال شروط وكان في التعيين انقلاب ما هو الحكم شرطا وهذا أي انقلاب المذكور تغيير محض فكان باطلا

قال القاضي الإمام في الأسرار حكم العقد ما يجب به والثمن نفسه يجب بالعقد والمحل وما يشترط وجوده ليحله حكمه وحكم العقد غير محله فإن المحل شرط يراعى قبله كشروط كل عمل من عبادة أو معاملة والحكم ما يثبت بالعقد فكانا في طرفي نقيض فإذا جعل

(٣/٤٧٣)

الثمن محلا لتعينه وشرطه كان شرطا تغير موجبه به إلى ضده فكان فاسدا كما إذا أراد أن يجعل المحل بشرطه حكما فإن قيل إن سلمنا أن الدينية أصل في الثمن ولكن لا نسلم أن العينية غير مشروعة فيه بل الدينية تكون أصلا عند عدم التعيين والعينية تكون أصلا في حال التعيين كما في المكيلات والموزونات والمعدودات والبقرة فإنها تثبت في الذمة ثمنا ثم إذا عينت صح التعيين قلنا لما ثبت أن الدينية أصل فيه لم يجز أن يكون العينية معها أصلا لأن التعيين أنفى للغرر من الدين والملك في العين أكمل منه في الدين فكيف تكون الدينية مساوية للعينية فلما كانت الدينية أصلا لم يكن العينية مشروعة معها أصلا إلا بترخص من الشارع ولم يوجد بخلاف المكيلات والموزونات فإن فيها شبهة الأثمان وشبه السلع فإن الثمن ما يقوم به نفسه وغيره كالدراهم والدنانير فإنها تقيم أنفسها في الإتلافات ويقوم بها الأموال أيضا والسلع ما يقوم بالأثمان ولا يقع التقويم بها في الإتلاف كالأعيان والمكيلات والموزونات كانت تقيم أنفسها في الشرع والعرف ولم يجب بمقابلتها دراهم ولا يقوم بها غيرها عند الإتلاف كما يقوم الدراهم والدنانير فقيل إذا عقد العقد بها في الذمم كما يعقد بالدراهم ثبتت أثمانا لشبهها بالأثمان وإذا عينت أو عقد العقد عليها كما يعقد على السلع تثبت سلعا لشبهها بالسلع فكان التعيين فيها تمييزا لإحدى الجهتين لا تغييرا لموجبها الأصلي فيصح وبما ذكرنا خرج الجواب عن قولهم إنه تصرف في محله لأنه لما كان مغيرا للموجب الأصلي في هذا العقد لم يكن ملاقيا محله

وأما تعينها في الودائع والمغصوب والتبرعات فلأنه لا يلزم منه تغيير موجب العقد بل يتقرر به موجبه فإن الغصب أو الإيداع أو الهبة لا يرد قط إلا على العين فإن غصب الدين وإيداعه غير ممكن وكذا تمليكه من غير من عليه فكانت العينية شرطا لتحقق هذه التصرفات

وأما تعينها في الوكالة فغير مسلم فإنه لو اشترى الوكيل بمثل تلك الدراهم في ذمته كان مشتريا للموكل ولو هلكت بعد الشراء رجع على الموكل بمثلها فأما إذا هلكت قبل الشراء فإنما بطلت الوكالة لأنها غير لازمة في نفسها والموكل لم يرض بكون الثمن في ذمته عند الشراء فلو تعينت الوكالة لاستوجب الوكيل بالشراء الدين في ذمته الموكل وهو لم يرض به وكذا في مسألة الشراء بالدراهم المغصوبة لا بتعين تلك الدراهم حتى لو أخذها المغصوب منه كان على الغاصب مثلها دينا ولكنه استعان في العقد والنقد بما هو حرام فتمكن فيه شبه الخبث فلم يحل له تناوله

وأما ما ذكروا من الفوائد فليس من مقاصد العقد وإنما تطلب فائدة التعيين فيما هو المقصود بالعقد وفيما هو المقصود وهو ملك المال الدين أكمل من

(٣/٤٧٤)

العين وبالتعيين ينتقض فإنه إذا استحق العين أو هلك بطل ملكه وإذا ثبت دينا في الذمة لا يتصور هلاكه ولا بطلان الملك فيه بالاستحقاق

وأما قولهم المقصود من العقد نقل الملك في الموجود لا الإيجاد فكذلك إلا أنا حكمنا بوجود الثمن بالعقد لأجل المشتري لا لأجل البائع إذ المشتري محتاج إلى تحصيل الملك وذلك بالثمن فأوجدناه بالعقد ليثبت فيه الملك للبائع ويحصل مقصود المشتري بواسطته وهو ثبوت الملك له في المبيع فثبت أن المقصود به ليس إلا ثبوت الملك في البدلين للمتعاقدين وأن وجوده من ضرورات حصول المقصود إليه أشار الإمام أبو الفضل الكرماني رحمه اللّه واعلم أنه قد قيل هذا المثال ليس من فروع الأصل الذي نحن بصدده في التحقيق فإن بالتعليل لم يتغير حكم الأصل وهو السلع في الفروع وهو الثمن بل تغير الحكم الأصلي الذي في الثمن به وكذا المثال الذي بعده لأن بالتعليل فيه وهو

قوله إنه تحرير في تكفير فكان الإيمان من شرطه قياسا على كفارة القتل إنما يغير الحكم الأصلي الذي في الفرع وهو الإطلاق لا حكم الأصل وهو كفارة القتل إلا أن الشيخ أوردهما ها هنا باعتبار مجرد حصول التغير بالتعليل في الفرع ويمكن أن يقال في المثال الأول قد حصل تغيير حكم الأصل وهو السلع في الفرع بالتعليل فإن حكم الأصل وجوب التعيين ولا بد فيه من اشتراط قيام السلعة عند العقد والحكم الثابت بالتعليل في الفرع جوازه لا وجوبه به فلا يلزم منه اشتراط قيام الثمن عند العقد فيكون تغييرا

ويؤيده ما ذكر شمس الأئمة في آخر هذه المسألة فتبين بهذا أنه ليس في هذا التعليل تعدية حكم الأصل بعينه بإثبات حكم آخر في الفرع فأما المثال الثاني فلا تغيير لحكم الأصل في الفرع كما قيل واللّه أعلم مثل الإطلاق في المقيد فإنه تغيير حتى لو قيل في كفارة القتل تحرير في تكفير فلم يكن الإيمان من شرطه قياسا على كفارة اليمين والظهار كان باطلا بالإجماع لأنه تغيير للقيد إلى الإطلاق فكذا عكسه هذا أي جميع ما ذكرنا من الأمثلة

قوله وقد صح ظهار الذمي ظهار الذمي باطل عندنا وعند الشافعي رحمه اللّه صحيح لأن موجب الظهار الحرمة وهو من أهل الحرمة كالمسلم وهو أهل الكفارة لأنه من أهل الإطعام والإعتاق وبأن لم يكن أهلا للصوم لا يمتنع صحة ظهاره كالعبد ليس بأهل للتكفير بالمال وظهاره صحيح ولئن لم يكن أهلا للكفارة فهو أهل للحرمة فيعتبر ظهاره في حق الحرمة كما اعتبر أبو حنيفة رحمه اللّه إيلاء الذمي في حق الطلاق وإن لم يعتبره في الكفارة وقلنا هذا التعليل باطل لأن حكم الظهار في حق المسلم حرمة متناهية

(٣/٤٧٥)

بالكفارة ولا يمكن إثبات مثل تلك الحرمة في حق الذمي فإنه ليس بأهل للكفارة فلو صح ظهاره لثبتت به حرمة مطلقة فيكون تغييرا لحكم الأصل في الفرع وهو باطل وإنما قلنا إنه ليس بأهل للكفارة لأن المقصود بالكفارة التطهير والتكفير ولهذا ترجح فيها معنى العبادة حتى تتأدى بالصوم الذي هو عبادة محضة ولا تتأدى إلا بنية العبادة ويفتى بها ولا تقام عليه كرها والكافر ليس بأهل للتكفير والتطهير ولا لأداء العبادة بخلاف العبد لأنه من أهل الكفارة إلا أنه عاجز عن التكفير بالمال لعدم الملك بمنزلة الفقير حتى لو عتق وأصاب مالا كانت كفارته بالمال أيضا كالفقير إذا استغنى

وبخلاف الإيلاء لأنه طلاق مؤجل والذمي من أهل الطلاق ولأن الحرمة الثابتة باليمين مطلقة لا مؤقتة بالكفارة ولهذا لا يجوز التكفير قبل الحنث بخلاف الظهار فصار أي تصحيح ظهاره أو التعليل لصحة ظهاره إذ معنى

قوله وقد صح ظهار الذمي عند الشافعي أنه قال بصحته بالتعليل إلى إطلاقها في الفرع عن الغاية أي إلى إثباتها في الفرع مطلقة عن الغاية غير مقيدة بها فكانت هذه الحرمة شبيهة بالحرمة الثابتة في الجاهلية فإنها كانت في الجاهلية مؤبدة

قوله ومن ذلك أي ومما تضمنه الشرط الثالث وما قلنا أي قولنا إلى فرع هو نظيره أي نظير الأصل في الوصف الذي تعلق الحكم به لا في جميع الأوصاف فإنها لا توجد إلا في المنصوص عليه فأما إذا خالفه أي خالف الفرع الأصل فيما قلنا فلا أي فلا تعدي يعني لا يصح التعدي لأن من شرطه المماثلة بين المحلين على ما مر وذلك أي خلاف الفرع الأصل مثل ما قلنا في تعدية الحكم أي تعدية الشافعي الحكم وهو بقاء الصوم ومن الناسي في الفطر أي في الأكل والشرب حالة الصوم وكلمة في لبيان محل النسيان لأصله له كما في قوله تعالى

ولقد أرسلنا فيهم منذرين وإلى الخاطئ والمكره في الفطر أن ذلك متعلق بقلنا أي قلنا إن بقاء الصوم ثبت بطريق المنة على الناسي بقوله عليه السلام أتم على صومك والعذر في الخاطئ والمكره دون العذر في الناسي فيما هو المقصود بالحكم وهو التفصي عن العهدة لأن عذر الخاطئ لا ينفك عن تقصير من جهته بترك المبالغة في التحرز ولهذا تجب الدية والكفارة على الخاطئ في القتل وكذا عذر المكره لأنه حدث بصنع مضاف إلى العباد لا إلى صاحب الحق ولهذا لا يحل له الإقدام على الفطر بالإكراه فصار تعدية أي صار التعدية من الناسي إليهما تعدية إلى ما ليس بنظيره أي نظير الناسي أو نظير الأصل وعدى حكم التيمم إلى

(٣/٤٧٦)

الوضوء أي عدى الشافعي ما ثبت في التيمم ومن اشتراط إلى الوضوء فقال إنه طهارة فلا يتأدى إلا بالنية كالتيمم وليس بنظيره أي ليس الفرع وهو الضوء بنظير الأصل وهو التيمم في افتقاره إلى النية وكونه طهارة لأن التيمم تلويث في ذاته والتلويث لا يكون تطهيرا حقيقة لكنه صار مطهرا شرعا في حالة الضرورة بالنية وهذا أي الوضوء تطهير في نفسه وغسل في ذاته فلا يدل افتقار ما هو تلويث جعل تطهيرا ضرورة إلى النية على افتقار ما هو تطهير بنفسه إليها لعدم تساويهما في المعنى الذي تعلق الحكم به كافتقار إباحة الميتة في حالة الاضطرار إلى الاحتراز عن الادخار والأكل فوق سد الرمق لا يدل على افتقار إباحة الذكية إلى ذلك لعدم تساويهما في المعنى الموجب له

ثم ذكر الشيخ رحمه اللّه ما يرد علينا نقضا فقال وقال الشافعي رحمه اللّه أنتم عديتم حرمة المصاهرة من الوطء الحلال وهو الوطء بالنكاح أو بملك اليمين إلى الوطء الحرام وهو الزنا ولا شك أن هذه الحرمة تثبت بطريق الكرامة والنعمة حيث تلحق الأجنبية بالأم ولهذا من اللّه تعالى علينا بهذه الحرمة بقوله وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وليس بنظيره أي ليس الوطء الحرام نظير الحلال في إثبات الكرامة واستجلاب النعمة لأن الحرام سبب المقت والخذلان لا سبب الإكرام والإحسان وإذا لم يكن الحرام نظيره كانت التعدية فاسدة وأجاب بقوله فقلنا ما عدينا الحكم من الحلال نفسه إلى الحرام بل الأصل في ثبوت حرمة المصاهرة الولد الذي هو المقصود بالنكاح فإنه لما استحق سائر كرامات البشر من الولاية والملك ونحوهما استحق هذه الكرامة وهي حرمة المحارم فتحرم عليه أمهات أمه وبناتها إن كان ذكرا وآباء أبيه وأبناؤه إن كان أنثى ولما كان الولد مخلوقا من ماءي الرجل والمرأة تعدى إليهما الحرمات الثابتة في حق الولد وذلك لأن الماءين لما امتزجا بحيث لا يمكن تمييز

أحدهما عن الآخر وخلق منهما الولد ونسب إلى كل واحد منهما بكماله صار ما هو جزء الأم منه مضافا إلى الأب بالبعضية وما هو جزء الأب منه مضافا إلى الأم بالبعضية فثبت بينهما بواسطته نوع بعضية واتحاد كما يثبت بين الأخوين بواسطة أن كل واحد منهما جزء أبيه حقيقة

وهو معنى

قوله كأنهما صارا شخصا واحدا يعني في حصول ما هو المقصود بالنكاح كزوجي باب

(٣/٤٧٧)

وزوجي خف هما باب واحد وخف واحد باعتبار تعلق المقصود بهما جميعا وإذا ثبت بينهما هذا النوع من الاتحاد بواسطته تعدت الحرمات الثابتة في حقه إليهما فيصير آباء الوطء وأبناؤه في الحرمة بمنزلة آباء الموطوءة وأبنائها وأمهات الموطوءة وبناتها بمنزلة أمهات الواطئ وبناته ثم تعدى ذلك أي الحكم الثابت للولد وهو إثبات الحرمة المذكورة إلى سببه وهو الوطء لأن حقيقة العلوق أمر باطني لا يمكن الوقوف عليه ولا يدري أن الولد يخلق من مائه أو من ماء غيره فأقيم ما هو سبب مفض إليه مقامه كما أقيمت الخلوة مقام الدخول في تكميل المهر وإيجاب العدة والسفر مقام المشقة في تعلق الرخص به فصار أي الوطء عاملا في إثبات الحرمة بمعنى الأصل وهو الولد أو الجزئية الثابتة بين الشخصين فلم يجز تخصيصه أي تخصيص الوطء الحلال بإثبات هذا الحكم باعتبار معنى في نفسه وهو الحل ولا إبطال الحكم عن الوطء الحرام باعتبار معنى في نفسه وهو الحرمة إذ لا أثر لصفة الحرمة في منع هذا المعنى الذي لأجله أقيم هذا السبب مقام ما هو الأصل في إثبات الحرمة ولا لصفة الحل في إثباته إذ الولد يوجد بالوطء بأي صفة كان وولد الرشيدة وغيره سواء في استحقاق الكرامة ولا يقال الاتحاد إنما ثبت بواسطة نسبة الولد على ما قلتم وذلك في الوطء الحلال دون الحرام لأن الولد لا ينسب إلى الزاني بوجه فلا يصير جزء الأم مضافا إليه فكيف يتعدى حرمة أمهاتها وبناتها إليه لأنا نقول إن لم ينسب الولد إليه بالبنوة فقد نسب بالجزئية لأنه مخلوق من مائه حقيقة ولهذا حرمت البنت المخلوقة من الزنا على الزاني وهذا القدر كاف في ثبوت الاتحاد وتعدي الحرمة

على أنه لا فصل بين هذه الحرمات نفيا وإثباتا فمتى ثبت في جانب المرأة لعدم انقطاع النسبة عنها شرعا ثبت في جانب الرجل أيضا ضرورة عدم الفصل كذا قيل وصار هذا أي صيرورة الزنا سببا لهذه الحرمة باعتبار قيامه مقام الولد مثل قولنا في الغصب إنه من أسباب الملك في المغصوب للغاصب مع كونه عدوانا محضا تبعا لوجوب ضمان الغصب الذي هو مشروع لأن وجوب الضمان بطريق الجبر وأنه يعتمد الفوات والفوات لا يتم إلا بزوال الملك فكان زوال الملك إلى الغاصب باعتبار أن البدل يجب عليه من شرائط وجوب الضمان وشرط الشيء تبع له فكان سببية الغصب للملك بطريق التبعية كسببية الزنا للحرمة لا بطريق الأصالة كسببية البيع للملك فثبت بشروط الأصل أي ثبت كون الغصب

(٣/٤٧٨)

سببا للملك بالشرائط التي ثبت بها الأصل وهو وجوب الضمان لا بشروط نفسه والأصل مشروع لا عدوان فيه كالبيع فلم يلتفت بعد إلى صفة العدوان في التبع كما أن التيمم ثبت بشروط وجوب التوضؤ خلفا عنه ولم يلتفت إلى كونه تلويثا في نفسه قال شمس الأئمة رحمه اللّه إنا لا نثبت الملك بالغصب حكما له كما نوجبه بالبيع وإنما ثبت الملك به شرطا للضمان الذي هو حكم الغصب وذلك الضمان حكم مشروع كالبيع وكون الأصل مشروعا يقتضي أن يكون شرطه مشروعا

وقوله وكان هذا الأصل إلى آخره جواب عما يقال قد أقمتم الوطء الحرام مقام الولد في إثبات حرمة المصاهرة وما أقمتموه مقامه في إثبات النسب حتى لم تثبتوا النسب بالزنا بوجه مع أن النسب يحتاط في إثباته كما يحتاط في إثبات حرمة المصاهرة

فقال هذا الأصل وهو إقامة السبب مقام المسبب أصل متفق عليه فيما بني على الاحتياط من الحرمات مثل إقامة النكاح مقام الوطء في إثبات حرمة المصاهرة واستحداث الملك مقام الشغل في وجوب الاستبراء والنوم مقام الحدث في انتقاض الطهارة المتضمن لحرمة أداء الصلاة وذلك لأن الشارع لما نهى عن الريبة كما نهى عن الربا علمنا أن الشبهة ملحقة بالحقيقة في محل الاحتياط والسبب دال على المسبب فثبت به شبهة وجود المسبب فقام مقام حقيقة وجوده في محل الاحتياط فأما النسب فما بني على مثله من الاحتياط لأنه تعالى قال ادعوهم لآبائهم والنبي عليه السلام قطع النسب عن الزاني بقوله وللعاهر الحجر فعلم أنه ليس بنظير ما نحن فيه في الاحتياط فوجب قطعه أي قطع النسب عن الوطء عند لزوم الاشتباه وذلك في الزنا لأن المرأة ربما يزني بها غير واحد من الرجال وربما كانت ذات زوج مع ذلك فلو اعتبر نفس الوطء في إثبات النسب لاشتبهت الأنساب وضاع النسل وفيه من الفساد ما لا يخفى فقطع الشرع النسب عن الزاني ولم يثبته إلا بالفراش لهذه الحكمة ألا ترى أنه لا يثبت بالوطء الحلال وهو الوطء بملك اليمين فكيف يثبت بالحرام المحض

ولا يلزم على هذا أي على ما ذكرنا أن الوطء والموطوءة يصيران بمنزلة شخص واحد بواسطة الولد وتتعدى

(٣/٤٧٩)

الحرمات من كل جانب إلى الآخر حتى صار آباؤه وأبناؤه كآبائها وأبنائها وعلى العكس إن هذه الحرمة أي الحرمة الثابتة بالبعضية بين الرجل والمرأة لا تتعدى إلى الإخوة والأخوات حتى لم يصر أخو الواطئ كأخي المرأة ولا أخت المرأة كأخته في الحرمة ونحوهم كالأعمام والعمات والأخوال والخالات لأن التعليل لا يعمل في تغيير الأصول وهو امتداد التحريم يعني أثر التعليل في إثبات الحكم في الفرع لا في تغيير الحكم الثابت في الأصل والنص إنما ورد بالحرمة في الأصل مقتصرة على الآباء والأبناء والأمهات والبنات فلو أثبتنا الحرمة في الأصل ممتدة إلى الإخوة والأخوات ونحوهم أو في الفرع ممتدة إليهم لكان التعليل مغيرا حكم النص في الأصل أو في الفرع وكلاهما باطل أو المعنى أن حرمة الإخوة والأخوات ونحوهم ثبت في الأصل مؤقتة بالنكاح بقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين

وقوله عليه السلام لا تنكح المرأة على عمتها الحديث فلو ثبت بالوطء الحرام لصارت مؤبدة في الفرع إذ لا نكاح ها هنا تتوقت الحرمة به فكان هذا تعليلا مغيرا لحكم النص في الفرع ولا عمل للتعليل في تغير الأصول أي أحكامها بوجه والأول أوجه وهذا أي التعدي إلى ما ليس بنظير للأصل مما يكثر أمثلته كتعدية الإيجاب الكفارة من جماع الأهل في رمضان إلى جماع الميتة والبهيمة وتعدية إيجاب الحد من الزنا إلى اللواطة بالتعليل وتعدية إيجاب الحد من شرب الخمر إلى شرب النبيذ بعلة المخامرة لأن البهيمة والميتة ليست مثل المنصوص عليه في اقتضاء الشهوة الذي تعلقت الكفارة به

وكذا اللواطة ليست مثل الزنا في الحاجة إلى الزاجر لما مر وكذا النبيذ ليس نظير الخمر في الاحتياج إلى شرع الحد لعدم استدعاء قليله إلى كثيره بخلاف الخمر

قوله ولا نص فيه التعليل لتعدية الحكم إلى موضع فيه نص لا يجوز عند عامة أصحابنا سواء كان وفاق النص الذي في الفرع أو على خلافه وهو اختيار القاضي الإمام أبي زيد ومن تابعه من المتأخرين وعند الشافعي رحمه اللّه إن كان على خلاف النص الذي في الفرع كان باطلا وإن كان على وفاقه من غير أن يثبت زيادة فيه أو أثبت زيادة لم يتعرض لها النص كان صحيحا لأنه إذا كان موافقا له كان مؤكدا لموجب وإن كان مثبتا لزيادة كان النص عنها ساكتا يكون بيانا والكلام وإن كان ظاهرا فهو محتمل لزيادة البيان فيجوز التعليل فيحصل زيادة البيان ولكنه لا يحتمل خلاف موجبه فيبطل التعليل على خلافه وكنا نقول التعليل لإثبات الحكم في محل فيه نص وإن كان موافقا للحكم الثابت

(٣/٤٨٠)

فيه بالنص فلا فائدة فيه لأن الحكم لما ثبت بالنص لا يجوز إضافته إلى العلة كما لا يجوز إضافته في النص المعلول إلى العلة وإن كان مخالفا له فهو باطل لأن التعليل لا يصلح مبطلا لحكم النص بالإجماع

وإن كان مثبتا لزيادة لم يتعرض لها النص فهو باطل أيضا لأن إثبات زيادة لم يتناولها النص بمنزلة النسخ والرفع فإن جميع الحكم في موضع النص كان ما أثبته النص وبعد الزيادة يصير بعضه وقد بينا أن ذلك نسخ فلا يجوز بالرأي

واختيار مشايخ سمرقند على ما يشير إليه كلام صاحب الميزان أن يجوز التعليل على موافقة النص من غير أن يثبت فيه زيادة وهو الأشبه لأن فيه تأكيد النص على معنى أنه لولا النص لكان الحكم ثابتا بالتعليل ولا مانع في الشرع والعقل عن تعاضد الأدلة وتأكيد بعضها ببعض فإن الشرع قد ورد بآيات كثيرة وأحاديث متعددة في حكم واحد وقد ملأ السلف كتبهم بالتمسك بالنص والمعقود في حكم واحد فقالوا هذا الحكم ثابت بالكتاب والسنة والمعقول ولم تنقل عن واحد في ذلك نكير فكان ذلك إجماعا منهم على جواز ذلك يوضحه أن الحديث الغريب يجب قبوله إن كان موافقا بالكتاب لقوله عليه السلام إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب اللّه فما وافق فاقبلوه وما خالف فردوه ومع أنه لا فائدة في قبوله إلا تأكيد دليل الكتاب به فكذا التعليل على موافقته الكتاب يجوز لهذه الفائدة وهذا بخلاف التعليل بعلة قاصرة حيث لا يجوز لفائدة التأكيد لأن التأكيد لا يحصل به لأنه مستفاد من النص الذي ثبت الحكم به وتأكيد الشيء إنما يحصل بما يستفاد من غيره لا بما يستفاد من نفسه ألا ترى أن معنى التأكيد ها هنا أنه لولا النص لثبت الحكم به وفي العلة القاصرة لولا النص لم يثبت الحكم بها أصلا لأنها تستفاد من النص فتنعدم بعدمه لا محالة فثبت أن التعليل بعلة قاصرة خال عن الفائدة بخلاف ما نحن فيه

ومثال ذلك أي مثال تعدي الحكم إلى ما فيه نص على وجه يوجب إبطاله أو تغيره قول الشافعي في كفارة القتل واليمين الغموس أي إيجابه الكفارة فيهما اعتبارا بالقتل الخطأ واليمين المنعقدة فإن الكفارة فيهما متعلقة بمعنى الجناية وذلك أكمل في العمد والغموس وهذا تعليل على خلاف النص الوارد فيهما وهو

قوله عليه السلام خمس من الكبائر لا كفارة فيهن وعد منها الغموس وقتل النفس بغير حق وكذا قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم يقتضي أن تكون جهنم كل جزائه فإيجاب الكفارة كان زيادة على النص بالرأي وشرط الإيمان في مصرف الصدقات شرط الشافعي رحمه اللّه الإيمان في مصرف الصدقات الواجبة مثل الكفارات وصدقة الفطر اعتبارا بمصرف الزكاة فإن الإيمان فيه شرط بالإجماع وقلنا نصوص الكفارات وصدقة الفطر غير مقيدة بالإيمان فلا يجوز إبطال إطلاقها بالتعليل كما لا يجوز إبطال التقييد به

(٣/٤٨١)

وكذا قوله تعالى لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم الآية يدل على جواز صرفها إلى أهل الذمة فكان اشتراط الإيمان بالتعليل مخالفا له وإنما شرط الإيمان في مصرف الزكاة بالحديث المشهور الذي يزاد بمثله على الكتاب وهو

قوله عليه السلام لمعاذ حين بعثه إلى اليمن ثم أعلمهم أن اللّه تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم ومثل شرط التمليك في طعام الكفارات فإن الشافعي شرط التمليك فيه اعتبارا بالكسوة وهو فاسد لأن الإطعام جعل الغير طاعما وذلك يحصل بالإباحة فاشتراط التمليك فيه يكون تقييدا للنص الواحد فيكون باطلا

وشرط الإيمان في رقبة اليمين والظهار أي اشتراط صفة الإيمان في رقبة كفارة اليمين والظهار اعتبارا بكفارة القتل فاسد أيضا لأن إطلاق النص الوارد في الفرع وهو قوله تعالى أو تحرير رقبة فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا يقتضي الخروج عن العهدة بإعتاق الرقبة الكافرة فتقييدها بالمؤمنة يكون تغييرا لموجب هذا النص بالرأي فإن تقييد المطلق تغيير كإطلاق المقيد هذا أي ما ذكرنا من التعليل في هذه الأمثلة كله أي أكثره تعدية إلى ما فيه نص بتغييره بالتقييد وفي اليمين الغموس تعدية إلى ما فيه نص بالإبطال

قوله

وأما الشرط الرابع أي اشتراط الشرط الرابع وهو أن يبقى حكم النص أي النص المعلل على ما كان قبل التعليل فلأن تغيير حكم النص في نفسه أي في ذاته بالرأي باطل سواء حصل التغيير لحكم نص في الأصل أي المقيس عليه أو حصل التغيير لحكم نص في الفرع كالأمثلة المذكورة في

قوله ولا نص فيه وهو معنى

قوله كما أبطلناه في الفروع والضمير في نفسه وأبطلناه راجع إلى التغيير ويجوز أن يكون معناه أن تغيير حكم النص المعلل في نفسه باطل بالرأي كما أن تغيير حكم نص الأصل في الفرع باطل على ما بينا في ظهار الذمي والسلم الحال وجريان الربا فيما لا معيار له

وذلك أي تغيير حكم الأصل فيما قاله الشافعي على ما قلنا أي في باب الوقف على أحكام النظم أو في بيان الشرط الثالث ومثل

قوله أي قول الشافعي في حد القذف أنه لا يبطل الشهادة حتى لو

(٣/٤٨٢)

تاب كان مقبول الشهادة لأنه محدود في كبيرة فتقبل شهادته بعد التوبة قياسا على المحدود وفي سائر الجرائم كالزنا وشرب الخمر وهذا أي

قوله إن حد القذف لا يبطل الشهادة تغيير لحكم النص لأن النص الوارد في حد القذف يوجب أن يكون حكم القذف إبطال الشهادة على سبيل التأبيد حدا ولهذا فوض إلى الأئمة وهو يصلح حدا لأنه إيلام معنوي بإخراج شهادته من الاعتبار كالجلد يصلح حدا لأنه إيلام ظاهرا وقد أبطله أي أبطل الشافعي هذا الحكم فجعل بعض الحد حدا لأن الوقت من الأبد بعضه يعني أنه لم يقبل شهادته قبل التوبة وقبلها بعد التوبة والنص يقتضي رد شهادته في كلا الحالين فيكون اقتصار عدم القبول على ما قبل التوبة جعل بعض الحد حدا لأن الوقت أي الوقت المعين وهو الزمان الذي قبل التوبة من الأبد بعضه فيكون هذا تغييرا لموجب النص وهذا الكلام إنما يستقيم إذا جعل الشافعي رحمه اللّه رد الشهادة قبل التوبة بطريق الحد وليس من مذهبه ذلك بل الشهادة مردودة عنده قبل التوبة للفسق

فالأولى ما قال شمس الأئمة رحمه اللّه إن القاذف ساقط الشهادة بالنص أبدا على وجه يكون ذلك متمما لحده وبعده التعليل يتغير هذا الحكم فإن الجلد قبل هذا التعليل كان بعض الحد في حقه وبعده يكون تمام الحد فيكون تغييرا على نحو ما قلنا في التغريب إن الجلد إذا لم يضم إليه التغريب يكون حدا كاملا وإذا ضم إليه يكون بعض الحد وأثبت الرد بنفس القذف يعني أثبت الشافعي رد شهادة القاذف بنفس القذف بدون اعتبار مدة العجز عن الإتيان بالشهود حتى لو شهد قبل تحقق العجز لا تقبل شهادته اعتبارا بسائر الجرائم للشهادة كالزنا وشرب الخمر ونحوهما فإنه إذا ارتكب كبيرة يصير ساقط الشهادة من غير توقف على مضي زمان وهو تغيير أي إثبات الرد بنفس القذف تغيير لموجب النص فإنه تعالى قال والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا رتب الرد على القذف وعدم الإتيان بأربعة شهداء كما رتب الجلد عليهما والعجز لا يثبت إلا بمضي مدة فإثبات الرد بدون مدة العجز يكون تغييرا لموجب النص كإثبات الجلد بدون اعتبار العجز وزاد

(٣/٤٨٣)

النفي على الجلد في زنا البكر بعلة أنه صالح للمنع من الزنا كالجلد وهو تغيير لأن اللّه تعالى جعل الجلد كل الحد بقوله فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة إذ الفاء تدخل على الأجزئة والجزاء اسم للكافي فمتى زيد عليه النفي لا يكون بنفسه كافيا فيكون تغييرا للنص ثم إنه وإن زاد النفي في الحقيقة بخبر الواحد وهو

قوله عليه السلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب لا بالقياس إلا أن التغيير كما لا يجوز بالتعليل لا يجوز بخبر الواحد لأنه لا يصلح معارضا للكتاب كالقياس فأورده الشيخ في هذه الأمثلة على سبيل استطراد وجعل الفسق مبطلا للشهادة حتى لا ينعقد النكاح بشهادة الفساق ولو قضى القاضي بشهادة الفاسق لا ينفذ قضاؤه عنده اعتبارا بالعبد والصبي والولاية حتى إنه لم يصلح للقضاء بوجه لم يكن له ولاية تزويج بنته في أحد قوليه لأن الفسق نقص يؤثر في الشهادة فيمنع ولاية الإنكاح كالرق وهو تغيير لحكم النص لأن الحكم الثابت بالنص في حق الفاسق التثبت والتوقف في خبره لا الإبطال وبعدما نعين جهة البطلان فيه لا يبقى التوقف فحكم النص بعد التعليل لا يبقى على ما كان قبله

واعلم أن الأمثلة المذكورة في هذا الفصل ليست بملائمة لأن في جميع هذه الأمثلة تغيير حكم النص الذي في الفرع لا يعتبر حكم النص المعلل في المقيس عليه فإن في طعام الكفارة لم يتغير حكم النص في المقيس عليه وهو الكسوة وفي قبول شهادة القاذف بعد التوبة لم يتغير حكم المقيس عليه أيضا

وكذا البواقي فالنظير الملائم ما ذكر في كتاب الحج في باب جزاء الصيد أن الشافعي ألحق السباع التي لا يؤكل لحمها بالخمس الفواسق حتى لو قتل المحرم شيئا منها ابتداء لا يجب عليه شيء لأن النبي عليه السلام إنما استثنى الخمس لأن من طبعهن الإيذاء وكل ما يكون من طبعه الإيذاء كان مستثنى من النص بمنزلة الخمس وقلنا هذا تعليل باطل لأنا لو جعلنا الاستثناء باعتبار معنى الإيذاء خرج المستثنى من أن يكون محصورا بعدد الخمس فكان تغيرا لحكم النص المعلل بالتعليل

وما ذكر المصنف في شرح الجامع الصغير أن اشتراط الخيار فوق ثلاثة أيام يجوز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه لأن الخيار للنظر والناس يتفاوتون في الحاجة إلى مدة النظر فوجب أن يكون ذلك مفوضا إلى رأيهم وقال أبو حنيفة رحمه اللّه هذا تعليل باطل لأن فيه إبطال حكم النص وهو التقدير بثلاثة أيام فلم يكن تعدية لحكم النص مع أن هذه مدة تامة صالحة

(٣/٤٨٤)

لاستيفاء النظر ودفع المعين فإذا زيدت المدة ازداد الخطر مع قلة الحاجة إلى النظر وذكر الشيخ في بيوع الجامع الصغير أيضا أن عبدا أبق فقال رجل إن عبدك قد أخذه فلان فبعنيه وصدقه فلان فباعه فالبيع باطل لأن النهي عن بيع الآبق وإن كان معللا بالمعجز عن التسليم إلا أنا لو جوزنا بيعه باعتبار أنه مقدور التسليم لكان التعليل مبطلا للنص لأن هذا العبد آبق في حق المتعاقدين والحكم في المنصوص عليه ثابت بالنص لا بمعناه ورأيت في بعض نسخ أصول الفقه أن تعليل حرمة الربا في الأشياء الأربعة بالقوت كما قال مالك رحمه اللّه من هذا القبيل لاقتضائه عدم الحكم في الملح

ثم ذكر الشيخ رحمه اللّه النقوض الواردة على هذا الأصل مع أجوبتها فقال وقال الشافعي أنتم غيرتم حكم النص بالتعليل في مسائل فقد وقعتم فيما أبيتم منها أن نص الربا يعم القليل والكثير وهو

قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام يعني هذا النص لا يفصل بين القليل والكثير فيوجب الحرمة في القليل الذي لا يكال كما يوجبها في الكثير الذي يكال وبعدما عللتموه بالكيل والجنس وعلقتم الحرمة بصفة الكيل لم يبق النص متناولا للقليل لأنه ليس بمكيل فكان تغييرا لموجبه بالتعليل لا تعدية لحكمه وهو معنى

قوله فخصصتم منها أي من الحنطة إذ المراد من الطعام الحنطة ودقيقها في العرف القليل وهو الذي لم يدخل في الكيل بالتعليل ولا معنى لقولكم إن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه وأنه استثنى المكيل لأن المراد من التساوي هو المساواة في الكيل فكان المستثنى منه هو المكيل أيضا لأن المستثنى منه الطعام بالطعام والمستثنى الطعام بالطعام أيضا فكان الجنس واحدا إلا أنه قيل حرام بيع الطعام بالطعام إلا أن يوجد المخلص وهو التساوي بمعياره فكان المستثنى بيع طعام بطعام حالة التساوي والمستثنى منه بيع طعام بطعام حالة عدم التساوي لا أن يقال المستثنى مكيل فإن بيع المكيل منه بجنسها حرام كذلك ما لم يتساويا فعرفنا أن المستثنى بيع طعام بطعام إذا تساويا إلا أن التساوي إنما يعرف بالمعيار لا بما سواه من المقدار كذا في الأسرار

ومنها أن النص أوجب الشاة في الزكاة بصورتها ومعناها للفقير لأن اللّه تعالى أوجب الصدقة للفقراء مجملة وفسرها النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله في خمس من الإبل شاة وفي أربعين شاة شاة وأمثالهما فصار كأن اللّه تعالى قال إنما الشاة للفقير فصارت الشاة مستحقة بصورتها ومعناها له كالدار المشفوعة للشفيع وأنتم أبطلتم أي أسقطتم الحق عن صورة الشاة بالتعليل بالمالية وهو تغيير لموجب النص لا تعدية لحكمه لأن الشاة كانت هي الواجبة عينا قبل التعليل بحيث لا يسعه تركها إلى غيرها

(٣/٤٨٥)

وبعده ولم تبق واجبة لأنه يسعه تركها إلى غيره وهو القيمة فكان هذا مثل نقل حق الشفيع من الدار إلى الثوب بالتعليل ومثل تعليل الركوع والسجود بعلة الخضوع للتعدية إلى محل آخر وهو إقامة الحد مقام الجبهة أو إقامة الركوع مقام السجود والحق المستحق مراعى بصورته ومعناه يعني قد استحق الفقير على صاحب المال الشاة بالنص والحق المستحق واجب الرعاية صورة ومعنى كما في سائر حقوق العباد فاستعمال القياس لإبطال الحق عن الصورة أو المعنى كان باطلا لأنه موضوع لتعدية حكم الشرع لا لنقل الحق من محل إلى محل

ومنها أن النص أوجب الزكاة للأصناف المسمين بفتح الميم وسكون الياء بقوله أي في قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء ولو قيل الشرع أوجب الزكاة إلى آخره لكان أحسن أضيفت الصدقات إليهم باللام وهي للتمليك لغة فكانت هذه الأصناف للقسمة بأن جعلها حقا لهم وجعلهم مستحقين للتملك على صاحب المال كما لو أوصى بثلث ماله لأمهات أولاده وللفقراء والمساكين كان الثلث بينهم أثلاثا ويدل عليه

قوله عليه السلام إن اللّه تعالى لم يرض لقسمة الصدقات بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى قسم بنفسه فوق سبعة أرقعة فبين أن الإضافة للقسمة بينهم ثبوتا أي الحق الواجب مقسوما بينهم وجوبا لا يختص به صنف منهم فثبت أن حكم النص جعلها مشتركة بين الأصناف المذكورة وأنتم أبطلتم الشركة وحق سائر الأصناف بتجويز الصرف إلى صنف واحد بل إلى فقير واحد بالتعليل وأنه خلاف موجب النص لا تعدية لحكمه ومنها أن الشرع أوجب التكبير لافتتاح الصلاة بقوله تعالى وربك فكبر

وقوله عليه السلام مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير

وقوله عليه السلام للأعرابي الذي علمه الصلاة إذا أردت الصلاة فتطهر كما أمرك اللّه تعالى ثم استقبل القبلة ثم قل اللّه أكبر وأنتم بالتعليل بالثناء وذكر اللّه على سبيل التعظيم غيرتم هذا الحكم في المنصوص حيث جوزتم افتتاح الصلاة بغير لفظ التكبير مثل

قوله اللّه أجل أو الرحمن أعظم

ومنها أن

(٣/٤٨٦)

الشرع عين الماء لغسل الثوب النجس بقوله عليه السلام لتلك المرأة ثم اغسليه بالماء وقد غيرتم بالتعليل بكونه مزيلا للعين والأثر هذا الحكم حيث جوزتم تطهير الثوب النجس باستعمال سائر المائعات سوى الماء مثل الخل وماء الورد ونحوهما

قوله والجواب أن هذا أي ما زعمت أنا غيرنا النص بالتعليل وهم أي شيء ذهب إليه قلبك من غير دليل أما الأول وهو نص الربا فلأن الخصوص إنما يثبت فيه بصيغة النص لا بالتعليل وذلك أي ثبوت الخصوص بالصيغة أن المستثنى منه يعني إذا لم يكن مذكورا وإنما يثبت على وفق المستثنى من النفي أي المنفي لأن حذف المستثنى في النفي جائز بعلة أن المستثنى يدل على المحذوف وإذا صح حذفه وجب إثباته على وفق المستثنى تحقيقا للاستثناء فإنه لا يصح إلا في الجنس من حيث الحقيقة وإنما قيد بالنفي لأن حذف المستثنى منه في الإثبات لا يجوز لا تقول جاءني إلا زيدا لأنه لو قدر فيه أحد من الناس كما قدر في النفي يكون استثناء الواحد من الواحد لأن النكرة في الإثبات تخص وهو غير مستقيم بخلاف النفي لأن النكرة فيه تعم فيكون استثناء الواحد من العام ولو أضمر فيه القوم حتى صار كأنه قال جاءني القوم إلا زيدا لا يصح أيضا لأن القوم مجهولة ولو قدر فيه أعم العام وهو جميع الناس لم يصح أيضا لأن مجيء جميع الناس عنده سوى زيد غير متصور فثبت أن حذفه لا يصح إلا في النفي كما قال أي محمد في الجامع إن كان في الدار إلا زيد فعبدي حر كان المستثنى منه بني آدم أي إن كان في الدار أحد من آدم فكذا حتى لو كان فيها صبي أو امرأة يحنث ولو كان فيها دابة أو متاع لا يحنث لأن الدابة أو العرض لا يجانس المستثنى فلا يدخل تحت اليمين

ولو قال إلا حمار كان المستثنى منه الحيوان أي الحيوان الذي يقصد بالسكنى حتى لو كان فيها إنسان أو شاة حنث ولو كان فيها متاع لم يحنث ولو قال إلا متاع أي ثوب فإن المتاع في اللغة اسم لما يتمتع به وفي العرف صار عبارة عن الثوب كذا ذكر في بعض الحواشي وصرح شمس الأئمة بذكر لفظ الثوب فقال ولو كان قال إلا ثوب وهكذا في الجامع أيضا كان المستثنى منه كل شيء أي كل شيء يقصد بالسكنى والإمساك في الدور حتى لو كان فيها إنسان أو دابة أو شيء سوى الثوب مما يقصد

(٣/٤٨٧)

بالإمساك في الدور يحنث وإن كان فيها شيء من سواكن البيوت مثل الفأرة والحية والعقرب لا يحنث استحسانا لأن كل عاقل يعلم أن الحالف لم يقصد نفي هذه الأشياء بيمينه عن الدار فيثبت أن المستثنى منه إذا لم يكن مذكورا يقدر على وفق المستثنى

وها هنا استثنى الحال بقوله إلا سواء بسواء إذ المراد منه حال تساويهما في الكيل والمذكور في صدر الكلام هو العين واستثناء الحال من الأعيان باطل في الحقيقة وإن كان يحتمل الصحة بطريق المجاز بأن يجعل الاستثناء منقطعا ولكن المجاز خلاف الأصل فدل أن الاستثناء لم يقع عما تناوله ظاهر اللفظ إذ لو كان الاستثناء عنه لقيل إلا الحنطة أو الشعير أو التفاح أو نحوها بل عمل يضمن اللفظ من أحوال البيع فوجب أن يثبت عموم صدره أي صدر الكلام بهذه الدلالة أي بدلالة استثناء الحال كما في قولك ما أتاني زيد إلا راكبا أي ما أتاني في شيء من أحواله إلا على حالة الركوب وكما في التنزيل ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى أي لا يأتونها في شيء من أحوالهم إلا في حالة الكسل لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم أي لا تدخلوها في الأحوال إلا حالة الإذن وهو أي عموم الأحوال حال التساوي والتفاضل والمجازفة إذ لا حالة لبيع الطعام بالطعام سوى هذه الأحوال على ما بيناه في الاستثناء

ولن يثبت هذه الأحوال المختلفة إلا في الكثير لأن المراد من التساوي هو المساواة في الكيل بالإجماع والتفاضل عبارة عن فضل على أحد المتساويين كيلا والمجازفة عبارة عن عدم العلم بالمساواة والمفاضلة فكان آخر هذا الكلام دليلا على أن أوله لم يتناول القليل فصار التغيير بالنص أي حاصلا بالنص يعني حصل تغيير أول الكلام عن العموم إلى الخصوص بالنص أي بدلالته مصاحبا للتعليل أي موافقا له وهو منتصب على الحال ويجوز أن يكون خبر صار والتقدير فصار التغيير الحاصل بالنص مصاحبا أو يكون خبرا بعد خبر يعني تعليلنا بالكلية وافق التغيير الذي حصل بدلالة الاستثناء في هذا النص فإن الاستثناء يدل على أن القليل ليس بمراد عن هذا الكلام وتعليلنا بالكيل يدل على أن القليل ليس بمحل للربا فتوافقا أن التغيير حصل بالتعليل على ما زعمت وباقي الكلام مذكور في فصل الاستثناء

قوله

وأما الزكاة فليس فيها حق واجب للفقير يتغير بالتعليل أي ما أبطلنا

(٣/٤٨٨)

بالتعليل حقا مستحقا للفقير لأن الزكاة ليست بحق للفقير واعلم أن لمشايخنا في جواب هذه المسألة طريقين

أحدهما أنا ما أبطلنا الحق المستحق عن عين الشاة لأنه لا حق للفقير في صورة الشاة وإنما حقه في ماليتها فإن النبي عليه السلام جعل الإبل ظرفا للشاة بقوله في خمس من الإبل شاة وعينها لا توجد في الإبل وإنما يوجد فيها مالية الشاة فعرفنا أنه أراد بالشاة ماليتها إلا أن المالية بعض الشاة فكني بذكر الكل عن البعض فلم يكن في تعليلنا إبطال حق الفقير عن صورة الشاة ألا ترى أنه لو أدى واحدا منها جاز بالإجماع

ولو كان حقه متعلقا بالصورة لكان ينبغي أن لا يجوز كما لو أدى عن خمسة دراهم خمسة دنانير على أصل الخصم

والثاني وإليه مال الشيخ وأكثر المحقين من أصحابنا أنه لا حق للفقير في الزكاة يتغير بالتعليل إذ لو كان له فيها حق لما حل وطء الجارية المشتراة لتجارة بعد الحول قبل أداء الزكاة كالجارية المشتركة ولما حل أكل طعام وجبت فيه الزكاة قبل أدائها ولما جاز تصرف المالك في مال الزكاة بعد وجوبها بدون إذن الإمام بل الزكاة عبادة خالصة أصلية من أركان الدين شرعت شكرا على نعمة المال كالصلاة شرعت شكرا على نعمة البدون وإليه أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة الحديث ولهذا لا يتأدى بدون النية ولا يجوز أن يجب للعباد بوجه لأنه يؤدي إلى الاشتراك وهو ينفي معنى العبادة بل المستحق للعبادة هو اللّه تعالى لا غير فيثبت أن الواجب للّه تعالى على الخلوص ثم حق اللّه تعالى وإن كان لا يقبل التغيير بالتعليل كحق العباد إلا أن حقه ها هنا سقط عن الصورة بإذنه الثابت بمقتضى النص لا بالتعليل

وذلك أنه تعالى وعد إرزاق العباد بقوله جل ذكره وما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها وأوجب لنفسه حقا في مال الأغنياء بالنصوص الموجبة للزكاة ثم أمر الأغنياء بصرف هذا الحق الواجب له عليهم في الفقراء إيفاء للرزق الموعود لهم عند اللّه تعالى وهو معنى قولهم أمرنا بإنجاز المواعيد من ذلك المسمى وحق الفقراء في مطلق المال لا في مال معين لأن حوائجهم مختلفة كثيرة لا تندفع إلا بمطلق المال فلما

(٣/٤٨٩)

أمر اللّه تعالى الأغنياء بالصرف إلى الفقراء مع أن حقهم في مطلق المال دل ذلك على إذنه باستبدال حقه ضرورة كالسلطان يجيز أي يعطى من الجائزة وهي العطية الراتبة بجوائز مختلفة ثم أمر بعض وكلائه بأن ينجز تلك المواعيد من مال معين له في يده يكون إذنا باستبدال هذا المال المعين الذي في يد هذا المأمور ضرورة وكمن أودع عينا عند آخر أمره بقضاء الديون عنها يصير ذلك أمرا بالبيع وقضاء الديون عن ثمنها فكذلك ها هنا فتبين أن سقوط الحق عن صورة الشاة ثبت ضرورة الأمر بالصرف إلى الفقير والثابت بضرورة النص كالثابت بالنص فإن قيل فيما ذكرت من المثال الاستبدال ضروري إذ لا يمكن إنجاز المواعيد المختلفة من المال المعين ولا قضاء الدين من العين فأما ها هنا فلا ضرورة لأنه يمكن إيفاء الرزق الموعود من عين الشاة ألا ترى أنه لو أداها يجوز بالإجماع فلا حاجة إلى التغيير وإقامة الغير مقامها قلنا إنما نتكلم فيما إذا أدى عين الشاة لا فيما إذا أدى قيمتها فإن ذلك درجة أخرى فيقول إذا أدى عين الشاة أيصير الفقير قابضا حقه من حيث إنها مال وإن قيمتها عشرة دراهم مثلا أو من حيث إنها مال مقيد مسمى بأنها شاة أو لحم ولا إشكال أنه يقبضها من حيث إنها مال متقوم مطلق لأنه هو الموعود وقبض حق اللّه تعالى يحصل مقتضى قبض حق نفسه فإنه إنما يقبض اللّه تعالى ما يصير قابضا إياه لنفسه بدوام اليد عليه فلا يكون الفقير قابضا مالا مقيدا لأن المطلق غير المقيد فتحققت الحاجة إلى إبطال قيد الشاة ويصير حق اللّه تعالى مطلقا ليمكنه قبضه حقا لنفسه إذ الأصل في كل حقين مختلفين يتأديان بقبض واحد أن يجعل الحق الأول على وصف الحق الثاني ليتأدى الأول بقبض صاحب الثاني حقه كرجل له على آخر كر حنطة وعليه مائة درهم لآخر فقال للذي عليه الحنطة أد الدراهم التي علي بمالي عندك من الحنطة فأدى الدراهم إلى صاحبها كان صاحب الدراهم قابضا حق نفسه وانتقل حق صاحب الحنطة عنها إلى الدراهم في ضمن الأداء ليمكن جعله قابضا للدراهم بقبض صاحب الدراهم فإن قبضه يتضمن قبض صاحب الحنطة حق نفسه إلا أن الفرق أن هناك يحتاج إلى الاستبدال بمال آخر وها هنا يحتاج إلى إبطال القيد وإذا ثبت أنه عند أداء الشاة يصير مؤديا حق اللّه تعالى بماليتها من حيث إنها متقومة بعشرة دراهم لا من حيث إنها شاة كانت الشاة وغيرها في ذلك سواء فإذا أدى يجوز بطريق الدلالة كذا في الطريقة البرغرية فصار التغيير مجامعا للتعليل بالنص أي اجتمع التغيير بالنص والتعليل واقترنا لا أن التغيير حصل بالتعليل

وإنما التعليل بحكم شرعي جواب عما يقال لما حصل التغيير وجواز استبدال بالنص لا فائدة في التعليل بعد إذ فائدته تعدية الحكم إلى محل لا نص فيه ولم يوجد ها هنا فأجاب بأن جواز الاستبدال ثبت مطلقا فيتناول الاستبدال بما يصلح لدفع حاجة

(٣/٤٩٠)

الفقير وما لا يصلح له فالتعليل لبيان أن الاستبدال إنما يجوز بما يصلح لدفع حاجة الفقير من الأموال إلا بما لا يصلح له لو أسكن الفقير داره مدة بنية الزكاة لا يجوز عن الزكاة لأن المنفعة لا يصلح بدلا عن العين في هذا الباب لأن العين خير من المنفعة على ما عرف أو هو رد لكلام الخصم فإنه لما زعم أن تعليلنا وقع لإبطال حق مستحق للفقير لا لتعدية حكم شرع إلى موضع لا نص فيه بين أولا أنه لا حق للفقير وأن التغيير إن حصل حصل بمقتضى النص وبين ثانيا أن التعليل لم يقع إلا لحكم شرعي فإن لهذا النص حكمين وجوب الشاة وصلاحية الشاة لكفاية حق الفقير فنحن نعلل صلاحية الشاة ونبين المعنى الذي به صارت الشاة صالحة كفاية حق الفقير لتعديها به إلى ما لا نص فيه

وبيانه أي بيان أن كون الشاة صالحة للتسليم إلى الفقير حكم شرعي أن الشاة يقع للّه تعالى بابتداء قبض الفقير يعني يقع تسليم الشاة إلى الفقير للّه تعالى على الخلوص في ابتداء القبض كما قال اللّه تعالى ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وقال عليه السلام الصدقة تقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف الفقير

ثم يصير للفقير بدوام يده عليه كمن أمر لآخر أن يهب لفلان عشرة على أنه ضامن فوهب يصير الموهوب له قابضا للآمر أولا ثم قابضا لنفسه بدوام يده قربة مطهرة يعني مطهرة لنفسه عن الآثام كما قال اللّه تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ولما له من الخبث كما قال عليه السلام إن هذه البياعات يحضرها اللغو والكذب فشوبوها بالصدقة أمر بالصدقة ليرتفع الخبث المتمكن في البياعات بسبب اللغو والكذب وإذا ارتفع الخبث عن السبب وهو البيع يرتفع عن المسبب وهو المال وإذا وقعت قربة مطهرة صارت من الأوساخ كالماء المستعمل على ما وقعت الإشارة النبوية إليه في

قوله صلى اللّه عليه وسلم يا معشر بني هاشم إن اللّه تعالى كره لكم أوساخ الناس وفي رواية غسالة الناس وعوضكم منها بخمس الخمس ولهذا كانت النار يترك في الأمم الماضية

(٣/٤٩١)

فيحرق المتقبل من الصدقات والقرابين ولم يكن ينتفع بها أحد وأحلت لهذه الأمة بعد أن ثبت خبثها بشرط الحاجة كما أحلت الميتة بالضرورة ولهذا لم تحل للغني إذا لم يكن عاملا لعدم الحاجة فثبت أن حكم النص صلاحية المحل للصرف إلى كفاية الفقير لأن حكم النص ما أوجبه النص والنص الموجب للشاة أوجب صلاحيتها للصرف إلى الفقير فيكون ثبوت الصلاحية حكم النص ولا يقال صلاحية الشاة لأداء حق الفقير لم يثبت بالنص بل كانت بأصل الخلقة لأنا نقول نحن ما عللنا تلك الصلاحية بل صلاحية حدثت بعدما قد بطلت في الأمم المتقدمة على ما قررنا وهي تثبت بالنص لهذه الأمة فيكون حكم النص

فعللناه بالتقويم يعني قلنا إنما حدثت صلاحية الصرف للشاة إلى الفقير باعتبار كونها مالا متقوما لأن حاجة الفقير تندفع باعتبار التقوم ألا ترى أن الدراهم الخمسة الواجبة في المائتين منها أو نصف مثقال من الذهب الواجب في عشرين مثقالا منه لو لم يكن متقومة لم يندفع بها حاجة الفقير أصلا فعللنا هذه الصلاحية بعلة التقوم وعديناها إلى سائر الأموال للاشتراك في العلة على موافقة سائر العلل فإن حكمها تعميم حكم النص من بقاء حكم النص في المنصوص عليه على قراره وها هنا بهذه المثابة فإن صلاحية الشاة لأداء حق الفقير لم تبطل بهذا التعليل بل بقيت كما كانت قال القاضي الإمام في الأسرار الزكاة وجبت عبادة للّه تعالى وما يجب للّه تعالى عبادة يجب بلا شركة وما يأخذه الفقير يأخذه حقا لنفسه لا شركة لأحد فيه فعلمت أن الشاة يتأدى بها حق اللّه تعالى عبادة ثم حق الفقير لا بد من القول به ضرورة والتعليل لم يقع لحق اللّه تعالى فإنه متعين فيما عين اللّه عز وجل إذ الزكاة لا تشغل إلا النصاب بالإجماع وكذلك يجوز بالإجماع أداء حق الفقير من غير النصاب والوجوب للّه تعالى لا يشغل إلا النصاب فعلم أنها غيران

قال وإذا ثبت هذا علم ضرورة قال الواجب بالنص شاة وجب إخراجها إلى اللّه تعالى حقا له كما يخرج المسجد والقربان وهي صالحة لحق الفقير لأن حق الفقير لما كان على اللّه تعالى وحق اللّه تعالى على الغني لم يتصور ثبوت ما يصير اللّه تعالى حقه للفقير إلا بعد صيرورته للّه تعالى برزقه على اللّه فتصير الشاة قبل أن تصير للّه تعالى صالحة لحق الفقير ضرورة كرجل يستوفي دراهم على رجل ثم يوفيها غيره فتكون صالحة

(٣/٤٩٢)

لإيفاء حق الغير حين استوفاها لنفسه فثبت أن الحكم في الشاة التي هي للّه تعالى في حق الفقير أنها صالحة لإيفاء حق لا أنها حق له وإنما تصير حقا له بعدما تصير للّه تعالى وكونها صالحة لإيفاء حق الفقير حكم شرعي فمحال التصرفات تعرف شرعا كقولنا الخمر لا تصلح محلا للبيع والخل يصلح لا بكون الصلاحية حقا للعباد وإنما يثبت لهم الحق بالسبب ولما كان حكما شرعيا قبل التعليل ليتعدى الصلاحية إلى غيرها مع القرار عليها كما قبل التعليل إنما كانت الحقية للّه تعالى فلا جرم لم يقبل التعليل ولم يتعد إلى غير النصاب بالإجماع فإن قيل التعليل باطل لأن الشاة الصالحة للفقير هي التي وجبت للّه تعالى بحق اللّه تعالى والتعليل لغو في حق اللّه تعالى فيجب إخراج عين المسمى والنزاع فيه قلنا إن اللّه تعالى لما أمرنا بإيفاء رزق الفقير منها بالتسليم إليه ورزقه مال مطلق دلنا على إلغاء الاسم في حق الإيفاء وحقهم مال مطلق ودل أنه ذكر الاسم تفسيرا على من وجب عليه فيده أوصل إلى ما في نصابه أو من جنسه فسقط اعتبار اسم الشاة بأمر اللّه تعالى بإيفاء الرزق لا بالتعليل فكونها حق اللّه تعالى مما لا يقبل التعليل على ما مر وأنه مثل قوله تعالى فلا تقل لهما أف

لما قام الدليل أنه نهي لإكرام الأبوين بكف الأذى عنهما وذلك في جنس الأذى لا في الأذى بهذه الكلمة سقط اعتبار الاسم وبقيت العبرة للأذى المطلق فصار الحاصل أن وجوب الشاة يتضمن أمرين كون الشاة حق اللّه تعالى عينا وصلاحية الشاة لكفاية حق الفقير والأول لا يقبل التعليل

والثاني يقبله ولكن قبوله للتعليل لا يفيد المقصود مع بقاء الأول على حاله لأن التغير إنما يأخذ حق اللّه تعالى من العبد يرزقه لا حق العبد وحق اللّه تعالى لما بقي في الشاة عينا كيف يمكنه أخذ غير الشاة من العبد باعتبار أنه صالح لكفايته مع أن حق اللّه تعالى لم يثبت فيه إلا أنه لما ثبت بدلالة النص أن حقه جل جلاله في مطلق المال لا في غير الشاة أمكنه أخذ غير الشاة لثبوت حق اللّه تعالى فيه بالدلالة وتعدية الصلاحية إليه بالتعليل ولو ثبت حق اللّه تعالى فيه أعني في غير الشاة بدليل ولم يتعد الصلاحية إليه لم يثبت الجواز كما في عكسه فثبت أنه لا بد من كلا الأمرين فلذلك ذكر الشيخ

قوله وإنما التعليل لحكم شرعي إلى آخره بعدما بين أن سقوط حق اللّه تعالى في الصورة حصل بإذنه

قوله ولما ثبت إلى آخره بنى الخصم كلامه في المسألتين على حرف واحد وهو أن الزكاة يجب حقا للفقير ابتداء فجعل اللام في قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء لام الملك ولما أبطل الشيخ كلامه في المسألة المتقدمة وفيه جواب عن

(٣/٤٩٣)

المسألة الثانية أشار إلى ذلك فقال ولما ثبت أن الواجب وهو الزكاة خالص حق اللّه تعالى لما ذكرنا لم يمكن أن يحمل اللام على حقيقتها وهي التمليك كما زعم الخصم لأن ما هو حق اللّه تعالى على الخلوص لا يكون حقا لغيره بل يحمل على أنها لام العاقبة أي يصير المؤذي لهم بعاقبته كما في قوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا فإن أخذهم موسى لم يكن لغرض العداوة والحزن ولكن لما أدى عاقبته إلى الأمرين كأنهم التقطوه لهما ومنه قول الشاعر لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى التراب ومعلوم أن الولادة والبناء ليسا لغرض الموت والخراب ولكن لما لم يكن بد للمولود من الموت وللبناء من الخراب صار كأن الأمرين وقعا لهذين الغرضين وذكر في المطلع أن اللام لقصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها لا يتجاوزها إلى غيرها لا لاستحقاقهم جميعا كما يقال إنما الخلافة لقريش يراد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم ويحتمل أن تصرف الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها وهو مذهب عمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن جبير والضحاك وأبي العالية وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وغيرهم من الصحابة والتابعين وعليه علماؤنا أو لأنه أوجب لهم بعدما صار صدقة يعني ولئن سلمنا أنها للتمليك لا تدل أيضا على أن الصدقة تكون ملكا للفقير قبل الأداء لأن اللّه تعالى أوجب لهم أي أثبت لهم الملك في المال بعد ما صار صدقة حيث قال إنما الصدقات للفقراء ولم يقل إنما الأموال للفقراء

وذلك أي صيرورة المال صدقة إنما يكون بعد الأداء إلى اللّه تعالى وذلك لا يتحقق قبل قبض الفقير فلا يكون في الآية دليل على أن الزكاة قبل القبض حق الفقير فلا يجب صرفها إلى الأصناف المذكورة أو هو دليل آخر على كون اللام للعاقبة معطوف على الأول من حيث المعنى يعني لأن الواجب خالص حق اللّه تعالى كانت اللام أو لأنه أوجب لهم بعدما صار صدقة وذلك بعد الأداء إلى اللّه كانت اللام للعاقبة لأن الواجب قبل التسليم صلاحية أن يصير صدقة فيكون ملكا للفقير لا أن الملك في الحال له فيكون اللام للعاقبة وفي الوجهين بعد ولا أعرف وجه عطف لأنه على تقدم وتبين أنا ما أبطلنا حق الباقين بالصرف إلى صنف واحد لأنه لا حق لهم فيها فصاروا على هذا التحقيق مصارف باعتبار الحاجة يعني لما ثبت أن الواجب خالص حق اللّه تعالى وأن ذكر هذه الأصناف ليس لبيان الاستحقاق لأنهم لا يصلحون لذلك للجهالة كان ذكرهم لبيان المصرف الذي يكون المال

(٣/٤٩٤)

بقبضهم للّه تعالى خالصا أي السبيل في هذا الحق الواجب للّه تعالى الصرف إلى هؤلاء باعتبار الحاجة

وبيانه ما ذكر القاضي الإمام رحمه اللّه أن الواجب من الزكاة حق إخراج إلى اللّه بقطع المالك ملكه عن ذلك القدر لا حق لأحد فيه وحق الفقير في رزقه على اللّه تعالى حال حاجته لا تعلق لحقه بالنصاب إلا أن اللّه تعالى لما أمر بقضاء حق الفقير بماله على صاحب المال يصير كف الفقير بالآية في حق الزكاة شرطا لتأدي حق اللّه به يصير مستحقا لما وجب على الغني بغناه

وإذا صار هكذا قلنا الأصناف السبعة ما صاروا مستحقين بالآية للزكاة بل صاروا مصارف صالحين لصرف الزكاة إليهم كالكعبة صالحة للصلاة إليها لا أن تكون مستحقة ثم إنا عللنا فقلنا إنما صاروا مصارف بفقرهم وحاجتهم واستحقاقهم الرزق لذي الحاجة على مولاهم وهو اللّه جل جلاله بوصف آخر لم يعرف سببا شرعا من الغرم والغربة والرزق ونحوها ألا ترى أن الغارم وابن السبيل والغازي في سبيل اللّه لم يكونوا فقراء لا يحل لهم الزكاة ولو صاروا مصارف بالاسم لجاز الصرف إليهم مطلقا من غير اشتراط الحاجة كما في المواريث

وكذا لو اجتمع في شخص واحد أسام مختلفة بأن كان مكاتبا وابن سبيل ومسكينا وغارما لا يستحق إلا سهما واحدا ولو كان الاستحقاق بالاسم لا يستحق بكل اسم سهما على حدة كما في الإرث إذا اجتمع سببان في شخص إن كان زوجا وابن عم يستحق بهما جميعا فعلم أن الوجوب متعلق بالحاجة غير أن الحاجة تقع بهذه الأسباب في الأغلب فذكر اللّه تعالى هذه الأسماء التي هي أسباب الحاجة ليدل على أن الفقير يستحقه بحاجته حتى شاركه غيره لما احتاج

وإن لم يكن بسبب الفقر فعلم أنهم مصارف بعلة الحاجة فصاروا جنسا واحدا كأنه قيل إنما الصدقات للمحتاجين بأي سبب احتاجوا ثم تعلق الحكم بأدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس على ما مر بيانه ثم هذا التعليل لا يرفع حكم النص لأنهم بالنص كانوا مصارف للزكاة وهم مصارف أي صالحون للصرف إليهم صرفت إليهم أم لا كالكعبة وصالحة لصرف الصلاة إليها أداء واستقبالا فعل العبد أم لا وتبين أن التعليل وقع لحكم شرعي وهو معرفة شرط جواز أداء الزكاة كالكعبة للصلاة لا لحق العبد وتبين أن المقسوم بينهم حكم إن كانوا مصارف الزكاة وقد بينوا كذلك فلا يجوز لأحد أن ينكر كونهم مصارف إلا ما انتسخ من المؤلفة قلوبهم بأنهم كانوا مصارف بعلة أخرى وهي إعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه بالإحسان لا لحاجة المصروف إليه إلى الرزق فكان ذلك بابا على حدة كتاب العامل اليوم يعطى لا رزقا على الحاجة بل جزاء على حسبته في العمل للفقراء في

(٣/٤٩٥)

جباية الصدقات وهذا بخلاف مسألة الوصية لأنا إنما ألغينا الاسم في الواجب عليه صدقة لأن ما يجب صدقة يجب الإخراج إلى اللّه تعالى ثم الصرف إلى الرزق حتى إن رجلا لو نذر فقال للّه علي أن أتصدق بمالي على الأصناف السبعة كان له أن يؤديها إلى فقير واحد لأنه التزم بلفظ الصدقة فأما الوصي فلم يثبت له ولاية التصرف بحكم أنها صدقة في حق صرفه إليهم بل لثبوت الولاية على الموصي بأمره التصرف في ماله بالصرف إلى حيث سماه وإنما سمى ثلاثة أسمائه فيجب الصرف على ذلك لما بلغت عبرة الصدقة في حق الوصي كمن أمر بالتصدق بشاة لا يحل له التصدق بغيرها

وفيما ألزمه اللّه تعالى يحل له ذلك كذا في الأسرار ولأن في أوامر اللّه تعالى يراعى المعنى لأن كلامه لا يعرى عن حكمة وفائدة وليس كذلك أوامر العباد لاحتمال أن العبد لم يقصد الفائدة بل قصد الاسم لأن

قوله وفعله قد يخلو عن فائدة فلذلك روعي في أمر العباد الاسم والمعنى جميعا

قوله

وأما التكبير فما وجب لعينه إلى آخره الاختلاف في هذه المسألة أيضا راجع إلى أن الزكاة في التحريمة عين التكبير عنده فلم يجز إقامة غيره مقامه كإقامة الخد مقام الجبهة وعندنا الركن فيها عمل اللسان ثناء على اللّه عز وجل والتكبير شرع لتحصيل عمل الثناء بذكره بمنزلة الآلة للفعل لأن الصلاة عبادة بدنية والمستحق فيها أفعال تحل على أعضاء مخصوصة تنبئ عن التعظيم كالقيام للقدم والركوع للظهر والسجود للجبهة واللسان من جملة البدن ومن الأعضاء الظاهرة من وجه فكان المستحق استعماله بما يحصل به التعظيم مما هو ثناء على اللّه سبحانه فعين الشرع التكبير لأن به يحصل الثناء لأنه هو المستحق في نفسه كما أن المستحق في السجود أن يصير الجبهة لا أن يصير الأرض مسجودا بها وكما أن المستحق في ذكر كلمة الشهادة أذانا على اللسان من عمل الإيمان وهذه الكلمة آلة بها يحصل الأداء إلا أن يكون الركن أن تصير هذه الكلمة مذكورة بلسانه ولهذا قام مقامها سائر الكلمات بالفارسية والعربية وغيرهما وإذا ثبت أن الواجب عمل اللسان صح التعليل وإقامة غير التكبير مقامه لأن عمل اللسان لا يتبدل به

وإنما تبدل الآلة والآلة في تحصيل العمل لا تجب مقصودة بل الضرورة تحصيل العمل بها لصلاحها لذلك العمل كالبيع للجمعة واستعمال القلم للكتابة والسكين للتضحية فلم يكن لها صفة في نفسها إلا الصلاحية للعمل وبالتعليل وإقامة آلة أخرى مقامها لا يتبدل حكمها فإنها تبقى صالحة بعد التعليل كما كانت ويبقى استعمالها واجبا إذا اضطر

(٣/٤٩٦)

إلى تحصيل العمل بأن لا يجد آلة أخرى وهو كقوله عليه السلام وليستنج بثلاثة أحجار فإن تعيين الحجر لا يدل على عدم جواز إقامة المدر مقامه بل الحجر آلة بجواز أن يتعين ويجوز أن يتخير بينهما وبين ما في معناها وهذا بخلاف الجبهة للسجود حيث لا يقام غيرها مقامها لأن الركن المستحق ضرورة للجبهة ساجدة بالأرض فيصير الجبهة مستحقة حكما لأن وضعها لا ينفصل عنها فلا يقوم غيرها مقامها وهذا كأجير الواحد لا يستحق الأجر بعمل غيره له لأن المستحق بالعقد منافعه ومنافعه لا يتصور إلا منه فصارت نفسه بمنزلة المستحق فلم يقم غيره مقامه والأجير المشترك يستحق الأجر بعمل غيره له لأن المستحق عليه يحصل صفة في المعمول بعمله وعمله آلة لا مقصود وتلك الصفة تحصل بعمل غيره له لأن عمل غيره له بأمره ينتقل إليه حكما لأنه مما يملك بالاستعارة والإجارة وإذا صار صارت الصفة الحاصلة به له كما لو عمل بنفسه فاستحق الأجرة وإن تبدلت الآلة

ولا يلزم على ما ذكرنا القراءة حيث لا يقوم ذكر آخر مقامها لأن الواجب عمل اللسان عمل قراءة وللقراءة فضيلة ليست لغيرها من الأذكار وهي أن المقروء من عند اللّه تعالى ويحرم على الحائض والجنب قراءته فلا يجوز إقامة غيرها من الأذكار مقامها ألا ترى أن غير الفاتحة من السور لما ساوى الفاتحة في الفضيلة قام مقامها في الجواز وإن تعينت الفاتحة بالحديث ولا يلزم عليه الأذان أيضا حيث لا يتأدى بلغة أخرى ولا بثناء آخر لأن الركن ليس عمل الثناء على اللّه تعالى فإنه لو تكلم به وأخفاه لم يجز والثناء حاصل ولكن الواجب إعلام الناس بحضور الصلاة والإعلام إنما يقع بصوت مقدر بتلك الحروف فمتى تغيرت الحروف تغير الصوت فلا يبقى إعلاما وروي عن أبي حنيفة رحمه اللّه أنه يجوز ذلك واللّه أعلم والثناء آلة فعلها أي فعل اللسان واللسان بمعنى الرسالة يؤنث وبمعنى العضو لا يؤنث ولعل الشيخ أنث الضمير على تأويل اللسان بالجارحة وذكره بعده في

قوله آلة فعله على الأصل وأشار بقوله ثناء مطلقا أي ثناء خالصا إلى أنه لا يجوز إلحاق ما ليس بثناء محض بالتكبير مثل

قوله اللّهم اغفر لي حتى لا يصير شارعا به وإنما ادعينا هذا أي أن الواجب بالنص هو التعظيم باللسان والتكبير آلته

قوله وكذلك استعمال الماء أي وكما أن التكبير ليس بواجب بعينه استعمال الماء في إزالة النجاسة الحقيقية ليس بواجب بعينه لأن من ألقى الثوب النجس أو قطع موضع النجاسة بالمقراض أو أحرقه بالنار سقط عند استعمال الماء ولو كان استعماله واجبا

(٣/٤٩٧)

بعينه لم يسقط بدون العذر لكن الواجب إزالة العين النجسة لئلا يكون مستعملا لها عند لبسه والماء آلته أي آلة الإزالة على تأويل الإسقاط والأبعاد

والواجب في الحقيقة هو التحرير عن النجاسة حالة الصلاة إلا أن التحرير عنها إذا أراد الصلاة في الثوب الذي قامت به نجاسة إنما يتحقق بإزالتها فكان الواجب في هذه الحالة الإزالة والماء آلته فإذا عدينا حكمه أي حكم النص أو حكم الماء إلى سائر ما يصلح آلة كالخل وماء الورد وكل ما ينعصر بالعصر فقد بقي حكم النص على ما كان قبله من غير تغيير وهو حكم شرعي أي كون الماء آلة صالحة للتطهير حكم شرعي ثم فسر صلاحه للتطهير فقال وهو أنه لا ينجس حالة الاستعمال يعني إنما أردت بكونه آلة صالحة للتطهير أنه لا ينجس حالة الاستعمال لا أنه مطهر بالقوة قبل الاستعمال فإن ذلك أمر حسي أو طبعي لا يصلح تعليله وإنما التعليل لحكم شرعي في المزيل وهو عدم تنجسه حالة الاستعمال والحكم في المحل وهو ثبوت الطهارة فيه هذا حكم شرعي أي الحكم الثابت بالنص عدم ثبوت صفة النجاسة في المزيل وهو الماء بملاقاة النجس إلى أن يزال الثوب وثبوت صفة الطهارة في المحل بواسطة الإزالة فعدينا هذا الحكم الشرعي إلى نظيره بالتعليل

وبيانه أن الماء طهور في الأصل بالنص والإجماع قال اللّه تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا والطهور اسم لما يتطهر به كالركوب والمحلوب اسم لما يركب ويحلب وأنه إنما كان طهورا لأنه مزيل للنجاسة عن المحل لا أنه تبدل حكم النجاسة إلى طهارة شرعا بدليل أن المحل لا يطهر ما لم تزل عين النجاسة عنه

وإذا كان التطهير بحكم الإزالة وغير الماء يشارك الماء في الإزالة فيشارك في حكمه وهو أن يكون طهورا مثله وإذا صار طهورا سقط تنجسه بملاقاة النجس وثبت الطهارة في المحل بعد تحقق الإزالة كما في الماء ولا يقال الماء مع كونه طهورا تنجس بالغسل به قياسا وسقط حكم القياس في حقه بالنص ضرورة إمكان التطهير به ولم يرد نص في غيره ولم يتحقق ضرورة لاندفاعها باستعمال الماء فيبقى على أصل القياس لأنا نقول لا نسلم أن الماء تنجس بالغسل به لأنه متى تنجس لم يبق طهورا فإن هذا الاسم لا يتحقق إلا حالة الغسل إذ لا حقيقة للطهورية إلا حالة الغسل فكان طهورا حالة الاستعمال بالنص لا بحكم الضرورة كحل الميتة بل لأن هذه الصفة أصلية له كحل الذبيحة ألا ترى أن الضرورة ترتفع بمياه الأودية ثم جعل ماء البحر طهورا بلا ضرورة فثبت أنه طهور من غير ضرورة ولما ثبت أنه أصل

(٣/٤٩٨)

قبل التعليل وقد ثبت أنه صار طهورا باعتبار الإزالة فصار كل مزيل طهورا مثله حتى إن السيف إذا أصابه دم فيبس ومسح بحجر أو خشبة طهور وكان ذلك طهورا لأنه أزال عينه وأثره كالماء كذا في الأسرار وذكر الشيخ أبو الفضل الكرماني رحمه اللّه في جواب هذه الشبهة أن بعض النجاسة التي كانت مجاورة للثوب جاور الماء لأن نجاسة الماء بالملاقاة ما كان بتبدله في نفسه بل بالمجاورة ومن ضرورة إثبات المجاورة في حق الماء عدم المجاورة في الثوب بقدره والنجاسة في نفسها متناهية فلا بد من أن ينقطع المجاورة عن الثوب بتكرر الغسل لتناهي النجاسة ضرورة إلا أن الشرع تصرف بالحكم بتناهي النجاسة بإزالة العين والأثر فيما له أثر وبالثلث فيما أثر له فثبت أن القول بعدم الزوال عن المحل وعدم تناهي النجاسة مردود عقلا وأن التنجس بأول الملاقاة إن سلم غير مانع عن ثبوت الطهارة في المحل

وكذا الطهارة في المحل كانت ثابتة بأصل الخلقة ولم تبق بالمجاورة فإذا زال المجاور وظهرت الطهارة الأصلية لا أن تثبت طهارة بالنص ابتداء

قوله ولا يلزم أن الحدث لا يزول بسائر المائعات ووجه وروده أنه لما جاز في إزالة النجاسة الحقيقية إلحاق غير الماء به في كونه طهورا بعلة الإزالة جاز في النجاسة الحكمية الإلحاق بهذه العلة أيضا لأن طهورية الماء فيها باعتبار الإزالة كما في النجاسة الحقيقية وقد أنكرتم ذلك فيكون مناقضة منكم فقال لا يلزم علينا ذلك لأن عمل الماء وهو التطهير لا يثبت في محل الغسل إلا بإثبات المزال وهو المانع الحكمي من أداء الصلاة المسمى بالحدث ليثبت بواسطة إزالته الطهارة في المحل وذلك أي المزال أمر شرعي ثبت في محل الغسل غير معقول المعنى لطهارة المحل حقيقة وشرعا أما حقيقة فظاهر

وأما شرعا فلأنه لو أدخل يده في الإناء لا يغسل وكذا حل له تناول الطعام باليد من غير غسل إلا أن الشرع أثبته عند استعمال الماء الذي لا يبالى بخبثه بقوله جل ذكره ولكن يريد ليطهركم فلم يستقم إثبات هذا المزال الذي هو غير معقول المعنى عند استعمال سائر المائعات بالرأي لأن ما ثبت غير معقول المعنى لا يمكن تعليله للتعدية إلى محل آخر مع أنه لو كان معقول المعنى لا يمكن التعدية أيضا عن سائر المائعات ليس بنظيره للماء فإن الماء يوجد مباحا لا يبالى بخبثه فلا يكون في إثبات المزال الذي يلزم منه خبثه عند الاستعمال حرج فيمكن إثباته

فأما سائر المائعات فأموال لا توجد مباحة إلى

(٣/٤٩٩)

الغالب فيكون في إثبات المزال الذي يلزم منه خبثها وحرمة الانتفاع بها حرج عظيم فلا يدل إثبات المزال فيما لا حرج في خبثه على إثباته فيما فيه حرج فيمتنع الإلحاق قياسا ودلالة ولا يقال إذا لم يثبت المزال في المحل عند استعمال المائع ينبغي أن يجوز الصلاة بدون استعمال الماء لأنا لا ننكر وجود المانع من أداء الصلاة في المحل فإنه ثابت بالإجماع ولكنا نقول إنه لا يصير مزالا باستعمال المائع لأن إزالته بالماء تثبت غير معقول المعنى فلا يتعدى إلى المانع أو نقول هو ثابت في حق المنع عن أداء الصلاة بالإجماع ولكنه غير ثابت في حق استعمال المائع وظهور أثر طهوريته بإزالته وصيرورته خبيثا باستعماله فيه وإذا لم يثبت في حقه بقي غير طهور لتوقف الطهورية على الإزالة فكان استعماله وعدم استعماله سواء

قوله ولا يلزم يعني على هذا الجواب أن الوضوء صح مع هذا أي مع أن المزال غير معقول المعنى بغير النية يعني لما اعتبرت جانب المزال في الوضوء ومنعت عن إلحاق غير الماء به لكون المزال غير معقول المعنى أن ينبغي أن تشترط النية في الوضوء لثبوت الطهارة غير معقول المعنى كما في التيمم فقال الماء مطهر بطبعه لم يحدث فيه معنى لا يعقل وإنما حدث في المحل نجاسة غير المعقول حتى صار الماء مطهرا ومزيلا له والنية من شرائط العمل فإذا بقي الماء طهورا بطبعه ولم يتغير لا يحتاج إلى نية التطهير مطهرا بخلاف التراب فإنه ليس بمطهر بنفسه بل فيه تلويث

وإنما جعله الشرع مطهرا وكساه صفة الطهورية عند إرادة الصلاة فيشترط لطهوريته إرادة الصلاة فإذا وجدت حدثت له صفة الطهورية فالتحق بالماء فبعد ذلك لا يحتاج إلى النية كذا في شرح التقويم قال القاضي الإمام رحمه اللّه هذه المسائل لا يستقيم الكلام فيها إلا بعد تمييز الآلة من الركن فالركن بالإجماع لا يقوم مقام ركن والآلة يقوم مقام الآلة واللّه أعلم

(٣/٥٠٠)