باب القياسقوله لأن الكلام لا يصح إلا بمعناه إثبات الشيء لا يمكن إلا بعد معرفة معناه فإذا لم يكن للفظ معنى لا يكون مفيدا وإذا لم يكن مفيدا كان مهملا وصار كألحان الطيور ولا يوجد أي على وجه يعتبر إلا عند شرطه لأن شرط الشيء ما يتوقف وجوده عليه فلا يتصور وجود المشروط إلا بعد وجود الشرط ألا ترى أن الصلاة لا تصح إلا بعد تحصيل الطهارة والنكاح لا يصح إلا بعد إحضار الشهود فلهذا قدم ذكر الشرط على الركن ولا يقوم إلا بركنه لأن ركن الشيء نفس ذلك الشيء أو بعض ما هو داخل في ماهيته فلم يكن بد من معرفته ولم يشرع إلا لحكمة إذ الشيء إنما يخرج من حد السفه والعبث إلى حد الحكمة بكونه مفيدا وذلك إنما يكون بحكمة ثم لا يبقى إلا الدفع أي لم يبق بعد تحقق هذه الأربعة إلا الدفع فكانت معرفته مؤخرة عن معرفة الجميع (٣/٣٩٤) قوله للقياس تفسير هو المراد بظاهر صيغته أي له معنى لغوي يدل ظاهر صيغته عليه بالوضع ومعنى هو المراد بدلالة صيغته أي معنى يدل صيغته عليه باعتبار معناها لا بظاهرها ومثاله أي مثال القياس على التفصيل الذي قلنا الضرب فإن له تفسيرا هو المراد بظاهره وهو إيقاع الخشبة على جسم حي ومعنى يعقل بدلالته وهو الإيلام فيتناول العض والخنق ومد الشعر في قول الرجل واللّه لا أضرب فلانا بمعناه لا بظاهره وصورته كما يتناول التأفيف الضرب والشتم بمعناه وهو الإيذاء لا بصورته ومثال آخر قوله تعالى وذروا البيع فإن ترك البيع يفهم من ظاهره وترك ما يشغله عن السعي يفهم من معناه حتى يحرم عليه الاشتغال بالشراء وسائر الأعمال التي تمنعه عن السعي قوله أما الثابت بظاهر صيغته فالتقدير يقال قست الأرض بالقصبة إذا قدرتها بها ويقال قاس الطبيب الجرح إذا سبره بالمسبار ليعرف مقدار غوره ثم التقدير لما استدعى أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة استعمل بمعنى المساواة أيضا فقيل قس النعل بالنعل أي أحدهما أي سواها بصاحبتها ومنه يقال يقاس فلان بفلان ولا يقاس بفلان أي يساويه ولا يساويه ومنه قول الشاعر خف بإلحاق كريم على عرض يدنسه مقال كل سفيه لا يقاس لكا وإليه أشار الشيخ بقوله وذلك أي التقدير أن يلحق الشيء بغيره فيجعل مثله ونظيره وكان غرضه من هذا الكلام أن التقدير في المعاني والأحكام بإلحاق الشيء بغيره ليجعل الشيء الملحق نظير الملحق به في الحكم الذي وقعت الحاجة إلى إثباته واسم النعل مؤنث سماعي إلا أن الشيخ ذكر ضميرها نظرا إلى ظاهر اللفظ وصلة القياس في (٣/٣٩٥) اللغة هي الباء إلا أن في الشرع جعلت كلمة على فقيل قاس عليه بتضمين معنى البناء ليدل على أن القياس الشرعي للبناء لا للإثبات ابتداء قوله وقد يسمى ما يجري بين اثنين من المناظرة قياسا لأن كل واحد يقيس على أصله ويسعى في أن يجعل جوابه في الحادثة مثلا لما اتفقا على كونه أصلا بينهما كالحنفي في مناظرة الشافعي يسعى في إلحاق الفصد والحجامة بالسبيلين وصاحبه يسعى في إلحاقهما بالقيء القليل وهو أي هذا القياس الذي أطلق على المناظرة مصدر قايسته قياسا لا مصدر قاس يقيس وقد يسمى هذا القياس أي القياس الشرعي الذي يجري في المناظرة نظرا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب فإنه يصاب بنظر القلب عن إنصاف فيكون قوله هذا احترازا عن القياس اللغوي أو العقلي وقد يسمى أي القياس اجتهادا مجازا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أيضا لأن باجتهاد القلب أي ببذله مجهوده يحصل هذا المقصود وذكر في القواطع أنه اختلف في الاجتهاد فقال علي بن أبي هريرة الاجتهاد والقياس واحد ونسبه إلى الشافعي رحمه اللّه وقال أشار إليه في كتاب الرسالة وأما الذي عليه جمهور الفقهاء فهو أن الاجتهاد أعم من القياس لأن القياس يفتقر إلى الاجتهاد وهو من مقدماته وليس الاجتهاد بمفتقر إلى القياس وحده هو بذل المجهود في طلب الحق بقياس وغيره وقيل هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه والقياس هو الجمع بين الأصل والفرع قال ولهذا دخل في باب الاجتهاد حمل المطلق على المقيد وترتيب العام على الخاص وأمثال ذلك وليس شيء من هذا بقياس قوله وأما المعنى الثابت بدلالة صيغته فهو أنه مدرك في أحكام الشرع وذلك لأن معناه اللغوي لما كان جعل الشيء مثلا لآخر ومساويا له لزم أن يعرف به حكم الشرع لأن ما لا نص فيه إذا صار مساويا للمنصوص عليه في المعنى الذي ترتب الحكم عليه يثبت ذلك الحكم فيه لا محالة فكان مدركا من مدارك أحكام الشرع أي موضع درك والدرك هو العلم أو في تسميته مدركا إشارة إلى أنه دليل يوقف به على الحكم لا أنه مثبت له كالدخان يوقف به على وجود النار لا أن يثبت وجودها به ومفصل من مفاصله أي موضع فصل فإنه يفصل به الخصومة بين المتنازعين أي يقطع كما يفصل بغيرها بين الحجج أو يفصل به بين الحلال والحرام والجواز والفساد كما يفصل بسائر أدلة الشرع (٣/٣٩٦) ولم يذكر الشيخ رحمه اللّه تحديد القياس واختلفت عبارات الأصوليين في ذلك فقيل هو رد الحكم المسكوت عنه إلى المنطوق به وهو فاسد لكونه غير مانع لدخول دلالة النص فيه وهي ليست بقياس وغير جامع لخروج القياس العقلي عنه وقيل هو تعدية حكم الأصل بعلته إلى فرع هو نظيره وهو فاسد أيضا لعدم اشتماله على قياس المعدوم على المعدوم فإن الأصل والفرع أمران وجوديان إذ الأصل اسم لما يبتنى عليه غيره والفرع اسم لما يبتنى على غيره والمعدوم ليس بشيء ولأن حكم الأصل وعلته من أوصافه والانتقال على الأوصاف لا يجوز بل الثابت مثل حكم الأصل بمثل علته في الفرع والمنقول عن الشيخ أبي منصور رحمه اللّه أنه إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر واختار لفظ الإبانة دون الإثبات لأن القياس مظهر وليس بمثبت بل المثبت هو اللّه تعالى وذكر مثل الحكم ومثل العلة احتراز عن لزوم القول بانتقال الأوصاف فإنه لو لم يذكر لفظ المثل يلزم ذلك وذكر لفظ المذكورين ليشتمل القياس بين الموجودين وبين المعدومين كقياس عديم العقل بسبب الجنون على عديم العقل بسبب الصغر في سقوط الخطاب عنه بالعجز عن فهم الخطاب وأداء الواجب ومختار القاضي الباقلاني والغزالي وعامة أصحاب الشافعي إنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما قال الغزالي وإنما قيل حمل معلوم على معلوم ليشمل القياس بين المعدومين ولو قيل حمل شيء على شيء لتناول الموجود دون المعدوم إذ المعدوم ليس بشيء وكذا لو قيل حمل فرع على الأصل لأن هذا اللفظ لا ينبئ عن المعدوم وإن كان لا يبعد إطلاقه عليه بتأويل ما والحكم قد يكون إثباتا ونفيا وكذا الجامع قد يكون حكما وصفة وكل واحد منهما قد يكون نفيا وإثباتا والاعتراضات الواردة على هذا الحد مع أجوبتها مذكورة في كتبهم قلت فلتطلب فيها قوله وهذه جملة أي ما ذكرنا أنه مدرك في أحكام الشرع ومفصل أمر مبهم لا يعقل إلا بالبسط وعبارة شمس الأئمة وإنما يتبين هذا أي كونه مدركا ببسط الكلام وبيان ذلك أي بيان كونه مدركا ومفصلا أن اللّه تعالى كلفنا العمل بالقياس كما نطقت به النصوص بطريق وضعه يعني للقياس على مثال العمل بالبينات في خصومات العباد وتعلق على بقوله كلفنا العمل أو بقوله وضعه فجعل الأصول وهي النصوص شهودا فإنها شهود اللّه تعالى على حقوقه وأحكامه بمنزلة الشهود في حقوق العباد ومعنى النصوص (٣/٣٩٧) هو شهادتنا أي معناها الذي تعلق الحكم به لا المعنى اللغوي وفسر بقوله وهو العلة الجامعة دفعا لتوهم المعنى اللغوي ولا بد من صلاحية الأصول أي للشهادة وهو أي الصلاحية على تأويل الصلاح كونها أي الأصول صالحة للتعليل بأن لا يكون النص الذي هو أصل معدولا به عن القياس أو مخصوصا بحكمه بنص آخر كما سيأتي بيانه ولا بد من صلاحية الشهادة أي شهادة النص بأن يكون المعنى الدال على الحكم ملائما أي موافقا لتعليل السلف غير خارج عن نهجهم كما لا بد من صلاحية شهادة الشاهد بأن يشهد بلفظ خاص فيقول أشهد حتى لو قال أعلم أو أتيقن أو أحلف لا يكون شهادة وعدالته أي عدالة لفظ الشهادة وهي كونه صدقا واستقامته أي مطابقته للحكم المطلوب من الشهادة وهي أن يكون موافقا لدعوى المدعي حتى لو ادعى ألف دينار وشهد بألف درهم لا يصح وإن كان صدقا لعدم المطابقة فكذلك هذه الشهادة أي فمثل شهادة الشاهد هذه الشهادة التي نحن بصددها فكما لا بد من الصلاحية والعدالة والاستقامة هناك لا بد منها هاهنا أيضا فصلاحية هذه الشهادة بالملاءمة كما قلنا وعدالتها بالتأثير واستقامتها بمطابقتها الحكم المطلوب وخلوها عن فساد الوضع ونحوه ولا بد من مقتضى عليه وهو القلب بالعقد ضرورة والبدن بالعمل أصلا لأن المقصود من القياس هو العمل بالبدن دون العلم لأنه لا يوجب العلم فكان البدن أصلا في إيجاب العمل عليه إلا أن صحة العمل لما كانت مبنية على الاعتقاد وجب على القلب العقد ضرورة وهذا إذا حاج نفسه فإن حاج غيره فالمقتضى عليه ذلك الغير فإنه يلزم الانقياد والتسليم له ولا بد من حكم هو بمعنى القاضي وهو القلب يحكم بعد فهمه تأثير وصف في حكم بثبوت ذلك الحكم بناء عليه كالقاضي في الخصومات يقضي بعد فهم الشهادة بثبوت المشهود به بناء على الشهادة فإن قيل قد صار القلب محكوما عليه فيما إذا حاج نفسه فكيف يصلح حاكما بعد وبينهما تباين قلنا قد ذكرنا أن المحكوم عليه هو البدن حقيقة وقصدا والقلب صار مقتضيا عليه بطريق الضمن والضرورة وذلك غير مانع من كونه حاكما كالقاضي إذا قضى بثبوت الملك للمدعي بعد ظهور الحجة صار المدعى عليه مقضيا عليه قصدا وصار هو (٣/٣٩٨) بنفسه مقضيا عليه ضمنا حتى لا يتمكن من دعواه لنفسه بعدما حكم به للمدعي وكما لو قضى بثبوت الرمضانية تصير العامة مقضيا عليهم قصدا ونفسه مقتضيا عليها ضمنا حتى وجب عليه الصوم أيضا لأنه مثل العامة في وجوب التكليف وإذا ثبت ذلك أي القياس بشرائطه بقي للمشهود عليه ولاية الدفع كما في سائر الشهادات لأن تمام الإلزام يتبين بالعجز عن الدفع وذكر الإمام العلامة مولانا شمس الدين الكردري رحمه اللّه مثالا لهذه الجملة فقال الخارج من غير السبيلين ناقض للطهارة والشاهد قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط وصلاحيته للشهادة كونه غير مخصوص بنص آخر وشهادته دلالة وصفي النجاسة والخروج على الانتقاض وعدالة الوصفين ظهور أثرهما في غير موضع النص بالاتفاق كوجوب غسل موضع النجاسة إذا تعدت عن المخرج وانتقاض الطهارة بالخارج من السرة والطالب هو القائس والمطلوب انتقاض الطهارة والحكم القلب والمحكوم عليه البدن أو أصحاب الشافعي فلم يبق بعد هذه الجملة إلا أن يعارضه نفسه أو الخصم بأن هذا وإن دل على الانتقاض إلا أن دليلا آخر يمنع عنه وهو أن النبي عليه السلام قاء فلم يتوضأ أو احتجم فلم يتوضأ وأمثاله قوله هذا أي ما ذكرنا أن القياس مدرك في أحكام الشرع مذهب عامة أصحاب النبي عليه السلام أي جميعهم لتعدية أحكامها إلى ما لا نص فيه أي لإثبات مثل حكم النص فيما لا نص فيه والمراد من التعدية الإظهار واعلم أن القياس نوعان عقلي وشرعي فالعقلي ما استعمل في أصول الديانات وقيل في حده هو رد غائب إلى شاهد ليستدل به عليه وهو حجة وطريق لمعرفة العقليات عند أهل القبلة سوى طائفة من أهل الحديث والإمامية من الروافض والحنابلة المشبهة والخوارج إلا النجدات منهم وهؤلاء أنكروا القياس الشرعي أيضا سوى الحنابلة فإنهم جعلوه حجة في الفروع لحاجة الناس إليه باعتبار حدوث الحوادث التي لا يوجد حكمها في الكتاب بخلاف العقليات فإنه لا حاجة إليه فيها لوجود تنافي في الكتاب (٣/٣٩٩) وأما الشرعي فهو القياس المستعمل في أحكام الحوادث على ما ذكرنا تفسيره والخلاف فيه في موضعين في جواز التعدية عقلا وفي وقوعه شرعا فعند جميع أصحابه والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين هو جائز عقلا وواقع سمعا وقالت الشيعة كلها والخوارج سوى النجدات منهم وإبراهيم النظام وجماعة من معتزلة بغداد ورود التعبد به ممتنع عقلا وهم المراد من قوله وغيرهم وغيره وقال داود بن علي الأصبهاني وابنه محمد وجميع أصحاب الظواهر والقاشاني والنهرواني إنه ليس بممتنع عقلا فإن الشارع لو قال مثلا تعبدتكم بالقياس فمهما غلب على ظنونكم أن الحكم تعلق بعلة في صورة وإنها متحققة في صورة أخرى فقيسوها عليها لا يلزم منه استحالة ولكن الشرع لم يرد بالتعبد به بل منع من العمل بالقياس فكان باطلا واتفق القائلون بورود التعبد به سمعا على أن الدليل السمعي بتعبد به قطعي سوى أبي الحسين البصري فإنه قال هو ظني ولهذا عدل عن الأدلة السمعية إلى دليل العقل وقال العقل يوجب التعبد بالأقيسة الشرعية لأن النصوص لا تفي بجميع الأحكام لتناهيها وعدم تناهي الأحكام فقضى العقل بوجوب التعبد بالقياس تحرزا عن خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية وإلى وجوب التعبد بالعقل ذهب القفال من أصحاب الشافعي أيضا كذا ذكر في عامة نسخ أصول الفقه ثم قوله في الكتاب فقال بعضهم لا دليل من قبل العقل أصلا إشارة إلى قول من أنكر القياس العقلي في أصول الدين وأنكر جواز التعبد بالقياس الشرعي في فروعه عقلا وهم الإمامية والخوارج وقوله القياس قسم منه أي من دليل العقل والقول الثاني إشارة إلى قول من أثبت القياس العقلي ونفى القياس الشرعي عقلا وهم بقية الشيعة والنظام ومتابعوه والقول الثالث يجوز أن يكون إشارة إلى قول من أنكر وقوعه سمعا كداود ومتابعيه فإن القياس لما كان دليلا ضروريا عند هذا البعض لم يكن ممتنعا لكنه لما لم يرد نص يدل على اعتباره مع وجود الاستصحاب وترجحه عليه لم يكن معمولا به بل يكون ساقطا بالاستصحاب ويجوز أن يكون إشارة إلى قول طائفة من القائلين بامتناع التعبد بالقياس عقلا فإنهم بعد اتفاقهم على امتناعه عقلا اختلفوا في مأخذ الامتناع العقلي على ما عرف فعند فريق منهم (٣/٤٠٠) الامتناع بناء على أن العمل بالدليل الأضعف الضروري على مخالفة الدليل الأقوى الأصلي مما يرده العقل وقد أمكن العمل بالدليل الأقوى في محل القياس وهو الأصل الذي كان ثابتا بيقين فلا يجوز العمل بالقياس الذي هو ظني على خلافه كما لو وجد هناك نص بخلافه قوله واحتج من أبطل القياس إلى آخره تمسك نفاة القياس بآيات من الكتاب مثل قوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء أي ما تركنا من شيء إلا وقد بينا لكم مما بكم إليه حاجة وقوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ذكر الرطب واليابس للتعميم كما يقال ما ترك فلان من رطب ولا يابس إلا جمعه وقوله عز ذكره ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء من أمور الشرع إذ ليس فيه بيان كل الأشياء ففي هذه الآيات أن بيان الأحكام كلها في الكتاب إما في نصه أو إشارته أو دلالته أو اقتضائه فإن لم يوجد في شيء هاهنا فالإبقاء على الأصل الثابت من وجود أو عدم فإن ذلك في الكتاب قال اللّه تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية فقد أمره بالاحتجاج بعدم نزول التحريم في كتاب اللّه تعالى لبقاء الإباحة الأصلية فيصير على هذا بيان كل الأحكام من رطب ويابس موجودا في الكتاب كما قيل ش جميع العلم في القرآن لكن تقاصر عنه أفهام الرجال فيكون القياس مستغنى عنه فمن جعله حجة لم يجعل الكتاب كافيا في الإبانة والتبيان وتعلقوا بالأخبار أيضا مثل حديث واثلة بن الأسقع أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم أولاد السبايا فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا وفي (٣/٤٠١) رواية أبي هريرة رضي اللّه عنه فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا السبايا جمع سبية بمعنى مسبية وأراد بها الجواري أي اتخذوا الجواري سريات فولدن لهم أولادا ليسوا بنجباء إذ النجابة من قبيل الأمهات فصدر منهم ما يفضي إلى الضلال والإضلال وهو القياس ومثل حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال تعمل هذه الأمة برهة بكتاب اللّه وبرهة بسنة رسول اللّه وبرهة بالرأي فإذا فعلوا ذلك ضلوا ومثل ما روى عوف بن مالك الأشجعي رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أضرها على أمتي قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال ومثل ما روى عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إن اللّه تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا والفتوى بالرأي فتوى بغير علم وروي عن عمر رضي اللّه عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين أعيتهم السنة أي لم يحفظوها فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه إياكم وأرأيت وأرأيت فإنما هلك من كان قبلكم في أرأيت وأرأيت وعنه أنه قال إن عملتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم اللّه وحرمتم كثيرا مما أحل اللّه وعن ابن سيرين أنه قال أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس وقال الشعبي ما حدثوك عن أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم فحدثه وما أخبروا عن رأيهم فألقه في الحش وعن مسروق أنه قال لا أقيس شيئا إني أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها وفي مثل هذه الأخبار والآثار كثيرة قوله وأما المعقول فكذا وتمسكوا بوجوه من المعقول منها ما ذكر في الكتاب وهو أن العمل بالقياس لا يجوز لمعنى في الدليل وهو القياس ولمعنى في المدلول وهو ما ثبت به من الحكم الشرعي أما الدليل أي المعنى الذي في الدليل فشبهة في الأصل أي أصل القياس واحترز به عن خبر الواحد كما سنقرره لأن النص لم ينطق بشيء من الأوصاف علة للحكم يعني أن الوصف الذي تعلق به الحكم غير منصوص عليه صريحا ولا إشارة ولا دلالة ولا اقتضاء بل امتاز من بين سائر الأوصاف بالرأي الذي لا ينفك عن (٣/٤٠٢) احتمال الغلط والخطأ ولهذا ترى الفقهاء يختلفون في علة نص واحد مثل اختلافهم في علة الربا والحكم المطلوب بالقياس من الجواز والفساد والحل والحرمة محض حق اللّه تعالى فلا يجوز إثباته بمثل هذا الدليل الذي في أصله شبهة لأن من له الحق موصوف بكمال القدرة يتعالى عن أن ينسب إليه العجز والحاجة إلى إثبات حقه بما فيه شبهة بخلاف أخبار الآحاد فإن أصلها قول الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو حجة موجبة للعلم قطعا وإنما تمكنت الشبهة في طريق الانتقال إلينا فيؤثر تمكن هذه الشبهة في انتفاء اليقين ولا يخرج الخبر بها من أن يكون حجة موجبة للعمل كالنص المؤول لا يخرج عن كونه حجة بالشبهة المتمكنة فيه بتأويلنا وبخلاف حقوق العباد فإنها تثبت بدليل في أصله شبهة لعجزهم عن إثباتها بدليل قطعي أما الذي في المدلول فهو أن المدلول طاعة اللّه تعالى لأنه من أحكام الدين وقبول الدين بجميع أحكامه من باب الطاعة والانقياد للعبودية قال اللّه تعالى أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول ولا يطاع اللّه تعالى بالعقول والآراء لأنه لا يمكن أداء الطاعة إلا بكمية وكيفية ولا مدخل للرأي في معرفة كمية الطاعة وكيفيتها ولا للعقل وقوف على حسن المشروع وقبحه على وجه التفصيل وإن كان يمكنه الوقوف على ذلك إجمالا لا كحسن شكر المنعم وقبح الكفر به بل طريق الطاعة هو الابتلاء ألا ترى أن من الشرائع ما لا يدرك ألبتة بالعقول مثل المقدرات كأعداد الركعات ومقادير الزكوات والعقوبات وأروش الجنايات ومنه أي من المشروع أو من المذكور وهو الشرائع ما يخالف المعقول أي القياس الظاهر والدليل الظاهر الذي عرف أصلا في الشرع ولم يرد أنه يخالف دليل العقل على معنى أن العقل يقتضي خلاف ذلك لأن الشرع والعقل من حجج اللّه سبحانه فلا يجوز أن يتناقضا بوجه وذلك مثل بقاء الصوم مع الأكل والشرب ناسيا وبقاء الصلاة مع السلام في القعدة ساهيا وبقاء الطهارة مع سلس البول وأشباهها وإذا كان كذلك لا يمكن معرفته بالرأي فيكون العمل فيه بالرأي عملا بالجهالة لا بالعلم فلا يمكن إعمال الرأي فيه وبمثل هذه الشبهة تعلق النظام فقال مدار الشرع على الفرق بين المتماثلات في الأحكام كإيجاب الغسل بالمني دون البول الذي هو مثله بل أنجس منه وكإيجاب القطع على سارق القليل دون غاصب الكثير وكإيجاب الجلد بالنسبة إلى الزنا دون النسبة إلى الكفر والشرك الذي هو أغلظ منه وكإيجاب القتل بشاهدين دون إيجاب حد الزنا بهما مع أن الزنا دون القتل وكإثبات الإحصان بالحرة الشيخة الشوهاء وعدم إثباته بمائة من الجواري الحسان وكتحريم النظر إلى شعر الشيخة (٣/٤٠٣) الشوهاء وإباحته إلى شعر الأمة الحسناء وكإباحة النظر إلى وجه الحرة الحسناء وتحريمه إلى شعرها مع اتفاقهما في تهييج الشهوة بل ربما يكون تهيجها عند النظر إلى الوجه أكثر منه عند النظر إلى الشعر وعلى الجمع بين المختلفات كالجمع بين الردة والزنا في إيجاب القتل وكالجمع بين قتل الصيد عمدا وخطأ في إيجاب الضمان والجمع بين القاتل والمظاهر والمفطر عمدا في إيجاب الرقبة وإذا كان كذلك استحلل ورود التعبد بالقياس من الشارع لكونه واردا على خلاف موضوع الشرع فإن قضية العقل والقياس التسوية بين المتماثلات في أحكامها والاختلاف بين المختلفات في أحكامها قوله ولا يلزم أمر الحروب جواب عما يرد نقضا على الوجهين فإن الرأي مع احتماله للخطأ والغلط قد يستعمل في الحروب بالاتفاق وهي من أمور الدين وأركانه وكذا يستعمل في درك الكعبة عند البعد عنها وعند اشتباه القبلة وهو من أمور الدين وكذا قيم المتلفات تعرف بالرأي عند إيجاب ضمانها وهو من أحكام الشرع فعرفنا أن حق اللّه تعالى قد يثبت بما فيه شبهة فينتقض به الوجه الأول وأن اللّه تعالى قد يطاع بالرأي فيفسد به الوجه الثاني فقالوا ما ذكرتم ليس بلازم علينا أما على الوجه الأول فلأن المدعى استحالة إثبات حقوق اللّه تعالى بالرأي دون حقوق العباد فإنه يليق بحالهم العجز والاشتباه فيما يعود إلى مصالحهم العاجلة فيعتبر فيه الوسع ليتيسر عليهم الوصول إلى مقاصدهم وهذه الأشياء من حقوق العباد فيجوز أن يثبت بالرأي أما غير القبلة فلا يشكل لأن يقع تقويم المتلفات راجع إليهم في العاجلة فإنه من باب الانتصاف الذي تقوم به مصالح العباد في الدنيا وكذا أمر الحروب فإنهم يدفعون به ضرا عن أنفسهم أو يجرون نفعا إليها فيكون من أمور الدنيا ومصالح العباد وأما القبلة أي دركها فأصله بمعرفة أقاليم الأرض فإن جهة القبلة تختلف باختلاف الأماكن والأقاليم وذلك أي عرفان أقاليم الأرض من حقوق العباد لاحتياجهم إلى معرفتها في أسفارهم للتجارات وغيرها من المصالح فبني عرفانها على وسعهم لحاجتهم فلذلك صح استعمال الرأي في درك القبلة لاضطرارهم وعجزهم بخلاف حق صاحب الشرع فإنه موصوف بكمال القدرة فلا يجوز إثباته بما في أصله شبهة وأجيب عنه أيضا بأن التنصيص إنما يشترط فيما لا امتناع في التنصيص عليه كأحكام القواعد الكلية دون ما يمتنع فيه التنصيص وهذه الأشياء تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأمكنة والاعتبارات فالتنصيص عليها كالتنصيص سقط عليه كأحكام القواعد الطلية دون ما يمتنع فيه التنصيص وهذه الأشياء تختلف باختلاف الأشخاص و الأوقات و الأمكنة و الإعتبارات فالتنصيص عليها كالتنصيص (٣/٤٠٤) على ما لا نهاية له وهو محال فاعتبر فيها الرأي وأما الثاني أي على الوجه الثاني وهو أن طاعة اللّه تعالى لا تدرك بالعقول فلا يلزم ما ذكرتم أيضا لأن هذه الأمور إنما تعقل بوجوه محسوسة فإن قيمة المتلف تعرف بالنظر إلى مثله في الصفات وكذا مهر المرأة يعرف بالنظر إلى مثلها في الأوصاف التي يمكن اعتبارها وكذا المقصود من الحرب صيانة النفس عن التلف أو قهر الخصم وأصل ذلك محسوس مثل التوقي عن السم وعن الوقوع على السيف والسكين لعلمه بأن ذلك متلف وكذا جهة الكعبة محسوسة في حق من عاينها وبعد البعد منها قد يصير كالمحسوسة بالنظر في دلائلها فكان إعمال الرأي في هذه الأشياء في معنى العمل بما لا شبهة في أصله بمنزلة العمل بالكتاب والسنة ولقائل أن يقول هذا الجواب لا يطابق ورود السؤال المذكور على الوجه الثاني لأن غايته أن الرأي في هذه الأشياء مستند إلى الحس كخبر الواحد مستند إلى قول الرسول عليه السلام ولكن لا يخرج به من كونه رأيا مستعملا في طاعة اللّه تعالى وقد ذكرتم أن اللّه تعالى لا يطاع بالرأي وإنما يطابق وروده على الوجه الأول فإنه لما استند إلى الحس لم يبق شبهة في أصله فيجوز أن يثبت به حق اللّه تعالى ولهم أن يجيبوا وإن كان لا يخلو عن ضعف بأن أصلها لما استند إلى الحس صار ملحقا بالكتاب والسنة فكان الثابت به بمنزلة الثابت بالكتاب والسنة فلم يكن طاعة بالرأي بل بالنص تقديرا وكأن الشيخ أراد بقوله على مثال الكتاب والسنة ما قلنا والأولى أن يتمسكوا بالجواب الأول فيقولوا لا نسلم أن هذه الأشياء من قبل الطاعة بل هي من حقوق العباد كما قررنا فيجوز أن يستعمل فيها الرأي وحصل بما قلنا أي بالمنع من القياس المحافظة على النصوص بمعانيها أي مع معانيها لأنه لا منع عن القياس احتاج عن التأمل في معاني النصوص لاستخراج الأحكام قال القاضي الإمام في التقويم قالوا وفي الحجر عن القياس أمران أن بهما قوام الدين ونجاة المؤمنين فإنا متى حجرنا عن القياس لزمنا المحافظة على النصوص والتبحر في معاني اللسان وفي محافظة النصوص إظهار قالب الشريعة كما شرعت وفي التبحر في معاني اللسان إثبات حياة القالب فتموت البدع بظهور القالب فإن عند ظهوره يتبين الزيغ الذي هو بدعة عن الحق ويسقط الهوى بحياة القالب (٣/٤٠٥) لأن القالب لا يحيى إلا باستعمال الرأي في معاني النصوص ومعانيها غائرة جمة لن تنزف بالرأي وإن فنيت الأعمار فيها فلا يفضل الرأي للّهوى فيتم أمر الدين بموت البدع ويستقيم العمل بسقوط الهوى وفيها الفوز والنجاة للناس ثم ذكر الشيخ جوابا آخر لهم عن ورود السؤال المذكور على الوجه الأول فقال ولأن العمل بالأصل الذي كان ثابتا بيقين ممكن في مواضع القياس وذلك أي الأصل دليل دعينا إلى العمل به شرعا في قوله عز وجل قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية فمع إمكان العمل به لا يجوز المصير إلى ما دونه لعدم الضرورة وليس كذلك أي لموضع القياس ما ذكرنا من أمر الحروب وغيرها من قيم المتلفات ومهور النساء لأن العمل بالأصل فيها غير ممكن إذ لا يمكن أن يقال الضمان أو المهر لم يكن واجبا فلا يجب لأن سبب الوجوب قد ثبت قطعا وكذا ليس في الحرب والقتل أصل نستصحبه ونعمل به فإذا لم نجد طريقا آخر نعمل به جوزنا العمل بالاجتهاد فيها للضرورة ثم أجاب عن سؤال آخر يرد عليهم وهو أن الاعتبار عمن مضى من القرون وإعمال الرأي بالتفكر في أحوالهم وما لحقهم من المثلات أي العقوبات والكرامات واجب وذلك من باب الدين فعرفنا أن الرأي معتبر في الدين وأن القياس حجة في الشرع فقالوا لا يلزم عليه أي على ما قلنا أن القياس ليس بحجة ذلك لأن ذلك أي لحوق المثلاث والكرامات أمر يعقل أي يعلم بالحس والمشاهدة لأنه قد عرف هلاك مثله بمثل ذنبه بالسماع أو بحس العين فكان الاحتراز عن مثله بسببه من مصالح الدنيا بمنزلة الاحتراز عن تناول ما يتلفه مما وقف على تلف مثله بتناوله قال شمس الأئمة رحمه اللّه المقصود من إعمال الرأي في أحوالهم الامتناع مما كان مهلكا لمن قبلهم حتى لا يهلكوا ومباشرة ما كان سببا لاستحقاق الكرامة لمن قبلهم حتى ينالوا مثل ذلك وهو في الأصل من حقوق العباد بمنزلة الأكل الذي يكتسب به المرء سبب إبقاء نفسه وإتيان الإناث في محل الحرث بطريقه ليكتسب به سبب إبقاء النسل ثم طريق ذلك الاعتبار بالتأمل في معاني اللسان فإن أصله الخبر وذلك مما يعلم بحاسة السمع ثم بالتأمل فيه يدرك المقصود وليس ذلك من حكم الشريعة في شيء فقد كان الوقوف على معاني (٣/٤٠٦) اللغة في الجاهلية وهو باق اليوم بين الكفرة الذين لا يعلمون حكم الشريعة وعلى ذلك يحمل أي على ما يدرك بالحس والعيان مثل المثلات والكرامات يحمل ما ورد من الأمر بالاعتبار في قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وعلى أمر الحروب يحمل مشاورة النبي صلى اللّه عليه وسلم يعني يحمل ما ورد من الأمر بالمشاورة للرسول عليه السلام بقوله وشاورهم في الأمر ومشاورته أصحابه على أمر الحروب بدليل أن المروي أنه يشاورهم في ذلك ولم يعقل أنه شاورهم قط في حقيقة ما هم عليه ولا في ما أمرهم به من أحكام الشرع وإلى هذا المعنى أشار بقوله عليه السلام إذا أتيتكم بشيء من أمر دينكم فاعملوا به وإذا أتيتكم بشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم بدنياكم قوله قال اللّه تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار أمرنا بالاعتبار وهو برد الشيء إلى نظيره كذا حكي عن ثعلب ومنه يسمى الأصل الذي يرد إليه النظائر عبرة ويقال اعتبرت هذا الثوب بهذا الثوب أي سويته به في التقدير وهذا هو القياس فإنه حذو الشيء بنظيره فكان مأمورا به بهذا النص وقيل الاعتبار التبيين ومنه قوله تعالى إخبارا إن كنتم للرؤيا تعبرون تبينون والتبيين الذي يكون مضافا إلينا هو إعمال الرأي في معنى المنصوص ليتبين به الحكم في نظيره كذا ذكر شمس الأئمة فكان الضمير في قوله والقياس مثله راجعا إلى الاعتبار أو إلى كل واحد منهما أو لأي المعنيين بتأويل المذكور أي القياس مثل رد الشيء إلى نظيره فيكون داخلا تحت الأمر أو القياس مثل المعنيين لأنه رد الشيء إلى نظيره وبيان لحكمه أيضا بالرد إلى النظير فكان الأمر متناولا وذكر بعض الأصوليين أن الاعتبار هو الانتقال والمجاوزة عن الشيء إلى غيره مشتق من العبور يقال عبرت النهر أي جاوزته والموضع الذي يعبر عليه والمعبر السفينة أو القنطرة التي يعبر بها والعبرة الدمعة التي عبرت من الجفن وعبر الرؤيا وعبرها جاوزها إلى ما يلازمها فثبت بهذه الاستعمالات كون الاعتبار حقيقة في الانتقال والمجاوزة إلى الغير وذلك متحقق في القياس فإنه عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فكان داخلا تحت الأمر فإن قيل لا نسلم أن حقيقة (٣/٤٠٧) الاعتبار هي الانتقال والمجاوزة بل حقيقة الاعتبار الاتعاظ لتبادره إلى الفهم من إطلاق اللفظ ولصحة نفي الاعتبار عن القائس الذي لا يتفكر في أمر الآخرة ولا يتعظ بأن يقال هو غير معتبر ولترتبه في هذا النص على قوله يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فإنه إنما يحسن ترتبه عليه لو كان المراد الاتعاظ دون القياس لركاكة قول القائل يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر ولئن سلمنا دلالته على القياس فنحمله على القياس في الأمور العقلية دون الشرعية أو على ما كانت عنه منصوصا عليها لعدم إمكان حمله على العموم فإن التسوية بين الفرع والأصل في أنه لا يستفاد حكم الفرع إلا من النص كما أن حكم الأصل كذلك نوع من الاعتبار كما أن التسوية بينهما في إثبات الحكم كذلك وهما متنافيان فإجراء اللفظ على عمومه يؤدي إلى الأمر بالمتنافيين وهو محال ولئن سلمنا إمكان حمله على العموم فقد خص منه ما لا يجوز القياس فيه كالمنصوص عليه وما لم ينصب عليه أمارة على الحكم والأقيسة المتعارضة فلم يبق حجة أو صار ظنيا ومسألة القياس قطعية فلا يجوز بناؤها عليه قلنا حقيقة الاعتبار هي المجاوزة والانتقال إلى الغير كما ذكرنا لا الاتعاظ فإنه يقال اعتبر فلان فاتعظ فيجعل الاتعاظ معلول الاعتبار ولو كان معناه الاتعاظ لما صح هذا الكلام إذ ترتب الشيء على نفسه ممتنع ولأن معنى المجاوزة والانتقال في الاتعاظ متحقق وأن المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فأما تبادر الفهم إلى الاتعاظ دون غيره فممنوع بل يفهم منه غيره كما يفهم الاتعاظ فيجعل حقيقة في المعنى المشترك في الكل وهو الانتقال نفيا للاشتراك والمجاز فأما صحة نفيه عن القائس الذي ليس بمتعظ فبالنظر إلى إخلاله بأعظم المقاصد إذ المقصود الأصل من الاعتبار الآخرة فإذا أخل به قيل هو غير معتبر مجازا كما قيل لمن لا يتدبر في الآيات أعمى وأصم لا بالنظر إلى كونه قائسا فإنه لا يصح وأما ركاكة ما لو قيل يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر فمسلمة لأنه لا مناسبة بين خصوص هذا القياس وبين تخريب البيوت ولكن المأمور به في الآية مطلق الاعتبار الذي يكون القياس الشرعي أحد جزئياته وذلك ليس بركيك مثاله لو سئل واحد عن مسألة فأجاب بما لا يتناول تلك المسألة كان باطلا لكن لو أجاب بما يتناولها وغيرها كان حسنا كما لو سئل عمن أكل أو شرب في صوم رمضان أيجب عليه الكفارة لا يحسن أن يجيب بأن من (٣/٤٠٨) جامع فعليه الكفارة ولكن يحسن أن يقول من أفطر فعليه الكفارة وقولهم لا يمكن إجراؤه على العموم للزوم التناقض فاسد لأن إلحاق الفرع بالأصل في المنع من الحكم لا يسمى اعتبارا ولا يفهم ذلك منه بوجه ولم يقل أحد بأنه محتمل الآية ولو كان ذلك محتملها لصار معناها يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فلا تحكموا بهذا الحكم في حق غيرهم إلا بنص وارد في حق ذلك الغير وبطلانه ظاهر ألا ترى أن السيد إذا ضرب بعض عبيده على ذنب ثم قال الآخر اعتبر به فهم منه التسوية في الحكم لا المنع منه وقولهم قد خص منه كذا فلا يتمسك به في المسألة القطعية ضعيف أيضا فإنه قد قيل إن تلك الصور لم تدخل تحت هذا النص ليثبت التخصيص فإن الأمر بالاعتبار لا يتناول ما لم يوجد فيه أمارة على الحكم لعدم إمكان الاعتبار بدونها لا ما وجد فيه نص لأن المقصود من رد الشيء إلى نظيره إثبات حكم النظير له فإذا كان له حكم لم يكن فائدة في رده إلى النظير ولا الأقيسة المتعارضة لعدم إمكان العمل بها لتساقطها بالتعارض وإذا لم تدخل تحته لم يصح تخصيصها منه فبقي النص على عمومه موجبا لليقين كما كان على أنا إن سلمنا أنه صار ظنيا فهو حجة عليكم لأنه يوجب العمل بالقياس بطريق الظن وأنتم أنكرتموه أصلا والجواب ما نبين أراد به قوله وبيان ذلك في الأصل إلى آخره قوله ولكم في القصاص حياة فالقصاص إفناء وتفويت للحياة وقد جعل مكانا وظرفا للحياة في هذا النص وذلك من طريق المعنى بشرعه واستيفائه كما ذكر في الكتاب أما الأول وهو كونه حياة باعتبار شرعه فلأن القاصد للقتل لما تأمل في شرع القصاص وعلم أنه لو قتل يقتص منه وصده أي منعه ذلك التأمل عن مباشرة سبب القصاص وهو القتل فسلم هو من القود وسلم صاحبه من القتل فيصير أي شرع القصاص يعني مشروعيته حياة لهما أي القاصد القتل والمقصود قتله بقاء عليها أي بقاءهما على الحياة وفي بعض النسخ عليهما أي بقاء حياتهما عليهما ولو قيل إبقاء لكان أحسن وإبقاء الحياة بدفع سبب الهلاك عنه يسمى إحياء قال اللّه تعالى ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا وعلى هذا الوجه يكون الخطاب لكافة الناس وأما في استيفائه أي كونه حياة باعتبار استيفائه فلأن القاتل يصير حربا على أولياء القتيل خوفا على نفسه منهم فيقصد قتلهم مستعينا في ذلك بأمثاله من السفهاء إزالة للخوف عن نفسه فإذا استوفى الولي القصاص عنه اندفع شره عنه وعن عشيرته فصار أي الاستيفاء (٣/٤٠٩) إحياء لهم معنى وعلى هذا يكون الخطاب للأولياء ولأن القاتل إذا قتل محي أثر القتل في دار الآخرة عنه فيبقى غير معذب به فيكون إحياء له بدفع سبب العذاب عنه وعلى هذا يكون الخطاب للقتلة وتنكير لفظ الحياة إما للتعظيم فإنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة وبالمقتول غير قاتله فتفور الفتنة ويقع التقاتل بينهم فبشرع القصاص انقطعت الفتنة وانقطع التقاتل فكانت فيه حياة عظيمة أو لأن الحاصل به نوع من الحياة فإن بارتداع القاطع عن القتل تحصل حياة للمقصود قتله في المستقبل دون الماضي فوجب التنكير وامتنع التعريف لأن التعريف يقتضي أن الحياة كانت من الأصل بالقصاص وليس الأمر كذلك ومثله تنكير الحياة في قوله عز ذكره ولتجدنهم أحرص الناس على حياة فإن الحرص لما يكن متعلقا بالحياة على الإطلاق بل بها في بعض الأحوال وهي الحياة في المستقبل إذ الحرص لا يكون على الحياة الماضية والراهبة حسن التنكير ولأن الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لا يكون في حق الكل فإن كثيرا من الناس قد لا يكون لهم عدو يقصد قتلهم حتى يمنعه خوف القصاص عنه فيحصل لهم الحياة بالارتداع بل يكون في حق البعض ولما دخل الخصوص في هذه القضية وجب تنكير لفظ الحياة كما وجب تنكير لفظ الشفاء في قوله عز وجل يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس حيث لم يكن شفاء للجميع ليصح التعريف وهذا لا يعقل إلا بالتأمل أي كون القصاص حياة لا يدرك إلا بالتأمل واستعمال الرأي فعرفنا أن استعمال الرأي لاستخراج معان النصوص أمر سائغ في الشرع والقياس ليس إلا استعمال الرأي لاستخراج معنى النص فيكون مشروعا قال القاضي الإمام في التقويم واللّه تعالى يقول ولكم في القصاص حياة وفيه هلاك حسا وإنما الحياة في الاعتبار عن قتل فقتل لينزجر عن القتل ابتداء فلا يقتل جزاء وهذا ضرب من الرأي فإن قال الخصم أنا لا أنكر استعمال الرأي لمثل هذا المعنى إذ لا بد من فهم معنى الكلام لغة واستعاراته وإشاراته وذلك لا يتأتى إلا به إنما الكلام في استعماله لإثبات الحكم الشرعي في محل غير منصوص عليه ولا دلالة للآية على جوازه فيه فالجواب عنه هو الجواب عن السؤال المذكور في الكتاب كما سيجيء بيانه قوله وأما السنة فأكثر من أن يحصى واحتج مثبتو القياس أيضا بما ثبت بالتواتر (٣/٤١٠) المعنوي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وإليه أشير بقوله فأكثر من أن تحصى ما يدل على شرعية القياس ووجوب العمل به مثل حديث معاذ رضي اللّه عنه فإنه لما قال أجتهد برأيي ضرب على صدره وقال الحمد للّه الذي وفق رسول رسول اللّه فلم ينكر عليه في قوله أجتهد برأيي بل مدحه وحمد اللّه على ذلك فدل على جواز العمل بالقياس عند عدم النص وأمر به أبا موسى رضي اللّه عنه حين وجهه إلى اليمن فقال اقض بكتاب اللّه فإن لم تجد فبسنة رسول اللّه فإن لم تجد فاجتهد رأيك وقال لعمرو بن العاص اقض ما بين هذين فقال على ماذا أقضي فقال على أنك إن اجتهدت فأصبت لك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة وقوله وهذا نص صحيح إشارة إلى الجواب عما قيل لا يصح التمسك بخبر معاذ فإنه خبر مرسل فلا يكون حجة عند أصحاب الشافعي وخبر غريب فيما يعم به البلوى فلا يكون حجة عند أصحاب أبي حنيفة فكان الإجماع من الفريقين منعقدا على سقوط الاحتجاج فقال هذا نص صحيح ليس بمرسل ولا غريب فإن أئمة الحديث أسندوه في كتبهم وتلقوه بالقبول فيصح الاحتجاج به قال الغزالي رحمه اللّه هذا حديث تلقته الأمة بالقبول ولم يظهر أحد فيه طعنا وإنكارا وما كان كذلك لا يقدح فيه كونه مرسلا بل لا يجب البحث عن إسناده وهو كقوله عليه السلام لا وصية لوارث ولا تنكح المرأة على عمتها ولا يتوارث أهل ملتين شتى وغير ذلك مما عملت به الأمة كافة وذكر غيره أن مثبتي القياس أبدا كانوا يتمسكون به في إثبات القياس ونفاته كانوا يشتغلون بتأويله فكان ذلك اتفاقا منهم على قوله فإن قيل إن سلمنا صحته لا نسلم كونه دالا على أن القياس حجة إذ الاجتهاد ليس نفس القياس لا غير بل هو عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب فيحمله على طلب الحكم من النصوص الخفية أو على التمسك بالبراءة أو على القياس الذي علته منصوص عليها أو مومأ إليها أو يحمله على أنه كان ذلك قبل إكمال الدين واستقرار الشرع لوقوع الحاجة إليه إذ ذاك فأما بعد إكمال الدين واستقراره فلا لارتفاع الحاجة بما هو أقوى منه إذ الإكمال لا يكون إلا بعد اشتمال الكتاب والسنة على جميع ما لا بد من معرفته فلا يجوز العمل بالقياس قلنا لا يجوز حمل الاجتهاد على الاستدلال بالنصوص الخفية هاهنا لأن قوله فإن لم تجد يقتضي انتفاء النص على سبيل العموم جليا كان أو خفيا فتخصيصه بالجلي دون الخفي من غير دليل ممتنع وكذا لا يجوز حمله على البراءة الأصلية لأنها معلومة لكل أحد فلا حاجة في (٣/٤١١) معرفتها إلى الاجتهاد ولا على ما كانت علته منصوصا عليها لأن الشارع إنما سكت عند قوله أجتهد لعلمه بأن الاجتهاد واف بجميع الأحكام فلو حمل على القياس المنصوص على علته لم يكن ذلك وافيا بمعرفة عشر عشير الأحكام فكان يجب أن لا يسكت عليه كما لم يسكت عند قوله أقضي بالكتاب والسنة ولا يصح حمله أيضا على أنه كان قبل الإكمال فإن الإكمال لا يقتضي عدم جواز العمل بالقياس فإنه إنما يتحقق ببيان جميع الأحكام وذلك قد يكون بلا واسطة وبواسطة والقياس من الوسائط ثم أتم الاستدلال بالسنة بقوله وقد روينا يعني حديث معاذ وغيره يدل على أنه عليه السلام أجاز قياس غيره وقد روينا في باب تقسيم السنة في حقه ما هو قياس بنفسه مثل الخثعمية وحديث القبلة للصائم وغيرهما فيدل قوله وفعله جميعا على جواز القياس وكلمة من يجوز أن تكون متعلقة بروايتنا وأن تكون متعلقة بقياس وفي أمثال هذه الأخبار كثرة كقوله عليه السلام لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها حكم بتحريم ثمنها قياسا على تحريم أكلها وقوله عليه السلام لأم سلمة رضي اللّه عنها وقد سألت عن قبلة الصائم هلا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم تنبيها على قياس غيره عليه وقوله عليه السلام حين سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر أينقص إذا جف فقيل نعم فقال فلا إذن وقوله عليه السلام في محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا وقوله عليه السلام في شهداء أحد زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما وقوله عليه السلام الهرة ليست بنجسة فإنها من الطوافين والطوافات عليكم وقوله عليه السلام في حديث المستيقظ فإنه لا يدري أين باتت يده وقوله عليه السلام في الصيد فإن وقع في الماء فلا يؤكل لعل الماء أعان على قتله إلى غير ذلك من الأخبار المختلف لفظها المتحد معناها فنزل جملتها منزلة المتواتر وإن كانت آحادها آحادا فإن (٣/٤١٢) قيل لا تمسك لكم في هذه الأخبار فإن فيها بيان تعليل بعض الأحكام لا بيان جواز القياس ولا يلزم من التنصيص على العلة جواز إلحاق غير المنصوص به كما لو قال الرجل أعتقت غانما لسواده لم يعتق جميع عبيده السود وكذا لو تملك بمؤثر بأن قال أعتقت غانما لحسن خلقه لم يلزم عتق غيره وإن كان غيره أحسن خلقا منه قلنا بل التمسك صحيح فإن فائدة التعليل بيان كون العلة باعثة على الحكم ومؤثرة فيه فلو لم يجز إلحاق غير المنصوص بالمنصوص عند اشتراكها في العلة لأدى إلى تخلف الأثر عن المؤثر من غير مانع وهو غير جائز ولخلا ذكره عن الفائدة بخلاف قوله أعتقت غانما لسواده أو لحسن خلقه لأنه لا أثر لذلك التعليل في العتق فيكون ذكره كعدمه وذلك لأن الشرع علق أحكام الأملاك حصولا وزوالا بالألفاظ دون الإرادات المجردة حتى لو قال أعتقت أو طلقت غير قاصد للعتق والطلاق يثبت العتق والطلاق ولو نوى عتقا أو طلاقا من غير لفظ يدل عليه لا يثبت به شيء فأما أحكام الشرع فتثبت بكل ما دل على رضا الشارع وإرادته من قرينة ودلالة وإن لم يكن لفظا يوضحه أن أحدا لو باع مال التاجر بمحضر منه بضعف ثمنه وظهر أثر الفرح عليه لم ينفذ البيع إلا بتلفظه بالإجازة ولو جرى بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعل فسكت دل سكوته على رضاه ويثبت الحكم به قوله وعمل أصحاب النبي في هذا الباب إشارة إلى متمسك آخر عول عليه أكثر الأصوليين وهو الإجماع فإنه قد ثبت بالتواتر أن الصحابة رضي اللّه عنهم عملوا بالقياس وشاع وذاع ذلك فيما بينهم من غير رد وإنكار مثل ما اشتهر من مناظرتهم في مسألة الجد والإخوة ومسألة العول والمشتركة وميراث ذوي الأرحام وغيرها بالرأي واحتجاجهم فيها بالقياس ومثل مشاورتهم في أمر الخلافة فإن كل واحد تكلم فيه برأيه إلى أن استقر الأمر على ما قاله عمر رضي اللّه عنه بطريق المقايسة والرأي حيث قال ألا ترضون لأمر دنياكم بمن رضي به رسول اللّه لأمر دينكم فاتفقوا على رأيه وأمر الخلافة من أهم ما يترتب عليه أحكام الشرع وقد اتفقوا على جواز العمل فيه بطريق القياس وكذلك عمر رضي اللّه عنه جعل أمر الخلافة شورى بين ستة نفر فاتفقوا بالرأي على أن يجعلوا الأمر في التعيين إلى عبد الرحمن بعدما أخرج نفسه منها فعرض على علي رضي اللّه عنه على أن يعمل برأي أبي بكر وعمر فقال أعمل بكتاب اللّه وسنة رسوله ثم أجتهد رأيي وعرض على عثمان رضي اللّه عنه هذا الشرط فرضي به فقلده وإنما كان ذلك منه عملا بالرأي لأنه علم أن الناس قد استحسنوا سيرة العمرين وشاوروا في حد شارب الخمر فقال علي رضي اللّه عنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحده حد المفترين قاس حد (٣/٤١٣) الشارب على حد القاذف فأخذوا برأيه واتفقوا عليه ولما ورث أبو بكر رضي اللّه عنه أم الأم دون أم الأب قال له عبد الرحمن بن سهل رجل من الأنصار وقد شهد بدرا لقد ورثت امرأة لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورثها فرجع أبو بكر إلى التشريك بينهما في السدس وروي عن أبي بكر رضي اللّه عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي وعن عمر رضي اللّه عنه أقضي في الجد برأيي ولما سمع في الجنين الحديث قال كدنا أن نقضي فيه برأينا وقضى عثمان بتوريث المبتوتة بالرأي وعن علي رضي اللّه عنه اجتمع رأيي ورأي عمر على حرمة بيع أمهات الأولاد وقد رأيت الآن أن أرقهن وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه في قصة بروع أقول فيها برأيي وكتب عمر إلى أبي موسى في رسالته المشهورة اعرف الأشباه والنظائر ثم قس الأمور برأيك وراجع الحق إذا علمته فإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل وأمثال هذه الآثار بحيث لا تحصى كثرة فلما ثبت عن هؤلاء العمل بالرأي ولم يظهر عن غيرهم إنكار عرفنا أنهم كانوا مجمعين على ذلك فيما لا نص فيه وكفى بإجماعهم حجة فإن قيل لا نسلم عدم الإنكار فإنه روي عن أبي بكر رضي اللّه عنه أنه قال لما سئل عن الكلالة أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب اللّه برأيي وعن عمر رضي اللّه عنه إياكم وأصحاب الرأي إلى آخر ما ذكرنا وعن عثمان وعلي رضي اللّه عنهما أنهما قالا لو كان الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره وعن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال إن اللّه تعالى قال لنبيه وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولم يقل بما رأيت ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسوله إلى غير ذلك من الآثار وقد مر بيان بعضها قلنا قد اشتهر من هؤلاء الذين نقل الإنكار عنهم القول بالرأي والقياس بحيث لا وجه لإنكاره فيحمل ما نقل عنهم من الإنكار إن ثبت على ما كان من ذلك صادرا عمن ليس له رتبة الاجتهاد وما كان مخالفا للنص أو للقواعد الشرعية أو لم يكن له أصل يشهد له بالاعتبار أو مستعملا فيما تعبدنا اللّه تعالى فيه بالعلم دون الظن جمعا بين النقلين بقدر الإمكان وذكر الغزالي رحمه اللّه في جواب هذا السؤال أنه قد ثبت بالقواطع من جميع الصحابة الاجتهاد والقول بالرأي والسكوت عن القائلين به وثبت ذلك بالتواتر في وقائع مشهورة كميراث الجد والإخوة وتعين الإمام بالبيعة وجمع المصحف وما لم يتواتر كذلك فقد صح من آحاد الوقائع روايات صحيحة ولم ينكرها أحد من الأمة فأورث ذلك علما ضروريا بقولهم بالرأي كما عرف سخاوة حاتم وشجاعة علي بمثل هذا (٣/٤١٤) الدليل وما نقلوه بخلافه فأكثرها مقاطيع مروية من غير ثبت وهي بأعيانها معارضة بروايات صحيحة عن صاحبها بنقيضها فكيف يترك المعلوم ضرورة بمثلها ولو تساوت في الصحة لوجب طرح جميعها والرجوع إلى ما تواتر من مشاورات الصحابة واجتهاداتهم ولو صحت هذه الروايات لوجب الجمع بينها وبين المشهور من اجتهاداتهم فيحمل ما أنكروه على الرأي المخالف للنص إلى آخر ما ذكرنا فإن قيل سلمنا عدم الإنكار لكن الإجماع السكوتي ليس بقاطع والمسألة قطعية فلا يصح التمسك بمثله فيها قلنا هو إجماع قاطع عند كثير من الأصوليين منهم شمس الأئمة وآثر المظفر السمعاني صاحب القواطع وغيرهما على أنا لا نسلم أنه إجماع سكوتي فإن جميع أهل الاجتهاد والفقه من الصحابة شرعوا في القياس والعمل بالرأي عند عدم النص فكان ذلك إجماعا فعليا منهم والذين سكتوا لم يكونوا من أهل الاجتهاد فلا يقدح سكوتهم في قطعية الإجماع قوله فإن طعن طاعن فيهم فقد ضل عن سواء السبيل حكى الجاحظ عن النظام أنه قال لم يخض من الصحابة في القياس إلا نفر يسير من قدمائهم كالخلفاء الأربعة وزيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ونفر يسير من أحداثهم كابن مسعود وابن عباس وابن الزبير لكن لما كان منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهؤلاء سلاطين ومعهم الرغبة والرهبة انقادت لهم العوام وجاز للنافين السكوت على التقية لأنهم قد علموا أن إنكارهم غير مقبول وقال ولو أن الصحابة لزموا العمل بما أمروا به ولم يتكلفوا ما كفوا عن القول فيه من أعمال الرأي والقياس لارتفع بينهم الخلاف والتهارج ولم يسفكوا الدماء لكن لما عدلوا عما كلفوا وتحبروا وتأمروا وتكلفوا القول بالرأي جعلوا للخلاف طريقا وتورطوا فيما بينهم من القتل والقتال وبمثله طعنت الرافضة فيهم أيضا فزعموا أن الصحابة تأمروا وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم العالم بجميع النصوص المحيطة بالأحكام إلى يوم القيامة فتورطوا فيما شجر بينهم من الخلاف فقال الشيخ رحمه اللّه من طعن فيهم فقد ضل على سواء السبيل لأن ثناء اللّه تعالى عليهم في آيات من القرآن ومدح رسوله إياهم في أخبار كثيرة يدلان على علو منصبهم وارتفاع قدرهم عند اللّه ورسوله فكيف يعتقد العاقل القدح فيهم بقول مبتدع مثل النظام وبقول الرافضة الذين هم أعداء الدين ونابذ الإسلام أي أظهر عداوته ومحاربته لأن الدين وصل إلينا من قبلهم فمتى طعن فيهم لم يثبت بنقلهم شيء فكان الطعن فيهم عائدا إلى الإسلام في التحقيق قوله ومن ادعى خصوصهم إلى آخره زعم من عجز من نفاة القياس عن إنكار استعمال الصحابة الرأي في الأحكام وتحرز عن الطعن فيهم فرارا من الشنعة أن الصحابة (٣/٤١٥) كانوا مخصوصين بجواز العمل بالرأي إما بمشاهدتهم الرسول وأحوال نزول الوحي ومعرفتهم بقرائن الأحوال أن المراد من الحكم المختص بصورة معينة رعاية الحكمة العامة وعدم ذلك في حق غيرهم أو بطريق الكرامة كما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مخصوصا بأن قوله موجب للعلم قطعا تكريما له والدليل عليه أنهم عملوا بالرأي فيما فيه نص بخلاف النص وذلك لم يجز لغيرهم كما روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج لصلح بين الأنصار فأذن بلال وأقام وتقدم أبو بكر رضي اللّه عنه فجاء رسول اللّه عليه السلام وهو في الصلاة فأشار إلى أبي بكر أن امكث مكانك فرفع أبو بكر رضي اللّه عنه يده وحمد اللّه تعالى ثم استأخر وتقدم رسول اللّه وقد كانت سنة الإمامة لرسول اللّه عليه السلام معلومة بالنص ثم تقدم أبو بكر بالرأي وقد أمره أن يثبت مكانه ثم استأخر بالرأي وكتب علي رضي اللّه عنه في صلح الحديبية هذا ما صالح رسول اللّه فقال سهيل بن عمر لو عرفناك رسولا ما حاربناك اكتب محمد بن عبد اللّه فأمر رسول اللّه عليه السلام عليا رضي اللّه عنه أن يمحو لفظ رسول اللّه فأبى حتى محاه الرسول عليه السلام بنفسه وما كان هذا الإباء عملا بالرأي في مقابلة النص واشتغل معاذ حين سبق بنقض الصلاة بمتابعة الإمام بالرأي وقد كان الحكم للمسبوق أن يبدأ بقضاء ما سبق به ثم يتابع الإمام وكان هذا عملا بالرأي في موضع النص وفي نظائرها كثرة وكذلك عملوا بالرأي فيما لا يعرف بالرأي من المقادير نحو حد الشرب كما قال علي رضي اللّه عنه ثبت بآرائنا فيثبت أنهم كانوا مخصوصين بالعمل بالرأي فقال الشيخ رحمه اللّه من ادعى خصوصهم أي تفردهم بجواز العمل بالرأي فقد ادعى أمرا لا دليل عليه لأن النص الموجب للاعتبار يعم الجميع ولا دليل على أن المراد منه الصحابة خاصة دون غيرهم فكان ادعاء كونهم مخصوصين بالعمل به دعوى بلا دليل قال شمس الأئمة رحمه اللّه ومن لا يرى إثبات شيء بالقياس مع أنه حجة كيف يرى إثبات أمر بمجرد الدعوى من غير دليل وأما دعوى الخصوص بناء على مشاهدة أحوال الوحي ومعرفة المراد بقرائن الأحوال ففاسدة لأنها تخالف الإجماع فإن أحدا لم يفرق بين الصحابة وغيرهم وكذا دعواهم ذلك بطريق الكرامة أن الكرامة إنما تثبت بطاعة اللّه ورسوله وتعظيم النص بترك الرأي في مقابلته لا بإظهار المخالفة لأمر اللّه ورسوله بالرأي وإنما عملوا بخلاف النص في بعض الحوادث لفهمهم بقرائن الأحوال أو غيرها أن ذلك ترخص وأن التمسك بالعزيمة أولى ففي حديث الإمامة على الصديق رضي اللّه عنه أن إشارة النبي عليه السلام بأن (٣/٤١٦) يثبت مكانه كانت على سبيل الترخص والإكرام له فحمد اللّه تعالى على ذلك ثم تأخر تمسكا بالعزيمة الثابتة بقوله جل جلاله لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله وإليه أشار بقوله ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول اللّه وكذلك التمسك بالعزيمة كان في التقدم للإمامة قبل حضور رسول اللّه عليه السلام مراعاة لحق اللّه تعالى في أداء الصلاة في الوقت المعهود والتأخر إلى الحضور كان رخصة وكذلك علم علي رضي اللّه عنه أن الأمر بالمحو لم يكن للإلزام فلم يقصد به إلا تتميم الصلح فرأى إظهار الصلابة في الدين بمحضر من المشركين عزيمة ثم الرغبة في الصلح مندوب إليه للإمام بشرط أن يكون منه منفعة للمسلمين وتمام هذه المنفعة في أن يظهر الإمام المسامحة والمساهلة فيما يطلبون ويظهر المسلمون القوة والشدة في ذلك ليعلم العدو أنهم لا يرغبون في الصلح لضعفهم فلهذا أبى علي رضي اللّه عنه عن ذلك وكذلك عرف معاذ رضي اللّه عنه أن في البداية بالفائت للمسبوق معنى الرخصة ليكون الأداء عليه أيسر وإن العزيمة متابعة رسول اللّه عليه السلام واغتنام ما أدركه معه فاشتغل بإحراز ذلك أولا تمسكا بالعزيمة لا مخالفة للنص وأما حد الشرب فثابت بالإجماع وإن كان مستنده الاستدلال بحد القذف والحكم الثابت بالإجماع لا يكون محالا به على الرأي كذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه اللّه قوله وأما المعقول فكذا استدل أولا بعموم قوله تعالى فاعتبروا على أن العمل بالقياس واجب وإنه داخل في عمومه فاعترض عليه أن النص إنما يتناول الاعتبار بأمر ثابت بالنص كالاعتبار بالمثلات دون الرأي فقال إن سلمنا أن النص ورد فيما ذكرتم فالقياس في معناه فيلحق به والحاصل أن الأول استدلال بعبارة النص وهذا استدلال بدلالته لأنه ثابت بمعناه اللغوي إلا أنه سماه دليلا معقولا لأن الوقوف عليه يحصل بالتأمل والتفكر لا بظاهر النص وصيغته وهذا التقدير إلى آخره هو الجواب الموعود عن السؤال المذكور وهو الكفر أي السبب المنقول عنهم الكفر ليكف عنها أي يمتنع عن تلك الأسباب للتحرز عن مثل ما أصاب من قبلنا من الجزاء يعني وجوب النظر والتأمل فيما أصابهم بتلك الأسباب ليس هو المقصود بعينه بل لنعتبر أحوالنا بأحوالهم فكيف عما أسبق جوابه ما لحقهم من العذاب فإن المقصود من الاعتبار الاتعاظ بالغير وإذا كان كذلك لم يكن فرق بين حكم هو هلاك في محل باعتبار معنى هو كفر وبين حكم هو تحليل أو تحريم في محل باعتبار معنى هو قدر وجنس فالتنصيص على الأمر بالاعتبار في أحد الموضعين يكون تنصيصا على الأمر به في الموضع الآخر دلالة واللام في ليكف متعلقة بالنظر (٣/٤١٧) والتأمل وكذلك التأمل أي كما أن التأمل في أحوال من قبلنا واجب لنعتبر أحوالنا بأحوالهم التأمل في حقائق اللغة أي في معاني الألفاظ لاستعارة غيرها أي غير ألفاظها الدالة عليها بالوضع لها أي لتلك الحقائق والمعاني سائغ أي جائز كالتأمل في معنى الشجاع وهو الإنسان الموصوف بالشجاعة لاستعارة غير لفظه وهو الأسد الدال على الهيكل المعلوم لذلك الإنسان باعتبار أن الشجاعة من الأوصاف المشهورة لذلك الهيكل سائغ بلا خلاف فكذا التأمل في الأصل والفرع لتعرف المعنى الذي هو مناط الحكم وتعدية حكم الأصل إلى الفرع يكون جائزا أيضا ولو قيل وكذلك التأمل في حقائق اللغة لاستعارتها لغير موضوعاتها سائغ لكان موافقا لما ذكر شمس الأئمة وغيره وهو أن التأمل في معنى الثابت بإشارة صاحب الشرع بمنزلة التأمل في معنى اللسان الثابت بوضع واضع اللغة ثم التأمل في ذلك للوقوف على طريق الاستعارة حتى نجعل ذلك اللفظ مستعارا في محل آخر بطريقه جائز مستقيم من عمل الراسخين في العلم فكذلك التأمل في معاني النص لإثبات حكم النص في كل موضع علم أنه مثل المنصوص عليه لأنا لا نعرف المؤثر إلا بالسماع من صاحب الشرع كما لا يعرف طريق الاستعارة إلا من العرب فكان البابان واحدا غير أن المصير إلى أحدهما بالسماع من صاحب الشرع وفي الآخر من العرب وقال القاضي الإمام أيضا إنا أحيينا بالقياس الحجج حتى عمت بالتعليل فأمكن العمل بها في غير ما تناوله النص لغة كما أحيا هو ونحن معه حقائق النصوص بالوقوف على طريق المجاز والاستعارات فأمكننا العمل بها في غير ما وضعها واضع اللغة في الأصل ولم يكن ذلك اقتراحا على اللسان ولا وضعا من عند نفسه فكذلك هذا والقياس نظيره أي نظير كل واحد من الاعتبار الواجب والتأمل في حقائق اللغة ودعانا إلى التأمل ثم الاعتبار لأن الاعتبار يتوقف على سابقة التأمل فكان الدعاء إلى الاعتبار دعاء إلى التأمل قوله وبيان ذلك أي بيان التأمل المؤدي إلى الاعتبار في الأصل أي في النص الموجب للاعتبار يتحقق في قوله تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل (٣/٤١٨) الكتاب يعني يهود بني النضير من ديارهم من مساكنهم بالمدينة وذلك أنهم صالحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قدم المدينة على أن لا يكونوا عليه ولا له فنقضوا العهد بعد وقعة أحد فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأمر محمد بن مسلمة الأنصاري بقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة وكان أخاه من الرضاعة ثم خرج النبي عليه السلام بالكتائب وأمرهم بالخروج من المدينة فاستمهلوا عشرة أيام فدس المنافقون إليهم لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم وإن خرجتم لنجرجن معكم فلما آيسوا من نصرهم طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاث أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم فلحقوا بالشام بأذرعات وأريحا إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة واللام في لأول الحشر متعلقة بأخرج وهي مثل اللام في قدمت لحياتي وفي جئته لوقت كذا والمعنى أخرج الذين كفروا عند أول الحشر معنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام أو هذا أول حشرهم والحشر الثاني إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام وإليه أشير في الكتاب وقيل الحشر الثاني حشر يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام ما ظننتم أن يخرجوا لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم وظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس اللّه فأتاهم أمر اللّه أو عذابه من حيث لم يحتسبوا لم يظنوا ولم يخطر ببالهم من جهة المؤمنين وما كانوا يحسبون أنهم يغلبونهم ويظهرون عليهم وقذف في قلوبهم الرعب بقتل رئيسهم غرة على يد أخيه والرعب الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه وقذفه إثباته وركزه يخربون بيوتهم التخريب الإخراب والإفساد بالنقض والهدم وقيل التخريب الهدم والإخراب تركه لا ساكن فيه والانتقال عنه كانوا يخربون بواطنها والمسلمون ظواهرها لما أراد اللّه تعالى من استئصال شأفتهم وأن لا يبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديار والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا أفواه الأزقة وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من الخشب والساج المليح وأما المؤمنون فداعيهم إزالة متحصنهم ومتمنعهم وأن يتسع لهم مجال الحرب (٣/٤١٩) ومعنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين أنهم لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياهم فاعتبروا فاتعظوا يا أولي الأبصار يا ذوي العقول ولا تفعلوا فعل بني النضير فينزل بكم ما نزل بهم هذا تفسير الآية وبين الشيخ طريق المتأمل فيها للاعتبار فقال فالإخراج من الديار عقوبة بمنزلة القتل لأنه عديل القتل في قوله تعالى اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ولكونه مثل القتل أو أشد منه اختار بنو إسرائيل القتل على الجلاء والكفر يصلح داعيا إليه أي إلى الإخراج الذي هو بمنزلة القتل لأنه يصلح داعيا إلى القتل فيصلح داعيا إلى الإخراج أيضا وأول الحشر دلالة على تكرار هذه العقوبة لأن الأول يدل على ثان بعده وهو إجلاء عمر كما بينا وإصابة النصرة جزاء التوكل وقطع الحيل لأنهم لما لم يظنوا خروجهم رأوا أنفسهم عاجزين عن إخراجهم وحيلهم منقطعة عنه فتوكلوا على اللّه فجوزوا بالنصرة والنجاح وإن المقت أي السخط والبغض يقال مقته أي أبغضه والخذلان أي ترك العون والنصرة جزاء النظر إلى القوة والاغترار بالشوكة أي شدة البأس وحدة السلاح فإنهم لما نظروا إلى قوتهم وظنوا أن حصونهم مانعتهم من اللّه جوزوا بذلك ثم دعانا بقوله عز اسمه فاعتبروا إلى الاعتبار بالتأمل في معاني النص للعمل به أي لنعمل بما وضح لنا من المعنى فيما لا نص فيه فنقيس أحوالنا بأحوالهم فنحترز عن مثل ما فعلوا توقيا عن مثل ما نزل بهم فكذلك في مسألتنا هذه أي كما وجب لنا التأمل في معنى هذا النص للعمل به فيما لا نص فيه يجب التأمل في سائر النصوص لاستخراج المعاني التي تتعلق بها الأحكام بإشارة صاحب الشرع ليعمل بها فيما لا نص فيه قوله وبيان ذلك أي بيان التأمل لاستخراج المعنى الذي هو مناط الحكم بإشارة الشارع يتحقق في مسألة الربا وذلك أي ذلك البيان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الحنطة بالحنطة الحديث روي هذا الحديث بالرفع والنصب وعلى التقديرين لا بد من إضمار بدلالة كلمة الباء فإنها يقتضي فعلا يلتصق بواسطتها بما دخلت فيه وقد ذكرت في المعاوضات فيضمر فعل يناسبها فكان معنى رواية الرفع بيع الحنطة بالحنطة مثل بمثل بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ومعنى رواية النصب وهي مختارة الشيخ هاهنا بيعوا (٣/٤٢٠) الحنطة بالحنطة مثلا بمثل مثل قولك بسم اللّه فإنه لما اقتضى فعلا أضمر فيه الفعل الذي جعلت التسمية مبدأ له ودل عليه أي على أن المضمر ما ذكرنا هذان الحديثان والحنطة اسم علم لمكيل أي اسم موضوع غير معنوي لنوع من الطعام الذي يصح أن يكال ولم يرد تحقق الكيل فيه فإنه لو لم يكل أصلا لا يخرج عن كونه مكيلا وقد قوبل هذا المسمى بجنسه بقوله الحنطة بالحنطة وقوله مثلا بمثل حال لما سبق وهو الحنطة ويكون حالا عن المفعول والأحوال شروط لأنها صفات والصفات مقيدة كالشروط ألا ترى أنه لو قال أنت طالق راكبة كان بمنزلة قوله إن ركبت فأنت طالق والأمر للإيجاب يكون نظرا إلى الأصل ولم يعمل في نفس البيع لأنه ليس بواجب بالإجماع فينصرف إلى الحال التي هي شرط الجواز وصار كأنه قيل إذا أقدمتم على بيع الحنطة بالحنطة فبيعوا في حالة المساواة دون غيرها ولهذا اختار الشيخ رواية النصب المقتضية لإضمار الأمر لأنه أظهر في إيجاب شرط المماثلة وهذا لأن الشيء قد يصير مشروطا بشرائط يفترض مراعاتها عند الإقدام عليه وإن لم يكن في ذاته فرضا كالنكاح لما شرع بشرط الشهود يفترض إحضار الشهود لانعقاده وإن لم يكن بنفسه واجبا وكصلاة التطوع يفترض مراعاة شروطها من تقديم الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة عند الإقدام عليها وإن لم تكن في نفسها واجبة والمراد بالمثل المذكور في هذا الحديث المماثلة في القدر أي الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات دون غيره فإن محمدا رحمه اللّه ذكر هذا الحديث في أول كتاب الصرف وذكر مكان قوله مثلا بمثل كيلا بكيل ووزنا بوزن فتبين بذلك أن المراد به المماثلة قدرا لا وصفا وكلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفسر بعضه بعضا فثبت بصيغة الكلام أي ثبت هذا المجموع وهو إضمار البيع وإيجاب المماثلة وكون المماثلة في القدر مرادا منه المثل بإشارة صيغة الكلام والتأمل في معناها والفضل اسم لكل زيادة أي زيادة ترجع إلى أحد البدلين سواء كانت باعتبار القدر بأن كانت من جنس البدلين كزيادة قفيز من أحد الجانبين أو من غير جنسها كزيادة درهم أو باعتبار الحال بأن كان أحدهما نقدا والآخر نسيئة وقوله ربا اسم لزيادة وهي حرام بالنص وهو قوله تعالى وحرم الربا لا لكل زيادة فإن الربح في التجارة والنماء في الزراعة زيادة ولكنها لا تسمى ربا لأنها ليست بحرام وهو أي الفضل الذي هو ربا فضل مال لا يقابله عوض في (٣/٤٢١) مقابلة مال بمال لأن العقد لما كان معاوضة لا يجوز أن يستحق فضل خال عن العوض لأن ذلك خلاف مقتضى العقد فيكون أخذه ظلما واشتراطه مفسدا للعقد فيكون كما لو باع عبدا بجارية وشرط أن يسلم إليه مع العبد ثوبا أو يعمل المشتري للبائع عملا فإنه يفسد العقد لخلو هذه الزيادة عن العوض في عقد المعاوضة ألا ترى أن التملك لو كان بلفظ الهبة بأن يقول ملكتك هذا العرض بهبة بلا مال يحل وإن كان بغير عوض لأن عقد الهبة لما كان عقد تبرع جاز أن يستحق به ما لا يقابله عوض ولا يكون ذلك على خلاف مقتضاه فعرفنا أن الحرمة باعتبار الخلو عن العوض في عقد المعاوضة فإن قيل ينبغي أن يكون الربح حراما لأنه فضل خال عن العوض لأن ما يقابله العوض لا يكون ربحا وليس الربح بحرام بالإجماع فإن الأسواق ما وضعت إلا للاسترباح ألا ترى أن بيع عبد بعبدين وثوب بعشرة أثواب جائز والفضل فيه متحقق بدليل أنه يعتبر تبرعا في عقد المريض وبيع الأب والوصي قلنا لا نسلم أنه فضل خال عن العوض إذ لو كان كذلك لكان اشتراطه مفسدا للعقد لكونه مغيرا لمقتضاه لكن الربح زيادة تظهر عند البيع لا عند الشراء فإن من اشترى ما يساوي درهما بعشرة جعل ذلك في حقه متقوما بعشرة لرغبته في شرائه بعشرة ولها أثر في إثبات زيادة المالية والتقوم فإن تغير الأسعار برغائب الناس ولعل له فيه منفعة ومصلحة تساوى بعشرة فكان في حقه متقوما بعشرة وربح الآخر عليه تسعة أعشار لأن في السوق قيمتها عشرة وكذا لو باع ما يساوي عشرة بدرهم يجعل قيمته درهما في حق المتعاقدين لتراجع رغبتهما فيه فلم يخل فضل عن العوض ولكن لما وجده المشتري عند أهل السوق يساوى بعشرة ظهر الربح عند البيع فأما فيما نحن فيه فقد سقط اعتبار الجودة ورجعت المالية إلى الذات فلا يثبت برغبة المشتري مالية فيظهر الفضل الخالي عن العوض وكذا في تصرف المريض والأب والوصي لأن إثبات زيادة المالية برغبة المشتري إنما تصح إذا كان ذلك تصرفا في خالص ملكه وتصرف الأب والوصي في مال الصغير واليتيم وتصرف المريض في مال تعلق به حق الغير لا في خالص ملكهم فلا يلتفت إلى رغبتهم لتأديتها إلى إبطال حق الغير فيظهر الفضل في تصرفاتهم أيضا والمراد بالفضل الفضل على القدر أي القدر الشرعي وهو الكيل لا مطلق الفضل لأن فضل أحد الشيئين (٣/٤٢٢) على الآخر يستلزم مساواة بينهما بوجه على تقدير عدم الفضل ليمكن تحقيق فضل أحدهما على الآخر إذ لا يقال لفلان فضل على فلان في العلم إلا إذا كان بينهما نوع مساواة في شيء من العلم وامتاز أحدهما بزيادة فيه وهاهنا ذكرت المماثلة ثم ذكر الفضل بعدها والمراد من المماثلة المماثلة في القدر بالنص وهو ما روينا من قوله عليه السلام كيلا بكيل وبالإجماع فكذلك الفضل على هذه المماثلة يكون فضلا على الكيل مبنيا عليه في الذكر كما لو قيل زيد فقيه وعمرو فقيه إلا أن زيدا أفضل منه ينصرف قوله أفضل إلى صفة الفقه المذكورة لا إلى صفة لم تذكر يوضحه أن البدلين لو تماثلا من سائر الوجوه والفضل على الكيل موجود حرم ولو كان على عكسه لم يحرم فعرفنا أن المراد به الفضل على الكيل وذكر في بعض الشروح أن المراد من قوله فكذلك الفضل عليها لا محالة اشتراط الكيل في الفضل يعني كما أن المراد بالمماثلة هو المماثلة في الكيل لا مطلق المماثلة فكذلك الفضل على ملك المماثلة لا يكون حراما ما لم يكن مكيلا لأن السابق مثل بمثل والمراد منه القدر أي الكيل والفضل معهود فوجب أن يكون من جنس السابق فيلزم أن يكون الفضل قدرا أي كيلا وهذا غير سديد فإن هذا التركيب لا ينبئ عنه وهو مخالف للروايات فإنه قد نص في غير واحد من كتب الفقه أن أدنى ما يجري فيه الربا من الأشياء المكيلة نصف صاع وذلك مدان حتى لو باع مدين من الحنطة بثلاثة أمناء منها لا يجوز ومعلوم أن المن الواحد مما لا يدخل تحت الكيل وكذا لو باع قفيزا من الحنطة بقفيز منها ودرهم لا يجوز بالإجماع فعرفنا أن الزيادة حرام وإن لم يبلغ الكيل قوله فصار حكم النص وجوب التسوية بينهما في القدر يعني ثبت بالتقرير الذي ذكرنا أن الحكم الأصلي في هذا النص وجوب التسوية بين البدلين المتجانسين في القدر شرطا لجواز العقد ثم الحرمة أي ثبوت الحرمة بناء على فوات حكم الأمر وهو التسوية الواجبة بقوله عليه السلام الحنطة بالحنطة مثلا بمثل أي بيعوا الحنطة وإذا كان كذلك كان محل الحكم ما يقبل المماثلة كيلا فلم يكن ما لا يجري فيه الكيل محلا للحكم ولا يتحقق فيه الفضل الحرام لعدم تصور ما تبتنى الحرمة عليه وهو فوات التسوية مع إمكان رعايتها فيجوز بيع الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين عند البيع بجنسها أي عند بيع الحنطة بجنسها أو بيع هذه الأموال المذكورة في النص بجنسها وإذا تأملنا (٣/٤٢٣) وجدنا الداعي إلى هذا الحكم وهو وجوب التسوية القدر والجنس قال الإمام البرغري في طريقته ولما ثبت أن حكم النص وجوب التسوية بينهما في الكيل احترازا عن الفضل الحرام وهو الفضل على الكيل عللنا فقلنا إنما وجبت هذه التسوية لأن هذه الأموال أمثال متساوية المالية وكونها أمثالا متساوية المالية مؤثر في إيجاب التسوية دفعا للظلم فإن البدلين لما تساويا كان الزائد فضلا خاليا عن العوض في البيع فيكون أخذه ظلما وإنما صارت أمثالا متساوية بالكيل والجنس لأن الكيل يسوي بينهما في الذات والجنس في المعنى والموجود ليس إلا الصورة والمعنى فإذا استويا صورة ومعنى استويا قطعا فصار وجوب التسوية مضافا إلى كونها أمثالا متساوية وكونها أمثالا ثابت بالكيل والجنس فيضاف وجوب التسوية إلى الكيل والجنس بهذه الواسطة لأن الحكم يضاف إلى علة العلة على ما عرف في مسألة شراء القريب وصارت حرمة الفضل مضافة إلى الكيل والجنس لأن إيجاب الفعل يقتضي نهيا عن ضده فإيجاب التسوية كيلا بكيل يكون تحريما للفضل على الكيل فالكيل ونعني به كون المحل قابلا للكيل جعل علما على الحل في المتماثلين وعلما على ثبوت الحرمة في المتفاضلين كالنكاح جعل علما للحل في حق الزوج وللحرمة في حق غيره بمنزلة الطول والعرض يعني فيما له طول وعرض فإن ذراعا من الثوب يماثل ذراعا من اللبد صورة كما أن ذراعا من الثوب يماثل ذراعا آخر من الثوب صورة ومعنى قوله وسقطت قيمة الجودة جواب عما يقال لا نسلم أن المماثلة تثبت حقيقة بما ذكرتم فإنه قد يبقى تفاوت بين البدلين في الوصف بعد استوائهما قدرا وجنسا فإن المالية التي هي المقصودة من هذه الأشياء تزداد بالجودة وتنتقص بالرداءة وإذا لم تثبت المماثلة لا يظهر الفضل كما في العبيد والثياب فقال هذا إنما يلزم لو بقيت للجودة قيمة في هذه الأموال عند المقابلة بجنسها ولكنها سقطت بالنص وهو قوله عليه السلام الذهب بالذهب تبره وعينه سواء والفضة بالفضة تبرها وعينها سواء والعين اسم للمضروب وهو أجود من التبر وقد جعلهما سواء وفي بعض الروايات جيدها ورديئها سواء (٣/٤٢٤) فيكون نصا على سقوط قيمة الجودة وبالإجماع أي بدلالته فإنهم أجمعوا على أنه لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز من حنطة رديئة وزيادة فلس لا يجوز لوجود الفضل الخالي عن العوض وهذا يدل على سقوط قيمة الجودة إذ لو بقيت الجودة متقومة لأمكن جعل الفلس في مقابلة الجودة تصحيحا للعقد إذ الاعتياض عن الجودة صحيح إذا كانت مع الأصل كما إذا اختلف الجنس وكما إذا لم يكن البدل أو أحدهما من أموال الربا ولما عرف وهو الوجه المعقول أن ما لا ينتفع به إلا بهلاكه فمنفعته في ذاته لا في أوصافه لعدم إمكان الانتفاع بأوصافه مع بقاء ذاته والتقويم للأشياء إنما يثبت باعتبار منافعها فإذا لم تكن في الأوصاف نفسها منفعة لم يكن لها قيمة فهدر وتبقى العبرة للعين بخلاف ما ينتفع به بدون استهلاكه كالثياب ونحوها لأن الانتفاع بها يتحقق مع بقاء أعيانها فتكون أوصافها معتبرة ولا يلزم عليه ما إذا باع الأب أو الوصي الجيد من مال الصغير بمثله رديئا فإنه لا يصح وما إذا باع المريض مرض الموت كرا من حنطة جيدة بكر من حنطة رديئة فإنه يجعل تبرعا حتى يعتبر من الثلث ولو كانت الجودة ساقطة عند المقابلة بالجنس لجاز البيع في الصورة الأولى ولم يجعل تبرعا في الثانية كما لو باعوا فلوسا جيدة رائجة بفلوس رديئة رائجة لأنا نقول إن الجودة متقومة مع الأصل وإنما تسقط قيمتها إذا انفردت عن الأصل عند المقابلة بالجنس وقد حجر هؤلاء عن المقابلة بالجنس لأنهم أمروا بالتصرف على الوجه الأنظر والمقابلة بالجنس طريق لإسقاط قيمة الجودة وليس فيه نظر فأما العاقل البالغ فمطلق التصرف في مال نفسه فصح منه التصرف النافع والضار جميعا ولهذا نقول إذا استهلك على رجل حنطة جيدة يضمن مثلها جيدة لأن الجودة إنما تسقط إذا قوبل الجيد بالرديء وله أن لا يرضى بمقابلته بالرديء حتى لو رضي بذلك سقط حقه أيضا قوله ولما صارت أي الأموال المذكورة أمثالا بالقدر والجنس وسقط اعتبار قيمة الجودة شرطا أي لصيرورتها أمثالا يعني لتحقق التسوية فإن الشرع لما أوجب التسوية كيلا بكيل احترازا عن الفضل الحرام ولن يحصل التسوية من كل وجه إلا بسقوط قيمة الجودة سقط اعتبارها بطريق الشرط لتحقق التسوية لا علة يعني لم يجعل سقوط قيمة الجودة من أوصاف العلة كالقدر والجنس لأن سقوط قيمة الجودة عبارة عن عدم اعتبارها والعدم لا يصلح علة لأمر وجودي إذ الوجود لا يصلح أثرا للعدم ونتيجة له فلا يصلح التماثل الذي هو وجودي أثرا لعدم تقوم الجودة فيجعل سقوط التقوم شرطا لا علة (٣/٤٢٥) صارت المماثلة جواب لما ثابتة بهذين الوصفين أي القدر والجنس بالكيل والجنس بواسطة المماثلة الباء الأولى متعلقة بالمتماثلين والثانية بصار أي صار سائر الأعيان فضلا بواسطة ثبوت المماثلة بين البدلين بالكيل والجنس فصار شرط شيء منها أي من الأعيان في البيع أي في بيع المتجانسين بمنزلة شرط الخمر باعتبار أن كل واحد حرام خال عن العوض أو باعتبار أن كل واحد مفوت للمماثلة الواجبة بالأمر فإن قيل يبطل ما ذكرتم بما إذا باع جوزة بجوزتين أو بيضة ببيضتين حيث يجوز وإن جعلت هذه الأموال أمثالا متساوية المالية قطعا بالعدد والجنس كالمكيلات بالكيل والجنس والموزونات بالوزن والجنس بدليل أنها تضمن بالمثل في ضمان العدوان ويجوز السلم فيها عددا مع التفاوت قلنا لا نسلم أن العدد يجعلها أمثالا متساوية المال قطعا بخلاف الكيل لأنه يوجب المساواة قدرا على وجه لا يبقى فيه تفاوت فيظهر الفضل ضرورة حتى لو أوجب العدد التسوية قطعا اعتبر علة موجبة للتسوية أيضا كما في الفلوس الرائجة فإنها لما صارت أمثالا متساوية قطعا على وجه لا يجري فيها المماكسة لم يجز بيع فلس بفلسين وإنما جعلت أمثالا في ضمان العدوان مع قيام التفاوت بطريق الضرورة لأن الإتلاف قد تحقق والخروج عن العدوان واجب والتفاوت في القيمة أكثر فلو لم نتحمل هذا التفاوت لوقعنا في تفاوت أعظم منه وهو تفاوت القيمة والسلم عقد مشروع بطريق الرخصة فسوهل فيه ألا ترى أن السلم يصح في الثياب وإن لم يكن من ذوات الأمثال ولا محلا للربا كذا في الطريقة البرغرية فهذا أي كون الداعي إلى الحكم هو القدر والجنس معنى معقول أي مفهوم من هذا النص فإن قوله عليه السلام الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير يشير إلى الجنسية وقوله مثلا بمثل يشير إلى القدر ليس بثابت بالرأي يعني ابتداء بل هو مستنبط من النص فلم يبق من بعد أي من بعد ما تبين أن حكم النص وجوب التسوية والمعنى الداعي إليه القدر والجنس إلا الاعتبار وهو أي الاعتبار أي طريقه كذا مثل حكم النص بلا تفاوت أي مثل حكم النص في الأشياء المنصوص عليها من الحنطة والشعير وغيرهما فلزمنا إثباته أي إثبات الفضل الخالي عن العوض (٣/٤٢٦) وهو كما ذكرنا أي هذا الاعتبار مثل الاعتبار الذي ذكرنا من الأمثلة أي في الأمثلة أو هذا المثال الذي في صحة الاعتبار مثل الأمثلة المذكورة وهي المثلات والاستعارات ليس بين تلك الأمثلة وبين هذه الجملة التي ذكرناها فرق فإن التأمل في إشارات نصوص المثلاث لتعرف المعاني الداعية إلى وقوعها لأجل الاعتبار والتأمل في حقائق اللغة لاستعارتها لغيرها مثل التأمل في إشارات حديث الربا وأمثاله لتعرف المعاني الداعية إلى الحكم لأجل الاعتبار من غير تفاوت قوله وحصل بما قلنا لما فرغ من إقامة الدليل على صحة القياس أشار إلى الجواب عن كلمات الخصوم فقال حصل بما قلنا من جواز القياس اعتقاد حقية ثبوت الأحكام المنصوصة بظواهر النصوص أي بنفسها ونظمها وطمأنينة القلب وشرح الصدر بإثبات معانيها فإن القلب يطمئن بالوقوف على المعنى الذي هو متعلق الحكم وإن حصل له اليقين قبله ألا ترى أن إبراهيم صلوات اللّه عليه طلب اطمئنان القلب بقوله رب أرني كيف تحيي الموتى بعدما قد حصل اليقين له حتى قال بلى ولكن ليطمئن قلبي وطمأنينة القلب عبارة عن ثباته على ما اعتقده من الحق وسكونه إليه وشرح الصدر عبارة عن توسيعه وتفسيحه لقبول الحق والشرح يضاف إلى الصدر لأنه فناء القلب والتوسع يضاف إلى الفناء يقال فلان رحب الفناء قال شمس الأئمة رحمه اللّه إن اللّه تعالى جعل هذه الشريعة نورا وشرحا للصدر فقال أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه وقال فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام والقلب يرى الغائب بالتأمل فيه كالعين ترى الحاضر بالنظر ثم لا إشكال أن برؤية العين يحصل من الطمأنينة فوق ما يحصل بالخبر إذ ليس الخبر كالمعاينة ونعلم أن من ضل الطريق إذا أخبره مخبر بالطريق واعتقد الصدق في خبره يحصل له بعض الانشراح وإنما يتم انشراحه إذا عاين أعلام الطريق فكذلك في رؤية القلب فإنه إذا تأمل في معنى النصوص حتى وقعت عليه يتم به انشراح الصدر ويحصل طمأنينة القلب وذلك بالنور الذي جعله اللّه في قلب كل مسلم فالمنع من هذا التأمل والأمر بالوقوف على مواضع النص من غير طلب المعنى يكون نوع حجر ورفعا لتحقيق معنى انشراح الصدر وطمأنينة القلب الثابت بقوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإن قيل كيف يستقيم هذا والقياس لا يوجب العلم (٣/٤٢٧) والمجتهد يخطئ ويصيب عندكم قلنا نعم ولكن يحصل له بالاجتهاد العلم من طريق الظاهر على وجه يطمئن قلبه وإن كان لا يدرك ما هو الحق باجتهاده وهو نظير قوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات بأن العلم يثبت به من حيث الظاهر ويثبت به أي بإثبات المعاني تعميم أحكام النصوص فإن حكم النص يكون مقتصرا قبل التعليل على المحل المنصوص عليه وبعد استخراج الوصف المؤثر يثبت فيه وفي غيره مما لم ينص عليه كحكم نص الربا كان مقتصرا على الأشياء الستة وبعد التعليل عم سائر المكيلات والموزونات وفي ذلك أي وفي تعميم أحكامها تعظيم حدودها لأن فيه عملا بظواهر النصوص فيما نص عليه وبمعانيها فيما لم ينص عليه من الفروع فكان أولى مما ذهب إليه الخصم من تخصيص إعمال النصوص فيما نص عليه وإهمالها فيما لم ينص عليه ولزمنا بهذا الأصل أي بسبب استعمال القياس محافظة النصوص بظواهرها ومعانيها أي معانيها اللغوية ومحافظة ما تضمنته أي النصوص من المعاني التي تعلقت بها أحكام النصوص وهي المعاني الشرعية لأنه ما لم يقف على النصوص ومعانيها اللغوية لا يعرف أن هذه الحادثة لا نص فيها وما لم يقف على معانيها الشرعية لا يمكنه رد الحادثة إلى ما يناسبها من النصوص جمعا أي لأجل حصول الجمع بين الأصول والفروع جميعا وهو الحق أي حفظ النصوص بظواهرها ومعانيها اللغوية والشرعية هو الحق فكان ما يفضي إليه وهو القياس حقا وليس بعد الحق إلا الضلال فكان ما قال الخصم أن في المنع عن القياس محافظة النصوص بمعانيها زعما باطلا ووهما خطأ وما للخصم وهم نفاة القياس إلا التمسك بالجهل فإنهم يتمسكون فيما لا نص فيه باستصحاب الحال ومآله إلى الجهل فإن مداره على أن لا دليل على الحكم وهو الجهل بالدليل المثبت فلا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة المحضة بمنزلة تناول الميتة ثم أجاب عن قولهم لا يجوز التمسك بالقياس لمعنى في الدليل فقال تعلق الحكم بمعنى من معاني النصوص وإن صار بهذا الطريق ثابتا بدليل فيه ضرب شبهة لأن في كل معنى عينه القائس لتعليق الحكم به احتمال أن لا يكون متعلق الحكم لكن وضع الأسباب أي شرعها لأجل العمل دون العلم على هذا الوجه وهو أن يكون فيها ضرب شبهة جائز كالنصوص المحتملة بصيغها مثل الآية المؤولة والعام الذي خص منه البعض من الكتاب وخبر الواحد من السنة وصار الكتاب تبيانا لكل شيء من هذا الوجه وهو اعتبار المعنى إذ لا يمكن أن (٣/٤٢٨) يقال كل شيء في القرآن باسمه الموضوع له لغة فكان بيانا بمعناه ثم ذلك المعنى جلي يوقف عليه باعتبار الظاهر كحرمة الشتم والضرب بمعنى الأذى الموجود في التأفيف وخفي لا يوقف عليه إلا بزيادة تأمل كتعلق انتقاض الطهارة بوصفي النجاسة والخروج في الخارج من السبيلين فإذا كان إثبات الحكم بالمعنى الظاهر إثباتا له بالكتاب كان إثباته بالمعنى الخفي كذلك أيضا فيكون الكتاب تبيانا لكل شيء بظاهره ومعناه وهذا هو الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله عز اسمه ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين على أن المراد من الكتاب المبين اللوح المحفوظ في عامة الأقاويل لا القرآن وكان أولى أي كان العمل بالقياس عند عدم النص أولى من العمل بالحال لما قلنا وثبت أن طاعة اللّه تعالى لا تتوقف على علم اليقين لأنه لما جاز العمل بالآية المؤولة وخبر الواحد وباستصحاب الحال إذا عدم النص عندهم أو تعذر العمل بالقياس عندنا علم أنها لا تتوقف على علم اليقين وقولهم لا يطاع اللّه تعالى بالعقول والآراء مسلم فيما إذا كان ذلك بطريق الابتداء لا فيما إذا تعلق طاعة بمعنى من المعاني ثم وجد ذلك المعنى في محل آخر فإنه هو المتنازع فيه وأما الجواب عن حديث واثلة وهو حديث أولاد السبايا فهو أن المراد منه القياس المهجور لأنهم كانوا يقيسون في نصب الشرائع وإليه وقعت الإشارة في قوله فقاسوا ما لم يكن بما قد كان لا القياس الذي نحن بصدده فإنه في التحقيق إظهار ما قد كان ورد مشروع إلى نظائره وكذا المراد من الرأي والقياس المذكور في سائر ما رووا من الأخبار الرأي المقترح المذموم الذي هو مدرجة إلى الضلال أو الرأي الذي يكون المقصود منه رد المنصوص نحو ما فعله إبليس لعنه اللّه لا الرأي الذي قصد به إظهار الحق فإنه تعالى أمر به في إظهار قيمة الصيد بقوله جل جلاله يحكم به ذوا عدل منكم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علم أصحابه والصحابة عن آخرهم أجمعوا على استعماله من غير نكير من أحدهم على من استعمله كما بينا فكيف يظن الاتفاق على ما ذمه رسول اللّه عليه السلام أو جعله مدرجة إلى الضلال هذا شيء لا يظنه إلا ضال كذا قال شمس الأئمة رحمه اللّه وما قال النظام إن القياس على خلاف موضوع الشرع غير مسلم لما ذكرنا من الدلائل قوله لأن الشرع ورد بالفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات قلنا أما الفرق فلافتراقها في (٣/٤٢٩) المعاني التي تعلقت الأحكام بها وانتفاء صلاحية ما توهمه الخصم جامعا أو لوجود معارض في الأصل أو الفرع وأما الجمع بين المختلفات فلاشتراكها في معنى جامع أو لاختصاص كل من المختلفات بعلة صالحة لحكم خلافه إذ لا مانع عند اختلاف الصور وإن اتحد نوع الحكم أن يعلل بعلل مختلفة فإن قال الخصم إن غرضي مما ذكرته بيان أن الشرع شهد بإبطال أماراتكم فإنه لو حرم النظر إلى شعر الحرة ولم يذكر الأمة لعلمتم إنما حرم ذلك لخوف الفتنة وهو قائم في شعر الأمة الحسناء فيحرم النظر إليه ولكان ذلك من أقوى ما تذكرونه من أماراتكم في القياس فإذا شهد الشرع ببطلانه فقد صح قولي إن وضعه يمنع من القياس فنجيبه بأن نفي الشرع حكم أمارة في بعض الصور لا يمنع من كونها أمارة في بعض الصور فإن الغيم الرطب أمارة في الشتاء على المطر ولا ينقض كونه أمارة وجود غيم أرطب في صميم الشتاء من غير مطر فكذلك أماراتنا لا تخرج من كونها أمارات بوجود أمثالها متخلفة عنها أحكامها إذ الأكثر يوجد بدون التخلف واللّه أعلم (٣/٤٣٠) فصل في تعليل الأصوللما بين في أول الباب أن الأصول وهي النصوص شهود اللّه تعالى في حقوقه وأحكامه وشهادتها معانيها الجامعة بين الفروع والأصول بين في هذا الفصل اختلاف الناس في ذلك فقال واختلفوا يعني القائلين بالقياس في هذه الأصول وهي النصوص المتضمنة للأحكام من الكتاب والسنة أو الأصول الثلاثة وهي الكتاب والسنة والإجماع والأول أظهر فقال بعضهم أي بعض القايسين هي غير شاهدة أي غير معلولة في الأصل إلا بدليل أي إذا قام دليل في البعض على كونه معلولا فحينئذ يجوز تعليله ويصح اللازم به على الخصم واسترذل بعض أهل اللغة إطلاق لفظ المعلول على النص في عباراتهم فقالوا العلة التي هي المصدر لازم والنعت منه عليل فالصواب أن يقال هذا النص معلل بكذا وأجيب عنه بأنه قد جاء عل فهو معلول أي ذو علة نص عليه في المغرب والصحاح والعلة في اصطلاح الفقهاء عبارة عن المعنى الذي تعلق به حكم النص على ما عرف تفسيرها في أول التقويم مأخوذة من العلة بمعنى المرض فيجوز أن يقال هذا النص معلول أي ذو علة بهذا المعنى كما يقال للمريض معلول أي ذو علة بمعنى المرض وقال بعضهم هي معلولة بكل وصف يمكن التعليل به ويصلح لإضافة الحكم إليه إلا أن يمنع مانع أي يقوم دليل من نص أو إجماع في البعض يمنع من التعليل ببعض الأوصاف فحينئذ يمنع التعليل بالجميع ويقتصر على ما عدم فيه المانع وقال بعضهم وهم عامة مثبتي القياس هي معلولة أي الأصل فيها التعليل ولكن بوصف قام الدليل على تميزه من بين سائر الأوصاف في كونه متعلق الحكم لا بكل وصف يعني لا حاجة في تعليل كل نص إلى إقامة الدليل على أن هذا النص معلول بل يكتفى فيه بأن الأصل في النصوص التعليل لكن يحتاج فيه إقامة الدليل على أن هذا الوصف من بين (٣/٤٣١) سائر الأوصاف هو الذي تعلق الحكم به وهذا أي هذا القول أشبه بمذهب الشافعي رحمه اللّه لأنه لما جوز التعليل بعلة قاصرة وليس فيه إلزام على الغير جاز الاكتفاء بهذا القدر وهو أن الأصل في النصوص كونها معلولة ولأنه لما جعل الاستصحاب حجة ملزمة على الغير مع أنه تمسك بالأصل لم يحتج إلى إقامة الدليل في كل نص أنه شاهد للحال بل التعليل يكون ملزما عنده نظرا إلى أن الأصل في النصوص التعليل وإنما قال وهذا أشبه لأن هذا المذهب لم ينقل عن الشافعي نصا بل استدل بمسائله عليه وأسند صاحب الميزان هذا القول إلى الشافعي وإلى بعض أصحابنا أيضا والقول الرابع قولنا إنا نقول هي معلولة شاهدة أي الأصل فيها التعليل عندنا أيضا ومعلولة شاهدة بمعنى واحد إلا بمانع مثل النصوص الواردة في المقدرات من العبادات والعقوبات ولا بد في ذلك أي في جواز التعليل من دلالة التمييز أي دليل يميز الوصف المؤثر من سائر الأوصاف ولا بد قبل ذلك أي قبل الشروع في التعليل وتمييز الوصف المؤثر من إقامة الدليل على أنه أي النص نريد استخراج العلة منه للحال شاهد أي معلول لأن الظاهر وهو أن الأصل في النصوص التعليل يصلح للدفع لا للإلزام وهذا القول مذهب بعض أصحابنا كذا ذكر في الميزان وإن كان القاضي الإمام والشيخان ذكروه مذهبا لأصحابنا على الإطلاق واختار صاحب الميزان القول الثالث كما هو مذهب العامة فقال إن أحكام اللّه تعالى مبنية على الحكم ومصالح العباد وهو المراد بقولنا النصوص معلولة أي الأحكام الثابتة بها متعلقة بمعان ومصالح وحكم فإذا عقل ذلك المعنى يجب القول بالتعدية ولأن الأصل إن كان واحدا واستخرج منه كل من خالف علة لتعلق الحكم بها كان الأصل معلولا باتفاقهم وإن كان كل واحد استخرج من أصل على حدة فمتى عللّه بوصف مؤثر ووجد فيه ما هو حد العلة يكون معلولا فلا حاجة إلى قيام النص والإجماع على كونه معلولا وذكر في بعض نسخ أصول الفقه زعم بشر المريسي وأبو الحسن الكرخي أن من شرط صحة القياس أن ينعقد الإجماع على كون حكم الأصل معللا أو يقوم نص عليه وزعم عثمان البتي أن القياس لا يجوز على أصل حتى يقوم دليل خاص على جواز القياس عليه وكلاهما باطل لأن مدرك الاحتجاج بالقياس إجماع الصحابة وقد علمنا من تتبع أحوالهم في مجرى اجتهاداتهم أنهم كانوا يقيسون الفرع على الأصل عند ظن وجود (٣/٤٣٢) ما يظن أنه علة في الأصل في الفرع من غير توقف على دليل يدل على كون الأصل معللا أو دليل خاص على جواز القياس عليه حتى قاس بعضهم قوله أنت علي حرام على الطلاق وبعضهم على الظهار وبعضهم على اليمين من غير أن يقوم دليل من نص أو إجماع على كون تلك الأصول معللة ولا على جواز القياس عليها ولم ينكر البعض على بعض ولم يرد عليه بأن ما ذكرت في الأصل غير متفق عليه مما أدى إلى خلاف إجماعهم باطل قوله احتج أهل المقالة الأولى وهم الذين قالوا بأن الأصل في النصوص عدم التعليل بأن النص قبل التعليل يثبت الحكم بصيغته على موجب اللغة وليس المعنى الشرعي مما يدل عليه النص لغة ولهذا اختص به الفقهاء دون أهل اللغة وبالتعليل يتغير ذلك الحكم بانتقاله من الصيغة إلى المعنى إذ لو لم ينتقل لا يمكن التعدية ألا ترى حكم النص في قوله عليه السلام الحنطة بالحنطة مثل بمثل والفضل ربا حرمة فضل الحنطة على الحنطة في البيع وبالتعليل يصير حكمه بيع المكيل بالمكيل في الجنس سواء كان حنطة أو غيرها ثم المعنى الشرعي من الصيغة بمنزلة المجاز من الحقيقة فإن معرفة صيغة النص تتوقف على السماع توقف معرفة الحقيقة عليه ومعرفة المعنى الشرعي من النص لا تتوقف عليه كمعرفة المجاز فكان الاشتغال بالتعليل تغييرا لحكم النص وتركا للحقيقة إلى المجاز بل أبعد لأن المجاز أحد نوعي الكلام والمعنى المستنبط ليس من أنواع النص ولا من أنواع الكلام وإذا كان كذلك كان الأصل هو العلم بصيغة النص دون معناه فلا يجوز ترك هذا الأصل وتغييره إلا بدليل كما لا يجوز ترك الحقيقة وتغيير معناها إلا بدليل وذلك إشارة إلى المعنى أو إلى انتقال الحكم والضمير في فلا يترك راجع إلى النص ثم استوضح هذا بذكر دليل آخر فقال ألا ترى أن الأوصاف متعارضة يعني يقتضي كل وصف من أوصاف النص غير ما يقتضيه الآخر فإن وصف الطعم في حديث الربا يقتضي حرمة بيع التفاحة بالتفاحتين وإباحة بيع قفيز من الجص بقفيزين منه على خلاف ما يقتضيه القدر والجنس والتعليل بالكل أي بجميع أوصاف النص بأن يجعل الكل علة واحدة غير ممكن لأن ذلك لا يوجد في غير المنصوص عليه فالتعليل يوجب انسداد باب القياس لاقتضائه قصد الحكم على النص أو التعليل بكل واحد من الأوصاف بأن يجعل كل وصف علة غير ممكن لإفضائه إلى التناقض فإن التعليل بالقدر والجنس يوجب خلاف ما يوجبه (٣/٤٣٣) التعليل كما قلنا أو التعليل بالقدر والجنس يوجب التعدية إلى الجنس والنورة والحديد وغيرها والتعليل بالطعم والثمنية يوجب قصر الحكم على المنصوص عليه وهو الطعام في قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام والذهب والفضة في حديث الأشياء الستة والتعدية وعدمها أمران متناقضان فيكون التعليل المؤدي إليه باطلا وبكل وصف محتمل يعني بعدما تحققت المعارضة ولم يمكن التعليل بالجميع وبكل وصف كما قلنا لا يمكن التعليل بواحد منها أيضا لأن كل وصف عينه المجتهد للتعليل به يحتمل أن يكون هو المعنى الموجب للحكم ويحتمل أن لا يكون والمحتمل لا يكون حجة إذ الحجة لا تثبت بالاحتمال والشك فكان الوقف أي الوقوف عن التعليل هو الأصل إلا إذا قام دليل يرجح بعض الأوصاف فحينئذ يجوز الاشتغال بالتعليل فإن الترجيح بعد المعارضة إنما يثبت بالدليل ولأن الحكم ظهر عقيب كل الأوصاف التي اشتمل عليها النص فالتعليل بالبعض تخصيص فلا يثبت إلا بدليل وحاصل هذا القول أن التعليل لا يجوز إلا فيما يثبت علته بنص أو إجماع قوله واحتج أهل المقالة الثانية وهم الذين قالوا الأصل في النصوص التعليل وأن التعليل يجوز بكل وصف يمكن وبأن الشرع أي الشارع لما جعل القياس حجة بما مر ذكره من الدلائل ولا يتأتى القياس إلا بالوقوف على المعنى الذي صلح علة من النص كان جواز التعليل أصلا في كل نص لأن تلك الدلائل لم تفصل بين نص ونص ولما صار التعليل أصلا ولا يمكن التعليل بجميع الأوصاف لتأديه إلى انسداد باب القياس ولا بواحد منها للجهالة وفساد ترجيح الشيء بلا مرجح صارت الأوصاف كلها صالحة أي صار كل وصف صالحا للتعليل به فكانت صلاحية التعليل بكل وصف أصلا فصلح الإثبات أي إثبات الحكم بكل وصف إلا بمانع بأن يعارض بعض الأوصاف بعضا أو يخالف نصا أو إجماعا مثل رواية الحديث فإن الحديث لما كان حجة والعمل به واجبا ولا يثبت الحديث إلا بنقل الرواة واجتماع الرواة على رواية كل حديث متعذر صارت رواية كل عدل حجة لا تترك إلا بمانع بأن يخالف دليلا قطعيا من نص أو إجماع أو يظهر فسق الراوي فكذلك (٣/٤٣٤) هذا أي فمثل رواية الحديث تعليل النص لما تعذر التعليل بالجميع يجعل كل وصف علة وظهر بهذا فساد قولهم إن الأوصاف متعارضة لأن بمجرد اختلاف الأوصاف لما لم يتحقق المعارضة إذا أمكن العمل بالكل لا يثبت أيضا عند كثرة أوصاف النص مع إمكان العمل بالكل إلا أن يمنع منه مانع ثم أجاب عن قولهم التعليل بكل وصف محتمل بقوله ولما صار القياس دليلا أي في الشرع صار التعليل والشهادة من النص أي من كل نص أصلا لتعميم الحكم لكن يبقى في كل وصف احتمال أنه ليس بمراد بعد قيام الدليل على كونه حجة فلا يترك أي ذلك الأصل بالاحتمال لأن ما ثبت أصلا بالدليل لا يخرج بالاحتمال من أن يكون حجة كما لا يثبت بالاحتمال كونه حجة وعن قولهم التعليل تغيير للحكم وترك للحقيقة إلى المجاز وإنما التعليل لإثبات حكم الفرع يعني أثر التعليل في إثبات حكم الفرع لا في تغيير حكم الأصل فإن الحكم في المنصوص بعد التعليل ثابت بالنص لا بالعلة كما كان قبل التعليل فلم يكن فيه تغيير للحكم ولا ترك للحقيقة بل فيه تقريره بإظهار المعنى الذي يحصل به طمأنينة القلب وانشراح الصدر ووجه القول الثالث وهو قول بعض أصحابنا والشافعي أنه لما يثبت القول بالتعليل بالدلائل الموجبة للقياس وصار ذلك أي التعليل أصلا في النصوص بطل التعليل بكل الأوصاف أي بجميعها بأن يجعل الكل علة لأنه أي التعليل شرع للقياس مرة أي لتعدية الحكم إلى غير المنصوص عليه وإلحاقه به وللحجر أخرى عند الشافعي فإنه جوز التعليل بعلة قاصرة لا لمجرد الحجر فحسب وهذا أي التعليل بجميع الأوصاف يسد باب القياس أصلا لما بينا أن ما يوجد فيه جميع الأوصاف يكون فردا من جنس المنصوص عليه فيكون الحكم ثابتا فيه بالنص لا بالقياس فيكون التعليل حينئذ للحجر لا غير وهو خلاف ما اتفق عليه القائلون بالقياس ولما انتفى التعليل بالجميع وجب التعليل بواحد من الجملة وهو مجهول والتعليل بالمجهول لتعدية الحكم باطل فلا بد من دليل عين وصفا من سائر الأوصاف للتعليل وقوله والواحد من الجملة جواب عما يقال إن لم يكن التعليل بالجملة فلم وجب النقل إلى الواحد مع إمكان التعليل بالوصفين والأكثر منها فقال لأن الواحد وهو المتيقن به بعد سقوط الجملة كما في وقت الصلاة لما تعذر سببية الجميع جعل الجزء الأدنى سببا للتيقن به والتعليل بالوصفين وأكثر جائز لكن الزيادة على الواحد (٣/٤٣٥) لا يثبت إلا بالدليل أيضا هذا تقدير ما ذكر في الكتاب ولكن لأهل المقالة الثانية أن يقولوا لا يلزم من عدم صحة التعليل بجميع الأوصاف عدم صحته بكل واحد منها إذا أمكن التعليل به لعدم سد باب القياس فيه بل فيه فتحة وزيادة تعميم لحكم النص فإذا جاز التعليل بكل وصف لم يجب النقل إلى الواحد المجهول الذي يحتاج إلى دليل مميز وفي كلام القاضي الإمام جواب عنه فإنه قال الدلائل الموجبة للقياس جعلت النص معلولا ليمكن القياس إذ لا قياس إلا بكون النص معللا وإلا لكان يثبت بوصف من الجملة فلم يجب بتلك الدلائل أن يجعل كل وصف علة بل صار البعض من الجملة علة واحتمل الزيادة على الواحدة فلا تثبت الزيادة على الواحد إلا بدليل وذكر شمس الأئمة رحمه اللّه أن الصحابة إنما اختلفوا في الفروع لاختلافهم في الوصف الذي هو علة في النص إذ كل واحد منهم ادعى أن العلة ما قاله فكان ذلك اتفاقا منهم أن أحد الأوصاف هو العلة فلا يجوز التعليل بجميع الأوصاف وبكل وصف لأنه على مخالفة الإجماع قوله وقلنا نحن إن دليل التمييز شرط يعني هذا الذي ذكرنا هو المختار ودليل التمييز شرط عندنا أيضا كما هو شرط عندهم إلا أن عندهم دليل التمييز الإخالة وعندنا التأثير على ما نبين في باب ركن القياس إن شاء اللّه عز وجل لكنا نحتاج قبل ذلك أي قبل بيان التميز والشروع في التعليل إلى إقامة الدليل على كون الأصل أي النص الذي يريد تعليله شاهدا أي معللا في الحال وليس بمقتصر على مورده بل يعدي حكمه إلى غيره كالحكم الثابت بالخارج من السبيلين تعدى إلى مثقوب السرة بالإجماع فيجوز تعليله بعد بوصف قام إلى الدليل على كونه علة لأن الأصل في النصوص وإن كان هو التعليل إلا أنه ثابت من طريق الظاهر وقد وجدنا من النصوص ما هو غير معلول بالاتفاق واحتمال أن يكون هذا النص المعين من تلك الجملة فلا يصح التمسك بذلك الأصل والإلزام به على الغير مع هذا الاحتمال لأن الظاهر يصلح حجة للدفع لا للإلزام لكن هذا الأصل وهو كون التعليل أصلا في النصوص لم يسقط بالاحتمال أيضا حتى جاز التعليل للعمل به قبل قيام الدليل على كونه معلولا وإن لم يصح الإلزام به على الغير وعلى مثال استصحاب الحال فإنه لما كان ثابتا بطريق الظاهر صلح حجة دافعة لا ملزمة حتى إن حياة (٣/٤٣٦) المفقود لما كانت ثابتة بطريق الاستصحاب نجعل حجة لدفع الاستحقاق حتى لا يورث ماله ولا يصلح سببا للاستحقاق حتى لو مات قريبه لا يرثه المفقود لاحتمال الموت وكذلك مجهول الحال إذا شهد لا يرد شهادته باحتمال كونه عبدا إذ الأصل في بني آدم هو الحرية ولكن لو طعن الخصم في حريته لم يصر حجة عليه باعتبار الأصل لاحتمال زواله بعارض ولا يبطل حرمة في نفسه أيضا بهذا الاحتمال فكذلك هذا فإذا قام الدليل على كون الأصل شاهدا لم يبق الاحتمال فصار حجة قوله ولا يلزم جواب عن سؤال يرد على هذا الأصل وتقديره أن الاقتداء بالرسول في أفعاله أصل بقوله تعالى لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني كما أن التعليل في النصوص أصل بالدلائل الموجبة للقياس وقد ثبت اختصاص النبي عليه السلام ببعض الأفعال مثل إباحة صوم الوصال وحل التسع وإباحة النكاح بغير مهر وأخذ الصفي من الغنيمة وغيرها كما ثبت عدم التعليل في بعض النصوص ثم جاز العمل بذلك الأصل من غير اشتراط قيام دليل على عدم الاختصاص حتى جاز الاقتداء به في أفعاله وصح الإلزام به على الغير ما لم يقم الدليل المانع فينبغي أن يجوز العمل بالأصل ها هنا أيضا من غير اشتراط قيام دليل على كون هذا النص المعين معللا ما لم يمنع عنه مانع فقال الاقتداء بالنبي عليه السلام إنما وجب لكونه رسولا وإماما صادقا بقوله تعالى واتبعوه لعلكم تهتدون وليس في كونه رسولا وإماما شبهة فوجب علينا الاقتداء به لوجود العلة الموجبة له قطعا ولم يسقط العمل به بالاحتمال الداخل في نفس العمل دون العلة الموجبة وهو احتمال الاختصاص كما لا يسقط العمل بالعام باحتمال الخصوص لما كان أصله موجبا ما لم يقم دليل التخصيص فأما فيما نحن فيه فالاحتمال في نفس الحجة للوجهين المذكورين في الكتاب فلم يكن بد من قيام الدليل على أنه معلول للحال ليصح العمل به بمنزلة المجمل لما كان الاحتمال في نفسه لم يصح العمل به ما لم يقم دليل يبين المراد منه ومن لم يعتبر هذا الشرط من أصحابنا متمسكا بإجماع الصحابة على ما بينا وبأن أحدا من العلماء لم يشغل بإقامة الدليل على كون الأصل معللا (٣/٤٣٧) في مناظراتهم ومقايساتهم ولم يطلب ذلك خصمه منه أجاب عن هذه الكلمات فقال بعدما ثبت أن الأصل في النصوص هو التعليل لا وجه إلى اشتراط دليل آخر لصحة التعليل إذ التعليل لا يصح إلا بوصف مؤثر والأثر إنما يعرف بالكتاب أو السنة والإجماع على ما ستعرفه فكان ظهور الوصف المؤثر من هذا النص دليلا على كونه معلولا إذ لا معنى لكونه معلولا إلا تعلق حكمه بمعنى مؤثر يدرك بالعقل فأي حاجة إلى إقامة دليل آخر على كونه معلولا وليس هذا كاستصحاب الحال فإن الأصل فيه لم يثبت بدليل ألا ترى أن حياة المفقود وحرية الشاهد لم تثبتا بدليل بل بظاهر الحال فأما كون الأصل معلولا فقد ثبت بقبول التعليل وظهور الوصف المؤثر فوضح الفرق وتبين أنه كالاقتداء بالرسول عليه السلام في صحة العمل به في هذا الفرد المعين كالعمل بالاقتداء في الفعل المعين وكما أن النصوص نوعان معلول وغير معلول فأفعال النبي عليه السلام أيضا نوعان ما يقتدى به وما لا يقتدى به وكما ابتلينا بالوقف في غير المعلول وبالاستنباط في المعلول فقد ابتلينا بالاقتداء فيما يصلح الاقتداء به وبعدم الاقتداء فيما ثبت الاختصاص فيه فكانا من قبيل واحد فهذا كلام الفريقين في هذه المسألة فعليك بعد بالترجيح قوله ومثال هذا الأصل وهو أنه لا بد في التعليل من إقامة الدليل على كون الأصل معلولا ولا يكتفي فيه بأن الأصل في النصوص التعليل وقولنا في الذهب والفضة إن حكم النص وهو حرمة الفضل وفي ذلك أي في النصوص معلول بعلة متعدية وهي الوزن والجنس على خلاف ما قال الشافعي رحمه اللّه أنه ليس بمعلول أو مخصوص بعلة الثمنية فلا يسمع منا الاستدلال أي التمسك بالأصل من غير إقامة الدليل على أن هذا النص وهو قوله عليه السلام الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد بعينه معلول ودلالة ذلك أي الدليل على أن هذا النص بعينه معلول أن هذا النص تضمن حكم التعين أي حكما هو التعيين من قبيل قولك علم الطب وحكم التطهير بقوله عليه السلام يدا بيد إذ المراد منه التعيين فإن اليد آلة التعيين كالإحضار والإشارة كما تضمن وجوب المماثلة بقوله مثلا بمثل وذلك من باب الربا أيضا أي وجوب التعيين من باب الاحتراز عن الربا كوجوب المماثلة للاحتراز عن الربا يعني كلا الحكمين متعلق (٣/٤٣٨) بمعنى واحد ألا ترى دليلا على أن وجوبه للاحتراز عن الربا يعني الدليل على أن وجوبه لما قلنا إن تعيين أحد البدلين شرط جواز كل بيع للاحتراز عن الدين بالدين الذي هو نسيئة بنسيئة وذلك من باب الربا لقوله عليه السلام إنما الربا في النسيئة وتعيين الأخرى أي وجوب تعيين البدل الآخر فيما نحن بصدده وهو الصرف لطلب المساواة بين البدلين في العينية فإن المساواة بينهما في القدر العينية شرط عند اتفاق الجنس بقوله مثلا بمثل يدا بيد والمساواة في العينية شرط عند اختلاف الجنس بقوله وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد وقوله طلبا للتسوية متعلق بواجب وقوله احتراز متعلق بالمجموع أو بقوله طلبا وهو أظهر وإنما وجب تحصيل المساواة بينهما في العينية احترازا عن شبهة الفضل الذي هو ربا فإن العين خير من الدين وإن كان حالا ولهذا لم يجز أداء الزكاة العين من الدين ولم يحنث في قوله إن كان له مال فعبده حر إذا لم يكن له مال عين وله ديون على الناس كما وجبت المساواة في القدر احترازا عن حقيقة الفضل فثبت أن وجوب التعين للاحتراز عن الربا كوجوب المساواة وقد وجدنا هذا الحكم وهو وجوب التعيين متعديا عن هذا الأصل إلى الفروع حتى شرط الشافعي رحمه اللّه التقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام عند اتحاد الجنس واختلافه ليحصل التعيين كما شرطناه جميعا في بدلي الصرف عند اتحاد الجنس واختلافه لذلك وقلنا جميعا فيمن اشترى حنطة بعينها بشعير بغير عينه غير مقبوض في المجلس أنه باطل وإن كان موصوفا لأن بترك التعيين في أحد البدلين بعدم المساواة في اليد كما لو باع ذهبا بفضة ولم يقبض أحدهما في المجلس وإنما قال حالا غير مؤجل ليكون وجه الجواز ظهر يعني مع كونه حالا موصوفا لا يجوز لعدم التعيين لما قلنا من اشتراط تعين البديل طلبا للمساواة احترازا عن شبهة الفضل ووجب تعيين رأس مال السلم يعني بالقبض في المجلس سواء كان من الأثمان أو من غيرها لأن المسلم فيه أبدا يكون دينا ورأس المال في الأغلب هو الدراهم والدنانير وأنها لا يتعين إلا بالقبض فشرطنا القبض الذي يحصل به التعيين كي لا يكون افتراقا عن دين بدين ثم لو كان شيئا يتعين بالتعيين بدون القبض يشترط القبض أيضا ولا يكتفى فيه بالتعيين دفعا لحرج التمييز عن (٣/٤٣٩) العوام وإلحاقا للفرد بالأغلب فيثبت بما ذكرنا أن هذا الحكم قد تعدى إلى الفروع إذ لا معنى للتعدي إلا وجود حكم النص في غير المنصوص عليه وعدم اقتصاره عليه إذا ثبت التعدي في ذلك أي في حكم التعيين ثبت أنه أي النص معلول فلا يعدى بلا تعليل أي الحكم لا يعدى إلى الفرع بلا تعليل الأصل بالإجماع وثبت أن التعليل بعلة قاصرة لا يمنع من التعدي بعلة متعدية لأن التعدي قد صح ها هنا ولم يكن الثمنية مانعة وإذا ثبت فيه أي ثبت للتعليل هذا النص في تعدي حكم التعيين إلى ما ذكرنا من الصور ولم يكن الثمنية مانعة منه ثبت تعليله في مسألتنا أي فيما تنازعنا فيه وهو تعدي وجوب المماثلة إلى سائر الموزونات لأنه هو بعينه أي لأن التعليل لوجوب المماثلة عين التعليل لتعدي حكم التعيين فإن تعدي وجوب المماثلة للاحتراز عن الربا كما أن تعدي وجوب التعيين للاحتراز عن الربا أيضا بل ربا الفضل أثبت منه أي من ربا النسيئة يعني ربا الفضل الذي بني تعدي وجوب المماثلة عليه أسرع ثبوتا من ربا النسيئة الذي بني تعدي التعيين عليه لأنه حقيقة الفضل وربا النسيئة شبهة الفضل والحقيقة أولى بالثبوت من الشبهة فإن قيل لا نسلم وجود التعدي في هذا الحكم لأن معنى التعدي أن يوجد الحكم في الفرع الذي لا نص فيه بناء على علة جامعة بين الأصل والفرع والتعيين فيما ذكرتم ثابت بالنص لا بالعلة فإنه عليه السلام قال في كل واحد من الأشياء الستة عند المقابلة بجنسه يدا بيد قبضا بقبض ثم قال وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد فيجب القبض المعين عند اتفاق الجنس واختلافه بهذا النص في رأس مال السلم بنهيه عليه السلام عن الكالئ بالكالئ فكان القبض المعين واجبا في هذا المسائل بالنص لا بالتعليل وإذا كان كذلك لم يثبت كون هذا النص معلولا يوضحه أن من شرط صحة التعليل عدم النص في الفروع فمع وجود هذه النصوص فيما ذكرتم من الفروع كيف يمكن القول بتعدي الحكم من الذهب والفضة إليها قلنا وجود النص في الفرع لا يمنع صحة التعدي من محل آخر إليه بالتعليل إذا كان التعليل موافقا للنص عند البعض وإنما يمنع إذا كان على خلاف النص ألا ترى أن الفقهاء عن آخرهم يقولون هذا الحكم ثابت بالنص (٣/٤٤٠) والمعقول على معنى أنه لولا النص لكان الحكم ثابتا بالقياس ولم يكن معدولا به عن القياس فإذا وجد النص كان القياس مؤكدا له وكان النص مقررا للقياس ويتعاضد كل واحد منهما بالآخر كما إذا وجد نصان من الكتاب أو من السنة أو منهما جميعا فثبت أن وجود النص في الفرع لا يقدح فيما ذكرنا بل مؤكد كون الأصل المقيس عليه معلولا قوله قال الشافعي علل الشافعي رحمه اللّه تحريم الخمر بوصف الإسكار وقال هذا وصف مؤثر لأن المنع من شرب ما يستر العقل الذي صار به الإنسان أهلا للخطاب والتكليف ويجعله كالزائل أمر معقول ولهذا لم يشربها نبي قط ولم يشربها كثير من الصحابة قبل التحريم فيلحق سائر الأشربة المسكرة بها بعلة الإسكار فيحرم قليلها وكثيرها ويجب الحد بشرب القليل منها كالخمر فقال الشيخ رحمه اللّه لا بد من إقامة الدليل أولا على كون النص المحرم لها معلولا ليصح تعليله بعد ولا دليل عليه من قبل النص بل الدليل من النص دال على أنه غير معلول فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إن اللّه تعالى حرم الخمر لعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب فلو كانت الحرمة متعلقة بالسكر لم يثبت في القليل كما ذهب إليه بعض أهل الأهواء وقوله ليست حرمة سائر الأشربة ونجاستها جواب عما يقال قد تعدى حكم الحرمة حكم النجاسة من الخمر إلى بعض الأشربة المسكرة مثل المطبوخ أدنى طبخة إذا اشتد والنيء من نبيذ الزبيب والتمر إذا اشتد كما تعدى حكم التعيين في المثال المذكور إلى الفروع فثبت به أن النص المحرم للخمر معلول إذ لا تعدي بلا تعليل فقال ليست حرمة سائر الأشربة أي باقي الأشربة المحرمة ونجاستها من باب التعدي ألا ترى أنهما لم يثبتا على الوصف الذي ثبتا في الخمر حتى يكفر مستحل الخمر ولا يكفر مستحل سائر الأشربة ونجاسة الخمر غليظة لا يعفى عنها أكثر من قدر الدرهم ونجاسة سائر الأشربة المحرمة خفيفة يعفى عنها ما دون ربع الثوب كذا لا يجوز بيع الخمر بالإجماع ويجوز بيع سائر الأشربة المحرمة عند أبي حنيفة رحمه اللّه إليه أشير في المبسوط لكنه أي لكن الحكم وهو الحرمة والنجاسة فيه أي في سائر الأشربة ثبت بدليل فيه شبهة بطريق الاحتياط وهو ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال الخمر من هاتين الشجرتين مشيرا إلى النخلة والكرمة فظاهره يوجب أن يكون حكم (٣/٤٤١) هذه الأشربة حكم الخمر إذ النبي عليه السلام بعث مبينا للحكم لا للغة فكان معناه ما يتخذ منهما له حكم الخمر وإذا كان كذلك لا يثبت به كون النص معلولا ومثال هذا أي نظير ما ذكرنا أن وصف الثمنية لما لم يمنع من تعدي حكم التعيين لا يصح الطعن به بأن يقال هذا النص معلول بهذا الوصف فلا يصح أن يكون معلولا بوصف آخر وأن التمسك بالأصل لما لم يصلح حجة يلزمه صح الطعن باحتمال كون هذا النص المعين غير معلول وطلب إقامة الدليل على كونه معلولا طعن الشاهد بالجهل والرق فإن الطعن بالجهل لا يصح وبالرق يصح على ما قرر في الكتاب متى وجد بالنص شاهدا أي معللا مع ما ذكر الخصم من الطعن بأنه معلول بالثمنية بطل هذا الطعن واللّه أعلم (٣/٤٤٢) |