باب بيان سببهأي سبب الإجماع وهو نوعان الداعي أي السبب الذي يدعوهم إلى الإجماع ويحملهم عليه والناقل أي السبب الناقل ويجوز أن يكون المراد منه الخبر أي الخبر الذي ينقل الإجماع إلينا ويكون الإسناد مجازيا ويجوز أن يكون المراد منه النقل ومن الناقل المعرف أي النقل الذي يعرفنا الإجماع ولهذا سماه سببا لأن الإجماع يثبت في حقنا بواسطته كالكتاب والسنة فيكون النقل طريقا إليه واعلم أن عند عامة الفقهاء والمتكلمين لا ينعقد إجماع إلا عن مأخذ ومستند لأن اختلاف الآراء والهمم يمنع عادة من الاتفاق على شيء إلا عن سبب يوجبه ولأن القول في الدين بغير دليل خطأ إذ الدليل هو الموصل إلى الحق فإذا فقد لا يتحقق الوصول إليه فلو اتفقوا على شيء من غير دليل لكانوا مجمعين على الخطأ وذلك قادح في الإجماع وأجاز قوم انعقاد الإجماع لا عن دليل بأن يوفقهم اللّه تعالى لاختيار الصواب ويلهمهم إلى الرشد بأن يخلق فيهم علما ضروريا بذلك مستدلين بأن خلق اللّه تعالى فيهم العلم بطريق الضرورة ليس بممتنع بل هو من الجائزات فيجوز أن يصدر الإجماع عنه كما يجوز أن يصدر عن دليل وبأن الإجماع حجة في نفسه فلو لم ينعقد إلا عن دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة ولم يبق في كون الإجماع حجة فائدة وبأن الإجماع لا عن دليل قد وقع كإجماعهم على بيع المراضاة أي التعاطي وأجرة الحمام وكل ذلك فاسد لأن حال الأمة لا يكون أعلى من حال الرسول عليه السلام ومعلوم أنه لا يقول إلا عن وحي ظاهر أو خفي أو عن استنباط من النصوص عليه فالأمة أولى أن لا يقولوا إلا عن دليل ولأن الإجماع لا يصدر إلا عن العلماء وأهل الديانة لا يتصور منهم الاجتماع على حكم من أحكام اللّه جزافا بل بناء على حديث سمعوه ومعنى من النصوص رأوه مؤثرا في الحكم فأما الحكم جزافا أو بالهوى والطبيعة فهو عمل (٣/٣٨٨) أهل البدعة والإلحاد وقولهم لو انعقد عن دليل لم يبق في الإجماع فائدة باطل لأنه يقتضي أن لا يصدر الإجماع عن دليل واحد لا نقول به إذ الخلاف في أن الدليل ليس بشرط لا أن عدم الدليل شرط على أن فيه فوائد وهي سقوط البحث عن ذلك الدليل وكيفية دلالته على الحكم وحرمة المخالفة بعد انعقاد الإجماع الجائزة قبله بالاتفاق وأما ما ذكروا من بيع المراضاة وأجرة الحمام فالإجماع فيهما ما وقع إلا عن دليل إلا أنه لم ينقل إلينا استغناء بالإجماع عنه وإذا ثبت أنه لا بد للإجماع من مستند فذلك المستند يصلح أن يكون دليلا ظنيا كخبر الواحد والقياس عند جمهور العلماء كما صلح أن يكون دليلا قطعيا مثل نص الكتاب والخبر المتواتر وذهب داود الظاهري وأتباعه والشيعة ومحمد بن جرير والقاشاني من المعتزلة إلى أن مستند الإجماع لا يكون إلا دليلا قطعيا ولا ينعقد الإجماع بخبر الواحد والقياس لأن الإجماع حجة قطعية وخبر الواحد والقياس لا يوجبان العلم قطعا فلا يجوز أن يصدر عنهما ما يوجب العلم قطعا إذ الفرع لا يكون أقوى من الأصل كذا ذكر الاختلاف في الميزان وأصول شمس الأئمة وعليه يدل كلام الشيخ أيضا ولكن المذكور في عامة الكتب أنهم وافقونا في انعقاد الإجماع عن خبر الواحد واختلفوا في انعقاده عن القياس ووجهه أن الناس خلقوا على همم متفاوتة وآراء مختلفة فلا يتصور إجماعهم على شيء إلا لجامع جمعهم عليه وكلام من التزموا طاعته وانقادوا لحكمه يصلح جامعا فأما الاجتهاد بالرأي مع اختلاف الدواعي فلا يصلح جامعا ولأن الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد فيما اجتهد فلو انعقد الإجماع عن اجتهاد لحرمت المخالفة الجائزة بالاتفاق ولأن الإجماع لا يكون إلا باتفاق أهل العصر ولا عصر إلا وفيه جماعة من نفاة القياس فذلك يمنع من انعقاد الإجماع مسندا إلى القياس حجة الجمهور أن انعقاد الإجماع عن خبر الواحد والقياس أمر لا يستحيله العقل كانعقاده عن غيرهما والنصوص التي توجب كون الإجماع حجة لا تفصل وبينهما إذا كان مستنده دليلا قطعيا أو ظنيا فوجب القول به ولا يجوز اشتراط الدليل القطعي لأنه يكون تقييدا لها من غير دليل وهو فاسد كيف وقد وقع الإجماع عن خبر الواحد والقياس مثل إجماعهم في وجوب الغسل مسندا إلى حديث عائشة رضي اللّه عنها في التقاء الختانين وإجماعهم على حرمة بيع الطعام قبل القبض مسندا إلى ما روى ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من ابتاع طعاما فلا يبيعه (٣/٣٨٩) حتى يستوفيه ومثل إجماعهم على إمامة أبي بكر مسندا إلى الاجتهاد وهو الاعتبار بالإمامة في الصلاة حتى قال بعضهم رضيه رسول اللّه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا وإجماعهم في زمن عمر على حد شارب الخمر ثمانين استدلالا بحد القذف حيث قال عبد الرحمن بن عوف رضي اللّه عنه هذا حد وأقل الحد ثمانون وقال علي إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى أن يقام عليه حد المفترين ثم أجاب الشيخ عن كلامهم فقال وهذا أي اشتراط جامع لا يحتمل الغلط باطل لأن إيجاب الحكم بالإجماع بطريق القطع وكونه حجة لم يثبت من قبل دليله أي مستنده ليشترط قطعية بل ثبت من قبل ذاته لأجل تكريم هذه الأمة ولاستدامة حجة اللّه تعالى في الأحكام إلى آخر الدهر ولأجل تقرير هذه الأمة على المحجة أي جادة الطريق المستقيم على ما مر تقريره وهذه المعاني لا تفصل بين أن يكون مستنده قطعيا أو غير قطعي وقوله ولو جمعهم دليل يوجب علم اليقين لصار الإجماع لغوا يوهم بظاهره أن الإجماع عند الشيخ لا ينعقد عن دليل قطعي كما ذهب إليه البعض على ما نص عليه في الميزان لأن الجامع لو كان قطعيا لم يبق في انعقاد الإجماع فائدة لأن الحكم والقطع بصحته يثبتان بذلك الدليل فلم يبق للإجماع تأثير في إثبات شيء فيكون لغوا بخلاف ما إذا كان الجامع دليلا ظنيا لأن أصل الحكم إن ثبت به لم يثبت القطع بصحته إلا بالإجماع فكان فيه فائدة وصار بمنزلة دليل ظني تأيد بآية من الكتاب أو بالعرض على الرسول عليه السلام والتقرير منه على موجبه ولأن الإجماع إنما جعل حجة للحاجة فإنه متى وقعت حادثة لا يكون فيها دليل قاطع اضطروا إلى العمل بدليل محتمل للخطأ وحينئذ يجوز خروج الحق عن جميعهم وقد بينا فساده والحاجة إنما يثبت فيما إذا كان دليله ظنيا دون ما كان دليله قطعيا فلا ينعقد فيما لا حاجة فيه لأن الشرع لا يرد بما لا فائدة فيه ولكن مذهب الشيخ كمذهب العامة في صحة انعقاد الإجماع عن أي دليل كان ظني أو قطعي لأنه لما انعقد على مستند ظني فعن مستند قطعي أولى أن ينعقد لأنه أدعى إلى الاتفاق الذي هو ركنه وبعدما انعقد به كان مؤكدا لموجبه بمنزلة ما لو وجد في حكم نصان قطعيان من الكتاب أو نص من الكتاب وخبر متواتر فكان معنى قوله ولو جمعهم دليل (٣/٣٩٠) موجب علم اليقين لو شرط أن يكون الجامع دليلا قطعيا بحيث لا يجوز غيره كان الإجماع لغوا لعدم إفادته أمرا مقصودا في صورة إذ التأكيد ليس بمقصود أصلي بخلاف ما إذا لم يشترط ذلك لأنه يفيد القطع إن صدر عن ظني والتأكيد إن صدر عن قطعي قال شمس الأئمة رحمه اللّه فمن يقول بأنه لا يكون صادرا إلا عن دليل موجب للعلم فإنه يجعل الإجماع لغوا وإنما يثبت العلم بذلك الدليل فهو ومن ينكر كون الإجماع حجة أصلا سواء وقولهم الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد مسلم إذا لم يوافقه مجتهدو عصره أما إذا وافقوه فلا وقولهم وجود نفاة القياس مانع من انعقاد الإجماع فاسد لأن الخلاف في القياس لم يكن في العصر الأول بل هو حادث فإذن لا يمنع عن انعقاد الإجماع عن القياس مطلقا بل بعد وقوع الخلاف فيه وهو مسلم قال شمس الأئمة كان في الصدر الأول اتفاق على استعمال القياس وكونه حجة وإنما أظهر الخلاف بعض أهل الكلام ممن لا بصر له في الفقه وبعض المتأخرين ممن لا علم بحقيقة الأحكام وأولئك لا يقتدى بهم ولا يؤنس بوفاقهم ومما يتعلق بهذه المسألة أن الإجماع إذا انعقد بدليل يكون منعقدا على الدليل الموجب للحكم عند بعض الأشعرية وعند أكثر الفقهاء والمتكلمين يكون منعقدا على الحكم المستخرج من الدليل لأن الحكم هو المطلوب ولأجله انعقد الإجماع فيكون منعقدا عليه ويبتنى عليه أن الإجماع المنعقد على موجب خبر من الأخبار يدل على صحة الخبر عند الفريق الأول إذا علم أنهم أجمعوا لأجله وعند الجمهور لا يكون دليلا على صحته وإنما يدل على صحة الحكم فقط لأن لصحة الخبر طريقا مخصوصا في الشرع وهو النقل فيطلب صحته وعدم صحته من ذلك الطريق قوله وإذا انتقل أي الإجماع إلينا بالأفراد أي بنقل الآحاد وجواب إذا قوله كان هذا أي انتقاله بالأفراد كنقل السنة بالآحاد ووقع في بعض النسخ فكان بالغا وليس بصحيح واختلف في الإجماع المنقول بلسان الآحاد بعدما اتفقوا أنه لا يوجب العلم أنه هل يوجب العمل أم لا فذهب أكثر العلماء إلى أنه يوجب العمل لأن الإجماع حجة قطعية كقول الرسول صلى اللّه عليه وسلم ثم إذا نقلت السنة إلينا بطريق الآحاد كانت موجبة للعمل مقدمة على القياس فكذا الإجماع المنقول بالآحاد وذكر الضمائر الراجعة إلى السنة في قوله وهو يقين (٣/٣٩١) إلى آخره على تأويل الحديث أو قول الرسول عليه السلام فهذا أي الإجماع أو انتقال الإجماع مثله أي مثل الحديث أو مثل انتقال الحديث وقال بعض أصحاب الشافعي منهم الغزالي إنه لا يوجب العمل وهكذا نقل عن بعض أصحابنا لأن الإجماع قاطع يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة ونقل الواحد ليس بقطعي فكيف يثبت به قاطع والجواب أنا لا نثبت بنقل الواحد إجماعا قاطعا موجبا للعلم ليمتنع ثبوته به بل نثبت به إجماعا ظنيا موجبا للعمل وثبوت مثله بنقل الواحد غير ممتنع كخبر الواحد ولكنهم يقولون وجوب العمل بخبر الواحد ثبت بدلائل قاطعة وهي إجماع الصحابة ودلالات النصوص ولم يوجد هاهنا إجماع ولا نص يدل على وجوب العمل به فلو ثبت لكان بالقياس على خبر الواحد ولا مدخل للقياس في إثبات أصول الشريعة لأنه نصيب شرع بالرأي ولا مدفع لهذا إلا بأن يجعل وجوب العمل به ثابتا بطريق الدلالة بأن يقال نقل الواحد للدليل الظني موجب للعمل قطعا كالخبر الذي تخللت واسطة بين ناقله والرسول فنقل الواحد للدليل القطعي وهو الإجماع الذي لم يتخلل بينه وبين ناقله واسطة أولى بأن يوجب العمل قطعا لأن احتمال الضرر في مخالفة المقطوع به أكثر من احتماله في مخالفة المظنون به وإذا ثبت وجوب العمل به في هذه الصورة يثبت فيما إذا تخلل في نقله واسطة أو وسائط لعدم القائل بالفصل قوله مثل قول عبيدة السلماني بفتح العين وكسر الباء وفتح السين وسكون اللام هو أبو مسلم عبيدة بن قيس بن سلم أو عمرو منسوب إلى سلمان حي من مراد وأصحاب الحديث يفتحون اللام وهو من أصحاب علي وابن مسعود أسلم قبل وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنتين ولم يره وسمع عمر وابن الزبير ونزل الكوفة فروى عنه الشعبي والنخعي وابن سيرين وغيرهم ومات سنة اثنين أو ثلاث وسبعين من الهجرة وسئل ابن مسعود عن تكبير الجنازة يعني وسئل عنه أن تكبيرات الجنازة أربع أو خمس أو سبع أو تسع كما جاءت به الآثار فقال كل ذلك قد كان إلى آخره ثم رجع إلى أصل الكلام وهو أن الإجماع حجة فقال من أنكر الإجماع أي أنكر كونه حجة فقد أبطل دينه لأن مدار أصول الدين على الإجماع إذ المعرفة بالقرآن وأعداد الصلوات والركعات وأوقات العبادات ومقادير الزكوات وغيرها حصلت لنا بإجماع المسلمين على نقلها فكان إنكار الإجماع مؤديا إلى إبطالها إلا أن لهم أن يقولوا لم يثبت (٣/٣٩٢) أصول الدين بالإجماع بل بالنقل المتواتر والفرق ثابت بين النقل المتواتر والإجماع فإن النقل يوصل إلينا ما كان ثابتا والإجماع يثبت ما لم يكن ثابتا فلا يلزم من إنكاره إبطال أصول الدين بل يلزم منه عدم ثبوتها به وذلك لا يمنع من ثبوتها بدليل آخر واللّه أعلم وإذ قد فرغنا بتوفيق اللّه وإنعامه وتأييده وإكرامه عن بيان الأصول الثلاثة وتحقيق معانيها وتأسيس قواعدها وتمهيد مبانيها وتوضيح مسائلها المشكلة وتنقيح دلائلها المعضلة فلنشرع في شرح الأصل الرابع الذي هو ميزان عقول أولي النهى وميدان الفحول ذوي الحجا به نعرف قدر الحذاقة والفطانة ويسبر غور الفقاهة والرزانة وفيه تحار العقول والأفهام ويفرط الإغلاق والأوهام كاشفين النقاب عن اللّه وحقائقه رافعين الحجاب عن أسرار لطائفه ودقائقه حامدين للّه تعالى على أفضاله ومصلين على سيدنا محمد وآله (٣/٣٩٣) |