باب وجوه الوقوف على أحكام النظمقوله أما الأول أي الوجه الأول فيما سيق الكلام له وأريد به الضمير في له وأريد راجع إلى ما وفي به راجع إلى الكلام وقوله ما سيق الكلام له تعرض لجانب اللفظ وأريد به قصد العرض للمعنى والإشارة أي الثابت بالإشارة ما ثبت بنظم الكلام أي بتركيبه من غير زيادة ولا نقصان إلا أن الضمير عائد إلى ما أي لكن ذلك الثابت غير مقصود من الكلام ولا سيق الكلام له وقيل في تفسير الإشارة هي دلالة نظم الكلام لغة على ما ضمن فيه من المعنى غير مقصود وهما أي العبارة والإشارة سواء في إيجاب الحكم أي في إثباته لأن الثابت بكل واحد منهما ثابت بنفس النظم وأشار بقوله في إيجاب الحكم إلى أنه يجوز أن يقع بينهما تفاوت في غيره مثل كون كل واحد منهما قطعيا وغير قطعي لأن العبارة قطعية والإشارة قد تكون قطعية وغير قطعية قال القاضي الإمام في التقويم ثم الإشارة من النص بمنزلة التعريض والكناية من الصريح والمشكل من الواضح إذ لا ينال المراد بها إلا بضرب تأويل وتبين ثم قد يوجب العلم بموجبها بعد البيان وقد لا يوجب وذكر في بعض الشروح أنهما سواء في إيجاب الحكم أي يثبت الحكم بهما قطعا إلا أن الأول أي الوجه الأول وهو الثابت بالعبارة أحق عند التعارض لكونه مقصودا من الثابت بالإشارة لكونه غير مقصود مثاله ما قال الشافعي رحمه اللّه لا يصلى على الشهيد لقوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربهم سيقت الآية لبيان منزلة الشهداء وعلو درجاتهم عند اللّه تعالى وفيه (٢/٣١٤) إشارة إلى أنه لا يصلى عليهم لأنه تعالى سماهم أحياء وصلاة الجنازة غير مشروعة على الحي ولكن قوله تعالى وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم عبارة في إيجاب الصلاة في حق الأموات على العموم والشهداء أموات حقيقة وحكما بدليل جواز قسمة أموالهم وتزوج نسائهم وغير ذلك فترجح العبارة على الإشارة هكذا ذكر في بعض الشروح ولقائل أن يقول الإشارة ليست بثابتة لأن المراد من الحياة في قوله أحياء ليس الحياة التي يمنع جواز الصلاة وهي الحسية بلا شبهة وكذا العبارة غير ثابتة لأن المراد من الصلاة في قوله تعالى وصل عليهم الدعاء لا صلاة الجنازة أي تعطف وترحم عليهم بالدعاء عند أخذ الصدقة منهم فإنهم يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن اللّه تعالى قد تاب عليهم وقبل منهم كذا ذكره أئمة التفسير فلا يثبت التعارض إذ لا دلالة للآيتين على صلاة الجنازة نفيا وإثباتا والنظير الملائم قوله عليه السلام في النساء أنهن ناقصات عقل ودين فقيل ما نقصان دينهن قال تقعد إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها أي نصف عمرها لا تصوم ولا تصلي سيق الكلام لبيان نقصان دينهن وفيه إشارة إلى أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما كما ذهب إليه الشافعي وهو معارض بما روى أبو أمامة الباهلي رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثرها عشرة أيام وفي بعض الروايات أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاث أيام ولياليها وأكثره عشرة أيام وهو عبارة فترجح على الإشارة وكذلك قوله عليه السلام إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين فغضبت اليهود والنصارى فقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال اللّه تعالى وهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال فإنه فضلي أعطيته من شئت سيق لبيان فضيلة هذه الأمة وفيه إشارة إلى أن وقت الظهر أكثر من وقت العصر وذلك بأن يبقى وقت الظهر أن (٢/٣١٥) يصير ظل الشيء مثليه كما قاله أبو حنيفة رحمه اللّه لأنه لو انتهى بصيرورة ظل الشيء مثله لكان وقت العصر أكثر من وقت الظهر وهو معارض بما روي في حديث إمامة جبريل عليه السلام أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثل ظله وقال بعدما صلى الصلوات الوقت ما بين هذين الوقتين وهو عبارة فرجحها أبو يوسف ومحمد والشافعي وعامة العلماء على الإشارة وجواب أبي حنيفة مذكور في موضعه قوله فمن ذلك أي من الثابت بالإشارة أو مما اجتمع فيه العبارة والإشارة نسب إليه فاللام التمليك وأنه يوجب الاختصاص فدل على كونه أحق بالولد بالإجماع لا يصير أحق به ملكا لأن الولد لا يصير ملكا لأبيه بحال فدل أنه صار أحق به نسبا فإن قيل الولد ينسب إلى الأم كما ينسب إلى الأب ويرث منها كما يرث من الأب فما فائدة تخصيصه بالأب قلنا فائدته تظهر في الأمور التي يميز لها بين نسب ونسب كالإمامة الكبرى والكفاءة واعتبار مهر المثل فيعتبر فيها جانب الأب دون الأم أن للأب ولاية التملك أي له حق أن يتملك مال الابن عند الحاجة ولكن ليس له حق ملك في الحال حتى جاز للابن التصرف في ماله بغير رضاه وحل له وطء جاريته بمنزلة الشفيع فإن له أن يتملك الدار المبيعة ولكن ليس له فيها حق ملك بوجه بخلاف المكاتب فإن له حق الملك في اكتسابه باعتبار اليد ولكن ليس له ولاية التملك حتى لم يحل وطء جاريته فهذا هو الفرق بين حق التملك وحق الملك وأنه لا يعاقب بولده أي بسبب ولده حتى لو قتل ابنه لا يقتص منه ولو قذفه بأن قال زنيت لا يجب عليه حد القذف ولا يحبس في دينه كالمالك بمملوكه أي كما لا يعاقب المالك بسبب مملوكه لأن الولد نسب إليه فاللام الملك كالعبد وعليه أي على ثبوت حق التملك للأب مسائل كثيرة منها أنه لا يحد بوطء جارية ابنه وإن قال علمت أنها علي حرام ومنها أنه لا يجب عليه العقر بوطئها لثبوت الملك قبل الوطء بناء على حق التملك ومنها أنه إذا استولد جارية الابن يثبت النسب ولا يجب عليه رد قيمة الولد على الابن لما قلنا ومنها أنه إذا أنفق ماله على نفسه عند ضرورة لا يؤاخذ بالضمان وفيه أي وفي قوله تعالى وعلى المولود له إشارة إلى انفراد (٢/٣١٦) الأب بتحمل نفقة الولد لأن الشرع أوجب النفقة على الأب بناء على هذه المسألة النسبة أي كون الولد منسوبا إليه ولا يشاركه أحد في هذه النسبة فكذلك في حكمها بمنزلة نفقة العبد فإنها تجب على المولى من غير مشاركة أحد فيها لاختصاصه بنسبته الملك إليه وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما اللّه في الولد الكبير مثل الابن الزمن والبنت البالغة أن النفقة تجب على الأب والأم أثلاثا بحسب ميراثهما من الولد بخلاف الولد الصغير لأنه اجتمعت للأب في الصغير ولاية ومؤنة حتى وجبت عليه صدقة فطره فاختص بنفقته ولا كذلك الكبير لانعدام الولاية فتشاركه الأم قوله وفيه أي في هذا النص فإنه جعل مجموع الآية بمنزلة نص واحد قال شمس الأئمة وفي قوله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك دليل منه على كذا إشارة أن النفقة يستحق بغير الولادة حتى يجبر الرجل على نفقة كل ذي رحم محرم منه من الصغار والنساء وأهل الزمانة من الرجال إذا كانوا ذوي حاجة عندنا وقال الشافعي رحمه اللّه لا يجب النفقة على غير الوالدين والمولودين وقال ابن أبي ليلى يجب النفقة على كل وارث محرما كان أو غير محرم لظاهر قوله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك ولكن قد ثبت في قراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك والشافعي يبني على أصله فإن عنده استحقاق الصلة باعتبار الولادة دون القرابة حتى لا يعتق أحد على أحد إلا الوالدان والمولودون عنده وجعل قرابة الأخوة في ذلك كقرابة بني الأعمام فكذلك في استحقاق النفقة وفيما بين الآباء والأولاد الاستحقاق بعلة الجزئية دون القرابة وحمل قوله وعلى الوارث على هي المضارة دون النفقة وذلك مروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ولكنا نستدل بقول عمر وزيد رضي اللّه عنهما فإنهما قالا وعلى الوارث أي وارث الولد مثل ذلك أي مثل ذلك الواجب الذي على الأب من النفقة والكسوة ثم نفي المضارة لا يختص به الوراث بل يجب ذلك على غير الوارث كما تجب على الوارث ولأن المراد لو كان نفي المضارة لقيل ولا الوارث واقتصر عليه أو قيل والوارث مثل ذلك فلما قال وعلى الوارث دل أنه معطوف على قوله وعلى المولود له وكذا قوله ذلك دل عليه فإنه للإشارة إلى الأبعد والمعنى فيه أن القرابة القريبة يفترض وصلها وقطعها لما ورد في ذلك من النصوص (٢/٣١٧) ومنع النفقة مع يسار المنفق وصدق حاجة المنفق عليه يؤدي إلى قطيعة الرحم ولهذا اختص له ذو الرحم المحرم لأن القرابة إذا بعدت لا يفترض وصلها ولهذا لا تثبت المحرمية بها وذلك أي لفظ الوارث بعمومه يتناول كذا لأنه اسم جنس محلى بالألف واللام فكان عاما فيتناول كل من يسمى وارثا ويتناولهم بمعناه وهو الإرث لأنه اسم مشتق من الإرث وموضع الاشتقاق علة في كل مساق لوجوب الحكم المضاف إلى الاسم لأن الموضع للاشتقاق أثر إلى الإيجاب كما في السارق والزاني فيكون الإرث علة لوجوب هذه النفقة والدليل على أن الاستحقاق بعلة الإرث أن النفقة تجب بقدر الميراث فإن قيل يفهم بسوق الكلام وجوب النفقة على الوارث فكان من باب العبارة فكيف سماه إشارة قلنا نحن نسلم أن سوقه لا يجاب النفقة ولكن لا نسلم أن سوقه لبيان أن مأخذ الاشتقاق علة لهذا الحكم فيكون بهذه النسبة إشارة وفيه أي وفي قوله وعلى الوارث فيجب بناء الحكم على معناه وهو الإرث والحكم يثبت بقدر العلة لأن الغرم بإزاء الغنم قوله وفي قوله تعالى رزقهن وكسوتهن إشارة إلى كذا قيل المراد من الآية المنكوحات بدليل ذكر الرزق والكسوة وأنهما من موجبات النكاح ألا ترى أنه تعالى ذكر الأجر في حق المطلقات فقال فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن والمراد من الرزق والكسوة فضل طعام وكسوة تحتاج إليه في حالة الإرضاع لأن أصل النفقة واجب بالنكاح وقيل المراد الوالدات المطلقات بدليل أنه أوجب ذلك على الوارث وإنما تجب على الوارث أجرة الرضاع لا نفقة النكاح فعلى هذا التأويل يكون في الآية إشارة إلى جواز استئجار الظئر بطعامها وكسوتها من غير وصف كما قاله أبو حنيفة رحمه اللّه ووجهه أن الآية سيقت لبيان وجوب أجر الإرضاع على الأب وفيها إشارة إلى أن أجرة (٢/٣١٨) الرضاع إذا كانت طعاما وكسوة لا يحتاج إلى بيان التقدير بالكيل والوزن لأنه تعالى أوجب أجرة الرضاع مع الجهالة بدليل أنه قال بالمعروف وإنما يقال هذا فيما إذا كان مجهول الصفة والنوع كما قال عليه السلام لهند خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف وما يكون معلوم القدر والصفة له بالمعروف فدل على أن الطعام والكسوة مع الجهالة يصلحان أجرة والمعنى فيه أن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لأنهم لا يمنعون الظئر في العادة كفايتها من الطعام لعود منفعته إلى ولدهم وكذلك لا يمنعونها كفايتها من الكسوة لكون ولدهم في حجرها فصار كبيع قفيز من صبرة وذكر في شرح التأويلات أنه لا بد من إعلام جنس الثياب وفي الطعام يجوز كيفما كان لأن الظئر لا تكسى كسوة الأصل وتطعم طعامهم فكانت الكسوة مجهولة جهالة تفضي إلى المنازعة بخلاف الطعام عادة قوله ومن ذلك أي ومن الثابت بالإشارة أو ومما اجتمع فيه العبارة والإشارة قوله تعالى وكلوا واشربوا الآية الخيط الأبيض طرف بياض النهار والخيط الأسود طرف سواد الليل شبه دقتهما بالخيط ومن الفجر متعلق بالخيط الأبيض والمراد تبين ضوء النهار من ظلام الليل بطلوع الفجر وهو الضوء المعترض في الأفق ونسخ ما كان قبله أي قبل الإباحة على تأويل الإحلال من التحريم فإن في ابتداء الإسلام كان الرجل إذا صلى العشاء الأخيرة أو رقد يحرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى أن تغرب الشمس من الغد وكان ذلك صوما فنسخ بهذه الآية وفيه إشارة إلى استواء الكل في الحظر قال الشافعي رحمه اللّه إذا أكل أو شرب متعمدا في نهار رمضان لا يجب عليه (٢/٣١٩) الكفارة وإنما الوجوب مختص بالجماع عامدا لأن النص ورد فيه وله مزية على غيره من محظورات الصوم لوجوه تذكر بعد فلا يمكن إلحاق الأكل والشرب به قياسا ولا دلالة لأنهما دونه فبقي وجوب الكفارة مختصا بالجماع فقال الشيخ في هذه الآية إشارة إلى استواء الكل في الحظر لأنه تعالى ذكر المباشرة والأكل والشرب ليلائم الأمر بالكف عنهما جملة بقوله ثم أتموا الصيام إلى الليل أي الكف عن هذه الأشياء فكان حظر الكل بطريق واحد لثبوته بخطاب واحد فصار الركن هو الكف عنها جملة وصارت الجملة تقايض هذا الكف كذا في الأسرار فلم يكن للجماع مزية على الأكل والشرب ولا اختصاص بالكفارة وإذا وجبت الكفارة بالجماع وجبت بالأكل والشرب دلالة لاستواء الكل في الحظر والجناية على الصوم ولا يلزم عليه الصلاة فإنها وجبت بخطاب واحد وهو قوله تعالى وأقيموا الصلاة ثم تفاوتت أركانها في القوة والمزية حتى كان السجود أقوى من الركوع والقيام ولهذا قالوا بسقوط القيام والركوع عن القادر عليهما العاجز عن السجود لأنا نقول ثبت ذلك بقوله عليه السلام أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء وقوله عليه السلام لثوبان حين سأله عن عمل يدخله اللّه به الجنة عليك بكثرة السجود ولمن سأل مرافقته في الجنة أعني على نفسك بكثرة السجود وبأن مبنى العبادة على التواضع والتذلل والسجود هو النهاية في ذلك وغير ذلك ولم يوجد فيما نحن فيه دليل يوجب مزية الجماع على غيره فكان مساويا للأكل مع أن أركان الصلاة فيما يرجع إلى ذلك الخطاب وهو الوجوب متساوية أيضا على أنا لا نسلم أن أركانها تثبت بذلك الخطاب بل ثبت كل ركن بعد وجوب أصل الصلاة مجملا بخطاب على حدة مثل قوله تعالى وقوموا للّه قانتين يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واركعوا مع الراكعين ونحوها (٢/٣٢٠) وفيه أي وفي هذا النص إشارة إلى أن النية من النهار هي التي ثبتت بالنص فإنه تعالى أباح الأفعال المذكورة إلى الانفجار ثم أمر بالصيام بعد الانفجار بقوله ثم أتموا الصيام إلى الليل وحرف ثم للتراخي فإذا ابتدأ الصيام بعده حصلت النية بعدما مضى جزء من النهار لأن الأصل اقتران النية بالعبادة فبالنظر إلى موجب هذا النص ينبغي أن لا تجوز النية من الليل لأنه لا معنى لاشتراط نية الأداء قبل وقت الأداء حقيقة والليل ليس بوقت للأداء لكنا جوزناها بالسنة وهي قوله عليه السلام لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل وهو خبر الواحد وخبر الواحد وإن كان يوجب العمل ولكن لا يجوز نسخ الكتاب به فلو قلنا بأنه لا يجوز إلا من الليل أدى إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد فقلنا بالجواز فيهما عملا بالكتاب والسنة جميعا فإن قيل كيف يستقيم هذا والنية من الليل أفضل بالاتفاق قلنا إنما صارت أفضل لما فيها من المسارعة إلى الأداء والتأهب له لا لإكمال الصوم كما أن الابتكار يوم الجمعة أولى للمسارعة لا لتعلق كمال الصلاة نفسها به وكذا المبادرة إلى سائر الصلاة أو للأخذ بالاحتياط ليخرج عن حد الخلاف قال الشيخ أبو المعين رحمه اللّه إن أبا جعفر الخباز السمرقندي هو الذي استدل بالآية على الوجه الذي ذكرنا ولكن للخصوم أن يقولوا إنه تعالى أمر بالصيام بعد الانفجار وهو اسم للركن لا للشرط وما أمر اللّه تعالى بتحصيل الشرط بعد الانفجار فلا دلالة في الآية على ما قلتم على أن الآية دليل على ما قلنا لأنه تعالى لما أمر بالصوم بعد انفجار الصبح ينبغي أن يوجد الإمساك الذي هو الصوم الشرعي عقيب آخر جزء من أجزاء الليل متصلا به بلا فصل ليصير المأمور ممتثلا وأن يكون الإمساك صوما شرعيا بدون النية فينبغي أن تكون النية مقارنة للإمساك الموجود في أول أجزاء اليوم ليكون صوما وأن يكون كذلك إلا بأحد طريقين أحدهما وجودها للحال مقارنة له والآخر وجودها في الليل لتجعل باقية حكما إلى وقت انفجار الصبح فتصير مقارنة في أول أجزاء النهار فإذن كانت الآية دليلا لنا هكذا ذكر في طريقته وفي كذا إشارة إلى أن الجنابة لا تنافي الصوم لأن المباشرة لما كانت مباحة إلى آخر جزء من الليل فالاغتسال يكون بعد الفجر يكون ضرورة وإلا وجب أن تحرم المباشرة قبل آخر الليل بمقدار ما يسع للغسل فيكون ردا لما ذهب إليه بعض أصحاب الحديث أن الجنابة تمنع صحة الصوم معتمدين على حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه من أصبح جنبا فلا صوم له قاله محمد ورب الكعبة مع أن هذا (٢/٣٢١) الحديث معارض بحديث عائشة رضي اللّه عنها كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصبح جنبا من غير احتلام ثم يتم صومه وذلك في رمضان ومؤول بأن المراد من أصبح بصفة توجب الجنابة وهي أن يكون مخالطا لأهله فلا صوم له قوله قوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين الضمير يرجع إلى ما في بما عقدتم أي فكفارة نكث ما عقدتم والكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة ثم أنها تتأدى بطعام الإباحة غداء وعشاء من غير تمليك عندنا وهو مذهب علي رضي اللّه عنه فإنه قال في تفسير الآية لكل مسكين غداؤه وعشاؤه وإليه ذهب محمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة ومالك والثوري والأوزاعي وقال الشافعي رحمه اللّه عليه لا يتأدى إلا بالتمليك وهو مذهب سعيد بن جبير فالشافعي يقول الإطعام يذكر للتمليك عرفا فإن من قال لآخر أطعمتك هذا الطعام كان بمنزلة قوله وهبته لك حتى إذا سلمه إليه صار ملكا له وإنما يكون إباحة إذا قال أطعمتك هذا الأرض لأن عينها لا تطعم فينصرف إلى منافعها التي تطعم معنى بالزراعة مجازا ولأن المقصود سد خلة المسكين وإغناؤه وذلك يحصل بالتمليك دون التمكين فلا يتأدى الواجب به كما في الزكاة وصدقة الفطر ألا ترى أن في الكسوة التي هي أحد أنواع التكفير لا تتأدى بالتمكين والإباحة حتى لو أعار المساكين ثيابا بنية الكفارة فلبسوا لا يجوز فكذا الطعام وعلماؤنا رحمهم اللّه تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنها تشير إلى أن الأصل في الإطعام الإباحة لأن حقيقته للتمكين لا للتمليك فإن الإطعام فعل متعد أي إلى مفعولين مطاوعه أي لازمه طعم يطعم لأنه متعد إلى مفعول واحد فكان بمنزلة اللازم بالنسبة إليه وقد بينا هذا في باب موجب الأمر والطعم الأكل فبإدخال الهمزة فيه يصير متعديا إلى مفعول آخر ولكنه لا يصير شيئا آخر بمنزلة الإجلاس من الجلوس والإدخال من الدخول فكان معنى الإطعام جعل الغير طاعما أي آكلا فعرفنا أن صحة التكفير يتعلق بفعل يصير هو به مطعما ويصير الغير به طاعما وذلك يحصل بالإباحة والتسليط على الطعام ولكن بشرط أن يطعم المسكين ليتم فعله إطعاما ويحصل به إتلاف الطعام عينه ويتم زواله عن ملكه وأن التمليك أمر زائد على الكتاب فلا يصار إليه من غير حاجة وضرورة ألا ترى أن من قدم الطعام إلى غيره واستوفى الغير منه صح أن يقال أطعمه ولا (٢/٣٢٢) يشترط الزيادة والدليل عليه أنه تعالى قال من أوسط ما تطعمون أهليكم والمتعارف من إطعام الأهل طعام الإباحة دون التمليك وأنه حل ذكره أضاف الإطعام إلى المساكين والمسكنة هي الحاجة وحاجة المسكين إلى الطعام في أكله دون تملكه فكان إضافة الإطعام إلى المساكين دليلا على أن المراد هو الفعل الذي يصير المسكين به طاعما دون التمليك وكذا التمليك أقرب إلى دفع الجوع وسد المسكنة من تمليك حنطة لا يصل إليها إلا بعد طول المدة وتحمل المؤنة وكان ينبغي أن لا يجوز التمليك كما ذهب حمدان بن سهل وداود بن علي الأصبهاني لما ذكرنا أن الإطعام لازمه الطعم وهو الأكل دون الملك وفي التمليك لا يوجد حقيقة الإطعام لجواز أن لا يطعمه المسكين وإنما يوجد ذلك في التمكين لأنه لا يتم إلا بأن يطعم المسكين والكلام محمول على حقيقته إلا أنا جوزنا التمليك لما قلنا إن المقصود سد خلة المسكين والإطعام قضاء حاجة واحدة وهي حاجة الأكل وله حوائج كثيرة والملك سبب لقضاء الحوائج وهي أمر باطن فأقيم الملك مقام قضاء الحوائج فكان التمليك بمنزلة قضاء الحوائج كلها تقديرا ألا ترى أن التمليك إلى الفقير في باب الزكاة قام مقام دفع حوائجه لما عرف في مسألة دفع القيم فثبت أن الإباحة بمنزلة الجزء من التمليك فكان الجواز فيه ثابتا بالطريق الأول ولقائل أن يقول التمليك سبب لقضاء الحوائج جملة أم على سبيل البدل فإن أردت الأول فلا نسلم أن تمليك منوين من البر سبب لقضاء جميع الحوائج وإن أردت الثاني فلا نسلم أن الإباحة جزء منه لأنه على تقدير أن يصرفه إلى حاجة لا يمكن صرفه إلى غيرها فكيف يكون شاملا لدفع حاجة الأكل وذكر في شرح التأويلات أن التمليك إنما جاز لأنه طريق يتوصل به إلى التطعم والأكل وتمكين لذلك فأقيم مقامه بطريق التيسير والضمير في مقامها وعنها راجع إلى قضاء الحوائج والتأنيث لتأنيث المضاف إليه فاستقام تعديته أي تعدية حكم النص بطريق الدلالة هو مشتمل على هذا المنصوص عليه وهو الإطعام الذي يدل على الإباحة وغير المنصوص عليه من قضاء حاجة الدين وأجرة المسكن وشراء الثوب وغيرها فإن قيل التمليك مراد بالاتفاق وهو مجاز فينبغي أن تتنحى الحقيقة قلنا إنما جوزنا التمليك بدليل النص لا بعينه لأن المقصود (٢/٣٢٣) من الإطعام رد الجوعة وهو بالتمليك أتم لأنه بردها متى شاء والعمل بدليل النص لا يمنع حقيقته كحرمة الشتم الثابتة بدليل النص لا يمنع التأفيف قوله الكسوة كذا ذكر في المغرب الكسوة اللباس وفي الصحاح الكسوة واحدة الكسى وإذا كان الكسوة اسما للثوب ونفس الثوب لا يكون كفارة لأنها اسم لنوع عبادة وهي اسم لفعل العبد احتجنا إلى زيادة فعل يصير الثوب به كفارة كما في الزكاة فإن الشاة لا تكون عبادة بنفسها فزدنا فعلا صارت الشاة به عبادة وصدقة وهو الإيتاء ثم الفعل قد يكون تمليكا وقد يكون إتلافا بلا تمليك كالتحرير والكسوة لا تصير كفارة بالإتلاف لأنها لا تبقى بعده كسوة واللّه تعالى سمى الكسوة وهي ثياب يكتسى فلم يبق إلا التمليك وإذا أعارهم الثوب فما فيها تمليك ثوب ولا إتلافه فلا يصير المحل كفارة بل فيها تمليك المنفعة واللّه تعالى لم يجعل المنافع كفارة إنما جعل الثوب كفارة فأما الإطعام فإتلاف للطعام بالأكل فيصير الطعام بالإطعام خارجا عن ملكه على سبيل التلف بالفقير وذلك القدر من الفعل يصلح فعل تكفير كالتحرير فلم يضطر إلى الزيادة عليه كذا في الأسرار وأما إذا قال أطعمتك هذا الطعام فإنما يجعله هبة مجازا بدلالة الحال لأنا متى جعلناه حقيقة كان كاذبا لأنه لا يسمى مطعما إلا بأن يصير الطعام مأكولا وأنه جعل الطعام مفعول إطعامه فمتى كان الطعام قائما لا يكون مفعول الأكل ويصلح مفعول التمليك مع قيامه فجعل كناية عنه وتحقيقه أن الإطعام متعد إلى مفعولين وتأثيره في المفعول الأول يجعله طاعما كما بينا وفي المفعول الثاني إذا كان يطعم عينه يجعله مملوكا للطاعم لأنه تصرف في العين ولا يمكن أن يجعل تصرفا فيها يجعلها مطعومة للطاعم لأن الطعم فعل اختياري منه فلم يصلح أن يثبت بالإطعام من غير اختيار فيجعل تصرفا فيها بالتمليك الذي هو سبب الطعم ومفض إليه ولم تجعل إباحة وإن صلحت سببا للطعم لأنها ليست بتصرف في العين ولأنها قد حصلت بجعل المفعول الأول طاعما إذ أدنى طرقه الإباحة فلا بد من زيادة تأثير له في الثاني وذلك بالتمليك فتبين بهذا أنه إذا ذكر كلا مفعوليه كان دالا على التمليك فأما إذا (٢/٣٢٤) حذف المفعول الثاني منه فقد انقطع عمله عنه بالكلية وصار كأن ليس له مفعول ثان على ما عرف في مسألة فلان يعطي ويمنع في علم المعاني فلم يصح أن يجعل تمليكا لعدم محله بل يكون معناه جعل الغير طاعما لا غير لاقتصار عمله على المفعول الأول وذلك يحصل بالإباحة ففي النصوص حذف المفعول الثاني لأن فيها ذكر المساكين لا ذكر ما يدفع إليهم فلا يدل الإطعام فيها على التمليك فجعل إباحة فأما في قولك أطعمتك هذا الطعام فكلا مفعوليه مذكور فيصح أن يجعل بمعنى التمليك فلذلك جعلناه هبة فإن قيل الكسوة بالكسر مصدر أيضا يقال كساه كسوة بالفتح والكسر كذا ذكره صاحب الكشاف والنظيري وفي تاج المصادر الكسوة بوشانيدن وذكر في التيسير في قوله تعالى أو كسوتهم أن معناه الإلباس وهي مصدر وإذا كان كذلك كان الفعل ههنا منصوصا عليه أيضا ومع ذلك لم يتأد بالإعارة فكذا في الطعام لا يتأدى بالإباحة قلنا إن ثبت هذا كان هذا اللفظ مشتركا بين الإلباس واللباس وعلى تقدير كون اللباس مرادا منه لا يجوز فيه إلا التمليك وعلى تقدير كونه مصدرا فكذلك لأن المقصود وهو دفع الحاجة وزوال ملك المكفر لا يحصل بالإعارة بخلاف الإطعام على ما بينا وهذا أي الإطعام يخالف الكسوة وهو مع ذلك الضمير عائد إلى ما مع ذلك أي مع كونه جزءا من الجملة قاصر عن دفع حاجة المسكين لأن الإعارة منقضية أي منتهية تامة قبل الكمال أي قبل كمال دفع الحاجة وحصول المقصود من دفع الحر والبرد ونحوه لأنه لو استرده بعدما لبسه المسكين يوما مثلا كانت الإعارة منتهية مع بقاء الحاجة فلا يجوز تعدية الجواز من التمليك إليها فإنها لو كانت كاملة في دفع الحاجة لا يجوز التعدية لكونها جزءا من الكل فكيف إذا كانت قاصرة بخلاف الإباحة في الطعام لأنها لا تتم إلا بالأكل الذي به يتم دفع الحاجة ولا يمكن رده بوجه فهما في طرفي نقيض أي الإعارة في الثوب والإباحة في الطعام لو كانتا متساويتين لكانتا متناقضتين أي مخالفتين من حيث إن الإباحة في الطعام كل المنصوص والإعارة في الثوب جزء المنصوص ولم يلزم من عدم الجواز في أحدهما عدمه في الآخر (٢/٣٢٥) فكيف إذا كانتا متفاوتتين باعتبار كمال حصول المقصود في الإباحة وقصوره في الإعارة ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الإطعام والكسوة أي الكسوة تخالف الإطعام من حيث أن المنصوص عليه في الكسوة العين وفي الإطعام الفعل أو من حيث إنه يمكن إلحاق التمليك بالإباحة في الإطعام ولا يمكن عكسه في الكسوة مع التفاوت الذي بينا أن الإباحة لا يؤدي معنى التمليك ههنا والتمليك يؤدي معنى الإباحة هناك ويجوز أن يكون راجعا إلى الإباحة والتمليك في الكسوة أي كل واحد منهما مخالف للآخر لا موافق لأن المنصوص عليه كل والآخر جزء مع التفاوت الذي بينا من حصول المقصود بالتمليك دون الإعارة بخلاف الطعام لأنهما فيه متوافقان على ما بينا في الفرع والأصل معا غلطا أما في الفرع فلأنه قاس في المحل المنصوص عليه على خلاف ما اقتضاه النص ومن شرط صحة القياس أن لا يكون الفرع منصوصا عليه وأما في الأصل وهو الكسوة فلأن المنصوص عليه فيه العين دون الفعل الذي هو تمليك وإنما ثبت التمليك ضرورة صيرورة العين كفارة وتعدية ما ليس بمنصوص في الأصل وهو التمليك إلى الفرع لا سيما إذا كان منصوصا عليه غير مستقيم فكان غلطا ثم المعتبر في الإباحة أكلتان مشبعتان مما يكون معتادا في كل موضع الغداء والعشاء أو الغداءان أو العشاءان لأن المعتبر حاجة اليوم وذلك بالغداء والعشاء عادة ولأنه تعالى قال من أوسط ما تطعمون أهليكم والغداء والعشاء هو الوسط من حيث المرة لأن الأقل هو المرة التي تسمى وجبة وهي في ذلك وقت الزوال إلى اليوم الثاني والأكثر ثلاث مرات غداء وعشاء ونصف النهار فكان الوسط ما ذكرنا ألا ترى أنه تعالى وصف طعام أهل الجنة بذلك فقال ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا قوله وفيه أي وفي هذا النص إشارة إلى كذا إذا صرف الطعام إلى مسكين واحد في عشرة أيام جاز عندنا وقال الشافعي رحمه اللّه لا يجوز لأن الواجب عليه بالنص إطعام عشرة مساكين والمسكين الواحد بتجدد الأيام والحاجة لا يصير عشرة مساكين كالشاهد الواحد لا يصير شاهدين بتكرار الأداء وقلنا نحن في هذه الآية إشارة إلى الجواز كما قرر الشيخ في الكتاب صاروا مصارف بحوائجهم لأن الكفارة حق خالص للّه تعالى وجبت بهتك حرمته خالصة للّه تعالى فلم يكن الفقير مستحقا لها بحال وإنما يأخذها عن اللّه تعالى برزقه لحاجته كما في الزكاة فعرفنا أنهم صاروا مصارف صالحة لأداء الكفارة (٢/٣٢٦) باعتبار الحاجة كما في الزكاة ثبتت هذه الإشارة بالفعل أي بإيجاب الفعل وهو الإطعام لأن إطعام الطاعم الغني أي إطعام من قد طعم واستغنى عن الأكل لا يتحقق إذ لا بد للإطعام من الحاجة إلى الأكل فثبت أن الواجب إطعام الجائع لما كان إطعام الشبعان متعذرا وإن صرف الطعام إليهم باعتبار الحاجة لا لأعيانهم وإن ذكر العدد لبيان عدد الحوائج فعرفنا أن الواجب في الحقيقة قضاء عشر حاجات وثبت أيضا أي وثبت أنهم صاروا مصارف لحوائجهم بالنسبة إلى المساكين أي بإضافة الواجب وهو الإطعام إلى المساكين لأنه نص على صفة تنبئ عن الحاجة في المصروف إليه وهي المسكنة فدل ذلك أي دل ما ذكرنا من أن المقصود قضاء الحوائج لا أعيان المساكين على كذا وذكر في شرح التأويلات أن التخصيص بالدفع إلى عشرة مساكين ليتمكن من الخروج عن الذي ارتكب بأسرع الأوقات فإنه لو لم يجز التفريق على المساكين في يوم ربما عجلته منيته فيبقى ذنبه غير مكفر لا أن ذلك يفوت المعنى الذي يقع به التكفير أو يوجب خللا فيه فلا يمنع الجواز إلى مسكين عشرة أيام على أن هذا دفع إلى عشرة مساكين لأنه مسكين في كل يوم بتجدد الحاجة كالرأس الواحد والنصاب الواحد يصير متعددا بتجدد المؤنة والنماء وثبت بما ذكرنا أنه مفارق للشهادة لأن المعنى الذي يحصل بالعدد وهو طمأنينة القلب وتقليل تهمة الكذب لا يحصل بتكرار الواحد شهادته فلا يحصل المقصود يوضح ما ذكرنا أن أربعة أمناء من شعير لما صلحت أن يصير أربعين منا تقديرا بأن يؤديها إلى الفقير ثم يستردها منه بشراء أو هبة ثم يؤديها إلى فقير آخر ثم هكذا إلى أن تتم الكفارة جاز أيضا أن يصير المسكين الواحد في اليوم الثاني مسكينا آخر حكما لما عرف أن لتجدد الوصف تأثيرا في تبدل العين فإن قيل هذا أي عدد الحوائج كاملة في عشرة أيام لا يوجد في كسوة مسكين عشرة أثواب إلى آخره أجاب شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه عن هذا السؤال بأن حقيقة الحاجة أمر باطن لا يوقف عليها فسقط اعتبارها ووجب إقامة سبب ظاهر مقامها (٢/٣٢٧) وقد وجدنا في الطعام سببا ظاهرا لتحقق الحاجة وهو تجدد اليوم فإنه سبب لتجدد الحاجة إلى الطعام غالبا فأقمناه مقامه وفي الكسوة لا يتجدد الحاجة بمضي اليوم ونحوه إلا أن قدر ما يتجدد به الحاجة إليه غير معلوم لأنه مما يتفاوت فيه الناس ولا بد من سبب ظاهر يقام مقام تجدد الحاجة فأقمنا تجدد اليوم مقامه لأنه أقيم في نظيره وهو الطعام مقام تجدد الحاجة فيقام مقامه في الكسوة أيضا وأن يوجد في الكسوة ما يوجد في الطعام قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه ولما لم يكن مدة تجدد الحاجة إلى الكسوة معلومة شرط نفس التفريق بأقل ما تيسر العبادة عنه وذلك بالأيام لأن ما دونها ساعات غير معلومة حتى قال متعلق بقوله صار هالكا وكذا قوله لما قلنا راجع إليه أيضا للعشرة أي للأثواب العشرة إلا أنه أي الزمان الذي اعتبروه وفي بعض النسخ أنها أي الساعات غير معلومة أي غير مضبوطة وكذلك الطعام في حكم التمليك مثل الثوب فيجوز التفريق في يوم واحد في عشر ساعات عند ذلك البعض قال شمس الأئمة في المبسوط ولم يذكر أي محمد ما لو فرق الفعل أي الإطعام في يوم واحد ولا إشكال في طعام الإباحة أنه لا يجوز إلا بتجدد الأيام لأن الواحد لا يستوفى في اليوم الواحد طعام عشرة فأما في التمليك فقد قال بعض مشايخنا يجوز لأن التمليك أقيم مقام حقيقة الإطعام والحاجة بطريق التمليك ليس لها نهاية فإذا فرق الدفعات جاز ذلك في يوم واحد كما يجوز في الأيام واستدلوا على هذا بما ذكرنا في كتاب الإيمان أنه لو كسا مسكينا واحدا في عشرة أيام كسوة عشرة مساكين أجزأه لتفرق الفعل وإن انعدم تجدد الحاجة في كل يوم وأكثرهم قالوا لا يجوز لأن المعتبر سد الخلة ولهذا لا يجوز صرفه إلى الغني لأنه طاعم يملكه وإطعام الطاعم لا يتحقق وبعدما استوفى في وظيفته في هذا اليوم لا يحصل سد خلته بصرف وظيفة أخرى في هذا اليوم إليه بخلاف كفارة أخرى لما سنذكر وبخلاف الثوب لما ذكرنا أن تجدد الأيام فيه أقيم مقام تجدد الحاجة تيسيرا ولا يلزم إلى آخر (٢/٣٢٨) تقرير السؤال أنه إذا قبض كسوتين من واحد في ساعة واحدة لا يجوز عن الكسوتين لأن تملك أحدهما حصل قضاء حوائجه فلم يجز الآخر وهذا المعنى موجود فيما إذا قبض كسوتين من رجلين في ساعة واحدة ومع ذلك يجوز فقال أو آكل واحد في حق صاحبه في حكم العدم لأنه فقير في حقه فلم يوجد في حق المؤدي إلا كسوة واحدة لأن كلا مكلف بفعله لا بفعل غيره فلم يؤخذ بالتفريق أي لم يكلف المؤدي بالتفريق بين الفعلين بأن يعطيه في حال لا يعطيه غيره بخلاف الواحد لأنه فعله فيكلف بالتفريق قوله وأما دلالة النص أي الثابت بدلالة النص بدليل قوله فما ثبت بمعنى النص لغة قال الشيخ في نسخة أخرى ولا نعني به المعنى الذي يوجبه ظاهر النظم فإن ذلك من قبيل العبارة وإنما نعني به المعنى الذي أدى إليه الكلام كالإيلام من الضرب فإنه يفهم من اسم الضرب لغة لا شرعا بدليل أن كل لغوي يعرف ذلك المعنى ثابتا بالضرب لغة وذكر أيضا في بعض مصنفاته دلالة النص ما يعرفه أهل اللغة بالتأمل في معاني اللغة مجازها وحقيقتها وقد ذكرنا تعريف دلالة النص في أول الكتاب فلا نعيده وإنما نعني بهذا أي بمعنى النظم ما ظهر من معنى الكلام كلمة من لابتداء الغاية لا للبيان أي تبين وفهم ذلك المعنى من المعنى اللغوي للكلام لا من اللفظ نفسه وهو راجع إلى ما ولغة متعلقة بالمقصود لا بظاهره أي ذلك المعنى المفهوم من المعنى اللغوي يكون مقصودا لغة بظاهر الكلام وإن لم يوضع له الكلام مثل الضرب اسم لفعل بصورة معقولة أي معلومة وهو استعمال آلة التأديب في محل صالح للتأديب ومعنى مقصود وهو الإيلام فإن المقصود من هذا الفعل ليس إلا الإيلام ولهذا لو حلف لا يضرب فلانا فضربه بعد موته (٢/٣٢٩) لا يحنث لفوات معنى الإيلام هو المقصود ثم استعمال آلة التأديب هو المعنى اللغوي الذي دل عليه اللفظ بالوضع ومعنى الإيلام هو المفهوم لغة من ذلك المعنى اللغوي لا من اللفظ فإنه لم يوضع للإيلام فالثابت بمعنى الإيلام ثابت بدلالة النص وكذا التأفيف اسم لفعل بصورة معلومة وهو إظهار التبرم والسآمة بالتلفظ بكلمة أف ومعنى مقصود وهو الإيذاء فإظهار التبرم هو المعنى الذي وضع له اللفظ والإيذاء هو المعنى المفهوم من ذلك المعنى الموضوع له فالثابت به هو الثابت بدلالة النص ثم من المعلوم أن الحرمة متعلقة بالإيذاء لا بصورة التأفيف لأنه هو المقصود والإيذاء في الضرب والشتم والقتل فوق الإيذاء في التأفيف فتثبت الحرمة فيها بمعنى النص لغة وكان النص بمعناه دالا على تحريمها ولذلك سمي دلالة النص لا عين النص لأن النص لم يتناولها لفظا لكن لما كان المعنى الذي تعلق الحكم به ثابتا بالنص لغة كان الحكم الثابت به مضافا إلى النص كأن النص تناوله إلا أنه أي هذا القسم وهو الدلالة عند التعارض دون الإشارة لأن في الإشارة وجد النظم والمعنى اللغوي وفي الدلالة لم يوجد إلا المعنى اللغوي فتقابل المعنيان وبقي النظم سالما عن المعارضة في الإشارة فترجحت بذلك ومثال تعارض الدلالة والإشارة ما قال الشافعي رحمه اللّه إن الكفارة تجب في القتل العمد لأنها لما وجبت في القتل الخطإ للجناية مع قيام العذر بقوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة الآية لأن تجب بالعمد ولا عذر فيه كان أولى ويعارضها قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها فإنه يشير إلى عدم وجوب الكفارة فيه وذلك لأنه تعالى جعل كل جزائه جهنم إذ الجزاء اسم للكامل التام على ما مر بيانه فلو وجبت الكفارة معه كان المذكور بعض الجزاء فلم يكن كاملا تاما ألا ترى أن في جانب الخطأ لما وجبت الدية مع الكفارة جمع بينهما فقال فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله فعرفنا بلفظ الجزاء أن من موجب النص انتفاء الكفارة فرجحنا الإشارة على الدلالة حتى صح متعلق بقوله مثل النابت بالإشارة والعبارة الاستثناء معترض ومثال إثبات الحدود بها إيجاب حد قطاع الطريق على الردء لأن عبارة النص المحاربة وصورة ذلك بمباشرة القتال ومعناها لغة قهر العدو والتخويف على وجه ينقطع به الطريق وهذا معنى معلوم بالمحاربة لغة والردء مباشر لذلك كالمقاتل ولهذا اشتركوا في الغنيمة فيقام الحد على الردء بدلالة النص وإيجاب الرجم على غير ماعز فإنه روي أن ماعزا زنى وهو محصن فرجم ومعلوم أنه لم يرجم لأنه ماعز وصحابي بل لأنه زنى في حالة الإحصان فيثبت هذا الحكم في حق غيره بدلالة النص (٢/٣٣٠) قوله ولم يجز بالقياس إثبات الحدود والكفارات بالقياس لا يجوز عندنا وعند الشافعي رحمه اللّه يجوز لأن القياس من دلائل الشرع فيجوز أن يثبت به الحدود والكفارات كما يثبت بالكتاب والسنة ولأن الدلائل التي قامت على صحة القياس لا تفصل بين موضع وموضع فصح استعماله في كل موضع إلى أن يمنع مانع ولم يوجد ولنا أن الكفارات شرعت ماحية للآثام الحاصلة بارتكاب أسبابها وفيها معنى العقوبة والزجر أيضا لما عرف وكذا الحدود شرعت عقوبة وجزاء على الجنايات التي هي أسبابها وفيها معنى الطهرة أيضا بشهادة صاحب الشرع ولا مدخل للرأي في معرفة مقادير الأجرام وآثامها ومعرفة ما يحصل به إزالة آثامها ومعرفة ما يصلح جزاء لها وزاجرا عنها ومقادير ذلك فلا يمكن إثباتها بالقياس الذي مبناه على الرأي بخلاف الاستدلال فإن مبناه على المعنى الذي تضمنه النص لغة فيكون مضافا إلى الشرع ولأن الحدود مما يندرئ بالشبهات فلا يجوز إثباتها بالقياس الذي فيه شبهة بخلاف الاستدلال لأن المعنى الذي تعلق الحكم به لما صار مضافا إلى الشرع انتفت عنه الشبهة فيجوز إثباتها به وإنما نعني بالشبهة المانعة اختلال المعنى الذي يتعلق به الحدود والكفارات في نفسه لا الشبهة الواقعة في طريق دليل الثبوت لأنها لا تمنع لاتفاق أكثر الناس على التعلق بإخبار الأحاد في الحدود والكفارات ولإجماعهم على صحة إثبات أسباب الحدود في مجالس الحكام بالبينات وإن صدرت عمن ليس بمعصوم عن الكذب والغلط والخطأ والنسيان قوله مثاله أي مثال الثابت بالدلالة وقوله دون القياس رد لما ادعى أصحاب الشافعي علينا وقالوا إنكم أنكرتم صحة المقايسة في الكفارات ثم أثبتم الكفارة في الأكل والشرب بالقياس على الواقع فكان ذلك منكم مناقضة قال ما أثبتناه بالقياس بل بدلالة النص وحديث الأعرابي ما روي أن أعرابيا جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ينتف شعره ويقول هلكت وأهلكت فقال ماذا صنعت فقال واقعت أهلي في نهار رمضان متعمدا فقال أعتق رقبة فضرب بيده على صفحة عنقه وقال لا أملك إلا رقبتي هذه فقال عليه السلام صم شهرين متتابعين فقال هل أتيت ما أتيت إلا من الصوم فقال أطعم ستين مسكينا فقال لا أجد فقال اجلس فجلس فأتي بصدقات بني زريق فقال خذ خمسة عشر صاعا فتصدق بها على المساكين فقال أعلى أهل بيت أحوج إليها مني ومن عيالي واللّه ما بين لابتي المدينة أحوج إليها مني ومن عيالي فقال عليه السلام كلها أنت وعيالك وزيد في بعض الروايات يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك (٢/٣٣١) بيانه أي بيان أنها ثابتة بالدلالة لا بالقياس أن سؤال الأعرابي وهو قوله واقعت امرأتي في نهار رمضان وقع عن الجناية على الصوم بدليل قوله هلكت وأهلكت ومعلوم أن المواقعة عينا لم تكن جناية لأنها وقعت على محل مملوك فإنه قد نص على مواقعة امرأته لكنها في ذلك الوقت تؤدي إلى معنى آخر وهو الجناية على الصوم يفهم هذا من ذلك الكلام لغة لأنه لما اشتهر فريضة الصوم في رمضان واشتهر أن معناه الإمساك عن اقتضاء الشهوتين عرف كل أحد من أهل اللسان أن المواقعة في ذلك الوقت جناية على الصوم وأن المقصود من السؤال حكم الجناية فكان المفهوم من قوله واقعت في نهار رمضان لغة الإفطار كما أن المفهوم من قوله تعالى فلا تقل لهما أف المنع عن الإيذاء ثم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أجاب عن السؤال فكان جوابه بيانا لحكم الجناية الذي هو الغرض من السؤال لأن الجواب يكون مبنيا على السؤال خصوصا عن أفصح العرب والعجم لا بيان نفس الوقاع فإنه ليس بمقصود بل هو آلة للجناية ثم معنى الجناية على الصوم في الأكل والشرب أكثر منه في الوقاع فيثبت الحكم فيهما بذلك المعنى بعينه وبيان ذلك أن الصوم اسم لفعل له صورة ومعنى أما الصورة فهي الإمساك عن اقتضاء الشهوتين وأما المعنى فقهر عدو اللّه تعالى بمنعه عن الشهوات ومنعه من شهوة البطن أشد قهرا له من منعه عن شهوة الفرج لأن دعاءه إليها أكثر وشهوة الفرج تابعة لها ولهذا شرع الصوم في النهار التي هي وقت اقتضاء هذه الشهوة غالبا فكان الامتناع عن هذه الشهوة هو الأصل في الصوم والامتناع عن الأخرى بمنزلة التبع وكانت الجناية على الصوم بالأكل والشرب أفحش لورودها على معنى هو المقصود الأصلي في الباب من الجناية بالوقاع لورودها على معنى هو جار مجرى التبع ولما كانت الجناية على التبع موجبة للكفارة كانت الجناية على ما هو المقصود أولى لكونها أقوى بمنزلة الضرب والشتم من التأفيف فتبين أنا أثبتنا الكفارة في الأكل والشرب بالدلالة لا بالقياس فإن قيل الثابت بالدلالة هو الذي يصير معلوما بمعنى اللغة بمجرد السماع فيكون الفقيه في إصابته وغيره سواء ثم ههنا وجوب الكفارة بالأكل مما يشتبه على الفقيه المبرز العالم بطرق الفقه بعد أن بلغه حديث الأعرابي فضلا عن غيره فكيف يكون هذا من باب الدلالة قلنا الشرط في الدلالة أن يكون المعنى الذي تعلق به الحكم ثابتا لغة بحيث يعرفه أهل اللسان فأما أن يكون الثابت بهذا المعنى في غير موضع النص مما يعرفه أهل (٢/٣٣٢) اللسان فليس بشرط وقد بينا أن معنى الجناية في سؤال الأعرابي ثابت لغة مفهوم لأهل اللسان بلا شك فيكون من باب الدلالة إلا أن الثابت بذلك المعنى في غير موضع النص وهو الكفارة في المتنازع فيه وقد اشتبه على البعض بناء على أن تعلق الحكم بنفس معنى الجناية أم بالجناية المقيدة بالآلة المعينة وهي الوقاع لا لخفاء معنى الجناية فلا يقدح ذلك في كونه من باب الدلالة فصار الحاصل أن الثابت بالدلالة قد يكون ظاهرا كحرمة الضرب الثابتة بنص التأفيف وقد يكون خفيا كثبوت الكفارة في المتنازع فيه بمنزلة الثابت بالإشارة وقد يكون ظاهرا وخفيا فأما المعنى الذي تعلق به الحكم فلا بد من أن يكون ظاهرا يعرفه أهل اللسان وإلا كان قياسا لا دلالة فإن قيل لا يمكن إلحاق الأكل والشرب بالجماع بالدلالة إلا بإثبات التسوية بين البابين إذ لا بد فيها أن يكون المعنى الموجب في غير المنصوص مثله في المنصوص عليه أو فوقه وليس كذلك ههنا لأن للوقاع مزية في معنى الجناية على الأكل والشرب من وجوه أحدها أن حرمة الفعل تتفاوت بتفاوت احترام المحل فإن إتلاف النفس المعصومة أشد حرمة من إتلاف المال المعصوم لكون الآدمي أشد احتراما من المال ولمنافع البضع حرمة الآدمي لكونها سببا لحصوله ولهذا كانت الجناية عليها موجبة قتل النفس لذي الإحصان والألم الشديد عند عدمه فكانت الجناية بالوقاع أشد حرمة من الجناية بالأكل فلا يمكن إلحاقه به وثانيها أن الجناية بالجماع واردة على الصوم والجناية بالأكل غير واردة عليه لأن الجماع محظور الصوم والأكل نقيضه لأن معنى الصوم هو الامتناع عن معتاد الأكل والشرب فأما الامتناع عن الجماع فتابع على ما مر فصار الركن في الباب هو الإمساك عن الأكل والشرب فصار ذلك نقيضا له فأما الامتناع عن الجماع فمحظور إذ الصوم ليس هو الإمساك عنه معنى كما في الاعتكاف الخروج عن المسجد نقيضه لأنه مناف للبث والجماع محظوره غير أن الصوم يفسد بالمحظور كما يفسد بالمناقض ثم الجناية على العبادة بالمحظور فوق الجناية عليه بالنقيض لأن الجناية بالمحظور ترد على العبادة فإنها تبقى عند ورود المحظور عليها لعدم المضادة فيرد عليها الجناية ثم تبطل بعد ذلك فأما ورود الجناية عليها بالنقيض فغير متصور لأن النقيض لا يرد على العبادة فإن وجود أحد الضدين يمنع تحقق الآخر فلا يتصور بقاؤها عند وجود النقيض فتنعدم العبادة سابقة (٢/٣٣٣) على وجود النقيض ثم يوجد النقيض ولهذا قلت من أصبح مجامعا لأهله تلزمه الكفارة لأن الجماع لا يمنع من انعقاد الصوم لكونه محظورا فيه لا نقيضا فينعقد ثم ينعدم بعد وجوده كما لو أحرم مجامعا لأهله فصار في التحقيق طاريا عليه وإن كان مقارنا له في الصورة ولا شك أن الجناية الواردة على العبادة الموجبة لإبطالها فوق الجناية التي لم تصادف العبادة وثالثها أن الجماع فعل يوجب فساد صومين صوم الرجل وصوم المرأة لو كانت صائمة ولهذا قال الأعرابي هلكت وأهلكت والأكل والشرب لا يوجب إلا فساد صوم واحد فكان الجماع أقوى ورابعا أن في الجماع داعيين طبع الرجل وطبع المرأة وفي الأكل داع واحد وهو طبع الأكل فشرع الزاجر فيما له داعيان لا يكون شرعا فيما له داع واحد كما قال أبو حنيفة رحمه اللّه في اللواطة مع الزنا وخامسها أن غلبة الجوع متى تناهت أباحت الإفطار فبوجود بعضها وجد بعض المبيح فيورث شبهة الإباحة فلا يصلح موجبا للكفارة وفي الجماع لو تناهى الشبق لا يوجب الإباحة فوجود بعضه لا يورث شبهة فصلح موجبا للكفارة أجيب عن الأول بأنا لا نسلم أن منافع البضع أشد احتراما من الطعام ولكن الحرمة التي شرعت الكفارة لها هي حرمة إفساد الصوم لا حرمة إتلاف منافع البضع لأن إتلاف منافع بضع مملوكة للرجل ليس بمحرم وإنما المحرم هو إفساد الصوم ولو كانت المنافع غير مملوكة بأن زنى لا ينمحي حرمة إتلافها بالكفارة ولو زنى ناسيا للصوم لا كفارة عليه لأن إتلاف المنافع وإن وجد فإفساد الصوم لم يوجد وفي الطعام إيجابها عندنا لهذه الجناية أيضا لا لحرمة إتلاف الطعام فإنه لو أكل طعام نفسه تجب الكفارة مع أنه لم يوجد حرمة التناول ولو أكل طعام غيره ناسيا للصوم لا يجب الكفارة مع حرمة التناول فعرفنا أنهما مستويان في معنى الجناية وعن الثاني بأن ذلك دعوى ممنوعة بل الجماع نقيض الصوم لما بينا أن الصوم هو الإمساك عن اقتضاء الشهوتين جميعا لإباحة اللّه تعالى الكل بالليل وأمره بالامتناع عن الكل في النهار فيفوت الصوم بوجود كل واحد منهما على الكمال وكون الامتناع عن (٢/٣٣٤) قضاء شهوة البطن أصلا لا يمنع من استوائهما في تفويت الصوم وإفساده لما بينا والمأثم إفساد الصوم وقد استويا في الإفساد فيستويان في المأثم وعن الثالث بأن الكفارة إنما تجب عليه بالجماع بفعله وفعله لا يوجب عليه إلا فساد صومه وإنما فسد صومها بفعلها وهو قضاء شهوتها ولهذا وجبت عليها الكفارة أيضا كما وجب عليها الحد بالتمكين في باب الزنى ألا ترى أنها لو لم تكن صائمة أو كانت ناسية للصوم فجامعها تلزمه الكفارة والجماع ههنا لم يوجب إلا فساد صوم واحد فعلمنا أن الكفارة وجبت عليه بإفساد صوم واحد لا بإفساد صومين وعن الرابع بأن الترجيح بالقلة والكثرة تكون عند اتحاد الجنس كما فعله أبو حنيفة رحمه اللّه في مسألة اللواطة مع الزنا فأما جهة قضاء الشهوة فيما نحن فيه فمختلفة وهما جنسان مختلفان فلا عبرة فيه للقلة والكثرة وإنما العبرة فيه للغلبة أو القوة وهما جميعا لقضاء شهوة البطن دون قضاء شهوة الفرج فإنها تتجدد في كل يوم مرتين عادة وبقيت ما دام الروح في البدن وشهوة الفرج لا تتجدد في مثل هذه المدة وتنقطع باستيلاء الكبر وكذا الإنسان يصبر عن الوقاع دهرا طويلا ولا يصبر عن الأكل إلا قليلا فكانت شهوة البطن أغلب وأقوى فكانت أولى بشرع الزاجر على أن الفعل إذا كان قيامه باثنين كان حصوله أقل مما إذا كان قيامه بواحد خصوصا إذا كان الفعل معصية فإن أحدهما إن قصد العصيان فالآخر لا يساعده على ذلك وكذا هيجان الشهوة الذي لا يقع الجماع إلا به من الشخصين في وقت مع وجود الحرمة شرعا قل ما يتفق وعن الخامس بأنا لا نسلم أن تناهي الجوع مبيح بل المبيح خوف التلف وكيف يكون الجوع مبيحا للإفطار والصوم ما شرع إلا لحكمة الجوع بقي أن خوف التلف شرطه تناهي الجوع ولكن بعض العلة لا عبرة به أصلا فبعض الشرط مع عدم العلة أولى أن لا يكون له عبرة واللّه أعلم كذا في طريقة الشيخ أبي المعين وغيرها قوله ومن ذلك أي ومن الثابت بالدلالة أن النص ورد في كذا يعني ما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه أن رجلا سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال إني أكلت وشربت في نهار رمضان ناسيا وأنا صائم فقال إن اللّه أطعمك وسقاك فتم على صومك لأن النسيان فعل وإن لم يكن اختياريا كالسقوط ونحوه ولهذا يقال نسي ينسى معلوم بصورته وهي الغفلة (٢/٣٣٥) عن الشيء بعدما كان حاضرا في الذهن وصورة كل شيء تناسبه ومعناه وهو أنه أي الناسي مدفوع إليه خلقة أي واقع فيه من غير اختيار ولم يذكر شمس الأئمة لفظ الصورة فقال النسيان معنى معلوم لغة وهو أنه محمول عليه طبعا على وجه لا صنع له فيه ولا لأحد من العباد فكان ذلك أي عذر النسيان فأضيف أي الفعل وهو الأكل والشرب بسبب هذا العذر إلى صاحب الحق فصار عفوا هذا معنى النسيان لغة وهو كونه مطبوعا عليه يعني كون الناسي مطبوعا على النسيان يفهم لغة من النسيان وإن لم يكن موضوعا له كالإيذاء من التأفيف إذ لا حاجة في فهمه إلى اجتهاد واستنباط بل يعرفه كل أحد فعملنا بهذا المعنى وهو أنه مدفوع إليه طبعا في نظيره أي نظير المنصوص عليه وهو الجماع فكان الحكم ثابتا فيه بالدلالة لا بالقياس لما عرف أن المعدول به عن القياس لا يقاس عليه غيره قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه الجماع بمنزلة الأكل في منافاة ركن الصوم أو دونه فلا يبقى منافيا مع النسيان استدلالا بالأكل فإن قيل هما متفاوتان أي المنصوص والجماع لأن الصوم يحوجه إلى ذلك أي إلى الأكل والشرب لأن الصوم شرع في وقت الأكل والشرب ووقت الأسباب المفضية إلى الأكل والصوم يزيد في شهوته فيبتلى الإنسان فيه بالنسيان غالبا ولا يحوجه إلى المواقعة لأن النهار ليس بوقت للجماع عادة وللصوم أثر في إزالة هذه الشهوة فإن الصوم وجاء على ما نطق به النص وهو قوله عليه السلام يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء فكان النسيان فيه من النوادر فلا يمكن أن يلحق بالمنصوص لأنه دونه وصار أي الجماع ناسيا في الصوم كالنسيان في الصلاة أي مثل الأكل ناسيا في الصلاة حيث لم يجعل عفوا لأنه نادر فكذا هذا وبما ذكرنا تمسك سفيان الثوري رحمه اللّه فجعل النسيان عذرا في الأكل والشرب بالنص ولم يجعله عذرا في الجماع والجواب ما ذكر في الكتاب (٢/٣٣٦) وأجاب الشيخ في بعض مصنفاته هذه العبارة وهي أن للأكل غلبة الوجود من حيث عموم السبب وللجماع غلبة الوجود من حيث ذات الفعل لأن الشهوة إذا غلبت لا يقدر الإنسان أن يمنع نفسه عن الجماع لوجود الداعي في الفاعل والمحل فثبت أن للجماع غلبة الوجود من حيث ذاته وللأكل من حيث أسبابه فلا يكون عين الأكل غالبا في ذاته فالغلبة التي تنشأ من الذات فوق ما تنشأ من السبب فلما عفي عنه فلأن يعفى عن الجماع كان أولى وذكر في المبسوط قد ثبت بالنص المساواة بين الأكل والجماع في حكم الصوم فإذا ورد نص في أحدهما كان واردا في الآخر كمن يقول لغيره اجعل زيدا وعمرا في العطية سواء ثم يقول أعط زيدا درهما كان ذلك تنصيصا على أنه يعطي عمرا أيضا درهما وقوله عليه السلام لا قود إلا بالسيف يحتمل وجهين أحدهما لا قود يستوفى إلا بالسيف والثاني لا قود يجب إلا بالقتل بالسيف لأن للقصاص طرفين طرف الاستيفاء وطرف الوجوب فإن أريد نفي الاستيفاء يكون حجة لنا على الشافعي في أنه لا يفعل بالقاتل مثل ما فعل بالمقتول من الخرق والغرق والرضح بالحجارة ونحوها وإن أريد نفي الوجوب يكون حجة عليه أيضا في مسألة الموالاة ورجح الإمام الوجه الأول فقال القود اسم لقتل هو جزاء القتل كالقصاص إلا أن القود خاص في جزاء القتل والقصاص عام فصار كأنه قال لا قتل قصاصا إلا بالسيف فإن قيل يحتمل أنه أراد لا قود يجب إلا بالسيف قلنا القود عبارة عن فعل القتل على سبيل المجازاة دون ما يجب شرعا وإن حمل عليه كان مجازا كنفس القتل عبارة عن الفعل حقيقة لا عن الواجب ولأن القود قد يجب بغير السيف وإنما السيف مخصوص الاستيفاء كذا في الأسرار وعلى الوجه الأخير خرج الشيخ مسألة المثقل على القولين فقال المراد من قوله لا قود إلا بالسيف هو الضرب بالسيف لأن الباء إذا دخلت في الآلة اقتضت فعلا ومعلوم أن القود لا يجب بأخذ السيف وقبضه فكان الضرب هو المراد ولهذا الفعل وهو الضرب بالسيف معنى مقصود يفهم منه لغة وهو الجناية بالجرح وما يشبهه كالتأفيف له معنى مقصود وهو الإيذاء بإظهار التضجر وما يشبهه من الشتم والضرب ثم ما يشبه الجرح عند أبي حنيفة رحمه اللّه استعمال آلة الجرح مثل سنجات الميزان على أحد الطريقين له في (٢/٣٣٧) مسألة الثقل وعندهما استعمال ما لا يطيق البدن احتماله مثل الحجر العظيم والعصا الكبيرة والحكم وهو القود جزاء يبتني على المماثلة في الجناية يعني شرع الحكم على وجه يكون مماثلا للجناية فإن القصاص ينبئ عن المساواة وكذا قوله تعالى الحر بالحر والعبد بالعبد الآية وقوله عز ذكره وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية يشيران إلى المساواة أيضا والغرض من هذا الكلام تأسيس الجواب لأبي حنيفة رحمه اللّه عن كلامهما كما سنبينه فكان أي الحكم وهو وجوب القود ثابتا بهذا المعنى أي متعلقا به دون صورة الضرب بالسيف كتعلق حرمة التأفيف بمعناه لا بصورته واختلف في ذلك المعنى فقال أبو حنيفة رحمه اللّه ذلك المعنى المفهوم بذكر السيف لغة هو الجرح الذي ينقض البنية ظاهرا وباطنا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه معناه أي المعنى المفهوم من الضرب بالسيف لغة ما لا تطيق البنية احتماله فيثبت الحكم بهذا المعنى في القتل بالمثقل ويكون ثابتا بدلالة النص فإن قيل الثابت بدلالة النص ما يعرفه كل أحد من أهل اللسان على ما تقدم تفسيره فإذا كان الحكم ثابتا بمعنى مختلف بين الفقهاء كيف يعد هذا من باب الدلالة قلنا لا خلاف لأحد في أن القود في قوله عليه السلام لا قود إلا بالسيف ثابت بمعنى الجناية على النفس وإن هذا معنى فهم منه لغة إنما الخلاف فيما وراء ذلك وهو أن المعتبر مجرد معنى الجناية أو الجناية المنتهية في الكمال وهذا وإن كان من باب الفقه لكنه لا يقدح في كون الحكم ثابتا بالدلالة لأن أصل المعنى الذي تعلق الحكم به مفهوم لغة وصورة المسألة إذا قتل إنسانا معصوما بالحجر العظيم أو الخشب الكبير الذي لا تطيق البنية احتماله لا يجب القصاص عند أبي حنيفة وهو قول زفر وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم اللّه يجب القصاص وهذا إذا لم يجرح فإن جرح الحجر أو الخشب فإن القصاص يجب بالاتفاق وفي الحديد يجب القود جرح (٢/٣٣٨) أو لم يجرح في ظاهر الرواية وروى الطحاوي عن أبي حنيفة رحمهما اللّه إذا قتله جرحا يجب القود بأي آلة كانت وإن لم يجرح لا يجب القود بأي آلة كانت قالوا إنا نعلم أن القصاص وجب عقوبة يعني بعدما ارتكب الجناية وزجرا عن انتهاك حرمة النفس وصيانة حياتها يعني قبل ارتكاب الجناية فإن شرعه زاجر عن مباشرة القتل على ما قال اللّه تعالى ولكم في القصاص حياة وانتهاك الحرمة تناولها بما لا يحل كذا في الصحاح وانتهاك حرمتها إنما يحصل بما لا تطيق النفس احتماله ولا تبقى معه لأنها إذا تلفت بذلك فقد انتهكت حرمتها فأما الجرح على البدن فلا عبرة به يعني في تعلق العقوبة إنما البدن أي الجرح على البدن وسيلة إلى الجناية على النفس وانتهاك حرمتها باعتبار السراية ألا ترى أنه لو لم يشر إلى النفس لا يجب القصاص فيما يكون بغير وسيلة كان أكمل فما يكون جناية على النفس بغير وسيلة وهو القتل بحجر الرحى والأسطوانة العظيمة مثلا كان أكمل في الجناية من الجرح لأن ما لا يلبث ولا تطيق النفس احتماله مزهق للروح بنفسه والفعل الجارح مزهق له بواسطة الجراحة فالجرح وسيلة يتوصل بها إلى إزهاق الروح وما يكون عاملا بنفسه أبلغ مما يكون عاملا بواسطة السراية ولما كان هذا أتم في المعنى المعتبر وهو عدم احتمال البنية يثبت الحكم فيه بالدلالة كما في الضرب مع التأفيف وكما يثبت في القتل بالرمح والسكين والنشابة بالدلالة يوضح ما ذكرنا أن هناك قد يجب القصاص بفعل لا يكون قتلا لا محالة كقطع الأصبع والغرز بالإبرة والضرب بسنجات الميزان على ما ذكر في كتاب الديات فلما وجب القصاص بهذا الفعل وأنه قد يحصل به القتل وقد لا يحصل فلأن يجب بإلقاء حجر الرحى أولى لأنه لا يرجى معه الحياة أصلا والدليل عليه أن قطاع الطريق لو قتلوا بالحديد وبالحجر يجب عليهم القتل ولا شك أن وجوب القتل على قاطع الطريق يتعلق بالقتل كالقصاص ثم لم يقع الفرق فيه بين الحديد وغيره وبين الجرح والدق فكذلك ههنا كذا في طريقة الإمام البرغري والجواب لأبي حنيفة رحمه اللّه عن هذا المعنى الذي ذكراه أنا قد سلمنا أن معنى الجناية هو ما لا تطيق النفس احتماله لكن الأصل في كل فعل الكمال يعني إذا صار الحكم مرتبا على شيء فالاعتبار فيه للكامل منه لأن للناقص شبهة العدم ثم إن كان ذلك الحكم من جنس ما يثبت مع الشبهات يلحق الناقص بالكامل ويثبت الحكم فيه كما (٢/٣٣٩) يثبت في الكامل وإن لم يكن كذلك لا يلحق الناقص بالكامل لما ذكرنا أن له شبهة العدم فلا يثبت به ما لا يثبت مع الشبهة فالأصل في الزنا وقوعه في محل محترم خال عن الملك وعن شبهة الملك لأنه هو الكامل في الجناية على ذلك المحل ثم تعدى أحد حكميه وهو الحرمة إلى ما هو ناقص في معنى الجناية وهو مواضع الشبهة لأن الحرمة تثبت مع الشبهة ولم يتعد الحكم الآخر وهو وجوب الحد لأنه لا يثبت مع الشبه وكذا الأصل في ثبوت حرمة المصاهرة معنى الجزئية والبعضية لأنه هو الكامل في الباب ثم تعدى إلى الناقص وهو التقبيل والمس لما ذكرنا وكذا وجوب الكفارة والدية في القتل ثبت في الكامل منه وهو ما ينقض البنية ظاهرا وباطنا بدليل سبب نزول الآية وهي قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ على ما عرف في التفسير فجعل هذا هو الأصل فيه ثم تعدى إلى الناقص منه وهو سائر أنواع الخطأ لأن الكفارة والدية مما يثبت مع الشبهات وهنا الكامل مما قلنا أي من معنى الجناية ما ينقض البنية ظاهرا بتخريب الجثة وباطنا بإراقة الدم وإفساد طبائعه الأربع هذا هو الكامل في النقض لأن حياة الآدمي باعتدال البنية ظاهرا وباطنا وكان التفويت الكامل بإفساد البنية ظاهرا وباطنا فيجعل هذا الكامل أصلا في قوله عليه السلام لا قود إلا بالسيف لأن القود مما يندرئ بالشبهات ويعتبر فيه المماثلة في الاستيفاء بالنص فلا بد من اعتبار صفة الكمال فيه فأما اعتبار مجرد عدم احتمال البنية إياه مع سلامة البنية ظاهرا وجعله أصلا فغير مستقيم فيما يندرئ بالشبهات لأنه ناقض لكونه قتلا من وجه دون وجه ودليل النقصان حكم الذكوة فإنه يختص بما ينقض البنية ظاهرا أو باطنا ولا يعتبر فيه مجرد عدم احتمال البنية حتى لو قتل الصيد بالمثقل لا يحل ولو جرحه يحل وإن كان في غير المذبح وقولهما البدن وسيلة وهم وغلط لأنا لا نعني بهذا أي بفعل القتل أو باشتراط الجرح الجناية على الجسم أي على البدن ليندفع بقولكم الجرح وسيلة وتبع والمقصود هو الجناية على النفس فلا يلتفت إلى الوسيلة بعد حصول المقصود بغيرها بل نعني الجناية على النفس التي هي معنى الإنسان وهي دمه وطبائعه عند أهل الإسلام والقصاص مقابل بذلك أي بالجناية على النفس بالنص وهو قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس (٢/٣٤٠) بالنفس أما الجسم ففرع يعني بالنسبة إلى المعنى لأنه هو المقصود ولا نريد أن البدن غير داخل في معنى الإنسان كما هو مذهب البعض وأما الروح فلا يقبل الجناية يعني من العباد لكن الجناية على المعنى وهو الطبائع الأربع لا يتكامل إلا بجرح يخرب البنية ويريق الدم لأنه إذا أراق الدم فقد اتصل أثر فعله به قصد أو المجموع يبطل ببطلان بعضه فيكون مبطلا معنى الإنسان بالإراقة قصدا فيتكامل الجناية ولهذا كان الغرز بالإبرة في المقتل موجبا للقصاص لأنه مسيل للدم مؤثر في الظاهر والباطن إلا أنه لا يكون موجبا الحل في الذكاة لأن المعتبر هناك تسييل جميع الدم ليتميز به الطاهر من النجس ولهذا اختص بقطع الأوداج والحلقوم عند التيسر فصار هذا أي اعتبار الكمال في معنى الجناية أولى مما قالاه خصوصا في العقوبات لأنها تندرئ بالشبهات ولا يلزم علينا ما ذكروا من مسألة قطاع الطريق لأن القتل في ذلك الباب ما وجب قصاصا وإنما وجب جزاء على قطع الطريق وذلك يحصل بأي قتل كان ولهذا لو قتلوا بالسوط يجب أيضا فأما القتل قصاصا فقد وجب جزاء على فعل كامل بصفة العمدية وفي العمدية خلل وقصور قال القاضي الإمام جعل أبو حنيفة سلامة الظاهر شبهة فلم يوجب معها القصاص وهذا منه استقصاء في الاحتيال للدرء أو ما قاله أبو يوسف ومحمد هو الطريق الواضح في تفسير عمد القتل عند الناس واللّه أعلم قوله ومن ذلك أي ومما ثبت بالدلالة وجوب حد الزنا في اللواطة على قولهما والباء الأولى للسببية والثانية للاستعانة يعني أوجبا بدلالة النص حد الزنا بسبب اللواطة فقالا اللواطة وإتيان المرأة الأجنبية في الموضع المكروه منها يوجب حد الزنا على الفاعل والمفعول فيرجمان إن كانا محصنين ويجلدان إن لم يكونا محصنين وهو قول جمهور العلماء وقال أبو حنيفة رحمه اللّه لا يجب فيها الحد ولكن يجب فيها أشد التعزير وللإمام أن يقتله إن اعتاد ذلك كذا في عامة الكتب وذكر القاضي الإمام ظهير الدين رحمه اللّه في فتاواه ناقلا عن الروضة أن الخلاف في الغلام أما في وطء المرأة في الموضع المكروه (٢/٣٤١) فيوجب الحد بلا خلاف ولو فعل ذلك بعبده أو أمته ومنكوحته لا يجب الحد بلا خلاف لأن الملك مقتض إطلاق الانتفاع فأورث شبهة في الفعل تمسك الجمهور بأن الزنا شرعا ولغة اسم لفعل معلوم وهو إيلاج الفرج في محل مشتهى يسمى قبلا على سبيل الحرمة ومعناه أي المقصود منه اقتضاء شهوة الفرج بسفح الماء في ذلك المحل لا لقصد الولد ولذلك يسمى سفاحا وهذا المعنى أي معنى الزنا بعينه موجود في اللواطة وزيادة لأنه أي لأن فعل اللواطة في الحرمة فوق الزنا لأنها لا تنكشف بحال فصار نظير الزنا بالأم فإنه أفحش من الزنا بالأجنبية لأن حرمتها لا تنكشف بوجه وفي سفح الماء فوقه لأن معنى النسل في الزنا معدوم قصدا وفي اللواطة معدوم قصدا أو زيادة لأن المحل لا يصلح للنسل فيكون أشد تضييعا للماء فإنه بذر وإلقاء البذر في محل لا ينبت يكون أشد تضييعا له من إلقائه في محل ينبت على قصد أن لا ينبت لمانع من الوقت وغيره وفي الشهوة مثله لأن معاني الاشتهاء من الحرارة واللين وغيرهما محسوسة في هذا المحل كما هي محسوسة في محل الحرث ألا ترى أن الذين قالوا بالطبع دون الشرع لم يفصلوا بين المحلين وأن كفارة الفطر يجب فيها بنفس الإيلاج في الجماع لأن الكفارة تبتني على الفطر باقتضاء الشهوة وهما سواء فيه وفيما دون الفرج لا يتحقق الفطر حتى ينزل لأنه دون ذلك وكذلك وجوب الاغتسال في اللواطة يثبت بنفس الإيلاج كما في الجماع لأنهما سواء في استجلاب المني الذي هو سبب الغسل وفي جماع البهيمة لا يجب إلا بالإنزال فثبت أنهما سواء في اقتضاء الشهوة إلا أنه تبدل الاسم من الزنا إلى اللواطة باعتبار تبدل المحل وذلك لا يضر كتبدل اسم الطرار لا يمنع ثبوت حكم السارق في حقه بعد وجود كمال العلة ألا ترى أن حكم الرجم تعدى من ماعز إلى غيره وإن كان يفارقه باسمه لاستوائهما في المعنى الذي تعلق الحكم به فكذا فيما نحن فيه وهذا معنى الزنا لغة أي ما ذكرنا من معنى الزنا ثابت لغة لا اجتهادا إذ يعرفه كل واحد من أهل اللسان فكان الحكم الثابت به ثابتا بالدلالة (٢/٣٤٢) لا بالقياس والجواب لأبي حنيفة رحمه اللّه عن هذا أي عما ذكرنا في جانبهما أنا لا نسلم صحة الاستدلال فإن من شرط المساواة بين المحلين في المعنى الموجب للحكم وهي معدومة ههنا لأن المتنازع فيه قاصر عن المنصوص عليه في المعنى الذي تعلق الحكم به لوجهين أحدهما أن الحكم في الزنا إنما تعلق بسفح الماء على وجه يؤدي إلى فساد الفراش وإهلاك البشر حكما لا بمجرد السفح لأن الولد يخلق من ماء الزنا ولا يمكن إيجاب تربيته على الزاني لعدم ثبوت النسب منه ولا على الأم لعجزها عن الكسب والإنفاق عليه فيهلك ولذا سمى تربيته إحياء قال عليه السلام من أخذ لقيطا فقد أحياه ولهذا لو أكره الرجل الرجل بالقتل على الزناء لا يرخص له الإقدام حتى لو أقدم يأثم كما لو أكره على قتل إنسان وفي اللواطة لم يوجد هذا المعنى وإنما وجد مجرد تضييع الماء وأنه قد يحل بالعزل في الأمة بغير إذنها وفي المنكوحة الحرة بإذنها والمنكوحة الأمة بإذنها أو بإذن مولاها وليس فيه إفساد الفراش أيضا لأن ذلك باشتباه النسب ولا تصور لذلك في الرجل إذ الرجل لا يتصور أن يكون فراشا فكان قاصرا ولا يجوز أن يجبر هذا النقصان بزيادة الحرمة من الوجه الذي قالا لأن ذلك يكون مقايسة ولا مدخل لها في الحدود فإن قيل لا نسلم أن الحكم تعلق بما ذكرتم فإنه لو زنى بعجوز أو بعقيم لا زوج لها يجب الحد ولم يوجد إفساد الفراش ولا إهلاك الولد وكذا زناء الخصي يوجب الحد ولا ماء له ليؤدي إلى فساد الفراش وإهلاك الولد قلنا المعتبر والمنظور إليه في أحكام الشرع الجنس لا الإفراد وجنس الزنا لا يخلو عن إفساد الفراش وإهلاك الولد بل هو الغالب فيه على أن محلية الماء لا ينعدم أصلا في العجوز والعقيم فإن حرمة المصاهرة تثبت بوطئهما وكذا الخصي لا ينعدم فيه أهلية الماء ولهذا يثبت النسب منه ولو انعدم الماء أصلا لا يثبت النسب منه كما في الصبي والثاني أن الزنا كامل بحال إلى آخر ما ذكره الشيخ في الكتاب وتقريره بعبارة الإمام البرغري أن الحدود شرعت زواجر عن الإقدام على الجنايات وإنما يحتاج إلى الزاجر الشرعي فيما يميل الطبع إليه فأما فيما ينزجر الإنسان عنه بطبعه فلا يحتاج فيه إلى الزاجر الشرعي كشرب البول لا يوجب الحد لما ذكرنا والحاجة إلى الزاجر في اللواطة ليست كالحاجة إلى الزاجر في الزنا أما في جانب المفعول فلأن الحد لو وجب عليه إنما يجب (٢/٣٤٣) استدلالا بالزنا والزانية إنما تحملها الشهوة على الزنا فأما المفعول به ههنا فيمتنع بطبعه عن هذا الفعل أشد الامتناع على ما عليه أصل الجبلة السليمة فلا يحتاج إلى الزاجر الشرعي فشرع الحد على الزانية لا يدل على شرع الحد على هذا وكذلك الكلام في جانب الفاعل لأن طبعه وإن كان يميل إلى هذا الفعل ولكن الفعل لا يقوم به وحده وإنما يقوم به وبآخر لا يميل طبعه إليه وفي الزنا يقوم باثنين طبع كل واحد منهما مائل إليه فكان أغلب وجودا أو أسرع حصولا فكان أحوج إلى الزاجر فشرع الزاجر فيه لا يدل على شرعه في المتنازع فيه لأن الحرمة المجردة يعني في الزنا بدون هذه المعاني وهي أن يكون غالب الوجود وأن يكون فيه إهلاك البشر حكما وأن يكون فيه إفساد الفراش غير معتبرة لإيجاب حد الزنا يعني هي ليست بموجبة للحد حتى ترجحوا اللواطة عليه بالحرمة فتوجبوا فيه الحد بالطريق الأولى بل المعتبرة ما ذكرنا من المعاني وهي في اللواطة غير موجودة والدليل على أن الحرمة المجردة غير معتبرة أن شرب البول لا يوجب الحد مع كمال الحرمة أي مع كونه آكد في الحرمة من الخمر فإن حرمته لا ينكشف بحال وشرب الخمر يوجبه مع أن حرمتها تزول بالتخليل وأنها لم تكن محرمة في الملل المتقدمة لوجود دعاء الطبع في الخمر وعدمه في البول قوله ومن ذلك أي ومن الثابت بالدلالة أن الشافعي رحمه اللّه أوجب الكفارة في القتل العمد واليمين الغموس استدلالا بالقتل الخطإ واليمين المنعقدة فقال الكفارة إنما تجب في الخطإ لارتكاب الجناية ولهذا سميت كفارة أي ستارة للذنب لا للخطأ فإنه عذر مسقط للحقوق فلا يجوز أن يكون علة للوجوب ولما وجبت الكفارة في الخطإ مع قيام العذر المسقط بمعنى الجناية وهو قتل النفس المعصومة فلأن يجب في العمد وهو في معنى الجناية أقوى كان أولى لأن ازدياد سبب الوجوب لا يسقط الواجب بل يؤكده ألا ترى أن قتل الصيد خطأ في الإحرام لما أوجب الكفارة أوجبها العمد لازدياد معنى الجناية فيه وكذلك أي وكما وجبت الكفارة في الخطأ بالجناية وجبت في اليمين المعقودة وهي التي على أمر في المستقبل بمعنى الجناية وهو صيرورتها كاذبة باعتبار الحنث وإذا (٢/٣٤٤) وجبت باعتبار صيرورتها كذبة مع أنها لم تكن في الأصل كذلك فلأن تجب في الغموس وهي كاذبة من الأصل كان أولى لأن حظر الغموس من جنس حظر المعقودة إذا حنث فيها لأنه حظر من حيث الاستشهاد باللّه كاذبا إلا أنه في الغموس آكد يوضحه أن اليمين نوعان يمين باللّه تعالى ويمين بالطلاق ونحوه ثم اليمين بالطلاق بشرط ماض على الكذب توجب ما توجبه اليمين بالطلاق بشرط في المستقبل ووجد الشرط فكذا اليمين باللّه تعالى توجب ما توجبه في المستقبل إذا تحقق الكذب فيها وما ذكرنا من المعنى ثابت لغة لأن كل أحد من أهل اللسان يعرف أن الكفارة باعتبار معنى الجناية فإنها شرعت لدفع الإثم وهو يحصل بالجناية وعندنا لا تجب الكفارة في العمد سواء وجب القود به أو لم يجب كقتل الأب ولده عمدا وقتل المولى عبده عمدا وقتل المسلم مسلما لم يهاجر إلينا في دار الحرب عمدا وكذا في الغموس لأن العمد كبيرة محضة وكذا الغموس محظور فلا يصلح سببا للكفارة كالزنا والسرقة وشرب الخمر وتحقيقه أن حقوق اللّه تعالى على ثلاثة أقسام عبادات محضة وأنها لا تتعلق بأسباب محظورة لأن العبادات حكمها الثواب ونيل الدرجات ويستحيل أن يصير الجنابة سببا لذلك وأنها تتعلق بأسباب مباحة كالنصاب للزكاة والوقت للصوم والصلاة وعقوبات محضة وأنهما تتعلق بمحظورات محضة لأن العقوبة شرعت زاجرة محضة وإنما يجب الزجر عن المعاصي لا عن المباح وكفارات وهي تتردد بين عبادة وعقوبة أما معنى العقوبة فيها فلأنها لا تجب الإجزاء كالحدود والعبادات تجب ابتداء تعظيما للّه تعالى أما معنى العبادة فيها فلأنها تتأدى بالصوم وما يقوم مقامه وما شرع الصوم خاليا عن معنى العبادة ولأنها تكفر الذنب وتمحوه ولن يقع التكفير إلا بما هو طاعة وقربة ولهذا كانت النية فيها شرطا وفوض أداؤها إلى من وجبت عليه ليؤديها باختياره والعقوبات تقام كرها وجبرا وإذا ثبت أنها مترددة بين العبادة والعقوبة وجب أن يكون سببها مشتملا على صفتي الحظر والإباحة ليكون (٢/٣٤٥) معنى العبادة مضافا إلى صفة الإباحة ومعنى العقوبة مضافا إلى صفة الحظر لأن الأثر أبدا يكون على وفق المؤثر والقتل العمد محظور محض وكذا الغموس لأن الكذب بدون الاستشهاد باللّه حرام ليس فيه إباحة فمع الاستشهاد باللّه أولى فكان العمد والغموس بمنزلة السرقة والزنا فلا يصلحان سببين للكفارة ألا ترى أن المباح المحض لا يصلح سببا للكفارة مثل القتل بحق واليمين المعقودة قبل الحنث مع أن معنى العبادة فيها راجح سوى كفارة الفطر فلأن لا يصلح المحظور المحض كان أولى وأما الخطأ فدائر بين الوصفين أي الحظر والإباحة لأنه من حيث الصورة رمي إلى الصيد أو إلى كافر وهو مباح وباعتبار ترك التثبت أو باعتبار المحل هو محظور لأنه أصاب آدميا محترما معصوما فيصلح سببا لها وكذا اجتمع في المعقودة صفتا الحظر والإباحة من وجهين أحدهما أنها تعظيم اللّه تعالى وذلك مندوب إليه ولهذا شرعت في بيعة نصرة الحق فإنهم كانوا يحلفون في البيعة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم على أنهم لا يتركون ولا يؤثرون أنفسهم على نفسه وعلي رضي اللّه عنه كان يحلف في المبايعة للبعض وهي أيضا منهي عنها بقوله تعالى ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم أي بذله في كل حق وباطل وقوله واحفظوا أيمانكم أي امتنعوا عن اليمين واحفظوا أنفسكم عنها والثاني أن اليمين الصادقة عقد مشروع يحلف بها في الخصومات وتلزمنا شرعا فكانت مباحة إلا أنها تأخذ معنى الحظر باعتبار الحنث وهو معنى قوله والكذب غير مشروع أي الحنث غير مشروع فكانت دائرة بين الحظر والإباحة فتصلح سببا للكفارة وهذا الوجه يشير إلى اليمين مع الحنث سبب والوجه الأول يشير إلى أن نفس اليمين سبب والحنث شرط وإلى كل واحد ذهب فريق من العلماء فتبين بما ذكرنا أن تعليق الكفارة بوصف الجناية منفردا غلط وأن الاستدلال المذكور غير صحيح ولا يلزم على ما ذكرنا الإفطار سبب في رمضان بشرب الخمر أو بالزنا لأن شرب الخمر والزنا ليسا بسببين للكفارة بدليل أنه لو كان ناسيا لصومه لا يجب الكفارة وإنما الموجب للكفارة الفطر وأنه جناية من وجه دون وجه فإنه من حيث إنه تناول شيء يحصل به قضاء الشهوة مشروع ومن حيث إن الصوم حق اللّه تعالى وأنه يبطل بالفطر محظور فيصلح سببا للكفارة على أن في كفارة الفطر شبه العقوبة راجح على ما عرف فجاز إيجابها بما يترجح معنى الحظر فيه كذا في طريقة الإمام البرغري ورأيت في بعض النسخ أما الفطر فإنه دائر بينهما أما الإباحة فمن حيث إنه يلاقي فعل نفسه الذي هو مملوك له وأما (٢/٣٤٦) الحظر فمن حيث إنه جناية على العبادة وبه ترتفع النقوض من أنه إذا أفطر بالخمر أو بالزنا عمدا فإنه تجب الكفارة وفي الأسرار بهذه العبارة ولا تلزم كفارة الإفطار فإنها لا تجب مع شبهة الإباحة لأن كفارة الفطر إنما تجب بفعل مباح في نفسه محظور بصومه كجماع الأهل وأكل خبزه وإنما يشترط تمحض الحظر لحق الفطر أن لا يكون فيه شبهة إباحة الفطر لا شبهة إباحة ذلك الفعل في نفسه حتى إذا زنى في رمضان وذلك الزنا حرام في نفسه لا لحق الصوم وحرام بغيره وهو الصوم وجب بكونه حراما في نفسه الحد الذي هو عقوبة وبسبب المعنى الآخر كفارة فلا بد من إلغاء حرمة الفعل في نفسه لإيجاب الكفارة وإلحاقه بالحلال في نفسه لولا الصوم وتحقيقه أن الكفارة تجب بالإفطار لا بالجماع نفسه والإفطار باقتضاء شهوة بطنه وفرجه والاقتضاء في نفسه حلال وإنما حرم لغيره وهو الصوم في مسألتنا فلم يصر حراما محصنا لما حل في نفسه لوجوده في محله ولا يلزم على ما ذكرنا وجوب التوبة والاستغفار فإنها طاعة محضة وقد وجبت بسبب الكبيرة المحضة فما هو طاعة من وجه أولى لأنا لا نسلم أنها وجبت بالجناية لأنها رجوع عن الجناية ونقض لها ونقض الشيء لا يصلح أن يكون من حكمه فلا يضاف إليه وإنما يضاف وجوبها إلى ديانته واعتقاده حرمة ما ارتكبه قوله ولا يلزم إذا قتل بالحجر العظيم يعني ولا يلزم على ما قلنا القتل بالمثقل فإنه يوجب الكفارة عند أبي حنيفة رحمه اللّه وإن كان محظورا محضا لأن فيه أي في القتل بالحجر العظيم شبهة الخطإ فإنه من خطإ العمد عنده وقد دخل تحت قوله عليه السلام ألا إن قتيل الخطإ العمد قتيل السوط والعصا على ما عرف في تلك المسألة وذلك لأن المثقل ليس بآلة القتل بأصل الخلقة وإنما هو آلة التأديب ألا ترى أن إجراءه للتأديب بها والمحل قابل للتأديب مباحا فتمكنت فيه شبهة باعتبار الآلة ولما كان هذا خطأ العمد أي شبه العمد كان محظورا من حيث العمدية ومن حيث الخطأ لا يخلو عن شبهة إباحة ولهذا يسقط القصاص والكفارة مما يحتاط في إيجابها لرجحان جهة العبادة فيها فيثبت بشبهة الخطأ كما يثبت بحقيقته وقد جعله أي جعل محمد القتل بالمثقل على أصل أبي حنيفة في (٢/٣٤٧) الكتاب أي في المبسوط شبهة العمد حيث أوجب الدية فيه على العاقلة فكان هذا تنصيصا على إيجاب الكفارة لأن شبه العمد يوجب الكفارة وإنما أكد الشيخ وجوب الكفارة بالرواية عن الطحاوي والجصاص وبدلالة رواية المبسوط لأنه قد روي عن أبي حنيفة رحمه اللّه أن الكفارة فيه لا تجب فقد قال أبو الفضل الكرماني في الإيضاح وجدت في كتب أصحابنا لا كفارة في شبه العمد على قول أبي حنيفة رحمه اللّه فإن الإثم كامل متناه وتناهيه يمنع شرع الكفارة لأن ذلك من باب التخفيف قوله وإذا قتل مسلم حربيا مستأمنا عمدا لم يلزمه الكفارة يعني إذا قتله بالسيف حتى يكون عمدا بالإجماع فإنه لو قتله بالمثقل يجب الكفارة عند أبي حنيفة رحمه اللّه وهذه المسألة ترد إشكالا على الجواب الذي ذكره عن القتل بالمثقل وبيانه أن المسلم إذا قتل مستأمنا عمدا لا يجب عليه القصاص استحسانا وفي القياس يلزمه وهو رواية أحمد بن عمران أستاذ الطحاوي عن أصحابنا ورواية ابن سماعة عن أبي يوسف لأن الشبهة المبيحة تنتفي عن الدم بعقد الأمان فلا جرم يجب القصاص بقتله على المستأمن والمسلم جميعا وجه الاستحسان أن الشبهة المبيحة بقيت في ذمة فإنه حربي ممكن من الرجوع إلى دار الحرب فجعل في الحكم كأنه في دار الحرب ولهذا يرث الحربي ولا يرث الذمي وإن كانا في دار الإسلام فلا يتحقق المساواة بينه وبين من هو من أهل دارنا في العصمة والقصاص يعتمد المساواة فلا يجب القصاص على المسلم بقتله ولكن يجب عليه دية الحر المسلم لأن أصل العصمة يثبت التقوم في نفسه حين استأمن كما يثبت التقوم في ماله حتى يضمن بالإتلاف فصار حاله في قيمة نفسه كحال الذمي فكما يسوى بين دية المسلم والذمي عندنا فكذلك يسوى بين دية المسلم والمستأمن ثم الشبهة في المسألة الأولى أعني مسألة المثقل أثرت في إيجاب الكفارة كما أثرت في إسقاط القصاص والشبهة في هذه المسألة أثرت في إسقاط القصاص ولم تؤثر في إيجاب الكفارة فأجاب وقال الشبهة هاهنا في محل الفعل لا في الفعل فإن دم المستأمن لا يماثل دم المسلم في العصمة حتى لو ثبت المماثلة بأن قتل المستأمن في دارنا مستأمنا آخر أو قطع طرفه وجب القصاص كذا في السير الكبير فاعتبرت في القود (٢/٣٤٨) أي أثرت في إسقاطه لأن القود مقابل بالمحل من وجه حتى امتنع وجوب الدية التي هي بدل المحل مع وجوب القصاص لأن تفويت المحل الواحد لا يوجب بدلين ولو لم يكن القصاص في مقابلة المحل لما امتنع وجوب الدية معه كما لم يمتنع مع وجوب الكفارة ألا ترى أن المحرم لو قتل صيدا مملوكا لإنسان يجب عليه الجزاء وقيمة المقتول لمالكه أيضا لأنه لا تنافي بينهما إذ الكفارة جزاء الفعل والقيمة بدل المحل فلو لم يكن القصاص مقابلا بالمحل بوجه لأمكن الجمع بينه وبين الدية أيضا وإنما قال من وجه لأن القود عندنا جزاء الفعل حتى يثبت للمقتول حكم الشهادة ويقتل جماعة بواحد ولكن فيه شبهة كونه بدل المحل لما ذكرنا وهذا القدر من الشبهة كاف لانتفاء القصاص فأما الفعل فعمد محض خالص لا تردد فيه أي لا يدور بين الحظر والإباحة وليس فيه شبهة الإباحة بوجه فلا يصلح سببا للكفارة إذ الكفارة جزاء الفعل المحض ليس فيها شبهة البدلية عن المحل بوجه حتى يؤثر فيها الشبهة الواقعة في المحل وفي مسألة الحجر أي القتل بالمثقل الشبهة في نفس الفعل باعتبار أن الآلة ليست بآلة القتل خلقة على ما بينا ووضع الآلة لتتميم القدرة الناقصة فكانت داخلة في فعل العبد فتمكنت الشبهة في الفعل فعمت القود والكفارة أي أثرت في إسقاط القود وإيجاب الكفارة جميعا قوله ولهذا أي ولما ذكرنا أن الكفارة المشروعة في الخطإ والمعقودة لا يجب في العمد والغموس قلنا السجود المشروع في السهو لا يجب بالعمد أي بترك الواجب عمدا والعمد لغة ما حصل من الفعل عن قصد صحيح من الفاعل إليه بعد علمه به وقال الشافعي رحمه اللّه يجب بالعمد لأنه إنما وجب في السهو لتمكن النقصان في صلاته وذلك موجود في العمد وزيادة فيثبت الحكم بالدلالة ولكنا نقول السبب الموجب بالنص شرعا هو السهو على ما قال عليه السلام لكل سهو سجدتان بعد السلام والسهو ينعدم إذا كان عامدا وهو معنى قوله ولا يصلح أن يكون السهو (٢/٣٤٩) دليل العمد أي الوجوب في السهو دليل الوجوب في العمد لما قلنا في وجوب الكفارة أن وجوبها في الخطإ والمعقودة لا تدل على وجوبها في العمد والغموس وذلك لأن السجدة عبادة شرعت للّه تعالى جبرا للفائت فلا يصلح المحظور سببا له وهو تأخير واجب أو تركه عمدا قوله وقلنا نحن إشارة إلى خلاف الشافعي فإن عنده لا يجب على المرأة الكفارة في قول لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم بين حكم الكفارة في جانبه لا في جانبها فلو لزمتها لبين كما بين الحد في جانبها في حديث العسيف ولأن سبب الكفارة المواقعة المعدمة للصوم والرجل هو المباشر لذلك دونها إذ هي محل المواقعة وليست بمباشرة لها فكان فعلها دون فعل الرجل فيما دون الفرج بخلاف الحد فإن سببه الزنا وهي مباشرة له فإن اللّه تعالى سماها زانية وفي قول آخر يجب عليها الكفارة ويتحمل الزوج عنها إذا كانت مالية لأن ما تعلق بالمواقعة إذا كان بدنيا اشتركا فيه كالاغتسال وإذا كان ماليا تحمل الزوج عنها كثمن ماء الاغتسال فقال الشيخ إنما وجبت الكفارة على الرجل بالمواقعة ومعنى الفطر الذي هو جناية كاملة مفهوم منه أي من الوقاع لغة كالإيذاء من التأفيف وهذا المعنى يتحقق في جانبها كما يتحقق في جانبه فتلزمها الكفارة بطريق الدلالة كما لا يلزمها الحد بسبب الزنا إذ تمكينها فعل كامل فإن الحد مع النقصان وبيان النبي عليه السلام في جانبه بيان في جانبها لأن كفارتهما واحدة بخلاف حديث العسيف فإن الحد في جانبه كان الجلد وفي جانبها الرجم ولا معنى للتحمل لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة أو عبادة وبسبب النكاح لا تجري التحمل في العبادات والعقوبات إنما ذلك في مؤن الزوجية كذا في المبسوط قوله وأما المقتضي فزيادة على النص ثبت أي المقتضي أو الزيادة على تأويل المزيد فكانت الجملة صفة لها وانتصب شرطا على أنه مفعول له أي يثبت تلك الزيادة لأجل أن يكون شرطا لصحة المنصوص عليه شرعا وقوله لما لم يستغن أي المنصوص عليه عنه متعلق يثبت شرطا وقوله وجب تقديمه مستأنف وقوله فقد اقتضاه النص في معنى التعليل له أي وجب تقديم المقتضى أو تقديم تلك الزيادة لأجل (٢/٣٥٠) تصحيح المنصوص شرعا لأن النص اقتضاه أي طلبه أو لما لم يستغن مستأنف ووجب تقديم جوابه وقوله فقد اقتضاه النص بيان تسميته بهذا الاسم يعني لما لم يستغن النص عن تلك الزيادة وجب تقديمها ليصح فكان النص مقتضيا إياها فسميت بهذا الاسم وهو المقتضى وقد صرح الشيخ به في بعض مصنفاته فقال الاقتضاء الطلب تقول اقتضيت الدين أي طلبته وسمي المقتضى مقتضى لأن النص طلبه فصار المقتضي بحكمه أي مع حكمه حكمين للنص أي مضافين إليه لأن حكم المقتضي تابع له وهو تابع للمقتضي فيكون المقتضى مضافا إليه بنفسه وحكمه بوساطته كما إذا وقع خبر المبتدأ جملة مركبة من مبتدأ وخبر كان المبتدأ الثاني مع خبره خبرا للأول كقولك زيد أبوه منطلق ولا يقال هذا يقتضي أن يكون المقتضي هو الأصل وتوقفه على المقتضي وافتقاره إليه يقتضي أن يكون هو تبعا للمقتضي والشيء الواحد لا يجوز أن يكون أصلا لشيء وتبعا له لأنا نقول المراد من كون المقتضي أصلا أنه لا يثبت في ضمن المقتضي وإنما يثبت ابتداء قصدا ومن تبعية المقتضي أنه يثبت ضمنا وتبعا له ولا يلزم من توقفه عليه تبعيته له كالصلاة توقفت على الوضوء وهي أصل له وليست بتبع فإن قيل شرطية المقتضي لصحة النص توجب تقدم ثبوته عليه وكونه حكما له يوجب تأخره عنه وذلك مستحيل في شيء واحد في حالة واحدة قلنا قد قيل في جوابه إنه يجوز أن يكون متقدما تقديرا من حيث إنه شرط ومتأخرا تقديرا من حيث إنه حكم فيمكن القول باجتماعهما في حالة واحدة ولكنه ليس بصحيح إذ لا بد من تقدم الشرط على المشروط تحقيقا فمتى كان متأخرا تحقيقا لا يصلح شرطا لما تقدمه بوجه بل الجواب الصحيح أنه ليس بحكم للنص حقيقة بل هو بحكم اقتضاء النص لأنه ثبت به وإنما يضاف إلى النص لإضافة الاقتضاء إليه ولكنه شرط صحة النص أي المنصوص عليه لتوقفها عليه ألا ترى أن البيع في قولك أعتق عبدك عني بألف ثبت باقتضاء هذا الكلام فكان حكما له ولكنه يثبت لأجل صحة الإعتاق المطلوب بهذا الكلام فكان شرطا له لا للاقتضاء الذي أوجبه والاقتضاء غير النص فكان اجتماع الشرطية والحكمية فيه باعتبار أمرين متغايرين فيجوز فصار الثابت به أي بالمقتضي بمنزلة الثابت بها أي بالصيغة أو بالعبارة بنفس النظم يدل تكرير العامل ولم يذكر كلمة بها في بعض النسخ وهو الأصح أي الثابت به بمنزلة الثابت بنفس نظم النص دون معناه المستنبط منه حتى أن القياس لا يعارضه وهذا بلا (٢/٣٥١) خلاف والثابت بهذا أي بالمقتضي يعدل أي يساوي الثابت بالنص إلا عند المعارضة فإن الثابت بالنص أو إشارته أو دلالته يكون أقوى من الثابت بالمقتضي لأنه ثابت بالنظم أو بالمعنى اللغوي فكان ثابتا من كل وجه والمقتضي ليس من موجبات الكلام لغة وإنما يثبت شرعا للحاجة إلى إثبات الحكم به فكان ضروريا ثابتا من وجه دون وجه إذ هو غير ثابت فيما وراء ضرورة تصحيح الكلام فيكون الأول أقوى وما جدت لمعارضة المقتضي مع الأقسام التي تقدمته نظيرا وقد تحمل بعض الشارحين في إيراد المثال فقال إذا باع من آخر عبدا بألفي درهم ثم قال البائع للمشتري قبل نقد الثمن أعتق عبدك عني هذا بألف درهم فأعتقه لا يجوز البيع لأن دلالة النص الذي ورد في حق زيد بن أرقم بفساد شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن توجب أن لا يجوز والاقتضاء يدل على الجواز فترجح الدلالة على الاقتضاء وإنما قلنا إنه دلالة لأن ثبوت الحكم في حق غير زيد كان بمعنى النص لا بالنظم كثبوت الرجم في حق غير ماعز ولكن لقائل أن يقول لا نسلم المعارضة لأن من شرطها تساوي الحجتين ولا تساوي لأن المقتضي الذي قام المقتضى به كلام الآمر والدلالة ثابتة بالنسبة فأنى يتعارضان ولأن عدم الجواز فيما ذكر من الصورة إن ثبت ليس لترجح الدلالة على المقتضي فإنهما لو صرحا بالبيع بأن قال المشتري بعت هذا العبد منك بألف وقال البائع قبلت لا يجوز أيضا بل لأن موجب ذلك النص عدم الجواز من غير معارضة نص آخر إياه فلا يكون هذا نظير معارضة الدلالة المقتضى قوله واختلفوا في هذا القسم يعني في عمومه وقال أصحابنا رحمهم اللّه لا عموم له أي لا يجوز أن يثبت له صفة العموم وقال الشافعي رحمه اللّه له عموم أي يجوز أن يثبت فيه العموم لأن المقتضي بمنزلة النص حتى كان الحكم الثابت به بمنزلة الثابت بالنص لا بالقياس فيجوز فيه العموم كما يجوز في النص وقلنا العموم من عوارض النظم وهو غير منظوم حقيقة فلا يجوز فيه العموم وذلك لأن ثبوت المقتضى للحاجة والضرورة حتى إذا كان المنصوص مفيدا للحكم بدونه لا يثبت المقتضي لغة ولا شرعا والثابت بالضرورة يتقدر بقدرها ولا حاجة إلى إثبات صفة العموم للمقتضي فإن الكلام مفيد بدونه فبقي فيما وراء موضع الضرورة وهو صحة الكلام على أصله وهو العدم فلا يثبت فيه العموم وهو نظير تناول الميتة لما أبيح للحاجة يتقدر (٢/٣٥٢) بقدرها وهو سد الرمق وفيما وراء ذلك من الحمل والتمول والتناول إلى الشبع لا يثبت حكم الإباحة بخلاف النص فإنه عامل بنفسه فيكون بمنزلة حل الزكية يظهر في حكم التناول وغيره مطلقا كذا ذكره شمس الأئمة وذكر الغزالي في المستصفى لا عموم للمقتضي وإنما العموم للألفاظ لا للمعاني التي تضمنتها ضرورة الألفاظ بيانه أن قوله عليه السلام لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ظاهره لنفي صورة الصوم حسا لكن وجب رده إلى الحكم وهو نفي الإجزاء والكمال وقد قيل إنه متردد بينهما وهو مجمل وقيل إنه عام لنفي الإجزاء والكمال وهو غلط نعم لو قال لا حكم لصوم بغير تبييت لكان الحكم لفظا عاما في الإجزاء والكمال أما إذا قال لا صيام فالحكم غير منطوق به وإنما أثبت ذلك بطريق الضرورة وكذلك قوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان معناه حكم الخطأ ولا عموم له ولو قال لا حكم للخطأ لأمكن حمله على نفي الإثم والعزم وغيره على العموم ورأيت في بعض كتب أصحاب الشافعي أنه متى دل العقل أو الشرع على إضمار شيء في كلام صيانة له عن التكذيب ونحوها وثمة تقديرات يستقيم الكلام بأيها كان لا يجوز إضمار الكل وهو المراد من قولنا المقتضي لا عموم له أما إذا تعين أحد تلك التقديرات بدليل كان كظهوره في العموم والخصوص حتى لو كان مظهره عاما كان مقدره كذلك وكذا لو كان خاصا قوله ومثال الأصل أي نظير هذا الأصل وهو المقتضى وكأنه ذكر لفظ الأصل لئلا يتوهم أنه مثال العموم أو معناه مثال المقتضى إذ هو الأصل للمقتضى قول الرجل لغيره كذا أنه أي هذا الكلام الذي هو طلب الإعتاق يتضمن البيع مقتضى العتق أي ضرورة صحة الإعتاق لأنه متوقف على الملك والملك على البيع في هذه الصورة لتعينه سببا له بدلالة قوله على ألف وشرطا له يعني يثبت البيع متقدما على الإعتاق لأنه بمنزلة الشرط لتوقف صحة الإعتاق عليه قال شمس الأئمة وهذا المقتضى ثبت متقدما ويكون بمنزلة الشرط لأنه وصف في المحل والمحل للتصرف كالشرط فكذا إما يكون وصفا للمحل ولما كان شرطا كان تبعا إذ الشروط اتباع فيثبت بشروط العتق لا بشروط نفسه لأن الشيء إذا ثبت تبعا يعتبر فيه شرائط المتبوع إظهارا للتبعية كالعبد يصير مقيما وإن كان في غير موضع الإقامة بنية الإقامة من المولى وكذا الجندي بنية السلطان والمرأة (٢/٣٥٣) بنية الزوج فيعتبر في الآمر أهلية الإعتاق حتى لو لم يكن أهلا له بأن كان صببا عاقلا قد أذن له وليه في التصرفات لم يثبت البيع بهذا الكلام ولا يشترط فيه القبول ولا يثبت فيه خيار العيب والرؤية ولو جعل أي المقتضى بمنزلة المذكور صريحا كما قال الشافعي لثبت بشروط نفسه أي اعتبر فيه أهلية البيع لا غير وشرط فيه القبول وثبتت فيه الخياران ألا ترى أنه لو صرح المأمور بالبيع في هذه الصورة بأن قال بعته منك بالألف وأعتقته لم يجز عن الآمر لأنه ما أمره ببيعه مقصودا وإنما أمره ببيع ثابت ضرورة العتق فإذا أتى به مقصودا لم يأت بما أمره به فتوقف على القبول فإذا أعتقه قبل القبول وقع عن نفسه ولم يقع عن الأمر فتبين بما ذكرنا أن المقتضى ليس كالمنصوص فيما وراء موضع الحاجة وفي هذا المثال خلاف زفر فإنه قال يقع العتق في قوله أعتق عبدك عني بألف درهم عن المأمور فيكون الولاء له وهو القياس لأن أمره بالإعتاق عنه فاسد لأنه أضافه إلى عبد غيره وعبد غيره لا يحتمل أن يعتق عنه بحال لقوله عليه السلام لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم ولا يجوز إضمار التمليك ههنا لأن الإضمار لتصحيح المصرح به لا لإبطاله وإذا أضمر التمليك صار معتقا عبد الآمر لا عبد نفسه ولأنه لو أعتقه عن نفسه بنفسه لم ينفذ فلأن لا ينفذ بأمره أولى وكان هذا كما لو قال لآخر بع عبدك عني من فلان بألف درهم أو آجره عني من فلان بكذا أو كاتبه بكذا ففعل لا يصح ولا يقع عن الآمر فكذا ههنا وفي الاستحسان صح هذا الأمر لأنه صدر من أهل الإعتاق إلى من هو أهله أيضا وأمكن إثبات المطلوب بإثبات شرطه فوجب إثباته تصحيحا لكلامه كما إذا باع المكاتب برضاه أو باع شيئا بألف ثم باعه بألفين من ذلك المشتري أو بخمسمائة ينفسخ الكتابة والبيع الأول تصحيحا للتصرف الثاني وهذا لأن العبد محل لحلول العتق والملك الذي هو شرط النفاذ وصف له والمحال بصفاتها شروط والشروط اتباع وكل متبوع يقتضي تبعة لا محالة كالأمر بالصلاة والنذر بها أمر بالطهارة ونذرها لأنها شرط وكذا النذر بالاعتكاف نذر بالصوم وكذا استئجار الأرض للزارعة يقتضي شربها لأنه شرط إمكان الزراعة فكان طلب الإعتاق عنه طلبا للتمليك أو لا بألف ثم الإعتاق عنه وكانت الإجابة من المأمور تمليكا منه أو لأثم إعتاقا منه فيثبت تمليك بألف في ضمن الإعتاق كأنهما عقدا البيع ثم حصل الإعتاق بعده كمن يقول لغيره أد عني زكاة مالي أو كفر عني ففعل أجزأه وإن لم يصح أداء الزكاة والكفارة إلا بمال نفسه لأنه يثبت تمليك أو إقراض منه أو لا اقتضاء ثم (٢/٣٥٤) توكل عنه بالتسليم إلى الفقير فكذا هذا وتبين بما ذكرنا أنه أمر بإعتاق ملك نفسه لا ملك غيره وأن معنى قوله عبدك العبد الذي هو لك للحال لا عند مصادفة العتق إياه فمقصوده من هذا تعريف العبد لا إضافته إليه بالملك والخلاف ثابت فيما لو قال أعتق هذا العبد عني وقوله لو أعتقه بنفسه لا يصح قلنا على الوجه الذي ذكرنا لو باشره بنفسه يصح بأن يشتريه أولا ثم يعتقه وليس هذا كالأمر بالبيع والإجارة والكتابة لأنه لا يمكن تصحيح ما أمر به بتقديم الملك لأنا إذا فعلنا ذلك وجعلنا العبد مملوكا له صار هذا بيع العبد وإجارته وكتابته قبل القبض وكل ذلك فاسد فأما الإعتاق قبل القبض فجائز فأمكن التصحيح ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا قال لامرأته تزوجي فإنه لا يقتضي طلاقا إلا بالنية لأنا إنما أثبتنا المقتضى لتصحيح الملفوظ ولا يحصل ذلك ههنا لأنا إذا حكمنا بوقوع الطلاق لا يصح الأمر بالتزوج فإنها تتزوج بمالكيتها أمر نفسها لا بأمر الزوج فإنه لا ولاية له عليها وإذا لم يصح الأمر به لا يمكن إثباته اقتضاء ولأن من شرط تزوجها الفراغ عن الأول لا الطلاق فلم يصر مقتضيا له لأنه لا يثبت الاقتضاء إلا ضرورة قوله ولهذا أي ولأن البيع يثبت بشروط العتق في المثال المذكور لا بشروط نفسه قال أبو يوسف والشافعي رحمهما اللّه إذا قال أعتق عبدك عني بغير شيء فأعتقه أنه يقع عن الأمر وتثبت الهبة اقتضاء كما يثبت البيع في المثال المذكور ولا يشترط فيها القبض لأنه أي لأن عقد الهبة أو الملك بطريق الهبة ثابت بطريق الاقتضاء بالإعتاق فيثبت بشروط الإعتاق ويسقط اعتبار شرطه وهو القبض مقصودا كما يسقط اعتبار القبول في البيع بل أولى لأن القبول ركن في البيع والقبض شرط في الهبة فلما سقط اعتبار ما هو الركن لكونه ثابتا باقتضاء العتق فلأن يسقط اعتبار ما هو شرط أولى كذا ذكر شمس الأئمة وهو أوضح من تركيب الكتاب ولما ثبت بشروط العتق والعتق يثبت بلا قبض فكذا الهبة التي في ضمنه وهذا أي ثبوت الهبة بلا اشتراط قبض مقتضى مثل ثبوت البيع الفاسد بلا اشتراط قبض مقتضى فيما إذا قال أعتق عبدك عني بألف ورطل من خمر وهو في الحقيقة جواب عما يقال القبض فعل حسي فلا يجوز أن يسقط اعتباره بطريق الاقتضاء لأن المقتضى قول وهو دون (٢/٣٥٥) الفعل فلا يجوز أن يبطل لأجله ما هو أقوى منه بخلاف القبول فإنه قول اعتبر شرعا فيصح أن يسقط شرعا تصحيحا لكلام آخر فقال قد سقط اعتباره أيضا اقتضاء كما في هذه الصورة والبيع الفاسد مثل الهبة أي في توقف ثبوت الملك على القبض في كل واحد منهما لما قلنا أن ما يثبت مقتضى يثبت بشروط المقتضي لا بشروط نفسه وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما اللّه يقع العتق عن المأمور وهو القياس لأنه لما طلب العتق بغير بدل ولا صحة للعتق إلا بالملك صار طالبا للّهبة والهبة لا توجب الملك إلا بالقبض ولم يوجد إما حقيقة فظاهر وإما تقديرا فلأن رقبة العبد أي ماليته بحكم الإعتاق تتلف على ملك المولى لأنه في حالة العتق ملكه والإعتاق إبطال للملك والمالية في يد نفسه أي في يد المولى لأنه في يده أو في يد العبد لأن ماليته في ذاته حقيقة وله يد معتبرة شرعا حتى صح اشتراط العمل على عبد رب المال في المضاربة ولم يكن للمولى ولأنه استرداد ما أودعه العبد من المودع وذلك أي المتلف وهو المالية لا يصلح أن يكون مقبوضا للطالب ولا للعبد لأنه لم يحصل في يده شيء ولا هو محتمل للقبض لأنه هالك وإذا لم يوجد ما هو شرط ثبوت الملك للآمر لم يثبت العتق عنه لأنه لا عتق في غير الملك فوقع عن المأمور لأنه لا مرد له واندرج في كلام الشيخ الجواب عما يقال القبض قد وجد تقديرا لأن العبد هو الذي يتصرف إليه المالية والهبة تقع في تلك المالية والعبد في يد نفسه فيقع الملك مسلما إليه لقيام يده فصار كهبة الشيء ممن هو في يده حيث يكتفى بذلك القبض ولا يجب قبض جديد وكقوله لآخر أطعم عني كفارتي عشرة مساكين حيث يجوز ويجعل الفقير قابضا نيابة عن الآمر والدليل عليه أن البائع لا يملك جنس المبيع بالثمن فيما إذا قال لعبد اشتر لي نفسك من مولاك ففعل لأن العبد في يد نفسه فلما باع صار مسلما بنفس البيع لأن يد العبد يد الطالب بطريق النيابة فكذا ههنا فقال المالية لم تصل إلى العبد بل تلف على ملك المولى فلا يمكن أن يجعل أحد قابضا لها بخلاف مسألة الطعام فإن المسكين يقبض عين الطعام فيمكن أن يجعل قابضا للآمر أولا ثم لنفسه وكذا في مسألة البيع لم يتلف الملك والمالية بل انتقلا إلى المشتري فيمكن أن يجعل العبد نائبا عنه في القبض وقوله إن القبض يسقط بالاقتضاء باطل لأن (٢/٣٥٦) ثبوت المقتضى بهذا الطريق وهو أن يثبت بشروط المقتضي ويسقط اعتبار شروطه أمر شرعي فيؤثر في إسقاط ما يحتمل السقوط دون ما لا يحتمله والقبض والتسليم شرط لا يحتمل السقوط في الهبة بحال إذ لم يوجد صورة أوجبت الهبة الملك بدون القبض ودليل السقوط وهو الاقتضاء يعمل في محل يحتمل السقوط دون ما لا يحتمله وأما القبول في البيع فيحتمل السقوط لما ذكر فيجوز أن يسقط بالاقتضاء على أنا لا نجعل تقدير الكلام بعه مني ثم أعتقه لأنه على هذا الوجه يحتاج إلى القبول بل نجعل تقديره كأنه قال اشتريته منك فأعتقه عني وكان المأمور إذا أعتقه قال بعته منك ثم أعتقه عنك كذا في طريقة الإمام البرغري وكذلك أي وكالبيع الصحيح البيع الفاسد مشروع بأصله فيعتبر به في الحكم لأن الفاسد لا يمكن أن يجعل أصلا ليعرف حكمه من نفسه فاحتمل أي الفاسد سقوط القبض عنه نظرا إلى أصله وإن لم يحتمل بالنظر إلى وصفه فصح إسقاطه بطريق الاقتضاء لأنه دليل السقوط فيعمل فيما يحتمله وقد وقع أحد اللفظين وهما كذلك ومثل البيع الصحيح زائدا وذكر الإمام البرغري وأما البيع الفاسد فليس القبض فيه بشرط أصلي فإن الجائز يعمل بدون القبض والفاسد ليس بأصل بنفسه بل هو ملحق بالجائز لكنه لضعفه احتاج إلى قبض مقو وإذا ثبت في ضمن العتق تقوى به فصار مثل الجائز في هذه الحالة فاستغنى عن القبض فعمل عمله على أن القبض ساقط لا على أنه حاصل فأما الهبة فلا يمكن إسقاط القبض فيهما لأنه شرط أصلي فيها ألا ترى أن الهبة الجائزة لا تعمل إلا به وذكر في المبسوط والأسرار أن مالية العبد وإن تلفت بالإعتاق ولم يحصل في يد العبد شيء منها ولكن من حيث إن العبد ينتفع بهذا الإعتاق يندرج فيه أدنى قبض وذلك يكفي في البيع الفاسد دون الهبة كالقبض مع الشيوع فيما يحتمل القسمة ومع الاتصال في الثمار على رءوس الأشجار يكفي لوقوع الملك في البيع الفاسد دون الهبة على أن عند الشيخ أبي الحسن الكرخي يقع العتق عن المأمور في البيع الفاسد أيضا لأن الملك لا يقع إلا بالقبض ولما يوجد كما في الهبة (٢/٣٥٧) قوله ومثاله أي مثاله الآخر قوله لامرأته التي دخل بها اعتدي ناويا للطلاق فإن الطلاق يقع مقتضي الأمر بالاعتداد لأن من ضرورة الاعتداد عن النكاح تقدم الطلاق فيصير كأنه قال قد وقع عليك الطلاق فاعتدي ولا يلزم عليه قوله لها في العدة اعتدي ناويا للطلاق حيث يقع مع أنه لا ضرورة لأن للأمر صحة بدون تقديم الطلاق عليه لقيام وجوب العدة لأنا نقول لا أثر لقيام العدة في تصحيحه لأن موجبه أن يجب عليها اعتداد لهذا الكلام أثر في إيجابه ووجوب هذه العدة قد كان ثابتا قبله فلا يمكن أن يضاف إليه ثم لتصحيح هذا الكلام وجهان أحدهما أن يقدم الطلاق عليه والآخر أن يجعل مستعارا للطلاق على ما مر ولا يمكن تصحيحه بتقديم الطلاق فإنه لو قدم لا يجب عليها شيء سوى تتميم تلك العدة كما لو طلقها صريحا فيجعل مستعارا للطلاق تصحيحا له واحترازا عن الغاية ولهذا أي ولكون الطلاق ثابتا اقتضاء لم يصح نية الثلاث فيه ولم يكن بائنا لأن الضرورة تندفع بالواحدة الرجعية فلا يصار إلى الثلاث والبائن من غير ضرورة قوله ومثال خلاف الشافعي أي مثال المقتضي الذي يجري العموم فيه عنده ولا يجري عندنا قوله إن أكلت فعبدي حر أو أن شربت ونوى خصوص الطعام والشراب أي نوى طعاما دون طعام أو شرابا دون شراب لم يصدق أصلا عندنا لا قضاء ولا ديانة لأن الأكل اسم للفعل والمأكول محل الفعل واسم الفعل لا يكون اسما للمحل ولا دليلا عليه لغة إلا أن الفعل لا يكون بدون المحل فيثبت المحل مقتضى فكان ثابتا في حق ما يلفظ به من الأكل دون صحة النية إذ هو فيما وراء الملفوظ غير ثابت فكانت النية واقعة في غير الملفوظ فتلغو وكذلك في مسألة الخروج إذا نوى مكانا دون مكان بأن نوى الخروج إلى بغداد مثلا لم يصدق قضاء ولا ديانة لأن قوله إن خرجت وإن دل على المصدر لغة لا يتناول مكانا من حيث اللغة وإنما يثبت ذلك مقتضى لأن الخروج مكانا لا محالة فلا يصح تخصيصه بالنية وكذا في مسألة الاغتسال إذا نوى تخصيص الأسباب بأن قال عنيت الاغتسال عن الجنابة لم يصدق قضاء ولا ديانة وعن أبي يوسف رحمه اللّه أنه يصدق ديانة لأنه نوى (٢/٣٥٨) التخصيص في المصدر ولنا أنه ذكر الفعل ولم يذكر السبب وإنما ثبت السبب مقتضى لأن الاغتسال يقتضي سببا ولا عموم له فبطل فإن قيل المصدر في ذكر الفعل مذكور لغة فكان بمنزلة ما لو صرح به وهو نكرة في موضع النفي فيصير عاما فيصح الخصوص كما لو قال إن خرجت خروجا ونوى خروجا دون خروج أنه يصدق ديانة وكما لو قال إن اغتسلت غسلا الليلة فعبدي حر ثم قال عنيت به الجنابة خاصة يصدق فيما بينه وبين اللّه تعالى قلنا نعم المصدر وهو اغتسال مذكور لغة لا اقتضاء ولكنه اسم يرجع إلى صفة الفعل وحاله فلم يكن له عموم من قبل الأسباب والاسم الموضوع للسبب هو الغسل فأوجب العموم في الأسباب فصح الخصوص في ذلك وفي مسألة الخروج نوى خصوص صفة الفعل وحاله فلذلك صح كذا ذكر الشيخ في شرح الجامع فعلى هذا لو قال إن اغتسلت اغتسالا ونوى الاغتسال عن جنابة يجب أن لا يصدق أيضا ولو نوى اغتسالا فرضا أو نفلا يجب أن يصدق إلا أنه ذكر في بعض شروح الجامع ما يدل على خلافه فقيل ولا يقال إن لم يصح يعني ما نوى حيث إنه تخصيص ينبغي أن يصح من حيث إنه متنوع إلى نقل وفرض وتبرد لأنا نقول إنه غيره متنوع في نفسه لأنه غسل جميع البدن لغة وتلك أوصاف زائدة لا يتناولها اللفظ والنية تعمل فيما يحتمله اللفظ لغة لا في غيره وذكر في الجامع البرهاني إذا قال إن اغتسلت اغتسالا صحت نية التخصيص فيه لأن المصدر يقوم مقام الاسم وللاسم عموم فقد نوى الخصوص من العموم فيصح نيته فيما بينه وبين ربه بخلاف قوله إن اغتسلت لأن المصدر فيه غير مذكور فلا يقوم مقام الاسم ولا يقال إنه مذكور معنى إن لم يذكر صريحا لأنه مذكور في حق صحة الفعل لا في إقامته مقام الاسم فصار في حق إقامته مقام الاسم كأنه غير ثابت ولو قال إن اغتسل الليلة في هذه الدار فكذا أو نوى تخصيص الفاعل بأن قال عنيت فلانا دون غيره لم يصدق أصلا لأن الفاعل مذكور بطريق الاقتضاء لا من حيث اللغة لأن الصيغة مبنية للمفعول لا دلالة لها على الفاعل من حيث اللغة أصلا فبطل نية التخصيص وفي هذه المسائل كلها خلاف الشافعي لأن للمقتضي عموما عنده فيقبل (٢/٣٥٩) التخصيص بخلاف قوله إن اغتسل أحد فإنه إذا نوى فيه تخصيص الفاعل يصدق ديانة لا قضاء لأن الفاعل مذكور وهو نكرة وقعت في موضع النفي لأن الشرط في معنى النفي فعمت فقبلت التخصيص وكذا إذا قال اغتسلت غسلا ونوى غسل الجنابة يصدق ديانة لأن الغسل اسم للفعل وضع له من قبل أسبابه وليس بمصدر وقد وقع في موضع النفي منكرا فصح القول بتخصيص لكنه خلاف الظاهر إذ الظاهر للعموم فلا يصدق قضاء فصار أصل هذا الفصل ما أشير إليه في المبسوط وغيره أن نية التخصيص في غير الملفوظ لغو فإذا ذكر الفعل ونوى التخصيص في المفعول به كما ذكرنا أو الوقت كما إذا قال أنت طالق وأراد يوم الجمعة أو الحال كما إذا قال لرجل قائم لا أكلم هذا الرجل وأراد حال قيامه أو الصفة كما إذا قال لا أتزوج امرأة وأراد امرأة كوفية أو بصرية كانت نيته لغوا ولا يقال في هذه المسائل يحنث بكل طعام وكل شراب وكل مكان ولو كان اليمين بالطلاق أو العتاق حصل الطلاق والعتاق بالجمع وهذا آية العموم لأنا نقول ليس ذلك لأجل العموم بل لحصول المحلوف عليه فإنه لو تصور هذه الأفعال بدون الطعام والشراب والمكان لحصل الحنث أيضا وهو كالوقت والحال فإنه لو أكل وهو خارج الدار أو داخلها أو راكب أو راجل يحنث لا لعموم اللفظ لكن لحصول الملفوظ في الأحوال كلها فكذا هذا واعلم أن كون مسألة الأكل والشرب والخروج من قبيل المقتضى على قول من شرط في المقتضى أن يكون أمرا شرعيا كما أشار الشيخ إليه في الفرق بينه وبين المحذوف فقال فأما الاقتضاء فأمر شرعي ضروري وكما قال شمس الأئمة وثبوت المقتضى شرعا لا لغة مشكل لأن لافتقار الأكل إلى الطعام والشرب إلى الشراب والخروج إلى المكان لا يستفاد من الشرع بل يعرفه من لم يعرف الشرع أصلا إلا أن يقال المقتضى هو الذي ثبت ضرورة تصحيح الكلام شرعا أو عقلا لا لغة كما ذكر بعض المحققين في مصنفه في أصول الفقه أن المقتضى هو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا به لكن يكون من ضرورة اللفظ أما من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إلا به كقوله أعتق عبدك عني أو يمتنع وجوده عقلا بدونه مثل قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فإنه يقتضي إضمار الفعل وهو الوطء أو النكاح لأن الأحكام لا تتعلق بالأعيان بل لا يعقل تعلقها إلا بأفعال المكلفين أو يمتنع كون المتكلم صادقا إلا به مثل قوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان إنما الأعمال بالنيات لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل فحينئذ يمكن أن يجعل هذه المسائل من باب الاقتضاء لكن لا يتحقق الفرق بين (٢/٣٦٠) المقتضى والمحذوف إذ ذاك لأن المقدر فيما ذكر من نظائر المحذوف ثابت بدلالة العقل أيضا فيصير المقتضى والمحذوف قسما واحدا وهو خلاف ما اختاره الشيخ على أن كون هذه المسائل من الاقتضاء ممنوع على ذلك التقدير أيضا فإنه ذكر في تلك النسخة أن هذه المسائل ليست من قبيل المقتضى لأن اللفظ المتعدي يدل على المفعول بصيغته ووضعه لغة فأما المقتضي فإنما يثبت ضرورة صدق الكلام أو ضرورة وجود المذكور قوله وقد يشكل على السامع إلى آخره اعلم أن عامة الأصوليين من أصحابنا المتقدمين وأصحاب الشافعي وغيرهم جعلوا المحذوف من باب المقتضي ولم يفصلوا بينهما فقالوا هو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق وأنه يشمل الجميع وإنما اختلفوا في عمومه فذهب أصحابنا جميعا إلى انتفاء العموم عنه وذهب الشافعي وعامة أصحابه إلى القول بالعموم والقاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه تابع المتقدمين وجعل الكل قسما واحدا فقال المقتضى زيادة على النص لم يتحقق معنى النص بدونها فاقتضاها النص ليتحقق معناه ولا يلغو ففي تعريفه هذا دخل المحذوف أيضا ثم قال ومثاله قوله تعالى واسأل القرية أي أهلها اقتضاء لأن السؤال للتبيين فاقتضى موجب هذا الكلام أن يكون المسئول من أهل البيان ليفيد فثبت الأهل اقتضاء ليفيد قال وقال عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وعينها غير مرفوع فاقتضى ضرورة زيادة وهو الحكم ليصير مفيدا وصار المرفوع حكمها وثبت رفع الحكم عاما عند الشافعي المؤاخذة في الآخرة والصحة في الدنيا وعندنا إنما يرتفع حكم الآخرة لا غير لأن بذا القدر يصير مفيدا فتزول الضرورة قال وقال عليه السلام الأعمال بالنيات والمراد حكم الأعمال فإن عينها تثبت بلا نية وعند الشافعي يتعلق كل حكم بالنية على سبيل العموم وعندنا لا يتعلق إلا حكم الآخرة من الثواب فإنه مراد بالإجماع ولما ثبت هذا مرادا وصار الكلام مفيدا لم يتعد إلى ما ورائه كأنه قال ثواب الأعمال بالنيات ثم الشيخ المصنف رحمه اللّه لما رأى أن العموم متحقق في بعض أفراد هذا النوع مثل قوله طلقي نفسك وإن خرجت فعبدي حر على ما ذكر بعد هذا سلك طريقة أخرى وفصل بين ما يقبل العموم وما لا يقبله وجعل ما يقبل العموم قسما آخر غير المقتضى (٢/٣٦١) وسماه محذوفا ووضع علامة تميز بها المحذوف عن المقتضى فقال وقد أشكل على السامع الفصل أي يتحقق الاشتباه عليه في الفصل بين المقتضى وبين المحذوف على وجه الاختصار أي الشيء الذي حذف لأجل الاختصار ولكنه ثابت لغة وآية ذلك أي علامة الفصل والفرق بينهما أن الذي اقتضى غيره وهو الذي نسميه مقتضيا ثبت عند صحة الاقتضاء أي تقرر عند التصريح بالمقتضى وإذا كان محذوفا أي إذا كان الشيء محذوفا فقدر مذكورا انقطع عن المذكور أي انقطع ما أضيف إلى المذكور وتعلق به عنه وانتقل أي المقدر لعدم الشبهة أي لعدم الاشتباه والالتباس يعني الحذف إنما يجوز إذا كان في الباقي دليل عليه ولم يكن ملبسا وليس هنا التباس فجاز الحذف ثم استوضح أنه من قبيل المحذوف لا من قبيل المقتضي وأدرج فيه الدليل على الفرق بينهما فقال ألا ترى أنه الضمير للشأن متى ذكر الأهل أي صرح به انتقلت الإضافة أي إضافة السؤال إلى القرية عنها إلى الأهل فكان من قبيل المحذوف دون المقتضي لأن المقتضي لتحقيق المقتضى وتقريره لا لنقله أي نقل المقتضي عن المذكور إلى المحذوف فإن قيل قد يتقرر الكلام بعد إظهار المحذوف أيضا مثل تقرره في الاقتضاء كما في قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت أي فضرب فانشق الحجر فانفجرت وقوله جل ذكره فأدلى دلوه قال يا بشرى أي فنزع فرأى غلاما متعلقا بالحبل فقال يا بشرى وفي نظائره كثرة ولا يمكن أن يجعل هذا من باب الاقتضاء على ما ذكرتم لأنه ليس بأمر شرعي وإذا كان كذلك لا يتحقق الفرق بينهما بهذه العلامة قلنا ما ذكرنا من العلامة في جانب المقتضي وهو التقرر عند التصريح به لازم وذلك في جانب المحذوف غير لازم فإن الكلام عند التصريح به وقد يتقرر وقد لا يتقرر كما في قوله واسأل القرية فبلزومه في المقتضي وعدم لزومه في المحذوف يتحقق الفرق بينهما وفيه ضعف سنبينه وحقيقة الفرق أن المحذوف أمر لغوي والمقتضي أمر شرعي قوله ومثله أي مثل المحذوف يعني من نظائره أو مثل قوله تعالى واسأل القرية قوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه لما استحال ظاهره أي العمل بظاهره وإجراؤه عليه لأن ظاهره يقتضي رفعها بالكلية عن جميع الأمة لكون الأمة عبارة عن جميع من آمن (٢/٣٦٢) بالنبي عليه السلام إلى يوم القيامة وكون الألف واللام في الخطأ والنسيان للماهية أو للاستغراق إذ لا عهد بالإجماع والعمل به غير ممكن لإفضائه إلى الكذب في كلام صاحب الشرع ضرورة تحققها في حق الأمة فلا بد من تقدير شيء يمكن إضافة الرفع إليه تصحيحا للكلام وهو الحكم لأنه هو الذي يقتضيه هذا الكلام لأن تصرف صاحب الشرع في الأحكام ولما ثبت أن الحكم وهو المقدر كان من قبيل المحذوف لا من قبيل المقتضي لتغير ظاهر الكلام على تقدير التصريح به من انتقال الفعل وهو الرفع عن الظاهر وهو الخطأ واختاره إليه ومعنى جمع الشيخ بين المضمر والمحذوف في قوله كان الحكم مضمرا محذوفا مع تحقق الفرق بينهما وهو أن المضمر ما له أثر في الكلام مثل قوله تعالى والقمر قدرناه والمحذوف لا أثر له مثل قوله تعالى واسأل القرية هو أن بعض الأصوليين سموا هذا النوع مضمرا وقد سماه الشيخ محذوفا فجمع بينهما إشارة إلى أنه أراد به ذلك النوع لا غيره وإلى أنه لا فرق بينهما فيما نحن بصدده وكذلك قوله عليه السلام أي ومثل قوله تعالى واسأل القرية أو ومثل الحديث المذكور قوله عليه السلام الأعمال بالنيات في أن المقدر فيه من قبيل المحذوف لا من قبيل المقتضي وذلك لأن العمل بظاهره لما اقتضى أن لا يوجد عمل بلا نية لدخول اللام المستغرق للجنس في الأعمال ثم الحكم بأنها تفتقر إلى النية وقد تعذر العمل به لتأديته إلى الكذب الذي هو مستحيل في كلام الرسول عليه السلام لتحقق كثير من الأعمال بدون النية لم يكن بد من إدراج شيء يصح به الكلام ويمكن العمل به وهو الحكم أو الاعتبار وعلى ذلك التقدير يتغير الكلام لأن الحكم حينئذ يصير هو المبتدأ المحكوم عليه ويرتفع بالابتداء وينجر لفظ الأعمال الذي كان مرفوعا بالابتداء ومحكوما عليه بالإضافة فكان من قبيل المحذوف لا من قبيل المقتضي ولما سلك الشيخ هذه الطريقة لزم عليه أن يقول بعموم المقدر وهو الحكم في الحديثين المذكورين كما قال الشافعي رحمه اللّه لأنه ثابت لغة لا اقتضاء فكان مثل المصرح به ولو صرح به لوجب القول بعمومه أو بإطلاقه فكذا هذا ثم مع ذلك لم يقل به وقد اتفق مشايخنا أن القول بعمومه لا يجوز فثبت أنه من باب الاقتضاء إذ ليس مانع من العموم غيره فأجاب عن ذلك وقال سقوط عمومه ليس من قبل الاقتضاء ولكنه من (٢/٣٦٣) قبل الاشتراك فإن الاشتراك لا يقبل العموم أيضا كالمقتضي عندنا فلا يلزم من عدم جواز عمومه كونه من باب الاقتضاء وقد مر بيان الاشتراك فيه في باب ما يترك به الحقيقة فثبت بما ذكرنا الفرق بين المقتضي والمحذوف وأما ما حذف اختصارا كان عاما أي يقبل العموم لأن الاختصار أحد طريقي اللغة فكان المختصر ثابتا لفظا والعموم من أوصاف اللفظ بخلاف المقتضي فإنه أمر شرعي ثبت ضرورة وإنها تندفع بالخاص فلا يصار إلى العموم من غير ضرورة لأنه إثبات الشيء بلا دليل هذا بيان الطريقة التي اختارها الشيخ هاهنا وشمس الأئمة وعامة المتأخرين وقد اختار الشيخ في شرح التقويم طريقة المتقدمين كما هو اختيار القاضي في التقويم ومن سلك تلك الطريقة يمكنه أن يجيب عن كلام المتأخرين بأن يقول العلامة التي ذكرتموها لا يصلح فارقة بينهما لأن الكلام في المقتضي قد يتغير أيضا فإن قوله أعتق عبدك عني يتغير بالتصريح بالمقتضي وهو البيع لأنه لم يبق العبد على تقدير ثبوته ملكا للمأمور بل يصير ملكا للأمر وصار على ذلك التقدير كأنه قال أعتق عبدي عني وهذا تغيير وكذا في قوله إن اغتسل الليلة في الدار فكذا يتغير الفعل والمسند إليه بتصريح المقتضي وهو الفاعل فإنه ثابت اقتضاء على ما نص عليه الشيخ وفي المحذوف قد لا يتغير الكلام بعد إظهاره كما بينا في قوله تعالى اضرب بعصاك الحجر فانفجرت وأمثاله وكما في قوله إن خرجت فعبدي حر فإن المصدر فيه من قبيل المحذوف حتى صح فيه نية التخصيص لوقوعه في موضع النفي ولم يتغير الكلام بتصريحه وما ذكرتم من الجواب لا يغني شيئا لأنه لو وجد كلام يحتاج فيه إلى إضمار ولا يتغير الكلام بتصريحه لا يعرف بلزوم تقرر الكلام في المقتضي وعدم لزومه في المحذوف أنه في هذه الصورة من أي القسمين لاشتراكهما في التقرر وإن امتاز أحدهما لجواز التغير وإذا كان كذلك يجعل الكل بابا واحدا وكذا المقدر في الحديثين المذكورين ليس من باب الحذف الذي بينتموه لأن الكلام بدونه مفيد للمعنى لغة ولهذا لو صدر مثله عن غير الرسول لما قدر فيه شيء بل يحمل على حقيقته إن أمكن وإلا فعلى الكذب وإنما قدر فيهما ما ذكرنا ضرورة صدق الرسول فكيف يكون هذا من باب اللغة بل هو من باب الاقتضاء مع ذلك التغير وقولكم المقتضي لتصحيح المقتضى وتقريره فلا يصلح مغيرا له مسلما ولكن المقتضي لتصحيح مجموع الكلام وتقويم معناه لا لإفراد كلماته وذلك حاصل مع التغير (٢/٣٦٤) الذي ذكرتم فلا يكون مبطلا له بل يكون مقررا ومصححا وأما المسائل التي صحت فيها نية العموم وهي التي حملتكم على مخالفة المتقدمين فليست من باب الاقتضاء على هذه الطريقة أيضا لأن المصدر في قوله طلقي نفسك مثلا ليس بمقدر ولا غير مذكور بل معناه افعلي فعل التطليق والكلامان ينبئان عن معنى واحد إلا أن أحدهما أوجز مثل الأسد والغضنفر فكان المصدر مذكورا فيصح فيه نية التعميم واعلم أن المحذوف عند القاضي الإمام أبي زيد رحمه اللّه لما كان من قبيل المقتضي عرف المقتضى بتعريف دخل فيه المحذوف أيضا على ما ذكرنا ووافقه الشيخ في التعريف ولكن لما خالفه في المحذوف لا بد له من أن يزيد في التعريف قيدا ينفصل به المقتضي من المحذوف ليصير به الحد مانعا بأن يقول وأما المقتضى فزيادة على النص ثبت شرطا لصحة المنصوص عليه شرعا أو نحوه وإلا فلم يستقم الحد وقد ذكر الشيخ في بعض مصنفاته المقتضى عبارة عن زيادة ثبتت شرطا لصحة حكم شرعي قوله ولهذا قلنا أي ولأن المقتضى أمر شرعي ضروري قلنا إذا قال لامرأته أنت طالق أو طلقتك ونوى به الثلاث بطلت نيته ولم يقع إلا واحدة كما لم ينو شيئا وقال الشافعي رحمه اللّه يعمل نيته ويقع ما نوى لأن قوله طالق يقتضي طلاقا والمقتضى بمنزلة المنصوص عليه فكان محتملا للتعميم فيعمل نية الثلاث فيه كما لو صرح به وقال أنت طالق طلاقا أو قال لها طلقي نفسك أو أنت بائن ونوى الثلاث والدليل على أنه يحتمل التعميم أنه لو ألحق الثلاث به فقال أنت طالق ثلاثا صح ذلك وكان ثلاثا منتصبا على التفسير والتفسير إنما يقع ببيان محتمل اللفظ لا بغيره وكذا إذا قيل فلان طلق امرأته صح الاستفسار عن العدد فيقال كم طلقها ولو لم يحتمل العدد لما استقام الاستفسار ولنا أنه نوى ما لا يحتمله لفظه فلغت نيته كما لو قال لها زوري أباك أو حجي ونوى به الطلاق وهذا لأن المذكور وهو طالق نعت المرأة لا اسم الطلاق وهو بنفسه لا يحتمل العدد والتعميم لأنه نعت فرد والفرد لا يحتمل العدد بوجه لا يقال للمثنى وللثلاث طالق بل يقال طالقان وطوالق وهذا لا خلاف فيه فإن عند الخصم عمل النية في الطلاق الذي دل عليه طالق لا في طالق ولكن ذلك الطلاق ثبت مقتضى لأنه لا يكون صادقا في هذا الوصف إلا بوقوع طلاق عليها سابق ليصح الوصف بناء عليه وذلك يقتضي إيقاعا من قبل الزوج وفي تصرفه ذلك فأثبتناه ليتحقق هذا الوصف منه صدقا وإذا كان ثابتا اقتضاء كان فيما وراءه تصحيح الكلام في حكم غير الملفوظ فلا تعمل نية التعميم فيه لأنها لا تعمل إلا في الملفوظ (٢/٣٦٥) وقوله لأن المذكور نعت المرأة أي المذكور وصفها الذي هو ليس بمحل للنية لا الطلاق الذي هو محل النية والطلاق الواقع بهذا الكلام ثابت شرعا مقدما على المذكور اقتضاء لا لغة لأن المذكور هي المرأة بأوصافها أي بوصفها لا الطلاق لأن قوله أنت عبارة عن المرأة وطالق عبارة عن الوصف والمرأة بجميع أوصافها ليست باسم للطلاق ولا لفعل الإيقاع الذي يصدر من الزوج ولا لأثر الفعل وهو الوقوع فلم يكن شيء منها ثابتا لغة لكنه أي لكن الاقتضاء يعني المقتضى أو لكن الطلاق الواقع ضروري لا عموم له لما مر فلم يكن الطلاق ثابتا في حق نية الثلاث فكان ناويا عموم ما لم يتكلم به فلم يصح وقد عرفت بهذا أن في كلام الشيخ تقديما وتأخيرا وترتيبه والطلاق الواقع مقدم عليه الاقتضاء لأن المذكور هي المرأة بأوصافها لا الطلاق لكن الاقتضاء ضروري لا عموم له وأنه قد نوى عموم ما لم يتكلم به فلم يصح وقوله ولم يكن المصدر هاهنا أي في قوله أنت طالق ثابتا لغة جواب عما يقال لا نسلم أن الطلاق ثابت اقتضاء بل هو ثابت لغة كما في قوله طلقي نفسك لأن كل مشتق اسما كان أو فعلا دال على المصدر لغة فكان ثبوت الطلاق في قوله أنت طالق من حيث اللغة فيصح نية التعميم فيه فأجاب وقال نعم الأمر كما قلت إلا أن دلالته لغة على مصدر قائم بالموصوف ليصح بناء الوصف عليه كضارب وقائم وجالس يدل على الضرب والقيام والجلوس في الذوات الموصوفة بها لا على المصدر قائم بالواصف وهاهنا وصف المرأة بالطالقية فتدل لغة على طلاق قائم بها هو مصدر كقولك طلقت المرأة طلاقا لا على طلاق قائم بالزوج هو بمعنى التطليق وإنما ثبت ذلك ضرورة ثبوت الطلاق في المرأة فكان أمرا شرعيا لا لغويا ولأن النعت لغة يدل على وجود الوصف ولكن لا أثر له في إيجاده فإن قولك ضارب أو جالس مثلا يدل على قيام الضرب والجلوس بالموصوف ولكن لا أثر له في إثبات الضرب والجلوس أصلا بل كانا ثابتين كان الكلام صدقا وإلا وقع كذبا ولغوا وهاهنا يثبت بهذا الكلام الطلاق الذي لم يكن موجودا أصلا تصحيحا له فكان شرعيا لا لغويا ولا يقال أنت طالق جعل إنشاء في الشرع وخرج عن كونه إخبارا وصار معناه أنشئ الطلاق فلم يكن ثبوت الطلاق به من باب الاقتضاء لأن ذلك من ضرورة صحة (٢/٣٦٦) الإخبار لأنا نقول معنى صيرورته إنشاء هو الذي ذكرنا من ثبوت الطلاق اقتضاء لا غير فمن حيث إن الطلاق لم يكن ثابتا وثبت به سمي إنشاء ولكن طريق ثبوته ما ذكرنا فلم يخرج عن معنى الإخبار بالكلية ولهذا كان جعله إنشاء ضروريا حتى لو أمكن العمل بكونه إخبارا لم يجعل إنشاء بأن قال للمطلقة والمنكوحة أحديكما طالق لا يقع الطلاق فعرفنا أن كونه إنشاء مبني على الاقتضاء وكذلك ضربت بناء على مصدر ماض يعني وكما أن النعت يدل على مصدر قائم بالموصوف لا بالواصف كذا قولك ضربت يدل على مصدر ماض لا على مصدر ثابت في الحال وقوله طلقتك موضوع على مثاله فبدل على مصدر ماض لغة لا على مصدر في الحال فينبغي أن يلغو لأن التطليق لم يكن موجودا في الزمان الماضي ليصح بناؤه عليه لكنه جعل إنشاء شرعا تصحيحا له وأوجب مصدرا من قبل المتكلم في الحال فكان المصدر الثابت شرعيا لا لغويا فلم تصح فيه نية التعميم لثبوته اقتضاء قوله وأما البائن جواب عما يقال إن البائن في قوله أنت بائن نعت مثل طالق في قوله أنت طالق فيدل لغة على قيام البينونة بالموصوف ليصح بناؤه عليه وهي لم تكن موجودة قبل التكلم وإنما ثبتت شرعا بطريق الاقتضاء تصحيحا له ثم صحت نية التعميم فيها عندكم حتى لو نوى الثلاث يقع فليكن كذلك في طالق أيضا لأن الصريح أقوى من الكناية فقال قد سلمنا أن البائن وما يشبهه من الكنايات كالخلية والبرية مثل طالق من حيث إنه نعت فرد ولا دلالة على العدد وإن ثبوت البينونة به بطريق الاقتضاء مثل ثبوت الطلاق في طالق وهو معنى قوله مقتض للواقع إلا أنهما افترقا من حيث البينونة الثابتة به وإن كانت ثابتة بالاقتضاء تتصل بالمرأة للحال أي يظهر أثرها في الحال حتى حرم الوطء والدواعي على الزوج ولاتصالها وجهان أي ولثبوت البينونة في المحل اقتضاء طريقان ثبوت بينونة تقطع الملك أي الحل الثابت للزوج في الحال وثبوت بينونة تقطع الحل أي حل المحلية بأن لا تبقى المرأة محلا للنكاح في حقه فكان الثابت بطريق الاقتضاء متنوعا في نفسه فتعدد المقتضي حكما وهو قوله أنت بائن بواسطة تعدد المقتضى وهو البينونة يعني (٢/٣٦٧) صار قوله أنت بائن محتملا للبينونتين بسبب انقسام البينونة إلى كاملة وناقصة فإن أريد به الكاملة كانت هي الثابتة اقتضاء دون الثانية ومن شرطها وقوع الثلاث وإليه إثباته فتضمنت شرطها فوقع الثلاث وإن أريد به الناقصة فهي تثبت اقتضاء دون الأولى وهو معنى قوله على الاحتمال فثبت أن كل واحد منهما يثبت مقتضى للفظ ومحتملا له فإذا نوى الثلاث فقد عين أحد محتمليه فصح تعيينه وإذا نوى مطلق البينونة تعين الأدنى لأنه متيقن به وأما طالق فلا يتصل بالمرأة للحال أي في الحال واللام للوقت أي لا يثبت حكمه وأثره في الحال لبقاء جميع أحكام النكاح من حل الوطء ووجوب النفقة والسكنى لأن حكمه في الملك أي في إزالته معلق بالشرط وهو انقضاء العدة أو جعله بائنا عند أبي حنيفة رحمه اللّه وحكمه في الحل أي في إزالة حل المحلية معلق بكمال العدد وهو إيقاع الطلقتين الأخريين وإنما حكمه للحال أي الثابت في الحال ولفظ الحكم توسع انعقاد العلة أي انعقاد علة توجب الحكم في أوانه ويحتمل أن يكون أثرها زوال الملك بانقضاء العدة ويحتمل أن يكون زوال الحل بانضمام مثليها إليها وهذا الانعقاد في ذاته غير متنوع فلا تعمل فيه النية ولو تنوع إنما يتنوع بواسطة العدد أي إذا أردت أن تقسمه على نوعين لا يمكنك ذلك إلا بالتحاق العدد به فيصير حينئذ نفس الطلاق مؤثرا في إزالة الملك والطلاق الثلاث مؤثرا في إزالة الحل مثل البينونة الخفيفة والغليظة وإذا لم ينقسم إلا بواسطة العدد صار العدد في التنويع وإزالة الحل فلم يثبت مقتضى لقوله أنت طالق إذ لا دلالة له على العدد بخلاف البينونة لأنها متنوعة بنفسها فيصلح كل نوع مقتضى لقوله أنت بائن وذكر في الطريقة البرغرية بهذه العبارة ولا يلزم إذا قال أنت بائن أو أنت حرام لأنه وإن كان نعتا ولكن لما كانت البينونة متنوعة إلى خفيفة وغليظة وهذا النعت يثبت بإحدى البينونتين كان له أن يعين أحديهما فإذا عين ثبت ذلك الوجه اقتضاء وصار كالمنصوص عليه ومعلوم أن البينونة الغليظة لا تثبت إلا بسببها وهو التطليقات الثلاث (٢/٣٦٨) فثبت الثلاث اقتضاء أيضا فأما النعت في قوله أنت طالق فلا يثبت إلا بالطلاق والطلاق الواحد يثبت هذا الوصف والثاني والثالث ضم عدد آخر إليه فيكون تعميم المقتضى وفي البائن ما أثبتنا عموم البينونة لأنا لا نجمع بين البينونة الخفيفة والغليظة بل تثبت أحديهما لإثبات النعت اقتضاء إلا أن ذلك المقتضى لا يثبت إلا بسببه فيثبت بسببه اقتضاء قوله ولذا قال لها طلقي نفسك يحتمل أن يكون ابتداء كلام مثالا لعموم المحذوف ويجوز أن يكون من تتمة المسألة الأولى بيانا للفرق بينه وبين قوله طلقتك والمسائل المذكورة يعني قوله طلقي نفسك يخالف ما ذكرنا من المسائل حيث صحت نية الثلاث فيه دونها لأن المصدر هاهنا ثابت لغة لا اقتضاء لأن الأمر فعل مستقبل وضع لطلب الفعل أي المصدر الذي دل عليه في المستقبل ولا يتوقف ذلك على وجود الفعل في المستقبل بل يتوقف على تصور وجوده فيه وهو ثابت فصح الأمر لغة وإذا صح كان المصدر ثابتا لغة لأنه مختصر من قوله افعلي التطليق على مثال سائر الأفعال أي الأمر بها فإن قولهم اكتب واضرب واجلس ونحوها مختصر من قولهم افعل الكتابة وافعل الضرب وافعل الجلوس وكذا ضربت ويضرب مختصر من قولهم فعل الضرب في الزمان الماضي ويفعل الضرب في الزمان المستقبل وإذا كان المصدر ثابتا لغة احتمل الكل والأقل كما لو قال لها طلقي نفسك طلاقا وكسائر أسماء الأجناس فإنها تحتمل العموم والخصوص على ما مر بيانه وأما طلقت فنفس الفعل أي إخبار عن نفس الفعل ووجوده في الزمان الماضي ونفس الفعل في حال وجوده لا يتعدد بالعزيمة أو معناه طلقت ذاته نفس الفعل فإنه جعل إنشاء وتطليقا في الشرع لا أنه إخبار عن طلاق موجود قبله فصار قوله طلقت كسائر أفعال الجوارح والفعل حال وجوده يستحيل أن يتعدد بالعزيمة كالخطوة لا يصير خطوتين بالعزيمة فلهذا لا يعمل نية الثلاث فيه وذلك أي قوله طلقي نفسك في دلالته على المصدر لغة مثل قوله إن خرجت فعبدي حر في دلالته عليه فإنه إذا قال إن خرجت فعبدي حر وعنى به السفر خاصة صدق فيما بينه وبين اللّه تعالى ولم يصدق في الحكم وقال القاضي أبو هيثم من القضاة الأربعة لا يصدق ديانة (٢/٣٦٩) أيضا لأنه ذكر الفعل وأنه لا عموم له فلا يحتمل التخصيص كما في الاغتسال قال وجواب الكتاب أي الجامع محمول على ما إذا قال إن خرجت خروجا وهكذا كان في بعض النسخ العتيقة ولكن جواب الظاهر ما ذكرنا لأن ذكر الفعل ذكر للمصدر لغة والمصدر نكرة في موضع النفي فصار عاما بصفاته ومن صفاته أنه قد يكون مديدا ومثل الخروج إلى السفر وقد يكون قصيرا مثل الخروج إلى السوق والمسجد ويعرف اختلافهما باختلاف أحكامهما فإنه يتعلق بالسفر أحكام لا تتعلق بغيره فصح التخصيص فيما بينه وبين اللّه تعالى ولم يصدقه القاضي لأن فيه تخفيفا عليه وهذا بخلاف قوله طلقتك لأن صيغته تدل على مصدر ماض ولا مصدر في الماضي إلى آخر ما ذكرنا وهذا مستقبل لدخول حرف الشرط فيه فكان مثل قوله طلقي نفسك فيقبل التعميم فيصح تخصيصه قوله ولا يلزم إلى آخره إذا حلف لا يساكن فلانا ولا نية له فاليمين واقعة على الدار والبيت لأن المساكنة مفاعلة من السكنى وهي المكث في مكان على سبيل الاستقرار والدوام فيكون المساكنة بوجود هذا الفعل منهما على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك إذا سكنا بيتا أو سكنا في دار كل واحد منهما في بيت منها لأن جميع الدار مسكن واحد فإن نوى حين حلف أن لا يساكنه في بيت واحد صحت نيته ولم يحنث بالمساكنة في الدار وكان ينبغي أن يلغو نيته لأن المسكن غير ملفوظ وإنما ثبت اقتضاء ونية التخصيص فيما لا لفظ له باطلة إلا أنها صحت من حيث إنه نوى محتمل كلامه بأن المساكنة فعل يقوم بهما وذلك في أن يتصل فعل كل واحد منهما بفعل صاحبه وإنما يحصل ذلك في بيت واحد على الكمال وأما في الدار فيحصل الاتصال في توابع السكنى من إراقة الماء وغسل الثوب ونحوهما لا أصل السكنى فإذا لم ينو شيئا يحنث بمجاز السكنى لأن السكنى في دار واحدة تسمى مساكنة عرفا وإن كان كل واحد ساكنا في بيت وفي البيت الواحد يحنث حينئذ بعموم المجاز وإذا نوى البيت الواحد فقد نوى نوعا من أنواع المساكنة فيصح لكن نية جمل البيوت يصح يعني نية جملة البيوت أي مطلق البيوت من غير أن يعين واحد منها تصح من أجمل في الكلام إذا أبهم عادة متصل بالدار وقوله (٢/٣٧٠) وهو قاصر معترض يعني اليمين واقعة على المساكنة في الدار وإن كان معنى المساكنة فيها قاصرا باعتبار العرف فإن المساكنة فيها تسمى مساكنة في العرف قوله ولا يلزم عليه أي على ما ذكرنا أن المقتضي لا يقبل العموم وأنه فيما وراء تصحيح الكلام في حكم العدم المسألة المذكورة فإن الفراش فيها ثبت مقتضى للنسب وقد ظهر ثبوته فيما وراءه وهو الإرث فقال قد سلمنا أنه ثبت مقتضى إلا أن النكاح غير متنوع لا يقال نكاح يوجب الإرث ونكاح لا يوجبه بل الإرث من لوازم النكاح وأحكامه كالملك في البيع فإذا ثبت النكاح مقتضى ثبت حكمه وهو الإرث مثل النكاح المعقود عليه قصدا ألا ترى أن بطلان النكاح لما كان من لوازم الملك يثبت بالبيع الثابت مقتضى أيضا كالمالك مثل ما إذا قالت امرأة لمولى زوجها أعتق عبدك هذا عني بألف درهم أو قال رجل لمولى منكوحته أعتق أمتك هذه عني بألف ففعل يثبت البيع ويبطل النكاح أيضا لأنه من لوازمه فكذا هذا ولا يقال لا نسلم أن الإرث من لوازم النكاح وأحكامه فإنه قد يوجد بدونه كنكاح الكافرة والأمة لأنا نقول إنما امتنع الإرث هناك بعارض الكفر والرق كما يمتنع الحل بعارض الظهار والاعتكاف والحيض ألا ترى أنه لو زال المانع بأن أسلمت المرأة أو عتقت الأمة كان الإرث ثابتا بذلك النكاح مثل ثبوت الحل بزوال تلك العوارض ولو لم يكن موجبا للإرث في الأصل لم يثبت الإرث به عند زوال المانع وذكر شمس الأئمة رحمه اللّه أن ثبوت النكاح هاهنا بدلالة النص لا بمقتضاه إذ لا يتصور ولد فينا إلا بوالد ووالدة فكان التنصيص على الولد تنصيصا على الوالد والوالدة دلالة كالتنصيص على الأخ يكون تنصيصا على أخ آخر إذ الأخوة لا يتصور إلا بين شخصين وقد بينا أن الثابت بدلالة النص يكون ثابتا بمعنى النص لغة لا أن يكون ثابتا بطريق الاقتضاء مع أن اقتضاء النكاح هاهنا كاقتضاء الملك في قوله أعتق عبدك عني على ألف وبعدما ثبت العقد بطريق الاقتضاء يكون باقيا لا باعتبار دليل مسبق بل لانعدام دليل مزيل فعرفنا أنه منته بينهما بالوفاة (٢/٣٧١) وانتهاء النكاح بالموت سبب لاستحقاق الميراث وهو معنى قول الشيخ فيصير في حال بقائه مثل النكاح المعقود قصدا قوله والثابت بدلالة النص لا يحتمل الخصوص أيضا يعني كما أن المقتضى لا يحتمل التخصيص لأنه يقبل العموم فكذا الثابت بالدلالة لا يحتمل التخصيص أيضا لأن معنى التخصيص بيان أن أصل الكلام غير متناول له وقد بينا أن الحكم الثابت بالدلالة ثابت بمعنى النص لغة وبعدما كان معنى النص متناولا له لغة لا يبقى احتمال كونه غير متناول وإنما يحتمل إخراجه من أن يكون موجبا للحكم فيه بدليل يعترض عليه وذلك يكون نسخا لا تخصيصا وأما الثابت بإشارة النفس فعند بعض مشايخنا منهم القاضي أبو زيد رحمهم اللّه لا يحتمل الخصوص أيضا لأن معنى العموم مما يكون سياق الكلام لأجله فأما ما يقع الإشارة إليه من غير أن يكون سياق الكلام له فهو زيادة على المطلوب بالنص ومثل هذا لا يسع فيه معنى العموم حتى يكون محتملا للتخصيص قال القاضي الإمام الإشارة زيادة معنى على معنى النص وإنما يثبت بإيجاب النص إياه لا محالة فلا يحتمل الخصوص وبيان أنه غير ثابت قال شمس الأئمة والأصح أنه يحتمل ذلك لأن الثابت بإشارة النص كالثابت بالعبارة من حيث إنه ثابت بصيغة الكلام فكما أن الثابت بعبارة النص يحتمل الخصوص فكذا الثابت بإشارته وذكر بعض الشارحين أن صورته ما قال الشافعي رحمه اللّه لا يصلى على الشهيد لأنه حي حكما ثبت ذلك بإشارة قوله تعالى بل أحياء عند ربهم والآية مسوقة لبيان علو درجاتهم فأورد عليه ما روي أنه عليه السلام صلى على حمزة سبعين صلاة فأجاب بأن تلك الإشارة خصت في حقه أو هو خص من عموم تلك الإشارة فبقيت في حق غيره على العموم وقد بينا ضعف هذا فيما تقدم (٢/٣٧٢) تقسيمات الشافعي للدلالة قوله ومن الناس من عمل في النصوص أي استدل بها بوجوه أخر غير ما ذكرنا وهي فاسدة عندنا واعلم أن عامة الأصوليين من أصحاب الشافعي قسموا دلالة اللفظ إلى منطوق ومفهوم وقالوا دلالة المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق وجعلوا ما سميناه عبارة وإشارة واقتضاء من هذا القبيل وقالوا دلالة المفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ثم قسموا المفهوم إلى مفهوم موافقة وهو أن يكون المسكوت عنه موافقا في الحكم للمنطوق به ويسمونه فحوى الخطاب ولحن الخطاب أيضا وهو الذي سميناه دلالة النص وإلى مفهوم مخالفة وهو أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق به في الحكم ويسمونه دليل الخطاب وهو المعبر عندنا بتخصيص الشيء بالذكر ثم قسموا هذا القسم من المفهوم على ثمانية أقسام فمنها ما بدأ الشيخ بذكره في التمسكات الفاسدة أن النص على الشيء باسمه العلم أي بالاسم الذي ليس بصفة سواء كان اسم جنس كالماء في حديث الغسل والأشياء الستة في حديث الربا أو اسما علما كقولك زيد قام أو قائم يدل على الخصوص أي على تخصيص الحكم بالمنصوص عليه وقطع المشاركة بينه وبين غيره من جنسه عند قوم منهم أبو بكر الدقاق وأبو حامد المروذي وبعض الحنابلة والأشعرية ويسمى هذا مفهوم اللقب وعند جمهور العلماء لا يدل على التخصيص ونفي الحكم عما عداه تمسك الفريق الأول في ذلك بأن مفهوم اللقب لو لم يوجب التخصيص لم يظهر للتنصيص عليه فائدة إذ لا فائدة له سواء ولا يجوز أن يكون كلام صاحب الشرع غير مفيد ولأنه لو قال لمن يخاصمه ليست أمي بزانية ولا أختي زنت تبادر إلى الفهم نسبة الزنا إلى أم خصمه وأخته ولهذا قال مالك وأحمد بن حنبل يجب حد القذف على القائل بعد استجماع شرائطه ولو لم يكن دليلا لما تبادر إلى الفهم ذلك إذ لا موجب للتبادر إلى الفهم إلا الدلالة يؤيده قوله عليه السلام الماء من الماء (٢/٣٧٣) فإن الأنصار رضي اللّه عنهم فهموا التخصيص منه حتى استدلوا به على نفي وجوب الاغتسال بالإكسال لعدم الماء وأنهم كانوا من أهل اللسان وفصحاء العرب ومن أوجب الغسل بالإكسال لم يمنعوا الفريق الأول من الاستدلال بمفهوم هذا الحديث ولكنهم قالوا بنسخ مفهومه بقوله عليه السلام إذا التقى الختانان وجب الغسل فكان هذا دليلا على اتفاق الفريقين على القول بالمفهوم والمراد بالماء الأول في الحديث الماء الطهور وبالثاني المني وكلمة من للسببية أي استعمال الماء لأجل الاغتسال واجب بسبب المني والإكسال أن يجامع الرجل ثم يفتر ذكره بعد الإيلاج بلا إنزال يقال أكسل الفحل أي صار ذا كسل كذا في الفائق وتمسك الجمهور في ذلك بالكتاب والسنة فإنه تعالى قال فلا تظلموا فيهن أنفسكم أي في الأشهر الأربعة الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ولم يدل ذلك على إباحة الظلم في غيرها وقال تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء اللّه أي إلا إن شاء اللّه ثم لم يدل ذلك على تخصيص الاستثناء بالغد دون غيره من الأوقات في المستقبل ومثله قوله تعالى وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة ثم لم يدل ذلك على التخصيص بالجنابة دون غيرها من أسباب الاغتسال وقوله ولأنه عطف على ما تقدم من حيث المعنى وتقدير الكلام وقلنا نحن هذا أي ما قالوا إن التنصيص بالاسم العلم يدل على التخصيص باطل لأن ذلك أي التنصيص بالاسم العلم بدون الدلالة على الخصوص كثير ولأنه يقال إلى آخره لأن النص لم يتناوله (٢/٣٧٤) قال الشيخ في شرح التقويم النص متى أوجب حكما مقيدا باسم يكون ذلك دليلا على ثبوته في ذلك المسمى ولا يتناول غيره فلا يصير النص بذلك الاسم مانعا ثبوت الحكم في سائر المحال لأنه لم يتناولها ألا ترى أنه لم يتناول سائر المحال في إيجاب ذلك الحكم مع أنه وضع للإيجاب فلأن لا يتناول سائر المحال لنفي الحكم مع أنه لم يوضع للنفي أولى فكيف يوجب النفي وهو ضده وذكر في بعض الشروح أن الثبوت مع الانتفاء ضدان ولهذا يستحيل اجتماعهما في محل واحد في زمان واحد كالحركة والسكون والسواد والبياض فما يوجب السواد لا يوجب البياض وإن كانا في محلين فكذلك الثبوت والانتفاء لا يصلحان موجبين لعلة واحدة وإن اختلف المحل كالسواد والبياض واعترض عليه بأن ما ذكرتم عند اختلاف المحل غير مسلم لأن من شرائط التنافي اتحاد المحل ألا ترى أن النكاح يوجب الحل في حق الزوج والحرمة في حق غيره وكذا الاستيلاء على المباح يوجب الحل في حق المستولي والحرمة في حق غيره وكذا الأمر بالشيء إيجاب في حقه ونهي عن ضده فكذا النص يجوز أن يكون مثبتا للحكم في المنصوص عليه ونافيا عن غيره وأجيب بأنا لم ندع استحالة اجتماعهما بسببين مختلفين وإنما قلنا إن ما يكون مؤثرا في إثبات شيء لا يجوز أن يكون مؤثرا في إثبات ضده والحرمة على الغير فيما ذكرتم لم يثبت بالنكاح نفسه ولا بالاستيلاء ولكن لأن المحل لا يقبل إلا حلا واحدا فإذا ثبت في حق الزوج والمستولي انتفى عن غيرهما ضرورة فكان المثبت للحرمة على الغير ثبوت الحل وكذا الأمر لما وجب المأمور به ومن ضرورة الإتيان به ترك ضده لأن الاشتغال بضده يؤدي إلى تفويته ثبت حرمة الضد أو كراهته بوجوب المأمور به لا بالأمر نفسه ولكن الحرمة على الغير وحرمة الضد أضيفت إلى النكاح والأمر لإضافتهما إليها فأما ثبوت الحكم في محل فقد يستغني عن النفي عن غيره فلا يجوز أن يضاف النفي بلا ضرورة إلى المثبت وهو النص وقد أجمع الفقهاء على جواز التعليل وفيه دليل على أن القول بالتخصيص باطل إذ لو كان لخصوص الاسم أثر في نفي الحكم عن غيره لامتنع القياس لأن الحكم بالعلة لا يتعدى مع قيام المانع ولا مانع أقوى من النص إذ التعليل في مقابلته يؤدي إلى إبطاله وهو باطل ولكنهم قالوا النص الوارد في الأصل وإن دل على نفي الحكم في الفرع وهو المسكوت عنه لكنه يدل عليه بمفهومه لا بصريحه والمفهوم لا يمنع من القياس فلا (٢/٣٧٥) يفضي القول به إلى إبطال القياس بل إلى التعارض ولأن من شرط القياس مساواة الفرع الأصل في المصلحة المناسبة للحكم ومن شرط مفهوم المخالفة عدم مساواة المسكوت المنطوق في تلك المصلحة إذ لو كان مساويا له لكان مفهوم موافقة فإذا أمكن قياس المسكوت على المنطوق ثبت أن لا مفهوم لانتفاء شرطه وهو عدم المساواة وتخصيص الشيخ الفقهاء بالذكر في قوله وقد أجمع الفقهاء لا يوهمنك أن القول بعدم جواز القياس كما ذهب إليه نفاته يدل على ثبوت التخصيص بالتنصيص على الشيء بالاسم وأن عدم جواز القياس بناء عليه فإنهم إنما لم يجوزوه لتردده بين أن يكون صوابا وخطأ لا لنص يمنع منه بمنزلة العمل بخبر الفاسق فإنه لا يعمل بخبره لضعف في سنده لا لنص مانع من العمل به وإنما خصهم لأن الاحتجاج على الخصم يثبت بقولهم لا بقول نفاة القياس ورأيت في بعض النسخ لو كان مفهوم اللقب حجة لكان يلزم من قول القائل زيد موجود ومحمد رسول اللّه كفر القائل ظاهرا لأنه يؤدي بظاهره إلى أن غير زيد ليس بموجود وفيه إنكار وجود الصانع جل جلاله وأن غير محمد عليه السلام ليس برسول وفيه إنكار الأنبياء المتقدمين وكل ذلك باطل فكذا ما يؤدي إليه ثم أجاب الشيخ عما استدلوا به من قوله عليه السلام الماء من الماء بأن الاستدلال من الأنصار رضي اللّه عنهم على انحصار الحكم على الماء لم يكن لما توهم الخصم من دلالة التنصيص على التخصيص بل فاللام المعرفة المستغرقة للجنس المعرفة له عند عدم المعهود الموجبة للانحصار أو ما روي في بعض الروايات لا ماء إلا من الماء وفي بعضها إنما الماء من الماء فإن ذلك يوجب الحصر والتخصيص بالاتفاق وعندنا هو كذلك أي هذا الكلام موجب للاستغراق والانحصار كما قالت الأنصار ومعناه وجوب جميع الاغتسالات من المني أي بسببه لكن لما دل الدليل على وجوب الاغتسال من الحيض والنفاس أيضا نفي الانحصار فيما وراء ذلك مما يتعلق بالمني وصار معناه جميع الاغتسالات التي تتعلق بقضاء الشهوة منحصر في المني لا يثبت بغيره وهو معنى قوله فيما يتعلق بالماء فعلى هذا ينبغي أن لا يجب الاغتسال بالإكسال لعدم الماء لكن الماء فيه ثابت تقديرا لأن الماء يثبت عيانا مرة وهو ظاهر ومرة دلالة فإن التقاء الختانين وتواري الحشفة لما كان سببا لنزول الماء كان دليلا عليه فأقيم مقامه عند تعذر الوقوف عليه كالنوم أقيم مقام الحدث والسفر مقام المشقة فثبت أن (٢/٣٧٦) وجوب الغسل في الإكسال مضاف إلى الماء أيضا فكان هذا منا قولا بموجب العلة وأما فائدة التخصيص عندنا فهي أن يتأمل المستنبطون في علة النص فيثبتون الحكم بها في غير المنصوص من المواضع لينالوا درجة المستنبطين وثوابهم وهذا لا يحصل إذا ورد النص عاما متنا ولا للجنس كذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه اللّه قوله ومن ذلك أي ومن العمل بالوجوه الفاسدة أن الحكم إذا أضيف إلى مسمى بوصف خاص يعني إذا تعلق الحكم باسم عام مقيد بوصف كقوله عليه السلام في الغنم السائمة زكاة فإن اسم الغنم عام في جنسه ووصف السوم مختص ببعضه لا بكله بخلاف قوله تعالى يحكم بها النبيون الذين أسلموا فإنه وصف يعم النبيين أجمع وقوله عليه السلام في كل ذات كبد رطبة أجر فإن وصف رطوبة الكبد يعم جميع الحيوانات كان ذلك دليلا على نفيه أي نفي الحكم عند عدم ذلك الوصف كما لو نص عليه ويسمى هذا مفهوم الصفة وحقيقته أن يكون للمنصوص عليه صفتان فتعلق الحكم بإحدى الصفتين يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة كقوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا وقوله عليه السلام في سائمة الغنم زكاة من باع نخلا مؤبرة فثمرتها للبائع فتخصيص العمد والسوم والتأبير بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداها عند مالك والشافعي وجمهور أصحابهما وهو قول داود وأصحاب الظواهر وجماعة من المتكلمين وأبي عبيدة معمر بن المثنى وجماعة من أهل العربية وعندنا لا يدل وإليه ذهب أبو العباس بن شريح وأبو بكر القفال الشاشي والغزالي من أصحاب الشافعي والقاضي أبو بكر الباقلاني وجمهور المتكلمين واحتج الفريق الأول بما روي أن أبا عبيد القاسم بن سلام وهو من أئمة اللغة حكى عن العرب استعمالهم المفهوم وقال في قوله عليه السلام لي الواجد يحل عقوبته وعرضه أنه يدل على أن لي من ليس بواجد أي مطل من ليس يعني لا يحل عقوبته أي (٢/٣٧٧) من جنسه وعرضه أي مطالبته وبأن من قال لغيره اشتر لي عبدا أسود يفهم منه نفي الأبيض وإذا قال اضربه إذا قام يفهم منه المنع إذا لم يقم وبأن تخصيص الوصف لو لم يدل على نفي الحكم عما عداه لم يكن لذكره فائدة فإنه لو استوت العلوفة والسائمة في وجوب الزكاة لم تبق لذكر السائمة فائدة وتخصيص آحاد الفقهاء والبلغاء بغير فائدة ممتنع فتخصيص الشارع أولى واحتج الفريق الثاني بأن نفي الحكم عن غير المنصوص لا يفهم من مجرد الإثبات إلا بنقل متواتر عن أهل اللغة أو جار مجرى التواتر كعلمنا بأن قولهم ضروب وقتول وأمثالهما للتكثير وأن قولهم عليم وأعلم وقدير وأقدر للمبالغة ونقل الآحاد لا يكفي إذ الحكم على لغة ينزل عليها كلام اللّه تعالى بقول الآحاد مع جواز الغلط لا سبيل إليه ولم يوجد ولا يحسن الاستفهام فإن من قال إن ضربك زيد عامدا فاضربه حسن أن يقال إن ضربني خاطئا هل أضربه وإذا قال أخرج الزكاة من ماشيتك السائمة حسن أن يقال هل أخرجها من العلوفة فحسن الاستفهام دل على أنه غير مفهوم فإنه لا يحسن ذلك في المنطوق ولا يقال إنما حسن لأنه قد يراد به النفي مجازا لأنا نقول الأصل أنه إذا احتمل ذلك كان حقيقة وإنما يرد إلى المجاز لضرورة دليل ولا دليل وبأن الخبر عن ذي الصفة لا يبقى غير الموصوف فإن الرجل إذا قال قام أسود أو خرج لم يدل على نفيه عن الأبيض بل هو مسكوت عن الأبيض فكذلك الأمر وبمفهوم الاسم واللقب فإن الأسماء موضوعة لتمييز الأجناس والأشخاص كالإنسان فريد والصفات موضوعة لتمييز النعوت والأحوال كطويل وقصير وقائم وقاعد فإذا كان تقييد الخطاب بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه فإنه إذا قيل في الإبل الزكاة لا يدل ذلك على نفيها عن البقر وجب أن يكون التقييد بالصفات بمثابته وبأن أهل اللغة فرقوا بين العطف وبين النقض وقد قالوا اضرب الرجال الطوال والقصار عطف وليس بنقض ولو كان قوله اضرب الرجال الطوال بدلا على نفي ضرب القصر لكان قوله والقصار نقضا لا عطفا وقولهم لو لم يدل تخصيص الوصف على نفي الحكم عما عداه لم يبق له فائدة غير مسلم إذ الباعث على التخصيص يجوز أن يكون غيره لأن في البواعث عليه كثرة فإن قيل لو كان عليه باعث سوى اختصاص الحكم لعرفناه مع كثرة خوضنا في طلبه وتوفر دواعينا على طلب الحق قلنا ولو قلتم إن كل فائدة ينبغي أن تكون معلومة لكم فلعلها حاصلة ولم تعثروا عليها فكأنكم جعلتم عدم العلم بالفائدة علما بعدم الفائدة وهو خطأ (٢/٣٧٨) والدليل عليه أن التخصيص بالاسم لم يدل على النفي حتى عم الحكم في المكيلات والمطعومات في حديث الربا وقد اختص بالأشياء الستة مع أن كلام الشارع لا يخلو عن الفائدة وإذا طلبت الفائدة قيل لعل الداعي إليه سؤال أو حاجة أو سبب لم نعرفه فليكن في التخصيص بالوصف كذلك ثم نقول للتخصيص فوائد الأول ما بينا أنه لو استوعب جميع محل الحكم لم يبق للاجتهاد مجال ففي التخصيص ببعض الألقاب والأوصاف بالذكر تعريض للمجتهدين للثواب الجزيل الذي في الاجتهاد ليتوفر دواعيهم على العلم ويدوم العلم محفوظا بإقبالهم ونشاطهم في الفكر والاستنباط ولولا هذا لذكر لكل حكم رابطة عامة جامعة لجميع مجازي الحكم لا يبقى للقياس مجال الثانية أنه لو قال في الغنم زكاة ولم تخصص السائمة لجاز للمجتهد إخراج السائمة عن العموم بالاجتهاد فخص السائمة لقياس العلوفة عليها إن رأى أنها في معناها أو لا يلحق بها فيبقى السائمة بمعزل عن محل الاجتهاد الثالثة يجوز أن يكون الباعث على التخصيص عموم وقوع أو اتفاق معاملة خاصة أو غير ذلك من أسباب لا نطلع عليها فعدم علمنا بذلك لا ينزل منزلة علمنا بعدم ذلك بل نقول لعل إليه داعيا لم نعرفه وما يستدلون به من تخصيصات في الكتاب والسنة خالف الموصوف فيها غير الموصوف بتلك الصفات فالجواب عنها أن ذلك إما لبقائها على الأصل أو معرفتها بدليل آخر أو بقرينة مع أنها معارضة بتخصيصات لا أثر لها في نقيضها كقوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا في جزاء الصيد إذ يجب الجزاء على الخاطئ وقوله تعالى وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك والحل ثابت في اللاتي لم يهاجرن معه بالاتفاق وقوله جل ذكره ولا تأكلوها إسرافا وبدارا إنما أنت منذر من يخشاها إنما تنذر من اتبع الذكر فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم وإن خفتم شقاق بينهما لي أمثال لها لا تحصى وهذه المسألة أصل عظيم في الفقه وللفريقين كلام طويل يؤدي ذكره إلى الإطناب فلنقتصر على هذا القدر واللّه أعلم قوله وذلك مثل قوله تعالى أي نظير ما ذكرنا من الأصل قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن علق حرمة الربيبة بالدخول بامرأة موصوفة بأن تكون مضافة إلينا فوجب أن لا تثبت هذه الحرمة عند عدم (٢/٣٧٩) هذا الوصف وذلك في الزنا أي عدم الوصف يتحقق في الزنا فلا تثبت حرمة المصاهرة به وقوله وذلك دليل على المدعي أي تعلق الحكم بالوصف فيما ذكرنا مثل تعلق الحكم بالوصف في هذا الحديث وقد دل عدم الوصف وهو السوم فيه على عدم الحكم إذ لو لم يدل على النفي لوجبت الزكاة في العوامل بالخبر المطلق وهو قوله عليه السلام في خمس من الإبل شاة فكذا فيما نحن فيه ثم ألحق الشيخ هذه المسألة بمفهوم الشرط وجعلها مبنية عليه وبين وجه البناء فقال الوصف بمنزلة الشرط من حيث إن الشرط إنما يدخل على ما هو موجب للحكم في الحال لولا دخوله عليه فكان الشرط مؤخرا حكم الإيجاب إلى زمان وجود الشرط ونافيا له في الحال فكذا النص موجب بنفسه لولا الوصف فإذا قيد به تأخر الحكم في ذلك المسمى إلى زمان وجوده فكانا بمنزلة واحدة يوضحه أن قوله أنت طالق إن دخلت الدار لا يكون موجبا وقوع الطلاق ما لم يوجد الشرط وبدونه كان موجبا في الحال فكذا قوله أنت طالق إن دخلت الدار راكبة لا يكون موجبا ما لم يوجد الركوب مع الدخول وقد تقرر من أصله أن التعليق بالشرط يوجب النفي عند عدمه لما ذكرنا أنه مؤخر فكذا التقييد بالوصف وهذا بخلاف العلة أي الشرط أو الوصف يخالف العلة في أنها لا توجب العدم عند العدم لأنها توجب الحكم ابتداء لا أنه وجد موجب قبلها ثم صارت هي مؤخرة حكم ذلك الموجب إلى حين وجودها فتوجب الوجود عند الموجود والعدم عند العدم بل هي بمنزلة التخصيص بالاسم العلم فإنه لم يوجب النفي لأنه أوجب الحكم ابتداء إذ لم يسبقه موجب قبله حتى صار التنصيص عليه مؤخرا إلى حين وجوده فلذلك لا يوجب العدم عند العدم يوضحه أن التخصيص إنما يوجب النفي إذا تم الكلام بدونه كما في قوله عليه السلام في الغنم السائمة زكاة إذ لو سقطت السائمة لما اختل الكلام بخلاف قوله في الغنم زكاة فإنه لو أسقط الغنم لاختل الكلام ولم يبق فيه ما يوجب الحكم بدونه فلا يكون التخصيص به مؤخرا نافيا (٢/٣٨٠) ولنا أن أقصى درجات الوصف أي أعلاها إذا كان مؤثرا احتراز عن مثل قول الراوي نهى النبي عليه السلام عن بيع الحيوان نسيئة فإن وصف الحياة ليس بمؤثر في حرمة البيع وإنما المؤثر وصف النسيئة ومثال هذا أيضا في قوله أيضا رفع إبهام وهو أن قوله هذا يحتمل أن يكون إشارة إلى ما قبله من قوله ولا أثر للعلة في النفي فرفع ذلك الإبهام بقوله أيضا وبين أنه نظير التعليق بالوصف كقوله تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ولم يبين أنه إذا كان بمعنى الشرط ما حكمه مع أن النزاع فيه لأنه قد تبين حكم الشرط بعد هذا أنه لا أثر له في النفي فيفهم منه حكم ما ألحق به أيضا لما قلنا متعلق بقوله وهذا باطل قوله ولا يلزم على هذا الأصل وهو أن التخصيص بالوصف لا يدل على النفي ما ذكر في المبسوط أمة ولدت ثلاثة أولاد من غير زوج في بطون مختلفة بأن كان بين الولدين ستة أشهر فصاعدا فقال المولى الأكبر ولدي لم يثبت نسب الآخرين منه لأنه لما خص الأكبر بالدعوى صار كأنه نفى نسب الآخرين وقال هو ولدي دونهما ولولا التخصيص لثبت نسبهما أيضا لأنهما ولدا أم الولد ولهذا قال زفر رحمه اللّه يثبت نسبهما لأنه لا أثر للتخصيص في النفي وقد تبين بثبوت نسب الأكبر من وقت العلوق أنها صارت أم ولد له من ذلك الوقت وأنها ولدتهما على فراشه ونسب ولد أم الولد يثبت من المولى من غير دعوة إلا أن ينفيه ولم يوجد وقال في الشهادات عطف على قال الأول أي ولا يلزم أيضا ما قال محمد في كذا أما في المسألة الأولى وهي مسألة الدعوى فلم يثبت النفي بالخصوص أي بالتقييد بالوصف فإنه لو أشار إلى الأكبر وسماه باسمه فقال هذا ولدي أو فلان لم يثبت نسب الآخرين أيضا مع أن التخصيص بالعين أو الاسم العلم لا (٢/٣٨١) يوجب نفي الحكم عن غير المشار والمسمى باتفاق بين العامة ولكن إنما لا يثبت نسبهما لأن السكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة إليه بيان وهذا لأن السكوت محتمل والمحتمل لا يجوز إهداره فلا بد من الترجيح إلا أنه يرجح بقدر الدليل ألا ترى أن سكوت الشفيع والبكر حمل على الرضاء فكذلك هاهنا وجب أن يرجح وترجيحه أن يثبت نسب الأول لا غير لأن من علم أن هذا الولد مخلوق من مائه لا يحل له الامتناع عن الإقرار بنسبه بل يفترض عليه دعوة النسب فلو لم يجعله نفيا لبقي في عهدة الفرض ولو جعلناه نفيا لسكوت محتمل تضرر الصبي به وضرر المولى فوق ضرر الصبي فرجحنا جانبه لئلا يبقى تحت عهدة الخطاب وإنما لا يبقى تحت عهدته بانتفاء نسب الآخرين وهذا هو المراد من كلامنا أنه محل الحاجة إلى البيان فإن المولى محتاج إلى إسقاط الفرض عن ذمته ومحتاج إلى أن لا يلتحق به من ليس له منه والولد محتاج إلى النسب إلا أن حاجة المولى فوق حاجة الصبي فترجحت عليها وإذا تقرر بما ذكرنا تحقق الحاجة إلى البيان كان سكوته عن دعوة نسب الآخرين دليل النفي لا تخصيصه الأكبر بالدعوة ودليل النفي كصريح النفي ونسب أم الولد ينتفي بالنفي فكذا بدليل النفي وهذا نظير ما قيل إن سكوت صاحب الشرع عن البيان بعد وقوع الحاجة إليه بالسؤال دليل النفي لأن البيان وجب عند السؤال فكان تركه بعد الوجوب دليل النفي كذا في المبسوط وغيره ولا يقال لا حاجة إلى الدعوة لأنهما ولدا أم ولده لأن أمومية الولد يثبت بدعوة الأكبر فيكون ما هو دليل النفي مقارنا لأمومية الولد فلم يثبت النسب وذكر في المبسوط أيضا أن الفراش إنما يثبت لها من وقت الدعوة فكان انفصال الولدين الآخرين قبل ظهور الفراش فيهما فلا يثبت نسبهما إلا بالدعوة وأما الشهادة فإنما ترد عندهما لأن التخصيص وإن لم يوجب الحكم في مخالفه فلا أقل من أن يورث تهمة وشبهة فكان في تخصيص الشهود مكان إبهام أنهم يعلمون له وارثا في غير ذلك المكان وتحرزوا بهذا التخصيص عن الكذب فيورث تهمة والشهادة ترد بالتهمة ألا ترى أنهم لو قالوا لا نعلم له وارثا سواه في هذا المجلس لا يقضى بشهادتهم فكذا هذا فأما الأحكام فلا يصح إثباتها ونفيها (٢/٣٨٢) بالشبهة بل بالحجة المعلومة وقال أبو حنيفة رحمه اللّه هذا أي تخصيصهم مكانا وسكوتهم عن سائر الأمكنة ليس في موضع الحاجة لأن ذكر المكان غير واجب فإنهم لو سكتوا عنه واكتفوا بقولهم لا نعلم له وارثا يرثه تقبل شهادتهم بالاتفاق فلا يصلح دليلا على وجود وارث في غير ذلك المكان لأن السكوت في غير موضع الحاجة ليس بحجة وكما يحتمل تخصيصهم المكان علمهم بالوارث يحتمل المبالغة في نفي الوارث ومعناه أن يلده كذا مولده ومسقط رأسه ولا نعلم له وارثا غيره فيها بعد تفحص وإتقان فأحرى أن لا يكون له وارث آخر في مكان آخر ويحتمل التحرز والتورع عن المجازفة أي أنا تفحصنا في ذلك الموضع دون سائر المواضع فنخبر عما تحققنا ولا نخبر مجازفة عن سائر الأمكنة لأنا لم نتفحص فيها فعارض هذان الاحتمالان ذلك الاحتمال فلا يمنع العمل بشهادتهم بمثل هذه التهمة والأصل فيه ما روي أن الثابت بن الدحداح لما مات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأهل قبيلته هل يعرفون له فيكم نسبا قالوا لا إلا ابن أخت فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ميراثه لابن أخته إلى لبابة بن عبد المنذر فقد ذكروا أنهم لا يعرفون له وارثا غيره فيهم نسبا ولم يكلفهم أكثر من ذلك وعمل بشهادتهم كذا ذكر في المبسوط قوله ومن ذلك أي ومن العمل بالوجوه الفاسدة ما قال بعض أهل النظر إن القران في النظم يوجب القران في الحكم وصورته أن حرف الواو متى دخل بين جملتين تامتين فالجملة المعطوفة تشارك المعطوف عليها في الحكم المتعلق بها عندهم خلافا لعامة العلماء وأجمعوا أن المعطوف إذا كان ناقصا يشارك الجملة المعطوف عليها في خبره وحكمه جميعا ولهذا قالوا إن القران بين الجملتين بواو النظم في قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة يوجب سقوط الزكاة عن الصبي كسقوط الصلاة عنه تحقيقا للمساواة في الحكم وشبهتهم أن الواو للعطف في اللغة ولهذا يسمى واو العطف عندهم وموجب العطف هو الاشتراك ومطلق الاشتراك يقتضي التسوية ولهذا إذا كان المعطوف متعريا عن الخبر فإنه يشارك الأول في خبره وحكمه فيجب القول بالشركة (٢/٣٨٣) تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة (اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري سنة الولادة / سنة الوفاة ٧٣٠هـ. تحقيق عبد اللّه محمود محمد عمر. الناشر دار الكتب العلمية سنة النشر ١٤١٨هـ - ١٩٩٧م. مكان النشر بيروت عدد الأجزاء ٤ في الحكم إذا كانا كلامين تامين وهو معنى قوله واعتبروا بالجملة الناقصة والدليل عليه أن في كلام الناس يوجب القران الاشتراك فإن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي حر يوجب تعليق الطلاق والحرية جميعا بالشرط وإن كان كل واحد من الكلامين تاما مفيدا بنفسه فكذا في كلام صاحب الشرع وقلنا نحن إن عطف الجملة على الجملة في اللغة لا يوجب الشركة لأن الأصل في كل كلام أن يستبد بنفسه وينفرد بحكمه لا يشاركه فيه كلام آخر كقولك جاءني زيد وذهب عمرو لأن في إثبات الشركة جعل الكلامين كلاما واحدا وهو خلاف الحقيقة فلا يصار إليه إلا عند الضرورة وهي في الجملة الناقصة فإنها لما احتاجت إلى الخبر أوجب عطفها على الكاملة الشركة في الخبر ضرورة الإفادة وهذه الضرورة عدمت في عطف الجملة التامة على مثلها فلم يثبت الشركة وهذا أي عطف الجملة على الجملة بدون الشركة كثير في كتاب اللّه تعالى مثل قوله تعالى فإن يشأ اللّه يختم على قلبك ويمح اللّه الباطل وقوله تبارك اسمه لنبين لكم ونقر في الأرحام وقوله عز ذكره ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللّه على من يشاء وقوله جل جلاله قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى وغير ذلك فهذه جمل مستأنفة لم تشارك ما تقدمها في الإعراب فأنى تشاركها في المعنى والحكم ولهذا أي ولأن الشركة تثبت للافتقار قلنا في المسألة المذكورة إن العتق يتعلق بالشرط كالطلاق لأن قوله عبدي حر وإن كان تاما إيقاعا لكنه قاصر تعليقا أي ناقص لأنه عرف بدلالة الحال أن غرضه تعليق العتق بالشرط لا التنجيز ولم يذكر له شرطا على حدة فصار ناقصا من حيث المعنى والغرض وقد عطفه على المعلق بالشرط فيثبت الشركة للافتقار يؤيد ما ذكرنا أنه لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق وعمرة طالق لا يتعلق طلاق عمرة بالشرط بل يتنجز لأنه لو كان غرضه التعليق لاقتصر على قوله وعمرة لأن خبر الأول يصلح خبرا له فيثبت الشركة بالعطف وحيث لم يقتصر دل على أن مراده التنجيز بخلاف مسألتنا لأن خبر الأول لا يصلح خبرا (٢/٣٨٤) للثاني وهو نظير ما لو قال إن دخلت الدار فزينب طالق ثلاثا وعمرة طالق أن طلاق عمرة يتعلق بالشرط أيضا لأن غرضه تعليق الثلاث في حق زينب وتعليق نفس الطلاق في حق عمرة ولا يمكنه ذلك إلا بإعادة الخبر كما في قوله عبدي حر فإن قيل قد ثبت في قوانين علم المعاني أن رعاية التناسب شرط في عطف الجمل حتى لو قال قائل زيد منطلق ودرجات الحمل ثلثون وكم الخليفة في غاية الطول وفي عين الذباب جحوظ وكان جالينوس ماهرا في الطب والختم في التراويح سنة والقرد شبيه بالآدمي سجل عليه بكمال السخافة أو عد مسخرة من المساخر فدل أن القران في النظم يوجب القران في الحكم قلنا لا ننكر أن التناسب من محسنات الكلام ولكنا ننكر ثبوت الحكم به فإنه محتمل وبالمحتمل لا يثبت الحكم وهذا كالمفهوم فإنا لا ننكر أنه من محتملات الكلام وعليه بني علم المعاني ولكنه لا يصلح مثبتا للحكم لأنه لا يثبت بالاحتمال قوله وعلى هذا أي على أن افتقار الثاني إلى الأول في أمر يوجب الشركة وإن كان الثاني تاما بنفسه قلنا في قوله تعالى إلى آخره المحدود في القذف لا تقبل شهادته قبل التوبة بالاتفاق واختلف في طريق الرد فعندنا لا يقبل شهادته تتميما للحد وعند الشافعي رحمه اللّه لا يقبل للفسق فإنه بالقذف بلا شهود هتك ستر العفة على المسلم فصار به فاسقا ولهذا لزمه الحد وأنه لا يجب إلا بارتكاب جريمة موجبة للفسق وإذا ثبت فسقه بالقذف لا تقبل شهادته قبل الحد أيضا لوجود الفسق ويقبل إذا تاب قبل الحد أو بعده لزوال الفسق بالتوبة كسائر الفسقة إذا تابوا وعندنا ترد شهادته تتميما للحد وسببه القذف مع العجز عن إتيان أربعة من الشهداء لا نفس القذف لأنه خبر متميل بين الصدق والكذب وربما يكون حسبة من القاذف إذ علم إصراره ووجد أربعة من الشهود فإذا عجز لم يكن قذفه حسبة وإقامة لحق الشرع بل كان هتكا للستر لا غير وأنه حرام شرعا فصار سببا للحد والدليل عليه أنا نسمع بينة القاذف على إثبات ما قذف ولو كان قذفه كبيرة بنفسه لم يكن مسموعا ولا معمولا بحكمه بالبينة فثبت أنه إنما صار كبيرة بالعجز فإذا عجز وصار القذف حينئذ فسقا لزم القاضي إقامة الحد ولا تقبل شهادته في تلك الحالة لظهور فسقه ولكنها بعد القذف في مدة المهلة مقبولة لأنه لم يفسق بعد وإذا أقيم عليه الحد لا يقبل بعد وإن تاب لأن رد الشهادة من تمام حده وأصل الحد لا يسقط بالتوبة فما هو بمنزلته لا يسقط أيضا وإذا عرفت هذا فاعلم أن كل واحد من الفريقين تمسكوا في (٢/٣٨٥) إثبات مذهبهم بظاهر الآية فقال الشافعي إن قوله تعالى والذين يرمون المحصنات متضمن معنى الشرط وقوله فاجلدوهم جزاء له ولهذا دخل فيه الفاء أي من رمى محصنة فاجلدوه وقوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا جملة تامة منقطعة عن الأولى لما بينا أن الأصل في كل كلام تام أن يكون مستندا بنفسه والواو للنظم فلا يوجب القران في الحكم وقوله عز اسمه وأولئك هم الفاسقون جملة تامة أيضا ولكنها في معنى التعليل للجملة التي تقدمتها أي ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لأنهم فاسقون بذلك الرمي فكانت متصلة بما تقدمها بالاستثناء اللاحق بها يكون منصرفا إليهما فيصير كأنه قال إلا الذين تابوا فإنهم ليسوا بفاسقين بعد التوبة فاقبلوا شهادتهم ولأن الاستثناء بعد الجمل المعطوفة بعضها على بعض بالواو منصرف إلى الكل على ما عرف فكان ينبغي أن يسقط الكل بالتوبة رد الشهادة لزوال الفسق والجلد لزوال القذف بإكذاب النفس إلا أن الجلد حق المقذوف فتوبته في ذلك أن يستعفيه فلا جرم إذا استعفاه فعفا عنه سقط الحد أيضا وأصحابنا رحمهم اللّه قالوا إن قوله تعالى والذين يرمون المحصنات متضمن معنى الشرط كما قال ولكن نفس الرمي لا يصلح لإيجاب الحد لأنه أمر متردد بين الحسبة والجناية ولا يترجح جانب الجناية إلا بالعجز عن الإتيان بالشهود فعطف عليه ثم لم يأتوا لترجح جانبها وقد علمت أن المعطوف على الشرط فكان الكل شرطا للجزاء المذكور كما لو قال لنسائه التي تدخل منكن الدار ثم تكلم زيدا فهي طالق كان دخول الدار مع كلام زيد شرطا لوقوع الطلاق وإنما عطف بكلمة ثم لأن إقامة الشهود تتراخى عن القذف في العادة الغالبة ولا تقام عقيب الرمي متصلا به ثم رتب عليه الجزاء بقوله فاجلدوهم فتعلق الجلد به وصار من حكمه مثله في قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا ثم عطف عليه قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا فشاركه في كونه جزاء واحدا لأنه وإن كان تاما من الوجه الذي ذكره الخصم ولكنه من حيث إنه يصلح جزاء واحدا مفتقر إلى الشرط كما بينا في قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي هذا حر وإذا كان كذلك يلحق بالأول ويصير الكل حدا للقذف كما قال الشافعي في قوله وتغريب عام أنه من تمام البكر للعطف ولكنا لم نجعل التقريب حدا لأنه ثبت بخبر الواحد فلا يجوز الزيادة به على الكتاب ولأنه لا يصلح (٢/٣٨٦) أن يكون حدا لما فيه من الإغراء على ارتكاب الفاحشة دون الزجر فأما رد الشهادة فثابت بالكتاب معطوف على الجلد وأنه صالح لتتميم الحد لأن حد القذف تقام حقا للّه تعالى وللمقذوف على ما عرف وحقه في زوال ما لحقه من العار بتهمة الزنا وذلك إنما يحصل بأن يصير القاذف مكذب الشهادة مردود الكلام ولأن الإنسان يتألم برد الشهادة وإبطال كلامه فوق ما يتألم بالضرب فيصلح عقوبة فيحصل به الزجر ثم جريمة القاذف باللسان ورد الشهادة حد في المحل الذي حصل به الجريمة فكان جزاء وفاقا كشرعية حد السرقة في اليد التي هي آلة الأخذ والمقصود من الحد وهو دفع العار عن المقذوف في إهدار قوله أظهر منه في إقامة الجلد فلذلك جعلنا رد الشهادة متمما للحد وكان ينبغي أن يكتفي به لأنه إيلام باطنا كالقذف إلا أن كل أحد لا يتألم به ولا ينزجر به عن القذف فضم إليه الإيلام الحسي ليشمل الزاجر الجميع ويحصل الانزجار عاما وجعل الرد تتميما له ليكون جزاء وفاقا فإن قيل المراد من قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا شهادة يقيمها القاذف على صدق مقالته بدليل اللام في قوله لهم يعني إذا أقيم عليهم الحد لا تقبلوا لأجلهم شهادة على صدق مقالتهم ونحن نقول به فإن القاذف صار مكذبا شرعا ولو كان المراد ما ذكرتم لقيل ولا تقبلوا شهادتهم قلنا المراد شهادته في الحوادث بإجماع الصحابة فإنهم كانوا يقولون لمن حد حد القذف بطلت شهادته على المسلمين كيف والصحيح من المذهب عندنا أنه إذا قام أربعة من الشهود على صدق مقالته بعد إقامة الحد تقبل ويصير مقبول الشهادة وقوله تعالى لهم شهادة بمنزلة قوله شهادتهم كما يقال هذه دارك وهذه دار لك والدال عليه أن شهادة نكرة وقعت في النفي فيوجب العموم ولو حمل على ما ذكرتم لا يمكن تعميمها لأن شهادة تقيمها على سائر حقوقه مقبولة بالإجماع فكان ما قلناه أولى فإن قيل ولا تقبلوا كلام مبتدأ لأنه تحريم القبول وهو لا يصلح حدا لأن الحد فعل يلزم للإمام إقامته لا حرمة فعل وليس فيها فعل ولأن النهي يدل على وجود المنهي عنه وتصوره وأنتم أبطلتم والإبطال فوق النهي قلنا قولكم النهي لا يصلح لإقامة الحد مسلم غير أن النهي المحرم لقبول الشهادة دلنا على بطلان أداء الشهادة بالحد الذي أمضي على القاذف كما أن الأمر بالجلد دلنا على الوجوب بسبب سابق على الأمر وهو القذف إذ الأمر والنهي لإقامة ما وجب من فعل أو كف بسبب وإذا دل النهي عن (٢/٣٨٧) القبول على سبب متقدم أبطلتها وقامت الدلالة على أن القذف غير مبطل بنفسه علم أنه بطل حدا كأنه قال عز وجل فاجلدوهم ثمانين جلدة مؤلمة محرمة لقبول شهادتهم أو مبطلة لأداء شهادتهم وقولكم النهي يدل على تصور المنهي عنه قلنا المحدود في القذف شهادة تحرم قبولها حتى انعقد النكاح بحضوره ولا ينعقد بحضور العبد وأما قوله تعالى وأولئك هم الفاسقون فجملة تامة بنفسها منقطعة عما تقدمها لأن ما تقدمها جملتان فعليتان أمر بفعل ونهي عن آخر خوطب بهما الأئمة وهذه الجملة إخبار عن حالة قائمة بالقاذفين وبيان لجريمتهم فلا يصلح جزاء على القذف حتى يكون متمما للحد بل المقصود به إزالة إشكال عسى يقع وهو أن القذف خبر متميل وربما يكون حسبة إذا كان الرامي صادقا له أربعة من الشهود والزاني مصرا فكان يقع الإشكال أنه لماذا كان سببا لوجوب عقوبة تندرئ بالشبهات فأزال اللّه تعالى هذا الإشكال بقوله وأولئك هم الفاسقون أي العاصون بهتك ستر العفة من غير فائدة حين عجزوا عن إقامة أربعة من الشهداء وإذا لم يصح عطفه على الأول بقي كلاما مبتدأ وكانت الواو للنظم وكان الاستثناء منصرفا إليه لا غير لأن الاستثناء إنما يرجع إلى جميع ما تقدم إذا كان الكلام متصلا بعضه ببعض صورة ومعنى وهاهنا قد انقطع هذا الكلام عما تقدمه فاقتصر الاستثناء عليه فإذا تاب لا يقبل شهادته عملا بقوله أبدا ولا معنى لما قال إنه مذكور على وجه التعليل لرد الشهادة لأنه لو كان كذلك لكان من حق الكلام أن يقال فأولئك هم الفاسقون بالفاء فلما قيل بالواو علم أنه إخبار لا تعليل قال شمس الأئمة في المبسوط ولو كان رد الشهادة بسبب الفسق لكان في الآية عطف العلة على الحكم وذلك لا يحسن في البيان ولهذا الأصل قلنا بقبول شهادته قبل إقامة الحد عليه وإن لم يتب لأنه من تمام حده وأوانه بعد إقامة الحد وذكر في طريقة الإمام البرغري وغيرها أن شهادته بعد العجز عن إتيان الشهود قبل إقامة الحد مردودة ولكن بسبب الفسق لا بطريق الحد إذا تاب قبل إقامة الحد يقبل لأن تحقق العجز تحقق فسقه ولكن توقف بطلانها حدا على الجلد لأن الحد ورد الشهادة وإن وجبا بعد العجز ولكن بطلان الشهادة حكم الإبطال لا حكم وجوب الإبطال كما أن الألم الذي يلحقه حكم الجلد لا حكم وجوب إيقاعه لأن الجزاء ما يقام ابتداء بولاية الإمام أي الجزاء إنما (٢/٣٨٨) يحصل بفعل يحدث بولاية الإمام لا بالإخبار عن حالة قائمة بالجاني أحدثها بنفسه فاعتبر تمامها أي تمام هذه الجملة بصيغتها أي بنفسها فإنها مبتدأ وخبر من غير تعلق لها بالأولى فكانت هذه الجملة في حق الجزاء أي في كونها جزاء في حكم المبتدأ أي الكلام المستأنف المنقطع عما سبق وإن كانت من حيث إنها متضمنة اسم الإشارة والضمير متعلقة بأول الكلام إذ لا بد لها من متعلق سابق فلا يجعل في هذا مبتدأ والشافعي قطع قوله تعالى ولا تقبلوا عما سبق مع قيام دليل الاتصال وهو كونه جملة فعلية صالحة للجزاء مفوضة إلى الأئمة مثل الأولى بما قبله وهو قوله تعالى ولا تقبلوا مع قيام دليل الانفصال وهو كونه جملة اسمية غير صالحة للجزاء أو غير صالحة للتعليل وقلنا نحن بصيغة الكلام أي عملنا بما هو موجب الكلام وهو أن القذف سبب لوجوب الحد والعجز عن البينة شرط له بصفة التراخي يعني ليس الشرط هو العجز المتصل بالقذف في الحال لكن الشرط هو العجز بعد مضي مدة المهلة المؤقتة إلى آخر مجلس الحكم أو إلى ثلاثة أيام أو إلى ما يراه القاضي كما في سائر الدعاوى فإن عجز بعد ذلك تحقق الشرط وصار القذف حينئذ فسقا مقتصرا على الحال لا أنه ظهر كونه جناية من الأصل لاحتمال أنه قذف حسبة بأن كانت له بينة عادلة على صدق مقالته ولكنه عجز عن إقامتها لموتهم في مدة المهلة أو لغيبتهم أو لامتناعهم من أداء الشهادة فلذلك يقتصر على حالة العجز والرد حد مشارك للجلد فيثبت الرد مقارنا للجلد لأنه عطف بالواو على الجلد فلا يثبت قبله لكنه يثبت مقارنا لأن الواو لا توجب التراخي والعجز عطف بثم وهي توجب التراخي (٢/٣٨٩) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قوله ومن ذلك قول بعضهم إلى آخره اللفظ العام إذا ورد بناء على سبب خاص يجري على عمومه عند عامة العلماء سواء كان السبب سؤال سائل أو وقوع حادثة ومعنى الورود على سبب صدوره عند أمر دعاه إلى ذكره ومعنى الاختصاص بالسبب اقتصاره عليه وعدم تعديه عنه وقال مالك والشافعي رحمهما اللّه يختص بسببه وهو اختيار المزني والقفال وأبي بكر الدقاق وأبي ثور وذهب بعض العلماء منهم أبو الفرج من أصحاب الحديث إلى أن السبب إن كان سؤال سائل يختص به وإن كان وقوع حادثة لا يختص به احتج من قال بالتخصيص مطلقا بأن السبب لما كان هو الذي أثار الحكم لأنه لم يكن موجودا قبله تعلق به تعلق المعلول بالعلة فيختص به وبأنه لو كان عاما لم يكن في نقل السبب فائدة إذ لا فائدة له إلا اقتصار الخطاب عليه وقد اتفقوا على نقله وبأنه لو كان عاما لجاز تخصيص السبب وإخراجه عن العموم بالاجتهاد كما يجوز تخصيص غيره لأن نسبة العموم إلى جميع الصور الداخلة تحته متساوية وبأن من شرط الجواب أن يكون مطابقا للسؤال وإنما يكون مطابقا بالمساواة وإذا أجريناه على عمومه لم يبق مطابقا بل يصير ابتداء كلام واحتج من فرق بين وروده بناء على وقوع حادثة وبين وروده بناء على سؤال سائل بأن الشارع إذا ابتدأ بيان الحكم في حادثة قبل أن يسأل عنه فالظاهر أنه أراد مقتضى اللفظ إذ لا مانع منه وليس كذلك إذا سئل عنه لأن الظاهر أنه لم يورد الكلام ابتداء وإنما أورده ليكون جوابا عن السؤال وكونه جوابا عنه يقتضي قصره عليه وحجة العامة أن الاعتبار للفظ في كلام الشارع لأن التمسك به دون السبب واللفظ يقتضي العموم بإطلاقه فيجب إجراؤه على عمومه إذا لم يمنع عنه مانع والسبب لا يصلح مانعا لأنه لا ينافي عمومه والمانع هو المنافي يبينه أنه لو كان مانعا لكان تصريح الشارع بإجرائه على العموم إثبات العموم مع انتفاء العموم وهو فاسدا وإبطال الدليل المخصص وهو خلاف الأصل ولأن النص وهو العام ساكت عن سببه أي عن اقتصاره على سببه والسكوت لا يكون حجة يؤيد ما ذكرنا إجماع الصحابة والتابعين رضي اللّه عنهم على إجراء النصوص العامة الواردة مقيدة بأسباب على عمومها فإن آية الظهار نزلت في خولة امرأة أوس بن الصامت وآية اللعان نزلت في هلال بن أمية حين قذف امرأته لشريك ابن سحماء أو في عويمر العجلاني وآية القذف نزلت في قذفة عائشة رضي اللّه عنها (٢/٣٩٠) وآية السرقة في سرقة رداء صفوان أو سرقة المجن وقوله عليه السلام أيما إهاب دبغ فقد طهر في شاة ميمونة ولم يخصوا هذه العمومات بهذه الأسباب فعرفنا أن العام لا يختص بسببه أما قولهم السبب مؤثر للحكم فصار كالمعلول مع العلة فنقول ليس الكلام في مثل هذا السبب حتى لو كان السبب المنقول هو المؤثر كان الحكم متعلقا به أيضا وقولهم إن من شرط الجواب أن يكون مطابقا للسؤال قلنا إن أردتم باشتراط المطابقة أن يكون الجواب مساويا للسؤال فهو ممنوع عادة وشريعة أما عادة فلأن المجيب قد يزيد على قدر الجواب من غير إنكار يرد عليه وأما شريعة فلأنه تعالى لما سأل موسى عليه السلام عما في يمينه بقوله عز اسمه وما تلك بيمينك يا موسى زاد موسى عليه السلام على قدر الجواب فقال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى والنبي صلى اللّه عليه وسلم لما سئل عن التوضؤ بماء البحر قال هو الطهور ماؤه والحل ميتته فأجاب وزاد وإن زاد باشتراطها الكشف عن السؤال وبيان حكمه فلا نسلم عدم المطابقة لأنه طابق وزاد فإن قيل الأولى ترك الزيادة في الجواب رعاية للتناسب بينهما قلنا بأن إفادة الأحكام الشرعية أولى من رعاية الأحكام اللفظية وقولهم لو كان عاما لجاز تخصيص السبب بالاجتهاد قلنا إنما لا يجوز لأنه داخل في الخطاب قطعا إذ الكلام في أنه بيان له أو لغيره أم بيان له خاصة فإنه لا يجوز أن يسأل عن شيء فيجيب عن غيره ولكن يجوز أن يجيب عنه وعن غيره وقولهم لو كان عاما لم يكن في نقل السبب فائدة قلنا فائدته معرفة أسباب التنزيل والسير والقصص واتساع علم الشريعة وأيضا امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد قوله وهذه الجملة ولما بين الشيخ الخلاف في تخصيص العام بالسبب ولم يبين أن المراد بالسبب سبب الوجوب أو سبب الورود وأن المراد لو كان سبب الورود أريد به السبب الخاص أو العام ولا بد من تفصيل ذلك ليتضح صورة المسألة شرع فيه (٢/٣٩١) فقال وهذه الجملة أي جملة ما يختص بالسبب وما لا يختص به سواء كان سبب وجوب أو سبب ورود وسواء كان اللفظ عاما أو خاصا أربعة أوجه الأول ما خرج مخرج الجزاء لما تقدمه فيختص به لأنه جعل جزاء لما تقدمه تبين أن المتقدم سبب وجوبه كقوله تعالى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وقوله عز اسمه فاقطعوا أيديهما لما أخرجا مخرج الجزاء لقوله الزانية والزاني وقوله والسارق والسارقة كان الزنا والسرقة سببي وجوبهما وإذا تبين أن ما تقدمه سبب وجوبه يختص به أي يرتبط به لأن الحكم يختص بسببه بلا خلاف لأن الحكم كما لا يثبت بدون علته لا يبقى بدون العلة مضافا إليها بل البقاء بدونها يكون مضافا إلى علة أخرى إليه أشار شمس الأئمة رحمه اللّه والثاني ما لا يستقل بنفسه أي لا يفهم بدون ما تقدمه من السبب فيختص به أي يتعلق به أيضا لأنه لما لم يستقل بنفسه ما لم يرتبط بما قبله من السبب صار كبعض الكلام من جملته فلا يجوز فضلة للعمل به والثالث ما يستقل بنفسه ولكنه خرج مخرج الجواب وهو غير زائد على مقدار الجواب فهذا يتقيد بما سبق ويصير ما ذكر في السؤال كالمعاد في الجواب لأنه بناء عليه ولكنه يحتمل الابتداء لاستقلاله فإذا نواه يصدق ديانة وقضاء والرابع ما يكون مستقلا بنفسه زائدا على قدر الجواب فهذا من صور الخلاف وذكر في بعض نسخ الأصول بهذا الترتيب وهو أن الخطاب الوارد جوابا لسؤال سائل إما أن يكون مستقلا بنفسه دون السؤال أو لم يكن والثاني تابع للسؤال في عمومه وخصوصه أما في عمومه فمثل ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم قال فلا إذن فالسؤال لما كان غير مختص بأحد فكذلك الجواب وهو عدم الجواز عم الكل عند من قال بصحة الحديث وأما في خصوصه (٢/٣٩٢) فكما لو سأله سائل أيجزئني التوضؤ بماء البحر فيقول نعم فهذا وأمثاله لا يدل على التعميم في حق الغير والأول وهو أن يكون مستقلا لا يخلو من أن يكون مساويا للسؤال أو أخص أو أعم فإن كان مساويا فالحكم في عمومه وخصوصه عند كون السؤال عاما كما سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عمن يركب البحر أيتوضأ بماء البحر فقال عليه السلام البحر هو الطهور ماؤه أو خاصا كما سأله الأعرابي عن وطئه امرأته في نهار رمضان فقال أعتق رقبة كالحكم في غير المستقل حتى عم جواب الأول للكل ويختص جواب الثاني بالأعرابي وإن كان أخص كما لو سئل عن التوضؤ بماء البحر فنقول يجوز لك فالجواب يختص بالسائل ولا يثبت الحكم في حق غيره إلا بدليل آخر من دلالة أو قياس أو نحوهما إذ اللفظ لا عموم له وإن كان أعم من السؤال أو الحادثة التي ورد فيها فلا يخلو من أن يكون أعم في حكم آخر أو في ذلك الحكم فإن كان الأول كما سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته فلا خلاف في عمومه في الحكم الآخر وهو حل ميتته في المثال لأنه عام مبتدأ به لا في معرض الجواب إذ هو غير مسئول عنه وإن كان الثاني كقوله عليه السلام هو الطهور ماؤه لمن قال أيجزئني التوضؤ بماء البحر وكقوله عليه السلام لما مر بشاة ميتة كانت لميمونة أيما إهاب دبغ فقد طهر فهو محل الخلاف على ما بينا فتبين بما ذكرنا أن المراد من السبب سبب الورود وأنه لا بد من أن يكون السبب أخص لأنه لو كان عاما أيضا عم الحكم بالاتفاق لكن لعموم اللفظ عند العامة ولعموم السبب عندهم على ما مر بيانه يعني في مسألة القذف أن الجزاء مفتقر إلى الشرط متعلق به قوله وأما الثاني فكذا اعلم أن نعم وبلى وأجل من حروف التصديق فأما نعم فموجبه تصديق ما قبله من كلام منفي أو مثبت كما إذا قيل لك قام زيد فقلت نعم كان المعنى قام أو قيل لك لم يقم زيد فقلت نعم كان المعنى لم يقم وكذلك إذا وقع الكلامان بعد حرف الاستفهام فإذا قيل أقام زيد أو ألم يقم زيد فقد حققت ما بعد الهمزة وأما بلى فالإيجاب ما بعد النفي استفهاما كان أو خبرا فإذا قيل لم يقم زيد أو ألم يقم زيد فقلت بلى كان معناه قد قام وأما أجل فلا يصدق به إلا في الخبر خاصة نفيا كان أو إثباتا يقول القائل قد أتاك زيد أو لم يأتك فتقول أجل ولا يستعمل في جواب الاستفهام هذا هو المذكور في كتب النحو واختار الشيخ أن الاستفهام لازم فيما وقع بلى أو (٢/٣٩٣) نعم جوابا له باعتبار أصل الوضع وأن أجل يستعمل في الاستفهام أيضا فإذا قال أليس لي عليك ألف درهم فقال بلى يكون إقرارا لأنه لما كان تصديقا لما بعد النفي كان معناه لك علي ألف ولو قال نعم ينبغي أن لا يكون إقرارا لأنه تصديق لما بعد الهمزة في الاستفهام فكان معناه ليس لك علي ألف ولو قال أكان لي عليك كذا فقال نعم يكون إقرارا لما ذكرنا ولو قال بلى ينبغي أن لا يكون إقرارا لأنه لا يستعمل إلا في النفي وذكر صاحب كتاب بيان حقائق الحروف إذا قال الرجل لآخر اقض الدرهم الذي لي عليك فقال نعم فقد أقر به لأنه صدقه فيما قال وإذا قال بلى لا يكون إقرارا لأن بلى لم يأت في القرآن ولا في كلام العرب إلا بعد نفي ولم يتقدم هاهنا نفي وإن قال أليس قد أقرضتني ألف درهم فقال الطالب بلى فجحد المقر لزمه المال لأن هذا استفهام فيه معنى التقرير كما قال اللّه تعالى أليس اللّه بكاف عبده ومعنى التقرير أنك قد أقرضتني وقول الطالب بلى تصديق له في الإقرار فإن قال نعم لا يكون إقرارا لأنه صدقه في النفي وكذا إذا قال مالك علي شيء فقال نعم يكون تصديقا ولو قال بلى يكون ردا قال وهذا حقيقة العربية إلا أن الفقهاء يجوزون أن يستعمل بلى في موضع نعم ونعم في موضع بلى ولا يفرقون في الجواب في هذه المسائل بينهما قال وذكر الحاكم الشهيد في المنتقى في رجل قال لآخر أطلقت امرأتك فقال ن ع م أو قال ب ل ى قال هي طالق ولم يفرق بين نعم وبلى وهذه المسألة جوابها نعم أو لا لا بلى لأنه لم يتقدم فيها نفي هذا أصل بلى ونعم أي ما ذكرنا هو الموجب الأصلي لهاتين الكلمتين وهو أن يكون بلى جوابا للنفي مع الاستفهام ونعم لمحض الاستفهام نفيا كان أو إثباتا بشرط الاستفهام فيهما وهكذا ذكر شمس الأئمة أيضا لأن أكثر استعمالها في جواب الاستفهام وأجل يجمعهما أي يشمل المعنيين فيستعمل في موضع بلى وفي موضع نعم وقد عرفت أن هذا خلاف موضوعه في اللغة ولكنهم اعتبروا في استعمال هذه الحروف العرف فبنوا الأحكام عليه على أنه ذكر في الصحاح أن أجل جواب مثل نعم قال الأخفش إلا أنه أحسن من نعم في التصديق ونعم أحسن منه في الاستفهام فإذا قال أنت سوف تذهب قلت أجل وكان أحسن من نعم وإذا قال أتذهب قلت نعم وكان أحسن من أجل وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل أن أجل يجوز أن يقع بعد الاستفهام عند بعضهم وليس ذلك بمعروف (٢/٣٩٤) وقد يستعملان أي نعم وبلى في غير الاستفهام أي في غير موضع الاستفهام الذي هو محل استعمالهما في أصل الوضع على ما اختاره الشيخ على إدراج الاستفهام أي إضمار حرف الاستفهام في الكلام أو مستعارا لذلك أي يستعار هذا الكلام الخالي عن الاستفهام للاستفهام باعتبار كونهما كلامين خبريين لأصل الوضع أو باعتبار مساواتهما في الصورة كما إذا قال عليك لي ألف درهم فقال نعم يجعل إقرارا أو يضمر حرف الاستفهام كأنه قال أعليك لي ألف درهم كما أضمر في قوله تعالى إخبارا وتلك نعمة تمنها علي أي أتلك أو يجعل قوله عليك لي ألف مستعارا لقولك أعليك لي ألف وقد ذكر ذلك أي الاستعمال في غير المحل محمد في كتاب الإقرار في كلمة نعم خاصة من غير استفهام صريحا ومن غير احتمال الاستفهام إدراجا فقال إذا قال لآخر اقض الألف التي لي عليك فقال نعم يجعل إقرارا وكذا إذا قال الطالب لرجل أخبر فلانا أن لفلان عليك كذا أو أعلمه أو بشره أو قل له فقال المطلوب نعم يكون إقرارا ولا يمكن هاهنا إضمار حرف الاستفهام لأنه أمر ومحل الاستفهام الخبر فكان هذا طريقا آخر اختاره محمد بناء على العرف ويؤيده ما قال شمس الأئمة وقد يستعمل بلى ونعم في جواب ما ليس باستفهام على أن يقدر فيه معنى الاستفهام أو يكون مستعارا هذا مذهب أهل اللغة فأما محمد فقد ذكر في كتاب الإقرار مسائل بناها على هذه الكلمات من غير استفهام في السؤال أو احتمال استفهام وجعلها إقرارا صحيحا بطريق الجواب وكأنه ترك اعتبار حقيقة اللغة فيها بعرف الاستعمال ووجه آخر أن يقال معناه أنهما يستعملان في غير الاستفهام على إدراج الاستفهام إن أمكن ذلك أو مستعارا للاستفهام إن لم يمكن وقد ذكر ذلك أي هذا الوجه الأخير محمد في كلمة نعم من غير استفهام صريحا ومن غير احتمال الاستفهام إضمارا فكان مستعارا كقوله اقض الألف التي لي عليك لما لم يحتمل الاستفهام يجعل مستعارا للاستفهام لتضمنه معنى الخبر وصلاحية الخبر للاستفهام فيجعل كأنه قال قضاء الألف واجب لي عليك فاقضها ثم يجعل ذلك بمنزلة قوله أتقضي الألف وقوله نعم لما تضمن إعادة ما سبق صار كأنه قال اقض الألف التي لك علي فتصلح جوابا قوله وأما الثالث وهو أن يكون مستقلا بنفسه ولكنه خرج مخرج الجواب غير (٢/٣٩٥) زائد عليه فمثل قول الرجل لآخر تغد معي فقال إن تغديت فعبدي حر انصرف إلى ذلك الغداء حتى لو رجع إلى أهل فتغدى أو تغدى معه في يوم آخر لم يحنث وقال زفر رحمه اللّه هو واقع على كل غداء على الأبد كما لو ابتدأ اليمين به لكنا خصصناه وقيدناه بالفور بدلالة الحال وهي أنه أخرج الكلام مخرج الجواب ردا عليه وهو إنما دعاه إلى ذلك الغداء فيتقيد به ويصير كأنه قال إن تغديت الغداء الذي دعوتني إليه وهذا كالشراء بالدراهم ينصرف إلى نقد البلد بدلالة الحال وكذا إذا قالت له امرأته إنك تغتسل الليلة في هذه الدار من جنابة فقال إن اغتسلت فعبدي حر فإن يمينه يختص بذلك الاغتسال المذكور لأن كلامه خرج جوابا للكلام الأول فاختص به بهذه الدلالة ولم يزد هو على قدر الجواب لأن جواب الكلام أن يقول إن فعلت فعبدي حر وقوله إن اغتسلت مثله من غير زيادة لكنه مفسر والتفسير يؤكد ولا يغير قوله ولو قال إن اغتسلت الليلة أو في هذه الدار فعبدي حر صار مبتدأ ولا يتعلق بالكلام الأول وهذا هو القسم الرابع الذي هو من صور الخلاف وذلك لأنا لو جعلناه متعلقا به كان فيه اعتبار الحال وإلغاء الزيادة ولو جعلناه مبتدأ كان فيه اعتبار الزيادة وإلغاء الحال فكان هذا الوجه أولى لأن العمل بالكلام لا بالحال لأنه ظاهر والحال أمر مبطن فيكون الكلام صريحا في إفادة العموم والحال دلالة في اختصاصه بالسبب ولا قوام لها مع الصريح فلذلك رجحنا اللفظ وجعلناه ابتداء وعند المخالف هذا يحمل على الجواب أيضا اعتبار الحال لكنه عمل بالمسكوت وترك للعمل بالدليل فإن عنى به الجواب صدق فيما بينه وبين اللّه تعالى لأنه مع الزيادة يحتمل الجواب فإنه قد يزاد على الجواب للتأكيد كما مرت أمثلته ولكن لا يصدقه القاضي لأنه خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه وذكر في بعض الشروح أن العموم في الأقسام الأربعة ثابت فقوله فرجم عام من حيث الأسباب لأنه يحتمل أنه وقع لردة أو قتل بغير حق أو فساد في الأرض أو سياسة أو زنا بعد إحصان فعند ذكر الزنا تخصيص به وكذلك قوله فسجد يحتمل أنه وقع للتلاوة أو لقضاء المتروكة أو لشرع زيادة في الصلاة أو للسهو فلما نقل السبب معه تخصص به وكذلك بلى أو نعم عام لإبهامه من حيث إنه يصلح جوابا لأنواع من الكلام فعند ذكر السبب يتعلق به وعموم القسمين الأخيرين ظاهر لأن المصدر الذي دل عليه الكلام نكرة (٢/٣٩٦) واقعة في موضع النفي لأن الشرط في معنى النفي فتعم ولكنه لا يخلو عن تمحل وتكلف وما ذكرناه أولا أظهر وأوفق لعامة الكتب قوله ومن ذلك أي ومن العمل بالوجوه الفاسدة أن الشافعي رحمه اللّه جعل التعليق بالشرط يوجب العدم لا خلاف أن المعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط ولكن هذا العدم عندنا هو العدم الأصلي الذي كان قبل التعليق وعنده هو ثابت بالتعليق ففي قوله إن دخلت الدار فأنت طالق عدم الطلاق قبل وجود الشرط ولكن بالعدم الأصلي الذي كان قبل التعليق واستمر إلى زمان وجود الشرط وعنده هو ثابت بالتعليق مضاف إلى عدم الشرط وحاصله أن وجود الشرط يدل على وجود المشروط وعدمه يدل على انتفائه عند القائلين بالمفهوم أجمع وإليه ذهب بعض من أنكر المفهوم مثل أبي الحسن الكرخي من أصحابنا وابن شريح من أصحاب الشافعي وأبي الحسين البصري من متكلمي المعتزلة وعند عامة من أنكر المفهوم عدمه لا يدل على انتفاء المشروط ويسمى هذا مفهوم الشرط تمسك القائلون به بأن قوله إن دخل عبدي الدار فأعتقه يفهم منه لغة ولا تعتقه إن لم يدخل الدار فكما أن الدخول يوجب جواز الإعتاق فعدمه يمنع عنه فكان العدم مضافا إليه وبأن الشرط هو الذي يتوقف عليه الحكم فلو ثبت الحكم مع عدمه لكان كل شيء شرطا في كل شيء حتى يكون دخول زيد الدار شرطا في كون السماء فوق الأرض وإن وجد ذلك مع عدم الدخول كذا ذكر في القواطع والدليل عليه ما روي أن يعلى بن أمية قال لعمر رضي اللّه عنهما ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا وقد قال اللّه تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقال عمر رضي اللّه عنه عجبت مما عجبت منه فسألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال إنما هي صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته فلو لم يعقل من التعليق نفي الحكم عند عدم الشرط لم يكن لتعجبهما معنى مع أنهما من فصحاء العرب وفرق أبو الحسن الكرخي ومن واقفه من منكري المفهوم بين التقييد بالصفة ونحوها وبين التقييد بالشرط فقالوا التقييد بالشرط يدل على أن ما عداه بخلافه بخلاف غيره من (٢/٣٩٧) التقييدات لأن التعليق بالشرط يقتضي إيقاف الحكم على وجود الشرط وإذا وقف عليه انعدم بعدمه وليس في غيره من التقييدات إيقاف الحكم عليها فيبقى ما وراء المذكور موقوفا على حسب ما يقوم عليه الدليل وحجة العامة في مفهوم الشرط ما ذكرنا في مفهوم الصفة لأن مرجع مفهوم الشرط إلى مفهوم الصفة وقد بيناه مفصلا فلا نحتاج إلى إعادته هاهنا قال الغزالي الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجوده فقط فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط بأن لا يدل على وجوده عند عدم الشرط فأما أن يدل على عدمه عند العدم فلا والدليل عليه أنه يجوز تعليق الحكم بشرطين كما يجوز بعلتين فإذا قال احكم بالمال للمدعي إن كانت له بينة لا يدل على نفي الحكم بالإقرار هذا هو الطريق المشهور المذكور في عامة الكتب والطريق الذي ذكره الشيخ هو مختار القاضي الإمام وهو أن التعليق بالشرط لا يمنع السبب عن الانعقاد عند الشافعي رحمه اللّه وإنما أثره في تأخير الحكم إلى زمان وجود الشرط فلما لم يكن التعليق مانعا من الانعقاد كان السبب موجودا موجبا للحكم في الحال لكن التعليق منع وجود الحكم وأخره إلى زمان وجود الشرط فكان عدمه مضافا إلى عدم الشرط وعندنا المعلق لا ينعقد سببا وإنما الشرط أي التعليق بالشرط يمنع عن الانعقاد فلا يكون السبب موجودا موجبا للحكم في الحال فيكون عدم الحكم بناء على العدم الأصلي الذي كان قبل التعليق لا على عدم الشرط هو يقول التعليق يؤثر في الحكم دون السبب فإن من قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار لا يؤثر التعليق في قوله أنت طالق وإنما يوثر في حكمه بمنعه من الثبوت فإنه لولا التعليق لكان الحكم ثابتا في الحال ألا ترى أن قوله أنت طالق ثابت مع الشرط كما هو ثابت بدون الشرط وهو علة تامة بنفسه ولكن حكمه لا يثبت لمكان الشرط فتبين أن أثر التعليق في منع الحكم دون السبب بمنزلة التأجيل والإضافة وبمنزلة شرط الخيار في البيع فإنه يدخل على الحكم دون السبب فيوجب نفي الحكم قبل وجود الشرط وهو نظير التعليق الحسي فإن تعليق القنديل لا يؤثر في ثقله الذي هو سبب السقوط بالإعدام وإنما يؤثر في حكمه وهو السقوط وهذا بخلاف العلة فإن عدمها لا يوجب عدم الحكم لأن الحكم يثبت ابتداء لوجود العلة فلا يكون عدم الحكم قبل وجود العلة مضافا إلى عدم العلة باعتبار أن العلة نفت الحكم قبل وجودها بل عدم لعدم سببه فأما الشرط فمغير للحكم بعد وجود سببه فكان مانعا من ثبوت الحكم قبل وجوده مع وجود الموجب كما كان مثبتا وجود الحكم عند وجوده (٢/٣٩٨) قوله ولذلك أي ولأن أثر التعليق في تأخير الحكم لا في منع السبب عن الانعقاد أبطل الشافعي رحمه اللّه تعليق الطلاق والعتاق بالملك بأن قال لأجنبية إن تزوجتك أو نكحتك فأنت طالق أو قال إن تزوجت امرأة أو كلما تزوجت امرأة فهي طالق أو قال إن اشتريت عبدا فهو حر وقال لعبد الغير إن ملكتك أو اشتريتك فأنت حر كان هذا كله باطلا حتى لا يقع الطلاق والعتاق بهذه الأيمان بحال لأن السبب لما كان موجودا عند التعليق لا بد من وجود الملك في المحل لأنه لا يتحقق بدون الملك فيشترط قيام الملك في المحل ليتقرر السبب ثم يتأخر الحكم إلى وجود الشرط بالتعليق وجوز تعجيل النذر المعلق أي المنذور المالي بأن قال للّه علي أن أتصدق بعشرة دراهم إن فعلت كذا فتصدق بها عن النذر قبل وجود الشرط جاز عنده لأن قوله للّه علي أن أتصدق بعشرة سبب تام لإيجاب العشرة في الحال غير أن الشرط أخر وجوب الأداء إلى زمان وجوده فإذا أدى قبل وجود الشرط كان الأداء واقعا بعد وجوب السبب الموجب فيجوز وجوز تعجيل كفارة اليمين يعني الكفارة بالمال بأن أعتق قبل الحنث رقبة عن الكفارة أو أطعم أو كسا عشرة مساكين جاز عنده ويخرج عن عهدة اليمين لأن اليمين سبب للكفارة ولهذا تضاف الكفارة إليها فيقال كفارة اليمين إلا أن الحنث شرط لوجوب أدائها فكان التعليق به بقوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم أي حلفتم وحنثتم مؤخرا للحكم إلى حين وجوده بمنزلة التأجيل فلا يمنع جواز التعجيل لأن الأداء بعد سبب قبل وجوب الأداء جائز كتعجيل الزكاة والدين المؤجل وقال في قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات أي ومن لم يملك زيادة في المال يملك بها نكاح الحرة فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات أي فلينكح مملوكة من الإماء المسلمات والطول الفضل والفتاة الأمة فإن نكاح الأمة علق بعدم طول الحرة فتوجب الجواز عند وجود الشرط بمنظومه والفساد عند عدم الشرط وهو وجود الطول بمفهومه وكذلك وصفت الفتيات بالمؤمنات فيوجب الجواز عند وجود هذه الصفة والعدم عند عدمها فعند وجود الطول لا يجوز نكاح الأمة أصلا وعند عدمه يجوز نكاح الأمة المؤمنة دون الكافرة والحاصل أن جواز نكاح الأمة معلق بشرطين بعدم الطول وبصفة الإيمان فيثبت (٢/٣٩٩) عند وجودهما وينتفي بانتفاء أحدهما ورأيت في بعض النسخ أن جواز نكاح الأمة عنده متعلق بشروط أربعة سوى الشرط المتفق عليه من عدم الحرة تحته وهي عدم الطول للحرة وكون الأمة مؤمنة وخشية العنت وهو الزنا وأن لا يكون تحته أمة أخرى بنكاح أو بملك يمين لأن جواز نكاح الأمة عنده ضروري وهي إنما تتحقق عند استجماع هذه الشرائط ولا يلزم عليه أنه لم يعمل بمفهوم قوله المحصنات المؤمنات حيث جعل طول الحرة الكتابية مانعا من نكاح الأمة كطول الحرة المؤمنة ومفهومه يقتضي أن لا يكون طول الكتابية مانعا إذ لو كان مانعا لما كان لقيد الإيمان فائدة لأنه يقول العمل بالمفهوم إنما يجب إذا لم يعارضه دليل آخر وقد عارضه هاهنا فإن صيانة الجزء عن الاسترقاق واجب ما أمكن وقد أمكن ذلك بنكاح الحرة الكتابية مع رعاية وصف الإيمان في الولد فإنه يتبع خير الأبوين دينا فلا يجب العمل بالمفهوم وذكر عبد القاهر البغدادي في أصول الفقه أن الواجد لطول حرة ذمية واجد لطول حرة مؤمنة عندنا فلذلك منعناه من نكاح الأمة وقد قال بعض أصحابنا وهو أبو سعيد الإصطخري إذا وجد طول ذمية ولم يجد مؤمنة ترضى منه بذلك الطول كان له نكاح الأمة قال والجواب الأول أصح وذكر في التهذيب إن كان قادرا على نكاح حرة كتابية فهل يجوز له نكاح الأمة فيه وجهان أحدهما يجوز لأن اللّه تعالى قال أن ينكح المحصنات المؤمنات وهذا غير قادر على طول حرة مؤمنة والثاني وهو الأصح لا يجوز لأنه قادر على نكاح الحرة كما لو كانت في نكاحه حرة ذمية لا يجوز له نكاح الأمة وذكر في الإيمان في المحصنات ليس على سبيل الشرط بل ذكره تشريفا كما قال اللّه تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن الآية ثم المسلمة والذمية في هذا الحكم سواء وهو أن لا عدة عليها إذا طلقت قبل الدخول بها وإن أثبت الحكم في المؤمنات ولا يلزم أي على ما ذكر من جواز تعجيل الكفارة بالمال والمنذور المالي بناء على وجود السبب عدم جواز تعجيل البدني في الكفارة أو في النذر حتى لو كفر اليمين بالصوم قبل الحنث أو كفر بالصوم بعد الجرح قبل انزهاق الروح في كفارة القتل أو نذر للّه علي أن أصوم أو أصلي ركعتين إن فعلت كذا فأتى بالمنذور قبل الشرط لا يجوز في هذا كله بخلاف تعجيل المالي حيث يجوز لأن الحقوق المالية ينفصل وجوب أدائها عن نفس الوجوب لأن المال مع الفصل يتغايران فجاز أن يتصف المال بالوجوب ولا يثبت وجوب الأداء الذي هو الفعل ألا ترى أن من اشترى شيئا إلى شهر يثبت الوجوب بنفس (٢/٤٠٠) العقد ولا يثبت وجوب الأداء قبل حلول الأجل فلا يدل عدم وجوب الأداء على عدم الوجوب فأما البدني فلا يحتمل الفصل بين وجوبه ووجوب أدائه لأن الصلاة ليست إلا أفعالا معلومة وكذا الصوم فوجوب الصلاة والصوم لا يكون إلا وجوب الأداء فعدم وجوب الأداء فيه يكون دليلا على عدم الوجوب ضرورة ولما تأخر وجوب الأداء هاهنا بالإجماع انتفى الوجوب فلا يجوز الأداء قبل الوجوب ولهذا لا يجوز تعجيل الصوم قبل الشهر ويجوز تعجيل الزكاة قبل الحول ونحن نقول تأثير التعليق في منع السبب لا في حكمه فكان امتناع الحكم لعدم سببه لا لمنع التعليق إياه قصدا وهذا لأن التعليق دخل في السبب وهو قوله أنت طالق مثلا لأنه هو المذكور دون غيره فإذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق فقد علقه بهذا الشرط وقصد التطليق عند دخول الدار لا في الحال فلم يكن السبب موجودا قبل وجود الشرط ألا ترى أنه جعل قوله أنت طالق جزاء لدخول الدار والجزاء عند أهل اللغة يتعلق وجوده بوجود الشرط فإن من قال لغيره إن تكرمني أكرمك كان معلقا إكرامه بإكرام صاحبه إياه وكان إكرامه معدوما قبل إكرام صاحبه إياه فكذلك هاهنا لما جعل التطليق جزاء دخول الدار كان التطليق معدوما قبل وجود الشرط ولا معند لقولهم أنت طالق قد صار موجودا فلا وجه إلى جعله معدوما بالتعليق فيجعل التعلق مانعا لحكمه وهو وقوع الطلاق كشرط الخيار في البيع لأنا لا نجعل قوله أنت طالق معدوما ولكن نجعل التعليق مانعا من وصوله إلى المحل وذلك مانع من انعقاده علة لأن العلة الشرعية لا تصير علة قبل وصولها إلى محلها كما لا يصير علة قبل تمامها ألا ترى أن شطر البيع كما لا يكون علة لعدم تمام الركن لا يكون بيع الحر سببا أيضا لعدم إضافته إلى المحل وكما لا يكون قوله أنت سببا للطلاق قبل قوله طالق فكذا إذا أضيف أنت طالق إلى ميتة أو بهيمة أو أجنبية لا يكون سببا لعدم المحل وكذلك بعض النصاب لما لم يكن سببا لوجوب الزكاة فكذلك النصاب لكماله في ملك كافر لا يكون سببا أيضا ولما دخل التعليق على قوله أنت طالق منعه من الوصول إلى المحل كالقنديل المعلق لا يكون واصلا إلى الأرض ولأن الاتصال الشرعي يعرف تأثيره ولم يثبت شيء من أحكام الطلاق فيها فكيف يكون واصلا واعتبر هذا بالاتصال الحسي فإن فعل النجار ما لم يؤثر في المحل وهو الخشب لا ينعقد نجرا وكذا الكسر مع الانكسار وإذا لم يتصل إلى المحل لم يصر قوله أنت طالق علة وكان ينبغي أن يلغو ما لم يتصل بالمحل كقوله (٢/٤٠١) لأجنبية أنت طالق إلا أن وصوله إلى المحل لما كان مرجوا بوجود الشرط وانحلال التعليق جعلناه كلاما صحيحا له عرضية أن يصير سببا كشطر البيع له عرضية أن يصير سببا بوجود الشطر الآخر في المجلس حتى لو علقه بشرط لا يرجى وجوده ولا يمكن الوقوف عليه لغا أيضا بأن قال أنت طالق إن شاء اللّه قال الشيخ أبو المعين لو لم يكن الشرط مانعا للعلة وإنما يكون مانعا للحكم أدى ذلك إلى تخصيص العلة وهو مذهب فاسد ونظيره من الحسيات الرمي فإن نفسه ليس بقتل ولكنه بعرض أن يصير قتلا إذا اتصل السهم بالمحل وإذا حال بينه وبين الرمي ترس منع الرمي من انعقاده علة للعقل لا أنه منع القتل مع وجود سببه فكذا التعليق بالشرعيات وتبين بهذا أن المعلق بالشرط يصير كالمنجز عند وجود الشرط لأن الشرط إذا وجد ارتفع التعليق فصار ذلك الكلام تنجيزا في هذه الحالة فإن قيل الصحيح إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم جن فدخلت الدار تطلق ولو نجز في هذه الحالة لم يقع قلنا إنما يصير ذلك الكلام المعلق تنجيزا عقد وجود الشرط وذلك الكلام كان صحيحا منه والتنجيز إنما لا يصح من المجنون لأن كلامه غير معتبر شرعا فإذا كان هذا تنجيزا بكلام صحيح شرعا عمل في حقه أيضا وإذا ثبت أنه بمنزلة التنجيز يراعى للوقوع وجود المحل عند وجود الشرط فالحاصل أن التكلم من الحالف يوجد عند التعليق فيراعى أهلية التكلم في ذلك الوقت والوصول إلى المحل عند وجود الشرط فيراعى وجود المحل في ذلك الوقت كذا في جامع شمس الأئمة رحمه اللّه فإن قيل إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال لعبده إن طلقت امرأتي فأنت حر ثم دخلت الدار حتى طلقت لا يعتق العبد ولو صار مطلقا عند وجود الشرط للزم أن يعتق العبد قلنا إنما لا يعتق لأنه عرف بدلالة الحال أن غرضه من قوله إن طلقت فكذا منع نفسه عن تطليق بكلام مستأنف بعد اليمين يقدر على الامتناع عنه والإقدام عليه فينصرف اليمين إليه كما لو جرح رجلا ثم قال إن قتلته فعبدي حر ثم مات المجروح من جرحه لا يعتق العبد وصار قتلا بعد اليمين لأن غرضه المنع عن قتل يباشره في المستقبل ويقدر على الامتناع عنه إن شاء فكذا هذا قوله فبقي غير مضاف إليه أي غير متصل بالمحل ألا ترى توضيح لقوله لا ينعقد سببا يعني السبب ما يكون مفضيا إلى ثبوت الحكم ومتقررا عند ثبوته والسبب المعلق أي الكلام المعلق بالشرط الذي يصير سببا عند وجود الشرط ليس بمفض إلى (٢/٤٠٢) الحكم قبل وجود الشرط بل الشرط مانع عنه فكيف يجعل سببا وهذا لأنه جعل جزاء للشرط لينعقد يمينا إذ الشرط والجزاء يمين على ما عرف وقصده من هذا التصرف تحقيق موجبه وهو البر إلا أن البر لا يتأكد إلا بضمان يلزمه عند الهتك فجعل مضمونا بالجزاء ليتحرز عن الهتك وإذا كان المقصود من هذا التصرف تحقيق البر وفي تحقيقه إعدام موجب ما علق بالشرط لا وجوده لا يكون المعلق مفضيا إلى وجود الحكم بل يكون موجبا عدمه فلا يكون سببا قبل وجود الشرط وربما ذكرنا يتبين الفرق بين الإضافة والتعليق فإن الإضافة لثبوت الحكم بالإيجاب في وقته فإن قوله أنت حر غدا لوقوع الحرية فيه لا يمنع الحرية فيتحقق السبب لوجوده حقيقة وعدم ما يمنعه عن السببية لأن الغد وما يشبهه تعيين زمان الوقوع والزمان من لوازم الوقوع كما إذا قال أنت حر الساعة فكانت الإضافة تحقيقا للسببية والتعليق مانعا عنها ولهذا ذكر في نوادر الصوم من المبسوط إذا قال للّه علي أن أتصدق بدرهم غدا فعجل يجوز ولو قال إذا جاء غد فللّه علي أن أتصدق بدرهم فتصدق به قبل مجيء الغد لا يجوز لوجود السبب في الإضافة وعدمه في التعليق والعقد على البر ليس بطريق إلى الكفارة لأنها لا تجب إلا بالحنث أي عند الحنث واليمين مانعة من الحنث موجبة لضده وهو البر فكيف يكون مفضية إلى ما هي مانعة عنه وقوله وهو نقض العقد أي الحنث نقض اليمين دليل آخر يعني كما أن اليمين لا تصلح سببا للكفارة لأنها مانعة من الحنث لا تصلح سببا لها أيضا لأنها لا تبقى مع الحنث لأن الحنث ينافي اليمين لأنه نقض اليمين وما ينقض العقد ينافيه لا محالة وإذا لم يبق اليمين عند الحنث الذي تعلق وجوب الكفارة به لا تصلح أن تكون سببا لها قبل الحنث لأن من أوصاف السبب أن يتصور تقرره عند وجود المسبب فإن قيل هذا خلاف النص والعرف فإن اللّه تعالى أضاف الكفارة إلى اليمين بقوله عز اسمه ذلك كفارة أيمانكم يقال في العرف أيضا كفارة اليمين والإضافة دليل السببية والدليل عليه أن الصبي أو المجنون لو حلف باللّه أو بالطلاق ثم بلغ أو أفاق فحنث لا كفارة عليه ولو حلف مخاطب ثم جن فحنث تلزمه الكفارة وكذا في اليمين بالطلاق فلما شرطت أهليته وجوب الكفارة عند اليمين لا عند الحنث علم أن السبب هو اليمين وقولكم اليمين لا تصلح طريقا إلى الكفارة غير مسلم لأنه يتوصل بها إلى الكفارة (٢/٤٠٣) فإنه لولا اليمين لما وجبت الكفارة إلا أنه إنما يتوصل بواسطة الحنث لا بنفس اليمين وهذا هو حد السبب وهو أن يوصل إليه بواسطة كالجرح سبب للكفارة لأنه يفضي إلى القتل بواسطة السراية قلنا نحن لا ننكر أن اليمين سبب للكفارة ولكن نقول هي سبب لها بعد الحنث وفوات البر بطريق الانقلاب والكفارة مضافة إلى تلك اليمين لا إلى اليمين قبل الحنث كذا قال الإمام البرغري رحمه اللّه ونظيره الصوم والإحرام فإنهما يمنعان عن ارتكاب محظورهما وبعد الارتكاب يصيران سببين لوجوب الكفارة بطريق الانقلاب وذكر في الأسرار أنا نسلم أن اليمين فيما مضى سبب لإيجاب الكفارة ولكن خلفا عن البر لا أصلا والخلف يجوز أن يبقى بعد انقطاع العلة لأن العلة علة لإيجاب الأصل لا للبقاء والخلف يخلفه في البقاء ألا ترى أن ملك الثمن لا يثبت ابتداء بغير بيع ويبقى بعد انقطاع البيع بهلاك المبيع أو بيعه من إنسان آخر وكذا المهر يبقى بعد انقطاع النكاح بالطلاق فأما اشتراط الأهلية وقت اليمين فليست لكونها سببا للكفارة أو الطلاق ولكن لكونها سببا للبر والأسباب الملزمة لا تصح إلا من الأهل فأما العاقل إذا حلف ثم جن فقد أجبنا عنه وأما قوله يتوصل بها إلى الكفارة بواسطة الحنث فلا معنى له لأن السبب إذا كان يصير سببا بواسطة لا بد من أن يكون مفضيا إلى تلك الواسطة موصلا إلى الحكم كالجرح يفضي إلى الألم والألم يفضي إلى تلف النفس وهاهنا الحنث ممنوع بحكم اليمين على ما ذكرنا فكيف أن يكون اليمين مفضية إلى الحكم كذا في طريقة الإمام البرغري وتبين أن الشرط ليس بمعنى الأجل يعني تبين أن التعليق ليس كالتأجيل فإن التأجيل لا يمنع وصول السبب بالمحل لأن سبب وجوب التسليم في الدين والعين جميعا العقد ومحل الدين الذمة والتأجيل لا يمنع ثبوت الدين في الذمة ولا ثبوت الملك في المبيع وإنما يؤخر المطالبة والأجل مما يحتمل السقوط فيسقط بالتعجيل ويتحقق أداء الواجب وأما التعليق فيمنع وصوله إلى المحل وقبل الوصول لا يتم السبب ولا يتصور ثبوت الحكم قبل تمام السبب داخل على السبب الموجب وهو قوله أنت طالق فصار الحكم معدوما بعد الشرط أي بعد ذكر الشرط قبل وجوده بالعدم الأصلي أي العدم لعدم الدليل الموجب للحكم لا لمانع يمنع كما كان قبل اليمين فإن وجد الدليل الموجب للحكم مع قيام التعليق يجب الحكم به كما قبل التعليق وإلا فلا ففي قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا الآية قد قام الدليل على الجواز (٢/٤٠٤) بدون الشرط مثل قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم فانكحوا ما طاب لكم من النساء وأنكحوا الأيامى منكم فيجب القول به إذ لم يعارضه التعليق بالشرط وفي مثل قوله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا لم يقم دليل على ثبوت هذه الأحكام المعلقة بهذه الشروط قبل وجود هذه الشروط فبقيت على ما كانت قوله وهذا أي ما ذكرنا من تعليق الطلاق وأخواته بالشرط بخلاف البيع بشرط الخيار فإن الشرط فيه داخل على الحكم دون السبب لأن البيع لا يحتمل الخطر لأنه من قبيل الإثباتات وهي لا تحتمل الخطر لأنه يؤدي إلى القمار الذي هو حرام وفي جعله متعلقا بالشرط خطر تام فكان القياس أن لا يجوز البيع مع خيار الشرط إلا أن الشرع جوز ذلك ضرورة دفع الغبن فكان نظير أكل الميتة حالة المخمصة فيتقدر بقدر الضرورة وهي تندفع بجعله داخلا على الحكم دون السبب لأنه لو جعل داخلا على السبب لتعلق حكمه أيضا ضرورة استحالة ثبوت الحكم قبل السبب ولو جعل داخلا على الحكم لنزل سببه أي انعقد ونفذ في الحال ولم يتعلق بالشرط إلا أن حكمه يتأخر عنه والحكم مما يحتمل التأخر عن السبب فكان جعله داخلا على الحكم أولى تقليلا للخطر وفيه تحصيل المقصود أيضا وكان قوله وهو أي السبب مما يحتمل الفسخ جواب سؤال يرد عليه وهو أن يقال السبب لما نزل ولم يتعلق بالشرط لا يمكن فسخه بدون رضاء صاحبه لأنه من العقود اللازمة فلا يحصل المقصود لصاحب الخيار فقال البيع مما يقبل الفسخ فيمكن تدارك زوال السبب أو تدارك دفع الغبن بأن يجعل غير لازم ليمكنه فسخه بدون رضاء صاحبه فيحصل مقصوده والضمير في به راجع إلى الطريق الثاني وقوله بأن يجعل بدل من به والباء في بأدنى متعلقة بيجعل أي يمكن تدارك دفع الغبن بإدخال الشرط على الحكم دون السبب بأن يجعل السبب وهو البيع غير لازم بأدنى الخطرين وهو تعليق الحكم دون السبب فكان هذا الطريق من تعليق السبب فأما هذا أي ما نحن بصدده من الطلاق والعتاق ونحوهما فيحتمل الخطر أي التعليق بالشرط والخطر الإشراف على (٢/٤٠٥) الهلاك ومنه الخطر لما يتراهن عليه كذا في المغرب فوجب القول بكمال التعليق في هذا الباب بأن يجعل الشرط داخلا على أصل السبب إذ لو جعل داخلا على الحكم كان تعليقا من وجه دون وجه والأصل هو الكمال في كل شيء إذ النقصان بالعوارض وقد عدم العارض هاهنا فوجب القول بكمال التعليق وقيل في الفرق بين شرط الخيار وسائر التعليقات إن ثبوت الشرط في البيع بكلمة على أن إذ هي المستعملة فيه فيقال بعتك على أني بالخيار أو على أنك بالخيار وهذه الكلمة وإن كانت للشرط لكن عملها على خلاف عمل كلمة التعليق فإنك إذا قلت أزورك إن زرتني كنت معلقا زيارتك بزيارة صاحبك وإذا قلت أزورك على أن تزورني كنت معلقا زيارة صاحبك بزيارتك ويكون زيارتك سابقة على زيارته على هذا إجماع أهل اللغة وإذا كان كذلك لا توجب هذه الكلمة تعليق نفس البيع بهذا الشرط بل توجب تعليق الخيار بالبيع وثبوته به فينعقد البيع سابقا ثم يثبت الخيار وإذا ثبت الخيار امتنع اللزوم وثبوت الحكم وهو الملك لأن ذلك خيار الحكم في الشرع قوله ولو حلف لا يطلق فحلف بالطلاق بأن قال إن دخلت الدار فأنت طالق يحنث يعني قبل وجود الشرط وهو مذهب الشافعي أيضا فإنه ذكر في الوجيز والتهذيب إذا قال إن طلقتك فأنت طالق ثم علق طلاقها على صفة أي شرط ووجدت فهو تطليق ومجرد الصفة ليس إيقاعا وهو وقوع ومجرد التعليق ليس بإيقاع ولا وقوع وذكر في الملخص أيضا ولو علق بالتطليق ثم قال إن دخلت الدار فأنت طالق لم يقع شيء فإذا دخلت وهي ممسوسة وقعت حينئذ تطليقتان فثبت أن مذهبه مثل مذهبنا في هذه المسألة وأما مسألة البيع فلا أعرف مذهبه فيها وما ظفرت بها في كتبهم صريحا فإن كان موافقا لمذهبنا فقد صح الفرق وتم الإلزام وهذا هو الظاهر من مذهبه فقد ذكر في الوسيط للغزالي أن الثابت يشترط الخيار جواز العقد واستحقاق الفسخ ولا يؤثر في تأخير الملك في قول بل يثبت الملك للمشتري لأن البيع سبب الملك ولا يقطع الحكم عن سببه إلا لضرورة ولا ضرورة إلا من جهة الخيار المشروع لاستدراك الغبنية وأمكن تحصيل هذا المقصود بنفي اللزوم فلا حاجة إلى نفي الملك والأصح أن الملك موقوف إن كان الخيار لهما وإن كان ل أحدهما فالملك لمن له الخيار فهذا يدل على أن مذهبه في انعقاد البيع بشرط الخيار مثل مذهبنا وإن كان مخالفا لم يتم الإلزام وكان تفريعا على المذهب (٢/٤٠٦) وإذا بطلت العلقة أي التعليق بوجود الشرط صار ذلك الإيجاب علة كأنه ابتداء يعني يصير علة في الحال مقتصرة عليها وهو قول المشايخ المعلق بالشرط كالملفوظ به لذا الشرط ولهذا شرطنا الأهلية حالة التعليق كما بينا لأن ذلك الإيجاب لما صار علة يشترط أن يكون صادرا من الأهل ليصير كالملفوظ لذا الشرط قوله ولهذا أي ولما ذكرنا أن المعلق ليس بسبب صح تعليق الطلاق والعتاق بالملك لأن المعلق قبل وجود الشرط يمين ومحل الالتزام باليمين الذمة فأما الملك في المحل فإنما يشترط لإيجاب الطلاق والعتاق وهذا الكلام ليس بإيجاب ولكنه بغرض أن يصير إيجابا فإن تيقنا بوجود الملك في المحل حين يصير إيجابا بوصوله إلى المحل صححنا التعليق باعتباره وإن لم نتيقن بذلك بأن كان الشرط مما لا أثر له في إثبات الملك في المحل شرطنا الملك في الحال ليصير كلامه إيجابا عند وجود الشرط باعتبار الظاهر وهو أن ما علم ثبوته فالأصل بقاؤه ولكن هذا الظاهر دون الملك الذي نتيقن به عند وجود الشرط فصحة التعليق باعتبار ذلك النوع من الملك دليل على صحته باعتبار هذا الملك بالطريق الأولى فإن قيل جميع ما ذكرتم يبطل بما روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه خطب امرأة فأبوا أن يزوجوها إلا بزيادة صداق فقال إن تزوجتها فهي طالق ثلاثا فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لا طلاق قبل النكاح فهذا كلام مفسر لا يقبل التأويل قلنا إن صح هذا الحديث فنحن نقول به ولكنه لم يصح لأن مداره على الزهري وأنه قد عمل بخلافه فإنه أول قوله عليه السلام لا طلاق قبل النكاح على أن الرجل كان تعرض عليه المرأة فيقول هي طالق ثلاثا فتحرم عليه فقال عليه السلام لا طلاق فرده الحديث إلى المرسل دليل على أنه كان يرى صحة المعلق بالنكاح ومثله روي عن سعيد بن المسيب ومكحول وجماعة من التابعين وهو مذهب إبراهيم النخعي وعامر الشعبي وسالم بن عبد اللّه ولا يجوز أن يجتمع هؤلاء الثقات على خلاف النص لا يحتمل التأويل أو يتوهم أنه لم يبلغ كافتهم أو لم يحتج به عليهم مع ظهور الفتوى منهم بخلافه كذا ذكر في الأسرار قوله ولهذا أي ولأن التعليق مانع للإيجاب عن الانعقاد لم يجز تعجيل النذر المعلق لأنه ليس بسبب لما لم يصل إلى ذمة قابلة للحكم والشرط منع وصوله إلى المحل فلا يكون سببا كبعض النذر والأداء قبل السبب لا يجوز وكذا لا يجوز تعجيل الكفارة قبل (٢/٤٠٧) الحنث كالكفارة بالصوم لأن اليمين سبب الوجوب بشرط الحنث والتقدير إن حنثت فعلي إطعام عشرة مساكين بتلك اليمين فمنع اليمين عن كونها سببا في الحال ولكنها بعرضية أن تصير سببا فصحت إضافة الكفارة إليها فقبل أن تصير سببا بالحنث لا يتصور الأداء كما لا يتصور قبل اليمين وكما لا يتصور تعجيل الصوم قبل الحنث وفرقه بين المالي والبدني باطل فإن بعد تمام السبب وجوب الأداء قد ينفصل عن نفس الوجوب في البدني أيضا فإن المسافر إذا صام في رمضان جاز بالاتفاق وإن تأخر وجوب الأداء إلى ما بعد الإقامة بالإجماع لحصول أصل الوجوب بالسبب وهذا لأنا قد بينا يعني في المبسوط وغيره أن الواجب للّه تعالى على العبد فعل هو عبادة وإنما المال ومنافع البدن آلتان يتأدى الواجب بهما فكما أن في البدني مع تعلق وجوب الأداء بالشرط لا يكون السبب تاما فكذلك في المالي بخلاف حقوق العباد فإن الواجب للعبد مال لا فعل لأن المقصود حصول ما ينتفع به العبد أو يندفع عنه الخسران به وذلك بالمال دون الفعل ولهذا إذا ظفر بجنس حقه وأخذه تم الاستيفاء وإنما يجب الفعل بطريق التبع وفي الأجير المشترك وجوب الفعل بطريق التبع والمستحق هو ما يحصل بالفعل وهو صيرورة الثوب مخيطا أو مقصورا فأما حقوق اللّه تعالى فواجبة بطريق العبادة ونفس المال ليست بعبادة إنما العبادة فعل يباشره العبد بخلاف هوى النفس لابتغاء مرضاة اللّه تعالى وفي هذا المال والبدن سواء ولا يقال لو كان الفعل هو المطلوب لم يتأدبا بالنائب كالصلاة لأنا نقول المقصود وهو حصول المشقة بقطع طائفة من المال يحصل بالنائب والإنابة فعل منه فاكتفي به عند حصول المقصود بخلاف الصلاة لأن المقصود وهو إتعاب النفس بالقيام للخدمة لا يحصل بفعل النائب فلذلك لم يتأد بفعله وعلى هذا الأصل وهو أن التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم جوزنا نكاح الأمة حال طول الحرة لأنه تعالى أباح نكاح الأمة حال عدم الطول بقوله جل ذكره ومن لم يستطع منكم طولا الآية ولم يحرم حال وجوده بل لم يذكره والتعليق بالشرط لا يوجب نفي الحكم قبل وجود فيجعل الحل ثابتا قبل وجود الشرط بالآيات الموجبة للحل وهكذا نقول في قوله إن دخل عبدي الدار فأعتقه فإن ذلك لا يوجب نفي الحكم قبل وجود الشرط حتى لو كان قال له أولا أعتق عبدي ثم قال أعتقه إن دخل الدار جاز له أن يعتقه قبل دخول الدار بالأمر الأول ولا يجعل الثاني نهيا عن الأول حتى لو عزله عن أحدهما بقي له الآخر (٢/٤٠٨) فإن قيل لا خلاف أن الحكم المتعلق بالشرط يثبت عند وجود الشرط وإذا كان الحكم ثابتا هاهنا قبل وجود الشرط فكيف يتصور ثبوته عند وجود الشرط إذ لا يجوز أن يكون الحكم الواحد ثابتا في الحال ومتعلقا بشرط منتظر قلنا حل الوطء ليس بثابت قبل النكاح ولكنه متعلق بشرط النكاح في الآيات التي ليس فيها هذا الشرط الزائد ومتعلق به وبهذا الشرط في هذه الآية وإنما يتحقق ما ادعى من التضاد فيما هو موجود فأما فيما هو متعلق فلا لأنه يجوز أن يكون الحكم متعلقا بشرط وذلك الحكم متعلقا بشرط آخر قبله أو بعده ألا ترى أن من قال لعبده إذا جاء الخميس فأنت حر ثم قال إذا جاء يوم الجمعة فأنت حر كان الثاني صحيحا وإن كان مجيء يوم الجمعة بعد يوم الخميس حتى لو أخرجه عن ملكه فجاء يوم الخميس ثم أعاده إلى ملكه فجاء يوم الجمعة يعتق باعتبار التعليق الثاني فإن قيل مع هذا لا يجوز أن يكون الشيء الواحد كمال الشرط لإثبات حكم وهو بعض الشرط لإثبات ذلك الحكم أيضا وما قلتم يؤدي إلى هذا فإن عقد النكاح كمال الشرط في سائر الآيات وهو بعض الشرط في هذه الآية إذا قلتم بأن الحكم يثبت ابتداء عند وجود هذا الشرط قلنا إنما لا يجوز هذا بنص واحد فأما بنصين فهو جائز ألا ترى أنه لو قال لعبده أنت حر إن أكلت ثم قال أنت حر إن أكلت وشربت صح كل واحد منهما ويكون الأكل كمال الشرط في التعليق الثاني حتى باعه فأكل في غير ملكه ثم اشتراه فشرب فإنه يعتق لتمام الشرط بالتعليق الأول وبعض الشرط في التعليق الثاني وهو ملكه قوله قال زفر رحمه اللّه إلى آخره يعني بنى زفر مذهبه في أن تنجيز الثلاث لا يبطل التعليق سواء كان الثلاث معلقا أو دونه على هذا الأصل فقال لما بطل الإيجاب أي بالتعليق يعني لم ينعقد سببا في الحال لعدم وصوله إلى المحل لم يشترط قيام المحل أي بقاؤه لبقائه أي بقاء الإيجاب المعلق يعني التعليق لأن اشتراطه لتمام السبب وثبوت الحكم عند الوصول إليه بمنزلة اشتراط الملك فكما لا يبطل التعليق بزوال الملك بأن باع العبد المحلوف بعتقه أو أبان المرأة المحلوف بطلاقها لتوهم الوجود عند الشرط لا يبطل بزوال المحلية أيضا لتوهم حدوثها عند الشرط بأن تزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الأول وكذلك العتق أي وكالطلاق المعلق العتق المعلق في أنه لا يبطل بالتنجيز حتى لو قال لأمته إن دخلت الدار فأنت حرة ثم أعتقها قبل دخول الدار لم يبطل التعليق حتى لو ارتدت ولحقت بدار الحرب ثم سبيت وملكها الحالف ثم دخلت الدار عتقت عنده ولم تعتق عندنا (٢/٤٠٩) وقوله وإنما شرط الملك جواب عما يقال لما لم يشترط الملك والمحل حال بقاء التعليق لعدم انعقاد الإيجاب سببا فيها ينبغي أن لا يشترط في حال الابتداء أيضا لأن المعنى المذكور يشمل الحالين فيصح قوله لأجنبية أو للمطلقة ثلاثا إن دخلت الدار فأنت طالق والإجماع بخلافه فعرفنا أنه لا يستغنى عن المحل فبفواته يبطل فقال إنما شرط الملك في الابتداء لانعقاد هذا الكلام يمينا لا لحاجة الإيجاب إلى المحل وذلك لأن المقصود من اليمين تأكيد البر بإيجاب الجزاء في مقابلته فلا بد من أن يكون الجزاء غالب الوجود أو متحققه عند فوات البر ليحمله خوف نزوله على المحافظة على البر وذلك لقيام الملك حال وجود الشرط وتلك الحالة مترددة بين أن يوجد فيها الملك فيتحقق الجزاء وتظهر فائدة اليمين وبين أن لا يوجد فيها الملك فلا يلزمه الجزاء فتخلوا اليمين عن الفائدة فشرط الملك في الابتداء ليترجح جانب وجود الملك على عدمه حال وجود الشرط لأن الأصل في كل ثابت بقاؤه باعتبار الظاهر فينعقد اليمين فتبين أن اشتراط الملك لانعقاد اليمين لا لحاجة الإيجاب إلى المحل حتى لو كان الملك متيقن الوجود عند نزول الجزاء لا يشترط الملك ولا الحل في الحال أيضا بأن قال لأجنبية أو للمطلقة ثلاثا إن تزوجتك فأنت طالق صح وانعقد اليمين فإن وقع الترجيح أي جعل بوجوده في الحال حصل وثبت رجحان وجود الملك على عدمه حال فوات البر وانعقد اليمين صار زوال الحل في المستقبل بإيقاع الثلاث وزوال الملك بالإبانة بما دون الثلث سواء من حيث إن زوال كل واحد منهما لا ينافي وجوده عند الشرط لا محالة إذ يحتمل أن يحدث كل واحد منهما بعد الزوال فإذا بقيت اليمين بعد زوال الملك بناء على هذا الاحتمال تبقى بعد زوال الحل بناء عليه أيضا وقوله ألا ترى توضيح لتعليل بطلان الإيجاب يعني بطلانه باعتبار عدم اتصاله بالمحل في الحال فلا يشترط المحل لبقائه والدليل على عدم اتصاله بالمحل صحة تعليق طلاق المطلقة ثلاثا بنكاحها ولو كان للتعليق اتصال بالمحل لما صح هذا التعليق لبطلان المحلية بالكلية قوله وطريق أصحابنا لا يصح إلى آخره لعلمائنا رحمهم اللّه في هذه المسألة (٢/٤١٠) طريقتان أحدهما أن اليمين تبطل بفوات الجزاء كما تبطل بفوات الشرط بأن جعلت الدار بستانا أو حماما في قوله إن دخلت الدار فأنت طالق لأن اليمين لا تنعقد إلا بهما بل افتقارها إلى الجزاء أكثر من افتقارها إلى الشرط لأنها تعرف بالجزاء لا بالشرط ولما بطلت بفوات الشرط فلأن تبطل بفوات الجزاء كان أولى وهاهنا قد فات الجزاء لأن هذه اليمين إنما صحت باعتبار الملك القائم ولم يكن في ملكه إلا ثلاثة تطليقات وقد استوفاها كلها فبطل الجزاء ضرورة فبطلت اليمين وبهذا علل محمد رحمه اللّه فقال لما طلقها ثلاثا فقد ذهب طلاق ذلك الملك كله وهذا بخلاف ما إذا طلقها واحدة أو اثنين وانقضت عدتها حيث لا تبطل به اليمين لأنه لما لم يستوف الجزاء بتمامه كان الباقي مملوكا له إلا أنه لا يقدر على تنفيذه لعدم شرطه فبقيت اليمين ببقائه وعدم القدرة على التنفيذ لا يمنع الملك كاستيفاء القصاص من الحامل واستيفاء منافع البضع حالة الحيض وكالصبي لا يملك التصرفات وإن كان الملك ثابتا له والثاني أن المحلية بالتطليقات الثلاث تبطل لأن محلية الطلاق بمحلية النكاح وقد فاتت بثبوت الحرمة الغليظة وإذا بطلت محلية الطلاق لم تبق اليمين بالطلاق ببطلان محلها كما إذا فاتت برضاع أو مصاهرة وهذا لأن التعليق وإن لم يكن طلاقا في الحال لكنه يعرض أن يصير طلاقا والعرضية إنما ثبتت باعتبار قيام الحل والملك في الحال فإذا بطل الحل بطلت العرضية فلم تبق اليمين فحاصل الطريق الأول تعيين طلقات هذا الملك للجزاء وبناء بطلان اليمين على فواتها وخلاصة الطريق الثاني اشتراط المحلية لليمين انعقادا وبقاء وبناء بطلان اليمين على زوالها ولما كان الطريق الأول منتقضا بما إذا علق الثلاث بالشرط ثم طلقها ثنتين ثم عادت إليه بعد زوج آخر ووجدت الشرط تقع الثلاث عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللّه ولو تعين طلقات ذلك الملك ينبغي أن تقع واحدة لأنه لم تبق من الجزاء إلا طلقة واحدة كما لو كان له ثلاثة أعبد فقال إن كلمت زيدا فأنتم أحرار فأعتق عبدين منهم واشترى آخرين ثم وجد الشرط لا يعتق إلا العبد الذي كان في ملكه وقت اليمين والطريق الثاني لا يتم إلا بأن يثبت للمعلق نوع اتصال بالمحل بنى الشيخ رحمه اللّه الكلام على الطريق الثاني وبين وجه تصحيحه ورد الطريق الأول فقال وطريق أصحابنا لا يصح يعني الطريق الأول والثاني جميعا إلا أن يثبت للمعلق نوع اتصال بمحله فحينئذ يصح الطريق الثاني وبعدما ثبت ذلك يشترط قيام المحل لأن كل ما يرجع إلى المحل يستوي فيه الابتداء والبقاء كالمحرمية في باب النكاح ثم أشار إلى فساد الطريق الأول وبين وجهه فقال فأما طلاق هذا الملك فلم يتعين أي للجزاء وصحة (٢/٤١١) التعليق بل الجزاء طلاق مملوك له عند وجود الشرط سواء كان طلاق هذا الملك أو ملك حادث بعد لما بينا أنه أي المعلق ليس بتصرف في الطلاق لا من حيث الإيقاع ولا من حيث انعقاده سببا ليصح باعتبار الملك أي باعتبار ملكه هذه الطلقات دون غيرها والتعليل داخل في النفي ولهذا صح التعليق بالملك وإلى هذا الطريق مال شمس الأئمة رحمه اللّه أيضا فقال إنما يبطل التعليق بانعدام المحل لأن صحة التعليق باعتبار المحلوف به وهو ما يصير طلاقا عند وجود الشرط ولا تصور لذلك بدون المحل وبالتطليقات الثلاث تحقق فوات المحل لأن الحكم الأصلي للطلاق إزالة صفة الحل عن المحل ولا تصور لذلك بعد حرمة المحل بالتطليقات الثلاث فلانعدام المحلوف به من هذا الوجه يبطل التعليق لا لأن المتعلق بالشرط تطليقات ذلك الملك وفي بعض النسخ فأما قيام هذا الملك فلم يتعين إلى آخره ومعناه تحقق الفرق بين زوال الحل وبين زوال الملك فإن اليمين بالأول يبطل ولا يبطل بالثاني لأنه لما كان للمعلق ضرب اتصال وإن لم ينعقد سببا حقيقة لا بد من بقاء المحل وذلك ببقاء حل النكاح فأما قيام هذا الملك في المحل أي الملك القائم حالة التعليق فيه فلم يتعين أي لم يشترط لبقاء التعليق صحيحا لأن التعليق ليس بتصرف في الطلاق بالإيقاع ولا المتعلق بالشرط هو الطلاق المملوك حتى يشترط الملك لصحة التصرف وكان ينبغي أن لا يشترط الملك إلا حال وجود الشرط إلا أنه شرط في الابتداء لما ذكرنا من تردد حال وجود الشرط إلى آخره والطريق في ذلك أي في إثبات اتصال الإيجاب المعلق بالمحل وافتقاره إليه أن تعليق الطلاق له شبهة الإيجاب أي الطلاق المعلق وإن لم يكن سببا حقيقة له شبهة كونه سببا لأن اليمين تعقد للبر ولا بد للبر من أن يكون مضمونا بلزوم الجزاء عند الفوات تحقيقا للمقصود وهو تأكيد جانب المحلوف عليه فإذا حلف بالطلاق كان البر هو الأصل أي موجبه الأصلي لأنه هو الغرض من عقد اليمين وهو مضمون بوقوع الطلاق عند الفوات وإذا كان مضمونا به يثبت للمعلق في الحال شبهة الإيجاب كالمغصوب لما لزم الغاصب رده وصار مضمونا بالقيمة عند الفوات ثبت شبهة وجوب القيمة حال قيام المغصوب حتى صح الإبراء والرهن والكفالة بالمغصوب وحتى لم يجب على الغاصب زكاة قدر قيمة المغصوب في ماله حال قيامه كذا نقل عن بعض الثقات وكذا لو أدى الضمان بتملكه من وقت الغصب ولو لم يعتبر هذه الشبهة لثبت الملك من وقت الضمان لا من وقت الغصب (٢/٤١٢) وذكر في الجامع ولو أقر أن هذا الألف في يدي غصب غصبته منك يقول المقر له لا بل لي عليك ألف درهم من ثمن بيع قد قبضته فإنه يقتضى عليه بألف درهم لأنهما اتفقا على وجوب الألف دينا واختلفا في سببه وذلك لا يمنع من صحة الإقرار وقال الشيخ في شرح الجامع ودلت هذه المسألة على أن الغصب يوجب الضمان بنفسه إذ لو لم يكن كذلك لما وجب القضاء به كما لو قال هذا الألف وديعة لك عندي فقال المقر له لا ولكن لي عليك ألف درهم من ثمن بيع فأنكر المقر ذلك لا شيء للمقر له لأنه ليس بين ضمان الدين وبين ملك العين موافقة بوجه فلا يمكن الجمع ولما ثبت أن للضمان شبهة الثبوت قبل فوات المضمون صار للجزاء هاهنا وهو الطلاق شبهة الثبوت وشبهة الشيء لا تستغني عن المحل كحقيقته ألا ترى أن شبهة النكاح لا تثبت في غير المحل وشبهة البيع لا تثبت في غير المال وذلك لأن الشبهة دلالة الدليل على المدلول مع تخلف المدلول لمانع وقط لا يدل دليل على مدلول في غير المحل ألا ترى أنه لا يمكن دلالة الدليل على ثبوت الطلاق في البهيمة لعدم المحل فإذا بطل المحل بطل اليمين لما ذكرنا أن كل حكم يرجع إلى المحل فالابتداء والبقاء فيه سواء وذكر الشيخ في بعض مصنفاته من أصول الفقه في إثبات شبهة الثبوت للجزاء أن البر وإن كان واجبا لكنه غير واجب لنفسه وإنما وجب لغيره وهو الاحتراز عن هتك حرمة الاسم أو التحرز عن لزوم الجزاء فمن حيث إنه واجب ثبت له حكم الوجود ومن حيث إنه غير واجب لنفسه ثبت له عرضية العدم والجزاء حكم يلزم عند فوات البر فإذا ثبت لهذا البر عرضية العدم من حيث إنه غير مقصود ثبت بقدره عرضية الوجود للجزاء وإذا ثبتت عرضية الوجود للجزاء ثبتت عرضية الوجود لسببه حتى يكون المسبب ثابتا على قدر السبب وعرضية السبب لا بد لها من محل تبقى فيه كما لا بد لها من محل تنعقد فيه لأن شبهة الشيء لا تثبت فيما لا تثبت حقيقة ذلك الشيء كشبهة النكاح لا تثبت في المحارم عندهما وإنما لا نشترط الملك للبقاء كما شرطنا الحل أن الملك عبارة عن القدرة وإنما يحتاج إليها عند الفعل وقبل وجود الشرط عدم الفعل فلهذا لم نشترط الملك وفي الابتداء شرطناه لما ذكرنا ثم لزم على ما ذكر من ثبوت شبهة الإيجاب في التعليق واشتراط المحلية لها تعليق الطلاق بالنكاح في المطلقة ثلاثا فإنه صحيح وإن لم تبق محلا للطلاق فأجاب عن ذلك وقال فأما تعليق الطلاق بالنكاح فتعليق بما هو علة ملك الطلاق لأن ملك الطلاق يستفاد بملك (٢/٤١٣) النكاح فكان النكاح للطلاق بمنزلة علة العلة فكان له شبهة العلة والإيجاب متى علق بحقيقة العلة يبطل التعليق والإيجاب بأن قال لعبده إن أعتقتك فأنت حر فالإيجاب إذا علق بشبهة العلة يبطل به شبهة الإيجاب اعتبارا للشبهة بالحقيقة ولا يبطل به أصل التعليق لأنه إنما يبطل بالتعليق بحقيقة العلة والشبهة لا تماثل الحقيقة ونظيره ثبوت حرمة حقيقة الفضل بحقيقة العلة التي هي الكيل والجنس وثبوت حرمة شبهة الفضل وهي النسيئة بشبهة العلة وهي أحد الوصفين وعدم ثبوت حرمة الفضل بأحد الوصفين لأن بالشبهة لا تثبت الحقيقة وإذا بطلت شبهة الإيجاب ولم يبطل أصل التعليق كان التعليق يمينا مجردة فتعلقت بذمة الحالف ولم يشترط لها قيام محل الطلاق ولا يقال لا نسلم أن تعليق الشيء بعلته يوجب بطلانه فإنه إذا قال إن طلقتك فأنت طالق صح حتى لو طلقها واحدة يقع ثنتان مع أن التطليق علة للطلاق لأنا نقول الطلاق متعدد والتطليق ليس بعلة للجميع وإنما هو علة لطلقة واحدة فلا يلزم من تعليق الطلاق بالتطليق تعليق الشيء بعلته فيصح حتى لو نوى بالتعليق الطلاق الذي هو موجب هذا التطليق كان التعليق باطلا أيضا ولم يقع إلا طلقة واحدة ولكن لا يصدقه القاضي بخلاف تعليق الحرية بالإعتاق فإنها ليست بمتعددة وبخلاف تعليق الطلاق بالنكاح فإن النكاح علة لملك جميع الطلقات فيكون تعليقا بالعلة أو بشبهتها لا محالة فيصير قدر ما ادعينا من الشبهة أي شبهة الثبوت مستحقا به أي ساقطا بالتعليق بالنكاح أو معارضا به وكأن هذه الشبهة كانت ثابتة نظرا إلى أصل التعليق فاستحقها التعليق بشبهة العلة فلم تبق بهذه المعارضة أي بمعارضة كون التعليق تعليقا بشبهة العلة واعترض عليه بأنا قد سلمنا أن في التعليق شبهة الثبوت في الحال وأن الشبهة ليفتقر إلى المحل كالحقيقة وأن بفوات المحل يبطل هذه الشبهة ولكن لا نسلم أن في بطلان هذه الشبهة يبطل أصل التعليق فإن هذا الكلام من حيث إنه يمين له تعليق بذمة الحالف وهي محله ومن حيث إن له شبهة الوقوع على ما زعمتم له تعلق بالمرأة فإذا بطلت الشبهة بفوات المحل بقي أصل التعليق لبقاء محله وهو ذمة الحالف كما قلتم في التعليق بالنكاح في المطلقة ثلاثا بل هذا أولى لأنه لما صح ابتداء بدون تعلق له بالمرأة لأن يبقى بدون ذلك كان أولى وأجاب الإمام البرغري رحمه اللّه عنه فقال صحة اليمين في تلك المسألة كانت باعتبار الإضافة إلى حل في المستقبل فإن النكاح لا يوجد إلا في المرأة المحللة وذلك لم (٢/٤١٤) يفت بل هو بعرض الوجود فصحت اليمين فأما هاهنا فصحة اليمين مبنية على الحل القائم في الحال وقد بطل وهذا لأن الإضافة إلى المستقبل لما لم توجد تعيين الحل القائم للحال شرطا لصحة اليمين لأن الإيجاب وإن لم يكن طلاقا للحال ولكنه بعرض أن يصير طلاقا وعرضية الطلاق باعتبار قيام الملك والحل في الحال فإذا بطل الحل بطلت العرضية فتبطل اليمين ووجه آخر وهو أنا إنما أثبتنا شبهة ثبوت الجزاء في الحال تأكيدا لكون البر مضمونا وذلك لأن ضمان البر بوقوع الجزاء حالة وجود الشرط لما كان بالاستصحاب لا بالتيقن احتاج إلى تأكيد ليلتحق بالمتيقن به فجعل كأنه واقع في الحال وفي تعليق الطلاق بالنكاح لا حاجة إلى هذا النوع من التأكيد للتيقن بوجود الجزاء حالة الشرط لكونه تعليقا بما هو علة ملك الطلاق فيكون الجزاء موجودا في تلك الحالة لا محالة فيصير قدر ما ادعينا من الشبهة مستحقا بهذا النوع من التعليق أي ساقطا لعدم الحاجة إليها فتسقط هذه الشبهة بهذه المعارضة أي بمعارضة كون البر مضمونا بالجزاء يقينا لكونه تعليقا بما له حكم العلة وذكر في بعض الشروح بهذه العبارة فأما تعليق الطلاق بالملك فصحيح وإن لم يكن المحل والملك في الحال موجودين لأن التعليق بعلة ملك الطلاق يحصل فائدة اليمين وهي المنع لكون البر مضمونا بالجزاء لا محالة فصار مثل التعليق بغير علة ملك الطلاق حال قيام الحل والملك بل هو أولى بالصحة لأن في حال قيام الملك يكون البر مضمونا ظاهرا غالبا وكون البر مضمونا هاهنا جزمي فكان أحق بالصحة فعلى هذا تسقط الشبهة التي ذكرناها في التنازع فيه وهو شبهة ثبوت الطلاق لأنه لما صح تعليق الطلاق بالنكاح يلزم سقوط تلك الشبهة لاستحالة حقيقة الطلاق قبل النكاح والشبهة إنما تعتبر عند إمكان الحقيقة وما ذكرنا من الشبهة في حال قيام النكاح فيما نحن فيه وحقيقة التطليق به ممكن وعدمت الحقيقة بالدليل فتعتبر الشبهة وهو المعنى بقوله فتسقط هذه الشبهة بهذه المعارضة يعني تعليق الطلاق بالنكاح يوجب سقوط هذه الشبهة وهي أن لتعليق الطلاق شبها بالإيجاب فصار هذا معارضا للشبهة السابقة على الشرط فتسقط وقوله فيصير قدر ما ادعينا من الشبهة مستحقا به يعني به أن البر مضمون جزما فلا حاجة إلى إثبات تلك الشبهة سابقة على الشرط واعترض على ما ذكرنا بأنه إذا حلف بالظهار أو بالإيلاء فقال إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي أو قال إن دخلت الدار فواللّه لا أقربك ثم طلقها ثلاثا لا يبطل ذلك التعليق (٢/٤١٥) حتى لو عادت إليه بعد زوج آخر ووجد الشرط ينجز الظهار والإيلاء فأجاب أبو الفضل الكرماني رحمه اللّه عنه بأن محل عمل الظهار الرجل في التحقيق وهو منعه عن الوطء والمحل بحاله كما كان بمنزلة اليمين فإذا كان محل نزول حكم الظهار قائما من غير تجدد نزل وأجاب غيره بأن الظهار لا يعقد لإبطال حل المحلية حتى إذا فات المحل لا يبقى الظهار لفوات محله وإنما أثره في منع الزوج عن الوطء الحلال إلى وقت التكفير فلما كان حكمه المنع وبعد التطليقات الثلاث يثبت المنع باعتبار حرمة المحل وإن لم يبق بذلك الطريق فيبقى الظهار إلا أن ابتداء الظهار في غير الملك لا يتصور وإن كان المنع متصورا لأن الظهار تشبيه المحللة بالمحرمة وفي غير الملك لا يتحقق ذلك فأما الطلاق فعلمه في إبطال الحل وقطع الملك وبعد وقوع الثلاث فات محل الحكم فلا تبقى اليمين بالطلاق فأما الإيلاء المعلق فلا حاجة له إلى أن تكون المرأة محللة فإنه ينعقد في غير الملك فلا يبطل لعدم الملك والإيلاء المنجز على الخلاف أيضا واعترض أيضا بأن المرأة إذا ارتدت والعياذ باللّه وقد علق طلاقها بالشرط فإن اليمين لا تبطل وقد بطل حل المحلية وبأن الأمة إذا استولدت حتى تعلق عتقها بموت السيد فأعتقها المولى ثم ارتدت وسبيت وعادت إلى المولى استحقت العتق وأجيب عن الأول بأن المحلية لا تبطل بالردة بدليل أن المرأة إذا ارتدت حتى بانت من زوجها ثم طلقها في العدة وقع طلاقها ولو ارتدا جميعا لا يبطل النكاح وإنما تقع الفرقة لانقطاع العصمة بينهما ولما بقيت المحلية بقيت اليمين وعن الثاني بأن العتق حين وقع بطل التعليق بالموت وبالملك ثانيا لا يعود ذلك ولكن يتعلق بالموت عتق آخر بسبب جديد له وهو قيام نسب الولد في الحال كما لو استولدها بنكاح فإنها لا تصير أم ولد له فإن ملكها صارت أم ولد له الآن لقيام النسب في الحال ومسألة تعليق الطلاق إلى آخره إنما ذكر هذا لأن بعض أصحابنا لما عجزوا عن الجواب حين أورد عليهم هذه المسألة نقضا أنكروا صحة التعليق فقال الشيخ لا وجه إلى ذلك لأنها منصوصة في كتاب الطلاق وفي إيمان الجامع نص في نظيره أي نظير المذكور وهو ما إذا قال لحرة إن ارتددت فسبيت فملكتك فأنت حرة ثم كان كذلك فملكها عتقت قال الشيخ في شرح الجامع قد قال أصحابنا رحمهم اللّه إن إيجاب التحرير باليمين لا يبقى بعد العتق وقد صح استئنافه هاهنا عند عدمه وهذا نص قد ذكرنا نظيره قبل هذا في الطلاق إذا علقه بالنكاح وقد حرمت عليه بالثلاث أنه يصح وهذه المسألة أوضح نص في هذا كذا في أيمان الجامع في باب الحنث في ملك العبد والمكاتب (٢/٤١٦) قوله وأبعد من هذه الجملة إلى آخره يعني حمل المطلق على المقيد كما قال الشافعي أبعد من الصواب من الجملة التي سبق تقريرها لأن فيه إضافة النفي إلى النص الموجب وإبطال الإطلاق بما هو ساكت فكان الخطأ فيه من وجهين وفيما سبق الخطأ من وجه واحد وهو إضافة النفي إلى الموجب فلهذا كان أبعد من الصواب والمطلق هو اللفظ المعترض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات والمقيد هو اللفظ الدال على مدلول المطلق بصفة زائدة وقيل المطلق لفظ دل على شائع في جنسه مثل رجل ورقبة فيخرج عن التعريف المعارف لكونها غير شائعة لتعينها بحسب الاستعمال فإن أنت مثلا لا يفهم منه عند الاستعمال إلا معين بخلاف رجل فإنه لا يفهم منه معين ويخرج منه أيضا النكرة في سياق النفي والنكرة المستغرقة في سياق الإثبات مثل كل رجل ونحوه لاستغراقها إذ المستغرق لا يكون شائعا في جنسه والمقيد هو اللفظ الدال على مدلول معين كزيد وهذا الرجل وأنت وذكر في أصول الفقه للإمام الرازي أن كل شيء له ماهية وحقيقة وكل أمر لا يكون المفهوم منه عين المفهوم من تلك الماهية كان مغايرا لها سواء كان لازما لها أو مفارقا لأن الإنسان من حيث إنه إنسان فأما أنه ليس إلا الإنسان واحدا أو لا واحدا فهما قيدان مغايران لكونه إنسانا وإن كنا نعلم أن المفهوم من كونه إنسانا لا ينفك عنهما فاللفظ الدال على الحقيقة من حيث إنها هي من غير أن تكون فيه دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة هو المطلق فتبين بهذا أن قول من يقول المطلق هو اللفظ الدال على واحد لا بعينه سهو لأن الوحدة وعدم التعين قيدان زائدان على الماهية ثم ورود المطلق مع المقيد على وجوه إما أن يكون ورودهما في سبب حكم في حادثة أو شرطه مثل نصي صدقة الفطر على ما سيأتي أو في حكم واحد في حادثة واحدة إثباتا كما لو قيل في الظهار أعتق رقبة ثم قيل أعتق رقبة مسلمة أو نفيا كما لو قيل لا تعتق مدبرا لا تعتق مدبرا كافرا وفي حكمين في حادثة واحدة مثل تقيد صوم الظهار بأن يكون قبل المسيس وإطلاق إطعامه عن ذلك أو في حكمين في حادثتين كتقييد الصيام بالتتابع في كفارة القتل وإطلاق الإطعام في كفارة الظهار (٢/٤١٧) أو في حكم واحد في حادثتين كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار واليمين وتقييدها بالأيمان في كفارة القتل فهذه ستة أقسام واتفق الأصوليون على أنه لا حمل في القسم الثالث والرابع والخامس لعدم المنافاة في الجمع بينهما وذكر بعض أصحاب الشافعي الحمل في القسم الرابع واتفق أصحابنا وأصحاب الشافعي على وجوب حمل المطلق على المقيد في القسم الثاني واختلفوا في القسم الأول والأخير فعند بعض أصحابنا وجميع أصحاب الشافعي الحمل واجب في القسم الأول من غير حاجة إلى قياس ونحوه وعند عامة أصحابنا لا حمل فيه واتفق أصحابنا في القسم الأخير على أن لا يحمل المطلق على المقيد فيه وعند أصحاب الشافعي يجب الحمل لكنهم اختلفوا فقال بعضهم يحمل المطلق على المقيد بموجب اللغة من غير نظر إلى قياس ودليل وجعلوه من باب المحذوف الذي سبق إلى الفهم معناه كقوله والذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات وقال أهل التحقيق منهم إنه يحمل على المقيد بقياس مستجمع لشرائطه وهذا هو الصحيح عندهم هذا حاصل ما ذكر في عامة كتب أصحابنا وأصحاب الشافعي وتبين بهذا أن المراد من استبعاد الشيخ حمل المطلق على المقيد في حادثة واحدة ما إذا كان القيد والإطلاق في السبب أو الشرط لإمكان الجمع بينهما فيهما دون الحكم لاستحالة الجمع بينهما فيه على ما تبين في آخر هذا الفصل واستدل من أوجب الحمل في حادثة واحدة سواء كان القيد والإطلاق في السبب والشرط أو في الحكم بأن الحادثة إذا كانت واحدة كان الإطلاق والقيد في شيء واحد إذا لم يكونا في حكمين والشيء الواحد لا يجوز أن يكون مطلقا ومقيدا للتنافي فلا بد من أن يجعل أحدهما أصلا ويبنى الآخر عليه والمطلق ساكت عن القيد أي لا يدل عليه ولا ينفيه والمقيد ناطق به أي يوجب الجواز عند وجوده وينفيه عند عدمه فكان أولى بأن يجعل أصلا ويبنى المطلق عليه ولأن المطلق محتمل والمقيد بمنزلة المحكم فيحمل المحتمل عليه ويكون المقيد بيانا للمطلق على ما هو المختار لا نسخا فيثبت الحكم مقيدا بهما كما قيل في نصوص الزكاة فإن المطلق عن السوم وهو قوله عليه السلام في خمس من الإبل شاة محمول على المقيد بصفة السوم بالاتفاق مثل قوله عليه السلام في خمس من الإبل السائمة شاة وكما قيل في نصوص العدالة فإن النصوص المطلقة عن صفة العدالة في الشهادات (٢/٤١٨) مثل قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وقوله عليه السلام لا نكاح إلا بشهود محمولة على النصوص المقيدة بها بالاتفاق حتى شرطت العدالة لقبول الشهادة مثل قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم ممن ترضون من الشهداء وقوله عليه السلام لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وحاصل هذا الدليل راجع إلى أن المفهوم حجة شرعية وإذا كانا أي الإطلاق والقيد في حادثتين في حكم واحد مثل كفارة القتل فإن الرقبة فيها مقيدة بصفة الإيمان وسائر الكفارات فإن الرقبة فيها مطلقة فكذلك أيضا أي يحمل المطلق فيها على المقيد أيضا لكن بقياس صحيح عند بعضهم وبدونه عند آخرين واستدل من أوجب الحمل مطلقا من غير حاجة إلى قياس بأن أهل اللغة يتركون التقييد في كل موضع اكتفاء بذكره في موضع كقوله تعالى والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات أي والحافظاتها والذاكراته كثيرا وكقول الشاعر نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف أي نحن بما عندنا راضون وبأن القرآن كله كالكلمة الواحدة في وجوب بناء بعضه على بعض فإذا نص على الإيمان في كفارة القتل لزم في الظهار كان القيد متصلا به أيضا وهذا كلام ساقط لأن الأصل في كل كلام حمله على ظاهره إلا أن يمنع عنه مانع وإذا كان كذلك لا يجوز ترك ظاهر الإطلاق إلى التقييد من غير ضرورة ودليل بمجرد الظن والتشهي كما لا يجوز عكسه ويجوز أن يكون حكم اللّه تعالى في أحدهما الإطلاق وفي الآخر التقييد وأما قولهم القرآن كله بمنزلة كلمة واحدة فكذلك في أنه لا تناقض في شيء منه ولا اختلاف فأما في دلالة عباراته على المعنى فلا لأنها متعددة ودلالاتها مختلفة فلا يلزم من دلالة بعضها على بعض الأشياء المختلفة دلالته على غيره وثبوت القيد في الحافظات والذاكرات والشعر للعطف وعدم الاستقلال وأما من جوز الحمل بالقياس فبنى كلامه (٢/٤١٩) أيضا على أن المفهوم حجة وإليه أشار الشيخ رحمه اللّه في الكتاب فقال التقييد بالوصف بمنزلة التعليق بالشرط وإنه يوجب عدم الحكم عند عدمه كما يوجب الوجود عند الوجود على ما مر بيانه فلما كان النفي حكم النص المقيد كالإثبات يتعدى إلى نظيره بعلة جامعة كما إذا كان النفي منصوصا وكما يتعدى الإثبات والرقبة في كفارة القتل مقيدة بوصف الإيمان فأوجب عدم الجواز عند عدمه فيتعدى هذا الحكم إلى نظائرها من الكفارات كما تعدى تقييد الأيدي بالمرافق في الوضوء إلى نظيره وهو التيمم لأن كل واحد منهما طهارة ولا يقال هذا تعدية إلى ما فيه نص بالإبطال لأنا قد بينا أن المطلق ساكت عن القيد غير متعرض له بالنفي ولا بالإثبات فصار المحل في حق الوصف خاليا عن النص فيجوز تعدية حكم الوصف إليه بالقياس ولهذا لم يجز حمل المقيد على المطلق لأن المقيد ناطق وفي حمله على المطلق بالقياس وبدونه إبطال القيد المنطوق به فلا يجوز ثم أجاب عما يرد نقضا على الشافعي فقال بخلاف زيادة الصوم في القتل يعني صوم القتل زائد على صوم اليمين ثم لم يثبت تلك الزيادة في صوم اليمين حملا لهذا الصوم المطلق عن تلك الزيادة على الصوم المقيد بها بالقياس حتى لم يجب على الحانث صوم شهرين مع أن الكل جنس واحد وكذا الطعام الثابت في اليمين لم يثبت في كفارة القتل حملا لها على اليمين بالقياس باعتبار اتحاد الجنس وخص الشيخ طعام اليمين لأن طعام الظهار ثابت في القتل في أحد قولي الشافعي فإنه إذا عجز عن الصوم يطعم ستين مسكينا بالقياس على الظهار قال شمس الأئمة في المبسوط وهذا بناء على أصله أن المقيد والمطلق في حادثتين يحمل أحدهما على الآخر وكذلك أعداد الركعات يعني لم نثبت زيادة الركعات الثابتة في الظهر والعصر والعشاء في الفجر والمغرب حملا للمطلق عن تلك الزيادة على المقيد بها بالقياس مع أن الكل صلاة وظائف الطهارات يعني وظيفة الوضوء تطهير الأعضاء الأربعة ووظيفة الغسل تطهير جميع البدن ثم لم تثبت الزيادة الثابتة في الغسل في الوضوء بالحمل عليه مع أن الكل طهارة حتى لم يجب غسل جميع البدن في الحدث وكذا لم يثبت الزيادة الثابتة في الوضوء وهي تطهير الأعضاء الأربعة في التيمم بالقياس على الوضوء حتى لم يجب مسح الرأس والقدمين في التيمم بحمله على الوضوء باتحاد الجنس وأركانها يعني الوضوء مشتمل على الغسل والمسح والغسل زائد على المسح (٢/٤٢٠) لأنه إسالة والمسح إصابة ثم لم يثبت تلك الزيادة فبالمسح حتى لم يجب غسل الرأس مع اتحاد الجنس نظرا إلى الركنية في الوضوء ونحو ذلك كالحدود فإن جلد المائة الثابت في الزنا لم يثبت في القذف بطريق الحمل وكاشتراط الأربعة في شهود الزنا لا يثبت في غيره من الحدود بطريق الحمل لأن التفاوت ثابت باسم العلم وهو لا يوجب إلا الوجود يعني التفاوت بين هذه الأشياء التي ذكرناها ثابت بالاسم العلم وهو اسم الشهرين وثلاثة أيام واسم الركعتين وثلاث وأربع واسم الغسل والمسح والتنصيص بالاسم العلم يوجب الوجود عند الوجود ولا يوجب العدم عند العدم وإذا لم يثبت العدم به في المحل المنصوص لا يمكن تعديته إلى غيره لأن تعدية المعدوم محال قوله وعندنا لا يحمل المطلق على المقيد أبدا يعني لا في حادثتين ولا في حادثة بعد أن يكونا حكمين ولا تلتفت إلى ما توهم البعض أن المراد منه نفي الحمل بالكلية وإن كان القيد والإطلاق في حكم واحد في حادثة واحدة فإن ذلك مخالف للروايات أجمع فقد ذكر في التقويم وكذلك الجواب عندنا في المطلق أنه على إطلاقه والمقيد على تقييده في الحادثة الواحدة بعد أن يكونا حكمين وذكر في الأسرار فإن قيل إنك لا تحمل المطلق على المقيد قلنا نعم إذا كانا غيرين حكمين أو شرطين أو علتين فأما الواحد إذا ثبت بوصف فدونه لا يكون ثابتا لا محالة ضرورة وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه في شرح كتاب الصوم إنما لا يحمل المطلق على المقيد عندنا إذا وجد القيد والإطلاق في سبب الحكم في صدقة الفطر أو في نوعين مختلفين من حكم السبب كما في كفارة الظهار فإنه ذكر الإعتاق والصوم فيها مقيدين بالقبلية على المسيس والإطعام مطلقا ولم يحمل المطلق على المقيد فأما إذا وردا في شيء واحد من حكم السبب فإنه يحمل المطلق على المقيد كما في حديث الأعرابي قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم صم شهرين متتابعين وروي أنه قال له صم شهرين وهذا لأن الحكم الواحد لا يجوز أن يكون مطلقا ومقيدا وذكر شمس الأئمة رحمه اللّه في شرح كتاب الزكاة في أثناء مسألة أن المطلق محمول على المقيد في هذا الباب لأنهما في حادثة واحدة في حكم واحد وذكر في شرح كتاب الإيمان في اشتراط التتابع في صوم كفارة اليمين وهاهنا المطلق والمقيد في الحكم وهو الصوم الواجب كفارة وبين التتابع والتفرق منافاة في حكم واحد فمن ضرورة ثبوت صفة التتابع أن لا يبقى مطلقا وذكر في الميزان واختلف عندنا يعني في حمل المطلق على المقيد قال بعضهم بحمل إذا كان السبب واحدا والحادثة واحدة فأما في حادثتين فلا يحمل وقال (٢/٤٢١) أهل التحقيق منهم بأنه لا يحمل سواء كانت الحادثة واحدة أو لا إلا إذا كان حكما واحدا والسبب واحدا وذكر في شرح التأويلات في تفسير قوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ أن الحادثة إذا كانت واحدة وورد فيها نصان مقيد ومطلق في الحكم وهو من باب الواجب أن المطلق يقيد إذا كان لا يعرف التاريخ لأن الشرع متى أوجب الحكم بوصف لا بد من اعتبار الوصف فيكون بيانا للمطلق أن المراد منه المقيد وأما إذا كانا من باب الأسباب والشروط فإنه لا يحمل المطلق على المقيد ولكن يعمل بهما لعدم التنافي ورأيت في التلخيص في أصول الفقه إذا أطلق الحكم ثم ورد بعينه مقيدا في موضع آخر فلا خلاف أنه يجب الحكم بتقييده لأن التقييد زيادة لا يفيدها الإطلاق كقوله تعالى في موضع فامسحوا بوجوهكم وأيديكم وفي موضع آخر فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وقوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم وقوله عز اسمه أو دما مسفوحا وهكذا ذكر في عامة نسخ أصحابنا وعامة نسخ أصحاب الشافعي من القواطع والمستصفى والمحصول وغيرها فتبين أن الحمل في حكم واحد حادثة واحدة واجب وأن معنى قوله أبدا ما ذكرنا قوله لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء الآية الجملة الشرطية والمعطوفة عليها وهما قوله إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم صفة لأشياء والمعنى لا تكثروا مسألة رسول اللّه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها وكلفها إياكم تغمكم وتشق عليكم فتندموا عن السؤال عنها وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه تبد لكم تلك التكاليف التي تسؤكم وتؤمروا بتحملها فتعرضون أنفسكم لغضب اللّه بالتفريط فيها وقال إمام الهدى يحتمل أن يكون هذا نهيا عن سؤالهم عن أشياء لم يكن لهم حاجة إليها على وجه الاستبانة والاستيضاح فنهوا عنه حتى تمس الحاجة إذا مست الحاجة فقد أطلق لهم السؤال لقوله وإن تسألوا عنها الآية فجعل الثانية مستأنفة لا صفة لأشياء ثم ظاهر الآية دليل على أن العمل بالإطلاق واجب لأن الوصف في المطلق مسكوت عنه والسؤال عن المسكوت عنه منهي بهذا النص فكان بالظاهر وهو الإطلاق واجبا في الرجوع إلى المقيد لنعرف حكم المطلق إقدام على هذا المنهي عنه لما فيه من ترك الإبهام فيما أبهم اللّه كما أن في السؤال ذلك (٢/٤٢٢) يوضحه أن النهي ليس عن السؤال عن المجمل والمشكل واللّه أعلم لأن ذلك واجب ولا يرد السؤال عما هو مفسر أو محكم فعلم أن النهي ورد عن السؤال عما هو ممكن العمل به مع نوع إبهام إذ السؤال حينئذ يكون تعمقا وذلك لا يجوز والدليل عليه قوله عليه السلام اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسألتهم عن أنبيائهم قال ابن عباس رضي اللّه عنهما أبهموا ما أبهم اللّه أي أطلقوا ما أطلق اللّه ولا تقيدوا الحرمة في أمهات النساء بالدخول بالبنات يقال فرس بهيم إذا كان مطلق اللون أي له لون واحد واتبعوا ما بين اللّه من تقييد حرمة الربائب بالدخول بالأمهات وهو أي العمل بالإطلاق قول عامة الصحابة رضي اللّه عنهم في أمهات النساء لورودها مطلقة في قوله عز اسمه وأمهات نسائكم قال عمر رضي اللّه عنه أم المرأة مبهمة في كتاب اللّه فأبهموها أي حال تحريمها عن قيد الدخول الثابت في الربيبة فأطلقوها وعليه انعقد إجماع من بعدهم كذا في التقويم وما روي عن علي رضي اللّه عنه وغيره من شرط الدخول بالبنت لثبوت الحرمة في الأم فذلك ليس بطريق الحمل لكن باعتبار العطف فإنه يقتضي المشاركة في الخبر ولأن المقيد أوجب الحكم ابتداء يعني لا نسلم أن المقيد يوجب النفي عند عدم القيد بدليل انتفاء الجواز لفواته كما قال الشافعي بل المقيد أوجب الحكم في محله ابتداء من غير تعرض له بالنفي عند العدم وأما عدم جواز المطلق عند عدم الوصف فلكونه غير مشروع على ما كان قبل ورود المقيد لا لأن النص أي المقيد نفاه فإن الرقبة الكافرة إنما لم تجز في كفارة القتل لأنها لم تشرع كفارة كما لم يجز تحريم النصف وذبح الشاة لا لأن المقيد نفي جوازه أو الكفارة في نفسها وقدرها لا تعرف إلا شرعا فلا يحتاج إلى الشرع لانعدام كفارة كذا في التقويم صيغة يعني عبارة وإشارة ولا دلالة لأن النفي ضد الإثبات فلا يثبت بالدلالة ضد موجب النص ولا اقتضاء لأن إثبات الحكم في محل بوصف مستغن عن النفي عند عدم الوصف فإنه لو صرح بالجواز عند عدم الوصف لا يختل الكلام شرعا ولا عرفا فيصير الاحتجاج به (٢/٤٢٣) أي بأن الإثبات موجب للنفي فيلزم منه حمل المطلق على المقيد احتجاجا بلا دليل لأن السكوت عدم والعدم ليس بدليل أو لأن إثبات الحكم بالنص مقتصر على هذه الطرق الأربعة فما وراءه يكون احتجاجا بلا دليل بمقتضى كل نص أي بموجبه الإطلاق من المطلق معنى متعين معلوم أي الإطلاق ليس بمعنى الإجمال لأن معناه معلوم يمكن العمل به وهو نفي لما قال بعضهم المطلق بمنزلة المجمل لاحتمال كل واحد من الأفراد الداخلة فيه على البدل من غير ترجح للبعض فكان كالمشترك الذي انسد فيه باب الترجيح فلا يجب العمل به لا بالبيان والدليل عليه قصة أصحاب البقرة فإنهم لم يعملوا بإطلاقها إلا بعد البيان وارتفاع الاشتباه فقال الإطلاق معنى معلوم وله حكم معلوم يمكن العمل به ألا ترى أنه لو لم يرد المقيد وجب العمل بإطلاقه بالاتفاق من غير بيان وإذا كان كذلك لا يترك الإطلاق الذي هو دليل يمكن العمل به إلى غير الدليل وهو العمل بالمفهوم كما لا يجوز ترك التقييد لإثبات حكم الإطلاق بالاتفاق وقوله ولا نسلم له أن القيد بمعنى الشرط جواب عن قوله القيد جار مجرى الشرط فيوجب النفي عند العدم وتحقيقه أن الأصل في إيجاب النفي عند العدم هو الشرط عند الشافعي رحمه اللّه ثم إنه ألحق الوصف به في هذا المعنى فجعله نافيا للحكم عند العدم لكونه بمعنى الشرط على ما مر بيانه فالشيخ رحمه اللّه منع أولا كون القيد بمعنى الشرط مطلقا فقال لا نسلم له أي الشافعي أن القيد بمعنى الشرط في جميع الصور فإن القيد في قوله تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ليس بمعنى الشرط لأن النساء معرفة بالإضافة إلينا فلا يكون القيد معرفا ليجعل شرطا إذ القيد إنما جعل في معنى الشرط إذا كان ما قيد به منكرا لفظا ومعنى كما في قول الرجل المرأة التي أتزوجها فهي طالق لحصول التعريف به كما مر بيانه في باب ألفاظ العموم فأما إذا كان معرفا كقوله هذه المرأة التي أتزوجها فهي طالق فليس القيد فيه بمعنى الشرط بل لزيادة البيان كقوله تعالى يحكم بها النبيون الذين أسلموا وإذا كان كذلك لا بد له من إقامة الدليل على أن القيد المتنازع فيه مثل قيد الإيمان في مسألتنا بمعنى الشرط ولأنا قلنا يعني ولئن سلمنا أن هذا القيد بمعنى الشرط فلا نسلم أن الشرط يوجب نفيا أيضا لما ذكرنا بل الحكم الشرعي إنما يثبت بالشرع ابتداء يعني الحكم الشرعي أمر وجودي يثبت بالشرع ابتداء لا (٢/٤٢٤) عدم شيء يتحقق بناء على عدم شيء آخر لأن العدم ليس بشرع لتحققه قبل الشرع وإذا لم يكن العدم حكما شرعيا لم يمكن تعديته إلى الغير ولأنا إن سلمنا أن هذا القيد بمعنى الشرط وأنه يوجب النفي في محله وأنه يمكن تعديته لا نسلم له الاستدلال به على غيره يعني لا نسلم أنه يثبت النفي في غير المحل المنصوص استدلالا به إذا ثبت المماثلة بينهما في المعنى الذي تعلق الحكم به ولم يثبت ذلك بل المفارقة تثبت في السبب والحكم صورة ومعنى أما المفارقة في السبب صورة فظاهر لأن الظهار واليمين غير القتل صورة وكذا معنى لأن القتل بغير حق من أعظم الكبائر فلا يكون في معنى الجناية كالظهار واليمين ولا يقال لا نسلم أن القتل الذي تعلقت به الكفارة وهو القتل خطأ أعظم جناية من الظهار واليمين لأن عند الخصم الكفارة تتعلق بالقتل بالعمد كما تتعلق بالخطأ وباليمين الغموس كما تتعلق بالمعقودة والقتل العمد أعظم من الغموس ولما ثبت التفاوت بينهما تثبت بين القتل الخطأ واليمين المعقودة أيضا وأما المفارقة في الحكم صورة فلأن حكم القتل وجوب التحرير والصوم على الترتيب مقتصرا عليهما وحكم الظهار وجوب التحرير والصوم والإطعام وهذا مفارق للأول وكذا حكم اليمين وجوب البر ثم الكفارة بأحد الأشياء الثلاثة ثم صوم ثلاثة أيام وهو مفارق لحكم القتل أيضا وأما المعنى فلأن في هذين الحكمين ضرب تيسير فإن للطعام مدخلا في الظهار عند العجز والتخيير ثابت في الأشياء الثلاثة في اليمين مع النقل إلى صوم الثلاثة عند العجز وليس هذا النوع من التيسير في القتل وإذا ثبتت المفارقة بينهما لم يصح الاستدلال إذ لا بد له من المماثلة وذكر في الأسرار ولا مدخل للقياس فيها يعني في هذه المسألة من وجوه لأن الحوادث كلها منصوص عليها فلا قياس لبعضها على بعض ولأن القياس يوجب زيادة على النص وهذا لا يجوز عندنا ولأن الحكم مما لا يعرف بالقياس بالإجماع لأنه يرجع إلى إثبات قدر الكفارة لأن الوصف زيادة معنى كالقدر وكما لا يجوز إثبات زيادة القدر بالقياس كذلك الوصف ولو جاز ذلك لصارت الصلوات كلها على هيئة واحدة وكذلك الكفارات مقدارا على أن الكفارات وإن اتفقت اسما فهي مختلفة الجنس حكما لأنها وجبت بأسباب مختلفة الجنس من يمين وظهار وقتل وإفطار والحكم يختلف جنسه باختلاف سببه وإذا اختلف لم يكن الواجب بها سواء فلم يجز رد بعضها إلى بعض كما لم يرد إلى الكفارة النذر (٢/٤٢٥) فالمقاييس باطلة بما ذكرنا والاستدلال باطل بهذا الوجه الخاص وهو أن الجنس مختلف حكما وقد ظهر أثر الاختلاف في الإطعام وقدر الصيام على أن باب القتل مغلظ قد ظهر ذلك في أنواع الكفارة وفي وجوب الترتيب وهذا مخفف ولم يجز قياس ما خفف فيه على ما غلظ لإثبات التغليظ ولو احتمل القياس لكان اليد لنا لأن التحرير نوع من أنواع كفارة اليمين فيجب أن يكون أخف من القتل قياسا على سائر أنواعه وكان أخذ حكم اليمين من حكم اليمين أولى من أخذه من القتل وقال هذا إن سلمنا لهم أن المطلق يحمل على المقيد وعندنا لا يحمل بل كل يعمل بنفسه وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين قوله فإن قال متصل ب قوله أما العدم فليس بشرع يعني لو قال أنا لا أعدي العدم الذي زعمت أنه ليس بحكم شرعي بل أعدي القيد الزائد على المطلق وهو قيد الإيمان ثم النفي يثبت به في هذا المحل كما ثبت في المنصوص عليه يقال له إن سلمنا صحة هذه التعدية وثبوت القيد في المتنازع فيه فذلك لا يمنع من صحة تحرير الكافرة هاهنا أيضا لأن عدم الجواز في المنصوص عليه أعني كفارة القتل ليس باعتبار منع القيد عن الجواز لما قلنا إن المقيد يوجب الحكم ابتداء غير متعرض للنفي لكن عدم الجواز لعدم الشرعية وهاهنا الشرعية ثابتة بدلالة ورود المطلق فكان الجواز ثابتا فصار الحاصل أن في المنصوص عليه ليس إلا نص مقيد فيثبت موجبه وبقي ما وراءه على العدم وهاهنا بعد التعدية يجتمع نصان مطلق ومقيد تقديرا لأن تعدية القيد إن سلمت لا تصلح لإبطال الإطلاق لأن الرأي لا يصلح مبطلا للنص بوجه فصار بعد التعدية كأنه اجتمع منه مطلق ومقيد فيثبت موجب كل واحد منهما فيجوز تحرير الكافرة بالنص المطلق وتحرير المؤمنة به وبالنص المقيد أيضا وهذا معنى كلام الشيخ رحمه اللّه ولكن يلزم منه اجتماع المقيد والمطلق في حكم واحد في حادثة واحدة وذلك موجب للحمل لا محالة على ما بينا ونبين بعد فكان الجواب الصحيح أن هذا الاستدلال والتعدية فاسدة للمفارقة وللمعاني المذكورة في الأسرار إلا أن الشيخ تسامح فيه لأن التعدية لما فسدت لا يلزم اجتماع المقيد والمطلق في التحقيق وإنما يلزم ظاهرا على تقدير التسليم فتساهل في جوابه فإن قيل لعل من مذهب الشيخ عدم جواز الحمل في حكم واحد في حادثة واحدة أيضا كما أشار إليه هذا الجواب وقوله أبدا قلنا منع من هذا الاحتمال قوله فيما بعد بخطوط والحكم الواحد لا (٢/٤٢٦) يقبل وصفين متضادين فإذا ثبت تقييده بطل إطلاقه ويمكن أن يجاب عنه أيضا بأن مثل هذا الاجتماع لا يوجب الحمل فإن من شرطه استواءهما في الدرجة ولم يوجد ألا ترى أن الزيادة على النص لا تجوز بخبر الواحد لاستلزامه إبطال الإطلاق القطعي بالدليل الظني فلما لم يجز إبطاله بالقيد الثابت بخبر الواحد فلأن لا يجوز بالقيد الثابت بالرأي الذي هو دونه كان أولى فصارت التعدية لمعدوم وهذه اللام تتعلق بالتعدية وهي في لإبطال العاقبة وقوله لإبطال مع متعلقه خبر صار أي صارت تعدية الشافعي عدم الجواز الذي لا يصلح حكما شرعيا من المقيد في كفارة القتل إلى المطلق في كفارة الظهار واليمين تعدية لأجل إبطال موجود يصلح حكما شرعيا وهو الإطلاق أو جواز التحرير للكافرة يعني أدى تلك التعدية إلى الإبطال وآل عاقبتها إليه أو اللام في المعدوم هي الدالة على الغرض أي صارت تعدية الشافعي وصف الإيمان من كفارة القتل إلى غيرها تعدية لأجل معدوم لا يصلح حكما شرعيا أي الغرض من التعدية إثبات ذلك المعدوم لإبطال الموجود وهو وصف الإطلاق لا إثبات المعدى وهو جواز المؤمنة لأن ذلك ثابت بدون التعدية فكان هذا أبعد عن الصواب مما سبق وهو إضافة عدم الحكم إلى عدم الشرط أو الوصف لأن فيما سبق إن وجد العمل بالمسكوت الذي ليس بدليل فليس فيه إبطال حكم موجود وفيما نحن فيه وجد الأمران وهذا أمر ظاهر التناقض أي اعتبار ما ليس بحكم شرعي وتعديته لإبطال حكم شرعي أمر متناقض لأن فيه اعتبار ما وجب إسقاطه وإهداره وإهدار ما وجب اعتباره والسنة المعروفة قوله عليه السلام ليس في العوامل والحوامل ولا في البقر المثيرة صدقة وما روى علي رضي اللّه عنه وفي البقر في كل ثلاثين تبيع وفي الأربعين مسنة وليس على العوامل شيء قوله وكذلك قيد التتابع في كفارة القتل والظهار لم يوجب نفيا أي نفيا للجواز بدونه في كفارة اليمين يعني لم يثبت اشتراط التتابع في صوم اليمين بحمله على صوم الظهارة والقتل بل ثبت زيادة على المطلق بقراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات كما ثبت زيادة اشتراط الوطء على قوله تعالى حتى تنكح زوجا غيره (٢/٤٢٧) البقرة ٢٣ بحديث العسيلة وقراءته إن لم يثبت قرآنا بقيت خبرا مسندا لأن القراءة منقولة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والزيادة بالخبر المسند صحيحة إذا كان مشتهرا وقراءته كانت مشتهرة في السلف حتى كانت تتعلم في المكاتب كذا في الأسرار قال الغزالي رحمه اللّه هذا ضعيف لأنه إن نقله من القرآن فهو خطأ قطعا لأنه وجب على الرسول تبليغ القرآن إلى جماعة تقوم الحجة بقولهم وكان لا يجوز له مناجاة الواحد وإن لم ينقله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له لدليل قد دل عليه واحتمل الخبر وما تردد بين أن يكون خبرا أو لا يكون لا يجوز العمل به وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه قلت هذا كلام واه لأن ابن مسعود نقله وحيا متلوا مسموعا من رسول اللّه عليه السلام فإن لم يثبت كونه وحيا متلوا لعدم شرطه وهو التواتر يبقى كلاما مسموعا من الرسول عليه السلام منقولا عنه فكان بمنزلة خبر رواه عنه وقوله وجب على الرسول التبليغ إلى جماعة تقوم الحجة بقولهم مسلم ولكن لم قلت إنه لم يبلغ بل بلغ ولكن أنساه اللّه تعالى على القلوب نسخا لتلاوته سوى قلب ابن مسعود إبقاء لحكمه كما قلنا جميعا بنسخ تلاوة الشيخ والشيخة إذا زانيا فارجموهما ألبتة نكالا من اللّه وبقاء حكمه بهذا الطريق وإنكم قد قبلتم خبر عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت أنزل عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس وكان مما يتلى مع أن عائشة نسيت النظم أيضا فخبر ابن مسعود مع حفظه النظم كان أولى بالقبول وكيف يحمل على أنه نقل بناء على اعتقاده إذ لا يظن بأحد من عوام المؤمنين أنه يزيد حرفا من عند نفسه في كتاب اللّه بناء على اعتقاده ذلك فكيف يظن ذلك بمن هو من كبار الصحابة وأجلائهم ولا يلزم عليه أي على ما قلنا من سقوط الإطلاق بقراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه عدم سقوطه في صدقة الفطر فإنا عملنا بالحديثين فيها فأوجبناها بسبب العبد الكافر والمسلم ولم نعمل بالقراءتين في اليمين بل عملنا بالمقيدة وهي قراءة ابن مسعود حملا (٢/٤٢٨) للمطلقة عليها لأن النصين في كفارة اليمين وردا في الحكم وهو الصوم الواجب باليمين وهو في وجوده أعني وجوبه في نفسه لا يقبل وصفين متضادين لأنه حكم واحد غير متعدد والإطلاق والتقييد ضدان فلا يجتمعان في وقت واحد في شيء واحد ولو عملنا بالنصين يلزم صوم ستة أيام ثلاثة بالمطلق وثلاثة بالمقيد وذلك خلاف الإجماع فعلمنا أن المقيد انصرف ما انصرف إليه الآخر وأوجب تقييد ذلك الصوم بعينه فإذا صار ذلك الصوم مقيدا لم يبق مطلقا ضرورة فأما في صدقة الفطر فأحد النصين جعل الرأس المطلق سببا والآخر جعل رأس المسلم سببا ولا مزاحمة أي لا تنافي في الأسباب إذ يجوز أن يكون لشيء واحد أسباب متعددة شرعا وحسا على سبيل البدل كالملك والموت وإذا انتفت المزاحمة وجب الجمع فإن قيل فهلا أوجبتم التتابع في قضاء رمضان كما أوجب البعض بقراءة أبي بن كعب رضي اللّه عنه فعدة من أيام أخر متتابعة مع أن التقييد والإطلاق في حكم واحد قلنا قراءته شاذة غير مشهورة وبمثلها لا تثبت الزيادة على النص فأما قراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه فقد كانت مشهورة إلى زمن أبي حنيفة رحمه اللّه حتى كان الأعمش يقرأ ختما على حرف ابن مسعود وختما من مصحف عثمان رضي اللّه عنهما والزيادة عندنا يثبت بالخبر المشهور كذا في المبسوط فإن قيل إذا لم يحمل على المقيد أدى إلى إلغاء المقيد فإن حكمه يفهم من المطلق ألا ترى أن حكم العبد المسلم يستفاد من إطلاق اسم العبد في صدقة الفطر كما يستفاد حكم الكافر وإذا كان كذلك لم يبق في ذكر المقيد فائدة قلنا ليس كذلك فإن قيل ورود المقيد يعمل به من حيث إنه مطلق وبعد وروده يعمل به من حيث إنه مقيد وفيه فائدة وهي أن يكون المقيد دليلا على الاستحباب والفضل أو على أنه عزيمة والمطلق رخصة ويجوز ذلك متى أمكن العمل بها جميعا واحتمال الفائدة قائم لا يجعل النصان نصا واحدا كيف والحمل يؤدي إلى إبطال صفة الإطلاق على وجه لم يبق معمولا وعدم الحمل لا يؤدي إلى إبطال شيء فكان أولى إليه أشير في الميزان فإن قيل إنكم قد حملتم المطلق على المقيد في قوله عليه السلام إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا وقوله صلى اللّه عليه وسلم إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة (٢/٤٢٩) تحالفا وترادا حيث قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه لا يجري التحالف حال هلاك السلعة مع أن الإطلاق والقيد في السبب أو الشرط دون الحكم قلنا ما حملنا المطلق على المقيد ولكن فهمنا بإشارة النص أن المراد من المطلق ما هو المراد من المقيد فإن قوله وترادا إشارة إلى أن المدار منه إيجاب التحالف حال قيام السلعة لأن التراد لا يتصور إلا في حال قيامها وقد ترك الشافعي رحمه اللّه أصله هاهنا حيث قال يجري التحالف حال هلاك السلعة كما يجري حال قيامها ولم يحمل المطلق على المقيد معتذرا بأن التحالف وجب لبيان الثمن والاشتباه حال قيام السلعة أقل من الاشتباه حال هلاكها لأنه يمكن تعرف الثمن من القيمة إذ بياعات الناس تكون بالقيمة في الأغلب فإيجاب التحالف حال قيام السلعة مع قلة الاشتباه يكون إيجابا له حال هلاكها دلالة ولكن أصحابنا قالوا هذا غير مستقيم لأنا لا نسلم أن البياعات بالقيمة في الأغلب فإن الإنسان يبيع ماله بأقل من القيمة ويشتري بأكثر منها للحاجة ولهذا لم يرجع إلى القيمة عند الاختلاف ولو كان البيع بالقيمة غالبا لرجع إليها بل التحالف موجب للفسخ والعقد إنما يقبل الفسخ حال قيام السلعة دون هلاكها فإيجاب ما يؤدي إلى الفسخ حال قبول العقد إياه لا يكون إيجابا له في حال لا يقبله كذا في أصول الفقه لأبي اليسر قوله وهذا نظير ما سبق أدرج الشيخ رحمه اللّه في هذا الكلام جواب سؤال يرد على مسألة تعليق نكاح الأمة بعدم طول الحرة ولم يذكره هناك وهو أن يقال لما علق حل الأمة بشرط عدم الطول لا يمكن أن يجعل ذلك الحل بعينه ثابتا قبل وجود الشرط بقوله وأحل لكم ما وراء ذلكم لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون منجزا ومعلقا كالقنديل إذا علق لا يبقى موضوعا في المكان فقال وهذا أي العمل بالمطلق والمقيد الواردين في السبب وعدم حمل أحدهما على الآخر نظير ما سبق أن التعليق بالشرط لما لم يوجب النفي عند عدمه جاز أن يكون الشيء الواحد قبل وجوده معلقا ومرسلا مثل نكاح الأمة تعلق بطول الحرة أي بعدم طولها بقي مرسلا أي مطلقا عن الشرط مع ذلك أي مع تعلقه بالشرط يعني جواز نكاحها قبل وجوده متعلق بالشرط وغير متعلق به لأن الإرسال والتعليق يتنافيان وجودا يعني وجود الحكم لا يجوز أن (٢/٤٣٠) يثبت بالإرسال والتعليق جميعا كالملك لا يجوز أن يثبت بالبيع والهبة جميعا لاستحالة ثبوت معلول واحد بعلتين تامتين فأما قبل ثبوته فيجوز أن يثبت بالبيع والهبة على سبيل البدل فكذا ما علق بالشرط يجوز أن يكون قبل وجوده معلقا أي معدوما يتعلق وجوده بالشرط ومرسلا أي محتملا للوجود قبل الشرط بسبب آخر كالطلقات الثلاثة المعلقة بالشرط يحتمل أن يتحقق وجودها عند وجود الشرط ويحتمل أن توجد قبل وجود الشرط بالتنجيز وكذا العتق فكذا جواز نكاح الأمة وذلك لأن العدم الأصلي كان محتملا للوجود بطريق الإرسال قبل التعليق وبعد التعليق لم يتبدل ذلك العدم فيبقى محتملا للوجود بطريقين وهما الإرسال والتعليق كما كان وذلك أي احتمال الوجود جائز أي ثابت كل حكم قبل ثبوته بطريقتين وأكثر كالملك قبل أن يثبت يحتمل الوجود بالبيع والهبة والميراث والوصية وغيرها قوله وقد قال الشافعي ثم ذكر الشيخ ما يرد نقضا على أصل الشافعي فقال قال الشافعي رحمه اللّه صوم اليمين غير متتابع في قول عملا بإطلاق قوله تعالى فصيام ثلاثة أيام ولم يحمله على صوم الظهار والقتل المقيدين بالتتابع كما حمل الرقبة المطلقة في اليمين على المقيدة بالإيمان في القتل وهذا منه تناقض لأنه قول بوجوب حمل المطلق على المقيد وعدم وجوبه واعتذر الشافعي عنه بأن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان له أصل واحد في المقيدات وكان مثله في القوة فأما إذا كان له أصلان متعارضان في التقييد فلا لأن حمله على أحدهما ليس بأولى من حمله على الآخر من غير دلالة وهاهنا الصوم المطلق وقع بين صومين مقيدين مختلفين في التقييد أحدهما صوم القتل والظهار المقيد بالتتابع والآخر صوم التمتع المقيد بالتفريق فلم يمكن حمله على أحدهما فبقي على إطلاقه فجاز التفريق والتتابع قال ولا يجوز تقييده أيضا بقراءة ابن مسعود لفوات الاستواء في الدرجة فإن أحدهما خبر واحد أو خبر مشهور والآخر نص قاطع فرد الشيخ اعتذاره وقال ليس في كلام اللّه تعالى صوم مقيد بالتفريق ولا نسلم أن صوم المتعة متفرق بدليل أنه لو صام العشرة بعد الرجوع جملة جاز عنده ولو صامها متفرقة قبل الرجوع لا يجوز بالاتفاق فعرفنا أنه غير مقيد بالتفريق إلا أنه (٢/٤٣١) أعني صوم المتعة صومان مطلقان مؤقتان أحدهما وقته وقت الحج والآخر وقته بعد الرجوع فإن صوم السبعة أضيف إلى وقت بكلمة إذا وأنها للوقت فلم يجز الأداء قبله لعدم شرعيته كما لا يجوز صوم رمضان قبل الشهر وأداء الظهر قبل الوقت لا لوجوب التفريق وإذا ثبت أنه ليس بمقيد بالتفريق لم يبق للمطلق إلا أصل واحد فيجب حمله عليه ثم إنه لم يحمل فلزم التناقض على أنا إن سلمنا أن صوم التمتع مقيد بالتفريق فكلامه ساقط أيضا لأن صوم المتعة لا يصلح مقيدا لصوم اليمين لأنه ليس من جنس الكفارات ليتعدى حكمه إليه بل المطلق في الكفارة يحمل على المقيد فيها لإمكان المقايسة بالنظر إلى الجنسية وليس في الكفارة صوم مقيد بالتفرق فلم يثبت تعارض الأصلين ووجب الحمل وإذا لم يحمل كان متناقضا ومن أصحاب الشافعي من قال فيما إذا تعارض أصلان يحمل على الأحوط ليخرج عن العهدة بيقين فأوجب التتابع في صوم اليمين وهو الأصح عندهم كذا في التهذيب وذلك أي عدم شرعية صوم السبعة أو عدم جوازه قبل الرجوع أو وقوع التفريق فيه لمعنى ذكرناه في موضعه قال الشيخ رحمه اللّه في بعض مصنفاته في أصول الفقه صوم المتعة لم يشرع متفرقا وإنما جاء التفرق ضرورة تخلل أيام لا صوم فيها وهي أيام النحر بمنزلة تخلل الليالي وتخلل أيام الحيض في صوم كفارة الفطر أو القتل قال فإن قيل إن الشارع شرعه متفرقا مع إمكان أن يشرعه جملة قبل أيام النحر أو بعدها فدل أنه شرع متفرقا لا أنه وقع ضرورة قلنا الصوم في حق المتمتع وجب بدلا والبدل إنما يجب في الوقت الذي يجب فيه المبدل هذا هو الأصل في الإبدال إلا أن وقت الأصل في يوم النحر وصوم العشرة لا يتصور أداؤه فيه فلضرورة عدم الإمكان جعله الشرع متفرقا فلم يجعل الكل قبله أو بعده ليكون جملة بل جعل البعض قبل أيام النحر متصلا بأيام النحر والبعض بعدها ليكون متصلا بطرفي أيام النحر لما تعذر الأداء فيها فيكون التفريق ضرورة الاتصال بطرفي وقت النحر الذي هو أصل ولم يشرع فيه لأنه وقت ضيافة اللّه عباده وكان ينبغي أن يكون أداء السبعة بعد أيام النحر قبل الرجوع بلا فصل غير أن الشرع علقه بالرجوع لعذر السفر نظرا له ومرحمة عليه ولا يقال ينبغي أن يكون قبله خمسة وبعده خمسة لأن ما ذكرنا معقول وذلك غير معقول ففوض إلى الشرع واللّه أعلم ولما فرغ الشيخ من بيان أقسام الكتاب وما يتعلق بها شرع في بيان أقسام الأحكام الثابتة بها فقال (٢/٤٣٢) |