باب العزيمة والرخصةاختلفت عبارات الأصوليين في تفسير العزيمة والرخصة بناء على أن بعضهم جعلوا الأحكام منحصرة على هذين القسمين وبعضهم لم يجعلوها كذلك فبعض من حصرها عليهما قال العزيمة الحكم الثابت على وجه ليس فيه مخالفة دليل شرعي والرخصة الحكم الثابت على خلاف الدليل لمعارض راجح واعترض عليه بجواز النكاح فإنه حكم ثابت على خلاف الدليل إذ الأصل في الحرة عدم الاستيلاء عليها وبوجوب الزكاة والقتل قصاصا فإن كل واحد ثابت على خلاف الدليل إذ الأصل حرمة التعرض في مال الغير ونفسه ولا يسمى شيء منها رخصة وقيل العزيمة ما سلم دليله عن المانع والرخصة ما لم يسلم عنه وبعض من لم يعتبر الانحصار قال العزيمة ملزم العباد بإيجاب اللّه تعالى كالعبادات الخمس ونحوها والرخصة ما وسع للمكلف فعله لعذر فيه مع قيام السبب المحرم فاختصت العزيمة بالواجبات على هذا التفسير وخرج الندب والكراهة عن العزيمة من غير دخول في الرخصة فلم ينحصر الأحكام في القسمين وعليه يدل كلام القاضي الإمام أيضا فإنه قال العزيمة ما لزمناه من حقوق اللّه تعالى من العبادات والحل والحرمة أصلا بحق أنه إلهنا ونحن عبيده فابتلانا بما شاء والرخصة إطلاق بعد حظر بعذر تيسيرا ثم أول كلام الشيخ يشير إلى أنه اعتبر الانحصار حيث قال وأحكام هذه الأقسام ينقسم إلى قسمين ولا شك أن الإباحة والكراهة من أحكام هذه الأقسام كوجوب الفعل والترك فتدخلان في القسمين وكذا تفسيره العزيمة والرخصة يدل عليه أيضا فإن حاصل معناهما على ما ذكر العزيمة ما هو أصل من الأحكام والرخصة ما ليس بأصل أو العزيمة ما لم يتعلق بالعوارض والرخصة بخلافه وهذا يدل على انحصار الأحكام فيهما كما ترى (٢/٤٣٣) لكن آخر كلامه وهو تقسيمه العزيمة يدل على خلافه لأن الإباحة لم تذكر في هذا التقسيم ولا في تقسيم الرخصة فكان مشتبها إلا أن يقال الأحكام منحصرة في القسمين عنده كما يدل عليه أول كلامه والإباحة داخلة في العزيمة لوكادة شرعيتها كالنفل إذ ليس إلى العباد رفعها لا أن الشيخ لم يذكرها في تقسيم العزيمة لأن غرضه بيان ما تعلق به الثواب من العزائم وذلك في الأقسام المذكورة دون الإباحة لأنها تتعلق بمصالح الدنيا وقوله العزيمة اسم لما هو أصل منها أي من الأحكام تمام التعريف وقوله غير متعلق بالعوارض تفسير لأصالتها لا تقييد ويدخل في هذا التعريف ما يتعلق بالفعل كالعبادات وما يتعلق بالترك كالحرمات ويؤيده ما ذكره صاحب الميزان بعد تقسيم الأحكام إلى الفرض والواجب والسنة والنفل والمباح والحرام والمكروه وغيرها أن العزيمة اسم للحكم الأصلي في الشرع على الأقسام التي ذكرنا من الفرض والواجب والسنة والنفل ونحوها لا لعارض سميت أي الأحكام الأصلية عزيمة لأنها من حيث كانت أصولا أي مشروعة ابتداء حقا لصاحب الشرع مفعول له أي كانت في نهاية التوكيد من حيث إنها كانت أصولا لأجل أنها حق له أو هو مصدر مؤكد لغيره وهو نافذ الأمر واجب الطاعة فكان أمره مفترض الامتثال وشرعه واجب القبول فكان مؤكدا وقوله والرخصة اسم لما بني على أعذار العباد تعريف الرخصة وقوله وهو ما يستباح مع قيام المحرم تفسير له يعني أريد بقوله ما بني على أعذار العباد ما يستباح بعذر مع قيام المحرم فقوله ما يستباح عام يتناول الفعل والترك وقوله لعذر احتراز عما أبيح لا لعذر ونظائره كثيرة وقوله مع قيام المحرم احتراز عن مثل الصيام عند فقد الرقبة في الظهار إذ لا يمكن دعوى قيام السبب المحرم عند فقد الرقبة مع استحالة التكليف بإعتاقها حينئذ بل الظهار سبب لوجوب الإعتاق في حالة ولوجوب الصيام في حالة أخرى واعترض عليه بأنه إن أريد بالاستباحة الإباحة بدون الحرمة فهو تخصيص العلة لأن قيام المحرم بدون حكمه لمانع تخصيص له وإن أريد بها الإباحة مع قيام الحرمة فهو جمع بين المتضادين وكلاهما فاسد ولا يفيد تغيير العبارة بأن الرخصة هي ما رخص مع قيام المحرم لأن الترخيص غير خارج عن الإباحة فكان في معنى الأول وزيادة وهي أنه استعمل رخص في حد الرخصة وإن أمكن تأويله باللغوي دون الاصطلاحي لأن أقله استعمال اللفظ المبهم في التعريف وهو قبيح وأجيب عنه بأن المراد من قوله يستباح يعامل به معاملة (٢/٤٣٤) المباح لا أنه يصير مباحا حقيقة لأن دليل الحرمة قائم إلا أنه لا يؤاخذ بتلك الحرمة بالنص وليس من ضرورة سقوط المؤاخذة انتفاء الحرمة فإن من ارتكب كبيرة وعفا اللّه عنه ولم يؤاخذه بها لا تسمى مباحة في حقه لعدم المؤاخذ ولهذا ذكر صدر الإسلام الرخصة ترك المؤاخذة بالفعل مع وجود السبب المحرم للفعل وحرمة الفعل وترك المؤاخذة بترك الفعل مع قيام السبب الموجب للفعل وكون الفعل واجبا وذكر في الميزان الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفيها وتوسعة على أصحاب الأعذار وقال بعض أصحاب الحديث الرخصة ما وسع على المكلف فعله بعذر مع كونه حراما في حق من لا عذر له أو وسع على المكلف تركه مع قيام الوجوب في حق غير المعذور وسوى بين الرخص كلها وقال لا يجوز أن تكون الرخصة حرام التحصيل قال النبي عليه السلام إن اللّه تعالى يحب أن يؤتى برخصه كما يحب أن يؤتى بعزائمه وقال عليه السلام لعمار حين أجرى كلمة الكفر على لسانه بالإكراه فإن عادوا فعد كيف وفي بعض الرخص يجب تحصيله كما في تناول الميتة والدم عند الإكراه والمخمصة قال صاحب الميزان وهذا صحيح ويجب أن يكون قول أصحابنا هذا فإن معنى الرخصة السهولة واليسر وذلك في سقوط الحظر والعقوبة جميعا والاسمان معا دليلان على المراد أي يدلان لغة على الوكادة واليسر المرادين في الشرع منهما فكانا اسمين شرعيين مراعى فيهما معنى اللغة حتى كان العزم يمينا ولو قال أعزم أن أفعل كذا كان يمينا عندنا وقال الشافعي رحمه اللّه لا يكون يمينا لأنه لم يحلف باللّه ولا بصفة من صفاته ولكنا نقول العزم لغة أقصى ما يراد من الإيجاب والتوكيد والإنسان يؤكد كلامه باليمين وعن أبي بكر رضي اللّه عنه أنه قال لامرأته أسماء بنت عميس عزمت عليك أن لا تصومي اليوم الذي مت فيه فأفطرت وقالت ما كنت لأتبعه حنثا فعرفت العزم يمينا فإن عرفته لغة فقولها حجة وإن عرفته شرعا فكذلك كذا في الأسرار وفي الصحاح عزمت عليه أي اقتسمت عليه قوله تعالى فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل أي فاصبر على أذى قومك كما صبر أولوا الحزم والرأي الصواب من الرسل على بلايا ابتلوا بها تظفر بالثواب كما ظفروا به ثم أنهم خصوا من بين الأنبياء وإن كان الكل على الحق لانتفاء الوهن وشبهته في طلبهم للحق وزيادة ثباتهم عليه عند توجه الشدائد والمكاره (٢/٤٣٥) إليهم وقوة صبرهم عليه فيها وقيل هم ستة نوح فإنه صبر على أذى قومه مدة طويلة وإبراهيم صبر على النار وذبح الولد وإسحاق على الذبح ويعقوب على فقد الولد وذهاب البصر ويوسف على الجب والسجن وأيوب على الضر وقيل هم أصحاب الشرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد فعلى هذا يكون من للتبعيض وقيل الرسل كلهم أولوا العزم ولم يبعث اللّه رسولا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل ومن على هذا القول للتبيين وهو الصحيح إليه أشير في التيسير وغيره والعزيمة أربعة أقسام الفرض إلى آخره يدخل في هذه الأقسام الفعل والترك فإن ترك المنهي عنه فرض إن كان الدليل مقطوعا به كترك أكل الميتة وشرب الخمر وواجب إن دخل فيه شبهة كترك أكل الضب واللعب بالشطرنج وسنة أو نفل إن كان دونه كترك ما قيل فيه لا بأس به ويؤيده ما ذكر شمس الأئمة الواجب ما يكون لازم الأداء شرعا أو واجب الترك فيما يرجع إلى الحل والحرمة ذكر في بعض نسخ الأصول لأصحابنا الفعل الصادر عن المكلف لا يخلو من أن يترجح جانب الأداء فيه أو جانب الترك أو لا هذا ولا ذلك أما الأول فذلك إما أن يكفر جاحده ويضلل وهو الفرض أو لا يكفر وذلك أما أن يتعلق العقاب بتركه وهو الواجب أو لا يتعلق وذلك إما أن يكون ظاهرا واظب عليه النبي عليه السلام وهو السنة المشهورة أو لا يكون وهو النفل والتطوع والمندوب وأما الثاني فإما أن يتعلق العقاب بالإتيان به وهو الحرام أو لا يتعلق وهو المكروه وأما الثالث فهو المباح إذ ليس في أدائه ثواب ولا في تركه عقاب وذكر بعضهم العزيمة لا تخلو من أن يكفر جاحدها أو لا والأول هو الفرض والثاني لا يخلو من أن يعاقب بتركه أو لا والأول هو الواجب والثاني لا يخلو من أن يستحق بترك الملازمة أو لا والأول هو السنة والثاني النفل ويدخل في القسم الأخير المباح إن جعل المباح من العزائم فهذه أصول الشرع أي هذه أحكام شرعت ابتداء في الشريعة من غير نظر إلى أعذار العباد فكانت من العزائم وإن كانت متفاوتة في أنفسها وكأنه أشار إلى رد قول من قال من أصحابنا إن النوافل ليست من العزائم لأنها شرعت جبرا للنقصان في أداء ما هو عزيمة من الفرائض أو قطعا لطمع الشيطان في منع العباد من أداء الفرائض من حيث إنهم لما رغبوا في أداء النوافل مع أنها ليست عليهم فذلك دليل رغبتهم في أداء الفرائض بالطريق الأولى فقال هذه الأقسام الأربعة سواء في أنها شرعت (٢/٤٣٦) ابتداء لا بناء على أعذار العباد فكانت عزائم لوكادة شرعيتها وإن تفاوتت في ذواتها ألا ترى أن النفل مشروع ابتداء لا يحتمل التغير بعارض يكون من العباد فكان عزيمة كالفرض وما ذكروا مقصود الأداء وليس كلامنا فيه والفرائض أي المفروضات في الشرع مقدرة يعني روعي فيها كلا المعنيين فهي مقدرة لا تحتمل زيادة ولا نقصانا مقطوعة عما يغايرها من جنسها المشروع كذا في الميزان أو مقطوعة عن احتمال أن لا تكون ثابتة لأنها تثبت بدليل لا شبهة فيه فصار الفرض اسما لمقدر ثابت بدليل قطعي مثل الإيمان فإنه مقدر بتصديق ما جاء من عند اللّه حتى لو نقض شيئا منه أو زاد لا يجوز فإنه لو قال أنا أؤمن بما جاء من عند اللّه وبما جاء من عند غير اللّه لا يكون مؤمنا وسميت مكتوبة لأنها كتبت علينا في اللوح المحفوظ وهذا الاسم أي اسم الفرض يشير إلى ضرب من التخفيف لأنه ينبئ عن التقدير وفيه يسر بالنسبة إلى ما ليس بمقدور وللّه تعالى أن يأمر عباده بشغل جميع العمر بخدمته بحكم الملكية فترك ذلك إلى مقدر قليل يكون دلالة التخفيف واليسر وكأنه تعالى لما أوجبه علينا جعله مقدرا لئلا يصعب علينا أداؤه ويصير مؤدى لا محالة فكان التقدير فيه لشدة المحافظة والملازمة عليه ألا ترى أنه تعالى كيف أعقب قوله كتب عليكم الصيام بقوله جل اسمه لعلكم تتقون أياما معدودات منها على التخفيف بإيراد جمعي القلة وهما الأيام المعدودات كأنه قيل كتب عليكم الصيام أياما قلائل ليتيسر عليكم الأداء ويسهل المحافظة عليه فعرفنا أن الغرض من التقدير التيسير والمقصود من التيسير شدة المحافظة على الأداء قوله أخذ من الوجوب وهو السقوط فسر الشيخ الوجوب بالسقوط والوجبة بالاضطراب والمذكور في كتب اللغة أن الوجوب هو اللزوم والوجبة هو السقوط مع الهدة والوجب الاضطراب ومعنى السقوط أنه ساقط علما أي في إثبات العلم اليقيني هو (٢/٤٣٧) ساقط في نفسه ملحق بالمعدوم وإن كان في إيجاب العمل ثابتا موجودا هو الوصف الخاص أي كون الواجب ساقطا في حق العلم وصف مختص به لا يوجد ذلك في الفرض يعني سقط عنه أحد نوعي ما تعلق بالفرض وهو العلم وبقي العلم لازما به فسمي بهذا الاسم ليقع التمييز بينه وبين الفرض أو سمي به لأنه لما لم يفد العلم اليقيني صار كالساقط على المكلف بدون اختياره لا كما يحمل أي يتحمل يعني لا يكون مثل الذي يتحمل ويرفع باختيار وهو الفرض فإنه لما كان ثابتا قطعا يتحمل اختيار وشرح صدر قال الإمام العلامة مولانا حميد الملة والدين رحمه اللّه ونظيره أن أميرا أمر واحدا من غلمانه بحمل شيء إلى موضع فتحمله فلما غاب عن بصره وأخذ في الطريق أخبره واحد أن الأمير قد أمر بحمل هذا الشيء الآخر أيضا إلى ذلك الموضع ولم يحصل العلم له بإخباره فتحمله أيضا كان المأمور في تحمل الأول مختارا طائعا وفي تحمل الثاني بمنزلة المدفوع إليه كأنه سقط عليه من غير رضاه واختياره قوله والسنة كذا السنة لغة الطريقة مرضية كانت أو غير مرضية وسنن الطريق معظمه ووسطته والسن الصب برفق من باب طلب فإن أخذت السنة منه فباعتبار أن المار ينصت ويجري فيها جريان الماء ومنه قول الشاعر وسالت بأعناق المطي الأباطح وهو أي لفظ السنة في الشريعة اسم للطريق المسلوك في الدين يعني من غير افتراض ولا وجوب كما أشار إليه في بيان الحكم سواء سلكه الرسول أو غيره ممن هو علم في الدين وذكر في بعض النسخ لا خلاف في أن السنة هي الطريقة المسلوكة في الدين وإنما الخلاف في أن اللفظ السنة إذا أطلق ينصرف إلى سنة الرسول أو إليها وإلى سنة الصحابي على ما تبين بعد بل زيادة على ما شرع له الجهاد وهو إعلاء دين اللّه وكبت أعداء اللّه وتحصيل الثواب في الآخرة وفي المغرب النفل ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه وهو أن يقول الإمام أو الأمير من قتل قتيلا فله سلبه أو قال للسرية ما أصبتم فهو لكم أو ربعه أو نصفه ولا يخمس وعليه الوفاء به وسمي ولد الولد نافلة ذلك أي (٢/٤٣٨) لكونه زائدا على مقصود النكاح فإنه شرع لتحصيل الولد من صلبه والحافد زيادة عليه فكذا النافلة اسم لما شرع زيادة على الفرائض والواجبات ثم اختلفت العبارات في حدود هذه الأقسام فقيل الفرض هو ما يعاقب المكلف على تركه ويثاب على تحصيله واعترض عليه بالصلاة في أول الوقت فإنها تقع فرضا ولو تركها لا يأثم بتركه حتى لو مات قبل آخر الوقت لا شيء عليه وبصوم رمضان في السفر فإنه يقع فرضا ولا يعاقب على تركه وبأن تارك الفرض قد يعفى عنه ولا يعاقب ولا يخرج الفرض بذلك عن كونه فرضا وقيل هو ما يخاف أن يعاقب على تركه وقيل هو ما فيه وعيد لتاركه ويعترض عليهما بترك الصلاة في أول الوقت وترك صوم السفر أيضا والصحيح ما قيل الفرض ما ثبت بدليل قطعي واستحقق الذم على تركه مطلقا من غير عذر فقوله ما ثبت بدليل قطعي يتناول المندوب والمباح إذ قد يثبت كل واحد منهما بدليل قطعي أيضا كقوله تعالى وافعلوا الخير وكلوا واشربوا واحترز بقوله واستحق الذم على تركه عنهما وبقوله مطلقا عمن ترك الصلاة في أول الوقت على عزم الأداء في آخره وعن ترك الصوم في السفر إلى خلفه وهو القضاء وأمثالها لأن ذلك ليس بترك مطلقا فلا يستحق الذم به وبقوله من غير عذر عن المسافر والمريض إذا تركا الصوم وماتا قبل الإقامة والصحة فإنهما لا يستحقان الذم لأن تركهما بعذر وإذا بدل لفظ القطعي بالظني فهو حد الواجب وحد السنة هو الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب وأما حد النفل وهو المسمى بالمندوب والمستحب والتطوع فقيل ما فعله خير من تركه في الشرع وقيل هو ما يمدح المكلف على فعله ولا يذم على تركه وقيل هو المطلوب فعله شرعا من غير ذم على تركه مطلقا واحترز بقوله من غير ذم على تركه عن الواجب المضيق وبقوله مطلقا عن الموسع والمخير والكفاية قوله وأما الفرض فحكمه اللزوم علما وتصديقا بالقلب أي يجب الاعتقاد بحقيته قطعا ويقينا لكونه ثابتا بدليل مقطوع به وهو الإسلام أي الاعتقاد بهذه الصفة يكون إسلاما حتى لو تبدل بضده يكون كفرا وعملا بالبدن أي يجب إقامته بالبدن حتى لو ترك العمل به غير مستخف به يكون عاصيا وفاسقا إذا كان بغير عذر ولكنه لا (٢/٤٣٩) يكون كافرا إلا أنه ترك ما هو من أركان الشرائع لا ما هو أصل الدين لبقاء الاعتقاد على حاله ويكفر جاحده أي ينسب إلى الكفر من أكفره إذا ادعاه كافرا ومنه لا تكفر أهل قبلتك وأما لا تكفروا أهل قبلتكم فغير ثبت رواية وإن كان جائزا لغة قال الكميت يخاطب أهل البيت وكان شيعيا وطائفة قد كفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب كذا في المغرب وأما حكم الوجوب أي الواجب فلزومه عملا لا علما أي يجب إقامته بالبدن ولكن لا يجب اعتقاد لزومه لأن دليله لا يوجب اليقين ولزوم الاعتقاد مبني على الدليل اليقيني ويفسق تاركه إذا استخف إذا ترك العمل به فهو على ثلاثة أوجه أما إن تركه مستخفا بأخبار الآحاد بأن لا يرى العمل بها واجبا أو تركه متأولا لها أو تركه غير مستخف ولا متأول ففي القسم الأول يجب تضليله وإن لم يكفر لأنه راد لخبر الواحد وذلك بدعة وفي القسم الثاني لا يجب التضليل ولا التفسيق لأن التأويل سيرة السلف والخلف في النصوص عند التعارض وفي القسم الأخير يفسق ولا يضلل لأن العمل به لما وجب كان الأداء طاعة والترك من غير تأويل عصيانا وفسقا هذا هو المذكور في عامة الكتب وعليه يدل كلام شمس الأئمة رحمه اللّه أيضا وهو الصحيح والمذكور هاهنا يشير إلى أن تركه لا يوجب التضليل أصلا ويوجب التفسيق بشرط أن يكون مستخفا ولا يوجبه إذا كان متأولا وليس فيه دلالة على التفسيق في القسم الثالث بل هو ساكت عنه والمذكور بعده بخطوط يدل على إثبات التضليل في القسم الأول فيكون معنى ما ذكر هنا ويفسق تاركه ويضلل إذا استخف والمذكور في التقويم يدل على أنه لا تضليل فيه أصلا ولا تفسيق إلا في القسم الأول فإنه ذكر فيه الواجب كالمكتوبة في لزوم العمل والنافلة في حق الاعتقاد حتى لا يجب تكفير جاحده ولا تضليله وحكمه أن لا يكفر المخالف بتكذيبه ولا يفسق بتركه عملا إلا أن يكون مستخفا بأخبار الآحاد فيفسقه قوله وأنكر الشافعي هذا القسم أي أنكر التفرقة بين الفرض والواجب وقال هما (٢/٤٤٠) مترادفان وينطلقان على معنى واحد وهو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه سواء ثبت بطريق قطعي أو ظني قال واختلاف طريق الثبوت لا يوجب اختلافه في نفسه فإن اختلاف طرق النوافل لا يوجب اختلاف حقائقها وكذلك اختلاف طرق الحرام بالقطع والظن غير موجب اختلافه في نفسه من حيث الحرام قال وتخصيص اسم الفرض بالمقطوع والوا جب بالمظنون تحكم لأن الفرض لغة هو التقدير مطلقا سواء كان مقطوعا أو مظنونا به وكذا الواجب هو الساقط سواء كان مظنونا به مقطوعا به فكان تخصيص كل واحد بقسم تحكما ونحن نقول إنه إن أنكر الاسم أي أنكر كونهما متباينين لغة فلا معنى له لما بينا من معنى كل واحد منهما ومباينة أحد المعنيين للآخر وإن أنكر الحكم أي أنكر التفرقة بينهما حكما بأن قال لا تفاوت بينهما في لزوم العمل بطل إنكاره أيضا لأن التفرقة بين ما ثبت بدليل مقطوع به وبين ما ثبت بدليل مظنون ظاهرة إذ ثبوت المدلول على حسب الدليل فمتى كان التفاوت ثابتا بين الدليلين لا بد من ثبوته بين المدلولين وأما قولهم تخصيص كل لفظ بقسم تحكم فليس كذلك لأنا نخص الفرض بقسم باعتبار معنى القطع ونخص الواجب بقسم باعتبار معنى السقوط على الوجه الذي بينا ولا يوجد معنى القطع في الواجب ولا معنى السقوط على الوجه الذي بينا في الفرض فأنى يلزم التحكم وسائر الأسماء الشرعية والعرفية بهذه المثابة قال الغزالي رحمه اللّه وأصحاب أبي حنيفة رحمه اللّه قد اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه وتخصيص اسم الواجب بما ثبت ظنا ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون ولا حجر في اصطلاحات بعد تفهم المعاني فصار الحاصل أن وجوب العمل في الواجب عند الشافعي مثل وجوب العمل في الفرض والتفاوت بينهما في ثبوت العلم وعدمه وعندنا التفاوت بينهما ثابت في وجوب العمل أيضا حتى كان وجوب العمل في الفرض أقوى من وجوبه في الواجب وبيان ذلك أي بيان التفاوت الذي بينا أن النص المقطوع به وهو قوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن أوجب قراءة القرآن في الصلاة إذ المراد منه القرآن في الصلاة بالإجماع (٢/٤٤١) وبدليل قوله عز اسمه إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل وكان قيام ثلث الليل فرضا فانتسخ أصله في قوله أو تقديره في قوله بقوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن أي في كل صلاة على القول الأول أو في صلاة الليل على القول الثاني وبأن الأمر للإيجاب ولا وجوب خارج الصلاة فيتعين القراءة في الصلاة وهذا النص بإطلاقه وعمومه يتناول الفاتحة وغيرها فيخرج عن العهدة بقراءة غير الفاتحة كما يخرج بقراءتها وخبر الواحد وهو قوله عليه السلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أوجب الفاتحة علينا فوجب العمل بخبر الواحد على وجه لا يلزم منه تغيير موجب الكتاب وذلك بأن يجعل قراءة الفاتحة واجبة يجب العمل بها من غير أن يكون فرضا ليتقرر الكتاب على حاله ويحصل العمل بالدليلين على مرتبتهما ولا يقال قد خص من النص ما دون الآية بالإجماع وهو قرآن حتى لو أنكره يكفر فيخص ما دون الفاتحة بالخبر أيضا لأنا نقول عدم جواز ما دون الآية ليس باعتبار التخصيص ولكن ذلك لا يسمى قراءة عرفا فلا يدخل إطلاق قوله تعالى فاقرءوا ولهذا لا يحرم قراءة ما دون الآية على الجنب والحائض لأنها لا تسمى قراءة عرفا كما لو تكلم بكلمة واحدة أو حرف واحد منه ولكن ما دون الآية من القرآن حقيقة فإنكاره يكون كفرا كإنكار كلمة أو حرف فمن رد خبر الواحد كما رده الرافضة وغيرهم فقد ضل عن سواء السبيل أي عن وسطه ومن سواه بالكتاب والسنة المتواترة في إثبات الفرضية كما فعله أصحاب الظواهر من أهل الحديث حتى كان الثابت به مثل الثابت بالكتاب في العمل من غير تفاوت بينهما فقد أخطأ كما بيناه في باب أحكام الخصوص وما ذكروا أن ثبوت العلم بالكتاب وخبر المتواتر وعدم ثبوته بخبر الواحدة كاف لإثبات التفاوت بينهما لا يغنيهم شيئا لأنه لا بد من ظهوره في وجوب العمل الثابت بهما لتفاوت الدليلين في ذاتيهما ضعفا وقوة وذلك فيما قلنا حيث راعينا حد الكتاب الثابت باليقين بأن لم يلحق خبر الواحد به زيادة عليه وراعينا حد خبر الواحد بأن أوجبنا العمل به وكذا السعي في الحج والعمرة بالجر يعني السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة واجب عندنا وليس بركن حتى لو تركه رأسا في حج أو عمرة يجبر بالدم ويتم الحج والعمرة وعند الشافعي رحمه اللّه هو ركن ولا يتم حج ولا عمرة إلا به لأنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة وقال لأصحابه إن اللّه تعالى كتب عليكم (٢/٤٤٢) السعي فاسعوا ولقوله عليه السلام ما أتم اللّه لامرئ حجة ولا عمرة لا يطوف لها بين الصفا والمروة إلا أنا تمسكنا في ذلك بقوله تعالى فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومثل هذا اللفظ يوجب الإباحة لا الإيجاب إلا أنا تركنا ظاهره في حكم الإيجاب بدليل الإجماع فبقي ما وراءه على ظاهره وعملنا بخبر الواحد في إثبات الإيجاب دون الركنية على ما بينا وإن قرأت والعمرة بالرفع فمعناه وكذا العمرة واجبة وليست بفريضة وقال الشافعي رحمه اللّه هي فريضة مثل الحج لما روى زيد بن ثابت رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال العمرة فريضة كفريضة الحج وعندنا لما ضعف الدليل عن إثبات الفرضية لكونه خبرا لواحد ثبت به الوجوب وما أشبه ذلك أي المذكور مثل صدقة الفطر والأضحية وقراءة التشهد والصلاة على النبي لأن هذه الأشياء لما ثبتت بأخبار الآحاد كانت من الواجبات لا من الأركان ولا يلزم القعدة الأخيرة لأنها تثبت باتفاق الآثار إنه عليه السلام ما سلم إلا بعد القعدة الأخيرة كذا في الأسرار ولأن الخبر الموجب لها التحق بيانا بمجمل الكتاب على ما عرف قوله وكذلك تأخير المغرب أي مثل وجوب ما ذكرنا من الأحكام تأخير المغرب إلى العشاء بالمزدلفة ليلة النحر حيث أفاض الناس من عرفات واجب ثبت بخبر الواحد وهو ما روي أن أسامة بن زيد رضي اللّه عنه كان رديف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الطريق إلى المزدلفة فقال الصلاة يا رسول اللّه فقال الصلاة أمامك ومراده من هذا اللفظ إما الوقت أو المكان لأن الصلاة فعل المصلي وفعله لا يتصور أمامه فثبت أن التأخير واجب فإذا صلى المغرب بعرفات أو في الطريق بعد غيبوبة الشمس أو بعد غيبوبة الشفق يؤمر بالإعادة عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رحمهم اللّه لا يجب الإعادة وكان مسيئا لأنه أداها في وقتها الثابت بالكتاب أو السنة المتواترة إلا أن التأخير سنة فيكون مسيئا بتركه ولهما أن وقت المغرب في هذا الوقت وقت العشاء ومكان الأداء مزدلفة بالحديث فإذا أداها قبل وقتها أو في غير مكانها وجب عليه الإعادة عملا بالسنة كما في (٢/٤٤٣) سائر الصلوات إذا أديت قبل وقتها وكالجمعة وصلاة العيد إذا أديتا في غير المصر أو فنائه وكالظهر المؤدى في المنزل يوم الجمعة فإن لم يفعل أي لم يعد حتى طلع الفجر سقطت الإعادة لأن الإعادة إنما وجبت ليحصل الجمع بينهما في الوقت والمكان كما يوجبه الحديث فإذا طلع الفجر وانتهى وقت الجمع وهو وقت العشاء سقطت الإعادة لأنا إنما أوجبناها بالخبر فلو أوجبناها بعد طلوع الفجر لحكمنا بفساد ما أدى مطلقا وذلك من باب العلم وخبر الواحد لا يوجب العلم ولا يعارض أي خبر الواحد مقتضى الكتاب وهو جواز المغرب المؤداة فلا يفسد العشاء أي بفتح الياء العشاء الأولى وهي المغرب المؤداة أو بضمها يعني لا يفسد تذكر الصلاة التي وجبت إعادتها العشاء الأخيرة لأنها ليست بفائتة بيقين الأول أظهر قوله وكذلك الترتيب في الصلوات أي الترتيب بين الفوائت والوقتية واجب ثبت بخبر الواحد وهو قوله عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها وما روى ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها ثم ليصل التي ذكرها ثم ليصل التي صلى مع الإمام وأنه يوجب العمل دون العلم فوجب العمل به ما لم يعارض الكتاب والخبر المتواتر فعند سعة الوقت لا معارضة لأن الكتاب وهو قوله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا يوجب الأداء في مطلق الوقت بحيث لا يفوته عنه ولا يوجب الأداء في وقت التذكر لا محالة وخبر الواحد يوجب تقديم الفائتة وأدائها في وقت التذكر وأمكن الجمع بينهما فوجب العمل به فأما عند ضيق الوقت تحقق التعارض لتعين الوقت للوقتية بحيث لا يجوز التأخير عنه واقتضاء خبر الواحد تقديم الفائتة المستلزم لتفويتها عن الوقت وعدم جوازها قبل الفائتة فوجب ترجيح الكتاب على خبر الواحد فلذلك سقط العمل به وكذا الحكم في كثرة الفوائت لأنه في معنى ضيق الوقت لتأدية رعاية الترتيب فيها إلى تفويت الوقتية أيضا فإن قيل العمل بخبر الواحد غير ممكن عند سعة الوقت إلا بعد (٢/٤٤٤) رفع موجب الكتاب أيضا فإنه وإن لم يوجب الأداء في الحال لكنه يقتضي الجواز أو الخروج عن العهدة إذا تحقق الأداء وخبر الواحد ينفي فلا يجب العمل به على الوجه الذي ذكرتم لأنه يكون إبطالا لا لموجب الكتاب بخبر الواحد وذلك باطل كما قلتم في خبر التعيين والتعديل واشتراط الطهارة في الطواف قلنا هذا لا يلزم أبا حنيفة رحمه اللّه فإنه يقول بالفساد الموقوف حتى لو ترك صلاة ثم صلى صلوات كثيرة مع تذكرها يسقط الترتيب ولا يكون عليه إلا قضاء الفائتة عنده لأن فساد المؤديات بعدها لم يكن بدليل مقطوع به ليجب قضاؤها مطلقا وإنما كان لوجوب الترتيب بخبر الواحد وقد سقط ذلك عملا عند كثرة الصلوات فلا يلزمه إلا قضاء المتروكة والقول بالوقف لا يوجب رفع الجواز كيف ومختار الشيخ أن بمجرد خروج الوقت تنقلب الوقتية المؤداة صحيحة فإنه ذكر في شرح المبسوط في هذه المسألة محتجا لأبي حنيفة رحمه اللّه أن حكم الفساد ليس بمتقرر فيما أدى بل هو شيء يفتى به في الوقت حتى يعيده ثانيا في الوقت ليكون عملا بخبر الواحد وبكتاب اللّه تعالى بقدر الإمكان فمتى مضى الوقت لو حكمنا بفساد الوقتية كان ذلك تركا للعمل بالكتاب والخبر المتواتر بناء على ما يقتضيه خبر الواحد وذلك لا يجوز بل يجب القول بالجواز مطلقا ولا يعتبر خبر الواحد في مقابلته معارضا له قال وإلى هذا أشار محمد في الكتاب فإنه استدل بمسألة الحاج إذا صلى المغرب في الطريق فإنه يعيد فإذا لم يعد حتى طلع الفجر أخرت عنه لأنها صلاة أديت في وقتها إلى آخر ما ذكرنا فكذلك هاهنا وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه فيقولان إن الجواز وإن ارتفع في أول الوقت لكنه مباح لأن تفويت الجواز منه مباح بترك الصلاة مختارا فلأن يجوز ذلك الخبر أولى ولما لم يجز تفويته عن الوقت اختيارا لا يجوز بخبر الواحد أيضا ولأنا ما رفعنا الجواز لكن أخرناه إلى ما بعد الفائتة وإذا لم تقدم الفائتة لم يحصل العمل بالخبر أصلا فالأول تأخير والثاني إبطال والتأخير أهون منه فوجب القول به كذا قال شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه وذكر في بعض الفوائد أن كثرة الفوائت لما التحقت بضيق الوقت في سقوط الترتيب كان قلتها بمنزلة سعة الوقت في وجوب الترتيب فوجوب الإعادة عند القلة بعد خروج الوقت كان بمنزلة وجوبها في الوقت وبمنزلة وجوب الإعادة لتغرب قبل طلوع الفجر لأن القلة بمنزلة سعة الوقت فكان وقت العمل بخبر الواحد باقيا تقديرا وتبين بما ذكرنا الفرق بين وجوب تعيين الفاتحة ووجوب التعديل واشتراط الطهارة في الطواف وبين وجوب الترتيب فإنا لو أوجبنا التعيين أو التعديل أو الطهارة على وجه يؤدي إلى فساد (٢/٤٤٥) الصلاة والطواف يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد ولو أوجبنا الترتيب عند سعة الوقت على وجه يؤثر في فساد الوقتية لا يؤدي إلى نسخ الكتاب بل يكون تأخيرا لحكمة مع أن له ولاية التأخير فوجب القول به عملا بخبر الواحد فإن قيل لما تعين آخر الوقت للوقتية حتى وجب تقديمها على الفائتة ينبغي أنه لو قدم الفائتة لا يجوز كما لو قدم الوقتية على الفائتة في أول الوقت لا يجوز لتعينه وقتا للفائتة قلنا المنع عن تقديم الوقتية في أول الوقت لمعنى يختص بها بدليل أنه لو تنفل أو عمل عملا آخر لم يمنع عنه فيوجب الفساد أما المنع عن تقديم الفائتة في آخر الوقت فقد ثبت لمعنى في غيرها وهو أن لا يؤدي إلى تفويت الوقتية عن الوقت ولهذا يكره له الاشتغال بالنافلة وبعمل آخر فلم يوجب الفساد كذا ذكر في شرح القدوري لأبي نصر البغدادي رحمه اللّه قوله وثبت الحطيم من البيت وهو اسم لموضع متصل بالبيت من الجانب الغربي بينه وبين البيت فرجة وسمي بالحطيم لأنه حطم من البيت أي كسر فعيل بمعنى مفعول كالقتيل والجريح أو لأن من دعا على من ظلمه فيه حطمه اللّه كما جاء في الحديث فكان فعيلا بمعنى فاعل كالعليم ثم يجب على الطائف أن يطوف وراء الحطيم من البيت ولا يدخل تلك الفرجة في طوافه لأنه قد ثبت أنه من البيت بخبر الواحد وهو ما روي أن عائشة رضي اللّه عنها نذرت أن تصلي في البيت ركعتين إن فتح اللّه تعالى مكة على رسوله فجاء بها النبي عليه السلام عام حجة الوداع ليلا إلى البيت فصدها خزنة البيت وقالوا إنا نعظم هذا البيت في الجاهلية والإسلام ومن تعظيمها أن لا نفتح بابه في الليالي فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدها وأدخلها في الحطيم وقال صلي هاهنا فإن الحطيم من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة فأخرجوه من البيت ولولا حدثان عهد قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة وأظهرت قواعد الخليل وأدخلت الحطيم في البيت وألصقت العتبة بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا ولئن عشت إلى قابل لأفعلن ذلك (٢/٤٤٦) فجعلنا الطواف به أي بالحطيم واجبا بهذا الخبر أو جعلنا الطواف على الحطيم به أي بهذا الخبر واجبا لا يعارض الأصل أي لا يساويه حتى لو تركه يؤمر بإعادة الطواف من الأصل أو إعادته على الحطيم ما دام بمكة ليتحقق العمل بخبر الواحد ولو رجع من غير إعادة يجزيه ويجبر بالدم لوجود أصل الفرض وهو الدوران حول البيت مع تمكن النقصان فيه بترك الطواف على الحطيم ولو توجه إلى الحطيم لا يجوز صلاته لأن كونه من البيت ثبت بخبر الواحد فلا يتأدى به ما ثبت فرضا بالكتاب وهو التوجه إلى الكعبة قوله وحكم السنة كذا قال شمس الأئمة رحمه اللّه حكم السنة هو الاتباع فقد ثبت بالدليل أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متبع فيما سلك من طريق الدين وكذا الصحابة بعده وهذا الاتباع الثابت بمطلق السنة خال عن صفة الفرضية والوجوب إلا أن تكون من أعلام الدين نحو صلاة العيد والآذان والإقامة والصلاة بالجماعة فإن ذلك بمنزلة الواجب على ما نبينه بعد وذكر أبو اليسر وأما السنة فكل نفل واظب عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل التشهد في الصلوات والسنن الرواتب وحكمها أنه يندب إلى تحصيلها ويلام على تركها مع لحوق إثم يسير وكل نفل لم يواظب عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بل تركه في حالة كالطهارة لكل صلاة وتكرار الغسل في أعضاء الوضوء والترتيب في الوضوء فإنه يندب إلى تحصيله ولكن لا يلام على تركه ولا يلحق بتركه وزر وأما التراويح في رمضان فإنه سنة الصحابة فإنه لم يواظب عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بل واظب عليها الصحابة وهذا مما يندب إلى تحصيله ويلام على تركه ولكنه دون ما واظب عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإن سنة النبي أقوى من سنة الصحابة وهذا عندنا وأصحاب الشافعي يقولون السنة نفل واظب عليه النبي عليه السلام فأما النفل الذي واظب عليه الصحابة فليس بسنة وهو على أصلهم مستقيم فإنهم لا يرون أقوال الصحابة حجة فلا يجعلون أفعالهم أيضا سنة وعندنا أقوال الصحابة حجة فيكون أفعالهم سنة لأنها طريقة أمرنا بإحيائها بقوله تعالى لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة وقوله عز اسمه وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وبقوله عليه السلام عليكم بسنتي الحديث وقوله صلى اللّه عليه وسلم من ترك سنتي لم ينل شفاعتي والإحياء في الفعل فترك الفعل يستوجب اللائمة أي الملامة في الدنيا (٢/٤٤٧) وحرمان الشفاعة في العقبى إلا أن السنة استثناء منقطع أي لا خلاف في أن تفسير السنة وحكمها ما ذكرنا الاختلاف في أن إطلاق لفظ السنة يقع على سنة الرسول أو يحتمل سنته وسنة غيره والحاصل أن الراوي إذا قال من السنة كذا فعند عامة أصحابنا المتقدمين وأصحاب الشافعي وجمهور أصحاب الحديث يحمل على سنة الرسول عليه السلام وإليه ذهب صاحب الميزان من المتأخرين وعند الشيخ أبي الحسن الكرخي من أصحابنا وأبي بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي لا يجب حمله على سنة الرسول إلا بدليل وإليه ذهب القاضي الإمام أبو زيد والشيخ المصنف وشمس الأئمة ومن تابعهم من المتأخرين وكذا الخلاف في قول الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا تمسكوا في ذلك بأن لفظ السنة يطلق على طريقة غير الرسول من الصحابة فإن الصحابة قد سنوا أحكاما كما قال علي رضي اللّه عنه جلد الرسول في الخمر أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وقد قال عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي أطلق اسم السنة على طريقتهم وقال عليه السلام من سن سنة حسنة فله أجرها الحديث وقد عنى بذلك سنة غيره والسلف كانوا يطلقون اسم السنة على طريقة أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما وقد حكي عن الشافعي أنه قال إذا قال مالك السنة عندنا أو السنة ببلدنا كذا فإنما يريد به سنة سليمان بن بلال وكان عريف السوق وإذا كان كذلك لم يدل على إطلاق لفظ السنة على أن المراد طريقة الرسول عليه السلام أو غيره فلا يجوز تقييده بطريقته إلا بدليل واحتج الفريق الأول بأن الرسول هو المقتدى والمتبع على الإطلاق فلفظ السنة على الإطلاق لا يحمل إلا على سننه كما لو قيل هذا الفعل طاعة لا يحمل إلا على طاعة اللّه وطاعة رسوله وأما إضافتها إلى غير الرسول فجاز لاقتدائه فيها بسنة الرسول فوجب أن يحمل عند الإطلاق على حقيقته دون مجازه وما ذكروا من الحديث والإطلاق لا يلزم لأنا لا ننكر جواز إطلاق هذا اللفظ على طريقة غير الرسول مع التقييد وإنما نمنع أن يفهم من إطلاق اسم السنة غير سنة الرسول كذا في الميزان والمعتمد وقولهم اللفظ مطلق فلا يجوز تقييده من غير دليل قلنا لا بد من (٢/٤٤٨) تقييده إما بطريقة الرسول عليه السلام أو بطريقة غيره فتقييده بالأولى أولى لما ذكرنا قوله قال ذلك في أرش ما دون النفس إلى آخره دية المرأة عندنا على النصف من دية الرجل في النفس وما دونها وعند الشافعي رحمه اللّه المرأة تساوي الرجل إذا كان الأرش بقدر ثلث الدية أو دونه فإن زاد على الثلث فحينئذ حالها فيه على النصف من حال الرجل لما حكي عن ربيعة أنه قال قلت لسعيد بن المسيب ما تقول فيمن قطع إصبع امرأة قال عليه عشر من الإبل قلت فإن قطع إصبعين منها قال عليه عشرون من الإبل قلت فإن قطع ثلاثة أصابع قال عليه ثلاثون من الإبل قلت فإن قطع أربعة أصابع قال عليه عشرون من الإبل قلت سبحان اللّه لما كثر ألمها واشتد مصابها قل أرشها قال أعراقي أنت قلت لا بل جاهل مسترشد أو عاقل مستثبت فقال إنه السنة وهذا اللفظ إذا أطلق فالمراد به سنة الرسول عليه السلام ومراسيل سعيد عنده مقبولة فكان هذا بمنزلة حديث مسند فيجب العمل به وحجتنا في ذلك ما ذكره ربيعة فإنه لو وجب بقطع ثلاثة أصابع منها ثلاثون من الإبل ما سقط بقطع الإصبع الرابع عشرة من الواجب لا تأثير القطع في إيجاب الأرش لا في إسقاطه فهذا شيء يحيله العقل وقول سعيد إنه السنة محتمل يجوز أنه أراد سنة نفسه أو سنة غيره من الصحابة رضي اللّه عنهم لأن التأمل في الدين لإثبات حكم أو استنباط معنى طريقة حسنة فيطلق عليه اسم السنة كما يقال سنة العمرين كما ذكرنا كيف وقد أفتى كبار الصحابة مثل علي وعمر رضي اللّه عنهما بخلافه وفي المبسوط إن ما روي نادر مثل هذا الحكم الذي يحيله عقل كل عاقل لا يمكن إثباته بالشاذ النادر وقال ذلك في قتل الحر بالعبد يقتل الحر بالعبد عندنا وعند الشافعي رحمه اللّه لا يقتل لما روي عن ابن عمر وابن الزبير رضي اللّه عنهم أنهما قالا من السنة أن لا يقتل الحر بالعبد والسنة تحمل على سنة الرسول عند الإطلاق وقلنا لما كان هذا اللفظ محتملا لا يصح الاحتجاج به ومن قال من مشايخنا إن مطلق السنة محمول على سنة الرسول عليه السلام أجاب عن قول سعيد بأن السنة إنما تحمل على سنة الرسول إذا لم يقم دليل على أن المراد طريقة الغير وقد قام هاهنا فإن أهل النفل خرجوه عن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه كذا قال عبد القاهر البغدادي من أئمة (٢/٤٤٩) الحديث وإليه أشير في المبسوط فقيل وقول سعيد إنه السنة يعني سنة زيد وعن قول ابن عمر وابن الزبير إنه محمول على السيد إذا قتل عبده فقد كانوا مختلفين في ذلك فمنهم من يوجب القصاص مستدلا بقوله عليه السلام من قتل عبده قتلناه فقالا ذلك ردا على من قال منهم يقتل السيد بعبده كذا في المبسوط قوله سنة الهدى يعني سنة أخذها من تكميل الهدى أي الدين وهي التي تعلق بتركها كراهية أو إساءة والإساءة دون الكراهة وهي مثل الأذان والإقامة والجماعة والسنن الرواتب ولهذا قال محمد في بعضها إنه يصير مسيئا في بعضها إنه يأثم وفي بعضها يجب القضاء وهي سنة الفجر ولكن لا يعاقب بتركها لأنها ليست بفريضة ولا واجبة والزوائد أي والنوع الثاني الزوائد وهي التي لا يتعلق بتركها كراهة ولا إساءة نحو تطويل القراءة في الصلاة وتطويل الركوع والسجود وسائر أفعاله التي يأتي بها في الصلاة في حالة القيام والركوع والسجود وأفعاله خارج الصلاة من المشي واللبس والأكل فإن العبد لا يطالب بإقامتها ولا يأثم بتركها ولا يصير مسيئا والأفضل أن يأتي بها كذا في بعض مصنفات الشيخ وذكر في المبسوط قال مكحول السنة سنتان سنة أخذها هدى وتركها لا بأس به كالسنن التي لم يواظب عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسنة أخذها هدى وتركها ضلالة كالآذان والإقامة وصلاة العيد وعلى هذا قال محمد رحمه اللّه إذا أصر أهل مصر على ترك الآذان والإقامة أمروا بهما فإن أبوا قوتلوا على ذلك بالسلاح كما يقاتلون عند الإصرار على ترك الفرائض والواجبات وقال أبو يوسف رحمه اللّه المقاتلة بالسلاح عند ترك الفرائض والواجبات فأما السنن فإنما يؤدبون على تركها ولا يقاتلون على ذلك ليظهر الفرق بين الواجب وغيره ومحمد رحمه اللّه يقول ما كان من أعلام الدين فالإصرار على تركه استخفاف بالدين فيقاتلون على ذلك لهذا وعلى هذا أي على أن السنن نوعان اختلفت أجوبة مسائل باب الآذان فقيل مرة يكره ومرة أساء ومرة لا بأس لما قلنا أن ترك ما هو من سنن الهدي يوجب الكراهة والإساءة وترك ما هو من السنن الزوائد لا يوجب شيئا منهما وذلك مثل قول محمد يكره الآذان قاعدا (٢/٤٥٠) لما روي في حديث الرؤيا أن الملك قام على جذم حائط أي أصله ويكره تكرار الآذان في مسجد محلة ويكره ترك استقبال القبلة لمخالفة السنة وإن صلى أهل المصر بجماعة بغير آذان ولا إقامة فقد أساءوا لترك السنة المشهورة وإن صلين يعني النساء بآذان وإقامة جازت صلاتهن مع الإساءة فالإساءة لمخالفة السنة والتعريض للفتنة ولا بأس بأن يؤذن رجل ويقيم آخر لأن كل واحد منهما ذكر مقصوده فلا بأس بأن يأتي بكل واحد منهما رجل آخر ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها ويعاد في الوقت لأن المقصود وهو إعلام الناس بدخول الوقت لم يحصل ويعاد آذان الجنب وكذا آذان المرأة فما ذكرنا وأمثاله يخرج على هذه الأصل قوله وأما النفل فما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه عرف النفل ببيان حكمه إذ المذكور حكم النفل ولهذا قال شمس الأئمة وحكم النفل شرعا أنه يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه وقال القاضي الإمام نوافل العبادات هي التي يبتدئ بها العبد زيادة على الفرائض والسنن المشهورة وحكمها أن يثاب العبد على فعلها ولا يذم على تركها لأنها جعلت زيادة له لا عليه بخلاف السنة فإنها طريقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمن حيث سبيلها الإحياء كان حقا علينا فعوتبنا على تركها ولذلك أي ولما ذكرنا أن النفل كذا قلنا أن ما زاد على القصر في صلاة السفر وهو الشفع الثاني نفل لأن العبد لا يلام على تركه رأسا وأصلا ويثاب على فعله في الجملة وإذا ثبت أنه نفل لا يصح خلطه بالفرض كما في الفجر ولا يلزم عليه صوم المسافر فإنه يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه ثم إنه لو أداه يقع فرضا لأن المراد من الترك وهو الترك مطلقا وصوم المسافر ليس كذلك فإنه يعاقب على تركه في الجملة ألا ترى أنه لو أدرك عدة من أيام أخر يجب عليه قضاء الصوم ويعاقب على تركه فلم يكن الصوم في السفر نفلا ولا الزيادة على الآية أو الثلاث في القراءة في الصلاة فإنه يثاب عليها ولا يعاقب على تركها مع أنها تقع فرضا لأنا لا نسلم أنها قبل وجودها وتحققها كانت فرضا بل هي كانت نفلا إذا لم يكن في ذمته الإتيان بها ولذلك استقام عليها حد النفل ولكنها انقلبت فرضا بعد وجودها لدخولها تحت مطلق الأمر وعمومه وهو قوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن كانقلاب اليمين سببا للكفارة بعد فوات البر ألا ترى أن النافلة تصير فرضا بالشروع حتى لو أفسدها يجب القضاء ويعاقب على تركها بعد أن لم يكن كذلك قبل الشروع فكذا الزيادة على الثلاث يجوز أن يصير فرضا بعد الوجود لتناول (٢/٤٥١) الأمر إياها فإن الأمر إنما وقع على الأدنى ولم ينصرف إلى ما فوقه لأنه لم يكن مقداره معلوما في نفسه فإذا أتى به فقد صار مقدارا معلوما فأمكن صرف الأمر إليه كذا ذكره أبو اليسر فأما الأمر بالصلاة فيتناول أفعالا مقدرة فالزيادة عليها لا تدخل تحت الأمر بحال فلا تقع فرضا ولذلك جعلناه من العزائم أي ولأن النفل شرع دائما جعلناه من العزائم لأن دوام شرعيته يدل على وكادته وأصالته إذ لو بني على أعذار العباد لشرع في وقت العذر لا دائما ولا يقال لا نسلم أنه شرع دائما لأنه منهي عنه في الأوقات الثلاث وبعد الفجر والعصر لأنا نقول هو مشروع في هذه الأوقات مع كونه منهيا عنه حتى لو شرع فيه وأفسده يجب القضاء عليه في الأصح ولذا صح قاعدا أي ولأجل أنه شرع دائما صح أداؤه قاعدا مع القدرة على القيام لو راكبا مع القدرة على النزول بالإيماء وإن لم يكن متوجها إلى القبلة لأن النفل على الوصف الذي شرع وهو وصف الدوام يلازم العجز والحرج فلا يمكن إقامته آناء الليل والنهار قائما لأنه يعترض عليه الحوادث من المرض والضعف والحاجة إلى الركوب ونحوها باعتبار الأصل تعتبر هذه العوارض في الحال إذ لو لم تعتبر العوارض أدى إلى الحرج فلذلك جوزنا الأداء على أي وصف نشط قائما وقاعدا وراكبا وهذا القدر أي شرعية الأداء قاعدا أو راكبا من غير عذر من جنس الرخص لأن العذر قدر موجودا باعتبار الأصل فكان شرعيته بناء عليه فكان له شبهة بالرخصة من هذا الوجه وكأنه أخر ذكره عن سائر أقسام العزائم لأنه لم يخلص عزيمة قوله وقال الشافعي إلى آخره إذا شرع في صلاة النفل أو في صوم النفل يؤاخذ بالمضي فيه ولو لم يمض يؤاخذ بالقضاء عندنا وعند الشافعي رحمه اللّه لا يؤاخذ بواحد منهما لأن النفل للشرع على هذا الوصف وهو أنه غير لازم حتى يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه وجب أن يبقى كذلك بعد الشروع ولا يصير لازما لأن حقيقة الشيء لا يتغير بالشروع ألا ترى أنه بعد الشروع نفل كما كان قبله ولهذا يتأدى بنية النفل ولو أتمه كان مؤديا للنفل لا مسقطا للواجب ولا يمنع صحة الخلوة ويباح الإفطار بعذر الضيافة ولو صار فرضا لما ثبتت هذه الأحكام وإذا كان نفلا حقيقة وجب أن يكون مخيرا في الباقي كما كان مخيرا في الابتداء تحقيقا للنفلية لأن آخره من جنس أوله وقد غيرتم أنتم (٢/٤٥٢) حيث قلتم باللزوم في الباقي وقلت أنا إن ما لم نفعل بعد أي بعد ما أدى جزءا منه وهو مخير فيه أي فيما لم يؤد لأنه نفل فيكون على وفق الابتداء فمن أخرج عشرة دراهم للتصدق نفلا فتصدق بدرهم وسلم كان بالخيار في الباقي وكذا إذا تصدق ولم يسلم كان الخيار في التسليم فكذا إذا صلى ركعة كان بالخيار في الركعة الأخرى وإذا ثبت له الخيار في الباقي وحل له ترك ما لم يأت به لأنه لم يلتزمه يبطل المؤدى ضمنا له وتبعا لترك ما ليس عليه فلا يكون إبطالا حكما كمسافر صلى الظهر لا يحل له إبطالها لكن يحل له إقامة الجمعة ثم الظهر يبطل حكما لما جعل ذلك إليه وحل له وكمن أحرق حصائد أرض نفسه فاحترق زرع جاره أو سقى نفسه فنزت أرض جاره لا يجعل ذلك إتلافا لأنه ثبت تبعا لما هو حلال له ولما كان بطلان المؤدى أمرا حكميا لا بصنعه لا يضمن بالقضاء كالمظنون وهو ما إذا شرع في صلاة أو صوم على ظن أنه عليه فتبين أنه ليس عليه يصير شارعا في النفل بالاتفاق ولو أفسده لا يجب عليه القضاء لما ذكرنا أنه مخير في الأداء وإن البطلان ضمني فكذا هاهنا ولا معنى لاعتبار الشروع بالنذر لأن النذر التزام بالقول وله ولاية ذلك فإذا أتى بكلمة الالتزام لزمه وأما الشروع فليس بالتزام بل هو أداء بعض العبادة ولم يوجد فيما بقي التزام فلا يلزمه ونظيره الكفالة مع الفرض أو الصدقة فإن الكفيل لما التزم بالقول فيلزمه ما التزم فأما المقرض والمتصدق فلا يلتزم بالقول ولكن شرع في الإعطاء فبقدر ما أدى يصح ولا يلزمه ما لم يعط يوضح الفرق بينهما لو نذر أربع ركعات يلزمه ولو شرع ينوي أربع ركعات لا يلزمه ولو نذر الصلاة قائما يلزمه القيام ولو شرع قائما لا يلزمه ولو نذر صوم يوم النحر يلزمه عندكم ولو شرع فيه لا يلزمه على أن الشروع أداء بالفعل والنذر إيجاب في الذمة بالقول ثم في النذر يلزمه بقدر ما سمى فكذلك بالشروع يلزمه بقدر ما أدى وما لم يؤده لا يلزمه كما أن ما لم يسمه بالنذر لا يلزمه فبطل المؤدى يعني عند الامتناع عن أداء الباقي حكما له أي للامتناع الثابت بالتخيير قوله وقلنا نحن إن أداه فقد صار لغيره يعني صار عبادة للّه تعالى مسلما إليه لأنه لما شرع في الصوم أو في الصلاة وأدى جزءا منه فقد تقرب إلى اللّه تعالى بأداء ذلك الجزء وصار العمل للّه تعالى حقا له بالنص ولهذا لو مات كان مثابا على ذلك وحق غيره محترم أي حرام التعرض بالإفساد ومضمون عليه إتلافه بالنص والإجماع فوجب صيانته وحفظه احترازا عن ارتكاب المحرم ووجوب الضمان ولا سبيل إليه أي إلى حفظه (٢/٤٥٣) وصيانته أو إلى كونه مضمونا إلا بإلزام الباقي وهما أمران متعارضان أعني المؤدى وغير المؤدى يعني لو نظر إلى المؤدى يلزم إلزام الباقي صيانة له عن البطلان ولو نظر إلى غير المؤدى نفسه يلزم أن يكون غير لازم لأنه في ذاته نفل كما قاله الشافعي فوجب الترجيح لما قلنا اللام ليست للتعليل بل هي صلة الترجيح أي وجب ترجيح ما قلنا بالاحتياط في العبادة فإن قيل لا نسلم أن المؤدى صار عبادة للّه تعالى لأن ما شرع فيه عبادة صوم أو صلاة وهي مما لا يتجزأ فلا يكون الموجود طاعة إلا بانضمام الباقي إليه وإذا لم يكن طاعة لا يحرم إبطاله ولئن سلمنا كونه عبادة فلا نسلم أن أداء الباقي شرط لبقائه عبادة لأنه عرض يستحيل بقاؤه فكما وجد انقضى وعدم ولا تصور للغير بعد العدم والدليل عليه أن المؤدى باعتراض الموت لا يخرج عن كونه عبادة حتى ينال به الثواب بلا خلاف بين الأمة ولو كان أداء الباقي شرطا لبقائه عبادة لبطل بفوات الشرط يوضحه أن أداء الباقي لو جعل شرطا لا يخلو من أن يجعل شرطا لانعقاد المؤدى عبادة أو لبقائه عبادة فإن قلتم بالأول فالامتناع عن مباشرة شرط الانعقاد لا يعد إبطالا وإن قلتم بالثاني فهو خلاف المعقول لأنه لما انعقد عبادة بدون الباقي فلأن يبقى بدونه كان الأولى لأن البقاء أسهل من الابتداء ولئن سلمنا كون الباقي شرط لبقائه عبادة فلا نسلم أن الامتناع عن أداء الباقي إبطال له لأن الإبطال إنما يحصل بمصادفة الفعل وذلك فيما مضى من الأفعال محال ولكنه إذا امتنع فات وصف العبادة عن المؤدى فلا يكون مضافا إلى فعله كما ذكرنا من النظائر قلنا نحن لا ندعي أن المؤدى صوم أو صلاة في الحال ولكنا نقول هو أفعال الصوم والصلاة على معنى أنه يصير مع غيره صوما تاما شرعيا فكان له عرضية أن يصير صوما أو صلاة بضم الغير إليه فيكون المؤدي متقربا إلى اللّه تعالى بهذا الفعل فيكون عبادة من هذا الوجه ولكنه باعتبار أنه جزء مما لا يتجزأ لا حكم له بدون الأجزاء الأخر ضرورة ثبوت الاتحاد فكان كل جزء عبادة متعلقة بما قبله وبما بعده من الأجزاء إذ لا بد له من التعلق لضرورة الاتحاد فجعل هذا الجزء عبادة وجعل كل جزء مقدما عليه شرطا لانعقاده عبادة وكل جزء يوجد بعده شرط لبقائه على وصف العبادة فانعقد الجزء المتقدم عبادة وجعل شرطا لانعقاد الأجزاء التي بعده عبادة وانعقد الجزء الأخير عبادة وجعل شرطا لبقاء الأجزاء التي تقدمته على وصف العبادة وكل جزء من الأجزاء المتوسطة انعقد عبادة وكان شرطا لبقاء ما تقدمه على وصف العبادة وشرطا لانعقاد ما تعقبه عبادة فقلنا هكذا عملا بالدلائل بقدر الإمكان ولا معنى لقولهم إنه لا يحتمل التغيير بعد العدم لأن ذلك خلاف النص والإجماع فإنه تعالى قال أولئك حبطت أعمالهم (٢/٤٥٤) التوبة ١٧ ٦٩ وقال عز اسمه ولا تبطلوا أعمالكم ولا يرد النهي إلا عما يتصور ولا خلاف بين الأمة أيضا أن بالردة تبطل الأعمال المتقدمة وإن كان قد أعطي لها حكم التمام والفراغ ولما كان الختم على الإيمان شرطا لبقاء ما مضى فلم لا يجوز أن يكون وجود الجزء المتعقب شرطا لبقاء ما تقدم على وصف العبادة وأما في اعتراض الموت فجعل في التقدير كأن اليوم في حقه لم يكن إلا هذا القدر وإن الصلاة لم تكن مشروعة إلا هذا القدر لأنه تعالى هكذا جعل في فضل المهاجر وإن لم يحصل ما هو المقصود بالهجرة من تأيد البعض بالبعض والتقوي على الذب عن الجورة فكذا فيما نحن فيه وذلك لأن الموت منه لا مبطل على ما عرف وقولهم انعقد عبادة بدون الباقي فبقي بدونه لأن البقاء أسهل من الابتداء ينتقض بقبض بدلي الصرف ورأس مال السلم فإنه شرط للبقاء دون الابتداء وقولهم الامتناع عن أداء الباقي ليس بإبطال قلنا لما أتى بما يناقض العبادة فسدت الأجزاء المتقدمة ولم يوجد سوى فعله ووجه الفساد لا محالة عند هذا الفعل فجعل مفسدا لأن الإفساد فعل يحصل به الفساد وليس من ضرورته أن يضاف المحل الذي حصل فيه الفساد كمن قطع حبلا مملوكا علق به قنديل غيره فسقط القنديل وانكسر جعل متلفا له حقيقة وشرعا وإن لم يصادف فعله القنديل وكذا شق زق نفسه فيه مائع لغيره ومسألتنا إحراق الحصائد وسقي الأرض لا تلزمان فإن ذلك غير مضاف إلى فعله بل إلى رخاوة الأرض وهبوب الريح وأشباه ذلك ألا ترى أن ذلك ينفصل عن فعله عن العادة الجارية بخلاف ما نحن فيه حتى لو كان ذلك على وجه يحصل به الفساد لا محالة بأن كان الماء كثيرا بحيث يعلم أنه لا يحتمله أرضه أو كان الإحراق في يوم ريح لأضيف إليه فيضمن ما فسد من الأرض والزرع وأما مصلي الظهر إذا راح إلى الجمعة فنقول هو مبطل لصفة الفرضية غير أنه ليس بمنهي عنه لأنه أبطل ونقض ليؤدي أحسن منه والهادم ليبني أحسن مما كان لا يعد هادما كهادم المسجد ليبني أحسن منه لا يعد ساعيا في خرابه وصار حاصل الكلام أن ما أدى يوجب عليه حفظ المؤدى وطريق حفظه أداء الباقي فصار الشروع موجب أداء الباقي بهذه الواسطة وكل صوم أو صلاة يجب أداؤه يجب قضاؤه إذا فسد قوله وهو كالنذر ثم استدل بالنذر على ما ادعاه فقال وهو أي الجزء المؤدى بمنزلة المنذور من حيث إن كل واحد منهما صار حقا للّه تعالى أما المؤدى فلما ذكرنا أنه وقع للّه تعالى مسلما إليه وأما المنذور فلأنه جعل للّه تعالى تسمية ولا شك أن ما وقع للّه تعالى فعلا أقوى مما صار له تسمية لأنه بمنزلة الوعد وأن إيجاب ابتداء الفعل أقوى من (٢/٤٥٥) إيجاب بقائه لما عرف أن البقاء أسهل من الابتداء ثم وجب لصيانة أدنى الأمرين وهو التسمية ما هو أقوى الأمرين وهو ابتداء الفعل فلأن يجب لصيانة ما هو أقوى الأمرين وهو ابتداء الفعل أدنى الأمرين وهو إيفاء الفعل وإتمامه كان أولى وما ذكر الخصم أن النذر والشروع بمنزلة الكفالة والإقراض فليس كذلك لأن الكفالة وإن كانت كالنذر باعتبار أنه التزم فالشروع ليس كالإقراض لأن الإقراض أو التصدق تبرع بالعين والمقصود منه دفع حاجة المستقرض أو الفقير فلا يثبت ذلك قبل التسليم فكان كل واحد قبل التسليم نظير الصلاة في النية والتطهر واستقبال القبلة فأما المقصود في البدنيات فعمل يستوفى وقد حصل البعض منه فكان كبعض المال المسلم إلى الفقير أو المستقرض وإليه أشار الشيخ بقوله مسلما إليه ثم إذا تصدق ببعض المال لزمه أن لا يبطله بالرجوع فكذا إذا أتى ببعض العمل وصار مسلما إلى اللّه تعالى لزمه أن لا يبطله بالامتناع عن أداء الباقي وإنما افترقا من حيث إن القدر الموجود من الصدقة يبقى صدقة بدون ما لم يوجد والقدر الموجود من فعل الصلاة والصوم لا يبقى قربة بدون الباقي فيلزمه المضي هاهنا ولا يلزمه في الصدقة فأما إباحة الإفطار بعذر الضيافة فرخصه مع بقاء الحظر ولذا كان الامتناع أفضل وذلك كمن صلى الفرض ورأى بقربه صبيا كاد يحترق أو يغرق وهو قادر على الاستنقاذ أبيح له قطع الفرض واستنقاذ الصبي بل يجب عليه ذلك صيانة للصبي عن الهلاك وفيه إبطال حق اللّه تعالى لحق الآدمي فكذا فيما نحن فيه يرخص له الإفطار احترازا عن أذى المسلم وصحة الخلوة ممنوعة أيضا بل هي فاسدة كذا ذكر الشيخ أبو المعين في طريقته وأما الشروع في النفل قائما وإتمامه قاعدا أو نية الأربع مع التسليم على رأس الركعتين ففارقا النذر لأن وجود ما وراء الركعتين وصفة القيام ليسا بشرطين لبقاء المؤدى عبادة وذكر الشيخ في شرح التقويم أن وجوب الباقي لمعنى في غيره وهو صيانة المؤدى لا لمعنى في نفسه فلا يمنع صحة الخلوة وإباحة الإفطار بعذر الضيافة واقتداءه بالمتنفل لأنه في حق نفسه نفل وأما فضل المظنون فالقياس فيه ما قاله زفر رحمه اللّه لأن المؤدى انعقد عبادة فيجب صيانتها بالمضي فيه إلا علماءنا استحسنوا وقالوا إن سبب الوجوب وهو الشروع صادف الواجب فيلغو لأن الوجوب لا يتكرر في شيء واحد كما لو قال للّه علي ظهر اليوم وذلك لأن العبد إنما يؤاخذ بما عنده لا بما عند اللّه تعالى لأن ذلك ليس في وسعه عنده أنه شرع في الواجب فكان كما لو شرع في الظهر أو صوم القضاء ثم أفسده لا (٢/٤٥٦) يجب بهذا الشروع والإفساد شيء فكذا هذا ونحن لا نقول إن جميع القرب يلزم حفظها ويضمن بإفسادها بل يجب عبادة نفل التزمها وحصلها باختياره وهذه القربة حصلت له بدون اختياره من جهة الشرع وإذا لم يلتزمه باختياره لم يصر ضامنا للعهدة فلا يجب عليه صيانته وهذا لأن القياس يوجب أن لا ينعقد فعله عبادة أصلا لأن الواجب الذي قصد إليه ليس بموجود والنفل لا ينعقد قربة بدون القصد إليه إلا أن الشرع جعله نفلا من غير قصده نظرا له فجعله منعقدا فيما له فيه نظر وهو أنه لو أتمه يصلح سببا للثواب ولا يجعل منعقدا فيما له فيه ضرر وهو وجوب الصيانة عليه وهو كالقرب في حق الصبي لما شرعت نظرا له تجعل مشروعة فيما له فيه نظر وهو الصحة بعد الأداء ولم تجعل مشروعة فيما له فيه ضرر وهو الوجوب والسنن كثيرة يعني لا احتياج إلى إيراد النظائر فإنها كثيرة في باب الصلاة والحج وغير ذلك من الطهارة والصوم والاعتكاف على ما تضمنتها كتب الفروع (٢/٤٥٧) أنواع الرخص قوله وأما الرخص ولما إذا كانت الرخص مبنية على أعذار العباد وأعذارهم مختلفة اختلفت أنواع الرخص فانقسمت على أنواع أربعة أحق من الآخر يجوز أن يكون أفعل تفضيل من حق الشيء إذا ثبت أي أحدهما في كونه حقيقة أقوى من الآخر ويجوز أن يكون من حق لك أن تفعل كذا أي أنت خليق به يعني في إطلاق اسم الرخصة أحدهما أولى من الآخر أتم من الآخر أي أكمل في كونه مجازا فما استبيح أي سقطت المؤاخذة به مع القيام المحرم وقيام حكمه جميعا لأن الحرمة لما كانت قائمة مع سببها ومع ذلك شرع للمكلف الإقدام عليه من غير مؤاخذة بناء على عذره كان في أعلى درجات الرخص لأن كمال الرخصة بكمال العزيمة فلما كانت العزيمة حقيقة كاملة ثابتة من كل وجه كانت الرخصة في مقابلتها كذلك أيضا وذلك مثل الترخص بإجراء كلمة الكفر على اللسان فإنه يرخص فيه بعذر الإكراه التام مع اطمئنان القلب ولكن العزيمة في الصبر والامتناع عنه لأن حرمة الكفر ثابتة مصمتة لا تنكشف بحال بناء على أن حق اللّه تعالى في وجوب الإيمان به قائم لا يحتمل السقوط لأن الموجب وهو وحدانية اللّه تعالى وحقية صفاته وجميع ما أوجب الإيمان به لا يحتمل التغيير لكنه أي لكن العبد رخص له الإجراء عند الإكراه لأن حقه في نفسه أي في ذاته يفوت عند الامتناع صورة بتخريب البينة ومعنى بزهوق الروح وحق اللّه تعالى لا يفوت معنى لأن التصديق الذي هو الركن الأصلي باق ولا تفوت صورة من كل وجه لأنه لما أقر مرة وصدق بقلبه حتى صحح إيمانه لم يلزم عليه الإقرار ثانية إذ التكرار في الإقرار ليس بركن في الإيمان ولما صار حقه مؤدى لم يفت حقه من هذا الوجه لكن يلزم من إجراء كلمة الكفر بطلان ذلك الإقرار في حال البقاء فيبطل حقه في الصورة من هذا الوجه فلهذا كان التقديم حق نفسه بإجراء كلمة الكفر على اللسان (٢/٤٥٨) ترخصا وإن شاء بذل نفسه في دين اللّه لإقامة حقه حسبة أي طلبا للثواب وعدالة فيما يدخر للآخرة فهذا أي البذل مشروع قربة كالجهاد أنه لما بذل نفسه ولم يهتك حرمة دينه كان فيه إعلاء دين اللّه عز وجل وهذا هو عين الجهاد والأصل فيه ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ل أحدهما أتشهد أن محمدا رسول اللّه فقال نعم فقال أتشهد أني رسول فقال لا أدري ما تقول فقتله وقال للآخر أتشهد أن محمدا رسول اللّه فقال نعم فقال أتشهد أني رسول اللّه فقال نعم فخلى سبيله فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أما الأول فقد أتاه اللّه أجره مرتين وأما الآخر فقد أخذ برخصة اللّه فلا إثم عليه ففيه دليل على أنه إن امتنع منه حتى قتل كان أعظم للأجر لأنه إظهار للصلابة في الدين وما روي من قصة عمار وخبيب رضي اللّه عنهما أن المشركين أخذوا عمارا فلم يتركوه حتى سب رسول اللّه عليه السلام وذكر آلهتهم بخير فلما أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال وما وراك يا عمار قال شر ما تركوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان قال فإن عادوا فعد أي فإن عادوا إلى الإكراه فعد إلى الترخص أو فإن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب فإنه لا يظن برسول اللّه عليه السلام أنه يأمر أحدا بالتكلم بكلمة الكفر كذا في المبسوط وفي عين المعاني لو عادوا لك فعد لهم لما قلت ففيه دليل أنه لا بأس للمسلم أن يجري كلمة الكفر على اللسان مكرها بعد أن يكون مطمئن القلب وأخذوا خبيب بن عدي وباعوه من أهل مكة فجعلوا يعاقبونه على أن يذكر آلهتهم بخير ويسب محمدا وهو يسب آلهتهم ويذكر رسول اللّه عليه السلام بخير فاجتمعوا على قتله فلما أيقن أنهم قاتلوه سألهم أن يدعوه ليصلي ركعتين فأجابوه فصلى ركعتين وأوجز ثم قال إنما أوجزت كي لا تظنوا أني أخاف القتل ثم سألهم أن يلقوه على وجهه ليكون هو ساجد للّه تعالى حين يقتلونه فأبوا عليه ذلك فرفع يديه إلى السماء وقال اللّهم إني لا أرى هاهنا إلا وجه عدو فأقرئ رسولك مني السلام اللّهم أحص هؤلاء عددا واجعلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم أنشأ يقول ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في اللّه مصرعي (٢/٤٥٩) وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع فلما قتلوه وصلبوه تحول وجهه إلى القبلة وجاء جبريل إلى رسول اللّه عليهما السلام يقرئ سلام خبيب فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال هو أفضل الشهداء وهو رفيقي في الجنة فبهذا تبين أن الامتناع والأخذ بالعزيمة أفضل كذا في المبسوط قوله وكذلك الذي يأمر بمعروف أي وكالمكره على الكفر من يأمر بمعروف مثل أن يأمر بالصلاة ونحوها في أنه إذا خاف التلف على نفسه رخص له أن يتركه قال تعالى ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة وأنه إن فعل فقتل كان مأجورا لأن الأمر بالمعروف فرض مطلق والصبر عليه عزيمة قال اللّه تعالى إخبارا وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور وإذا تمسك بالعزيمة كان مأجورا وكذلك النهي عن المنكر إلا أن الشيخ لم يذكره لأن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر وكذا العكس ولهذا قال بعده لأن حق اللّه تعالى في حرمة المنكر باق لما قلنا من مراعاة حقه فإنه لو أقدم يفوت حقه صورة ومعنى ولو ترك يفوت حق اللّه تعالى صورة بمباشرة المحظور وترك المنع عنه لا معنى لأن الإنكار بالقلب واعتقاد الحرمة باق قوله بخلاف الغازي إذا بارز ذكر في السير الكبير ولو أن رجلا حمل على ألف رجل وحده فإن كان يطمع أن يظفر بهم أو ينكأ فيهم فلا بأس بذلك لأنه يقصد النيل من العدو بصنعه وقد فعل ذلك بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غير واحد من أصحابه ولم ينكر ذلك عليهم وبشر بعضهم بالشهادة حين استأذنه في ذلك على ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى يوم أحد كتيبة من الكفار فقال من لهذه الكتيبة فقال وهب أنا لها يا رسول اللّه فحمل عليهم حتى فرقهم ثم رأى كتيبة أخرى وقال من لهذه الكتيبة فقال وهب أنا لها فقال أنت لها وأبشر بالشهادة فحمل عليهم حتى فرقهم وقتل هو وإن كان لم يطمع في نكاية فإنه يكره له هذا الصنيع لأنه يتلف نفسه من غير منفعة للمسلمين ولا نكاية في (٢/٤٦٠) المشركين فيكون ملقيا نفسه في التهلكة ولا يكون عاملا لربه في إعزاز الدين وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسعه الإقدام وإن كان يعلم أن القوم يقتلونه وأنه لا يتفرق جمعهم بسببه لأن القوم هناك مسلمون معتقدون لما يأمرهم به فلا بد من أن ينكئ فعله في قلوبهم وإن كانوا لا يظهرون ذلك وهاهنا القوم كفار لا يعتقدون حقية الإسلام وقتله لا ينكئ في باطنهم فيشترط النكاية ظاهرا لإباحة الإقدام وإن كان لا يطمع في نكاية ولكنه يجرئ به المسلمين عليهم حتى يظهر بفعلهم النكاية في العدو فلا بأس بذلك إن شاء اللّه تعالى لأنه لو كان على طمع من النكاية لفعله جاز له الإقدام فكذا إذا كان يطمع النكاية فيهم بفعل غيره وكذلك إن كان يطمع النكاية في إرهاب العدو وإدخال الوهن عليهم بفعله لأن هذا أفضل وجوه النكاية وفيه منفعة للمسلمين وكل أحد يبذل نفسه لهذا النوع من المنفعة وفي المغرب يقال نكأت القرحة قشرتها ونكأت في العدو ونكأ إذا قتلت فيهم أو جرحت وقال الليث ولغة أخرى نكيت في العدو نكاية وعن أبي عمر ونكيت في العدو لا غير وعن الكسائي كذلك ولم أجده معدى بنفسه إلا في جامع الغوري قال يعقوب نكيت العدو إذا قتلت فيهم وجرحت قال عدي بن زيد إذا أنت لم تنفع بودك أهله ولم تنك بالبوسى عدوك فابعد قوله وكذلك هذا أي وكثبوت الحكم في المكره على القتل ثبوته فيمن أكره على إتلافه مال غيره بالقتل رخص له ذلك لرجحان حقه في النفس لأن حقه يفوت في النفس صورة ومعنى وحق غيره لا يفوت معنى لانجباره بالضمان فإذا صبر حتى قتل كان شهيدا لأن السبب الموجب للحرمة وهو الملك وحكمه وهو حرمة التعرض قائمان فإن حرمة إتلاف ماله لمكان عصمته واحترامه وذلك لا يختل بالإكراه فكان في الصبر آخذا بالعزيمة مقيما فرض الجهاد لأنه أتلف نفسه صيانة لحق ذلك الرجل في ماله من حيث الصورة فيكون مثابا كذا ذكر الشيخ في بعض كتبه وذكر محمد رحمه اللّه في هذه المسألة فإن أبى أن يفعل حتى قتل كان مأجورا إن شاء اللّه قيده بالاستثناء ولم يذكر الاستثناء فيما سواها لأنه لم يجد فيها نصا بعينه وإنما قاله بالقياس على الإكراه على الإفطار وإفساد الصلاة وإجراء كلمة الكفر ونحوها وليس هذا في معنى تلك المسائل من كل وجه لأن الامتناع من الإتلاف هاهنا لا يرجع إلى إعزاز الدين فلهذا قيده به وكذلك صائم أكره على الإفطار أو اضطر إليه بمخمصة يرخصه له ذلك لأن حقه في نفسه يفوت (٢/٤٦١) أصلا وحق اللّه تعالى يفوت إلى بدل وهو القضاء فله أن يقدم حق نفسه وإن صبر ولم يفطر حتى قتل وهو صحيح مقيم كان مأجورا لأن حق اللّه تعالى في الوجوب لم يسقط فكان له بذل نفسه لإقامة حق اللّه عز وجل وفيه إظهار الصلابة في الدين وإعزازه إلا أن يكون مسافرا أو مريضا فلم يفطر حتى قتل كان آثما لأن اللّه تعالى أباح لهما الإفطار بقوله فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فعند خوف الهلاك رمضان في حقهما كشعبان في حق غيرهما فيكون آثما بالامتناع حتى يموت بمنزلة المضطر في فصل الميتة كذا في المبسوط وما أشبه ذلك من العبادات مثل الصلاة ونحوها والحقوق المحترمة مثل ما لو أكره على الدلالة على مال نفسه أو مال إنسان رخص له الدلالة ولو لم يفعل حتى قتل لم يكن آثما لأنه قصد الدفع عن ماله أو مال غيره وذلك عزيمة قال عليه السلام من قتل دون ماله فهو شهيد قوله وأما القسم الثاني وهو الذي دون القسم الأول في كونه رخصة فما يستباح بعذر مع قيام السبب أي السبب المحرم موجبا لحكمة وهو الحرمة إلا أن الحكم متراخ عنه فمن حيث إن السبب الموجب قائم كانت الرخصة حقيقة ومن حيث إن الحكم متراخ غير ثابت في الحال كان هذا القسم دون الأول فإن كمال الرخصة بكمال العزيمة فإذا كان الحكم ثابتا مع السبب فهو أقوى مما تراخى حكمه عنه كالبيع بشرط الخيار مع البيع البات والبيع بثمن مؤجل مع البيع بثمن حال فإن الحكم وهو الملك في البيع والمطالبة بالثمن ثابت في البات متراخ عن السبب المقرون بشرط الخيار والأجل كذا ذكر شمس الأئمة رحمة اللّه عليه مثل المسافر رخص له أن يفطر مع السبب الموجب للصوم المحرم للفطر وهو شهود الشهيد وتوجه الخطاب العام نحوه وهو قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه ولهذا لو أدى كان فرضا إلا أن الحكم وهو حرمة الإفطار وترك الصوم تراخى في حقه إلى إدراك عدة من أيام أخر فكانت العزيمة أدنى حالا منها في المكره على الإفطار في الصوم لأن الحكم هناك وهو حرمة الإفطار لم يتأخر (٢/٤٦٢) عن السبب فلا جرم كانت الرخصة المبنية على هذه العزيمة أدنى حالا من الرخصة المبنية على العزيمة بالأدنى لأن كمالها وانتقاصها بكمال العزيمة وانتقاصها فمن هذا الوجه أخذت شبها بالمجاز لأن الحكم وهو الوجوب وحرمة الإفطار لما تراخى لم يكن ثابتا في الحال فلم يعارض الرخصة وهي إباحة الإفطار وترك الصوم حرمة فكانت شبيها بالإفطار في غير رمضان فلم يكن رخصة محضة حقيقة لكن السبب لما تراخى حكمه من غير تعليق يعني من حيث إن حكم السبب تراخى عنه من غير أن يكون معلقا بشيء إذ لو كان معلقا لما جاز الأداء قبله لأن المعلق بالشرط معدوم قبل وجوده ولكان السبب غير تام في الحال لما مر كان القول بتراخي الوجوب وحل الإفطار بعدما تم السبب رخصة حقيقة فلهذا كان هذا القسم دون الأول إذ ليس في الأول مدخل للمجاز يوجه وفي الثاني للمجاز مدخل والدليل على تراخي الحكم أنه لو مات قبل إدراك عدة من أيام أخر لقي اللّه تعالى ولا شيء عليه كما لو مات قبل رمضان ولو كان الوجوب ثابتا للزمه الأمر بالفدية عنه لأنه ترك الواجب بعذر يرفع الإثم ولكن لا يسقط الحلف كالمكره على الفطر في رمضان إذا أفطر ومات قبل إدراك زمان القضاء يلزمه الأمر بالفدية وكذلك الحائض فعرفنا أن الحكم ليس بثابت في الحال ثم الشيخ أشار بقوله من غير تعليق إلى نفي قول من قال من أصحاب الظواهر منهم داود بن علي أن الصوم في السفر لا يجوز عن فرض الوقت ويلزمه القضاء عند إدراك العدة سواء صام في السفر أو لم يصم وهو منقول عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي اللّه عنهم قالوا إن اللّه تعالى علق الوجوب في حقه بإدراك العدة بقوله فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فلا يجوز الأداء قبله كما لا يجوز من المقيم قبل رمضان وقد قال عليه السلام الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ومذهب أكثر الصحابة وجمهور الفقهاء أنه لو صام عن فرض الوقت يجوز لقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه فإنه يعم المسافر والمقيم وقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر لبيان الترخيص بالفطر فينتفي به وجوب الأداء لا جوازه وفي الأحاديث الدالة على (٢/٤٦٣) الجواز كثرة وحديثهم محمول على ما إذا أجهده الصوم حتى خيف عليه الهلاك على ما عرف تمامه في الأسرار وغيره قوله وكانت العزيمة أولى أي الصوم في السفر أولى من الإفطار لأن السبب الموجب وهو شهود الشهر بكماله لما كان قائما وتأخر الحكم بالأجل غير مانع من التعجيل كالدين المؤجل كان المؤدي للصوم عاملا للّه تعالى في أداء الفرض والمترخص بالفطر عاملا لنفسه فيما يرجع إلى الترفه فكان الأول أولى ولتردد في الرخصة يعني اليسر لم يتعين في الفطر بل في العزيمة نوع يسر أيضا فإن الصوم مع المسلمين في شهر رمضان أيسر من التفرد به وبعد مضي الشهر بخلاف قصر الصلاة على ما سيجيء بيانه فكانت العزيمة تؤدي أي تحصل معنى الرخصة وتفضي إليه وهو اليسر من هذا الوجه فلذلك أي لتأديتها معنى الرخصة تمت العزيمة أي كملت بحصول معنى الرخصة مع تحقق معنى العزيمة وهو إقامة حق اللّه تعالى وحقيقة المعنى فيه أن العزيمة كانت ناقصة باعتبار تأخر حكمها إلى زمان الإقامة وهذا يقتضي أن تكون الرخصة أولى كما قال الشافعي رحمه اللّه إلا أن هذا التأخر ثبت رفقا بالمسافر وتيسيرا للأمر عليه وفي الصوم نوع يسر أيضا فانجبر ذلك النقصان بهذا اليسر فتمت وكملت فكان الأخذ بها أولى كما في القسم الأول وقد أعرض الشافعي عن ذلك أي عن ترجيح العزيمة وجعل الرخصة أي العمل بها أولى في أحد قوليه اعتبارا لظاهر تراخي العزيمة أي تراخي حكمها فإن وجوب أداء الصوم لما تأخر إلى إدراك عدة من أيام أخر اقتضى أن لا يجوز الأداء قبله كما قاله أصحاب الظواهر إلا أنه ترك في حق عدم الجواز للأحاديث الواردة فيه فبقي معتبرا في أفضلية الفطر وهو نظير قول من قال أداء الصلاة في آخر الوقت أفضل لأن وجوب الأداء يتقرر في آخر الوقت فالأداء قبله يكون أداء قبل الوجوب فينبغي أن لا يجوز إلا أنه ترك في حق عدم الجواز بالإجماع فبقي معتبرا في أفضلية التأخير ويؤيده قوله عليه السلام إن اللّه تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم ثم الأفضل له في الصلاة القصر فكذا الفطر في الصوم يكون أفضل ولنا ما ذكرنا وما روي عن النبي عليه السلام أنه قال في المسافر يترخص بالفطر وإن صام فهو أفضل له وبدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالصوم (٢/٤٦٤) حتى شكا الناس إليه ثم أفطر فدل على أن الصوم أفضل والأحاديث في الباب كثيرة وذكر الغزالي في الوجيز والصوم أحب من الفطر في السفر لتبرئة الذمة إلا إذا كان يتضرر به وذكر الخطابي في معالم السنن اختلف أهل العلم في أفضل الأمرين فقالت طائفة أفضل وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وقالت طائفة مثل النخعي وسعيد بن جبير ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي الصوم أفضل وقالت طائفة منهم مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز أفضل الأمرين ما هو الأيسر منهما قوله إلا أن يضعفه الصوم استثناء من قوله وكانت العزيمة أولى يعني إذا أضعفه الصوم فحينئذ كان الفطر أولى ولو صبر حتى مات كان آثما لأن الإفطار لزمه في هذه الحالة فلو بذل نفسه لإقامة الصوم صار قتيلا بالصوم وهو المباشر لفعل الصوم فيصير قاتلا نفسه بما صار به مجاهدا وهو الصوم من غير تحصيل المقصود وهو إقامة حق اللّه تعالى لأنه أخره عنه وهو حرام كمن قتل نفسه بالسيف الذي يجاهد به مع الكفار كان حراما وفي ذلك تغيير المشروع لأن المشروع في حقه إما التأخير أو جواز التعجيل على وجه يضمن يسيرا فأما التعجيل على وجه يؤدي إلى الهلاك فليس بمشروع فكان فعله تغييرا للمشروع أو معناه أن الصوم شرع لترتاض النفس لخدمة خالقها على ما مر في أبواب الأمر فإذا أدى إلى الهلاك لا يحصل المقصود وهو الارتياض للخدمة فكان خلاف المشروع فلم يكن نظير من بذل نفسه بقتل الظالم أي لا يكون المسافر فيما ذكر مثل المقيم المكره على الفطر بالقتل الصابر عليه إلى أن يقتل إقامة لحق اللّه تعالى لأن القتل هناك صدر من المكره وأضيف إليه فلم يكن الصابر مغيرا للمشروع بفعله بل هو في الصبر مستديم للعبادة مظهر للطاعة وذلك عمل المجاهدين وذكر الشيخ في شرح التقويم إذا لم يفطر في السفر أو المرض حتى مات كان آثما لأن اللّه تعالى أحسن إليه بتأخير حقه وبالتعجيل مع الهلاك صار رادا عفوا للّه تعالى ومبتدئا من نفسه بالإحسان لا مقيما حق اللّه تعالى وهذا لا يحسن شرعا وعقلا وذكر في شرح التأويلات أن المسافر أو المريض إذا أكره على الإفطار فامتنع حتى قتل ينبغي أن لا يكون آثما بل يكون شهيدا لكونه مقيما حق اللّه تعالى إذ حقه لم يسقط ولهذا وجب القضاء ولو سقط حقه أصلا لما وجب البذل إلا أنه (٢/٤٦٥) ورد في حق المسافر والمريض نصوص على إلحاق الوعيد بهما بترك الإفطار مثل قوله عليه السلام من صام في السفر فقد عصى أبا القاسم وقوله عليه السلام الصائم في السفر كالمفطر في الحضر والمراد حالة خوف التلف على نفسه لورود الأخبار في إباحة الامتناع وفعل الصوم في حال عدم خوف التلف فدلت على إباحة الإفطار مطلقا في هذه الحالة فلا يكون الأداء واجبا ولا يكون مقيما حق اللّه تعالى في الامتناع فيكون آثما والإكراه في حالة السفر والمرض نظير خوف التلف من كل وجه فيلحق به تسمية ما حط عنا من الأسرار والأغلال التي وجبت على من قبلنا رخصة مجازا لأن ما لم يجب علينا ولا على غيرنا لا يسمى رخصة أصلا وهي لما وجبت على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا بهم كان السقوط في حقنا توسعة وتخفيفا فحسن إطلاق اسم الرخصة عليه باعتبار الصورة تجوزا لا تحقيقا لأن السبب الموجب للحرمة مع الحكم معدوم أصلا بالرفع والنسخ والإيجاب على غيرنا لا يكون تضييقا في حقنا والرخصة فسحة في مقابلة التضييق والإصر الأعمال الشاقة والأحكام المغلظة كقتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة والأغلال المواثيق اللازمة لزوم الغل كذا في غير المعاني وفي الكشاف الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه لثقله وهو مثقل لثقل تكليفهم وصعوبته نحو اشتراط قتل النفس في صحة التوبة وكذلك الأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة نحو بت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطأ من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم وتحريم العروق في اللحم وتحريم السبت وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة قوله وأما النوع الرابع وهو القسم الأخير من أنواع الرخص فما سقط عن العباد بإخراج السبب من أن يكون موجبا للحكم في محل الرخصة مع كون ذلك الساقط مشروعا في الجملة فمن حيث سقط في محل الرخصة أصلا كان نظير القسم الثالث فكان مجازا إذ ليس في مقابلته عزيمة ومن حيث إنه بقي السبب والحكم مشروعا في الجملة أخذ شبها بالحقيقة فضعف وجه المجاز فكان دون القسم الثالث ولكن جهة (٢/٤٦٦) المجاز غالبة على شبه الحقيقة لأن جهة المجاز بالنظر إلى محل الرخصة وشبه الحقيقة بالنظر إلى غير محلها فكان جهة المجاز أقوى روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم كان من عادتهم أنهم يبيعون الشيء الذي لا يملكونه ثم يشترونه بثمن رخيص ويسلمونه إلى المشتري فالنبي عليه السلام نهى عن ذلك ورخص في السلم للحاجة فشرطت العينية في عامة البياعات لتثبت القدرة على التسليم ثم سقط هذا الشرط في السلم بحيث لم يبق مشروعا حتى كانت العينية في المسلم فيه مفسدة للعقد لا مصححة له وذلك لأن سقوط هذا الشرط للتيسير على المحتاجين ليتوصلوا إلى مقاصدهم من الأثمان قبل إدراك غلاتهم مع توصل صاحب الدراهم إلى مقصوده من الربح فكانت رخصة مجازا من حيث إن العينية سقط أصلا فيه للتخفيف ولم تبق مشروعة كالأصرار والأغلال ولكن لها شبه بالحقيقة من حيث إن العينية مشروعة في الجملة وذلك أي كون السلم من هذا القسم أو تسميته رخصة باعتبار أن الأصل في البيع أن يلاقي عينا لما روينا ولقوله عليه السلام لحكيم بن حزام لا تبع ما ليس عندك ولنهيه عليه السلام عن بيع الكالئ بالكالئ وقوله ولا عزيمة بعد قوله مشروعا تأكيدا لاحتمال أن عدم بقائه مشروعا بطريق الرخصة أو تقديره لم يبق عزيمة ولا مشروعا وهذا أي سقوط العينية في باب السلم باعتبار تعين اليسر فيه لأن العجز عن التعيين متحقق لأن البيع بطريق السلم دليل العجز إذ لو لم يكن عاجزا لما باع بأوكس الأثمان ولباعه مساومة لا سلما فلذلك لم يبق التعيين مشروعا أصلا كشرط الصلاة في حق المسافر قوله وكذلك المكره ومثل السلم المكره أي فعل المكره على شرب الخمر أو أكل الميتة رخصة مجازا بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو كذلك المكره أو المضطر في الإقدام على الفعل مرخص بطريق إطلاق اسم المصدر على مفعول من جنسه واعلم أن العلماء اختلفوا في حكم الميتة والخمر والخنزير ونحوها في حالة (٢/٤٦٧) الاضطرار أنها تصير مباحة أو تبقى على الحرمة ويرتفع الإثم فذهب بعضهم إلى أنها لا تحل ولكن يرخص الفعل في حالة الاضطرار إبقاء للمهجة كما في الإكراه على الكفر وأكل مال الغير وهو رواية عن أبي يوسف وأحد قولي الشافعي وذهب أكثر أصحابنا إلى أن الحرمة ترتفع في هذه الحالة وفائدة الاختلاف تظهر فيما إذا صبر حتى مات لا يكون آثما عند الفريق الأول ويكون آثما عندنا وفيما إذا حلف لا يأكل حراما فتناول هذه المحرمات في حالة الاضطرار يحنث عندهم ولا يحنث عندنا تمسكوا في ذلك بقوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن اللّه غفور رحيم وقوله عز اسمه فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن اللّه غفور رحيم أي فمن دعته الضرورة إلى تناول شيء من هذه المحرمات المذكورة في مجاعة غير مائل إلى ما يؤمه وهو أن يأكل الميتة فوق سد الرمق تلذذا فإن اللّه غفور يغفر له ما أكل مما حرم عليه حين اضطر إليه رحيم بأوليائه في الرخصة لهم في ذلك كذا قال ابن عباس فدل إطلاق المغفرة على قيام الحرمة إلا أنه تعالى رفع المؤاخذة رحمة على عبادة كما في الإكراه وبأن حرمة هذه الأشياء بناء على صفات فيها من الخبث والضرر ولا تنعدم تلك الصفات في حالة الضرورة فبقيت محرمة كما كانت ورخص الفعل بسبب الضرورة ولنا قوله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه فاستثنى حالة الضرورة والكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى فيثبت التحريم في حالة الاختيار وقد كانت مباحة قبل التحريم فبقيت في حالة الضرورة على ما كانت وهذا على مذهب من جعل الأصل في الأشياء الإباحة قبل الشرع وأما على مذهب من قال الحل والحرمة لا يعرفان إلا شرعا فيقال الاستثناء من الحظر إباحة فصار كأنه قال هذه الأشياء محرمة في حالة الاختيار مباحة في حالة الاضطرار فتثبت الإباحة في حالة الاضطرار بالنص أيضا ولا يلزم عليه استثناء إجراء كلمة الكفر في حالة الإكراه بقوله تعالى إلا من أكره فإنه لم يدل على إباحته لأنا لا نسلم أنه استثناء من الحظر ليدل على الإباحة بل هو استثناء من الغضب إذ التقدير من كفر باللّه من بعد إيمانه فعليهم غضب إلا من أكره فينتفي الغضب بالاستثناء ولا يدل انتفاؤه على (٢/٤٦٨) ثبوت الحل وما ذكر الشيخ في الكتاب وهو أن حرمته أي حرمة المذكورة وهو أكل الميتة وشرب الخمر ونحوهما ما ثبتت إلا صيانة لعقله عن الاختلاط ودينه عن الخلل الواقع فيه بسبب الخمر كما قال تعالى ويصدكم عن ذكر اللّه وعن الصلاة ونفسه أي بدنه عن تعدي خبث الميتة ونظائرها إليه كما أشار اللّه تعالى إليه في قوله ويحرم عليهم الخبائث فإذا خاف به أي بالامتناع فوات نفسه لم يستقم صيانة البعض بفوات الكل لأن في فوات الكل فوات البعض ضرورة فسقط المحرم أي معنى المحرم وهو صيانة العقل والنفس فكان هذا أي إطلاق الفعل في هذه الحالة إسقاطا لحرمة هذه الأشياء فإذا صبر لم يصر مؤديا حق اللّه تعالى لأنه قد سقط بل صار مضيعا دمه من غير تحصيل ما هو المقصود بالحرمة فكان آثما ويؤيده ما نقل عن مسروق وغيره من اضطر إلى ميتة ولم يأكل دخل النار إلا أن حرمة هذه الأشياء مشروعة في الجملة فلم تكن هذه الرخصة مثل سقوط الإصر والأغلال بل كانت دونه في المجازية والاستثناء يتصل بقوله لأن الحرمة ساقطة أو بقوله فسقط المحرم وهو بمعنى لكن وأما إطلاق المغفرة مع الإباحة فباعتبار أن الاضطرار المرخص للتناول يكون بالاجتهاد وعسى يقع التناول زائدا على قدر ما يحصل به سد الرمق وبقاء المهجة إذ مثل من ابتلي بهذه المخمصة يعسر عليه رعاية هذا الاضطرار المرخص والتناول بقدر الحاجة فاللّه تعالى ذكر المغفرة لهذا التفاوت وفي التيسير فإن اللّه غفور رحيم أي غفور لمن تاب من تحريم ما أحل اللّه واستحلال ما حرم اللّه رحيم بشرع التوبة وقيل غفور للذنوب الكبار فكيف يؤاخذ بتناول الميتة عند الاضطرار رحيم بعباده فيما يتعبدهم به وقيل غفور بالعفو عمن أكل من غير ضرورة رحيم برفع الإثم عند الضرورة وفي عين المعاني فإن اللّه غفور بإزاحة المغفرة عند المضرة رحيم بإباحة المحظور للمعذور قوله ومن ذلك أي ومن وقت القسم الرابع ما قلنا في قصر الصلاة بالسفر وقال الشافعي رحمه اللّه القصر رخصة حقيقة والعزيمة هي الأربع حتى لو فات الوقت يقضي أربعا سواء قضاها في السفر أو في الحضر في قول وفي قول له أن يقضي ركعتين في السفر دون الحضر واحتج بقوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة شرع بلفظ لا جناح وأنه للإباحة دون الإيجاب وبأن الوقت (٢/٤٦٩) سبب الأربع والسفر سبب للقصر لا على رفع الأول وتغييره فإنه لو اقتدى بمقيم صح ويلزمه الأربع ولو ارتفع لما لزمه كمصلي الفجر إذا اقتدى بمن يصلي الظهر فيعمل بأيهما شاء إلا أن القصر سبب عارض فما لم يعمل به لا يرتفع حكم الأصل وهذا كالعبد إذا أذن له مولاه بالجمعة يتخير بين أن يؤدي الجمعة ركعتين وبين أن يؤدي الظهر أربعا فكذا المسافر يميل إلى أيهما شاء وكذا المسافر في حق الصوم بالخيار إن شاء أخر وإن شاء عجل ولا يسقط به أصل الفرضية المتعلقة بالوقت إلا أن يترخص بالترك والتأخير وعندنا القصر رخصة إسقاط أي القصر ليس برخصة حقيقة بل هو إسقاط للعزيمة وهي الأربع حتى لا يصح أداؤه من المسافر أي أداء ما سقط عنه كما لو صلى الفجر أربعا لأن السبب في حقه لم يبق موجبا إلا ركعتين فكانت الأخريان نفلا لما بينا وخلط النفل بالفرض قصدا لا يحل وأداء النفل قبل إكمال الفرض مفسد للفرض فإذا صلى أربعا ولم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته وإنما جعلناها أي هذه الرخصة إسقاطا للعزيمة استدلالا بدليل الرخصة أي بدليل يثبت الرخصة واستدلالا بمعنى هذه الرخصة أما الدليل فما روي عن علي بن ربيعة الوالبي قال سألت عمر رضي اللّه عنه ما بالنا نقصر الصلاة ولا نخاف شيئا وقد قال اللّه تعالى إن خفتم فقال أشكل علي ما أشكل عليك فسألت رسول اللّه عليه السلام فقال إن هذه صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته وفي بعض الروايات إنها صدقة والضمير أو اسم الإشارة راجع إلى الصلاة المقصورة أو إلى القصر والتأنيث لتأنيث الخبر كقوله تعالى بل هي فتنة أو لتأويله بالرخصة أي هذه الرخصة صدقة فالشافعي رحمه اللّه تمسك بهذا الحديث وقال أخبر النبي عليه السلام أن القصر صدقة والصدقة لا تثبت ولا تتم إلا بقبول المتصدق عليه ولهذا قال فاقبلوا فقبل القبول بقي على ما كان فالشيخ أدرج في تقريره رد هذا الكلام وقال سماه أي القصر صدقة والتصديق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد فلا يتوقف على قبول العبد فيكون معنى قوله فاقبلوا صدقته فاعملوا بها واعتقدوها كما يقال فلان قبل الشرائع أي اعتقدها وأراد بقوله مما لا يحتمل التمليك ما لا يحتمله من كل وجه فأما ما يحتمله من وجه فالتصدق به وتمليكه لا يكون إسقاطا محضا حتى لو قال لمديونه تصدقت بالدين عليك أو ملكتكه فإنه لو قبل أو سكت يسقط الدين وإن قال لا أقبل (٢/٤٧٠) يرتد لأن الدين يحتمل التمليك من المديون ولا يحتمله من غيره لأنه قال من وجه دون وجه فلا يكون التصدق به إسقاطا محضا بل فيه معنى التمليك ولهذا لم يصح تعلقه بالحظر كتمليك العين فيرد بالرد وإنما قلنا إن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لأن التصدق أحد أسباب التمليك والتمليك المضاف إلى محل يقبله مثل أن يقول لآخر وهبت هذا العبد لك أو ملكتكه أو تصدقت به عليك إذا صدر من العباد قد يقبل الرد حتى لو قال الآخر لا أقبل لا يثبت له ولاية التصرف فيه وإذا صدر من اللّه تعالى لا يرتد بالرد لأنه مفترض الطاعة لا يمكن رد ما أوجبه وأثبته سواء كان لنا أو علينا مثل الإرث فإنه تمليك من اللّه تعالى إلى الوارث فإذا قال لا أقبل لا يعتبر قوله والتمليك المضاف إلى محل لا يقبله إذا صدر من العباد لا يقبل الرد مثل أن يقول لامرأته وهبت ملك الطلاق أو النكاح منك أو تصدقت به عليك أو يقول ولي القصاص لمن عليه القصاص وهبت القصاص لك أو ملكتكه أو تصدقت به عليك فتطلق المرأة ويسقط القصاص من غير قبول ولا يرتد بالرد لأن معناه الإسقاط والساقط لا يحتمل الرد فالتصدق الصادر من اللّه تعالى بما لا يحتمل التمليك وهو شطر الصلاة أولى أن لا يحتمل الرد ولا يتوقف على قبول العبد لأنه مفترض الطاعة فثبت أن المراد من أن التصديق الإسقاط وقد سمى اللّه تعالى الإسقاط تصدقا في قوله عز ذكره وأن تصدقوا خير لكم ومن الدليل ما روي عن عمر رضي اللّه عنه صلاة المسافر ركعتان تام غير قصر على لسان نبيكم وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما صلاة المسافر ركعتان ومن خالف السنة فقد كفر وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما من صلى في السفر أربعا كان كمن صلى في الحضر ركعتين وسأل ابن عباس رجلان أحدهما كان يتم الصلاة والآخر يقصر عن حالهما فقال للذي قصر أنت أكملت وقال للآخر أنت قصرت كذا في الأسرار والمبسوط وروى أبو هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال المتم الصلاة في السفر كالمقصر في الحضرة كذا أورده سفيان الثوري في كتابه وأسنده والمراد بالآية قصر الأحوال على ما بين في آخر هذا الكتاب فأما قصر الذات فثابت بالسنة قوله وقد تعين اليسر في القصر بيقين إذا ثبتت الرخصة الحقيقية في شيء للعبد الخيار بين الإقدام على الرخصة وبين الإتيان بالعزيمة لأن الرخصة وإن تضمنت يسرا فالعزيمة إما إن تضمنت فضل ثواب كما في الإكراه على الكفر فإن العزيمة تضمنت ثواب الشهادة وأما إن تضمنت يسرا آخر ليس ذلك في الرخصة كالصوم في السفر تضمن يسر (٢/٤٧١) موافقة المسلمين فأما إذا لم يكن فيها فضل ثواب ولا نوع يسر فسقطت لحصول المقصود بالرخصة وتعين اليسر فيها وفيما نحن فيه تعين اليسر في القصر وهو ظاهر ولا يتضمن إلا كمال فضل ثواب لأن تمام الثواب في فعل العبد جميع ما عليه لا في أعداد الركعات قال اللّه تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا اعتبر حسن العمل لا كثرته وقال عليه السلام أفضل الصدقة جهد المقل أي طاقته فجعل جهده أفضل وإن لم يملك إلا درهما وتصدق به لأنه تصدق بكل ماله ثم المسافر قد أتى بجميع ما عليه كالمقيم فكان كالجمعة والفجر مع الظهر فإنه لا فضل لظهر المقيم على فجره ولا لظهر العبد على جمعة الحر وإذا كان كذلك وجب القول بالسقوط قوله والثاني أن التخيير كذا ذكر الخصم أن ثبوت القصر متعلق بمشيئته واختياره فإن اختار القصر كان فرضه ركعتين وإن لم يختر ذلك كان فرضه أربعا وفيه فساد من وجهين أحدهما أن هذا تخيير لم يتضمن رفقا بالعبد والاختيار الخالي عن الرفق ليس إلا للّه جل جلاله فإنه تعالى يفعل ما يشاء ويختار من غير نفع يعود إليه أو مضرة تندفع عنه فإثبات مثل هذا التخيير للعبد ينزع إلى الشركة فيما هو من خصائص الربوبية فيكون فاسدا وثانيهما أن هذا التخيير يقتضي أن يكون نصب شريعة وحكم مفوضا إلى رأي العبد ومعلقا به كأنه تعالى قال شرعية القصر ثابتة في حقكم إن اخترتم ذلك وذلك فاسد لأنها متى علقت برأيهم لم يكن شرعا في الحال كالطلاق المعلق بالمشيئة وإذا شاء العبد كان الثبوت مضافا إلى المشيئة كما في الطلاق المعلق بالمشيئة ولا يجوز إضافة نصب الشريعة إلا إلى اللّه تعالى أو إلى الرسل فإضافته إلى غيرهم تؤدي إلى الشركة في خاصة الربوبية أو الرسالة وإذا ثبت هذا فاعلم أن الشيخ أدرج في كلامه المعنيين فقال التخيير إذا لم يتضمن رفقا بالعبد كان ربوبية لأن الشيئين اللذين ثبت التخيير بينهما إن كان كل واحد منهما ثابتا قبل اختياره كان هذا تخييرا له بينهما من غير جر نفع ودفع ضر ومثل هذا الاختيار لا يليق بالعبد وإن لم يكن كل واحد منهما ثابتا بل الثابت أحدهما وثبوت (٢/٤٧٢) الآخر متعلق باختياره كان هذا تعليقا للشرع باختيار العبد وكل واحد منهما ينزع إلى الشركة في الربوبية ثم استوضح المعنى الأخير بقوله ألا ترى أن الشرع أي الشارع تولى وضع الشرائع جبرا حتى نفذ أوامر اللّه تعالى قدر ما أريد منها من إباحة وندب أو وجوب من غير أن يكون للعباد اختيار في ذلك فلو علق القصر باختيار العبد أدى إلى الشركة في الربوبية وهي باطلة فإن قيل المشروع بالسفر تعلق القصر بقول العبد وإنه ثابت بنفسه قلنا إن المشروع الذي ابتلينا بفعله هو الصلاة لا القصر فإنه سقوط والعبرة لما هو الأصل فلا يكون صيرورة الصلاة ركعتين أو أربعا إلينا وإنما يكون إلينا الأداء لا غير هذا أصل الشرع وإلى العبد مباشرة العلل من سفر أو إقامة دون إثبات الأحكام ثم الأداء بعد ثبوت الأحكام كذا في الأسرار ويجوز أن يكون قوله ألا ترى ابتداء كلام ردا لما علق الخصم السقوط بمشيئة العبد بخلاف التخيير في أنواع الكفارة أي كفارة اليمين ونحوها مثل التخيير الثابت في جزاء الصيد بقوله تعالى هديا بالغ الكعبة الآية والتخيير الثابت في الحلق بعذر بقوله عز اسمه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإنه أي من يثبت له التخيير ولهذا أي ولأن لفظة التصدق هو الذي دل على الإسقاط في القصر لم نجعل رخصة الصوم إسقاطا لأن النص جاء فيه بلفظ التأخير لا بالصدقة بالصوم وإنما إسقاط البعض في هذا أي في المتنازع فيه نظير التأخير في الصوم وهو ثابت بلا مشيئة منا ولا رأي فكذا القصر في الصلاة فعلى هذا كان ينبغي أن لا يجوز الصوم في السفر إلا أن السبب لما لم يخرج عن السببية وبقي موجبا كما كان حتى لزمه القضاء إذا أدرك عدة من أيام أخر جاز التعجيل لأن المؤجل مما يقبل التعجيل كالدين (٢/٤٧٣) المؤجل وأداء الزكاة قبل الحلول ولأن التأخير ثبت للتيسير واليسر متعارض إلى آخر ما ذكرنا في الكتاب وهي من أسباب اليسر لأن البلية إذا عمت طابت فصار الاختيار ضروريا أي ثبت ضرورة طلب الرفق والعبد أهل لهذا النوع من الاختيار فأما مطلق الاختيار من غير رفق فلا أي لا يثبت للعبد لأنه إلهي كما بينا وصار الصوم أولى لأنه أصل باعتبار قيام السبب ولاشتماله على معنى الرخصة أيضا وإنما تمسك الشافعي في هذا الباب أي باب العزيمة والرخصة بظاهر العزيمة والرخصة فقال العزيمة في الصوم متأخرة إلى عدة من أيام أخر لأنه ليس بمطالب بالصوم إلا بعد إدراكها فلم يكن الصوم ثابتا في الحال فكان الفطر أولى وفي الصلاة لم يتأخر الحكم إلى زمان الإقامة وجبت الصلاة في الحال والقصر رخصة فكانت العزيمة أولى ثم شرع في جواب ما يرد نقضا على هذا الأصل فقال ولا يلزم إذا أذن العبد في الجمعة فهو مخير بين أن يصلي أربعا وهو الظهر وبين أن يصلي ركعتين وهما الجمعة وهذا تخيير بين القليل والكثير لأنا لا نسلم أنه مخير بينهما بل الواجب عليه حضور الجمعة عينا عند الإذن كما في الحر وهو المراد من قوله لأن الجمعة هي الأصل حتى لو تخلف عن الجمعة بعد الإذن يكره له ذلك كما في الحر كذا ذكره في المغني ولئن سلمنا أن التخيير ثابت فهو غير لازم أيضا لأنهما أي الظهر والجمعة مختلفان فيصح التخيير طلبا للرفق بخلاف ظهر المسافر والمقيم لأنهما واحد والدليل على اختلافهما أن أداء أحديهما بنية الأخرى لا يجوز وكذا لا يصح اقتداء مصلي الظهر بمصلي الجمعة وعكسه ويشترط للجمعة ما لا يشترط للظهر وإذا كان كذلك إن شاء تحمل زيادة الأربع وإن شاء تحمل زيادة السعي والخطبة وكذلك لو قال يعني كما لا يلزم تخيير العبد المأذون في الجمعة على ما قلنا لا يلزم تخيير من قال إن دخلت الدار فعلي صيام سنة ففعل وهو معسر يخير بين صوم سنة وبين صوم ثلاثة أيام عند محمد وهكذا روي عن أبي (٢/٤٧٤) حنيفة رحمهما اللّه أنه رجع إليه قبل موته بأيام مع أنه تخيير بين القليل والكثير في جنس واحد لأن ذلك صوم السنة والثلاثة مختلف في المعنى أي مختلفان معنى وإن اتفقا صورة لأن صوم السنة قربة مقصودة خالية عن معنى الزجر والعقوبة وصوم الثلاث كفارة لما لحقه من خلف الوعد المؤكد باليمين وفيها معنى العقوبة والزجر فصح التخيير طلبا للأرفق عنده وهذا إذا كان التعليق بشرط لا يريد وقوعه كما ذكر الشيخ فإن المقصود منه المنع من الدخول فإن كان التعليق بشرط يريد وقوعه مثل أن يقول إن شفى اللّه مريضي أو إن قدم غائبي فعلي كذا فلا تخيير بل الواجب هو الوفاء بالنذر لا غير هو الصحيح وفي مسألتنا أي مسألة ظهر المسافر هما سواء أي القصر والإكمال سواء بدليل اتفاق الاسم والشرط والضمير راجع إلى المفهوم لا إلى المذكور كقوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة فصار أي ما ذكرنا من تعين القصر في حق المسافر وتخير العبد المأذون في الجمعة نظير تعين لزوم الأقل من الأرش والقيمة على الموالي في جناية المدبر وتخيره بين الدفع والفداء في جناية العبد فإن المدبر إذا جنى لزم المولى الأقل من الأرش ومن قيمته المدبر من غير خيار له في ذلك لاتحاد الجنس إذ المالية هي المقصودة لا غير وتعين الرفق في الأقل كالقصر في حق المسافر بخلاف العبد إذا جنى حيث خير المولى بين الدفع والفداء وإن كانت قيمة العبد أقل أو أكثر من الفداء لأن الدفع مع الفداء مختلفان صورة ومعنى فإن أحدهما مال والآخر رقبة فاستقام التخيير طلبا للرفق كتخيير العبد المأذون بالجمعة بينهما وبين الظهر ولا يلزم على ما ذكرنا تخيير موسى صلوات اللّه عليه في الرعي بين ثماني سنين وعشر سنين على ما أخبر اللّه تعالى عنه بقوله قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي وأنه تخيير بين الأقل والأكثر في جنس واحد لأنا لا نسلم أن الزيادة على الثماني كانت واجبة بل المهر هو الرعي ثماني سنين لا غير والفضل كان برا منه بدليل قوله فإن أتممت عشرا فمن عندك وهكذا نقول الفرض في مسألتنا ركعتان والزيادة على الركعتين نفل مشروع للعبد يتبرع من عنده إلا أن الاشتغال بأداء النفل قبل إكمال الأركان مفسد للفرض وبعد إكمالها قبل انتهاء التحريمة مكروه كذا قال شمس الأئمة (٢/٤٧٥) ولا يلزم على هذا ما ذكر في باب النوافل ويصلي أربعا قبل العصر وإن شاء ركعتين وأربعا بعد العشاء وإن شاء ركعتين وما ذكر في باب الآذان ولو فاتته صلوات أذن للأولى وأقام وكان مخيرا في الثانية إن شاء أذن وأقام وإن شاء اقتصر على الإقامة فإن هذا كله تخيير بين القليل والكثير في جنس واحد لأنا لا نسلم أن الرفق تعين في القليل بل في الكثير زيادة الثواب وإن كان في القليل يسر الأداء فكان التخيير مفيدا وعلى هذا الحرف يخرج جميع ما يرد نقضا عليه واللّه أعلم قوله ويتصل بهذه الجملة أي بما تقدم من الأقسام حكم الأمر والنهي في ضد ما نسبا إليه يعني ضد المأمور به والمنهي عنه فإن طلب الفعل في قولك اضرب منسوب إلى الضرب وطلب الامتناع في قولك لا تشتم منسوب إلى الشتم ولم يقل في ضدهما لأن الضمير حينئذ يرجع إلى نفس الأمر والنهي فيوهم أن للأمر أثرا في ضد نفسه وهو انتهى وكذا العكس فيفسد المعنى إذن لأنه لا حكم لهما في ضد أنفسهما بالإجماع فإنه لا أثر لقولك تحرك في لا تتحرك ولا قولك لا تسكن في السكن أصلا بالإجماع فأما ضد المأمور به وهو الحركة فالسكون ضد المنهي عنه وهو السكون هو الحركة فهل للأمر وهو قوله تحرك أثر في المنع عن السكون حتى كان بمنزلة قوله لا تسكن وهل للنهي وهو قوله لا تسكن أثر في طلب الحركة حتى كان بمنزلة قوله تحرك فهو محل الخلاف وهذا الباب لبيانه (٢/٤٧٦) باب حكم الأمر والنهي في أضدادهما أي أضداد ما نسبا إليه وذهب عامة العلماء الذين قالوا بأن موجب الأمر الوجوب من أصحابنا وأصحاب الشافعي وأصحاب الحديث إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان له ضد واحد كالأمر بالإيمان نهي عن الكفر وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام فإن له أضدادا من القعود والركوع والسجود والاضطجاع ونحوها يكون الأمر نهيا عن الأضداد كلها وقال بعضهم يكون نهيا عن واحد منها غير عين وفصل بعضهم بين أمر الإيجاب والندب فقال أمر الإيجاب يكون نهيا عن ضد المأمور به أو أضداده لكونها مانعة من فعل الواجب وأمر الندب لا يكون كذلك فكانت أضداد المندوب غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه ومن لم يفصل جعل أمر الندب نهيا عن ضد المأمور به نهي ندب حتى يكون الامتناع عن ضده مندوبا كما يكون فعله مندوبا وأما النهي عن الشيء فأمر بضده إن كان له ضد واحد باتفاقهم كالنهي عن الكفر يكون أمرا بالإيمان والنهي عن الحركة يكون أمرا بالسكون وإن كان له أضداد فعند بعض أصحابنا وبعض أصحاب الحديث يكون أمرا بالأضداد كلها كما في جانب الأمر وعند عامة أصحابنا وعامة أهل الحديث يكون أمرا بواحد من الأضداد غير عين وقال الشيخ أبو منصور رحمه اللّه لا فرق بين الأمر والنهي في أن لكل واحد منهما ضدا واحدا حقيقة وهو تركه فالأمر بالشيء نهي عن ضده وهو تركه والنهي عن الشيء أمر بضده وهو تركه أيضا غير أن الترك قد يكون بفعل واحد بطريق التعيين كالتحرك يكون تركه بالسكون وقد يكون بأفعال كثيرة كترك القيام يكون بالقعود والاضطجاع والاستلقاء فهذا بيان الاختلاف بين أهل السنة فأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن عين الأمر لا يكون نهيا عن ضد المأمور به وكذا النهي عن الشيء لا يكون أمرا بضد المنهي عنه لكنهم اختلفوا في أن كل واحد منهما هل يوجب حكما في ضد ما أضيف (٢/٤٧٧) إليه فذهب أبو هاشم ومن تابعه من متأخري المعتزلة إلى أنه لا حكم له في ضده أصلا بل هو مسكوت عنه وإليه ذهب الغزالي وإمام الحرمين من أصحاب الشافعي وذهب بعضهم منهم عبد الجبار وأبو الحسين إلى أن الأمر يوجب حرمة ضده وقال بعضهم يدل على حرمة ضده وقال بعضهم يقتضي حرمة ضده هكذا ذكر في الميزان وغيره وذكر صاحب القواطع فيه الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى وهذا مذهب عامة الفقهاء وذهبت المعتزلة إلى أنه لا يكون نهيا عن الضد وبين الدلائل ثم قال والمسألة مصورة فيما إذا وجد الأمر وحكمنا أنه على الفور فلا بد من ترك ضده عقيب الأمر كما لا بد من فعله عقيب الأمر وأما إن قلنا إن الأمر على التراخي فلا يظهر المسألة بهذه الظهور وإليه أشار أبو اليسر أيضا فقال أبو بكر الجصاص وأبو منصور الماتريدي وأصحاب الشافعي الأمر إذا أوجب تحصيل المأمور به على طريق الفور يقتضي النهي عن ضده إلى آخره وكذا ذكر شمس الأئمة أيضا وقال عبد القاهر البغدادي إنما يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده إذا كان المأمور به مضيق الوجوب بلا بدل ولا تخيير كالصوم فأما إذا لم يكن كذلك فلا يكون نهيا عن ضده كالكفارات واحدة منها واجبة مأمور بها غير منهي عن تركها لجواز تركها إلى غيرها وذكر الشيخ أبو المعين في التبصرة ثم إن أصحابنا مع أوائلهم يعني أوائل المعتزلة اتفقوا أن كل مأمور به كان تركه وهو فعل يضاده منهيا عنه وكل منهي عنه تركه وهو فعل يضاده مأمور به إذا كان لكل واحد منهما ترك مخصوص وضد متعين وكذا عندنا في كل ما له أضداد من الجانبين جميعا وعندهم فيما له أضداد تقسيم يطول ذكره غير أن عندنا كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده وعلى القلب لأن كلام اللّه تعالى عندنا واحد وهو بنفسه أمر بما أمر ونهي عما نهى فكان ما هو الأمر بالشيء نهيا عن ضده وعلى العكس وعند المعتزلة كلام اللّه تعالى هذه العبارات وللأمر صيغة مخصوصة وكذا للنهي فلا يتصور كون الأمر نهيا لا كون النهي أمرا ولا شك أن ضد المأمور به منهي عنه وضد المنهي عنه مأمور به فاختلفت عباراتهم فزعم بعضهم أن الأمر بالشيء يدل على النهي عن ضده والنهي عن الشيء يدل على الأمر بضده وقال بعضهم الأمر بالشيء يقتضي نهيا عن ضده وكذا على القلب ومنهم من يطلق ما يتفق له من اللفظ ولا يفرق بين لفظ الدلالة ولفظ الاقتضاء ثم في تحقيق هذه الأقوال وترجيح بعضها على بعض كلام طويل طوينا ذكره ومن طلبه في مظانة ظفر به والغرض بيان المذاهب والتنبيه على أن ما اختار الشيخ في الكتاب خلاف اختيار العامة وهو اختيار القاضي الإمام أبي زيد وشمس الأئمة وصدر الإسلام ومتابعيهم (٢/٤٧٨) قوله إذا لم يقصد ضده بنهي احتراز عما إذا قصد الضد بالنهي مثل قوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن فإن الضد في مثل هذه الصورة حرام بلا خلاف وقال بعضهم يقتضي كراهة ضده يعني إذا كان الأمر للإيجاب والفرق بين قوله يقتضي وقوله يوجب ظاهر فإن الإيجاب أقوى من الاقتضاء لأنه إنما يستعمل فيما إذا كان الحكم ثابتا بالعبارة أو الإشارة أو الدلالة فيقال النص يوجب ذلك فأما إذا كان ثابتا بالاقتضاء فلا يقال يوجب بل يقال يقتضي على ما عرفت في معنى سنة واجبة أي سنة مؤكدة قريبة إلى الواجب وعلى القول المختار يحتمل أن يقتضي ذلك أي يقتضي كون الضد في معنى سنة مؤكدة يعني إذا كان النهي للتحريم قوله وقد ذكرنا يعني ذكرنا أن التعليق بالشرط لا يوجب نفي المعلق بالشرط قبل وجود الشرط لأنه مسكوت عنه فيبقى على ما كان قبل التعليق فكذا الضد هاهنا مسكوت عنه فيبقى على ما كان قبل الأمر والنهي ألا ترى أنه لا يصلح دليلا لما وضع له أي الأمر بالشيء وضع لطلب ذلك الشيء وإيجابه ولا دلالة له على ثبوت موجبه فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل فلأن لا يكون دليلا على ثبوت ما لم يوضع له وهو التحريم فيما لم يتناوله كان أولى بيانه في قوله عليه السلام الحنطة بالحنطة أي بيعوا الحنطة فموجبه إيجاب التسوية كيلا وحرمة الفضل فيما تناوله النص وهو الأشياء الستة ولا دلالة في ثبوت موجبه في غير هذه الأشياء أصلا إلا بطريق التعليل فلما لم يصلح دليلا في غير ما تناوله لما وضع له كيف يصلح دليلا فيما لم يتناوله لغير ما وضع له فعلى قول هؤلاء الذم والإثم على تارك الائتمار باعتبار أنه لم يأت بما أمر به لا بمقابلة فعل الكف أو الضد لأنه ليس بحرام عندهم وكذا المدح والثواب لمن لم يشرب الخمر أو لم يباشر الزنا باعتبار أنه لم يباشر المنهي عنه القبيح لا بمقابلة فعل الضد أيضا قالوا ولهذا يذم (٢/٤٧٩) العقلاء تارك الصلاة بأنه لم يصل لا بالقيام والأكل والشرب ونحوها مما يضاد الصلاة ويمدحون تارك شرب الخمر بأنه لم يشرب الخمر لا باشتغاله بما يضاده من الأفعال إلا أن هذا فاسد لأنه يؤدي إلى استحقاق العقوبة على ما لم يفعله وهذا مما يرده العقل والسمع لأن المرء لا يعاقب على عدم الفعل كيف والعدم الأصلي غير مقدور أصلا وقد قال اللّه تعالى جزاء بما كانوا يعملون و يكسبون ونحوهما وأما المدح فليس على العدم الذي ليس في وسعه وإنما هو على الامتناع الذي هو مقدوره ولا يلزم عليه قوله تعالى قالوا لم نك من المصلين فإنه رتب العقوبة على عدم الصلاة لأن ذلك ترتيب العقوبة على الفعل في الحقيقة فإن المراد واللّه أعلم لم تك من المعتقدين لها وترك الاعتقاد فعلي وهو كفر فكانت العقوبة بناء على الكفر قوله واحتج الجصاص يعني في فصل الأمر بكذا قال شمس الأئمة رحمه اللّه بنى أبو بكر الجصاص مذهبه على أن الأمر المطلق يوجب الائتمار على الفور فقال من ضرورة وجوب الائتمار على الفور حرمة الترك الذي هو ضده والحرمة حكم النهي فكان موجبا النهي عن ضده بحكمه يوضحه أن الأمر طلب الإيجاد للمأمور به على أبلغ الجهات والاشتغال بضده بعدم ما وجب بالأمر وهو الإيجاب فكان حراما منهيا عنه بمقتضى حكم الأمر ولهذا يستوي فيه ما يكون له ضد واحد وما يكون له أضداد لأنه بأي ضد اشتغل يفوت ما هو المطلوب ألا ترى أنه إذا قال لغيره اخرج من هذه الدار سواء اشتغل بالقعود فيها أو الاضطجاع أو القيام يفوت ما أمر به وهو الخروج وأما النهي فإنه للتحريم أي النهي لإثبات الحرمة وإعدام المنهي عنه بأبلغ الوجوه فإذا كان له ضد واحد لا يمكن إعدام المنهي عنه إلا بإتيان ضده فيكون النهي حينئذ أمرا بضده وإذا كان له أضداد لا يوجب أمرا يوجد منها لأن الأمر بالضد إنما يثبت هاهنا ضرورة النهي وإما ترتفع بثبوت الأمر بضد واحد فلا يجعل أمرا بجميع الأضداد ثم لا يمكن إثبات الأمر بضد واحد أيضا لأن بعض الأضداد ليس بأولى من البعض فلا يثبت بخلاف جانب الأمر لأن إتيان المأمور به لا يمكن إلا بترك جميع الأضداد وترك جميع (٢/٤٨٠) الأضداد متصور فإن ترك أفعال كثيرة من واحد في ساعة واحدة متصور أما هاهنا فيمكن تحقيق حكم النهي بإثبات ضد واحد فإن الساعة الواحدة لا يتصور فيها إثبات أفعال شتى وإنما يتصور إثبات فعل واحد ولكن ذلك الفعل غير متعين فلم نجعله أمرا به أيضا يوضح الفرق بينهما أن مع التصريح بالنهي فيما له ضد واحد لا يستقيم التصريح بالإباحة فإنه لو قال نهيتك عن التحرك وأبحت لك السكون أو أنت مخير في السكون كان كلاما مختلا لأن موجب النهي تحريم المنهي عنه وذلك يوجب الاشتغال بالضد والإباحة والتخيير ينافيانه فأما إذا كان للمنهي عنه أضداد فيستقيم التصريح بالإباحة في جميع الأضداد بأن يقول لا تسكن وأبحت لك التحرك من أي جهة شئت أو يقول لا تقم وأبحت لك ما شئت من القعود والاضطجاع وكذا فثبت أنه لا موجب لهذا النهي في شيء من الأضداد ولكن من اختار أنه يكون أمرا بواحد من الأضداد غير عين يقول لما كان النهي مقتضيا أمرا بضده ضرورة تحقيق حكم النهي ولا يمكنه تحقيقه إلا بترك المنهي عنه إلى ضد واحد يثبت الأمر بضد واحد غير عين والأمر قد يثبت في المجهول كما في أحد أنواع الكفارة ثم استدل الجصاص على الفرق بين ما له ضد واحد وبين ما له أضداد في النهي بإجماع الفقهاء على ما قرر في الكتاب وقوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن أي من الحيض والحبل بالإظهار ولهذا وجب قبول قولها فيما تخبر به لأنها مأمورة بالإظهار والمحرم منهي عن لبس المخيط بحديث ابن عمر رضي اللّه عنهما إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا يلبس المحرم القباء ولا القميص ولا السراويل ولا الخفين إلا أن لا يجد النعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين (٢/٤٨١) ولم يكن مأمورا بلبس شيء معين من غير المخيط لأن للمنهي عنه وهو المخيط أضدادا ولا يقال المنهي عنه المخيط فيكون ضده غير المخيط وهو شيء واحد فصار نظير الإظهار مع الكتمان لأنا نقول ليس للإظهار والكتمان أنواع بخلاف المخيط وغير المخيط فإن كل واحد منهما أنواع وهو كالقيام مع ترك القيام فإن تركه لما كان يحصل بأنواع من الفعل عد القيام مما له أضداد لا مما له ضد واحد واحتج الفريق الثالث بما احتج به الجصاص إلا أنهم يقولون نحن نثبت بكل واحد من القسمين أي النهي الثابت في ضمن الأمر والأمر الثابت في ضمن النهي أدنى أي دون ما يثبت به أي بكل واحد من الأمر والنهي إذا ورد مقصودا لأن الثابت ضرورة الغير لا يكون مثل الثابت مقصودا بنفسه فكان هذا النهي بمنزلة نهي ورد لمعنى في غير المنهي عنه فيثبت به الكراهة والأمر بمنزلة أمر ورد لحسن في غير المأمور به فيثبت به كون المأمور به سنة قريبة إلى الواجب ألا ترى أن النهي عن البيع وقت النداء لما كان لمعنى في غيره وهو تأخير السعي أو فواته اقتضى كراهة المنهي عنه لا حرمته حتى بقي مباحا في نفسه ولم يكن فاسدا فكذا هذا النهي لأنه ثبت ضرورة فوات المأمور به لا مقصودا بنفسه والدليل عليه أنهم أجمعوا على أنه إذا قضى الفائتة عند ضيق الوقت بحيث لا يسع إلا للوقتية يجوز ويخرج عن العهدة مع أنه منهي عن الاشتغال بها في هذه الحالة إلا أن النهي لما ثبت ضرورة فوات المأمور به لم يؤثر في نفسها بالتحريم وأوجب الكراهة بخلاف النهي عن أداء الواجب في الأوقات المكروهة فإنه ورد قصدا فلذلك أثبت الحرمة في نفسه وأوجب الفساد قوله وأما الذي اخترناه وهو أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة فبناء على هذا أي على ما ذكر الفريق الثالث أن الثابت بغيره لا يساوي الثابت بنفسه إلا أنا نقول النهي الثابت بالأمر ثابت بطريق ضرورة الاقتضاء لأن طلب الوجود بالأمر يقتضي انتفاء ضده فكان ينبغي أن تثبت الحرمة في الضد باقتضاء الأمر إلا أن الضرورة تندفع بإثبات الكراهة فلا يثبت الحرمة فلذلك قلنا بأن الأمر يقتضي كراهة الضد لا إنه يوجبها أو يدل عليها لأن الثابت بالدلالة مثل الثابت بالنص أو أقوى منه وكذلك النهي يقتضي سنية الضد إن كان له ضد واحد على قياس الأمر وإن كان له أضداد يثبت هذا القدر من المقتضي في أي أضداده الذي يأتي به المخاطب كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه ورأيت في بعض النسخ وكذا إذا كان له أضداد يوجب ترغيبا في واحد (٢/٤٨٢) من تلك الأضداد غير عين ويجوز مثل هذا على ما بينا في الأمر بأحد الأشياء في الكفارة ومعنى الاقتضاء هاهنا كذا يعني لا نعني به الاقتضاء الذي هو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق إذ لا توقف لصحة المنطوق عليه بل المراد أنه ثابت بطريق ضرورة غير مقصود كما أن المقتضى ثابت بطريق الضرورة فكان شبيها بمقتضيات الشرع من حيث إن كل واحد منهما ثابت بالضرورة فلذلك يثبت موجب النهي والأمر هاهنا بقدر ما تندفع به الضرورة وهو الكراهة والترغيب كما يجعل المقتضى مذكورا بقدر ما تندفع به الضرورة وهو صحة الكلام وبما ذكرنا خرج الجواب عن قول الفريق الأول إن الضد مسكوت عنه لأنه وإن كان مسكوتا عنه لكنه ثابت بطريق الاقتضاء ولا خلاف بيننا وبينهم أن الاقتضاء طريق صحيح لإثبات المقتضى وإن كان مسكوتا عنه بعد أن يكون الأصل محتاجا إليه وليس هذا نظير التعليقات فإنها لابتداء الوجود عند وجود الشرط ومن ضرورة وجود الحكم عند وجود الشرط أن لا يكون موجودا قبله ولكن عدمه قبل وجود الشرط عدم أصلي والعدم الأصلي غير مفتقر إلى دليل معدوم يضاف إليه فلا يضاف إلى التعليق نصا ولا اقتضاء فأما وجوب الإقدام على الإيجاد فيقتضي حرمة الترك والحرمة الثابتة بمقتضى الشيء يكون مضافا إليه فلذلك جعلنا قدر ما يثبت من الحرمة مضافا إلى أمر اقتضاء وذكر الشيخ أبو المعين رحمه اللّه في التبصرة في مسألة الاستطاعة أن بعض المتأخرين ممن تكلم في أصول الفقه من أهل ديارنا ذكر أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده ولا أقول إنه نهي عن ضده ولا أقول إنه بدل ولست أدري ما إذا كان رأيه أن توجه الوعيد على تارك المأمور به لارتكابه ضد المنهي عنه وهو الترك الذي هو فعل كما هو مذهب جميع أهل القبلة أم لانعدام ما أمر به من غير فعل ارتكبه كما هو مذهب أبي هاشم فإن كان الوعيد متوجها لانعدام المأمور به كما هو مذهب أبي هاشم فأي حاجة إلى إثبات الكراهة في الضد والوعيد بدونه متوجه وإن لم يكن بد لتوجه الوعيد من فعل محظور يرتكبه وذلك فعل الترك فكيف يزعم بتوجه كل الوعيد لتارك الفرائض وثبوت العقوبة له لو لم يتغمده اللّه برحمته لمباشرة فعل مكروه ليس بمنهي عنه ولا محظور وهذا مما يأباه جميع أهل العلم وإليه أشار صاحب الميزان أيضا فقال وما قاله بعض (٢/٤٨٣) المشايخ إنه يقتضي كراهة ضده خلاف الرواية فإن ترك صلاة الفرض والامتناع عن تحصيلها حرام يعاقب عليه والمكروه لا يعاقب على فعله ويمكن أن يجاب عنه بأن الضد إنما يجعل مكروها إذا لم يكن الاشتغال به مفوتا للمأمور فأما إذا تضمن الاشتغال به تفويته لا محالة فحينئذ يحرم بالنظر إلى التفويت ويصير سببا لتوجه الوعيد واستحقاق العقوبة وإن كان في ذاته مباحا كصوم يوم النحر حرام وسبب للعقوبة باعتبار ترك الإجابة ومباح بل عبادة وسبب للثواب باعتبار قهر النفس على ما مر تحقيقه في باب النهي وكونه حراما لغيره لا يمنع استحقاق العقوبة كأكل مال الغير قوله وأما قوله جواب عن تمسك الجصاص بالإجماع في فصل النهي أي قول اللّه تعالى ولا يحل لهن الآية ليس بنهي كما زعم الجصاص حتى يكون الأمر بالإظهار ثابتا به على ما زعم بل هو نسخ له أي رفع لجواز الكتمان أصلا لأنه صيغة نفي لا نهي مثل قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد فإنه ليس بنهي للنبي عليه السلام عن التزوج بل هو نسخ لقوله تعالى وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وللإباحة المطلقة الثابتة للنبي عليه السلام في حق النساء وذلك لأن أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ورضي عنهن لما اخترن اللّه ورسوله بعد نزول آية التخيير جازاهن من اللّه عز وجل بقصر النبي عليه السلام عليهن بقوله عز اسمه لا يحل لك النساء من بعد أي لا يحل لك النساء سوى هؤلاء اللاتي اخترنك من بعدما اخترن اللّه ورسوله ثم قالت عائشة رضي اللّه عنها ما مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى حل له النساء يعني أن الآية قد نسخت وناسخها إما السنة أو قوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف كذا في المطلع فلا يصير الأمر أي الأمر بالإظهار ثابتا بالنهي أي النهي عن الكتمان لما ذكرنا أنه ليس ينهي عنه بل لأن الكتمان لم يكن مشروعا أي بل ثبت الأمر بالإظهار باعتبار أن كتمان ما في الأرحام لم يكن مشروعا لتعلق أحكام الشرع بإظهاره من حمل القربان وحرمته وانقضاء العدة وإباحة التزوج بزوج آخر وغيرها فصار أي هذا النص بواسطة عدم شرعية الكتمان أمرا بالإظهار إذ لا مرجع إلى معرفة ما في أرحامهن إلا إليهن ولذلك غلظ عليهن في الإظهار بقوله تعالى إن كن يؤمن باللّه واليوم الآخر أي الكتمان (٢/٤٨٤) ليس من فعل المؤمنات لكونه من باب الخيانة والكذب والإيمان باللّه وبعقابه مانع من الاجتراء على مثل هذه الجريمة وهذا أي قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن مثل قوله عليه السلام لا نكاح إلا بشهود في أن كل واحد منهما نفي وليس بنهي قوله وفائدة هذا الأصل وهو ما ذكرنا أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده والنهي عن الشيء يقتضي أن يكون ضده في معنى سنة واجبة أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر لأن الأمر لم يوضع للتحريم وإنما ثبت التحريم ضرورة على ما بينا لم يعتبر أي لم يجعل التحريم في الضد ثابتا إلا من حيث تفويت الأمر أي المأمور به يعني إنما يجعل التحريم ثابتا في الضد إذا أدى الاشتغال به إلى فوات المأمور به فحينئذ يحرم لأن تفويت المأمور به حرام فإذا لم يفوته أي لم يفوت الضد المأمور به كان الضد مكروها لا حراما ثم سياق كلام الشيخ هذا ينزع إلى ما قال الجصاص في التحقيق لأن الجصاص بنى حرمة الضد على فوات المأمور به أيضا كما بناه الشيخ فلا يظهر الخلاف معه إلا في الأمر المطلق لأن الواجب المضيق على الفور بالاتفاق مثل الصوم فيفوت المأمور به بالاشتغال بضده في أي جزء من أجزاء الوقت حصل فيحرم بالاتفاق للتفويت والواجب الموسع مثل الصلاة على التراخي بالاتفاق فلا يحرم الضد إلا عند تضيق الوقت بالاتفاق لأن التفويت لا يتحقق قبله ويكون مكروها على ما اختار الشيخ وينبغي أن لا يكون مكروها إذا لم يكن التأخير مكروها لعدم تأديته إلى أمر حرام أو مكروه والأمر المطلق على التراخي عندنا كالموسع وعلى الفور عنده كالمضيق فلا يحرم الضد عندنا لعدم التفويت ويكره على ما ذكره الشيخ وكان ينبغي أن تكون الكراهة على تقدير كراهة التأخير كما قلنا وعنده يحرم الضد لفوات المأمور به فالخلاف في التحقيق راجع إلى أن الأمر المطلق على التراخي أم على الفور ولم ينكشف لي سر هذه المسألة كالأمر بالقيام يعني في الصلاة ليس بنهي عن القعود بطريق الأصالة والقصد فإذا قعد ثم قام لم تفسد صلاة بنفس القعود لأنه لم يفت به ما هو الواجب بالأمر (٢/٤٨٥) ولكنه أي القعود يكره لأن الأمر بالقيام اقتضى كراهته ولهذا أي ولأن النهي يقتضي سنية الضد ولهذا أي ولما ذكرنا أن النهي عن الضد أمر به بطريق الضرورة لا بطريق القصد قلنا لما كان معنى العدة الثابتة بقوله تعالى يتربصن بأنفسهن النهي عن التزوج أي المقصود منها حرمة التزوج لم يكن الأمر بالكف عن التزوج الذي هو ضد التزوج انتهى عنه مقصودا فلا يثبت به وجوب الكف بل يثبت به سنيته فلا يمنع تداخل العدتين وبيانه أن ركن العدة عندنا حرمات تنقضي والمدة ضربت أجلا لانقضاء هذه الحرمات والكف عن الفعل يجب احترازا عن الوقوع في الحرمة لا أنه ركن العدة وقال الشافعي رحمه اللّه الركن كف المرأة نفسها عن التزوج والخروج والبروز والمدة لتقدير الكف الواجب عليها وحرمة الأفعال تثبت ضرورة وجوب الكف الذي هو ركن والمسألة التي تخرج عليها أن العدتين تتداخلان وتمضيان بمدة واحدة عندنا وهو مذهب معاذ بن جبل وجابر بن عبد اللّه وعنده لا تتداخلان وهو مذهب عمر وعلي رضي اللّه عنهم وصورة المسألة ما إذا تزوجت المعتدة بزوج آخر ووطئها ثم فرق القاضي بينهما يجب عليها عدة أخرى وتحتسب ما ترى من الأقراء من العدتين وإن كانت حاملا انقضت العدتان بوضع الحمل وعنده يجب استئناف العدة بعد انقضاء الأولى وإن تزوجت بالزوج الأول في العدة ووطئها فهاهنا تتداخلان بالاتفاق احتج الشافعي رحمه اللّه بقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء أي يكففن ويحبسن أنفسهن عن نكاح آخر ووطء آخر هذه المدة وقال فما لكم عليهن من عدة تعتدونها وقال فعدتهن ثلاثة أشهر فثبت أن العدة فعل استحقها الزوج على المرأة والدليل عليه أن هذه النصوص تدل على أن العدة مأمور بها والثابت بالأمر الأفعال لا الحرمات فصار ركن العدة كف النفس عن التزوج وخلط المياه لحق الزوج وثبوت حرمة الأفعال ضرورة تحقق الكف كما في الصوم وتسميتها أجلا مجاز وهو في الحقيقة تقدير لركن الكف كتقدير الصوم إلى الليل وإذا ثبت أن الركن هو الكف لا يتصور كفان من واحد في مدة واحدة لاستحالة صدور فعلين متجانسين من واحد في زمان واحد ولهذا لم يتصور أداء صومين من واحد في يوم واحد ولعلمائنا قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وقوله عز وجل فإذا بلغن أجلهن وقوله حتى يبلغ الكتاب أجله فاللّه تعالى سمى العدة أجلا والآجال إذا اجتمعت على واحد أو لواحد انقضت بمدة (٢/٤٨٦) واحدة كمن عليه ديون مؤجلة لا بأس بآجال متساوية ينقضي جميع الآجال بمدة واحدة ولأنه تعالى لما سماها أجلا والأجل مدة مضروبة لامتناع شيء وجد سببه كالآجال المضروبة في الديون لامتناع المطالبة مع وجود سببها عرفنا أنها مدة ضربت لامتناع حكم الطلاق إلى زمان انقضائها وحكم الطلاق حل التزوج والخروج لأن النكاح قد كان حرمها على سائر الأزواج وحرم عليها الخروج والبروز والطلاق شرع لإزالة ما أثبته عقد النكاح فكان حكمه الإطلاق وإزالة تلك الحرمات وكان ينبغي أن يثبت حكمه في الحال إلا أن الشرع أدخل الأجل على حكمه فتأخر بعد انعقاد السبب إلى انقضائه كما تأخرت المطالبة في الدين المؤجل إلى انقضاء الأجل وإذا تأخرت حكمه وهو إزالة الحرمات كانت الحرمة ثابتة في الحال كما كانت في حالة النكاح فثبت أن الركن فيها الحرمات والدليل على أنه تعالى ذكر ركن العدة بعبارة النهي فقال ولا يخرجن وقال ولا تعزموا عقدة النكاح والثابت بالنهي الحرمة إلا أن الحرمة لما كانت ثابتة وجب على المرأة التربص في بيت الزوج لا لأنه ركن لكن لئلا تباشر فعلا حراما كما يجب على الرجل الكف عن الزنا إذا دعت نفسه إليه لا لأنه ركن إذ الركن حرمة الزنا في نفسه بل لئلا يقع في الحرام ثم الحرمات قد تجتمع لعدم التضايق فيها كصيد الحرم حرام على المحرم لحرمة الحرم ولحرمة الإحرام وكخمر الذمي حرام على الصائم الذي حلف لا يشرب خمرا لكونها خمرا ولكونها للذمي ولصومه وليمينه وإذا كان كذلك جاز أن يثبت حرمة التزوج والخروج مؤجلة إلى انقضاء مدة الأقراء بسبب الزوج حقا له وإن نثبت بسبب الواطئ بشبهة أيضا حقا له في وقت واحد ثم ينتهي الحرمتان بانقضاء مدة واحدة لحصول مقصود كل واحد من صاحبي العدة بانقضائها وهو العلم بفراغ رحمها من مائة كمن حلف مرتين لا يكلم فلانا يوما لزمه يمينان ولو حنث يلزمه كفارتان ثم تنقضي اليمينان بيوم واحد وكالمرأة تحرم على أزواج بتطليقات ثلاث فإن الحرمات كلها تنقضي بإصابة زوج واحد وهذا بخلاف الصوم لأن الركن فيه وهو كف النفس عن اقتضاء الشهوات ثبت مقصودا بالأمر وهو قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه وقوله عز وجل ثم أتموا الصيام إلى الليل والصوم عبارة عن الكف والإمساك وأنه فعل والمرء لا يتصف في زمان واحد بكفين كما لا يتصف بجلوسين ومما يدل على صحة ما ذكرنا أنا متى جعلنا الواجب كفا على المرأة عن الخروج والتزوج ثم يحرم الخروج والتزوج ضرورة الكف لم يكن الخروج ولا النكاح حراما في نفسه لأنه حرم لغيره ألا ترى أن الصوم لما كان كفا لم يكن (٢/٤٨٧) الأكل ولا الشرب ولا جماع الأهل حراما في نفسه وإذا فعل لا يأثم إثم الأكل والشرب الحرام والجماع الحرام مثل أكل الميتة وشرب الخمر والزنا وإنما يأثم إثم إفساد الصوم حتى كان إثم الكل واحدا وهاهنا تأثم المرأة إثم الخروج الحرام وإثم الجماع الحرام إذا تزوجت وجومعت حتى وجب الحد على أصله فعلم أن الحرام هو الفعل نفسه وعليها عن الفعل الحرام وإذا لم تكف لم تأثم إثم تارك الكشف فهذا دليل بين على أن المقصود والركن حرمة أفعال لا كف بخلاف الصوم وأما التربص فمعناه الانتظار والتربص بنفسها أن تحملها على الانتظار وهو توقف الكينونة أمر في الثاني لا لنفسه كالرجل ينتظر قدوم رجل أو مطر أو إدراك غلة أو نحوها فيكون بمعنى الأجل وإذا صار المقصود من الانتظار أمرا آخر لا نفسه صلح الواحد لإعداد كيوم واحد ينتظر فيه قدوم أناس وزوال حرمات بأيمان موقتة بيوم وشهر واحد ينتظر فيه حلول ديون فدل صيغة الانتظار على فعل وجب لغيره وهو زوال الحرمات وقد سلمنا نحن هذا القدر من الفعل ولكن الواحد يكفي لأداء حرمات كثيرة إقامة لمحظور العدة لا لركنها واللّه أعلم كذا في الأسرار قوله ولهذا أي ولأن الأمر بالشيء يوجب كراهة ضده إذا لم يؤد إلى التفويت لا تحريمه قال أبو يوسف رحمه اللّه إن من سجد على مكان نجس لا تفسد صلاته لأن السجود على المكان النجس غير مقصود بالنهي لأن النهي عنه ثابت بالأمر بالسجود على مكان طاهر وهو قوله تعالى واسجدوا إذ المراد منه السجود على مكان طاهر بالإجماع وهذا أي السجود على مكان نجس لا يوجب فوات المأمور به لأنه يمكنه أن يعيده على مكان طاهر فيكون مكروها لا مفسدا ولهذا أي ولأن الأمر بالشيء لا يوجب تحريم ضده إلا إذا حصل التفويت به قال أبو يوسف رحمه اللّه إحرام الصلاة لا ينقطع بترك القراءة في مسائل النفل وهي ثمان مسائل لأنه مأمور بالقراءة غير منهي عن تركها قصدا بل اقتضاء وضرورة فلا يكون الترك حراما إلا بقدر ما يحصل به تفويت المأمور به وهو القراءة وفواتها تحقق في الشفع الأول فيظهر تحريم الترك في حق هذا الشفع حتى فسد أداؤه فأما احتمال أداء شفع آخر بهذه التحريمة فلم ينقطع بهذا الترك فلا يظهر حرمة الترك في حق التحريمة فتبقى صحيحة قابلة لبناء شفع آخر عليها وإن فسد أداء الشفع (٢/٤٨٨) الأول بترك القراءة وليس من ضرورة فساد الأداء بطلان التحريمة كما إذا فسد الفرض بتذكر الفائتة ولأن التحريمة صحت قبل الأداء شرطا للأداء فلا تبطل بفساد الأداء بمنزلة الطهارة ولا يلزم يعني على أبي يوسف أن الصوم يبطل بالأكل بالكلية وإن لم يوجد الأكل إلا في جزء منه مع أن التحريم لم يثبت مقصودا بل ثبت في ضمن الأمر بالكف لأن ذلك الفرض وهو الصوم ممتد حتى كان الكل فرضا واحدا فوجود ضده يكون مفوتا له لا محالة لفوات امتداده به كالإيمان لما كان فرضا دائما كان وجود ضده وهو الكفر مفوتا له وإن قل فأما النفل فكل شفع منه صلاة على حدة ففساد الأداء في أحد الشفعين لا يؤثر في الآخر ولهذا قلنا أي ولما ذكر أبو يوسف رحمه اللّه أن الفرض الممتد يبطل بوجود الضد في جزء منه قلنا إن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه السجود على مكان نجس يقطع الصلاة حتى لو أعاده لا يعتد به لأن السجود لما كان فرضا صار الساجد على النجس مستعملا للنجس بحكم الفرضية أي فرضية وضع الوجه على الأرض في السجود بمنزلة حامل النجاسة لأن السجود يتأدى بالوجه والأرض إذ هو عبارة عن وضع الوجه على الأرض والأرض إذا اتصلت بالوجه صار ما كان صفة لذلك الموضع بمنزلة الصفة للوجه بحكم الاتصال فيصير الساجد على النجس كالحامل بمنزلة ما لو كانت النجاسة في وجهه ثم الكف عن حمل النجاسة مأمور به في جميع الصلاة بدلالة قوله تعالى وثيابك فطهر أي للصلاة على ما قيل وقد عرف أن تعلق الصلاة بالمكان والبدن أكثر من تعلقها بالثوب فيثبت الكف مطلقا بالسجود على المكان النجس يفوت ذلك الكف فيكون مفسدا كالكف في الصوم لما كان مأمورا به في جميع اليوم يكون الأكل في جزء منه مفسدا له ثم النجاسة إذا كانت في موضع اليدين أو الركبتين لا يمنع عن الجواز وقال زفر رحمه اللّه يمنع عنه لأن أداء السجدة بوضع اليدين والركبتين والوجه جميعا فكانت النجاسة في موضع اليدين والركبتين مثلها في موضع الوجه وأكثر ما في الباب أن له بدا من وضع اليدين والركبتين وهذا لا يدل على الجواز إذا وضع على مكان نجس كما لو لبس ثوبين في أحدهما نجاسة كثيرة لا يجوز صلاته وإن كان له منه بد فالشيخ بقوله صار مستعملا للنجس بحكم الفرضية أشار إلى الفرق وهو إنما جعلناه حاملا للنجس باعتبار أن وضع الوجه على المكان الطاهر ووضعه على المكان النجس مانع عن أداء الفرض فيعتبر هذا الاستعمال ويجعل قاطعا فأما وضع اليدين (٢/٤٨٩) والركبتين فليس بفرض فكان وضعها على النجاسة بمنزلة ترك الوضع وذلك لا يمنع من الجواز فلا يكون هذا الوضع بمنزلة حمل النجاسة بخلاف الثوبين فإن اللابس للثوب مستعمل له حقيقة فإذا كان نجسا كان هو حاملا للنجاسة لا محالة فتفسد صلاته كما لو كان ممسكه بيده فأما المصلي فليس بحامل للمكان حقيقة وقوله وهو ظاهر الجواب احتراز عما روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما اللّه أن النجاسة في موضع السجود لا تمنع عن الجواز لأن فرض السجود يتأدى بوضع الأرنبة على الأرض عنده وذلك دون قدر الدرهم فلا يمنع الجواز والجواب عنه أنه إذا وضع الجبهة والأنف تأدى الفرض بالكل كما إذا طول القراءة والركوع كان مؤديا للفرض بالكل والجبهة والأنف أكثر من قدر الدرهم فلذلك منع الجواز قوله ولهذا قال محمد أي ولأن الفرض الممتد يفوت بمطلق وجود الضد قال محمد رحمه اللّه إن إحرام الصلاة ينقطع بترك القراءة في التنفل وإن كان في ركعة واحدة لأن القراءة فرض دائم في التقدير حكما لأنها مع كونها ركنا شرط صحة الأفعال لا اعتبار لها بدونها في الشرع قال عليه السلام لا صلاة إلا بقراءة ألا ترى أنه لو استخلف أميا بعدما رفع رأسه من السجدة الأخيرة وقد أتى بفرض القراءة في محلها فسدت الصلاة عندنا لفوات القراءة فيما بقي من الصلاة تقديرا لأن التقدير إنما يصح في حق الأهل لا في حق غير الأهل والأمي ليس بأهل وإذا ثبت أنها فرض دائم يتحقق الفوات بالترك في ركعة وتفسد الأفعال ويتعدى الفساد إلى الإحرام بواسطة فساد الأفعال لأنها حينئذ تصير بمنزلة أفعال ليست من الصلاة فيوجب فساد الإحرام ضرورة واحتج أبو حنيفة بما احتج به محمد رحمهما اللّه إلا أنه شرط أن يكون الفساد بترك القراءة ثابتا بدليل مقطوع به ليصير قويا في نفسه ويصلح للتعدي إلى الإحرام وذلك بأن يتركها في الشفع كله فأما إذا وجدت في إحدى الركعتين فهو موضع الاجتهاد لأن من العلماء من قال تجوز الصلاة بالقراءة في ركعة واحدة وظاهر قوله عليه السلام لا صلاة إلا بقراءة يقتضي ذلك أيضا فكان الفساد ثابتا بدليل فيه قصور فلا يتعدى إلى الإحرام فقلنا ببقاء التحريمة حتى صح شروعه في الشفع الثاني وقلنا بفساد الأداء أيضا أخذا بالاحتياط في كل باب فعلى ما ذكرنا تخرج (٢/٤٩٠) المسائل فإذا قرأ في الأولين لا غير أو في الآخرين لا غير أو في الأوليين وإحدى الأخريين أو في الأخريين وإحدى الأوليين كان عليه قضاء ركعتين بالاتفاق ولو قرأ في إحدى الأوليين لا غير أو في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين كان عليه قضاء ركعتين عند محمد وقضاء الأربع عندهما ولو قرأ في إحدى الأخريين لا غير أو لم يقرأ فيهن شيئا عليه قضاء الأربع عند أبي يوسف وقضاء ركعتين عندهما قوله ولهذا أي ولما ذكرنا أن الفساد متى ثبت بطريق محتمل لم يتعد إلى الإحرام قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه في مسافر صلى الظهر ركعتين وترك القراءة فيهما لا ينقطع به الإحرام حتى لو نوى الإقامة يتم صلاته أربعا ويقرأ في الأخريين وقال محمد رحمه اللّه صلاته فاسدة بكل حال لأن فساد الصلاة بترك القراءة مؤثر في قطع التحريمة عنده فصار ظهر المسافر كفجر المقيم يفسد بترك القراءة فيهما أو في أحديهما على وجه لا يمكنه إصلاحه فكذا الظهر في حق المسافر إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع صفة الفساد وعندهما لما كان الاحتمال مانعا من تعدي الفساد إلى الإحرام لم تفسد الصلاة فإن صلاة المسافر بعرض أن تصير أربعا بنية الإقامة فكان الترك مترددا محتملا للوجود أي وجود القراءة في الأخريين بنية الإقامة ونية الإقامة في آخر الصلاة مثلها في أولها ولو كانت في أولها لم تفسد صلاته بترك القراءة في الأوليين فهاهنا مثله بخلاف فجر المقيم لأنه ليس بعرض أن تصير أربعا يبتنى عليه فروع يطول تعدادها مثل الاعتكاف فإنه يبطل بالخروج من غير ضرورة لأن اللبث الدائم ينقطع به كالصوم بالأكل ومثل الصلاة يبطل بالانحراف عن القبلة بالبدن من غير ضرورة لأن استقبال القبلة فرض دائم فيفوت بالانحراف وقس عليه ستر العورة وأما الصلاة بقرب النجاسة فتكره ولا تفسد لأن فرض تطهير المكان لا يفوت به ولكن يقرب إلى الفوات وكذا أداء النصاب بنية الزكاة إلى فقير واحد يجوز لأن المأمور به وهو الإيتاء إلى الفقير لم يفت ولكن يكره لأنه أخذ شبها بالأداء إلى الغني لاتصال الغني بالأداء واللّه أعلم ولما فرغ الشيخ عن بيان المقاصد وتقسيمها وهي الأحكام شرع في بيان الوسائل إليها وهي الأسباب فقال (٢/٤٩١) باب بيان أسباب الشرائع أي بيان الطرق التي تعرف بها المشروعات قال عامة أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي وعامة المتكلمين إن لأحكام الشرع أسبابا تضاف إليها والموجب للحكم في الحقيقة والشارع له هو اللّه تعالى دون السبب لأن الإيجاب إلى الشرع دون غيره وهو اختيار الشيخ أبي منصور رحمه اللّه فإنه ذكر في مأخذ الشرائع أن أوقات الصلاة أسباب لوجود العبادات وقال جمهور الأشعرية للعقوبات وحقوق العباد أسباب يضاف وجوبها إليها فأما العبادات فلا تضاف إلا إلى إيجاب اللّه تعالى وخطابه وأنكر بعضهم الأسباب أصلا وقالوا الحكم في المنصوص عليه يثبت بظاهر النص وفي غير المنصوص عليه يتعلق بالوصف الذي جعل علة ويكون ذلك أمارة لثبوت الحكم في الفرع بإيجاب اللّه تعالى وإثباته متمسكين في ذلك بأن الموجب للأحكام والشارع لها هو اللّه جل جلاله كما أن موجب الأشياء المحسوسة وخالقها هو اللّه سبحانه وصفة الإيجاب صفة خاصة له لا يجوز اتصاف الغير بها كصفة التخليق فكان في إضافة الإيجاب إلى الأسباب قطعه عن اللّه سبحانه وذلك لا يجوز لكنه تعالى جعل بعض أوصاف النص علامة وأمارة على الحكم في الفروع فيقال أسباب موجبة أو علل موجبة مجازا لظهور أحكام اللّه تعالى عندها وبأن الأسباب في أفعال العباد بمنزلة الآلات والجوارح السليمة باعتبار أن قدرة العباد ناقصة لا يظهر أثرها في المحال إلا بأسباب وآلات فيكون عملها في تتميم القدرة الناقصة واللّه تعالى موصوف بالقدرة التامة فلا يجوز أن يتعلق وجوب أحكامه ووجودها بالأسباب حقيقة وبأن الأسباب كانت موجودة قبل الشرع ولا أحكام معها وقد توجد بغير الشرع أيضا بلا أحكام كما في المجانين والصبيان وغيرهم ولو كانت عللا للأحكام لم يتصور انفكاكها عن الأحكام كما في العلل العقلية فإن الكسر لا يتصور بدون الانكسار والدليل على أن العباد لا تجب على من لم تبلغه الدعوة وهو الذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا ولو كان الوجوب بالأسباب دون الخطاب لوجب عليه العبادات لتحقق الأسباب في حقه (٢/٤٩٢) وتمسك من فرق بين العبادات وغيرها بأن العبادات وجبت للّه تعالى على الخلوص فتضاف إلى إيجابه لأنا ما عرفنا وجوبها إلا بالشرع وأما العقوبات فتضاف إلى الأسباب لأنها أجزية الأفعال المحظورة فتضاف إليها تغليظا وكذا المعاملات تضاف إلى الأسباب لأنها حاصلة بكسب العبد فتضاف إليه وبأن الواجب في العبادات ليس إلا الفعل ووجوبه بالخطاب بالإجماع فلا يمكن إضافته إلى شيء آخر فأما المعاملات فالواجب فيها شيئان المال والفعل فيمكن إضافة وجوب المال إلى السبب وإضافة وجوب الفعل إلى الخطاب وكذا العقوبات فإن الواجب على الجاني ليس إلا تسليم النفس وتحمل العقوبة وإنما وجب الفعل على الولاة فيجوز أن يضاف ما وجب عليه إلى السبب وما وجب على الولاة إلى الخطاب إليهم حيث قيل فاقطعوا أيديهما فاجلدوهم ثمانين جلدة فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فعلى هذا الطريق يجوز أن تضاف العبادات المالية إلى الأسباب عندهم أيضا وأما العامة فقالوا إن اللّه تعالى شرع للعبادات أسبابا يضاف وجوبها إليها والموجب في الحقيقة هو اللّه تعالى كما شرع لوجوب القصاص والحدود أسبابا يضاف الوجوب إليها والموجب هو اللّه تعالى فجعل سبب وجوب القصاص القتل وسبب وجوب الضمان الإتلاف وسبب ملك الواطئ النكاح فكذا شرع لوجوب العبادات أسبابا أيضا فمن أنكر جميع الأسباب وعطلها وأضاف الإيجاب إلى اللّه تعالى فقط خالف النص والإجماع وصار جبريا خارجا عن مذهب السنة والجماعة ومن أنكر البعض وأقر بالبعض فلا وجه له أيضا لأنه لما جاز إضافة بعض الأحكام إلى الأسباب بالدليل فلم لا يجوز أن يضاف سائرها إلى الأسباب أيضا بالدليل وقولهم لو أضيف الوجوب إلى الأسباب لزم أن لا يكون مضافا إلى اللّه عز وجل فاسد لأنا لا نجعل الأسباب موجبة بذواتها إذ الإيجاب والإلزام لا يتصور إلا من مفترض الطاعة لكن السبب ما يكون موصلا إلى الحكم وطريقا إليه فإضافة الحكم إلى السبب لا يمنع من إضافته إلى غيره فإن من قتل إنسانا بالسيف يحصل القتل حقيقة بالسيف ثم لا يمنع ذلك من إضافته إلى القاتل حتى يجب القصاص عليه وكذا الشبع يحصل بالطعام والري بالماء ثم يضافان إلى المطعم والساقي فكذا هذا وقولهم الأسباب كانت ولا حكم فاسد أيضا لأنا نجعلها موجبة بجعل اللّه تعالى إياها كذلك لا بأنفسها فلا تكون أسبابا قبل ذلك كأسباب العقوبات وحقوق العباد كانت موجودة قبل الخطاب ولم تكن أسبابا ثم صارت أسبابا بجعل اللّه تعالى (٢/٤٩٣) وأما الذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فإنما لا يجب عليه العبادات قبل بلوغ الخطاب لأنه لا وجه إلى إيجاب الأداء في حقه تحقيقا ولا تقديرا إذ لا ثبوت للخطابات في حقه أصلا ولا إلى إيجاب القضاء لأنه مبني على وجوب الأداء ولأن في إيجابها عليه حرجا لاجتماع عبادات كثيرة عليه لطول مدة بقائه في دار الحرب عادة فيسقط عنه دفعا للحرج والقصير لندرته ملحق بالكثير وباقي الكلام مذكور في الكتاب وقوله على الأقسام التي ذكرناها من كون الأمر مطلقا عن الوقت ومقيدا به وكونه إيجابا على سبيل التوسع أو التضييق والتخيير وغيرها إنما يراد بها أي بالأقسام المذكورة طلب الأحكام المشروعة الثابتة قبل الخطاب وأداؤها تأكيد يعني الخطاب لطلب أداء المشروعات بأسباب نصبها الشرع وإن استقام الإيجاب بمجرد الأمر لا أثر للأسباب في ذلك أي في حقيقة الوجوب بخلاف السبب العقلي والحسي فإن لهما أثرا في إثبات المعلول بحيث لا يتخلف عن السبب كالكسر مع الانكسار والإحراق مع الاحتراق وإنما وضعت الأسباب لأجل التيسير على العباد ليتوصلوا إلى معرفة الواجبات بمعرفة الأسباب الظاهرة إذ الإيجاب الذي هو فعل اللّه تعالى كان غيبا عنا وفي الوقوف على معرفته حرج خصوصا عند انقطاع زمان الوحي فوضعت الأسباب ونسب الوجوب إليها تيسيرا وهي في الحقيقة أمارات على الإيجاب وثبت الوجوب جبرا يعني لم يشترط لأصل الوجوب اختيار العبد وقدرته بل يثبت بدون اختيار منه كما يثبت السبب بدون اختياره فأما وجوب الأداء الثابت بالخطاب فلا ينفك عن اختيار العبد عنى به أنه إنما يثبت في حال لو اختار العبد فيها الأداء لقدر عليه لا أن وجوب الأداء متوقف على اختياره على معنى أنه إن اختار وجوبه ثبت وإلا فلا والحاصل أن أصل الوجوب يثبت بالسبب خبرا ولا يشترط فيه القدرة على الأداء ووجوب الأداء يثبت بالخطاب جبرا ولكن يشترط فيه القدرة على الأداء أعني قدرة الأسباب والآلات ووجود الأداء يتوقف على اختياره الفعل ولا يقال ما ذكرتم لا يستقيم في النهي لأن العبد لا يخاطب بأداء المنهي عنه لأنا نقول الواجب بالنهي انتهاء العبد عما نهي عنه فانتهاؤه وامتناعه عنه يكون أداء لموجب النهي قوله ودلالة صحة هذا الأصل أي الدليل على صحة هذا الأصل وهو أن نفس (٢/٤٩٤) الوجوب بالسبب ووجوب الأداء بالخطاب إجماعهم وهو جواب عما يقال نحن لا نعلم إيجابا من اللّه تعالى إلا بالأمر فبم عرفتم أن وجوب العبادات بالأسباب فقال عرفنا ذلك بإجماع المسلمين على إيجاب الصلاة والصوم على من لا يصلح للخطاب مثل النائم في وقت الصلاة والصوم فإنه مؤاخذ بالقضاء بعد الانتباه وكذا المغمى عليه والمجنون عندنا يؤاخذان بالقضاء بعد الإفاقة إذا لم يزدد الإغماء والجنون على يوم وليلة في الصلاة ولم يستغرق الجنون والقضاء إنما يجب بدلا عن الفائت من عند من وجد منه التفويت كضمان المتلفات ولولا التفويت لما وجب القضاء ولولا الوجوب لما تصور التفويت ولا يقال ذلك ابتداء عبادة تجب بعد الانتباه أو الإفاقة بخطاب جديد يتوجه عليه لأنا نقول يجب رعاية شرائط القضاء فيه كنية القضاء وغيرها ولو كان ذلك ابتداء فرض لما روعيت فيه شرائط القضاء بل كان ذلك أداء في نفسه كالمؤدى في الوقت ألا ترى أن الصلاة متى لم تجب في الوقت لا يجب قضاؤها بعد خروجه كالكافر والصبي والحائض إذا أسلم أو بلغ أو ظهرت بعد خروج الوقت لا يجب عليهم القضاء لعدم الوجوب في الوقت وحيث وجب هاهنا ومع الوجوب روعيت شرائط القضاء دل أن الأمر على ما ذكرنا واعلم أن قوله ووجوب الصلاة على المجنون ينبغي أن يقرأ بالرفع على الابتداء أو عطفا على إجماعهم لا بالجر إذ لو قرئ بالجر كما يدل عليه سوق الكلام لصار معطوفا على الوجوب المتقدم ولدخل وجوب الصلاة على المجنون والمغمى عليه تحت الإجماع أيضا كوجوبها على النائم وهو ليس بمجمع عليه فإن عند الشافعي لا تجب الصلاة على المجنون والمغمى عليه إذا استغرق الجنون والإغماء وقت الصلاة وحينئذ لا يصح الاستدلال بهاتين المسألتين على الخصم إلا إذا كان الكلام مع من أنكر سببية الأوقات للصلوات من أصحابنا فحينئذ يستقيم أن يقرأ بالجر عطفا على الوجوب المتقدم ويصح الاستدلال بالمسألتين أيضا ويكون المراد من الإجماع اتفاق أصحابنا خاصة دون اتفاق الجميع وقوله وكذلك الجنون إذا لم يستغرق مذهبنا أيضا دون مذهب الشافعي وقد قال الشافعي بوجوب الزكاة على الصبي والمجنون وبوجوب كفارات الإحرام والقتل مع أن الخطاب عنهما موضوع بالإجماع وقالوا أي الفقهاء جميعا بوجوب العشر وصدقة الفطر على الصبي إذا كان له مال عند تقرر السبب وهو الأرض النامية والرأس الذي يمونه (٢/٤٩٥) مع أن الخطاب عنه موضوع وكذلك يجب عليه وعلى المجنون حقوق العباد عند تحقق الأسباب منهما ويثبت العتق للقريب عليهما عند دخوله في ملكهما بالإرث لتقرر السبب وهو الملك وإن كان الخطاب موضوعا عنهما ألا ترى أن الأداء لما وجب بالخطاب لم يلزم عليهما وإنما لزم على المولى قال شمس الأئمة رحمه اللّه وقد دل على ما بينا قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فالألف واللام دلتا على أن المراد أقيموا الصلاة التي أوجبتها عليكم بالسبب الذي جعلته سببا لها وأدوا الزكاة الواجبة عليكم بسببها كقول القائل أد الثمن إنما يفهم منه الخطاب بأداء ثمن الواجب بسببه وهو البيع قوله وإنما يعرف السبب ثم بين الشيخ أمارة كون الشيء سببا فقال إنما يعرف السبب بنسبة الحكم إليه أي إضافته إليه كقولك صلاة الظهر وصوم الشهر وحج البيت وحد الشرب وكفارة القتل وتعلقه به أي تعلق الحكم بالسبب بأن لا يوجد بدونه ويتكرر بتكرره لأن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون الشيء المضاف إليه سببا للمضاف وأن يكون الشيء المضاف حادثا بالمضاف إليه كقولك كسب فلان أي حدث بفعله واختياره لأن الإضافة لما كانت موضوعة للتمييز كان الأصل فيها الإضافة إلى أخص الأشياء به ليحصل التمييز وأخص الأشياء بالحكم سببه لأنه ثابت به فكانت الإضافة إليه أصلا فأما الشرط فإنما يضاف إليه لأنه يوجد عنده فكانت الإضافة إليه مجازا والمعتبر هو الحقيقة حتى يقوم دليل المجاز وتحقيقه أن الإضافة للتعريف فإن المضاف نكرة قبل الإضافة وقد تعرف بعدها بالمضاف إليه لأن الإضافة توجب الاختصاص والشيء متى اختص في نفسه تعرف فإذا قلت جاءني غلام نكرة لشيوعه في الغلمان ولو قلت جاءني غلام زيد صار معرفة لاختصاصه به ثم اختصاص الشيء بغيره قد يكون بمعان فاختصاص الغلام بزيد بمعنى الملك واختصاص الابن بالأب في قولك ابن فلان بمعنى النسب واختصاص اليد بزيد في قولك يد زيد بمعنى الجزئية وقس عليه ثم تعرف الصلاة والصوم بإضافتهما إلى الوقت إما بمعنى السببية بأن يكون كل واحد منهما واجبا بما أضيف إليه أو بمعنى الشرطية على معنى أن الوجوب يثبت (٢/٤٩٦) عنده أو بمعنى الظرفية باعتبار أن وجود الواجب يحصل في هذا الوقت ثم ترجح معنى السببية على الشرطية والظرفية لأن مطلق إضافة الحادث إلى شيء يدل على حدوثه به كقولك عبد اللّه وناقة اللّه وكفارة القتل وكسب فلان وتركته والوجوب هو الحادث فدل على أنه كان بالوقت واعترض الشيخ أبو المعين رحمه اللّه على هذا الكلام فقال هذا كلام فاسد لأن أهل اللغة ما وضعوا الإضافة لمعرفة الحدوث ولا فهموه منها ألبتة وإنما وضعوها للتعريف وفهموا منها الاختصاص الموجب للتعريف وكذا الإضافة إلى غير اللّه تعالى في اللغة شائع ولو كان وضع الإضافة دالا على الحدوث لما جازت إضافة الأشياء إلى غير اللّه عز وجل حقيقة لتأديها إلى الشركة في الأحداث وقد يضاف الأجسام والجواهر إلى العباد فيقال دار عبد اللّه وفرس زيد وسيف خالد ويقال هذا عبد فلان كما يقال عبد اللّه فثبت أن الإضافة لا تدل على الحدوث وكذا ما استدل به من قولهم كسب فلان وتركته يوجب بطلان هذا الكلام لا تصحيحه لأن الكسب قد يكون عبدا وجارية ودارا وضيعة وكذا التركة وربما كانت هذه الأشياء أقدم وجودا من الكاسب والتارك فكيف يتصور حدوثها به ولو كان هو أسبق وجودا منها فأنى يتصور حدوثها به ولو قيل كان ملكها حادثا بسببه تقول لم يضف إليه الملك إنما أضيف إليه أعيانها فإذن لم تدل الإضافة على حدوث المضاف بالمضاف إليه بل دلت على حدوث غير المضاف بالمضاف إليه فيبطل هذا الكلام ثم قال في قوله صوم الشهر وصلاة الظهر لا يمكن أن يجعل حدوث كل واحد منهما بالوقت لأن حدوثهما بإحداث اللّه تعالى عند مباشرة العبد واكتسابه إياهما وهما يتعلقان بفعل فاعل مختار فإضافة حدوثهما إلى الأزمنة محال ولا يمكن أن يجعل وجوبهما حادثا بالوقت لأن الوجوب ليس بمضاف إلى الوقت بل نفس العبادة هي المضافة وهي ليست بحادثة بالوقت ولا يصح إضافة ما يحدث على زعم هذا القائل بالوقت إلى الوقت فإنك لو قلت وجوب الوقت كان فاسدا لا يفهم حدوثه به ولو قلت وجوب الصوم والصلاة لا يفهم حدوث الوجوب بفعل الصوم والصلاة والعجب من قوله والوجوب هو الحادث فدل أنه كان بالوقت كان ما اتصف بالوجوب ليس بحادث أو كان الوجوب هو المضاف أو ما اتصف بالوجوب ليس بمضاف وساق كلاما طويلا إلى أن قال والوجه الصحيح لترجيح جهة السببية على جهتي الشرط والظرف أن يقول ثمرة الإضافة التعريف ولن يحصل هو إلا بالاختصاص وهو تميز الشيء عن غيره بما يوجب ذلك من صفة لا يشاركه فيها غيره أو اسم علم أو نحو ذلك ثم قولك (٢/٤٩٧) صوم الشهر وصلاة الظهر تعريف لهما فيختص كل واحد منهما بصفة لا يشاركه فيها غيره من جنسه وذلك إما وجوده في الوقت وإما وجوبه به أو وجوبه فيه وجانب الوجود منتف لزوال الاختصاص بهذا الوصف فإن في وقت الظهر يوجد غيرها من الصلوات من القضاء والنذر والنوافل والسنن الرواتب وكذا الصوم في وقته غالب الوجود لا متيقن الوجود فإن نية النفل ممن يعلم أنه من رمضان يصح عند مالك ويقع عن النفل وكذا المسافر لو صام عن واجب آخر يقع عنه عند أبي حنيفة رحمه اللّه وكذا يتصور الانفكاك بين الوجود وبين الوقت فإن الامتناع عن أداء الصلاة والصوم من جملة الناس متصور وإذا كان كذلك لم يحصل الاختصاص بطريق اليقين فلم يحصل التعريف يقينا فأما الوجوب بالوقت أو فيه فمتيقن فكان صرف مطلق الكلام إليه أولى فصار مطلق الإضافة دليل تعلق الصوم به وجوبا إما بطريق السببية أو بالشرطية ثم يرجح جانب السببية على الشرطية لأن الحكم أقوى اختصاصا وآكد لزوما بالسبب منه بالشرط لأن تعلقه بالسبب تعلق الوجود وتعلقه بالشرط تعلق المجاورة كما في الظرف فكان اتصال الثبوت والوجود أقوى منه وكذا تعلق الحكم بالسبب بغير واسطة وتعلقه بالشرط بواسطة بل لا تعلق للشرط بالحكم فإنه لم يجعل شرطا لثبوت الحكم بل جعل لانعقاد العلة ولا شك أن ذلك الاختصاص بمقابلة هذا عدم واختصاص الحكم بالسبب حقيقي وبالشرط جار مجرى المجاز بمقابلة هذا فانصرفت الإضافة في الدلالة إلى هذا النوع من الاختصاص واللّه أعلم قوله وكذلك إذا لازمه دليل قوله وتعلقه به يعني كما أن الإضافة تدل على السببية تدل على ملازمة الشيء الشيء وتعلقه به وتكرره بتكرره على السببية أيضا لأن الأمور تضاف إلى الأسباب الظاهرة فلما تكرر الحكم بتكرر شيء دل على أنه حادث به إذ هو السبب الظاهر لحدوثه ثم الوجوب فيما نحن فيه أمر حادث ولا بد له من سبب يضاف إليه وليس هاهنا إلا الأمر أو الوقت ولا يجوز أن يضاف إلى الأمر لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار ولا يحتمله وإن تعلق بوقت أو شرط فإن من قال لعبده تصدق من مالي بدرهم إذا أمسيت أو إذا دلكت الشمس لا يقتضي التكرار كما لو قال تصدق من مالي بدرهم مطلقا على ما مر بيانه والتكرار ثابت هاهنا فتعين أن الوقت هو السبب وأن أصل الوجوب مضاف إليه وأن تكرره بسبب تكرره كسائر الأحكام المتعلقة بالأسباب مثل الحدود والكفارات فإنها تكرر بتكرر أسبابها قوله فإذا ثبت هذه الجملة ولما أثبت الشيخ أن للمشروعات أسبابا بين سبب (٢/٤٩٨) كل واحد منها وبدأ ببيان سبب وجوب الإيمان لأنه رأس العبادات فقال وجوب الإيمان باللّه تعالى كما هو أي الإيمان الذي هو مطابق للحقيقة بأن يؤمن بوجوده وبوحدانيته جل جلاله وبأسمائه مثل العليم والقادر والحكيم وسائر أسمائه الحسنى وصفاته مثل العلم والقدرة والحياة وجميع صفاته العلى والباء بمعنى مع والأسماء بمعنى التسميات يعني يصدق بقلبه ويقر بلسانه أنه تعالى واحد لا شريك له ولا مثل وأن له أسماء كاملة أي تسميات يصح إطلاقها على ذاته على الحقيقة كما يصح إطلاق العالم على زيد مثلا وهي قائمة بالواصف ووصف للموصوف وأن له جل جلاله صفات ثبوتية قديمة قائمة بذاته ليست عين ذاته ولا غيره تقدست أسماؤه وتنزهت صفاته لا كما زعمت المجسمة أنه جسم وأن صفاته حادثة ولا كما ذهبت المعطلة والفلاسفة إليه من إنكار الصفات ولا كما ظن البعض أن بعض الصفات قديم وبعضها حادث تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا فهو معنى قوله بأسمائه وصفاته مضاف إلى إيجابه أي إيجاب اللّه تعالى كسائر الإيجابات لكنه أي لكن وجوب الإيمان في الظاهر منسوب إلى حدث العالم تيسيرا على العباد لأن إيجابه غيب عنا فنسب إلى سبب ظاهر يمكن الوصول إلى معرفة الإيجاب بواسطته تيسيرا للأمر علينا وقطعا لحجج المعاندين إذ لو لم يوضع له سبب ظاهر ربما أنكر المعاند وجوبه ولم يمكن الإلزام عليه فوضع السبب الظاهر إلزاما للحجة عليه وقطعا لشبهته بالكلية ولأنه لو لم يجعل حدث العالم سببا ربما احتجوا يوم القيامة وقالوا ما ثبت لنا دليل الإيمان بك فلذلك لم نؤمن بك فجعل العالم سببا لوجوب الإيمان قطعا للجاجهم ثم حدث العالم يصلح سببا لوجوبه لأنه يدل على الصنعة والحدوث وهما يدلان على الصانع والمحدث فيستدل بهما على أزله محدثا موصوفا بصفات الكمال منزها عن النقيصة والزوال فيكون سببا لوجوبه كذا ذكر أبو اليسر وإليه أشار عمر رضي اللّه عنه في قوله البعرة تدل على البعير وآثار المشي تدل على المسير فهذا الهيكل العلوي والمركز السفلي أما يدلان على الصانع العليم الخبير وهذا السبب يلازم الوجوب يعني لا ينفك عن الوجوب ولا الوجوب عنه لأن المراد من كونه سببا أنه موجب لفعل العبد وهو التصديق والإقرار ولا يتصور وجوب الفعل إلا على من هو أهله إذ الحكم لا يثبت بدون الأهلية كما لا يثبت بدون السبب ولا وجود لمن هو أهل وجوب الإيمان على ما أجرى اللّه به سنته إلا (٢/٤٩٩) والسبب يلازمه إذ لا تصور للمحدث أن يكون غير محدث في شيء من الأوقات والإنسان المقصود به أي بخلق العالم أو بالتكليف وغيره من الملك والجن ممن يجب الإيمان عليهم كل واحد منهم عالم بنفسه لأن وجوده يدل على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته الكاملة كما يدل عليه العالم الأكبر فكان وجوب الإيمان دائما بدوام سببه غير محتمل للنسخ والتبديل وكان الشيخ إنما ذكر قوله لأنا لا نعني به كذا جوابا عما يقال كيف يصلح حدوث العالم سببا للإيمان الذي هو مبني على ثبوت وحدانية اللّه تعالى وهي أمر أزلي يستحيل أن يتعلق بسبب ويلزم منه تقدم المسبب على السبب أيضا فقال لا نعني به أنه سبب للوحدانية وإنما نعني به كذا وذكر في بعض الشروح أنه جواب عما يقال الإيمان يوجد بتوفيق اللّه تعالى وهدايته الذي هو غير مخلوق وبفعل العبد وكسبه الذي هو مخلوق فلا يستقيم أن يجعل حدث العالم سببا لفعل اللّه الذي هو غير مخلوق فقال إنما نجعله سببا لفعل العبد لا لفعل اللّه عز وجل ولكن على هذا الوجه كان ينبغي أن يقول لا نعني بهذا أن يكون سببا لتوفيق اللّه تعالى وهدايته وإنما نعني به كذا والوجه الأول أوفق لنظم الكتاب فإن قيل ما معنى قوله على ما أجرى به سننه وأنه يذكر فيما أمكن أن يكون الأمر على خلاف المذكور وها هنا لا يمكن أن ينفك السبب عن الوجوب لاستحالة زوال الحدوث عن المحدث ولم يذكر هذا اللفظ في عامة الكتب في هذا الموضع قلنا ذكر في بعض الشروح أن معناه أنه تعالى خلق من هو أهل لوجوب الإيمان عليه مع وجود أشياء أخر من السموات والأرض وغيرهما وكل ذلك سبب لوجوب الإيمان على من هو أهل له وإن كان يتصور وجود من هو أهل للوجوب بدون هذه الأشياء وهو مع ذلك يكون سببا لوجوب الإيمان عليه لكونه عالما بنفسه فمع وجود هذه الأشياء يتكثر أسباب وجوب الإيمان والأوجه أن يقال معناه أنه تعالى جعل حدث العالم الذي هو لازم للوجوب سببا وأمارة على إيجابه الذي هو فعله مع أنه يمكن أن يجعل شيئا آخر سببا وأمارة على إيجابه الإيمان لا يكون ذلك الشيء لازما للوجوب كما فعل كذلك في حق الصوم والصلاة فإن الوقت الذي هو سبب ليس بملازم للوجوب فإن الوجوب ثابت بعد مضي الوقت وانقضاء الشهر ولكنه جل جلاله أجرى سنته أن يكون سبب الإيمان شيئا دائما ملازما للوجوب ليدل على دوام الوجوب في جميع الأحوال (٢/٥٠٠) قوله ولهذا قلنا أي ولأن السبب يلازم من هو أهل له قلنا إن إيمان الصبي العاقل صحيح وإن لم يكن مخاطبا بأداء الإيمان في الحال ولا مأمورا به لأن الإيمان مشروع بنفسه لا يحتمل أن يكون غير مشروع وقد تحقق سببه في حقه ووجد ركنه وهو التصديق والإقرار عن معرفة وتمييز ممن هو أهله وهو الصبي فوجب القول بصحته كما إذا ثبت تبعا لأحد أبويه أما تحقق السبب فظاهر وأما وجود الركن فكذلك إذ الكلام في صبي عاقل مميز يناظر في وحدانية اللّه تعالى بالحجج وقد ضم الإقرار باللسان إلى التصديق بالقلب ولهذا صحت وصيته بأعمال البشر عند الخصم وأما الأهلية فلأن الإيمان قد يتحقق في حقه تبعا لأحد أبويه ولو لم يكن أهلا لما تحقق ذلك في حقه أصلا فبعد ذلك امتناع صحة الأداء لا يكون إلا بحجر شرعي والقول بالحجر عن الإيمان باللّه تعالى محال فلا يتصور أن يرد الشرع به فوجب القول بصحته ضرورة ثم سقوط الخطاب عنه بسبب الصبا يدل على سقوط لزوم الأداء الذي يحتمل السقوط في بعض الأحوال فإن الكافر إذا أراد أن يسلم فأكره على أن لا يسلم ولا يتكلم بكلمة الإسلام رخص له التأخير والمسلم إذا أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه رخص له ذلك لكنه لا يدل على عدم صحة الأداء فإن صحة الأداء يبتنى على كون المؤدى مشروعا بنفسه بعد قيام سببه من أهله لا على لزوم أدائه أي المؤدى كالدين المؤجل صح أداؤه قبل حلول الأجل لتقرر سببه وإن كان الخطاب بالأداء غير متوجه إليه في الحال وكالمسافر أو المريض إذا صام في حال السفر أو المرض صح الأداء لتحقق السبب في حق الأهل وإن لم يكن مخاطبا قبل إدراك عدة من أيام أخر قوله وما بين هذا أي ليس بين قولنا الصلاة واجبة بإيجاب اللّه تعالى وسبب وجوبها في الظاهر الوقت وبين قول من قال الزكاة واجبة بإيجاب اللّه تعالى وملك المال النامي سببه فرق وغرضه منه رد قول من فرق بين الواجبات البدنية وبين الواجبات المالية حيث جوز إضافة القسم الثاني إلى الأسباب دون القسم الأول وقوله وليس السبب بعلة (٢/٥٠١) جواب عما قالوا لا تأثير للوقت في إيجاب العبادة ليكون سببا لها فأما المال فله تأثير في إيجاب المواساة وللجناية أثر في إيجاب العقوبة فيمكن أن يضاف وجوب الزكاة إلى المال ووجوب القصاص إلى القتل العمد الذي هو جناية فقال ليس السبب بعلة عقلية ليشترط التأثير لصحتها كالكسر مع الانكسار بل هي علة جعلية وضعها الشارع أمارة على الإيجاب فلا يشترط لصحتها التأثير وذكر الشيخ رحمه اللّه في بعض نسخة في أصول الفقه في هذا الموضع أن الفرق بين العلة والسبب أن العلة ما يعقل معناه ويظهر تأثيره في الأحكام والسبب سبب وإن كان لا يعقل معناه قال ومثال هذا أفعال العباد فإن الأصل في فعل العبد لمولاه أن لا يصلح سببا لاستحقاق الجزاء على مولاه ولكن اللّه تعالى بفضله جعل أفعالهم سببا لإحراز الثواب في الآخرة فكذا هاهنا والدليل عليه أي على أن الوقت سبب وجوب الصلاة أنها أضيفت إلى الوقت بحرف اللام وبدونها قال اللّه تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس نسب الصلاة إلى وقت الدلوك بحرف اللام والنسبة باللام أقوى وجوه الدلالة على تعلق الصلاة بالوقت لأن اللام للتعليل والاختصاص كما يقال تطهر للصلاة وتأهب للشتاء ويقال اتخذ فلان الضيافة لفلان أي بسببه وخرج فلان لقدوم فلان يعني قدوم فلان سبب لخروجه كذا قاله أبو اليسر وأما الإضافة بدون اللام فإجماعهم على إضافة هذه الصلوات إلى الأوقات يقال صلاة الفجر وصلاة الظهر ونحوهما وقد ذكرنا أن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون ثابتا به كإضافة الولد إلى الوالد إذ الأصل في الإضافة أن تكون بأخص الأوصاف وأخص الأوصاف الوجوب لأن معنى الثبوت بالسبب سابق على سائر وجوه الاختصاص ومجموع قوله ويبطل قبل الوقت إلى قوله لزومها أي لزوم أدائها دليل واحد فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه سبب وعبارة شمس الأئمة ولهذا لا يجوز تعجيلها قبل الوقت ويجوز بعد دخول الوقت مع تأخر لزوم الأداء بالخطاب فإن قيل لا يفهم من وجوب العبادة شيء سوى وجوب الأداء ولا خلاف أن وجوب الأداء بالخطاب فما الذي يكون واجبا بسبب الوقت قلنا الواجب بسبب الوقت ما هو المشروع نفلا في غير الوقت الذي هو سبب الوجوب وبيان هذا في الصوم فإنه مشروع نفلا في كل يوم وجد الأداء أو لم يوجد وفي رمضان يكون مشروعا واجبا بسبب الوقت سواء وجد الخطاب بالأداء لوجود شرطه وهو التمكن من الأداء أو لم يوجد (٢/٥٠٢) وذكر الشيخ أبو المعين رحمه اللّه في طريقة الخلاف أن اللام في قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس وقوله عليه السلام صوموا لرؤيته ليست للتعليل لأنها لا تصلح لذلك إذ هي داخلة على الرؤية دون الوقت وهي ليست بعلة بالإجماع فما لم تدخل فيه أولى أن لا تكون علة فإن قلتم المراد ما يثبت بالرؤية وهو الشهر قلنا أتعنون به أن الوقت الذي وجدت فيه الرؤية سبب لصوم جميع الشهر أم تعنون أن كل يوم سبب على حدة للصوم فإن قلتم بالأول قد أقررتم ببطلانه وإن قلتم بالثاني فكيف عبر بالرؤية عن هذه الأوقات وهل في اللفظ ما ينبئ وضعا أو دلالة أن تذكر الرؤية ويراد منها جزء من يوم يوجد بعد ثلاثين يوما أو عشرين من وقت الرؤية فإن قلتم نعم فقد ادعيتم ما يعرف كل جاهل بطلانه وإن قلتم لا فقد أبطلتم الاستدلال بالخبر وكذا في قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس أيش تعنون بهذا أن العلة هي وقت الدلوك أم جزء واحد من الزمان هو معدوم عند الدلوك فإن قلتم بالأول فقد تركتم مذهبكم وإن قلتم بالثاني فنقول أي دلالة في الدلوك الذي هو فعل الشمس في زمان مخصوص على زمان آخر يوجد بعده من غير تعين بل على أجزاء متجددة يتعين بعضها سببا عند اتصال الأداء به على ما هو المذهب عندكم أفيه دليل على ما زعمتم من حيث العقل أم من حيث اللغة فأي الأمرين ادعيتم كلفتم بيانه ولن تقدروا عليه قال ثم ورود الحديث لبيان أن الصوم المأمور به في الشرع بقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه يؤدى في الشهر بعدد أيامه في الزيادة والنقصان ويبنى الأمر فيه على الرؤية دون العدد إلا إذا تعذر الوصول إلى معرفة العدد برؤية الهلال فحينئذ تكمل العدة ثلاثين يوما إبقاء لما كان على ما كان لا بيان العلة الموجبة للصوم وكذا قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس لبيان وقت أداء الصلاة الواجبة بقوله تعالى وأقيموا الصلاة لا لبيان السبب ومجيء اللام للوقت كثير شائع في الشرع واللغة قال عليه السلام المستحاضة تتوضأ لكل صلاة أي لوقت كل صلاة وقالت الخنساء تذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره لكل مغيب شمس أي لوقت مغيبها ويمكن أن يجاب عنه بأن ورود اللام للتعليل أكثر من ورودها (٢/٥٠٣) بمعنى الوقت وقد تأيد كونها للتعليل بتكرر الحكم عند تكرره وإضافة الواجب إليه شرعا وعرفا فحملت على التعليل وما ذكر من الترديدات وارد على تقدير كونها بمعنى الوقت أيضا لأن وقت الرؤية ليس بوقت الصوم بالإجماع وكذا زمان الدلوك وهو ساعة لطيفة لم تتعين لوقت الصلاة ولا دلالة لها على الزمان الذي يوجد قبيل صيرورة الظل مثلا ومثلين فكل جواب له عنها فهو جواب لنا قوله وسبب وجوب الزكاة ملك المال الذي هو نصابه أي نصاب وجوب الزكاة في ذلك المال مثل عشرين مثقالا في الذهب ومائتي درهم في الفضة وخمس ذود في الإبل وأربعين شاة في الغنم مضاف إلى المال والغنى قال عليه السلام هاتوا ربع عشور أموالكم وقال عليه السلام لا صدقة إلا عن ظهر غنى والغنى لا يحصل بأصل المال ما لم يبلغ مقدارا وأحوال الناس في ذلك مختلفة فقدر بالنصاب في حق الكل وينسب إليه بالإجماع فيقال زكاة المال ويتضاعف بتضاعف النصاب في وقت واحد أيضا ويجوز تعجيله بعد وجود ما يقع به الغنى وهو ملك النصاب فدل أنه سبب لأن جواز الأداء لا يثبت قبل السبب ألا ترى أنه لو ملك ما دون النصاب فعجل الزكاة ثم تم له ملك النصاب وحال الحول لا ينوب المؤدى عن الزكاة لعدم السبب وقوله غير أن الغنى جواب عما يقال لما تحقق السبب بملك النصاب وثبت الغنى ينبغي أن يجب الأداء في الحال ولا يتأخر إلى مضي الحول فقال أصل الغنى وإن كان يثبت بملك النصاب إلا أن تكامله متوقف على النماء لأن الحاجة إلى المال يتجدد زمانا فزمانا والمال إذا لم يكن ناميا تفنيه الحوائج لا محالة عن قريب وإذا كان ناميا تعين النماء لدفع الحوائج فبقي أصل المال فاضلا عن الحاجة فيحصل به الغنى ويتيسر عليه الأداء منه فشرط النماء لوجوب الأداء تحقيقا للغنى واليسر اللذين بنيت هذه العبادة عليهما ولا نماء إلا بالزمان فأقيم الحول مقام النماء لأنه مدة مستجمعة للفصول الأربعة المختلفة التي لها تأثير في حصول النماء (٢/٥٠٤) من عين السائمة بالدر والنسل ومن أموال التجارة بالربح بزيادة القيمة لرغبات الناس في كل فصل إلى ما يناسبه فصار مضي الحول شرطا لوجوب الأداء ثم يلزم على ما ذكرنا أن بتكرر الشرط لا يتكرر الواجب وقد يتكرر الوجوب هاهنا في مال واحد باعتبار الأحوال المتكررة فأشار إلى الجواب عنه وقال المال الواحد يتجدد النماء فيه بمنزلة المتجدد بنفسه لأن المال بوصف النماء صار سببا للوجوب فيكون تجدده بمنزلة تجدد المال كالرأس في صدقة الفطر لما صار سببا بوصف المؤنة صار بمنزلة المتجدد بتجدد المؤنة فعرفنا أن تكرر الوجوب باعتبار تكرر السبب تقديرا قوله وسبب وجوب الصوم يعني صوم شهر رمضان واللام للعهد أيام شهر رمضان اتفق المتأخرون من مشايخنا مثل القاضي الإمام أبي زيد وشمس الأئمة والشيخ المصنف وصدر الإسلام أبي اليسر ومن تابعهم على أن سبب وجوب الصوم الشهر لأنه يضاف إليه ويتكرر بتكرره ويصح الأداء بعد دخول الشهر ولا يصح قبله لكنهم اختلفوا بعد ذلك فذهب الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه اللّه إلى أن السبب مطلق شهود الشهر حتى استوى في السببية الأيام والليالي متمسكا بأن الشهر اسم لجزء من الزمان مشتمل على الأيام والليالي وإنما جعله الشرع سببا لإظهار فضيلة هذا الوقت وهي ثابتة للأيام والليالي جميعا والدليل عليه أن من كان مفيقا في أول ليلة من الشهر ثم جن قبل أن يصبح ومضى الشهر وهو مجنون ثم أفاق يلزمه القضاء ولو لم يتقرر السبب في حقه بما شهد من الشهر في حال الإفاقة لم يلزمه القضاء وكذلك المجنون إذا أفاق في ليلة ثم جن قبل أن يصبح ثم أفاق بعد مضي الشهر يلزمه القضاء وكذا نية أداء الفرض تصح بعد وجود الليلة الأولى بغروب الشمس قبل أن يصبح ومعلوم أن نية أداء الفرض قبل تصور سبب الوجوب لا تصح ألا ترى أنه لو نوى قبل غروب الشمس لا تصح نيته ويؤيده قوله عليه السلام صوموا لرؤيته فإنه نظير قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس ولا معنى لقول من قال لو كان سببا لجاز الأداء فيه لأن صحة السبب لا يتوقف على تمكن الأداء فيه فإن من أسلم في آخر الوقت يلزمه فرض الوقت وإن لم يثبت التمكن من الأداء فيه بل الشرط احتمال الأداء في الوقت وهو ثابت ولهذا لو أسلم في آخر (٢/٥٠٥) يوم من رمضان بعد الزوال أو قبله لم يلزمه الصوم وإن أدرك جزءا من الشهر لانقطاع احتمال الأداء في الوقت وذهب القاضي الإمام أبو زيد والشيخ المصنف وصدر الإسلام أبو اليسر إلى أن سبب وجوب الصوم أيام شهر رمضان دون الليالي أي الجزء الأول الذي لا يتجزأ من كل يوم سبب لصوم ذلك اليوم فيجب صوم جميع اليوم مقارنا إياه لأن الواجب في الشهر أشياء متغايرة إذ صوم كل يوم عبادة على حدة غير مرتبط بغيره لاختصاصه بشرائط وجوده وانفراده بالارتفاع عند طروء الناقض كالصلوات في أوقاتها بل التفرق في الصيام أكثر منه في الصلوات فإن التفرق في الصلوات باعتبار أن أداء الظهر لا يجوز في وقت الفجر ويفوت بمجيء وقت العصر قبل أداء الظهر وهذا المعنى فيما نحن فيه موجود وزيادة وهي أن بين كل يومين وقتا لا يصلح للصوم لا أداء ولا قضاء لما مضى ولا نفلا وإذا كان كذلك كان كل عبادة متعلقة بسبب على حدة وذلك بالطريق الذي قلنا ولأن اللّه تعالى إذا جعل وقتا سببا لعبادة فذلك بيان شرف ذلك الوقت لحق تلك العبادة والعبادة في الأداء دون الإيجاب فإنه صنع اللّه تعالى فلم يستقم الوقت المنافي للأداء شرعا سببا لوجوبه فعلمنا أن الأسباب هي الأيام دون الليالي وهو معنى قول الشيخ والوقت متى جعل سببا كان ظرفا للأداء أي محلا له كوقت الصلاة لما جعل سببا لوجوبها كان محلا لأدائها والمراد من كونه ظرفا هاهنا أن الواجب يؤدى فيه لا أن الوقت يفضل عن الأداء وأما الجواب عن كلام شمس الأئمة فهو أن شرف الليالي باعتبار شرعية الصوم في أيامها فكان شرفها تابعا لشرف الأيام أو شرفها باعتبار كونها أوقاتا لقيام رمضان وكلامنا في شرف يحصل باعتبار السببية وذلك بأن يكون محلا لأداء مسببه وأما عدم سقوط الصوم عن المجنون الذي لم يفق إلا في جزء من الليلة فلأنه أهل للوجوب مع الجنون إلا أن الشرع أسقط عنه عند تضاعف الواجبات دفعا للحرج واعتبر الحرج في حق الصوم باستغراق الجنون جميع الشهر ولم يوجد وأما جواز النية في الليل فباعتبار أن الليل جعل تابعا لليوم في حق هذا الحكم ضرورة تعذر اقتران النية بأول أجزاء الصوم الذي هو شرط على ما بينا في مسألة التبييت فأقيمت النية في الليل مقام النية المقترنة بأول الصوم ولا ضرورة فيما نحن فيه واللّه أعلم هذا هو الأصل احتراز عن الشرط فإن الحكم قد يتعلق به وجودا ولهذا أي ولأن كل يوم سبب لوجوب صومه وقد مرت أحكام هذا القسم أيضا كأحكام الصلاة في باب تقسيم المأمور به في حق الوقت (٢/٥٠٦) قوله وسبب وجوب صدقة الفطر رأس يمونه أي يقوم المكلف بكفايته ويتحمل مؤنته بولايته أي بسبب ولايته عليه مثل التزويج والإجارة وغير ذلك إذ الباء بمعنى مع ومعنى الولاية تنفيذ القول على الغير شاء الغير أو أبى وحاصله أن الرأس بصفة المؤنة والولاية جعل سببا لصدقة الفطر عندنا وعند الشافعي رحمه اللّه السبب رأس يلزمه مؤنته ويعقبه كذا ذكر أبو اليسر وذكر غيره أن السبب هو الوقت عند الشافعي بدليل إضافتها إليه يقال صدقة الفطر وبدليل تكررها بتكرر الوقت في رأس واحد ولكنا نقول الأصل في هذا الباب رأسه والصدقة جعلت مؤنة شرعية والمؤنة الأصلية تتعلق بكونه مالك رأسه ووليه فكذا الصدقة وكذا رأس غيره يلتحق برأسه بمؤنة الرأس بسبب المالكية والولاية ليصير كرأسه كذا في الأسرار فإذا عدمت الولاية في حق المرأة والابن الزمن البالغ المعسر لم يجب الصدقة على الزوج والأب وإن وجدت المؤنة وإذا عدمت المؤنة بأن كان للصغير مال حتى وجبت نفقته فيه لم تجب صدقته على الأب أيضا عند أبي حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه وإن وجدت الولاية قال نهج الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه وإنما اعتبرنا المعنيين جميعا بالشرع وبدلالة من المعنى أما الشرع فلأنه عليه السلام قال أدوا عمن تمونون فقد اعتبر المؤنة وأما الولاية فلأنه عليه السلام لما أوجب في الصغار والمماليك فقد اعتبر الولاية أيضا فدل أنه لا بد من اعتبار المعنيين جميعا وأما المعنى فلأن الأصل في الوجوب رأس الإنسان وإنما يلحق رأس غيره به إذا كان في معناه إلى آخر ما ذكرنا ثبت ذلك أي كون الرأس سببا بقوله عليه السلام كذا وبيانه أي بيان ثبوت كون الرأس سببا بهذين الحديثين أن كلمة عن لانتزاع الشيء أي لانفصال الشيء عن الشيء وتعديه منه يقال رميت عن القوس وأخذت عنه حديثا أي انفصل عنه إلي وبلغني عنه كذا أي تعدى وتجاوز عنه إلي وأخذت الدرة عن الحقة أي نزعتها عنها فيدل أي حرف عن أو الحديث على أحد الوجهين بالاستقراء إما أن يكون ما دخل عليه عن سببا ينتزع الحكم عنه أي عن السبب كما يقال أد الزكاة عن ماله وأد الخراج عن أرضه أي بسببهما ويقال سمن عن أكل وشرب أي بسببهما وكقوله تعالى يؤفك عنه من أفك إذا جعل الضمير راجعا إلى قول مختلف أي يصدر إفكهم عن القول المختلف فيكون معناه أدوا الصدقة الواجبة الناشئة عن كذا أو (٢/٥٠٧) محلا يجب الحق عليه فيؤدى عنه كالدية تجب على القاتل ثم يتحمل العاقلة عنه لاستحالة الوجوب على العبد لأنه لما لم يتصور أن يكون مالكا لشيء لأنه مملوك استحال تكليفه بما ليس في وسعه ذلك والكافر لأنها قربة وهو ليس من أهلها والفقير لأنه ليس على الجراب خراج فتعين أن المراد انتزاع الحكم عن سببه وأن ما دخل عليه كلمة عن سبب وذكر في الأسرار في مثلية وجوب صدقة الفطر عن عبده الكافر أن الوجوب على العبد على أصل الشافعي والمولى ينوب عنه كالنفقة لأن النبي عليه السلام لما قال أدوا عن كل حر وعبد علم أن الوجوب على العبد إذا لو لم يكن كذلك لكان أداء المولى عن نفسه لا عن العبد ألا ترى أنه لا يقال في الزكاة أد عن الشاة أو أد عن العبد وإنما يقال أدوا من أموالكم ثم ذكر في الجواب عنه أن الوجوب ليس على العبد لأنه صار كالبهيمة في باب الولاية والمؤنة فلا يتحقق السبب في حقه ومعنى قوله عليه السلام أدوا عنه على سبيل المجاز فإنه من حيث إنه إنسان مخاطب وهذه صدقة فالظاهر أنها عليه كالنفقة والمولى ينوب عنه ولكن في باطن المعنى فلا وجوب عليه لأنه التحق بالبهيمة فيما ملك عليه والأجزاء التي تحتاج إلى النفقة مملوكة والصدقة كذلك تجب بسبب الرأس كالنفقة فعلى اعتبار أصل الخلقة الوجوب على العبد وعلى اعتبار العارض على المولى فصحت العبارة بكلمة عن إشارة إلى المعنى الأصلي ولذلك أي ولكون الرأس سببا تضاعف وجوب صدقة الفطر بتضاعف الرءوس في وقت واحد ولو كان الوقت سببا لما تضاعف بتعدد الرأس فدل أن الرأس هو السبب دون الوقت ولكن الوقت شرطه حتى لا يعمل السبب أي لا يجب الأداء إلا بهذا الشرط وهو الوقت كالنصاب لا يظهر عمله في إيجاب أداء الزكاة إلا عند مضي الحول قوله وإنما نسبت إلى الفطر جواب عما قال الشافعي رحمه اللّه إن إضافتها إلى الوقت تدل على أنه سبب فقال إنما نسبت إلى الفطر مجازا باعتبار أنه زمان الوجوب فلا يدل على كونه سببا وإنما حملناها على المجاز لأن الإضافة تحتمل المجاز فإن الشيء قد يضاف إلى الشيء بأدنى ملابسة وأضيفت الحجة إلى الإسلام الذي هو شرطها فقيل حجة الإسلام ويقال بنو فلان لنوافله على سبيل المجاز فأما تضاعف الوجوب بتضاعف الرءوس فأمر حقيقي لا يقبل الاستعارة لأنها من أوصاف اللفظ وهذا ليس بلفظ فكان (٢/٥٠٨) التضاعف بمنزلة المحكم في كونه دليلا على السببية فإن الحكم لا يحتمل أن يتكرر بتكرر الشرط بوجه وإنما يكون أي الوجوب بسبب أو علة وقد ذكرنا الفرق بين السبب والعلة فلذلك جعلنا الرأس سببا والوقت شرطها فإن قيل أليس يتكرر هذا الواجب بتكرر الوقت مع اتحاد السبب قلنا لم يتكرر بتكرر الوقت بل بتكرر الحاجة والمؤنة أبدا يتكرر وجوبها بتكرر الحاجة فالشرع جعل يوم الفطر وقت الحاجة فإذا جاء يوم الفطر تجددت الحاجة فتجدد الوجوب لأجله وذكر الشيخ في شرح التقويم أن الإضافة قد تحققت إلى الرأس والوقت فيجب أن يكون لكل واحد منهما حظ من الوجوب بحكم الإضافة وذلك إذا جعلنا الرأس سببا والوقت زمان الوجوب فيثبت لكل واحد منهما اتصال بالوجوب ل أحدهما من حيث إنه سبب وللآخر من حيث إنه شرط فأما إذا جعلنا الفطر سببا فلا يبقى للرأس اتصال بالواجب لأنه لا يجب على العبد والكافر شيء ليجعل الرأس شرطا باعتبار المحلية بل يجب على المولى لأجله فإذا أضيفت إلى رأس العبد فأي اتصال يبقى له بالواجب فلا وجه لهذا فثبت أن الرأس سبب فإن قيل نجعل الرأس شرطا من حيث الوجوب على المولى لا من حيث الوجوب على العبد كما جعلتم الوقت شرطا للوجوب على المولى بسبب الرأس قلنا حينئذ لا يتكرر بتكرر الشرط وهو الرأس وإنما يتكرر بتكرر السبب وإن اتحد الشرط وقد تكرر بتكرر الرأس بالاتفاق فدل أن السبب هو الرأس والوقت شرط الوجوب كوقت الحج وكذلك وصف المؤنة يرجح الرأس في كونه سببا لأن هذه الصدقة وجبت وجوب المؤن فإن النبي عليه السلام أجراها مجرى المؤن في قوله أدوا عمن تمونون أي تحملوا هذه المؤنة عمن وجب عليكم مؤنتهم والأصل في وجوب المؤن رأس يلي عليه لا الوقت فإن نفقة العبيد والدواب تجب بالرأس لا بالوقت إذ الرأس هو المحتاج إلى المؤنة دون الوقت وكذلك مؤنة الشيء سبب لبقائه وذلك يتصور في الرأس دون الوقت فكان الرأس سبب الوجوب كما هو سبب وجوب النفقة والفطر عن رمضان شرطه كالإقامة في حق المسافر والمراد بالفطر اليوم لا الفطر عن الصوم فإنه يكون كل ليلة فيكون المراد فطرا مخصوصا وهو الفطر في وقت الصوم فإنه يتصف بهما والليل لا يتصف بالصوم شرعا والفطر بناء عليه فكان اليوم وقتا له وقد بينا معنى المؤنة منه أي من هذا (٢/٥٠٩) الواجب في موضعه وذكر الشيخ في نسخة من نسخ أصول الفقه التي صنفها أن الإنسان يحتاج إلى صيانة دينه وإصلاحه كما يحتاج إلى صيانة نفسه بالإنفاق عليها وهذه الصدقة مؤنة شرعية وجبت لإصلاح عبادة الصوم حيث قال عليه السلام صدقة الفطر طهرة للصائم عن اللغو والرفث والنفقة لإصلاح البدن والعبد محتاج إليهما جميعا فهذا هو معنى المؤنة فيها وذكر الشيخ أبو الفضل الكرماني رحمه اللّه في إشارات الأسرار أن السبب رأس يمونه ويلي عليه والدليل عليه قوله عليه السلام صدقة الفطر طهرة للصائمين وطعمة للمساكين فقوله طهرة إشارة إلى معنى العبادة وقوله طعمة إشارة إلى معنى المؤنة فكانت الصدقة مشتملة على الوصفين معنى العبادة والمؤنة فتعلقت برأس يمونه ويلي عليه لأن الولاية من باب العبادة والمؤنة من باب الغرامة ليكون الحكم على وفاق السبب ولهذا تضاف إلى الرأس فيقال زكاة الرأس وتضاف إلى الوقت أيضا فيقال زكاة الفطر والمراد به وقته فكانت الإضافة إلى الرأس إضافة الأحكام إلى أسبابها والإضافة إلى الوقت على سبيل الشرطية لأنه ظرف إذ لو قلت الوقت سبب لكانت الإضافة إلى الرأس لغوا قال وذكر القاضي الإمام أبو نصر الزوزني رحمه اللّه أن السبب كلاهما الرأس والوقت فكان حكما معلقا بعلة ذات وصفين ثم قال والمسائل تستغني عن هذا الأصل قوله وسبب وجوب الحج البيت دون الوقت لأنه نسب إليه ولو يتكرر أي لم يجب إلا مرة لأن السبب وهو البيت غير متجدد قال أبو اليسر إن للبيت حرمة شرعا فيجوز أن يصير سببا لزيارته شرعا فإن المكان المحترم قد يزار تعظيما له واحتراما إلا أن احترامه للّه تعالى فيكون زيارته تعظيما للّه عز وجل لا له ولأن هذا البيت لحرمته أمان للخلق فكان نعمة في نفسه فصار سببا لكونه نعمة وأما الوقت فهو شرط الأداء أي شرط جواز الأداء لعدم صحة الأداء بدونه وليس بسبب للوجوب بدليل أنه لا يتكرر بتكرره ولم ينسب إليه أيضا وتوقف صحة الأداء عليه مع انتفاء التكرر بتكرره دليل الشرطية غير أن الأداء أي لكن الأداء جواب عما يقال وقت الحج أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر (٢/٥١٠) من ذي الحجة والأداء غير جائز لأول شوال فكيف يقال إنه شرط الأداء فعلم أنه سبب الوجوب إذ لو لم يكن سببا له لم يكن إضافة الوقت إليه مفيدة وقد يقال أشهر الحج كما يقال وقت الصلاة فدل أنه سبب فقال الوقت شرط الأداء كما ذكرنا ويجوز الأداء بعد دخوله لكن هذه عبادة ذات أركان شرع أداؤها متفرقا منقسما على أمكنة وأزمنة واختص كل ركن بوقت على حدة كما اختص بمكان مخصوص فلم يجز قبل وقته الخاص كما لا يجوز في غير مكانه فلذلك لم يجز طواف الزيارة يوم عرفة مع أنه وقت أداء الركن الأعظم وهو الوقوف ولم يجز رمي اليوم الثاني في اليوم الأول ولا قبل الزوال حتى أن ما كان منها غير موقت بوقت خاص يتأدى في جميع وقت الحج كالسعي فإن من طاف وسعى في رمضان لم يكن سعيه معتدا به من سعي الحج حتى إذا طاف للزيارة يوم النحر يلزمه السعي ولو كان طاف وسعى في شوال كان سعيه معتدا به حتى لم يلزمه إعادته يوم النحر لأن السعي غير موقت بوقت خاص فجاز أداؤه في أشهر الحج وأما الاستطاعة بالمال فشرط أي شرط لوجوب الأداء لا لجوازه فإن الأداء صحيح من الفقير وإن كان لا يملك شيئا ولكنها شرط وجوب الأداء فإن السفر الذي يوصله إلى الأداء لا يتهيأ له بدون الزاد والراحلة إلا بحرج عظيم وهو مدفوع فعرفنا أن المال شرط وجوب الأداء لا أنه سبب والدليل عليه أن تفسير الاستطاعة ملك الزاد والراحلة والأداء قبل ملكهما جائز كما ذكرنا لوجود السبب كما يجوز للمسافر أن يصوم قبل الإقامة لأن السبب قد وجد وكذلك لا يتجدد الوجوب بتجدد الاستطاعة ولا يضاف إليها كما لا يضاف إلى الوقت ولا يتجدد بتجدده فعلم أن الاستطاعة شرط كالوقت فصار تأويل الآية واللّه أعلم وللّه على الناس المستطيعين حج البيت حقا واجبا بسببه إذا جاء وقت الأداء كذا في التقويم قوله وسبب وجوب العشر الأرض النامية بحقيقة الخارج الباء يتعلق بالنامية وهو احتراز عن الخراج فإن سببه الأرض بالنماء التقديري وعند الشافعي الخارج سبب وجوب العشر والأرض سبب وجوب الخراج حتى أنهما يجتمعان في أرض واحدة إن كانت الأرض خراجية لأن العشر يتعلق بالخارج ويتكرر بتكرره ولهذا لا يجوز تعجيله ولو كان الأرض هي السبب لجاز تعجيله كالخراج وكالزكاة قبل الحول ولنا أنه ينسب إلى الأرض (٢/٥١١) يقال عشر الأراضي والأرض توصف به فيقال أرض عشرية والشيء يضاف إلى سببه في الأصل ويتصف السبب بحكمه والدليل عليه أن هذا حق مالي وجب للّه تعالى فكان سببه مالا ناميا والخارج غير موصوف بصفة النماء بل معد للانتفاع والإتلاف إنما الأرض هي الموصوفة به إلا أن نماء الأرض على وجهين نماء حقيقي وهو الخارج ونماء حكمي وهو التمكن من الانتفاع والزراعة وكل واحد منهما يصلح سببا لوجوب حق اللّه تعالى كما في الزكاة فإنها تارة تجب بنماء حقيقي وهو نماء الإسامة من الدر والنسل وتارة تجب بالنماء الحكمي وهو كون المال معدا للتجارة فالعشر يتعلق بالنماء الحقيقي لأنه مقدر بجزء من الخارج فلا يمكن أداؤه إلا بعد تحقق الخارج والخراج مقدر بالدرهم فجاز أن يكون متعلقا بالنماء الحكمي وفي العشر معنى المؤنة أي وجوب العشر معنى مؤنة الأراضي لأنها أي الأراضي أصل في وجوبه يعني إذا وجب العشر يجب مؤنة للأرض حتى لا يشترط فيه الأهلية الكاملة لأن اللّه تعالى حكم ببقاء العالم إلى الحين الموعود وسبب بقائه هو الأرض فإن القوت منها يخرج فوجب العشر والخراج عمارة لها ونفقة عليها كما وجب على الملاك مؤنة عبيدهم ودوابهم وعمارة دورهم وعمارة الأراضي وبقاؤها بجماعة المسلمين لأنهم يذبون عن الدار ويصونونها عن الأعداء فوجب الخراج للمقاتلة كفاية لهم ليتمكنوا من إقامة النصرة والعشر للمحتاجين كفاية لهم لأنهم هم الذابون عن حريم الإسلام معنى كما قال عليه السلام يوم بدر إنكم تنصرون بضعفائكم فكان الصرف إليهم صرفا إلى الأرض وإنفاقا عليها فهذا هو معنى المؤنة فيه وفيه معنى العبادة أيضا باعتبار كون الواجب جزءا من النماء قليلا من كثير كالزكاة تتعلق بالمال النامي بهذه الصفة فاشتمل على معنى المؤنة والعبادة ولما كانت الأرض التي هي سبب لوجوبه أصلا والنماء الذي تعلق به معنى العبادة وصفا لها كان معنى المؤنة فيه أصلا ومعنى العبادة فيه تبعا وقوله وصار السبب بتجدد وصفه متجددا جواب عن استدلال الخصم يعني تكرر الواجب عند تكرر الخارج باعتبار تجدد الأرض به تقديرا لا باعتبار أن الخارج سبب كما (٢/٥١٢) قلنا في النصاب الواحد بتكرر الحول والرأس الواحد بتجدد الفطر ولا يتكرر الخراج في سنة واحدة لأن النماء التقديري غير متكرر ولم يجز التعجيل أي تعجيل العشر قبل الخارج لأن الخارج لما جعل بمعنى السبب لوصف العبادة في العشر كان التعجيل قبل الخارج مفوتا لمعنى العبادة عنه ومبطلا له لاستحالة حصول المسبب قبل السبب وإذا بطل معنى العبادة عنه بقي مؤنة خالصة متعلقة بالأرض وحدها وهذا تغيير له فلا يجوز فصار تعجيل العشر قبل الخارج كتعجيل الزكاة في الإبل الحوامل والعلوفة قبل الإسامة بخلاف الخراج فإن تعجيله يجوز لأنه مؤنة محضة ولا يؤدي التعجيل فيه إلى تغيير كما يجوز تعجيل الزكاة بعد ملك النصاب النامي لأنه لا يؤدي إلى التغيير قوله وكذلك سبب الخراج أي وكما أن سبب العشر الأرض فإن سبب الخراج الأرض النامية أيضا لكن النماء معتبر في الخراج تقديرا لا تحقيقا بالتمكن من الزراعة لما قلنا إن الواجب من غير جنس الخارج فلم يتعلق بحقيقة الخارج وعلق بالتمكن من الزراعة لئلا يتعطل حق المقاتلة فصار مؤنة باعتبار الأصل أي باعتبار تعلقه بأصل الأرض كما بينا في العشر وعقوبة باعتبار الوصف وهو التمكن من طلب النماء بالزراعة لأن الاشتغال بالزراعة عمارة الدنيا وإعراض عن الجهاد فيصلح سببا للمذلة التي هي نوع عقوبة لأن عمارة الأرض من صنيع الكفار وعادتهم وقد ذمهم اللّه تعالى بذلك في قوله عز اسمه وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وقال عليه السلام إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظهر عليكم عدوكم ورأى النبي عليه السلام شيئا من آلات الزراعة في بيت فقال ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا ولهذا كان أصل الخراج على الكافر حيث لم يقبل الإسلام واشتغل بعمارة الدنيا فوضع عليهم الخراج لضرب من المذلة كما وضعت الجزية على رءوسهم لذلك والخراج في الأراضي أصل لأنه كان موجودا قبل الإسلام إلا أن الشرع نقل عنه إلى العشر في حق المسلم وأوجب الصرف إلى مصارف الزكاة ليتصل به نوع عبادة تكرمة للمسلمين ولهذا لا يبتدأ الخراج على المسلم لأن فيه نوع صغار ومذلة وجاز البقاء باعتبار المؤنة ولا يقال بأن وجود الخارج لا (٢/٥١٣) ينفك عن الزراعة ومع ذلك يجب العشر لأنه اعتبر في حق وجوب العشر اكتساب المال فقط كاكتساب مال تجب فيه الزكاة لأن عمارة الدنيا والاشتغال بها في حق الكفار أصل وفي حق المسلم عارض فلا يعتبر العارض في جعل العشر عقوبة ولأن الاشتغال بالزراعة مع الإعراض عن الدين والجهاد سبب للمذلة لا نفس الزراعة قال عليه السلام اطلبوا الرزق في خبايا الأرض ولا يتحقق الإعراض في حق المسلم فكانت اكتسابا ولأن معنى الزراعة غير معتبر في العشر حتى وجب العشر إن خرج من الأرض شيء من غير أن يزرع ولذلك لم يجتمعا عندنا أي ولأن سبب كل واحد منهما الأرض النامية لا يجتمع العشر والخراج في أرض واحدة وجوبا لأن كل واحد مؤنة وفي العشر معنى العبادة وفي الخراج معنى المذلة والعقوبة وبسبب واحد لا يجب حكمان مختلفان وقولهم محل كل واحد مختلف لا يغني عنهم شيئا لأن المحل قد يكون متحدا أيضا إذ الخراج قد يكون مقاسمة وقد روى الإملي في مسنده عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يجتمع في أرض مسلم عشر وخراج وكذلك أئمة العدل والجور لم يشتغلوا بذلك مع كثرة احتيالهم لأخذ المال قوله وسبب وجوب الطهارة الصلاة اختلفوا في سبب وجوب الوضوء فقيل سببه الحدث لا الصلاة لأن النبي عليه السلام لا وضوء إلا عن حدث وحرف عن في مثل هذا الموضع يدل على السببية كما قلنا في قوله عليه السلام أدوا عمن تمونون ولأنه يتكرر بتكرر الحدث وتكرر الصلاة بتكرر الوقت ولا يتكرر بتكرر الصلاة فإنه متى قام إلى الصلاة وهو طاهر لا يجب عليه الوضوء فعلمنا أن السبب هو الحدث ولا معنى لقول من قال إنه لا يجتمع مع الوضوء فكيف يجعل سببا له لأنا إنما جعلناه سببا لوجوب الوضوء لا لحصوله ولا نسلم أنه لا يجتمع مع وجوبه والصحيح أن سبب وجوب الطهارة الصلاة أعني وجوب الصلاة أو إرادة الصلاة لأنها أي الطهارة تضاف إلى الصلاة شرعا وعرفا يقال طهارة الصلاة وتطهر للصلاة والإضافة دليل السببية في الأصل وتقوم بها أي تثبت الطهارة بالصلاة حتى وجبت بوجوب الصلاة وسقطت بسقوطها وهذا التعلق دليل السببية أيضا وهي أي الطهارة شرط الصلاة وما يكون شرطا للشيء كان وجوبه بوجوب الأصل كاستقبال القبلة وستر العورة وطهارة الثوب في الصلاة فإن وجوبها متعلق (٢/٥١٤) بوجوب الصلاة وكالشهادة في النكاح ثبوتها بثبوت النكاح وهذا لأن الشرط تبع للمشروط فيتعلق به فلو تعلق بسبب آخر كان تبعا له فلا يبقى تبعا للمشروط ولا نسلم أن وجوب الوضوء يتكرر بتكرر الحدث بل يتكرر بتكرر الصلاة إلا أن الحدث شرط وجوبه كالاستطاعة في الحج لأن الغرض منه تحصيل صفة الطهارة لحل الصلاة فإذا كانت هذه الصفة حاصلة لا يؤثر السبب في إيجابه كاستقبال القبلة وستر العورة وطهارة الثوب إذا كانت حاصلة لا يجب تحصيلها وإن وجد السبب فكذا هاهنا والدليل على أن الحدث ليس بسبب أن الوضوء على الوضوء مشروع حتى كان نورا على نور وبعد تحقق الحدث لا يجب بدون وجوب الصلاة فإن الجنب إذا حاضت لا يجب عليها الاغتسال ما لم تطهر حتى لم تجب قصدا لكنها عند إرادة الصلاة حتى قيل إن من توضأ ولم يصل بذلك الوضوء خاصمه ذلك الوضوء يوم القيامة وروي في ذلك حديث ألا يرى أنه أي الحدث إزالة له أي للوضوء وتبديل لصفة الطهارة بصفة النجاسة وما يكون رافعا للشيء ومزيلا له لا يصلح سببا له ولا يتخالجن في وهمك أن الطهارة شرط الصلاة بالاتفاق فيمنع ذلك من إضافتها إلى الصلاة لأن كونها شرطا لها يقتضي تقدمها وكونها مضافة إلى الصلاة وحكما لها يقتضي تأخرها فلا يمكن اجتماعهما فيضاف إلى الحدث لأن وجودها شرط صحة أداء الصلاة لا وجوب الصلاة فكونها شرطا للأداء لا يمنع من إضافة وجوبها إلى وجوب الصلاة لتغايرهما ولا يقال لو كان وجوبها مضافا إلى الصلاة ينبغي أن لا يجوز التوضؤ قبل الوقت لأنه يؤدي إلى تقديم الحكم على السبب لأنا نقول وجوب الصلاة وإرادتها سبب لوجوب الطهارة لا لشرعيتها ووجوبها لا يثبت قبله إلا أنه لما توضأ قبل ودام وصف الطهارة إلى حال الأداء لا يجب عليه إعادة الوضوء لحصول الشرط كما إذا ستر العورة أو استقبل القبلة قبل الوقت واستدام إلى حال الأداء إذ الشرط يراعى وجوده لا وجوده قصدا قوله وسبب الكفارات أي سبب وجوبها ما أضيفت الكفارات إليه من أمر دائر أي متردد بين حظر وإباحة مثل الفطر في رمضان بصفة الجنابة فإنه من حيث إنه يلاقي فعل نفسه الذي هو مملوك له مباح ومن حيث إنه جناية على العبادة محظور كذا في شرح التقويم وفيه وجه آخر يعرف في باب معرفة الأسباب وقتل الخطأ لأنه دائر بين الحظر والإباحة فمن حيث إنه لم يقصد القتل بل قصد الصيد ونحوه مباح ومن حيث (٢/٥١٥) إنه مقصر محظور وقتل الصيد فإنه مباح من حيث إنه اصطياد ومحظور من حيث إنه جناية على الإحرام وكذا الارتفاق باللبس والطيب والأهل فإن هذه الأشياء حلال في ذواتها إلا أنها حرمت عليه لمعنى في غيرها وهو تحقيق معنى السفر فإن العادة جرت أن المسافر لا يتمتع بأهله وماله إلا بعد بلوغه بما له فاللّه تعالى حرم التمتع بهذه الأشياء في هذا السفر لتحقيق معنى السفر فكانت حراما لمعنى في غيرها فدارت بين الحظر والإباحة فصلحت سببا للكفارة ولهذا لا يجب شيء من الكفارات على الصبي فإنها لما كانت دائرة بين العبادة والعقوبة والعبادات شرعت ابتلاء والصبي ليس من أهل الابتلاء والعقوبات شرعت جزاء فعل محظور وفعله لا يوصف بالحظر فلا يجب الكفارة عليه كذا ذكر الشيخ رحمه اللّه واليمين اليمين سبب للكفارة بلا خلاف لإضافة الكفارة إليها شرعا وعرفا قال اللّه تعالى ذلك كفارة أيمانكم ويقال كفارة اليمين إلا أنها سبب بصفة كونها معقودة عندنا وشرط وجوبها فوات البر وموجبها الأصلي وجوب البر والكفارة وجبت خلفا عنه عند فواته ليصير باعتبارها كأنه تم على بره وعند الشافعي رحمه اللّه هي سبب بصفة كونها مقصودة ويجب الكفارة بها أصلا لا خلفا عن البر وشرطها فوت الصدق من الخبر الذي عقد عليه اليمين فيجب الكفارة في الغموس لوجود الشرط هو يقول الكفارة مؤاخذة شرعت سترا للذنب ومحوا للإثم فيتعلق بارتكاب محظور وهو هتك حرمة اسم اللّه جل جلاله كالتوبة تجب بارتكاب الذنب محوا له ثم الهتك لا يحصل إلا عن قصد فأخرج الشرع اللغو عن السببية لعدم القصد وبقيت الغموس والمنعقدة سببين للكفارة باعتبار صفة القصد وإليه أشير في قوله تعالى لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وقلنا نحن لما كانت الكفارة مشتملة على صفة العبادة والعقوبة لكونها عبادة في ذاتها وكونها أجزية استدعت سببا دائرا بين الحظر والإباحة كما قلنا ولم يوجد ذلك إلا في المنعقدة فيكون اليمين بصفة كونها معقودة سببا للكفارة ثم إن الحالف لما أكد المحلوف عليه بذكر اسم اللّه تعالى حرم عليه هتك حرمته والاحتراز عن الهتك لا يحصل إلا البر فوجب البر باليمين احترازا عن الوقوع في المحرم كما وجب الكف عن الزنا فرارا عن الوقوع في المحرم فإذا فات البر وحصل الهتك وجبت الكفارة خلفا عن البر ليصير كأن لم يفت بأداء الكفارة ودفع الهتك فهذا هو تحقيق معنى الخلافة فيها فإن قيل الخلف يجب بالسبب الذي وجب به الأصل فلا بد من أن يكون قائما ليثبت الخلف به أولا ثم يقام مقام الأصل (٢/٥١٦) وهاهنا اليمين قد انحلت بالحنث وصارت معدومة فكيف يجعل سببا للكفارة قلنا هذا يلزمك أيضا فإنك تجعلها موجبة للكفارة عند الحنث لا قبله فكيف تقول بالوجوب حالة الانحلال ثم تقول إنها قد انحلت في حق البر لفواته وصارت سببا للكفارة الآن فهي منحلة معدومة في حق الحكم الأصلي وهو البر وهي قائمة لتصير سببا للكفارة فكانت واجبة بذلك السبب بعينه لكنه بطل في حق البر وانقلب سببا للكفارة إلا أن من شرط انعقاده سببا للكفارة أن يكون منعقدا لوجوب البر ابتداء لأن الكفارة خلف عنه فيصير البر بعد فواته مبقى بالكفارة وباقي الكلام مذكور في إشارات الأسرار قوله ونحوها مثل الظهار فإنه من حيث إنه كان طلاقا مباح ومن حيث إنه منكر من القول محظور فيصلح سببا للكفارة وذكر الشيخ أن الظهار مع العود سبب للكفارة فإن الظهار محظور والعود مباح فإذا اجتمعا صار السبب دائرا بين الحظر والإباحة قال اللّه تعالى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا الآية أضاف إليهما وإنما ذكر بكلمة ثم وهي كلمة التراخي لأن المظاهر عزم على التحريم والظاهر أن من عزم على شيء لا يرجع من ساعته فأدخل كلمة التأخير بناء على العادة وتفسير ذلك أي بيان كون هذه الأشياء دائرة بين الحظر والإباحة أو بيان أن العمد والغموس وأشباههما لا يصلح سببا نذكره في موضعه أي في المبسوط إن كان تصنيفه بعد تصنيف هذا الكتاب أو في هذا الكتاب بعد باب القياس قوله وسبب المعاملات أي سبب شرعيتها تعلق البقاء المقدور أي المحكوم من اللّه تعالى واللام للعهد بتعاطيها أي بمباشرتها من قولك فلان يتعاطى كذا أي يخوض فيه ويتناوله فإن قيل لما كان البقاء متعلقا بها كانت هي سببا للبقاء فكيف يكون البقاء سببا لها قلنا وجودها سبب للبقاء ولكن تعلق البقاء وافتقاره إليها سبب لشرعيتها وهو أمر سابق على شرعيتها فيصلح سببا وبيانه ما ذكر المشايخ الثلاثة القاضي الإمام أبو زيد وشمس الأئمة والشيخ المصنف رضي اللّه عنهم أن اللّه تعالى خلق هذا العالم وقدر بقاءه إلى قيام الساعة وهذا البقاء إنما يكون ببقاء الجنس وبقاء النفس فبقاء الجنس بالتناسل وذلك بإتيان الذكور الإناث في مواضع الحرث فشرع له طريق يتأدى به ما قدر اللّه عز وجل من غير أن يتصل به فساد ولا ضياع وهو طريق الازدواج بلا شركة لأن في التغلب فسادا وفي الشركة ضياعا فإن الأب متى اشتبه يتعذر إيجاب المؤنة عليه وليس للأم قوة كسب الكفايات في أصل الجبلة وكذا لا طريق لبقاء النفس إلى أجله غير إصابة (٢/٥١٧) المال بعضهم من بعض وما يحتاج إليه كل نفس لكفايتها لا يكون حاصلا في يدها وإنما يتمكن من تحصيله بالمال فشرع سبب اكتساب المال وسبب اكتساب ما فيه كفاية لكل أحد وهو التجارة عن تراض لما في التغالب من الفساد واللّه لا يحب الفساد هذا الذي ذكرنا هو طريقة القاضي الإمام أبي زيد وتابعه فيها عامة المتأخرين من المشايخ فأما المتقدمون من أصحابنا فقالوا سبب وجوب العبادات نعم اللّه تعالى على كل واحد من عباده فإنه تعالى أسدى إلى كل واحد منا من أنواع النعم ما يقصر العقول عن الوقوف على كنهها فضلا عن القيام بشكرها وأوجب هذه العبادات علينا بإزائها ورضي بها شكرا لسوابغ نعمه بفضله وكرمه وإن كان بحيث لا يمكن لأحد الخروج عن شكر نعمه وإن قلت مدة عمره وإن طالت وهذا لأن شكر النعمة واجب بلا شك عقلا أو نصا على ما قال تعالى أن اشكر لي ولوالديك وقال عليه السلام من أنزلت عليه نعمة فليشكرها في نصوص كثيرة وردت فيه وكل عبادة صالحة لكونها شكرا لنعمة من النعم وقد ورد النص الدال على كون العبادة شكرا وهو ما روي أنه عليه السلام صلى حتى تورمت قدماه فقيل له إن اللّه قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا أخبر أنه يصلي للّه تعالى شكرا على ما أنعم عليه ثم نعم اللّه تعالى على عباده أجناس مختلفة منها إيجاده من العدم وتكريمه بالعقل والحواس الباطنة ومنها الأعضاء السليمة وما يحصل له بها من التقلب والانتقال من حالة إلى ما يخالفها من نحو القيام والقعود والانحناء ومنها ما يصل إليه من منافع الأطعمة الشهية والاستمتاع بصنوف المأكولات ومنها صنوف الأموال التي بها يتوصل إلى تحصيل منافع النفس ودفع المضار عنها فعلى حسب اختلافها وجبت العبادات فالإيمان وجب شكرا لنعمة الوجود وقوة النطق وكمال العقل الذي هو أنفس المواهب التي اختص الإنسان بها من بين سائر الحيوانات وغيرها من النعم فالوجوب بإيجاب اللّه تعالى لكن بالعقل يعرف أن شكر المنعم واجب فكان النعم معرفا له وجوب شكر المنعم بواسطة آلة المعرفة وهي العقل وهذا معنى قول الناس العقل موجب أي دليل ومعرف لوجوب الإيمان بالنظر في سببه (٢/٥١٨) وهو النعم بالعقل ووجبت الصلاة شكرا لنعمة الأعضاء السليمة فيعرف بما يلحقه من المشقة قدر الراحة التي ينالها بالتقلب على حسب إرادته إذ النعمة مجهولة فإذا فقدت عرفت ووجب الصوم شكرا لنعمة اقتضاء الشهوات والاستمتاع بها مدة فيعرف بما يقاسي من مرارة الجوع وشدة الظمأ في الهواجر قدر ما يتناول من صنوف الأطعمة الشهية والأشربة الباردة ووجبت الزكاة شكرا لنعمة المال فيعرف بما يجد طبيعته من المشقة في زوال المحبوب إلى من لا يتحمل له منه ولا تكثر له عددا ولا يطمع منه مكافأة قدر ما حول من أصناف المال وأوتي من النشطة في فنونها ووجب الحج شكرا للنعمة أيضا فإن اللّه تعالى لما أضاف البيت إلى نفسه كرامة له وإظهارا لشرفه صار أمان الخلق لحرمته فوجب زيارته أداء لشكر هذه النعمة وتحصيلا للأمان من النيران وليعرف بمقاساة شدائد السفر قدر التقلب في النعم في حالة الإقامة بين الأهل والأولاد فثبت بما ذكرنا أن أسباب هذه العبادات النعم وإلى هذا الطريق مال صدر الإسلام أبو اليسر وشيخ الإسلام علاء الدين صاحب الميزان من المتأخرين واللّه أعلم وإذ قد فرغنا عن شرح القسم الأول من الكتاب بتوفيق الملك العزيز الوهاب كاشفين للحجب عن حقائق معانيه رافعين للأستار عن دقائق مبانيه فلننتقل إلى تحقيق القسم الثاني وتقريره مستمدين للتوفيق من اللّه عز وجل على تهديته وتنقيره شاكرين له على نعمه وأفضاله ومصلين على خير البرية محمد وآله والحمد للّه أولا وآخرا (٢/٥١٩) باب بيان أقسام السنة إنما اختار لفظ السنة دون لفظ الخبر كما ذكر غيره لأن لفظ السنة شامل لقول الرسول وفعله عليه السلام ومنطلق على طريقة الرسول والصحابة على ما مر بيانه والشيخ قد ألحق بآخر هذا القسم بيان أفعال النبي عليه السلام وأقوال الصحابة رضوان اللّه عليهم فاختار لفظة تشمل الكل ثم السنة والمراد بها قول الرسول هاهنا تشارك الكتاب في الأقسام المذكورة من الخاص إلى المقتضى لأن قوله عليه السلام حجة مثل الكتاب وهو كلام مستجمع لوجوه الفصاحة والبلاغة فيجري فيه هذه الأقسام أيضا ويكون بيانها في الكتاب بيانا فيها لأنها فرع الكتاب في كونها حجة وتفارقه في طرق الاتصال إلينا فإن الكتاب ليس له إلا طريق واحد وهو التواتر وللسنة طرق مختلفة كما ستقف عليها فهذا الباب وهو الذي شرع فيه إلى باب المعارضة لبيان تلك الطرق وما يتعلق بها وقوله ويختص السنن به تأكيد ولا يقال التواتر لا يختص بالسنن بل هو موجود في الكتاب فكيف يصح إيراده هاهنا لأنا نقول اختلاف الطرق مختص بالسنن والتواتر داخل في الطرق فيصح إيراده ولما كان هذا القسم كلاما في أخبار لا بد من بيان حقيقة الخبر وأقسامه فنقول الخبر يطلق على قول مخصوص من الأقوال ويطلق على الإشارات الحالية والدلالات المعنوية كما يقال أخبرتني عيناك ومنه قول أبي الطيب وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب ولكنه حقيقة في الأول لتبادر الفهم إليه عند إطلاق لفظ الخبر دون الثاني واختلفوا (٢/٥٢٠) في تحديده فقيل إنه لا يحد لأنه ضروري التصور إذ كل واحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويفرق بينه وبين الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة ضرورة لما كان كذلك ورد بأن العلم الضروري بالتفرقة بين ما يحسن فيه الأمر وما يحسن فيه الخبر بعد معرفتهما أما قبل ذلك فغير مسلم وقيل هو الكلام الذي يدخل فيه الصدق والكذب وقيل يدخله التصديق والتكذيب وقيل يحتمل الصدق والكذب واعترض على هذه الحدود بأن خبر اللّه تعالى وخبر رسوله لا يدخلهما الكذب ولا التكذيب ولا يحتملان الكذب أيضا فلا تكون جامعة ولأن صاحب الحد الأول وهو الجبائي ومن تابعه عرف الصدق بأنه الخبر الموافق لمخبره والكذب نقيضه فكان تعريفه الخبر بالصدق والكذب دورا وقيل هو كلام يفيد بنفسه إضافة مذكور إلى مذكور بالنفي أو بالإثبات واعترض عليه بأنه ليس بمانع لدخول نحو قولك الغلام الذي لزيد أو ليس لزيد فيه لأنه كلام عند صاحب هذا الحد وهو أبو الحسين البصري إذ الكلمة عنده كلام ومختار بعض المتأخرين أن الخبر هو ما تركب من أمرين حكم فيه بنسبة أحدهما إلى الآخر نسبة خارجية يحسن السكوت عليها وإنما قال أمرين دون كلمتين أو لفظين ليشمل الخبر النفساني وقال حكم فيه بنسبة ليخرج ما تركب من غير نسبة وقال يحسن السكوت عليها ليخرج المركبات التقييدية وقيد النسبة بالخارجية ليخرج الأمر ونحوه إذ المراد بالخارجية أن يكون لتلك النسبة أمر خارجي بحيث يحكم بصدقها إن طابقته وبكذبها إن خالفته وليس للأمر ونحوه ذلك ثم إنه ينقسم أقساما ثلاثة خبر يعلم صدقه بيقين مثل خبر الرسول والخبر الموافق للكتاب ونحو ذلك وخبر يعلم كذبه بيقين ما بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة كمن أخبر عن الجمع بين الضدين أو أخبر بما يحس بخلافه أو أخبر بما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة ونحو ذلك وخبر يحتمل الصدق والكذب وهو على مراتب ما ترجح جانب صدقه كخبر العدل وما ترجح جانب كذبه كخبر الفاسق وما استوى طرفاه كخبر المجهول (٢/٥٢١) فمن القسم الأول الخبر المتواتر وهو خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه وقيد بنفسه ليخرج الخبر الذي عرف صدق القائلين فيه بالقرائن الزائدة كخبر جماعة وافق دليل العقل أو دل قول الصادق على صدقهم والتواتر لغة تتابع أمور واحدا بعد واحد مأخوذ من الوتر يقال تواترت الكتب أي جاءت بعضها في إثر بعض وترا وترا من غير أن تنقطع ومنه جاءوا تترى أي متتابعين واحدا بعد واحد وإنما قيد الشيخ المتواتر بقوله اتصل بك من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنه في بيان المتواتر من السنة إذ هو في بيان أقسامها فأما تعريف نفس المتواتر بالنظر إلى ذاته فلا يحتاج إلى هذا القيد كالخبر عن البلدان القاصية والملوك الماضية ثم اتفقوا على أن من شرطه تكثر المخبرين كثرة تمنع صدور الكذب منهم على سبيل الاتفاق وعلى سبيل المواضعة وهو معنى قوله لا يتوهم تواطؤهم أي توافقهم على الكذب وأن يكونوا عالمين بما أخبروا علما يستند إلى الحس لا إلى غيره كدليل العقل مثلا فإن أهل بغداد لو أخبروا عن حدث العالم لا يحصل لنا العلم بخبرهم وأن يكون المخبرون في الطرفين والوسط مستوين في هذه الشروط أعني في الكثرة والاستناد وإليه أشير بقوله ويدوم هذا الحد واختلفوا في أقل عدد يحصل معه العلم فقيل هو خمسة لأن ما دونها كأربعة بينة شرعية يجوز للقاضي عرضها على المزكين ليحصل غلبة الظن ولو كان العلم حاصلا بقول الأربعة لما كان كذلك وقيل اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل فإنهم خصوا بذلك العدد لحصول العلم بقولهم وقيل أربعون بقوله تعالى يا أيها النبي حسبك اللّه ومن اتبعك من المؤمنين (٢/٥٢٢) الأنفال ٦٤ وكانوا أربعين فلو لم يفد قولهم العلم لم يكونوا حسبا لاحتياجه إلى من يتواتر به أمره وقيل سبعون لقوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا وإنما خصهم لما مر ولا يخفى أن هذه تحكمات فاسدة وأن ما تمسكوا به ليس شبهة فضلا عن حجة لأنها مع تعارضها وعدم مناسبتها المطلوب مضطربة إذ ما من عدد يفرض حصول العلم به لقوم إلا ويمكن أن لا يحصل به لآخرين وللأولين في واقعة أخرى ولو كان ذلك العدد هو الضابط لحصول العلم لما اختلف والصحيح أنه غير منحصر في عدد مخصوص وضابطه ما حصل العلم عنده فبحصول العلم الضروري يستدل على أن العدد الذي هو كامل عند اللّه تعالى قد توافقوا على الأخبار لا أنا نستدل بكمال العدد على حصول العلم والدليل على أنه غير مختص بعدد أنا نقطع بحصول العلم بالخبر المتواتر من غير علم بعدد مخصوص أصلا بل لو كلفنا أنفسنا معرفة ذلك العدد الحالة التي يكمل فيها لم نجد إليها في العادة سبيلا لأنها تحصل بتزايد الظنون على تدريج خفي كما يحصل كمال العقل بالتدريج وكما يحصل الشبع بالأكل والري بالماء والسكر بالخمر بالتدريج والقوة البشرية قاصرة عن الوقوف على مثل ذلك ثم لفظ الكتاب يشير إلى شروط بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه بقوله لا يتوهم تواطؤهم وقوله ويدوم هذا الحد يشير كل واحد إلى شرط متفق عليه كما ذكرنا وقوله وذلك أي صيرورته بمنزلة المسموع أن يرويه قوم لا يحصى عددهم يشير إلى اشتراط خروج عدد المخبرين عن الإحصاء والحصر وإليه ذهب قوم لأنهم متى كانوا محصين كان لإمكان التواطؤ مدخل في خبرهم عادة فشرط خروجهم عن الإحصاء والحصر دفعا لذلك الإمكان وذهب الجمهور إلى أنه ليس بشرط فإن الحجيج أو أهل الجامع لو أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج أو عن الصلاة يحصل العلم بخبرهم مع كونهم محصورين وقوله وعدالتهم يشير إلى اشتراط الإسلام والعدالة كما قاله لأن الإسلام والعدالة ضابطا الصدق والتحقيق والكفر والفسق مظنتا الكذب والمجازفة فشرط عدمهما وعند العامة ليس بشرط للقطع وقوله وتباين أماكنهم أي تباعدها (٢/٥٢٣) يشير إلى اشتراط اختلاف بلدانهم أو أوطانهم ومحلاتهم وهو مختار البعض لأنه أشد تأثيرا في دفع إمكان التواطؤ وعند الجمهور لا يشترط ذلك أيضا لحصول العلم بأخبار متوطني بقعة واحدة أو بلدة واحدة ولأن اشتراط الكثرة إلى كمال العدد كما بينا يدفع هذا الإمكان وكأن الشيخ إنما أشار إلى هذه المعاني لأنها أقطع للاحتمال وأظهر في الإلزام على الخصوم لا لأنها شرط حقيقة بحيث يتوقف ثبوت العلم بالتواتر عليها بل الشرط فيه حقيقة ما ذكرناه بدءا والدليل عليه أنه أجاب عن أخبار المجوس وأخبار اليهود بأن استواء الطرفين لم يوجد ولم يجب بأنهم كانوا كفرة فلا يكون تواترهم موجبا للعلم حتى صار كالمعاين المسموع منه أي حتى صار هذا الخبر بمنزلة ما إذا عاينت الرسول عليه السلام وسمعته منه بحاسة سمعك وليس لفظ المعاين في سائر الكتب والمذكور في التقويم ومتى ارتفعت الشبهة ضاهى المتصل منه بك بحاسة سمعك ولو قيل كالمعاين والمسموع لكان أحسن ويحتمل أنه إنما ذكر لفظ المعاين لأن سماع الكلام مع معاينة المتكلم والنظر إلى وجهه أقرب إلى الفهم من السماع بدون معاينته وكان ينبغي على هذا أن يصف المتكلم بالمعاين دون الكلام إلا أنه جعل حركة الشفة التي تدرك بالبصر بمنزلة الكلام فيصح بهذا الطريق وصف الكلام بكونه معاينا كما يصح وصفه بكونه مسموعا وما أشبه ذلك مثل أروش الجنايات وأعداد الطواف والوقوف بعرفات قوله وهذا القسم ولما بين تفسير المتواتر وشروطه شرع في بيان حكمه فقال وهذا القسم أي المتواتر من الأخبار يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علما ضروريا وهو مذهب جمهور العقلاء وذهبت السمنية وهم قوم من عبدة الأصنام والبراهمة وهم قوم من منكري الرسالة بأرض الهند إلى أن الخبر لا يكون حجة أصلا ولا يقع العلم به بوجه لا علم يقين ولا علم طمأنينة بل يوجب ظنا وذهب قوم إلى أن المتواتر يوجب علم طمأنينة لا علم يقين ويريدون به أن جانب الصدق يترجح فيه بحيث تطمئن إليه القلوب مثل ما يثبت بالدليل الظاهر ولكن لا ينتفي عنه توهم الكذب والغلط ولا فرق بين القولين إلا من حيث إن الطمأنينة أقرب إلى اليقين من الظن ولهذا كان متمسك الفريقين واحدا ثم القائلون بأنه يوجب اليقين اختلفوا فذهب عامتهم إلى أنه يوجب علما ضروريا وذهب أبو القاسم الكعبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة وأبو بكر الدقاق من أصحاب الشافعي إلى أنه يوجب علما استدلاليا وسنبينه في آخر الباب (٢/٥٢٤) قوله وهذا أي من أنكر حصول العلم بالخبر أصلا رجل سفيه وهو الذي يشتغل بما ليس له عاقبة حميدة ويلحقه ضرر ذلك لم يعرف نفسه لأن معرفة كونه مخلوقا من ماء مهين لا تثبت له إلا بالخبر فإذا أنكر كون الخبر موجبا للعلم لا يحصل له معرفة نفسه ولا يقال لعل معرفة كونها مخلوقة من الماء حصلت بالاستدلال بالولد فإنه لما عاينه أنه خلق من الماء اعتبر وجود نفسه به فلا يلزم من إنكار الخبر عدم معرفة النفس لأنا نقول مآل ذلك إلى الخبر أيضا فإن كونه مخلوقا من الماء ليس بمحسوس ولا معقول إذ الفعل لا يوجب ذلك فتبين أنه ثابت بالخبر ولا دينه لأن طريق معرفته الخبر والسماع أيضا خصوصا فيما يرجع إلى الأحكام ولا دنياه لأن معرفة الأغذية والأدوية تحصل بالخبر لأن فيها ما هو مهلك ومنها ما هو نافع والعقل لا يطق التجربة لاحتمال الهلاك وكذا معرفة الأب والأم تحصل بالخبر لأن التربية والقيام بأموره يحصل من الملتقطة والظئر كما يحصل من الأبوين ثم كل أحد يجد نفسه ساكنة بمعرفة هذه الأشياء وتحصل له العلم بها قطعا بالخبر بمنزلة العلم الحاصل له بالعيان والمشاهدة فكان منكره كالمنكر للمشاهدات من السوفسطائية فلا يستحق المكالمة قال شمس الأئمة رحمه اللّه لا يكون الكلام مع هذا المنكر على سبيل الاحتجاج والاستدلال وكيف يكون ذلك وما ثبت من الاستدلال بالعلم دون ما يثبت بالخبر المتواتر فإنه يوجب علما ضروريا والاستدلال لا يوجب ذلك وإنما الكلام معه من حيث التقرير عند العقلاء بما لا يشك هو ولا أحد من الناس في أنه مكابرة وجحد لما يعلم اضطرارا بمنزلة اللازم مع من يزعم أنه لا حقيقة للأشياء المحسوسة فنقول إذا رجع المرء إلى نفسه علم أنه مولود اضطرارا بالخبر كما علم أن ولده مولود بالمعاينة وعلم أن أبويه كانا من جنسه بالخبر كما علم أن أولاده من جنسه بالعيان وعلم أنه كان صغيرا ثم شاب بالخبر كما علم ذلك من ولده بالعيان وعلم أن السماء والأرض كانتا قبله على هذه الصفة بالخبر كما يعلم أنهما على هذه الصفة للحال بالعيان فمن أنكر شيئا من هذه الأشياء فهو مكابر جاحد لما هو معلوم ضرورة بمنزلة من أنكر العيان قوله ومعنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن يتخالجه أي يقع فيه شك أو يعتريه أي يغشاه ويدخله وهم أي غلط من وهم يهم إذا غلط وإنما قيد بقوله عندهم لأنا نوافقهم في أنه يوجب علم طمأنينة أيضا ولكنا نعني بالطمأنينة اليقين هاهنا لأنها تطلق على اليقين أيضا لاطمئنان القلب إليه قال اللّه تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه السلام (٢/٥٢٥) ولكن ليطمئن قلبي أراد به كمال اليقين فقال معناها عندهم كذا ليتحقق الخلاف قالوا لأن المتواتر صار جمعا بالآحاد وخبر كل واحد محتمل للكذب حالة الانفراد بانضمام المحتمل إلى المحتمل لا يزداد إلا الاحتمال إذ لو انقطع الاحتمال ولم يجز الكذب عليهم حالة الاجتماع لانقلب الجائز ممتنعا وهو ممتنع فثبت أن الاجتماع محتمل للتواطؤ على الكذب ألا ترى أن المعنى الذي لأجله لا يثبت علم اليقين حالة الانفراد وهو كون المخبر غير معصوم عن الكذب موجود حالة الاجتماع وإذا جاز الكذب عليهم حالة الاجتماع انتفى اليقين عن خبرهم على أن اجتماع الجم الغفير على الإخبار بخبر واحد مع اختلافهم في الآراء وقصد الصدق والكذب غير متصور كما لا يتصور اتفاقهم على أكل طعام واحد ووقوع العلم اليقيني به مبني على تصوره لا محالة ثم إذا انتفى اليقين عنه فأما أن يثبت به ظن كما قال الفريق الأول أو طمأنينة كما قال الفريق الثاني وذلك أي الاجتماع على التواطؤ على الكذب مثل إخبار المجوس عن زرادشت اللعين فإنه خرج في زمن ملك يسمى كشتاسب ببلخ وادعى الرسالة من أصلين قديمين وآمن به الملك وأطبقت المجوس على نقل معجزاته وقد كانوا أكثر منا عددا ثم كان ذلك كذبا بيقين إذ لو كان صدقا لزم منه صحة دعواه وهي باطلة بيقين وكذلك اليهود اتفقوا على قتل عيسى عليه السلام وصلبه والنصارى وافقوهم على ذلك ونقلوا ذلك نقلا متواترا وعددهم لا يخفى كثرة ووفورا ثم قد ثبت كذبهم بالنص القاطع فثبت أن احتمال الكذب لا ينقطع بالتواتر ومع بقائه لا يثبت علم اليقين ولكن يثبت به طمأنينة للقلب بمنزلة من يعلم حياة رجل ثم يمر بداره فيسمع النوح ويرى آثار التهيؤ لغسل الميت ودفنه فيخبرونه أنه قد مات فيتبدل بهذا الحادث علمه بحياته بعلمه بموته على وجه طمأنينة القلب مع احتمال أن ذلك كله حيلة منهم وتلبيس لغرض كان لأهله في ذلك فهذا مثله كذا ذكر شمس الأئمة وهذا أي القول بأن المتواتر يوجب علم طمأنينة لا يقين قول باطل يؤدي إلى الكفر فإن وجود الأنبياء ومعجزاتهم لا يثبت خصوصا في زماننا إلا بالنقل فإذا لم يوجب (٢/٥٢٦) المتواتر يقينا لا يثبت العلم لأحد في زماننا بنبوتهم وحقيتهم حقيقة وهذا كفر صريح وضعا أي يوجب بوضعه وذاته العلم اليقيني من غير توقف على استدلال وتحقيقا أي يدل الدليل العقلي على أنه يوجب اليقين لو رجعت إلى الاستدلال وذكر في الميزان ونوع من المعقول يدل عليه أيضا وهو أن الخبر المتواتر إما أن يكون صدقا أو كذبا ولا يجوز أن يكون كذبا لأنه إما أن يقع اتفاقا أو للتدين أو للمواضعة منهم عليه أو لداع دعاهم إليه والأول فاسد لأن صدور الكذب اتفاقا من جماعة كثيرة خرجوا عن حد الإحصاء لا يتصور عادة كما لا يتصور أن يجتمعوا على مأكل واحد ومشرب واحد في زمان واحد اتفاقا وكذا الثاني لأن اجتماع مثل هذه الجماعة على الكذب تدينا مع كون العقل صارفا عنه وداعيا إلى الصدق وعدم دعوة الطبع والهوى إليه لعدم اللذة والراحة في نفس الكذب أمر غير متصور عادة وكذا الثالث لأن كثرتهم وتفرق أماكنهم واختلاف هممهم يمنع عن المواضعة عادة وكذا الرابع لأن الداعي إما الرغبة أو الرهبة فإنه يحتمل أن المرء يقدم على الكذب لرغبته إلى الجاه والمال وأنواع النفع أو لخوف الإضرار على نفسه وماله وأهله بالامتناع عنه ممن يأمره بذلك وهذا الداعي مما لا يتصور شموله في الجماعة العظيمة لاستغناء البعض على حشمة الأمر وجاهه وماله بالكذب لكمال جاهه وكثرة أمواله وكذا احتمال خوف الضرر معدوم في حق البعض لكمال قوته بنفسه وأتباعه نحو السلاطين والأمراء والرؤساء وإذا لم يجز أن يكون كذبا تعين كونه صدقا إذ لا واسطة بين الصدق والكذب في الأخبار فكان مفيدا للعلم واعلم أن فتح باب الاستدلال في هذه المسألة يفضي إلى تطويل الكلام ويزداد ذاك إشكالات واعتراضات لا يتم المقصود إلا بالجواب القاطع عنها ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد تدقيقات عظيمة ومن البين لكل عاقل أن علمه بوجود مكة ومحمد صلى اللّه عليه وسلم أظهر من علمه بصحة الاستدلالات المذكورة في هذه المسألة والتمسك بالدليل الخفي مع وجود الدليل الظاهر وبناء الواضح على الخفي غير جائز فتبين أن الحق ما ذكرنا أن حصول العلم به ضروري والتشكيك والترديد في الضروريات باطل لا يستحق الجواب كذا قال بعض المحققين (٢/٥٢٧) قوله والطمأنينة على ما فسره المخالف جواب عما يقال سلمنا أن تواطؤ مثل هذا الجمع خلاف العادة ولذلك أثبتنا علم طمأنينة القلب ولكن لا نسلم أن توهم الاتفاق منقطع بالكلية فلبقاء هذا التوهم لم يثبت علم اليقين كما ذكرنا من حال من رأى آثار الموت في دار إنسان وأخبر بموته فقال الطمأنينة أي الاطمئنان على ما فسره المخالف فإنه علم يتخالجه شك أو يعتريه وهم وما مصدرية أي على تفسير المخالف إنما يقع فيما يقع من الصور لغفلة من المتأمل حيث يكتفى بالظاهر ولا يتأمل في حقيقة الأمر ولو تأمل في الأمر حق تأمله وجد في طلب حقيقته لوضح له فساد باطنه فأما أمر يؤكد باطنه ظاهره ولا يزيده التأمل إلا تحقيقا فلا أي لا يوجب طمأنينة على التفسير المذكور بل يوجب يقينا ثم بين نظير ما يوجب طمأنينة فقال كالداخل وهو متصل بقوله لوضح له فساد باطنه جلسوا للمأتم أي للمصيبة والمأتم عند العرب النساء يجتمعن في فرح أو حزن والجمع المآتم وعند العامة المصيبة يقولون كنا في مأتم فلان قال ابن الأنباري والصواب أن يقال في مناحة فلان كذا في الصحاح يقع له العلم أي علم الطمأنينة وقوله فأما العلم بالمتواتر نظير قوله فأما أمر يؤكد باطنه ظاهره لمعنى في الدليل وهو انقطاع توهم المواطأة وفي مثل هذا كلما زاد المرء تأملا ازداد يقينا فالتشكيك فيه يكون دليل نقصان العقل بمنزلة التشكيك في حقائق الأشياء المحسوسة ثم أشار إلى المعنى الذي في الدليل بقوله وصحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورضي عنهم كانوا كذا وذكر أوصافا يؤثر كل واحد في قطع توهم الكذب من العدالة وكثرة العدد واختلاف الأماكن وطول صحبة الرسول عليه السلام واتفاق الكلمة بعد الافتراق ثم قال وهذا أي جميع ما ذكرنا (٢/٥٢٨) يقطع الاختراع أي الإنشاء والابتداء من عند أنفسهم عادة وقوله ولما تصور الخفاء مع بعد الزمان جواب شرط محذوف إن صح ذلك أي ولو تصور الاختراع منهم لما تصور خفاء اختراعهم مع بعد الزمان ولفظ بعض الكتب ولو كان لظهر لنا خصوصا مع بعد الزمان وكأنه جواب سؤال يرد على قوله وهذا يقطع الاختراع بأن يقال توهم التواطؤ على الكذب غير منقطع بما ذكرتم لأنه لما تصور منهم الاجتماع على الصدق وصحبة الرسول عليه السلام مع تباين أماكنهم وكثرتهم يتصور منهم الاختراع أيضا فقال لو تصور الاختراع منهم لم يتصور خفاؤه وعدم ظهوره مع بعد الزمان وكثرة المخالفين والمعاندين فيهم لدعوة الطباع إلى إفشاء الأسرار فإن الإنسان يضيق صدره عن سره حتى يفشيه إلى غيره ويستكتمه ثم السامع يفشيه إلى غيره فيصير ظاهرا عن قريب فلو كان هنا اختراع لظهر ذلك خصوصا عند طول المدة وكثرة الأعداء ولهذا أي ولأن تصور احتمال الخفاء منقطع صار القرآن معجزة أي تحقق وظهر كونه معجزا لأن إعجازه توقف على عجزهم عن الإتيان بمثله وقد تحقق عجزهم لأنهم لو قدروا عليه لأتوا به بعد تحديهم في محافلهم بذلك ولما اشتغلوا ببذل الأنفس والأموال ولو أتوا به لما خفي ذلك مع كثرة المشركين وتباعد الزمان كما لم تخف خرافات مسيلمة وهذيانات المتنبئين قاطعا احتمال الوضع أي احتمال الاختراع والتقول وذلك أي انقطاع احتمال الاختراع المتعنتين أي الطالبين لمعايب الإسلام يقال جاءني فلان متعنتا إذا جاء يطلب زلتك قوله وأما أخبار زرادشت جواب عن تمسكهم بنقل المجوس قصة زرادشت بالتواتر والجواب عنه من وجهين أحدهما ما ذكر في الكتاب أن ما نقل المجوس عنه من أفعاله الخارجة عن العادة مثل عدم تضرره بوضع طست من نار على صدره ونحو ذلك من جنس فعل المشعوذين ليس له حقيقة وعدم تضرره بالنار من باب خواص الأشياء لا من باب الإعجاز فأنا قد رأينا المشعوذين يلعبون بالنار من غير إضرار بهم ومثله في ملاعبهم وشعوذتهم كثير وأما ما روي أنه أدخل قوائم الفرس في بطن الفرس فبقي معلقا في الهواء ثم أخرجه فلم يوجد فيه شرط التواتر وهو استواء الطرفين والوسط لأنهم رووا أنه فعل ذلك (٢/٥٢٩) في خاصة الملك وحاشيته أي صغار قومه لا في كبارهم ولا في الأسواق ومجامع الناس وقد يتصور من مثل هذا القوم التواطؤ على الكذب فلا يثبت به التواتر ولا حقيقة دعواه إلا أن أي لكن ذلك الملك وهو كشتاسب لما رأى شهامته أي دهاءه وذكاءه تابعه على التزوير والاختراع وواطأه على أن يؤمن به ويجعله أحد أركان مملكته ليدعو الناس إلى تعظيم الملوك وتحسين أفعالهم ومراعاة حقوقهم في كل حق وباطل ويكون الملك من ورائه بالسيف يجبر الناس على الدخول في دينه وإنما حمله على هذه المواطأة حاجته إليها فإنه لم يكن له بيت قديم في الملك وكان الناس لا يعظمونه فاحتالوا بهذه الحيلة ثم نقلوا عنه أمورا لا أصل لها ترويجا لأمره وتحصيلا لمقصود الملك وقد سمعت عن بعض الثقات أنه كان للملك أخت جميلة في نهاية الحسن وقد شغف بها الملك وكان يريد أن يتزوجها لكنه كان يمتنع من ذلك خوفا من انقلاب الرعية والملك واحترازا عن الملامة فتفرس زرادشت اللعين منه وادعى النبوة وأباح نكاح المحارم فوافق ذلك رأي الملك فقبل ذلك منه وأمر الناس بمتابعته ففشا أمره بين الناس ونقلوا عنه أمورا كلها كذب لا أصل لها والثاني أنا إن سلمنا تسليم جدل أن ما نقل عنه من أفعاله الخارجة عن العادة لم يكن كذبا لم يدل ذلك على صدق دعواه أيضا لأن ظهور خلاف العادة لا يجوز على يد المتنبي إذا ادعى شيئا لا يرده العقل لأنه لو جاز ذلك أدى إلى اشتباه أمر النبوة فأما إذا ادعى ما يدل العقل على كذبه وبطلانه فلا يبعد أن يظهر على يده خلاف العادة استدراجا كما يجوز ظهوره على يد المتأله لعدم تأديته حينئذ إلى اشتباه الأمر على الناس فإن من ادعى أن الخمسة ثلث العشرة وظهر على يده خلاف عادة لا يدل على صدقه ولا تقبل دعواه لظهور كذبه عند جميع العقلاء ثم إن اللعين ادعى أنه رسول من أصلين قديمين يزدان وآهرمن وهذا قول بين التناقض ظاهر البطلان عرف بالدلائل العقلية القطعية فساده وبطلانه فيجوز أن يظهر على يديه خلاف العادة استدراجا لظهور كذب دعواه كما يجوز ظهوره على يدي الدجال اللعين كما جاء به الأثر قوله وكذلك أي ومثل أخبار المجوس أخبار اليهود مرجعها إلى الآحاد فإن الذين دخلوا على عيسى عليه السلام وزعموا أنهم قتلوه كانوا سبعة نفر أو ستة واحتمال التوطؤ على الكذب فيهم ثابت وقد روي أنهم كانوا لا يعرفون المسيح بحليته وإنما جعلوا لرجل جعلا فدلهم على شخص في بيت فهجموا عليه وقتلوه وزعموا أنهم قتلوا (٢/٥٣٠) عيسى وأشاعوا الخبر وبمثله لا يحصل التواتر وكذلك أخبار النصارى بقتله لم تثبت بالتواتر فإن خبر قتله منهم مسند إلى أربعة منهم يوحنا ومتى ولوقا ومرعش وفي بعض الروايات يوحنا ويوفنا ومتى ومارقيش ويتحقق الكذب منهم قوله وأما المصلوب جواب عما يقال الصلب أمر معاين وقد شاهده جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب فقال المصلوب ينظر من بعيد ولا يتأمل فيه عادة لأن الطباع تنفر عن التأمل فيه مع أن الحلية والهيئة تتغير به أيضا فيتمكن فيه الاشتباه فعرفنا أن التواتر لم يتحقق في صلبه كما لم يتحقق في قتله على أن العيسوية من النصارى وهو فرقة كثيرة توافقنا أن عيسى عليه السلام لم يقتل بل رفعه اللّه عز وجل وعليه نصارى الحبشة وفي اليهود من يقول به أيضا كذا ذكر صاحب القواطع وقوله على أنه ألقي على واحد من أصحاب عيسى عليه السلام شبهه جواب آخر للسؤال المقدر يعني سلمنا أن التواتر في قتل رجل ظنوه عيسى وصلبه قد وجد ولكن ذلك الرجل لم يكن عيسى وإنما كان مشبها به كما بين اللّه تعالى بقوله ولكن شبه لهم وقد جاء في الخبر أن عيسى عليه السلام قال لمن كان معه من يريد منكم أن يلقي اللّه شبهي عليه فيقتل وله الجنة فقال رجل أنا فألقى اللّه تعالى شبه عيسى عليه السلام فقتل الرجل ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثم يرد على هذا الجواب إشكال وهو أن القول بإلقاء الشبه يؤدي إلى إبطال الحقائق كما قاله السوفسطائية فإنه لما جاز إلقاء شبه عيسى على غيره جاز إلقاء شبه كل شيء على غيره ويؤدي أيضا إلى أن ما نقل بالتواتر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يكون موجبا للعلم لأن من الجائز أن السامعين تلقوه من رجل ظنوه أنه رسول اللّه ولم يكن بل ألقي شبه الرسول عليه ويؤدي أيضا إلى أن الإيمان بالرسل لا يتحقق لمن يعاينهم لجواز أن يكون شبههم ملقى على غيرهم كيف والإيمان بالمسيح كان واجبا عليهم في ذلك الوقت فمن ألقي عليه شبه المسيح كان الإيمان به واجبا على زعمكم وفي هذا قول بأن اللّه سبحانه أوجب على عباده الكفر بالحجة وهي المعجزة التي جرت على يد عيسى عليه السلام فكان باطلا فأجاب عنه (٢/٥٣١) بقوله وذلك جائز استدراجا يعني إلقاء الشبه بطريق الاستدراج جائز في حق قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون ليزدادوا طغيانا ومرضا إلى مرضهم ولكنه لا يجوز في حق قوم الرسول ليؤمنوا به حتى لو جاءه قوم في تلك الحالة ليؤمنوا به رفع اللّه الشبه منه لئلا يؤدي إلى التلبيس فإنه قد قيل لو ادعى أحد النبوة بين قوم وفي يده حجر المغناطيس ولم يعرف القوم الحجر وقال الدليل على صحة دعواي أن يجذب هذا الحجر الحديد رفع اللّه تلك الخاصية عن ذلك الحجر لئلا يصير تلبيسا ثم فيه حكمة بالغة وهي دفع شر الأعداء عن المسيح بوجه لطيف وللّه تعالى لطائف في دفع المكاره عن الرسل كما دفع شر أبي لهب عن الرسول عليه السلام بمنعه عن رؤية الرسول وقد كان جالسا مع أبي بكر حيث قال أبو لهب أين صاحبك الذي هجاني أراد به قول اللّه تعالى تبت يدا أبي لهب وقوله فكان أي خبرهم محتملا للكذب متصل بقوله مرجعها إلى الآحاد مع أن الرواة يعني السبعة الداخلين على عيسى عليه السلام فبطلت هذه الوجوه التي تمسك بها المخالف من قصة زرادشت وأخبار اليهود عن قتل عيسى وصلبه بالمتواتر فإنه ليس بتخييل ولا من خاصة ملك وليس مرجعه إلى الآحاد أيضا يعني لا يلزم من بطلان هذه الوجوه تمكن الشبهة في المتواتر لأن ما نشأ منه فسادها لم يوجد في المتواتر أصلا أو معناه لما كانت قصة زرادشت وأخبار اليهود مبنية على التخييل وراجعة إلى الآحاد كانت محتملة للكذب وقد وردت نصوص قاطعة متواترة بخلافها مثل قوله تعالى وما قتلوه وما صلبوه والنصوص الدالة على الوحدانية بطلت تلك الأخبار المحتملة أي ظهر كذبها وبطلانها بهذه النصوص المتواترة التي لا مدخل للاحتمال فيها لأن الدليل المحتمل لا يبقى معتبرا إذا اعترض عليه ما هو أقوى منه كمن أخبر بهلاك زيد ثم رآه بعد حيا وأما اعتبارهم حالة الاجتماع بحالة الانفراد فسيأتي جوابه ثم من قال المتواتر يوجب علما استدلاليا تمسك بأن الاستدلال ليس إلا ترتيب مقدمات صادقة وهو موجود فيه لأن العلم به لا يحصل إلا بعد أن يعلم أن المخبر عنه أمر محسوس وأن المخبرين جماعة لا حامل لهم على التواطؤ على الكذب وأن يعلم أن ما كان كذلك لا يكون كذبا فيلزم منه الصدق لعدم الواسطة وبأنه لو كان ضروريا لما اختلفوا فيه كما لم يختلفوا في أن الشيء أعظم من جزئه وأن الموجود لا يكون معدوما وحيث اختلفوا فيه علمنا أنه مكتسب بمنزلة ما يثبت من العلم بالنبوة عند معرفة المعجزات وجه قول العامة أنه لو كان استدلاليا لاختص به من يكون من أهل الاستدلال وقد رأينا أنه لا يختص بهم فإن واحدا في صغره يعلم أباه وأمه بالخبر كما يعلمهما بعد البلوغ مع أنه لا يعرف (٢/٥٣٢) الاستدلال أصلا وأنه لو كان استدلاليا لجاز الخلاف فيه عقلا لأن شأن العلوم الاستدلالية كذلك قال صاحب الميزان العلم بالملوك الماضية والبلدان النائية حاصل من غير استدلال وصنع من جهة العالم به وهو حد العلم الضروري وإنما اشتغل بعض أصحابنا بالاستدلال للإلزام على من ينكر الضرورة تعنتا ومكابرة وهو يعتقد العلم الاستدلالي فيقوم عليه الحجة فإن قيل لو كان هذا معلوما لما خالفناكم قلنا من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو لخبط في عقله أو عناد ولو تركنا ما علمنا ضرورة بقولكم للزمكم ترك المحسوسات بسبب خلاف السوفسطائية وقولهم لا بد فيه من ترتيب المقدمات قلنا لا يلزم من ترتيبها كون القضية الحاصلة منها نظرية لأن صورة الترتيب أو التركيب ممكنة في كل ضروري حتى في أظهر الضروريات كقولنا الشيء إما أن يكون وإما أن لا يكون بأن يقال الكون وهو الوجود واللا كون وهو العدم متقابلان والمتقابلان يمتنع إنصاف الشيء الواحد بهما فالشيء إما أن يكون وإما أن لا يكون وإنما كان كذلك لأن إمكان صورة الترتيب لا يكفي في كون العلم نظريا بل يحتاج مع ذلك إلى العلم بارتباط تلك المقدمات بالمطلوب وأنها الواسطة المفضية إليه واللّه أعلم (٢/٥٣٣) |