Geri

   

 

 

İleri

 

باب معرفة أحكام العموم

قوله العام عندنا يوجب الحكم فيما تناوله أي في جميع الأفراد الداخلة تحته قطعا ويقينا وقد فسرناهما في أول باب أحكام الخصوص وهو مذهب أكثر مشايخنا كما ستقف عليه ويشير

قوله العام بعمومه إلى استواء الأمر والنهي والخبر في ذلك وفيه خلاف كما سنبينه وهذا إذا أمكن اعتبار العموم فيه فإن لم يمكن لكون المحل غير قابل له مثل قوله تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة فحينئذ يجب التوقف فيه إلى أن يتبين ما هو المراد به ببيان ظاهر بمنزلة المجمل ولا يعمل فيه بقدر الإمكان وفيه خلاف الشافعي رحمه اللّه

قوله لا يقضي على العام أي لا يترجح عليه منقول من قضى عليه بمعنى حكم لأن الراجح حاكم على المرجوح بل يجوز أن ينسخ الخاص بالعام إذا كان العام متأخرا

قوله مثل حديث العرنيين وهو ما روى أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن قوما من عرنة أتوا المدينة فاجتووها أي كرهوا بالمقام بها لأنها لم توافقهم فاصفرت ألوانهم وانتفخت بطونهم فأمرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يخرجوا إلى إبل الصدقة ويشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا وصحوا ثم ارتدوا ومالوا إلى الرعاة وقتلوهم واستاقوا الإبل فبعث رسول اللّه

(١/٤٢٥)

صلى اللّه عليه وسلم في أثرهم قوما فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في شدة الحر حتى ماتوا قال الراوي حتى رأيت بعضهم يكدم الأرض بفيه من شدة العطش هذا حديث خاص لأنه ورد في أبوال الإبل ثم هو منسوخ عنده بعموم

قوله عليه السلام استنزهوا البول فإن عامة عذاب القبر منه إذا البول اسم جنس محلى باللام فيتناول أبوال الإبل وغيرها ولو لم يكن العام مثل الخاص لما صح نسخ الأول بالثاني إذ من شرطه المماثلة فإن قيل إنما يصح القول بالنسخ إذا ثبت تقدم الأول وتأخر الثاني ولم يثبت ذلك إذا لم يعرف التاريخ

قلنا قد ثبت تقدم الأول بدليل أن المثلة التي تضمنها ذلك الحديث قد نسخت بالاتفاق وهي كانت مشروعة في ابتداء الإسلام فدل انتساخه على تقدم ذلك الحديث ولم يثبت تقدم الحديث الثاني بدليل بل فيه مجرد احتمال فلا يعتبر

قوله ومثل

قوله عليه السلام ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة يجب العشر في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره عند أبي حنيفة رحمه اللّه لعموم

قوله عليه السلام ما سقته السماء ففيه العشر وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه لا يجب العشر في أقل من خمسة أوسق مما يدخل تحت الوسق لقوله عليه السلام ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة قالا المراد من الصدقة العشر لأن الزكاة تجب فيما دون خمسة أوسق إذا بلغت قيمته نصابا ولا يجب في خمسة أوسق إذا لم يبلغ نصابا فكان هذا الحديث نصا في المسألة والجواب لأبي حنيفة رحمه اللّه أن العام في إيجاب الحكم مثل الخاص ثم إذا وردا في حادثة ويعرف تاريخهما كان الثاني ناسخا إن كان هو العام ومخصصا إن كان هو الخاص كمن قال لعبده أعط زيدا درهما ثم قال له لا تعط أحدا شيئا كان نسخا للأول ولو قال لا تعط أحدا شيئا ثم قال أعط زيدا درهما كان تخصيصا له

وإن لم

(١/٤٢٦)

يعلم تاريخهما يجعل العام آخرا للاحتياط وفيما نحن فيه كذلك كذا في الفوائد الظهيرية فهذا معنى

قوله نسخ بقوله ما سقته السماء ففيه العشر وذكر بعضهم أن أبا حنيفة رحمه اللّه إنما عمل بالحديث العام دون الخاص في هذه المسألة وفيما تقدم أيضا لأن الأصل عنده أن العام المتفق على قبوله أولى من الخاص المختلف في قبوله لأنهما لما تساويا يرجح العام بكونه متفقا عليه على الخاص فقوله عليه السلام ما سقته السماء ففيه العشر متفق عليه لأنهما عملا به فيما وراء الخمسة الأوسق وحكما بتفاوت الواجب عند قلة المؤنة وكثرتها فأوجبا العشر فيما سقته السماء ونصف العشر فيما سقي بدالية عملا بهذا الحديث وجعلا الحديث الخاص مخصصا له وأبو حنيفة رحمه اللّه لم يعمل بالحديث الخاص أصلا فكان المتفق عليه أولى من المختلف فيه

قوله ولما ذكر محمد عطف على ما تقدم من الدليل من حيث المعنى وتقدير الكلام العام بمنزلة الخاص فيما تناوله عندنا لما قال أبو حنيفة كذا ولما ذكر محمد إذا أوصى بخاتمه لإنسان وبفصه لآخر في كلام موصول كانت الحلقة للأول والفص للثاني بالاتفاق

وأما إذا فصل فكذا الجواب عند أبي يوسف وعلى قول محمد رحمهما اللّه يكون الفص بينهما نصفين وجه قول أبي يوسف أن بإيجابه في الكلام الثاني تبين أن مراده من الكلام الأول إيجاب الحلقة للأول بدون الفص وهذا البيان منه صحيح وإن كان مفصولا لأن الوصية لا يلزمه شيئا في حال حياته فيكون البيان الموصول فيه والمفصول سواء كما في الوصية بالرقبة لإنسان وبالخدمة أو الغلة لآخر كذا الدار مع السكنى والبستان مع الثمرة

ومحمد رحمه اللّه يقول اسم الخاتم عام يتناول الحلقة والفص جميعا فكان إيجاب الفص للثاني تخصيصا لذلك العموم وتخصيص العام إنما يصح موصولا فإذا كان مفصولا لا يكون تخصيصا بل يكون معارضا فكان كلامه الثاني في الفص إيجابا للثاني وبقي عموم الإيجاب الأول على ما كان والعام مثل الخاص في إيجاب الحكم فثبت المساواة بينهما في الاستحقاق فجعلناه بينهم نصفين وليست الوصية الثانية رجوعا عن الأولى كما لو أوصى بالخاتم للثاني بخلاف ما ذكر من المسائل لأن اسم الرقبة والدار والبستان لا يتناول الخدمة والسكنى والثمرة ولكن الموصى له بالرقبة إنما يستخدم لأن المنفعة تحدث على ملكه ولا حق للغير فيه فإذا أوجب الخدمة للغير لم يبق للموصى له بالرقبة حق بحكم التعارض في الإيجاب وكذا السكنى والثمرة يوضح ما ذكرنا أنه لو قال أوصيت بهذا الخاتم إلا فصه صح الاستثناء صحة الاستثناء فيما إذا

(١/٤٢٧)

كان الكلام متناولا له ولهذا جعل عبارة عما وراء المستثنى وبمثله لو أوصى بالرقبة إلا خدمتها أو بالدار إلا سكناها أو بالبستان إلا ثمرته بطل الاستثناء فعرفنا أن الإيجاب لم يتناول هذا الأشياء حتى لم يعمل الاستثناء في إخراجها فإذا أوجبها للآخر اختص بها من أوجبها كذا في المبسوط

وهكذا الخلاف مذكور في الهداية والإيضاح والزيادات للقاضي الإمام فخر الدين والزيادات للإمام العتابي والمنظومة وشروحها فكان قول الشيخ وهذه قولهم جميعا محمول على أنه ثبت عنده رواية عن الشيخين على وفاق قول محمد ويؤيده ما ذكر القاضي الإمام في التقويم وقد دل على هذا القول فتاواهم ومحاجتهم أما الفتوى فقد قالوا في رجل أوصى إلى آخره فقد أسند هذا القول إليهم من غير ذكر خلاف وكذا ذكر شمس الأئمة هذه المسألة في الزيادات من غير ذكر خلاف أبي يوسف وإنما ذكر خلافه في المبسوط أو تصرف الإشارة في

قوله وهذا إلى أصل المسألة أي كون العام مثل الخاص قولهم جميعا أو إلى

قوله وإنما استحقه الأول بالعموم

والثاني بالخصوص ثم الخاتم ليس بعام حقيقة لأنه لا يتناول أفرادا متفقة الحدود بل الفص فيه بمنزلة الرأس واليد والرجل في اسم الإنسان ولا يصير الإنسان باعتبار هذه الأجزاء تماما فكذلك الخاتم لكنه شبيه بالعام من حيث إن الفص يدخل في اسم الخاتم بطريق الحقيقة وفواته لا يخل بالحقيقة أيضا كما أن الزائد على الثلاثة في العام بهذه المثابة

وقد يجوز الاستدلال بمثله كالواحد مع العشرة في مسألة الصفات فإنه جعل نظير الصفات من حيث إنه لم يكن عين العشرة ولا غيرها كالصفات ليست عين الذات ولا غيره لا أنه نظير للصفات حقيقة لأن ذات اللّه تعالى وصفاته منزهة عن النظير وكذلك الواحد جزء من العشرة والصفات ليست بجزء للذات ورأيت في بعض نسخ أصول الفقه أن العموم قد يطلق على لفظ وإن لم يكن عاما لتعدده باعتبار أجزاء يصح افتراقها حسا كعشرة فإن استثناء بعضها يسمى تخصيصا وهو لا يجري إلا في العام

قوله وقالوا أي العلماء الثلاثة في رب المال إلى آخره إذا اختلف المضارب

(١/٤٢٨)

ورب المال في الخصوص والعموم فإن كان قبل التصرف فالقول قول رب المال على كل حال لأن العموم لو كان ثابتا بالتنصيص أو باتفاقهما ثم نهاه رب المال عن العموم قبل التصرف عمل نهيه فههنا أولى فيجعل اختلافهما حجرا له عن العموم وإن كان بعد التصرف وقد ظهر ربح فقال المضارب أمرتني بالبز وقد خالفت فالربح لي وقال رب المال لم أسم شيئا فالقول قول رب المال والربح بينهما على الشرط بالاتفاق وإن قال المضارب وفي العقد خسران دفعت المال مضاربة بالنصف ولم تسم شيئا وقال رب المال دفعته إليك مضاربة في البز وقد خالفت فالقول قول المضارب مع يمينه استحسانا عندنا وقال زفر رحمه اللّه القول قول رب المال وهو القياس وفي قول الشيخ القول قول من يدعي العموم إشارة إلى ما قلنا يعني أيهما يدعي العموم فالقول

قوله

فزفر رحمه اللّه يقول الإذن مستفاد من جهة رب المال ولو أنكر الإذن أصلا كان القول

قوله فكذلك إذا قربه بصفة دون صفة كالمعير مع المستعير إذا اختلفا في صفة الإعارة كان القول فيه قول المعير والموكل مع الوكيل إذا اختلفا كان القول قول الموكل فهذا مثله ولنا أن مقتضى المضاربة العموم لأن المقصود تحصيل الربح وتمام ذلك باعتبار العموم في التفويض للتصرف إليه

والدليل عليه أنه لو قال خذ هذا المال مضاربة بالنصف يصح ويملك به جميع التجارات فلو لم يكن مقتضى مطلق العقد العموم لم يصح العقد إلا بالتنصيص على ما يوجب التخصيص كالوكالة وهو معنى قول الشيخ لما وجب الترجيح بدلالة العقد وإذا ثبت أن مقتضى مطلق العقد العموم فالمدعي لإطلاق العقد متمسك بما هو الأصل والآخر يدعي تخصيصا زائدا فيكون القول قول من يتمسك بالأصل كما في البيع إذا ادعى

أحدهما شرطا زائدا من خيار أو أجل

قوله ولولا استواؤهما أي ولولا المساواة بين الخاص والعام أو بين الخصوص والعموم لما وجب الترجيح أي ترجيح العموم ههنا بدلالة العقد وهي ما ذكرنا لأن الترجيح يعتمد المساواة إذ لا ترجيح عند عدم المساواة بل لا يعمل بالأدنى لأنه لا يساوي الأعلى ولا يقاومه

قوله العام الذي لم يثبت خصوصه يعني العام من الكتاب والسنة المتواترة لا يحتمل الخصوص أي لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس لأنهما ظنيان فلا يجوز

(١/٤٢٩)

تخصيص القطعي بهما لأن التخصيص بطريق المعارضة والظني لا يعارض القطعي هذا أي ما ذكرنا من عدم جواز التخصيص بهما هو المشهور من مذهب علمائنا ونقل ذلك عن أبي بكر الجصاص وعيسى بن أبان وهو قول أكثر أصحاب أبي حنيفة وهو قول بعض أصحاب الشافعي أيضا وهو قول أبي بكر وعمر وعبد اللّه بن عباس وعائشة رضي اللّه عنهم فإن أبا بكر جمع الصحابة وأمرهم بأن يردوا كل حديث مخالف للكتاب وعمر رضي اللّه عنه رد حديث فاطمة بنت قيس في المبتوتة أنها لا تستحق النفقة وقال لا نترك كتاب اللّه بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وردت عائشة رضي اللّه عنها حديث تعذيب الميت ببكاء أهله وتلت

قوله سبحانه ولا تزر وازرة وزر أخرى أورد هذا كله الجصاص ذكره أبو اليسر في أصوله واختاره القاضي الشهيد يعني الحاكم أبا الفضل محمد بن محمد بن أحمد السلمي المروزي صاحب المختصر هكذا ذكر في بعض الشروح وظني أنه أراد به القاضي الشهيد أبا نصر المحسن بن أحمد بن المحسن بن أحمد بن علي الخالدي المروزي لأنه هو المعروف بالقاضي الشهيد فأما أبو الفضل فمعروف بالحاكم الشهيد ما قلنا وهو أن العام مثل الخاص في إيجاب الحكم قطعا

قوله

ولهذا قلنا أي ولأن تخصيص العام من الكتاب لا يجوز بخبر الواحد وبالقياس ابتداء قلنا إلى آخره إذا ترك التسمية على الذبيحة عامدا لا تحل الذبيحة عندنا لقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه الآية ومطلق النهي يقتضي التحريم وأكد ذلك بحرف من لأنه في موضع النفي للمبالغة فيقتضي حرمة كل جزء منه والهاء في قوله تعالى وإنه لفسق إن كانت كناية عن الأكل فالفسق أكل الحرام وإن كانت كناية عن المذبوح فالمذبوح الذي يسمى فسقا في الشرع يكون حراما كما قال تعالى أو فسقا أهل لغير اللّه به وقال الشافعي رحمه اللّه تحل لحديث البراء بن عازب وأبي هريرة رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال المسلم يذبح على اسم اللّه سمى أو لم

(١/٤٣٠)

يسم وعن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت قالوا يا رسول اللّه إن هنا أق

واما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا يدرى يذكرون اسم اللّه عليها أم لا قال اذكروا أنتم اسم اللّه وكلوا

قال ولا متمسك لكم في الآية لأن الناسي قد خص منها بالنص وهو ما روي أنه عليه السلام سئل عمن ترك التسمية ناسيا فقال كلوه فإن تسمية اللّه في قلب كل امرئ مسلم فيخص العامد بالقياس عليه لشمول العلة المنصوصة إياهما فإن وجود التسمية في القلب حالة العمد أظهر منه في حالة النسيان أو نخصه بحديث عائشة والبراء وأبي هريرة رضي اللّه عنهم فأجاب الشيخ عن ذلك وقال لا نسلم أن الآية لحقها خصوص لأن الناسي ليس بتارك للذكر بل هو ذاكر فإن الشرع أقام الملة في هذه الحالة مقام الذكر بخلاف القياس للعجز كما أقام الأكل ناسيا مقام الإمساك في الصوم وإذا ثبت أن الناسي ذاكر حكما لا يثبت التخصيص في الآية فبقيت على عمومها فلا يجوز تخصيصها بالقياس وخبر الواحد لما ذكرنا أن الظني لا يعارض القطع ولأن التخصيص إنما يجوز إذا بقي تحت العام ما يمكن العمل به أما الفرد الواحد في اسم الجنس أو الثلاثة في اسم الجمع وههنا لم يبق تحت النص إلا حالة العمد فلو ألحق العمد بالنسيان لم يبق النص معمولا به أصلا فيكون القياس أو خبر الواحد ح معطلا للنص وأنه لا يجوز مع أنه لا يستقيم إلحاق العامد بالناسي لأن الناسي عاجز مستحق للنظر والتخفيف والعامد جان مستحق للتغليظ والتشديد فإثبات التخفيف في حقه بإقامة الملة مقام الذكر خلفا عنه لا يدل على إثباته في حق العامد إذ الفرق بين المعذور وغير المعذور أصل في الشرع في الذبح وغير الذبح كما أن في اشتراط الذكر في الذبح يفصل بين المعذور وغيره وكما في الأكل في الصوم يفصل بين الناسي والعامد ولأن الخلف إنما يصار إليه عند العجز عن الأصل كما في التراب مع الماء والعجز إنما تحقق في حق الناسي دون العامد ولأن العامد معرض عن التسمية فلا يجوز أن يجعل مسميا حكما مع الإعراض عنها بخلاف الناسي فإنه غير معرض

وأما حديث عائشة فدليلها لأنها سألت عن الأكل عند وقوع الشك في التسمية وذلك دليل على أنه كان معروفا عندهم أن التسمية من شرائط الحل وإنما أفتى النبي عليه

(١/٤٣١)

السلام بإباحة الأكل بناء على الظاهر وهو أن المسلم لا يدع التسمية عمدا لأن السؤال كان عن الأعراب كمن اشترى لحما في سوق المسلمين يباح له التناول بناء على الظاهر وإن كان يتوهم أنه ذبيحة مجوسي

وأما حديث البراء وأبي هريرة رضي اللّه عنهما فمحمول على حالة النسيان بدليل أنه ذكر في بعض الروايات وإن تعمد لم يحل كذا في المبسوط فإن قيل المراد من الآية إما ما ذبح لغير اللّه كما قال الكلبي أو ذبائح المشركين للأوثان كما قال عطاء أو الميتة والمنخنقة كما قال ابن عباس بدليل قوله تعالى وإنه لفسق وأكل متروك التسمية لا يوجب الفسق فإنه يقبل شهادة من يأكله وبدليل

قوله عز اسمه وإن الشياطين ليوحون أي ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم وإنما كانوا يجادلونهم في تحريم الميتة ويقولون إنكم تأكلون ما قتلتموه ولا تأكلون ما قتله اللّه لا في متروك التسمية

وبدليل

قوله جل ذكره وإن أطعتموهم إنكم لمشركون وإنما يكفر الإنسان إذا أطاع الكفار في إباحة الميتة لا في متروك التسمية قلنا الآية بظاهرها وعمومها يتناول متروك التسمية عمدا وغيره والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب

وقوله تعالى وإنه لفسق قلنا أكل متروك التسمية فسق أيضا حتى إن من يعتقد حرمته يفسق بأكله ولا تقبل شهادته ولكن من أكله معتقدا إباحته إنما لا يفسق لتأويله كما لا يحرم الباغي عن الميراث بقتل العادل لأنه يقتله متأولا قوله تعالى وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم قلنا سلمنا أن هذا النص يدل على أن سبب نزول الآية مجادلتهم في الميتة إلا أن اللّه تعالى أجاب بجواب أعم مما سألوا كما هو دأب التنزيل وهي الحرمة على وصف يشمل الميتة وغيرها وهو ترك ذكر اسم اللّه تعالى لأن التحريم بوصف دليل على أن ذلك الوصف هو الموجب للحرمة كالميتة فيكون الآية بيانا أن الميتة حرمت لكونها متروكة التسمية وأن هذا الوصف مؤثر في إثبات الحرمة كما أن وصف الموت مؤثر فيه فإذا حملت على الميتة وعلى ذبائح المشركين كما ذكره الخصم من غير اعتبار هذا الوصف المذكور كان فيه إبطال الوصف المنصوص عليه وأنه لا يجوز قال شمس الأئمة في المبسوط كان ابن عمر رضي اللّه عنهما لا يفصل بين

(١/٤٣٢)

النسيان والعمد ويحرم المتروك ناسيا أيضا وبه قال مالك وأصحاب الظواهر وكان علي وابن عباس رضي اللّه عنهم يفصلان بين الناسي والعامد كما هو مذهبنا فقد كانوا مجمعين على الحرمة إذا ترك التسمية عامدا وإنما يختلفون إذا تركها ناسيا وكفى بإجماعهم حجة ولهذا قال أبو يوسف رحمه اللّه متروك التسمية عامدا لا يسمع فيه الاجتهاد ولو قضى القاضي بجواز البيع فيه لا يجوز قضاؤه لأنه مخالف للإجماع واللّه أعلم

قوله وكذلك قوله تعالى ومن دخله كان آمنا مباح الدم بردة أو زنا أو قطع طريق أو قصاص إذا التجأ إلى الحرم لا يقتل فيه عندنا ولا يؤذى ليخرج ولكن لا يطعم ولا يسقى ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتل خارج الحرم لقوله تعالى ومن دخله كان آمنا علق الأمن بالشرط فيثبت عند وجود الشرط لا أن يكون ثابتا قبله فكان معناه واللّه أعلم صار آمنا ولا يتحقق الأمن إلا بإزالة الخوف وغير الجاني ليس بخائف فلا يتصور ثبوت الأمن في حقه فعرفنا أن النص متناول للجاني فيثبت الأمن في حقه وقال الشافعي رحمه اللّه يقتل فيه لأن الجاني قد خص من الآية بما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح أمر بقتل نفر منهم ابن خطل فوجدوه متعلقا بأستار الكعبة فقتلوه

وقوله عليه السلام الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم وبالقياس على الطرف فإنه لو كان عليه قصاص في الطرف فدخل الحرم استوفي منه في الحرم فلما لم يبطل أدون الحقين بالحرم فأعلاهما أولى وبالقياس على ما إذا أنشأ القتل فيه فإنه يقتل فيه بالاتفاق فكذا إذا التجأ إليه وقال ومعنى الآية ومن حجه فدخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها أو من النار فأجاب الشيخ عن كلامه وقال لا يجوز تخصيص هذا العام بالآحاد والقياس لأنه لم يلحقه خصوص فبقي قطعيا فلا يعارضه الدلائل الظنية

وذكر بعض مشايخنا أن التمسك بهذه الآية في إثبات الأمن للجاني الداخل في الحرم مشكل لأن الضمير البارز في دخله راجع إلى البيت لا إلى الحرم فإن البيت هو المذكور إلا إذا وقع النزاع في الجاني إذا دخل البيت فحينئذ يصح التمسك بها

(١/٤٣٣)

ويثبت الحكم فيمن دخل الحرم أيضا لعدم القائل بالفصل عند من جوز ذلك فأما إذا سلم الخصم أن دخول البيت يفيد الأمن ولكن دخول الحرم لا يفيده فالإلزام عليه بهذه الآية متعذر واختلف أصحاب الشافعي في ذلك فبعضهم قالوا لا يصير آمنا بالدخول في البيت ولكن لا يقتل في البيت كي لا يؤدي إلى تلويثه بل يؤخذ ويخرج من البيت ويقتل وبعضهم قالوا يصير آمنا بالدخول فيه وإن لم يأمن بالدخول في الحرم ولا يقال ليس المراد منه عين الكعبة بدليل قوله تعالى فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومقام إبراهيم خارج البيت في الحرم لأنا نقول مقام إبراهيم ما قام عنده إبراهيم وتعبد وإبراهيم كان يقوم في البيت ولا يقال أيضا إن البيت لما صار مأمنا له صار الحرم مأمنا له أيضا تبعا له لأنه من حريمه لأنا نقول حرمة التبع دون حرمة المتبوع فلا يلزم من كون البيت مأمنا للجاني أن يكون الحرم كذلك ألا ترى أنه لا يلزم من كون البيت قبلة للصلاة كون الحرم كذلك

ومن الطواف حول البيت وجوبه حول الحرم ومن وجوب تبرئة البيت عن النجاسات وجوب تبرئة الحرم عنها فكذلك هذا كذا في طريقة الصدر الحجاج قطب الدين رحمه اللّه ولكن الصحيح هو الطريق الأول فإن صفة الأمن تعم البيت والحرم قال اللّه تعالى أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا وقال إخبارا عن إبراهيم عليه السلام رب اجعل هذا بلدا آمنا ولهذا ثبت الأمن للصيد بدخول الحرم فلا معنى للفصل بين البيت والحرم ولما أخذ الحرم حكم البيت في الأمن صار البيت والحرم بمنزلة شيء واحد فيما يمكن أن يجعل كذلك فجاز أن يكون الضمير الراجع إلى البيت متناولا للحرم ولهذا قال تعالى فيه آيات بينات ولم يقل في حرمه آيات مع أن مقام إبراهيم خارج البيت وما قالوا من أن المراد من مقام إبراهيم هو البيت باعتبار عبادته فيه فاسد لأن أحدا من أهل التفسير والتأويل لم يفسره بذلك

ولأنه تعالى قال فيه آيات بينات مقام إبراهيم فسر الآيات بمقام إبراهيم إذ هو عطف بيان لآيات وليس في كون البيت متعبدا له آية بل هي ظهور أثر قدمه في الصخرة الصماء وغوصه فيها إلى الكعبين وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء لإبراهيم خاصة وحفظه مع كثرة الأعداء من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألف سنة ألا ترى أنه قيل فيه آيات ولو كان المراد ما قالوا لقيل هو آية بينة مقام إبراهيم فثبت أن الطريق الأول صحيح ولا يلزم على ما

(١/٤٣٤)

ذكرنا فصل الطرف لأن الأطراف في حكم الأموال على ما عرف والأمن ثبت للأنفس فإن قوله تعالى ومن دخله يتناول الأنفس لا الأطراف إلا أن الأمان يثبت فيها تبعا للنفس حتى لم يحل الجناية على أطراف المرتد والكافر في الحرم فإذا وجب القصاص والقطع بالجناية أو السرقة لا يمنع استيفاءه إلا من الذي ثبت تبعا بخلاف طرف الصيد فإن طرفه بمنزلة ذاته لأن الصيد لا يبقى متوحشا بعد فوات طرفه فكان إتلاف طرفه إخراجا له عن الصيدية ولأن من ثبت فيه بنص مقصود وهو

قوله عليه السلام لا ينفر صيدها الحديث وكذا لا يلزم من إنشاء القتل فيه فإنه يقتل فيه لأن النص تناول الداخل في الحرم وبالدخول يثبت الأمان ولم يوجد في حقه ولأن الملتجئ إلى الحرم معظم حرمته بالالتجاء إليه فاستحق الأمن والمنشئ هاتك لحرمته فلا يستحق الأمن

وأما قتل ابن خطل فقد كان في ساعة أحلت مكة للنبي صلى اللّه عليه وسلم كما ورد به الأثر أما الحديث الآخر فالصحيح أنه لا يعيذ عاصيا والزيادة ليست بمشهورة ولئن ثبتت فيحمل على أنه لا يسقط العقوبة واللّه أعلم

قوله قال الشافعي العام يوجب الحكم لا على اليقين يعني موجب العام عنده ظني بمنزلة القياس وخبر الواحد ولهذا جوز تخصيص العام ابتداء بهما وجعل الخاص أولى بالمصير إليه من العام متقدما كان أو متأخرا كذا ذكر في كتب أصحاب الشافعي على هذا دلت مسائله فإنه رجح خبر العرايا على عموم

قوله عليه السلام التمر بالتمر كيل بكيل الحديث كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه وبيانه أن الشافعي رحمه اللّه أجاز العرية وهي أن يبتاع الرجل ما على رءوس النخل خرصا بمثل ما يعود إليه بعد الجفاف تمرا فيما دون خمسة أوسق لما روي أنه عليه السلام رخص في العرايا سئل زيد بن ثابت رضي اللّه عنه ما عراياكم هذه قال إن محاويج الأنصار قالوا يا رسول اللّه إن الرطب ليأتينا وليس بأيدينا نقد نبتاعه وعندنا فضول قوتنا من التمر فرخص لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نبتاع بخرصها تمرا فنأكل مع الناس الرطب فرجح خبر الرخصة لخصوصه على الخبر العام الذي ذكرناه

(١/٤٣٥)

وعندنا لا يجوز ذلك البيع لأن ما على رءوس النخل تمر فلا يجوز بيعه بالتمر إلا كيلا بكيل عملا بعموم ذلك الحديث فرجحناه بعمومه ولكن بكونه متفقا على قبوله على الخاص المختلف في قبوله وقلنا العرية التي رخص فيها هي العطية وهي أن يهب الرجل ثمرة بستانه لرجل ثم يشق على المعري دخوله في بستانه لمكان أهله فيه ولا يرضى من نفسه خلف الوعد والرجوع في الهبة فيعطيه مكان ذلك تمرا محدودا بالخرص ليندفع ضرره عن نفسه ولا يكون مخلفا للوعد وهذا عندنا جائز لأن الموهوب لم يصر ملكا للموهوب له ما دام متصلا بملك الواهب فما يعطيه من التمر لا يكون عوضا عنه بل يكون هبة مبتدأة وإنما سمي ذلك تبعا مجازا لأنه في الصورة عوض يعطيه للتحرز عن خلف الوعد واتفق أن ذلك كان فيما دون خمسة أوسق فظن الراوي أن الرخصة مقصورة عليه فنقل كما وقع عنده وكذلك رجح الشافعي

قوله عليه السلام ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة على عموم

قوله عليه السلام ما سقته السماء ففيه العشر كما رجح أبو يوسف ومحمد إلا أنه رجح نظرا إلى خصوصه وعموم الآخر فإن الخاص عنده راجح على العام بكل حال وهما رجحاه باعتبار أن التاريخ لما لم يعرف بينهما جعلا كأنهما وردا معا فجعل الخاص مخصصا للعام حتى لو علم كون العام متأخرا كان ناسخا للخاص عندهما خلافا له

قوله وقال بعض الفقهاء الوقف واجب في كل عام حتى يقوم الدليل يعني على العموم أو الخصوص ويسمون الواقفية وقد تحزبوا فرقا فمنهم من قال ليس في اللغة صيغة مبينة للعموم خاصة لا تكون مشتركة بينه وبين غيره والألفاظ التي ادعاها أرباب العموم أنها عامة لا تفيد عموما ولا خصوصا بل هي مشتركة بينهما أو مجملة فيتوقف في حق العمل والاعتقاد جميعا إلا أن يقوم الدليل على المراد كما يتوقف في المشترك أو كما يتوقف في المجمل

والخبر والأمر والنهي في ذلك سواء وهو مذهب عامة الأشعرية وعامة المرجئة وإليه مال أبو سعيد البردعي من أصحابنا ومنهم من قال يثبت به أخص الخصوص وهو الواحد في اسم الجنس والثلاثة

(١/٤٣٦)

في صيغة الجمع ويتوقف فيما وراء ذلك إلى أن يقوم الدليل ويسمون أصحاب الخصوص وبه أخذ أبو عبد اللّه البلخي من أصحابنا وأبو علي الجبائي من المعتزلة ومنهم من توقف في حق الكل في حق الاعتقاد دون العمل فقالوا يجب أن يعتقد على الإبهام أن ما أراد اللّه تعالى من العموم والخصوص فهو حق ولكنه يوجب العمل وهو مذهب مشايخ سمرقند رئيسهم الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي رحمهم اللّه ومنهم من فرق بين الخبر وبين الأمر والنهي فتوقف في الخبر وأجرى الأمر والنهي على العموم وهذا قول حكاه أبو الطيب بن شهاب عن أبي الحسن الكرخي ومنهم من توقف في الأمر والنهي وأجرى الأخبار على ظواهرها في العموم فعند الفريق الأول لا يصح التمسك بعام أصلا وكذا عند الفريق الثاني فيما وراء أخص الخصوص وعند الفريق الثالث يصح التمسك بظواهر العمومات في الأحكام لا في الاعتقادات لأن المقصود منها العمل وهي توجب العمل وكذا إذا قال علي دراهم لفلان فعند الفريق الأول والرابع لا يلزمه شيء إلا بعد البيان كما لو قال علي شيء وعند الفريق الثاني يلزمه ثلاثة دراهم لأنها أخص الخصوص وكذا عند الفريق الخامس وأرباب العموم أيضا لأن العمل بالعموم ههنا متعذر فيصار إلى أخص الخصوص ثم لما كان وجوب التوقف عند الفريق الأول للإجمال أو للاشتراك أشار الشيخ في بيان شبهتهم إلى المعنيين

فأشار إلى الإجمال بقوله اللفظ مجمل فيما أريد به أي في معرفة المراد به حقيقة لأن الاستغراق ليس من موجبات العموم وشرائطه عندكم على ما مر ذكره في أول الكتاب والدليل عليه يستقيم أن يقرن به على وجه البيان والتفسير ما يوجب عموم الصيغة وإحاطتها للجميع فيقال جاءني القوم كلهم وأجمعون ولو كان العموم والإحاطة موجب اللفظ لم يستقم تفسيره بما هو عين موجبه كالخاص لا يستقيم أن يقرن به ما هو بيان موجبه بأن يقال جاءني زيد كله أو جميعه ولما استقام ذلك عرفنا أنه غير موجب للإحاطة بنفسه وإذا كان كذلك كان البعض مرادا منه لا محالة وهو غير معلوم لأن أعداد الجمع مختلفة وليس بعضها أولى من البعض لاستواء الكل في معنى

(١/٤٣٧)

الجمعية فلا يمكن معرفته بالتأمل في صيغة اللفظ فيكون بمنزلة المجمل فيجب التوقف فيه وحاصل الفرق أن

قوله جاءني زيد موضوعه الأصلي معلوم لكنه يحتمل غير ما وضع له أيضا بطريق المجاز وهو مجيء الخبر أو الكتاب أما الموضوع الأصلي في العام فالجمع وذلك يوجد في الكل فيما دونه من الأعداد إلى الثلاثة ومع ذلك يحتمل غير ما وضع له أيضا وهو الفرد بطريق المجاز ولهذا يؤكد بما يقطع الاحتمالين أي احتمال المجاز واحتمال البعض فيقال جاءني القوم أنفسهم كلهم أو أجمعون ولا يقال جاءني زيد نفسه كله أو جميعه وإذا كان الاحتمال والاشتباه فيه موضوعه الأصلي كان بمنزلة المجمل بخلاف الخاص

وأشار إلى الاشتراك بقوله وقد ذكر الجمع أي صيغة الجمع وأريد به البعض أي البعض الخاص مثل قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم كان أبو سفيان واعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد أن يوافيه العام المقبل ببدر الصغرى فلما دنا الموعد رعب وندم وجعل لنعيم بن مسعود الأشجعي عشرا من الإبل على أن يخوف المؤمنين فذلك

قوله جل ذكره الذين يعني المؤمنين قال لهم الناس أي نعيم بن مسعود وهو معنى قول الشيخ وإنما هو الواحد إن الناس أي أهل مكة قد جمعوا لكم أي الجيش لقتالكم فاخشوهم ولا تأتوهم فزادهم ذلك القول إيمانا أي ثبوتا في دينهم وإقامة على نصرة نبيهم ولما استعملت هذه الصيغ في الخصوص استعمالا شائعا كما استعملت في العموم بل استعمالها في الخصوص أكثر فقل ما وجد في الكتاب والسنة والكلمات المطلقة في المحاورات من العمومات ما لا يتطرق إليه تخصيص قضينا بأنها مشتركة إذ الأصل في الاستعمال الحقيقة كما قضينا باشتراك اسم العين لما رأينا العرب يستعملون لفظ العين في مسمياته استعمالا واحدا متشابها فمن ادعى أنه حقيقة في العموم مجاز في الخصوص فهو متحكم كمن ادعى على العكس وإذا ثبت الاشتراك وجب التوقف لا محالة حتى يتبين المراد

والفرق بين الوجهين أن في الوجه الأول لا يمكن الوقوف على المراد إلا بالبيان وفي الوجه الثاني قد توقف عليه بالتأمل وبالبيان كما في المشترك

قوله وجه القول الآخر بفتح الخاء وكسرها وهو القول بأخص الخصوص أنه لا

(١/٤٣٨)

وجه إلى القول بالتوقف لأنه يؤدي إلى إهمال اللفظ الموضوع مع إمكان العمل به فلا بد من أن يثبت به شيء من محتملاته ثم تناول اللفظ للأخص وهو الثلاثة من الجماعة والواحد من الجنس متيقن لثبوته على التقديرين أعني تقدير إرادة العموم وتقدير إرادة الخصوص وتناوله للعموم محتمل فالعمل بالمتيقن وجعل اللفظ حقيقة فيه أولى من العكس ووجه قول مشايخ سمرقند رحمهم اللّه أن صيغ العموم موضوعة له في أصل الوضع ولكن في عرف الاستعمال صارت مشتركة وورود هذه النصوص كان في الوقت الذي صارت مشتركة فلو اعتقدنا فيها العموم لا نأمن عن الوقوع في الخطأ لاحتمال أن يكون المراد منها الخصوص إذ أكثر العمومات غير مستوعبة ولو قلنا بالتوقف في حق العمل أو بأخص الخصوص كما قالوا لا نأمن من أن يؤدي ذلك إلى ترك واجب أو ارتكاب محظور إذ احتمال إرادة العموم قائم أيضا فقلنا بالتوقف في حق الاعتقاد وبالعموم في حق العمل احتياطا ووجه قول من توقف في الخبر دون الأمر والنهي أن الإجماع منعقد على التكليف بأوامر ونواه عامة لجميع المكلفين فلو لم يكن الأمر والنهي للعموم لما كان التكليف عاما بخلاف الخبر إذ ليس فيه تكليف فوجب التوقف فيه بالدليل الذي قاله الفريق الأول ووجه قول من عكس الأمر أن احتمال الوجوب والندب والتحريم والتنزيه في حقيقة الأمر والنهي وهي الطلب والمنع قائم فيتوقف فيهما بخلاف الخبر لما نذكر من دليل أرباب العموم

قوله ووجه قولنا والشافعي إنه موجب إلى آخره واعلم أن في دلائل أرباب العموم كثرة ولكن الشيخ أشار إلى اثنين منها إلى الدليل المعقول وإلى إجماع الصحابة فقوله العموم معنى مقصود إلى

قوله عبيدي أحرار إشارة إلى المعقول

قوله والاحتجاج إلى آخره إشارة إلى الإجماع أما بيان الأول فهو أن الأسماء وضعت دلالات على المعاني المقصودة وقد مر تحقيقه في باب الأمر ثم معنى العموم مقصود بين العقلاء كمعنى الخصوص والأمر والنهي فلا بد من أن يكون له لفظ موضوع مختص به كسائر المقاصد إذ الألفاظ لا تقصر عن المعاني أعني المعاني التي يقصد بها تفهيم الغير وهذا لأن المتكلم باللفظ الخاص له في ذلك مراد لا يحصل باللفظ العام وهو تخصيص الفرد بشيء فكان لتحصيل مراده لفظ موضوع وهو الخاص فكذا المتكلم باللفظ العام له مراد في العموم لا يحصل ذلك باللفظ الخاص ولا يتيسر عليه التنصيص على كل فرد مما هو مراد باللفظ العام فلا بد من أن يكون لمراده لفظ موضوع لغة أيضا

(١/٤٣٩)

قوله ألا ترى متصل بقوله عرفا يعني الدليل على أنه مقصود بين الناس عرفا أن من أراد أن يعتق جميع عبيده جملة يقول عبيدي أحرار ولا سبيل له إلى تحصيل هذا المقصود إلا بالتعميم فمن جعل موجبه التوقف فإنه يسد على المتكلم باب تحصيل مقصوده في العموم باستعمال صيغته إليه أشار شمس الأئمة رحمه اللّه واعترضوا على هذا الدليل فقالوا هذا قياس أو استدلال واللغة ثبتت توقيفا ونقلا لا قياسا وإن سلم أن ذلك واجب في الحكمة لا نسلم عصمة واضعي اللغة حتى لا يخالفوا الحكمة في وضعها ألا ترى أن العرب قد عقلت الماضي والمستقبل والحال ثم لم تضع للحال لفظا خاصا حتى لزم استعمال المستقبل فيها وكما عقلت الألوان عقلت الروائح ثم لم تضع للروائح أسامي حتى لزم تعريفها بالإضافة فيقال ريح المسك وريح العود ولا يقال لون الدم ولون الزعفران بل يقال أحمر أو أصفر

ولئن سلمنا أنهم وضعوا للعموم لفظا لا نسلم أنهم وضعوا فيه لفظا خاصا يدل عليه فقط فإن العين موضوع للباصرة ولكن بصفة الاشتراك بين أشياء لأنهم استعملوه في غير الباصرة فكذلك صيغ العموم مشتركة بين العموم والخصوص

وأما بيان الثاني وهو العمدة في الباب فهو أن الاحتجاج بالعموم أي بالعام عن السلف وهم الصحابة ومن بعدهم من أئمة الدين متوارث أي ثابت فقد اختلف علي وعبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنهما في المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فقال علي رضي اللّه عنه إنها تعتد بأبعد الأجلين لأن قوله تعالى والذين أي وأزواج الذين يتوفون منكم أي يستوفى أزواجهم يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا أي يعتددن هذه المدة وقيل عشرا ذهابا إلى الليالي والأيام داخلة معها يقتضي أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر

وقوله عز اسمه وأولات الأحمال أي ذوات الحمل من النساء أجلهن أن يضعن حملهن أي عدتهن وضع حملهن يقتضي أنها تعتد بوضع الحمل والتاريخ غير معلوم فوجب القول بأبعد الأجلين احتياطا وقال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه إنها تعتد بوضع الحمل لا غير لأن قوله تعالى وأولات الأحمال متأخر في النزول عن

قوله عز اسمه والذين

(١/٤٤٠)

يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن الآية حتى قال من شاء بأهلته عند الحجر الأسود إن سورة النساء القصرى يعني سورة الطلاق نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة وأنه يتناول المتوفى عنها زوجها كما يتناول غيرها فصار بعمومه ناسخا لما تقدمه وهو قوله تعالى يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فلهذا أوجب عليها الاعتداد بوضع الحمل لا غير

قوله فصار ناسخا أي صار قوله تعالى وأولات الأحمال ناسخا للخاص الذي في سورة البقرة وهو

قوله عز اسمه والذين يتوفون منكم واعلم أن كل واحد من النصين بالنسبة إلى الآخر عام من وجه خاص من وجه فقوله تعالى وأولات الأحمال عام من حيث إنه يتناول المتوفى عنها زوجها وغيرها خاص من حيث إنه لا يتناول إلا أولات الأحمال

وقوله عز اسمه والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا خاص بالنسبة إلى الأول من حيث إنه لا يتناول إلا المتوفى عنها زوجها عام من حيث إنه يتناول المتوفى عنها زوجها الحامل وغير الحامل فنسخ قوله تعالى وأولات الأحمال بعمومه حكم هذا النص الخاص النسبي في حق الحامل لكونه متأخرا عنه فهو معنى

قوله فصار ناسخا للخاص فثبت بما ذكرنا أن كل واحد من القرمين الإمامين عمل بالعموم كما هو موجب الصيغة إلا أن

أحدهما جمع بين النصين لعدم علمه بالتاريخ والآخر عمل بالمتأخر لمعرفته به وكذلك اختلف علي وعثمان رضي اللّه عنهما في الجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين قال علي رضي اللّه عنه يحرم ذلك لأن قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين يوجب تحريمه لأن الجمع بين الأختين لما حرم نكاحا وهو سبب مفض إلى الوطء فلأن يحرم الجمع بينهما وطئا بملك اليمين كان أولى

وقوله جل جلاله أو ما ملكت أيمانهم يوجب حله فكان الأخذ بما يحرم أولى احتياطا ووافقه عثمان رضي اللّه عنه في أن النصين يوجبان التحريم والتحليل إلا أنه رجح الموجب للحل باعتبار الأصل فعمل كل واحد منهما بالعموم

ولا يقال المبيح عبارة والمحرم دلالة فلا يتعارضان لأنا نقول قد خص من المبيح الأمة المجوسية والأخت من الرضاع وأخت المنكوحة وغيرهن فكان أدنى من القياس فيعارضه الدلالة بل

(١/٤٤١)

تترجح عليه على أنا نقول الحرمة ثابتة بالعبارة أيضا فإن قوله تعالى وأن تجمعوا يتناول الجمع من حيث النكاح والوطء جميعا وكذلك قد اشتهر الاحتجاج بالعمومات عن عامة الصحابة رضي اللّه عنهم في الوقائع من غير نكير من أحد فإنهم عملوا بقوله تعالى يوصيكم اللّه في أولادكم فاستدلوا به على إرث فاطمة رضي اللّه عنها حتى نقل أبو بكر رضي اللّه عنه نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وأجروا قوله تعالى الزانية والزاني و والسارق والسارقة ومن قتل مظلوما وذروا ما بقي من الربا ولا تقتلوا أنفسكم و لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم

وقوله عليه السلام لا وصية لوارث لا تنكح المرأة على عمتها من ألقى السلاح فهو آمن لا يرث القاتل لا يقتل والد بولده إلى غير ذلك مما لا يحصى على العموم ويدل عليه أنه لما نزل قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال ابن أم مكتوم وكان ضريرا يا رسول اللّه وكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين فنزل

قوله عز ذكره غير أولي الضرر فعقل الضرير وغيره عموم لفظ المؤمنين ولما نزل قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم

قال بعض الكفار أنا أخصم لكم محمدا فجاء وقال أليس عبد الملائكة وعبد المسيح فيجب أن يكونوا من حصب جهنم فأنزل اللّه تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية تنبيها على التخصيص ولم ينكر النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضي اللّه عنهم تعلقه بالعموم وما قالوا له لما استدل

(١/٤٤٢)

استدللت بلفظ مشترك أو مجمل ولما نزل قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قالت الصحابة فأينا لم يظلم نفسه فبين النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه أراد به ظلم النفاق والكفر واحتج عمر على أبي بكر رضي اللّه عنهما بقوله عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه فدفعه أبو بكر بقوله عليه السلام إلا بحقها ولم ينكر عليه التعلق بالعموم هذا وأمثاله لا تنحصر حكايته فثبت بهذا أن القول بالعموم مذهب السلف ومن بعدهم قبل ظهور الواقفية متوارث ذلك عنهم بالنقل المستفيض وأنهم كانوا يجرون ألفاظ الكتاب والسنة على العموم إلا ما دل الدليل على تخصيصه فإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم فكان القول بالتوقف أو بأخص الخصوص مخالفا لإجماع السلف فوجب رده قال الإمام الغزالي رحمه اللّه والطريق المختار في إثبات العموم عندنا أن الحاجة إلى صيغة تدل على معنى العموم لا يختص بلغة العرب بل هي ثابتة في جميع اللغات فيبعد أن يغفل عنها جميع أصناف الخلق فلا يضعوها مع الحاجة إليها ويدل على وضعها توجه الاعتراض على من عصى الأمر العام وسقوط الاعتراض عمن أطاع ولزوم النقض والخلف على الخبر العام

وجواز بناء الاستحلال على المحللات العامة فهذه أربعة أمور تدل على الغرض وبيانها أن السيد إذا قال لعبده من دخل اليوم داري فأعطه رغيفا أو درهما فأعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه وأن يعاتبه في إعطائه واحدا من الداخلين ويقول لم أعطيت هذا من جملتهم وهو قصير وأنا أردت الطوال أو هو أسود وأنا أردت البيض وللعبد أن يقول ما أمرتني بإعطاء الطوال والبيض بل بإعطاء من دخل وهذا دخل فالعقلاء إذا سمعوا في اللغات كلها رأوا اعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها وقالوا للسيد أنت أمرته بإعطاء من دخل وهذا قد دخل ولو أنه أعطى الجميع إلا واحدا فعاتبه السيد وقال لم لم تعطه فقال العبد لأن هذا طويل أو أبيض وكان لفظك عاما فقلت لعلك أردت القصار أو السود استوجب التأديب بهذا الكلام وقيل له مالك والنظر إلى الطول واللون وقد أمرتك بإعطاء الداخل فهذا معنى سقوط الاعتراض عن المطيع وتوجهه على العاصي

(١/٤٤٣)

وأما النقض على الخبر فهو ما إذا قال ما رأيت اليوم أحدا وكان قد رأى جماعة كان كلامه خلفا منقوضا وكذبا فإن قال أردت أحدا غير تلك الجماعة كان مستنكرا وهذه إحدى صيغ العموم فإن النكرة في النفي تعم عند القائلين بالعموم ولذلك قال تعالى إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا إنما أورد هذا نقضا على كلامهم فإن لم يكن عاما فلم ورد النقض عليهم فإنهم أرادوا غير موسى فلم يلزم دخول موسى تحت اسم البشر

وأما الاستحلال بالعموم فإذا قال الرجل أعتقت عبيدي أو إمائي ومات عقيبه جاز لمن سمعه أن يزوج من أي عبيده شاء أو يتزوج بأي جواريه بغير رضاء الورثة وإذا قال العبيد الذين هم في يدي ملك فلان كان ذلك إقرارا محكوما به في الجميع وبناء أمثال هذه الأحكام على العمومات في سائر اللغات لا ينحصر ولا خلاف أنه لو قال أنفق على عبدي غانم أو على زوجتي زينب وله عبدان اسمهما غانم وزوجتان اسمهما زينب يجب المراجعة والاستفهام لأنه أتى باسم مشترك غير مفهوم فلو كان لفظ العموم مشتركا فيما وراء أقل الجمع ينبغي أن يجب التوقف على العبد إذا أعطى ثلاثة ممن دخل الدار وينبغي أن يراجع في الباقي وليس كذلك عند العقلاء كلهم في اللغات كلها فإن قيل إن سلمنا لكم ما ذكرتموه فإنما نسلم بسبب القرائن فإذا عري عن القرائن فلا نسلم وفي

قوله أنفق على عبيدي وجواري في غيبتي إنما كان مطيعا بالإنفاق على الجميع بقرينة الحاجة إلى النفقة وفي

قوله أعط من دخل داري لقرينة إكرام الزائر قلنا فلنقدر أضدادها فإنه لو قال لا تنفق على عبيدي وزوجاتي كان عاصيا بالإنفاق مطيعا بالتصنيع ولو قال اضربهم لم يكن له أن يقتصر على ثلاثة بل إذا ضربهم جميعا عد مطيعا ولو قال من دخل داري فخذ منه شيئا بقي العموم

قوله وذلك عام كله إشارة إلى ما احتج ابن مسعود وعلي رضي اللّه عنهما من الآيات فعموم الأوليين ظاهر وكذا عموم الثالثة وهي قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إذ معناه وحرم عليكم الجمع بين الأختين والجمع اسم جنس محلى باللام فيتناول الجمع نكاحا ووطئا

قوله ثم قال الشافعي إلى آخره اختلف أرباب العموم في موجب العام فعند الجمهور من الفقهاء والمتكلمين منهم موجبه ليس بقطعي وهو مذهب الشافعي وإليه ذهب الشيخ أبو منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند وعند عامة مشايخنا العراقيين

(١/٤٤٤)

منهم أبو الحسن الكرخي وأبو بكر الجصاص موجبه قطعي كموجب الخاص وتابعهم في ذلك القاضي الإمام أبو زيد وعامة المتأخرين منهم الشيخ المصنف رحمهم اللّه وثمرة الاختلاف تظهر في وجوب الاعتقاد وجواز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد ابتداء فعند الفريق الأول لا يجب أن يعتقد العموم فيه ويجوز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد وعند الفريق الثاني على العكس تمسك من قال بأنه ليس بقطعي بأن اليقين والقطع لا يثبت مع الاحتمال لأنه عبارة عن قطع الاحتمال ثم احتمال إرادة الخصوص في العام قائم لأنه لا يرد إلا على احتمال الخصوص في نفسه إلا أن يثبت بالدليل أنه غير محتمل للخصوص كقوله سبحانه إن اللّه بكل شيء عليم للّه ما في السموات والأرض

وإذا كان الاحتمال ثابتا في نفسه لا يمكن القول بثبوت موجبه قطعا مع الاحتمال كالثابت بالقياس وخبر الواحد وهذا بخلاف الخاص فإن احتمال إرادة المجاز والنسخ قائم فيه ومع ذلك يثبت موجبه قطعا عند الشافعي لأن احتمال المجاز ثابت في العموم أيضا مع احتمال التخصيص فكان الاحتمال فيه أكثر وأقوى فيجوز أن يؤثر في رفع القطع واليقين وحقيقة الفرق أن احتمال التخصيص لا يخرج العام عن حقيقته لأن العموم باق بعد التخصيص إلى الثلاث لما نذكر أن العام بعد التخصيص لا يصير مجازا فيما وراءه وإذا كان كذلك كان احتمال إرادة التخصيص بمنزلة إرادة مسمى آخر لهذه الصيغة فيجوز أن يعتبر في رفع اليقين لأنه ليس على خلاف الأصل كالمشترك إذا ترجح بعض وجوهه بدليل ظاهر كان احتمال إرادة المسمى الآخر معتبرا في رفع القطع واليقين فأما احتمال إرادة المجاز في الخاص فيخرجه عن حقيقته وأصله فكان على خلاف الأصل فلا يعتبر من غير دليل

وأما احتمال النسخ فذكر صدر الإسلام في أصوله أن الخاص بنفسه لا يوجب شيئا ما لم يتفحص ولم يتأمل فإذا تفحص عنه ولم يوقف على النسخ فقد زال الاحتمال فإنه لا يتصور في زماننا ابتداء النسخ حتى أن في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان الخاص يوجب العمل دون العلم لتوهم الانتساخ فأما إرادة الخصوص فموهوم في كل زمان وكل عام محتمل للخصوص في كل زمان فيوجب العمل دون العلم ويدل على صحة رواية الصحابة والسلف أخبار الآحاد الخاصة في معارضة عموم

(١/٤٤٥)

الكتاب وتخصيص العموم بها وبالقياس فكان ذلك اتفاقا منهم أنه يوجب العمل دون العلم

وتمسك من قال بأن موجبه قطعي بأن اللفظ متى وضع لمعنى كان ذلك المعنى عند إطلاقه واجبا أي لازما وثابتا بذلك اللفظ حتى يقوم الدليل على خلافه ثم صيغة العموم موضوعة له وحقيقة فيه فكان معنى العموم واجبا وثابتا بها قطعا حتى يقوم الدليل على خلافه كما في الخاص فإن مسماه ثابت به قطعا لكونه موضوعا له حتى يقوم الدليل على صرفه إلى المجاز فأما الاحتمال الذي ذكره الخصم فلا عبرة به أصلا لأنه إرادة في باطن المكلف وهي غيب عنا وليس في وسعنا الوقوف عليها فلا يعتبر إلا أن يظهر دليل فقبل ظهوره يكون موجبه ثابتا قطعا بمنزلة الخاص فإن إرادة المجاز لما كانت غيبا لا يمكن الوقوف عليها من غير دليل كان موجبه ثابتا قطعا قبل ظهور الدليل يوضحه أن ورود صيغة العموم على إرادة الخصوص من غير قرينة تدل عليه يوهم التلبيس على السامع ويؤدي إلى تكليف المحال تعالى اللّه عن ذلك فلا يجوز ورود العام على إرادة الخصوص ولا ورود الخاص على إرادة المجاز من غير دليل يفهم السامع مراد الخطاب قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه الخصم مال إلى أن الإرادة مغيرة حكم الحقيقة لا محالة واحتمال الإرادة ثابت حال التكلم فيثبت احتمال التغير به إلا أن اللّه تعالى لما لم يكلفنا ما ليس في الوسع سقط اعتبار الإرادة في حق العمل فلزمنا العمل بالعموم الظاهر دون ما لا نصل إليه من الإرادة الباطنة وبقي احتمال الإرادة معتبرا في حق العلم فلا نعلم قطعا وأنه كلام حسن ولكن يجب أن نقول كذلك في حقيقة الخاص مع مجازه

والجواب عنه أن اللّه تعالى لما لم يكلفنا ما ليس في وسعنا وليس في وسعنا الوقوف على الباطن إلا بدلالة ظاهرة لم يجعل الباطن حجة أصلا في حقنا وسقط اعتباره في العمل والعلم جميعا وجعل الحجة ما يظهر به الباطن وإن كان سببا لثبوت الحجة في الحقيقة إقامة للسبب الظاهر مقام ما هو حجة باطنة تيسيرا على العباد كإقامة البلوغ مقام اعتدال العقل وكإقامة دليل المحبة والبغض وهو الإخبار مقام حقيقتهما حتى سقط اعتبار الاعتدال فلم يخاطب الصبي وإن اعتدل عقله وخوطب البالغ وإن لم يعتدل عقله وكذا سقط اعتبار حقيقة المحبة والبغض وصار كأنه قال إن أخبرتني أنك تحبيني أو تبغضيني فأنت طالق فتطلق بالإخبار صدقا أو كذبا فكذا هذا قال المصنف رحمه اللّه في بعض تصانيفه ولما سقط اعتبار الإرادة في حق العمل بالاتفاق يسقط في حق العلم بالطريق الأولى لأن العلم عمل القلب والقلب أصل والعمل

(١/٤٤٦)

يقوم بالجوارح وإنها تابعة للقلب فلما سقط في حق التبع ففي حق الأصل أولى ولكن يرد عليه خبر الواحد والقياس فإن اعتبار الاحتمال فيهما ساقط في حق العمل ثم لم يسقط في حق العلم بالاتفاق فكذا ههنا

قوله والجواب عما احتجت به الطائفة الأولى يعني الواقفية أنا ندعي أنه أي العام موجب لما وضع له وهو العموم قطعا عند عدم دليل الخصوص لا أنه محكم لما وضع له أي فيما وضع له بحيث لم يبق صلاحيته لإرادة الخصوص فكان محتملا أن يراد به بعضه أي صالحا في ذاته لذلك وقد حققنا هذا في أول باب أحكام الخاص بما يحسم أي يقطع بالكلية

باب الاحتمال أي صلاحيته الآن يراد به بعضه ليصير محكما أي غير قابل لمعنى آخر يعني إنما صلح توكيده مع أنه بدون التوكيد يوجب العموم والإحاطة ليصير محكما لا لما ظنه الخصم أنه مجمل أو مشترك فيصير بهذا التوكيد مفسرا ويكون هذا التوكيد إزالة لخفائه وتعيينا لبعض مسمياته كالخاص يحتمل المجاز فتوكيده بما يقطع احتمال المجاز لا بما يفسره فيقال جاءني زيد نفسه لأنه قد يحتمل غير المجيء أي غير مجيء زيد بل يحتمل مجيء خبره وكتابه وإنما لم يتعرض لجواب أصحاب الخصوص لأن فيما ذكر جوابا عما احتجوا به أيضا وإنما سوينا في موجب العام بين الخبر والأمر والنهي لأن ذلك حكم صيغة العموم وهي موجودة في الكل فلا وجه إلى الفرق بين الخبر وغيره وقول الفارق الإجماع منعقد على التكاليف بأوامر ونواه عامة قلنا فكذا الإجماع منعقد على التكليف بأخبار عامة لجميع المكلفين على معنى كونهم مكلفين بمعرفتها كقوله تعالى وهو بكل شيء عليم وكذلك عمومات الوعد والوعيد إذ بمعرفتها يتحقق الانزجار عن المعاصي والانقياد للطاعات ومع التساوي في التكليف لا معنى للفرق واللّه أعلم

(١/٤٤٧)