Geri

   

 

 

İleri

 

باب النهي

لأنه خاص في التحريم كالأمر خاص في الإيجاب ثم النهي في اللغة المنع ومنه النهية للعقل لأنه مانع عن القبيح وفي اصطلاح أهل الأصول هو استدعاء ترك الفعل بالقول ممن هو دونه وقيل هو قول القائل لغيره لا تفعل على جهة الاستعلاء وقيل هو اقتضاء كف عن فعل على جهة الاستعلاء وهذه العبارات بعضها قريب من بعض ويفهم ما فيها من الاحترازات عما ذكرنا في حد الأمر ولما كان النهي مقابل الأمر فكل ما قيل في حد الأمر من مزيف أو مختار قيل مقابله في حد النهي ثم صيغة النهي وإن كانت مترددة بين التحريم كقوله تعالى ولا تقربوا الزنا والكراهة كقوله تعالى وذروا البيع إذ معناه ولا تبايعوا والتحقير كقوله تعالى ولا تمدن عينيك الآية وبيان العاقبة كقوله تعالى ولا تحسبن اللّه غافلا والدعاء كقول الداعي لا تكلني إلى نفسي والتآسي كقوله تعالى لا تعتذروا اليوم والإرشاد كقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء والشفقة كقوله عليه السلام لا تتخذوا الدواب كراسي فهي مجاز في غير التحريم والكراهة بالاتفاق فأما الكلام في أنها حقيقة في التحريم دون الكراهة أو على العكس أو مشتركة بينهما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي أو موقوف فعلى ما تقدم في الأمر من المزيف والمختار كذا في عامة نسخ أصول الفقه وذكر في التقويم ويحتمل أن لا يكون على الاختلاف لأن القول به يؤدي إلى أن يصير موجب الأمر والنهي واحدا وهو الوقف وهذا لا سبيل إليه

(١/٣٧٦)

ثم موجب النهي وجوب الانتهاء عن مباشرة المنهي عنه لأنه ضد الأمر فكما أن طلب الفعل بأبلغ الوجوه مع بقاء اختيار المخاطب يتحقق بوجوب الائتمار فكذلك طلب الامتناع عن الفعل بآكد الوجوه وذكر في الميزان أن حكم النهي صيرورة الفعل المنهي عنه حراما وثبوت الحرمة فيه فإن النهي والتحريم واحد وموجب التحريم هو الحرمة كموجب التمليك هو ثبوت الملك هذا هو حكم النهي من حيث إنه نهي فأما وجوب الانتهاء فحكم النهي من حيث إنه أمر بضده ففي الحقيقة وجوب الانتهاء حكم الأمر الثابت بالنهي وكون الفعل المنهي عنه حراما حكم النهي ومقتضى النهي شرعا قبح المنهي عنه كما أن مقتضى الأمر حسن المأمور به لأن الحكيم لا ينهى عن فعل إلا لقبحه كما لا يأمر بشيء إلا لحسنه قال تعالى وينهى عن الفحشاء والمنكر فكان القبح من مقتضياته شرعا لا لغة لما ذكرنا في الأمر والمنهي عنه في صفة القبح انقسم على أربعة أقسام ما قبح لعينه وضعا كالعبث والسفه والكذب والظلم وما التحق به شرعا كبيع الحر والمضامين والملاقيح وما قبح لغيره وصفا كالبيع الفاسد وما قبح لغيره مجاورا إياه جمعا كالبيع وقت النداء على ما ستعرفه

قوله والنهي المطلق نوعان أي المطلق عن القرينة الدالة على أن المنهي عنه قبيح لعينه أو لغيره أو المطلق عن القرينة الدالة على أنه على حقيقته أو مصروف إلى مجازه نهي عن الأفعال الحسية وهي التي تعرف حسا ولا يتوقف حصولها وتحققها على الشرع ونهي عن التصرفات الشرعية وهي التي يتوقف حصولها وتحققها على الشرع فالزنا والقتل وشرب الخمر وأمثالها لا يتوقف تحققها ومعرفتها على الشرع لأنها كانت معلومة قبل الشرع عند أهل الملل أجمع فأما الصلاة فلم يكن كونها قربة وعبادة على هذه الهيئة معلوما قبل الشرع وكذا الصوم والبيع وأشباههما ولا يقال هذه الأفعال يعرف حسا كشرب الخمر والقتل فإنا إذا رأينا من يصلي أو يبيع علمنا حسا أنه فعل ذلك كما علمنا القتل وشرب الخمر لأنا نقول نحن نسلم أن هذه الأفعال من حيث كونها فعلا

(١/٣٧٧)

يعرف بالحس فأما من حيث كونها صلاة وعقدا حتى كانت سبب ثواب وسبب ملك فلا يعرف إلا بالشرع

فإن قيل فالبيع والإجارة ونحوهما لم يتوقف تحققها على الشرع فإن أهل الملل كلهم يتعاطونها من غير شرع وقد كانت قبل الشرع أيضا قلنا إنهم إنما يتعاطون مبادلة المال بالمال أو بالمنفعة فإما أن يكون بعت واشتريت عقدا عندهم بحيث يترتب عليه أحكام لا تكاد تضبط فلا بل إنما هي يثبت بالشرع

وما أشبه ذلك أي المذكور مثل الحج والنكاح لمعنى في أعيانها بلا خلاف لأن الأصل أن يثبت القبح باقتضاء النهي فيما أضيف إليه النهي لا فيما لم يضف إليه فلا يترك هذا الأصل من غير ضرورة ولا ضرورة ههنا لأنه أمكن تحقيق هذه الأفعال مع صفة القبح لأنها توجد حسا فلا يمتنع وجودها بسبب القبح إلا إذا قام الدليل على خلافه أي خلاف كونها قبيحة في نفسها كالوطء في حالة الحيض فإنه منهي لغيره وهو الأذى بدليل قوله تعالى قل هو أذى لا لذاته ولهذا يثبت به الحل للزوج الأول والنسب وتكميل المهر والإحصان وسائر الأحكام التي تثبت عليه ونظير الأول قول الطبيب للمريض لا تأكل اللحم فإن المنع من الأكل لمعنى في اللحم وهو أنه لا يوافقه ونظير الثاني قولك لغيرك لا تأكل هذا اللحم وقد عرفت أنه مسموم يكون المنع لقبح في غيره وهو السم لا لعينه

قوله

وأما النهي المطلق أي عن القرائن الدالة على أن المنهي عنه قبيح لعينه أو لغيره لكن متصلا به أي لكن يقتضي قبحا متصلا بالمنهي عنه مع إطلاق النهي أي مع كمال النهي لأن المطلق كامل وذلك بأن يكون للتحريم لا للتنزيه وحقيقته وهي أن يكون النهي لطلب الامتناع عن الفعل بناء على اختيار العبد لا أن يصير مجازا عن النسخ والنفي إلا أن يقوم الدليل استثناء من قولين فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته أي على خلاف حقيقته على اختلاف الأصول أي الأصلين فحقيقته وموجبه عندنا في الأفعال الشرعية أن يثبت القبح في غير المنهي عنه وأن يبقى المنهي عنه مشروعا ليتصور امتناع المكلف عنه باختياره ومحتمله أن يثبت القبح في غير المنهي

(١/٣٧٨)

عنه فلا يبقى مشروعا أصلا ويصير النهي مجازا عن النسخ فالنهي المطلق يحمل على حقيقته وهي أن يكون المنهي عنه قبيحا لغيره مشروعا بأصله إلا أن يقوم الدليل على خلافه فيجب إثبات محتمله وهو أن يكون قبيحا لعينه غير مشروع أصلا كما في قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وكما في بيع المضامين والملاقيح على ما نبينه وحقيقته عند الشافعي أن يثبت القبح في عين المنهي عنه فلا يبقى مشروعا أصلا كما في الفعل الحسي ومحتمله أن يثبت القبح في غير المنهي عنه فيبقى المنهي عنه مشروعا كما كان فالنهي المطلق يحمل على حقيقته وهي أن يكون المنهي عنه قبيحا لعينه غير مشروع أصلا إلا أن يقوم دليل بصرفه عن هذه الحقيقة فيحمل على محتمله وهو أن يكون قبيحا لغيره كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة والبيع وقت النداء والطلاق في حالة الحيض فهذا معنى

قوله فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته على اختلاف الأصول

وبيان هذا الأصل أي هذا الاختلاف يعني أثر هذا الاختلاف يظهر في هذه المسائل وحاصل المسألة أن النهي المطلق عن الأفعال الشرعية يدل على بطلانها عند أكثر أصحاب الشافعي وهذا هو الظاهر من مذهبه وإليه ذهب بعض المتكلمين وعند أصحابنا لا يدل على ذلك وإليه ذهب المحققون من أصحاب الشافعي كالغزالي وأبي بكر القفال الشاشي وهو قول عامة المتكلمين وذهب بعضهم إلى أنه يدل على الفساد في العبادات دون المعاملات ثم القائلون بأنه يدل على البطلان مطلقا أي في العبادات والمعاملات جميعا اختلفوا فيما بينهم فقال بعضهم يدل عليه لغة وقال بعضهم يدل عليه شرعا لا لغة والقائلون بأنه لا يدل على البطلان مطلقا اختلفوا أيضا فذهب أصحابنا إلى أنه يدل على الصحة وذهب غيرهم كالغزالي وغيره إلى أنه لا يدل عليها ثم لا بد من تفسير الصحة والبطلان والفساد توضيحا لهذه الأقوال فنقول الصحة في العبادات عند الفقهاء عبارة عن كون الفعل مسقطا للقضاء وعند المتكلمين عن موافقة أمر الشرع بالصلاة وجب القضاء أو لم يجب فصلاة من ظن أنه متطهر وليس كذلك صحيحة عند المتكلمين لموافقة أمر الشرع بالصلاة على حسب حاله غير صحيحة عند الفقهاء لكونها غير مسقطة للقضاء وفي عقود المعاملات معنى الصحة كون العقد سببا لترتب ثمراته المطلوبة عليه شرعا كالبيع للملك

وأما البطلان فمعناه في العبادات عدم سقوط القضاء بالفعل وفي

(١/٣٧٩)

عقود المعاملات تخلف الأحكام عنها وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للأحكام على مقابلة الصحة

وأما الفساد فيرادف البطلان عند أصحاب الشافعي وكلاهما عبارة عن معنى واحد وعندنا هو قسم ثالث مغاير للصحيح والباطل وهو ما كان مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه على ما سيأتي بيانه

وذكر صاحب الميزان فيه أن الصحيح ما استجمع أركانه وشرائطه بحيث يكون معتبرا شرعا في حق الحكم فيقال صلاة صحيحة وصوم صحيح وبيع صحيح إذا وجد أركانه وشرائطه قال وتبين بهذا أن الصحة ليست بمعنى زائد على التصرف بل إنما يرجع إلى ذاته من وجود أركانه وشرائطه الموضوعة له شرعا والفاسد ما كان مشروعا في نفسه فائت المعنى من وجه لملازمة ما ليس بمشروع إياه بحكم الحال مع تصور الانفصال في الجملة والباطل ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة إما لانعدام معنى التصرف كبيع الميتة والدم أو لانعدام أهلية للتصرف كبيع المجنون والصبي الذي لا يعقل واعلم أن الصحة عندنا قد يطلق أيضا على مقابلة الفاسد كما يطلق على مقابلة الباطل فإذا حكمنا على شيء بالصحة فمعناه أنه مشروع بأصله ووصفه جميعا بخلاف الباطل فإنه ليس بمشروع أصلا وبخلاف الفاسد فإنه مشروع بأصله دون وصفه فالنهي عن التصرفات الشرعية يدل على الصحة بالمعنى الأول عندنا من حيث إن المنهي عنه يصلح لإسقاط القضاء في العبادات كما إذا نذر صوم يوم النحر وأداه فيه لا يجب عليه القضاء ولترتب الأحكام في المعاملات ولا يدل عليها بالمعنى الثاني لأنه ليس بمشروع بوصفه وإن كان مشروعا بأصله ثم القائلون بالفساد لغة تمسكوا بأن السلف فهموا الفساد من النواهي حتى احتج عمر رضي اللّه عنه في بطلان نكاح المشركات بقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات واستدلت الصحابة رضي اللّه عنهم على فساد عقود الربا بقوله تعالى وذروا ما بقي من الربا وبقوله عليه السلام لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق الحديث وهم أرباب اللسان فدل أن ذلك ثابت لغة ولأن الأمر يقتضي الصحة لغة والنهي يقابله فيقتضي ما يقابله الصحة وهو البطلان لوجوب تقابل أحكام المتقابلات ومن قال بالفساد شرعا لا لغة قال لا دليل في اللفظ على الفساد إذ لو صرح الشارع

(١/٣٨٠)

وقال حرمت عليك استيلاد جارية الابن ونهيتك عنه لعينه ولكن إن فعلت ملكتها وكان ذلك سببا للملك وحرمت عليك صوم يوم النحر ولكن إن صمت خرجت عن عهدة النذر وكان ذلك سببا للجزاء لم يتناقض بخلاف

قوله حرمت عليك الصوم وأمرتك به أو أبحته لك ولا نسلم أن الصحابة تمسكوا للفساد بل للتحريم والمنع ونحن نقول به فثبت بما ذكرنا أنه لا يدل عليه لغة ولكنه يدل عليه شرعا

وبيانه مذكور في الكتاب والنهي في اقتضاء القبح حقيقة كالأمر في اقتضاء الحسن حقيقة يعني حقيقة النهي أن يكون مقتضيا للقبح في المنهي عنه شرعا كما أن حقيقة الأمر أن يكون مقتضيا للحسن في المأمور به شرعا لما ذكرنا من ضرورة حكم للآمر والناهي ألا ترى أنه لو قيل نهي الشارع لا يقتضي القبح يكذب القائل كما لو قيل أمره لا يقتضي الحسن وصحة تكذيب النافي من أمارات الحقيقة ولو نصبت حقيقته على التمييز من القبح على معنى أن النهي في اقتضاء القبح الحقيقي وهو أن يكون في ذات المنهي عنه كالأمر في اقتضاء الحسن الحقيقي وهو أن يكون في ذات المأمور به يكون تعسفا لأن سياق الكلام يأباه لأنه لم ينقل والعمل بحقيقة الحسن واجب

ثم العمل بحقيقة الأمر واجب حتى إن مطلقه يقتضي حسن المأمور به لعينه لا لغيره والضمير في كان راجع إلى مفهوم يدل عليه لفظ الأمر وهو المأمور به إلا بدليل كالأمر بالقتال والحدود فكذلك النهي في صفة القبح أي فكالأمر النهي في صفة القبح فيجب العمل بحقيقته وهو أن يثبت به قبح لعين المنهي عنه لا لغيره إلا بدليل ثم شرع في بيان تأثير ما ذكر فقال وهذا أي ما ذكرنا من اقتضاء النهي قبحا في عين المنهي عنه لأن المطلق من كل شيء يتناول الكامل لأنه هو الموجب الأصلي إذ الناقص موجود من وجه دون وجه ومع شبهة العدم لا يثبت حقيقة الوجود والكمال في صفة القبح أن يكون في المنهي عنه لا في غيره كما في جانب الحسن فكان هذا هو الموجب الأصلي فوجب القول به ومن قال بأنه يكون مشروعا في الأصل قبيحا في الوصف يجعله مجازا في الأصل لأنه لم يجعل الأصل منهيا عنه حقيقة مع أن النهي أضيف

(١/٣٨١)

إليه حقيقة في الوصف أي يجعل النهي حقيقة في الوصف مع أن النهي غير مضاف إليه وهذا عكس الحقيقة أي عكس ما يقتضيه حقيقة الكلام لأن الأصل أن يثبت حكم النهي ومقتضاه فيما أضيف إليه النهي وأن لا يثبت فيما لم يضف إليه فمتى ثبت مقتضاه فيما لم يضف إليه ولم يثبت فيما أضيف إليه كان عكس الحقيقة لأن فيه إثبات ما لم يوجبه الكلام وإبطال ما أوجبه وقلب الأصل لأن الوصف تابع للأصل وفيما قالوا يصير الأصل تابعا للوصف في صحة إضافة النهي إليه إذ لولا الوصف لم يصح إضافة النهي إليه وهو في التحقيق مرادف للأول

قوله وإذا ثبت هذا الأصل وهو أن النهي بحقيقته يقتضي القبح في عين ما أضيف إليه كان لتخريج الفروع وهو خروج الأفعال الشرعية المنهية من أن تكون مشروعة طريقان

أحدهما أن ينعدم مشروعيتها باقتضاء النهي أي بمقتضاه وهو القبح أو باقتضاء النهي عدم المشروعية لأنه لما اقتضى القبح وهو لا يثبت مع بقاء المشروعية وكان انتفاؤها باقتضاء النهي أيضا كثبوت القبح

والثاني أن تنعدم بحكم النهي والتفرقة بينهما ظاهرة إذ المقتضي يتقدم على النص لصحته والحكم متأخر عنه وبيان ذلك أي بيان الطريق الأول أنه لما ثبت القبح في المنهي عنه بالنهي لزم أن لا يبقى مشروعا لأن من ضرورة كون الشيء مشروعا أن يكون مرضيا بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا أي بين وأوضح لكم من الدين ما أمر به نوحا والتوصية الأمر بطريق المبالغة وشرع الشارع ذاته دليل على كون المشروع مرضيا فكيف إذا كان مما وصى به الأنبياء عليهم السلام والتمسك بالآية إنما يستقيم أن لو كان المراد من الدين جميع الشرائع فأما المراد منه لو كان التوحيد والإيمان وما لا يجري فيه النسخ من الشرائع كما ذهب إليه أهل التفسير بدليل

قوله جل ذكره أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه إذ هي أن المفسرة بمعنى أي فكان تفسيرا لما وصى به فلا يستقيم لأنها تدل ح على أن سوى ما ذكرنا بهذه الصفة إلا أن الشيخ تساهل فيه لكونه أمرا مجمعا عليه

وأما المعقول فهو أن شرع الشيء استعباد من الشارع لعباده يوضع طريق يصلون بسلوكه إلى السعادة العظمى وهي رضاء اللّه سبحانه وتعالى فيلزم منه أن يكون ذلك مرضيا له ليصلح للعبد رضاه بسلوكه قال تعالى رضي اللّه عنهم سقط المائدة ١١٩ التوبة ١٠٠ المجادلة ٢٢ البينة ٨

(١/٣٨٢)

يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ورضوان من اللّه أكبر والقبيح لذاته لا يكون مرضيا للحكيم العليم فثبت أن بين القبح وبين المشروعية تنافيا وقد ثبت القبح بالنهي لما ذكرنا فينتفي المشروعية ضرورة

قوله فصار النهي عن هذه التصرفات نسخا أي بيانا لانتهاء مدة المشروعية فيها بمقتضاه وهو التحريم السابق يعني إنما صار النهي نسخا بما اقتضاه النهي وهو القبح والحرمة وهذا لأن النهي مع المشروعية لا يصح فيثبت القبح والحرمة سابقين على النهي ليصح النهي فصار كأن الناهي قال حرمت عليك هذا الفعل فلا تفعلوا فيصير على هذا التقدير التحريم سابقا على النهي ضرورة كذا في فوائد مولانا العلامة حميد الملة والدين رحمه اللّه

قوله

والثاني أي الطريق الثاني وهو انتفاء المشروعية بحكم النهي هو أن من حكم النهي وجوب الانتهاء وصيرورة الفعل على خلاف موجبه وهو ترك الانتهاء والإقدام على الفعل معصية وبين كونه أي كون الفعل معصية وبين كونه مشروعا كما إذا كان المنهي عنه من المعاملات كعقد الربا وطاعة كما إذا كان من العبادات تضاد وتنافي التضاد راجع إلى كونه طاعة ومعصية والتنافي راجع إلى كونه مشروعا ومعصية من قبيل اللف والنشر المشوش أما التضاد بين المعصية والطاعة فظاهر لأنهما أمران وجوديان بينهما غاية الخلاف

وأما التنافي بين المشروعية والمعصية فمن حيث إن الشيء إذا كان مشروعا لا يكون معصية ألبتة وبين اللامعصية والمعصية تناف ثم شرع في تخريج الفروع على هذا الأصل بعد تمهيده والجواب عما يلزم على هذا الأصل فقال ولهذا أي ولما ذكرنا أن النهي يقتضي قبح المنهي عنه وانتفاء مشروعيته لم تثبت حرمة المصاهرة وهي حرمة المرأة على آباء الرجل وإن علوا وعلى أولاده وإن سفلوا وحرمة أمهاتها وإن علون وبناتها وإن سفلن على الرجل بالزنا لأن المصاهرة شرعت نعمة وكرامة كالنسب فإنه

(١/٣٨٣)

ثبت كرامة لبني آدم اختصوا به من بين سائر الحيوانات وتعلق به أنواع من الكرامات من الحضانة والنفقة والإرث والولايات وكذا حرمة النكاح ثبتت كرامة صيانة للمحارم عن الاستذلال بالنكاح الذي فيه ضرب استرقاق ولهذا تعلقت بأسماء تنبئ عن الكرامة نحو اسم الأم والبنت والأخت فألحقت أم المرأة وابنتها بالمحارم بالنص فكان ثبوت هذه الحرمة نعمة وكرامة وأشار الشيخ إلى معنى النعمة بقوله تلحق بها أي بهذه الحرمة الأجنبية بالأمهات حتى حلت الخلوة بها والمسافرة والنظر إلى مواضع الزينة ألا ترى أن اللّه تعالى جمع بينها وبين النسب ومن بهما علينا فقال

وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا أي ذا نسب وذا صهر والصهر حرمة الختونة وقيل خلطة تشبه القرابة في تحريم النكاح وإذا ثبت أنها نعمة لا يستحق بما هو حرام محض وهو الزنا لأن الحرام لا يصلح سببا لحكم شرعي هو نعمة كاللواطة ووطء الصغيرة لأنه لا بد من المناسبة بين السبب والحكم لا يقال أهن العالم وأعز الجاهل لأن الإهانة لا تناسب العالم كما أن الإعزاز لا يلائم الجاهل ولا مناسبة هنا والدليل على أنه حرام محض أنه يتعلق به الجلد والرجم الذي هو أعظم العقوبات ولا يتعلق به شيء من أحكام الوطء المشروع من لزوم المهر ووجوب العدة وثبوت النسب وهذا معنى ما نقل عن الشافعي رحمه اللّه أن الزنا فعل رجمت عليه والنكاح أمر حمدت عليه فلم يجز أن يعمل

أحدهما عمل الآخر ولا يلزم على ما ذكرنا تعلق وجوب الاغتسال وفساد الصوم والإحرام والاعتكاف به مع أنها أحكام مشروعة لأنا عللنا لمنع ثبوت ما هو نعمة وكرامة وبه والاغتسال شرع للتطهير وزوال النجاسة وهي في الزنا موجودة بل أشد فكان أولى بإيجاب الاغتسال وكذلك فساد الصوم والإحرام والاعتكاف به ليس من باب الكرامة في شيء وإنما هو من باب التغليظ والتشديد فيجوز إثباته بالزنا واحترز الشيخ بقوله حرام عن الوطء الحلال كوطء المنكوحة والمملوكة وبقوله محض عن الوطء بشبهة كالوطء بالنكاح الفاسد وبما إذا زفت إليه غير امرأته فوطئها ووطئ الجارية المشتركة ووطئ الرجل أمة ابنه فإن حرمة المصاهرة تثبت في هذه الصور بالاتفاق لأن الوطء فيها ليس بحرام محض فيجوز أن يثبت به هذه الحرمة كما يثبت بعض أحكام الوطء المشروع مثل سقوط الحد ووجوب المهر والعدة وثبوت النسب وتأييد ما ذكرنا بما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عمن تتبع امرأة حراما أيحل له أن يتزوج

(١/٣٨٤)

أمها وابنتها فقال الحرام لا يحرم الحلال وبما نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه سئل عمن غشي أم امرأته هل تحرم عليه امرأته فقال لا الحرام لا يحرم الحلال

وهكذا نقل عن عائشة رضي اللّه عنها أيضا

قوله وكذا الغصب إذا غصب شيئا وقضى القاضي بالضمان أو تراضيا على ذلك أن يثبت الملك للغاصب في المغصوب مستندا إلى وقت الغصب عندنا وقال الشافعي رحمه اللّه لا يثبت الملك بالغصب أصلا وتظهر ثمرة الاختلاف في ملك الأكساب ونفوذ البيع ووجوب الكفن على الغاصب إذا مات المغصوب وغير ذلك قال لأن الغصب عدوان محض فلا يصلح سببا للملك لأن الملك نعمة وكرامة يصل به إلى مقاصده الدينية والدنيوية فيتعلق بسبب مشروع لا محظور لأن المحظور سبب للعقوبة لا للكرامة والنعمة ألا ترى أنه لو قتل عبد غيره ثم ضمن قيمته فإنه لا يملكه حتى يكون الكفن على المالك لأنه متعد كذلك ههنا بخلاف وجوب الضمان لأن الجناية تصلح أن تكون سببا لوجوب الغرامة على الجاني والملك في الضمان إنما يقع للمالك لا بسبب الجناية ولكن بملك الأصل واعلم أن بناء هاتين المسألتين على الأصل المذكور مشكل لأن الزنا والغصب من الأفعال الحسية ولا خلاف أن النهي عنها يوجب انتفاء المشروعية ولهذا لم يقل أحد بمشروعية الزنا والغصب ونحن إنما جعلناهما سببين للحرمة والملك لا لأن النهي يقتضي المشروعية فيهما بل لما نذكره من بعد وكلامنا في النهي عن الأفعال الشرعية فلا يستقيم بناؤهما عليه إلا من حيث الظاهر وهو أن النهي يقتضي انتفاء المشروعية مطلقا سواء كان المنهي عنه شرعيا أو حسيا

قوله ولا يلزم أي على ما ذكرنا أن النهي عن المشروع يوجب فساده وقبحه ومع صفة الفساد لا تبقى المشروعية إن المحرم إذا جامع قبل الوقوف يفسد حجه وإحرامه

(١/٣٨٥)

ويبقى مع صفة الفساد حتى لزم عليه أداء الأفعال ليخرج عن هذا الإحرام وكذا إذا أحرم مجامعا لأهله ينعقد إحرامه بصفة الفساد مع أنه منهي عنه فعرفنا أن النهي والفساد لا ينافي الشرعية وإنما ذكر المسألة الأخيرة لأنه لو أجاب عن الأولى بأن الإحرام قد انعقد صحيحا وهو لازم لا يمكن الخروج عنه إلا بأداء الأفعال أو بالدم عند الإحصار فلا يؤثر المفسد في رفعه صورة وإن أثر في معناه حتى وجب عليه القضاء يرد عليه المسألة الثانية لأن المفسد فيها مقارن فينبغي أن يمنعه من الانعقاد فجمع بينهما ليجيب عنهما بجواب يشملهما وهو أن الجماع غير الإحرام وليس بوصف له أيضا لأن الجماع فعل والإحرام قول والفعل لا يصير من أوصاف القول لكنه يوجد معه على سبيل المجاورة بدليل أنه قد ينفصل

أحدهما عن الآخر فكان النهي عن الإحرام مجامعا نهيا لمعنى في غيره متصل به وصفا فكان من قبيل النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة والنهي عن البيع وقت النداء فلم يوجب إعدامه فانعقد صحيحا والدليل عليه أن هذا الإحرام يوجب القضاء والشروع في الفاسد لا يوجب القضاء بحال كمن شرع في الصلاة مع انكشاف العورة فتبين بهذا أنه انعقد صحيحا ثم فسد

وكان ينبغي أن لا يفسد كالصلاة في الأرض المغصوبة والبيع وقت النداء لأن المعنى الذي ورد النهي لأجله هو الجماع مجاور لا متصل على ما ذكرنا لكنه محظوره كالكلام للصلاة والحدث للطهارة ففسد لارتكاب المحظور كما يفسد الاعتكاف به فهذا معنى استدراك الشيخ في

قوله لكنه محظوره فصار مفسدا ولا يقال لما كان الجماع من محظوراته حتى أفسده لزم أن يمنعه من الانعقاد إذ المنع أسهل من الرفع لأنا نقول إنما يوصف الجماع بكونه محظور الإحرام بعد وجود الإحرام لا قبله لأن الشيء ما لم يوجد لا يوصف بأن له محظور فلم يكن الجماع المقارن من محظورات إحرامه فلم يمنع من الانعقاد فإذا داوم عليه بعدما انعقد الإحرام صار من محظوراته فأفسده كما إذا جامع بعد الإحرام ابتداء وينبغي أن لا يبقى بعدما فسد غير أن الإحرام لازم شرعا لا يحتمل البعض بالأسباب الناقصة من الخارج بخلاف الصلاة والصيام فأثر المفسد في إيجاب القضاء ولم يؤثر في الخروج من الإحرام فلزمه المضي ضرورة ليخرج عنه بالأداء كما شرع وباب الضرورة مستثنى عن القواعد وليس الكلام فيه إنما الكلام في أن النهي وفي وضعه لرفع المشروعية فيؤثر فيما يقبل ذلك لا أنه لا يجوز الامتناع عنه بمانع بل يجوز ذلك بدليله كما في سائر الحقائق

وذكرنا في القواطع أن انعقاده على الفساد وإلزامه أفعاله يجري

(١/٣٨٦)

مجرى نوع معاقبة من الشرع والمؤاخذات من الشرع على أنواع فيجوز أن يكون هذا الإلزام وإبقاء المرء في عهده أفعال الحج ليفعلها ولا يسقط بها الحج عن ذمته ولا يثاب على فعلها نوع معاقبة من اللّه تعالى له لارتكابه النهي وفعله الحج على وجه المعصية فلم يدخل هذه المسألة على الأصل الذي قلناه وإليه أشار الشيخ أيضا في

قوله ولم ينقطع بجناية الجاني

قوله ولا يلزم أي على هذا الأصل الطلاق في الحيض فإنه منهي عنه شرعا وكذا الطلاق في طهر جامعها فيه وقد بقي مشروعا بعد النهي حتى كان واقعا موجبا لحكم مشروع وهو الفرقة لأن هذا الطلاق منهي عنه لمعنى في غيره غير متصل به وصفا وذلك المعنى في الطلاق في الحيض هو الإضرار بالمرأة من حيث تطويل العدة عليها فإن الحيضة التي أوقع فيها الطلاق ليست بمحسوبة من العدة بالاتفاق فإن عندي الاعتداد بالأطهار لا بالحيض وعندكم لا يحتسب هذه الحيضة من حيض العدة لانتقاضها ولهذا لا يحرم الطلاق في الحيض إذا لم يؤد إلى الضرار فإن طلقها في حالة الحيض قبل الدخول بها وإلى ما ذكرنا إشارة في قوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا وفي الطلاق في طهر الجماع هو تلبيس أمر العدة عليها لأنها لا تدري أن الوطء معلق فيعتد بالحبل أو غير معلق فيعتد بالإقرار والحامل قد تحيض على أصلي فلا يتمكن من التزوج

وكذا تلبيس أمر النفقة لأنها لو كانت حاملا وجب لها النفقة لقوله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ولو لم تكن حاملا وكان الطلاق بائنا لا يجب لها النفقة عنده فتشك في طلب النفقة

قوله ولهذا أي ولما قلنا إن النهي ينفي المشروعية لم يكن سفر المعصية أي السفر الذي هو معصية كسفر الآبق وقاطع الطريق والباغي سببا للرخصة للنهي أي لكونه منهيا عنه شرعا يعني لما كان منهيا عنه كان معصية والرخصة نعمة لأنها شرعت لدفع الحرج عند السير المديد فيستدعي سببا مشروعا فلا يجوز أن يتعلق بالمعصية

قوله ولا يملك الكافر عطف على

قوله لم يكن لأنه في معنى المستقبل إذ هو بيان شرع أي لا يكون سفر المعصية سببا ولا يملك الكافر مال المسلم بالاستيلاء أي بالاستيلاء التام المطلق وذلك بالإحراز بدار الحرب فإنهم ما داموا في دارنا كانوا مقهورين

(١/٣٨٧)

حكما ولا يتم الاستيلاء فلا يصلح سببا للملك بالاتفاق للنهي أيضا أي لكونه منهيا عنه شرعا كالسفر وذلك لأنه استيلاء على مال معصوم محترم فيكون حراما منهيا عنه خصوصا على أصله أن الكفار مخاطبون بالشرائع أجمع وعلى أصل بعض مشايخنا أنهم مخاطبون بالحرمات والمناهي وإذا كان كذلك لا يصلح سببا للملك الذي هو نعمة كاستيلائهم على رقابنا وكاستيلاء المسلم على هذا المال ويرد ما قلنا في مسألتي الزنا والغصب في هاتين المسألتين أيضا

قوله ولا يلزم أي على هذا الأصل الظهار فإنه منهي عنه محظور

وقد انعقد سببا للكفارة التي هي عبادة ولم ينعدم بالنهي لأن كلامنا في النهي الوارد عن التصرف الموضوع لحكم مطلوب شرعا والظهار ليس بتصرف موضوع لحكم مطلوب شرعا بل هو حرام فإنه منكر من القول وزور والكفارة إنما وجبت جزاء لتلك الجريمة وثبوت وصف الخطر في السبب للجزاء لا يخرج السبب من أن يكون صالحا لإيجاب الجزاء بل يحققه كما في القتل العمد فإنه محظور محض ومع ذلك أوجب القصاص وثبوت وصف الحظر فيه لم يخرجه من أن يكون صالحا لإيجابه فكذا في الظهار ولنا ما احتج به محمد في كتاب الطلاق في باب الرد على من قال إذا طلق لغير السنة لا يقع أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن صوم يوم النحر فقال أنهانا عما يكون أو لا يكون والنهي عما لا يكون لغو لا يقال للأعمى لا تبصر وللآدمي لا تطر

وبيانه أن اللّه تعالى ابتلى عباده بالأمر والنهي بناء على اختيارهم فمن أطاعه بالائتمار بما أمر والانتهاء عما نهى باختياره نال الجنة بفضله ومن عصاه بترك الائتمار والانتهاء استحق النار بعدله والابتلاء بالنهي إنما يتحقق إذا كان المنهي عنه متصور الوجود بحيث لو أقدم عليه يوجد حتى يبقى العبد مبتلى بين أن يقدم على الفعل فيعاقب أو يكف عنه فيثاب بامتناعه مختارا عن تحقيق الفعل للنهي فيكون عدم الفعل مضافا إلى كسبه واختياره هذا موجب حقيقة النهي

وأما النسخ فلبيان أن الفعل لم يبق متصور الوجود شرعا كالتوجه إلى بيت المقدس وحل الأخوات لم يبق مشروعا أصلا وصار باطلا شرعا فامتناع العبد عن ذلك بناء على عدمه في نفسه لا تعلق

(١/٣٨٨)

له باختياره ولهذا لا يثاب على الامتناع في المنسوخ

نظير ما ذكرنا أن من امتنع عن شرب الخمر مع القدرة يثاب عليه لأن العدم بناء على امتناعه وكسبه ولو امتنع عنه لأنه لا يجدها لا يثاب عليه لأن امتناعه عنه بناء على عدمها ثم النهي كما يوجب تصور المنهي عنه يقتضي قبحه أيضا لما مر فإن أمكن الجمع بينهما وجب العمل به وإلا وجب الترجيح ففي الفعل الحسي أمكن الجمع بينهما لأنه لا يمتنع وجوده بسبب القبح فأما الفعل الشرعي فلا يمكن فيه الجمع بينهما لأنه لا يتحقق مع القبح فوجب الترجيح ثم إما أن يرجح جانب القبح كما هو مذهب الخصم أو جانب التصور فقلنا ترجيح جانب التصور أولى من وجوه أحدها أن التصور هو الموجب الأصلي للنهي لغة وعرفا وشرعا أما لغة فلأنه متعد لازمه انتهى يقال نهيته فانتهى كما يقال أمرته فائتمر والائتمار والامتناع واحد أما عرفا فلما ذكرنا أنه يستقبح أن يقال للأعمى لا تبصر و للإنسان لا تطر

وأما شرعا فلما ذكرنا أن تحقق الابتلاء به والقبح ليس كذلك بل هو من مقتضياته الشرعية فكان اعتبار الموجب الأصلي الذي لا وجود لحقيقته بدونه شرعا وعرفا ولغة أولى من اعتبار ما هو دونه وهو ثابت شرعا لا لغة وثانيها أن مع اعتبار جانب التصور أمكن اعتبار جانب القبح أيضا بأن يكون القبح راجعا إلى الوصف فكان فيه جمع بين الأمرين من وجه ومع اعتبار جانب القبح لا يمكن اعتبار جانب التصور بوجه فكان الأول أولى وثالثها أن اعتبار جانب القبح يؤدي إلى إبطال حقيقة النهي لأنه ح يصير نسخا وهو غير النهي حدا وحقيقة وفي إبطاله إبطال القبح الذي ثبت مقتضى به لأن في إبطال المقتضى إبطال المقتضي ضرورة فكان اعتبار القبح وإثباته في عين المنهي عنه عائدا على موضوعه بالنقض وذلك باطل وليس في اعتبار جانب التصور ذلك وفيه تحقيق النهي مع رعاية مقتضاه فكان اعتباره أولى

ثم إنك قد علمت أن المراد من أمر الشارع ونهيه وجوب الائتمار ووجوب الانتهاء لا وجود الفعل وعدمه لأن تخلف المراد عن إرادة اللّه تعالى محال عند أهل الحق فكان معنى

قوله يراد به عدم الفعل يطلب به عدمه أو يراد به عدم الفعل

(١/٣٨٩)

في وضعه من غير نظر إلى أنه صادر من الشارع وقيل معناه يراد به عدم الفعل في حق من علم اللّه تعالى منه الامتناع عن مباشرة المنهي عنه فأما في حق الكل فالمراد من النهي إيجاب الانتهاء لا حصوله ومن الأمر إيجاب الائتمار لا غير والأول أوجه

قوله وهما في طرفي نقيض أي كون الامتناع عن الشيء مبنيا على عدمه مع كون عدم الشيء مبنيا على الامتناع عنه متناقضان أي مخالفان وأنهم قد يطلقون التضاد والتنافي والتناقض ولا يريدون بها معانيها المصطلحة بين قوم وإنما يريدون نفس المخالفة والحكم الأصلي ما ذكرنا وهو أن النهي لطلب الامتناع عن الفعل مضافا إلى اختيار العبد وكسبه فيعتمد التصور فأما القبح أي قبح المنهي عنه فوصف قائم أي ثابت بالنهي للمنهي عنه لا أنه قائم بحقيقة النهي لأنه منع من القبيح وذلك حسن مقتضى حال والعامل فيه قائم به أي بالنهي تحقيقا لحكمه أي لأجل تحقيق حكم النهي وهو طلب الإعدام فكان أي القبح في المنهي عنه تابعا للنهي من حيث إنه ثبت به فلا يجوز تحقيقه أي إثبات القبح الذي ثبت اقتضاء على وجه يبطل به أي بالقبح ما أوجب القبح واقتضاء وهو النهي فيصير المقتضى ح دليلا على الفساد أي فساد المقتضي بعد أن كان دليلا على صحته

بل يجب العمل إضراب عن

قوله فلا يجوز تحقيقه أي يجب العمل بالأصل وهو النهي في موضعه وهو ما ورد النهي فيه وذلك بإبقاء المشروعية ليبقى النهي على حقيقته ويجب العمل بالمقتضى وهو القبح بقدر الإمكان إلى آخره قال القاضي الإمام فوجب إثبات القبح في غيره ليمكن تحريم الفعل بذلك الغير ولكن يثبته على وجه يكون ألزم فيجعله قبيحا لوصف زائد متصل به ما أمكن كما يثبت الحسن للمأمور به على وجه يكون ألزم وهو الإثبات لعينه فإن ذلك تحقق الوجوب عليه والوجود من قبله وفي النهي لو أثبت القبح لعينه انعدم المشروعية والنهي للانتهاء لا للإعدام فلم نثبته لعينه ليبقى مشروعا وأثبتناه وصفا له ما أمكن ليكون

(١/٣٩٠)

حرمة الفعل لازمة أبدا لمعنى راجع إلى المنهي عنه لأن الوصف منه قال صاحب القواطع في الجواب عما ذكرنا إن الفعل المشروع وجوده بأمرين بفعل العبد وبإطلاق الشرع فبالنهي انتهى الطلاق فلم يبق مشروعا فأما تصور الفعل من العبد فعلى حاله فيصح النهي بناء عليه ببينة أن العبد مأذون بالصوم مأمور به وليس في وسعه إلا النية والإمساك فأما اعتباره وصيرورته عبادة فمفوض إلى الشرع لا إلى العبد فبالنهي خرج الفعل عن الاعتبار وصيرورته صوما لزوال إذن الشرع وإطلاقه فلم يكن الفعل صوما نظرا إلى زوال إطلاق الشرع وكان صوما نظرا إلى فعل العبد وإذا بقي تصور الفعل من العبد صح النهي وتحقق ولهذا لو ارتكبه كان عاصيا مستحقا للعقاب لارتكاب المنهي عنه وإتيانه بما في وسعه وطاقته من فعل الصوم إذ ليس في وسعه في جميع الأحوال إلا هذا القدر الذي وجد منه

قال وهذا لأن الصحة والفساد معنيان متلقيان من الشرع وليس إلى العبد ذلك وإنما إليه إيقاع الفعل باختياره فإن وقع على وفق أمر الشرع وإطلاقه صح وإلا فلا قال ولهذا أبطلنا صوم الليل وصوم الحائض مع تحقق الإمساك حسيا وصورة لأنه لما لم يوافق أمر الشرع لم يثبت له الحقيقة الشرعية قلت وحاصله يئول إلى أن النهي راجع إلى الفعل المتصور من العبد حسا لا شرعا والجواب عنه أنا لا نسلم أن فعل العبد بدون اعتبار الشرع إياه يسمى بالاسم الشرعي حقيقة فإن الصوم اسم لفعل معلوم معتبر في الشرع فبدون اعتبار الشرع لا يسمى صوما حقيقة ألا ترى أن الإمساك في الليل لا يسمى صوما وإن وجدت النية لعدم اعتبار الشرع إياه وإذا كان كذلك كان صرف النهي إليه مجازا لا حقيقة والنهي ورد عن مطلق الصوم فلا يحمل على حقيقته إلا بدليل يوضحه أن الصوم إنما صار صوما بصورته ومعناه وكذا كان البيع ومعنى الصوم كونه صوما في حكم اللّه تعالى ومعنى البيع كونه سببا للملك فإذا لم يوجد المعنى لم يبق للصورة عبرة فلا يسمى صوما وبيعا إلا مجازا كتسمية صورة الأسد أسدا وأجاب الغزالي أيضا في المستصفى عما ذكرنا أن الاسم يصرف إلى موضوعه اللغوي إلا ما صرفه عرف الاستعمال في الشرع وقد ألفينا عرف الشرع في الأوامر أنه يستعمل الصوم والصلاة والبيع لمعانيها الشرعية أما في المنهيات فلم يثبت هذا العرف المغير للوضع بدليل

قوله عليه السلام دعي الصلاة أيام إقرائك

وقوله جل ذكره ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم

وأمثال هذه المناهي عما لا ينعقد أصلا فلم يثبت فيه عرف استعمال الشرع أو تعارض فيه عرف الشرع فيرجع إلى أصل الوضع ونقول من صام يوم النحر فقد ارتكب المنهي عنه وإن لم ينعقد صومه

(١/٣٩١)

وحاصل هذا الكلام أيضا يرجع إلى أن النهي مصروف إلى الصوم اللغوي وهو فاسد أيضا لأنه لو أمسك حمية أو لعدم اشتهاء أو عدم طعام لا يكون مرتكبا للمنهي عنه بالاتفاق مع تحقق الإمساك اللغوي فعلم أنه ليس المراد إلا الصوم الشرعي ولأن المنهي عنه لو كان الصوم اللغوي فلا نهي إذا عن الصوم الشرعي فبقي ثابتا وقال بعضهم الفعل عند النهي كان متصورا فكفى ذلك لصحة النهي فلا حاجة إلى إبقائه مشروعا بعد ذلك والجواب أن النهي لإعدام المنهي عنه من قبل المنهي في المستقبل كالأمر للإيجاد في المستقبل فلا بد من أن يكون متصورا في المستقبل ليتحقق الانتهاء بالنهي كما في الأمر ولا يكون ذلك إلا ببقائه مشروعا ولا يقال حقيقة النهي أن يكون المنهي عنه قبيحا في ذاته ومتصورا في نفسه فكما قلتم إن انتفاء التصور شرعا مع بقاء التصور من العبد يجعله مجازا فكذلك انتفاء القبح عن ذات المنهي عنه وانصرافه إلى وصفه يجعل النهي فيه مجازا أيضا لأنه لا يثبت موجب النهي وهو التحريم نظرا إلى ذات المنهي عنه وإنما يثبت في غيره

لأنا لا نسلم أن النهي بإثبات القبح في وصف المنهي عنه يصير مجازا بل هو على حقيقته لأن المنهي عنه بعد يبقى واجب الانتهاء مع كونه مشروعا ألا ترى أن الأمر إذا ورد لحسن في غير المأمور به لا يصير مجازا في المأمور به كالأمر بالجهاد والطهارة لم يصر مجازا بل يبقى على حقيقته وهو الإيجاب فكذا هذا ولا نسلم أيضا أن التحريم لا يثبت فيما أضيف إليه النهي بل يثبت حتى لو أقدم على بيع الربا مثلا يصير عاصيا مستحقا للعقاب لأنه ارتكب حراما ولكنه مع كونه حراما يصلح سببا لحصول الملك إذ لا تناقض في قول الشارح حرمت البيع وجعلته سببا لحصول الملك في العوضين لأن شرط التحريم التعرض لعقاب الآخرة فقط دون تخلف الثمرات والأحكام على أنا إن سلمنا أنه يصير مجازا فهو أولى مما قالوا لأنه يصير مجازا في الإسناد مع بقاء النهي في ذاته على حقيقته وما قالوا مجازا في ذاته لأنه يصير نسخا وهو غير النهي فكان الأول أولى

قوله فإن قيل هذا صحيح أي الجمع بين العمل بحقيقة المنهي وبين الفساد والقبح في المنهي عنه إنما يصح في الأفعال الحسية لأنها لا تنعدم وتوجد بصفة القبح والفساد فأما الأفعال الشرعية فتنعدم بالقبح لما قلنا من التنافي والتضاد بين المشروعية والقبح فلا بد من إقامة الدليل على أن المشروعات يحتمل أي يقبل هذا الوصف وهو الفساد

(١/٣٩٢)

قوله والصلاة الحرام كالصلاة في الأرض المغصوبة والأوقات المكروهة والمواطن السبعة والصوم المحظور يوم الشك الاستدلال به أوضح لأن المحظورية وصف الصوم

وما أشبه ذلك أي المذكور نحو البيع والإجارة وقت النداء والحلف على فعل محظور مثل قتل زيد وسب الأبوين وترك الصلاة فوجب إثباته أي إثبات كونه مشروعا على هذا الوجه أي صفة الفساد رعاية لمنازل المشروعات وهو أن ينزل الأصل وهو المقتضي في منزله والتبع وهو المقتضى في منزله وذلك بأن لا يجعل التبع مبطلا للأصل ومحافظة لحدودها وهي أن يجعل النهي نهيا والنسخ نسخا لا أن يجعل كلاهما في المشروعات واحدا من غير ضرورة

قوله وعلى هذا الأصل وهو أن النهي في المشروعات يقتضي بقاء مشروعيتها

قوله منهي بوصفه وهو الثمن أسلم أن البيع مبناه على البدلين لأنه مبادلة المال بالمال عن تراض لكن الأصل فيه المبيع دون الثمن ولهذا يشترط القدرة على المبيع ولا يشترط القدرة على الثمن وينفسخ بهلاك المبيع دون الثمن وذلك لأن المقصود من شرعيته الوصول إلى ما يحتاج الإنسان إليه من الانتفاع بالأعيان فإن من احتاج إلى طعام أو ثوب مثلا وليس عنده ذلك لا تندفع حاجته إلا بالظفر على مقصوده فشرع البيع وسيلة إلى حصول المقصود ولما كان الانتفاع يتحقق بالأعيان لا بالأثمان إذ ليس في ذوات الأثمان نفع إلا من حيث الوسيلة إلى المقاصد كانت الأعيان أصولا في البيوع وكانت الأثمان أتباعا لها فيها بمنزلة الأوصاف فإذا باع عبدا بالخمر كان فاسدا لكونه منهيا عنه لأن أحد البدلين وهو الخمر واجب الاجتناب فلا يجوز تسليمه وتسلمه إلا أنها في ذاتها مال لأن المال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة كذا قيل وقيل هو الشيء الذي خلق لمصالح الآدمي ويجري فيه الشح والضنة وهي بهذه المثابة ولكنها ليست بمتقومة لأن المتقوم ما هو واجب الإبقاء إما بعينه أو بمثله أو بقيمته كما عرف فصلحت ثمنا من حيث إنها مال ولم يصلح من حيث إنها ليست بمتقومة فلا يمنع أصل الانعقاد لأن ما هو ركن العقد وهو الإيجاب والقبول الصادر من الأهل صادف محله وهو المبيع من غير خلل في الركن ولا في المحل

(١/٣٩٣)

وإنما الخلل فيما هو جار مجرى الوصف وهو الثمن فصار العقد مشروعا بأصله قبيحا بوصفه وهو الثمن فكان فاسدا لا باطلا

وذكر في المبسوط في هذه المسألة أن محل العقد المالية في البدلين وبتخمر العصير لا تنعدم المالية وإنما ينعدم التقوم شرعا فإن المالية بكون العين منتفعا بها وقد أثبت اللّه تعالى ذلك في الخمر بقوله ومنافع للناس ولأنها كانت مالا متقوما قبل التحريم وإنما ثبت بالنص حرمة التناول ونجاسة العين وليس من ضرورتهما انعدام المالية كالسرقين إلا أنه فسد تقومها شرعا ضرورة وجوب الاجتناب عنها بالنص ولهذا بقيت مالا متقوما في حق أهل الذمة فانعقد العقد بوجود ركنه في محله بصفة الفساد

قوله وكذلك إذا باع خمرا بعبد أي بيع الخمر بالعبد كبيع العبد بالخمر في انعقاد البيع بصفة الفساد وإنما ذكر هذه المسألة لأن دخول الباء في أحد البدلين يدل على كونه هو الثمن لأنها تدخل في الأتباع والوسائل يقال كتبت بالقلم والأثمان بهذه الصفة وقد دخلت في هذه المسألة في العبد فيقتضي أن تكون الخمر مبيعة فيبطل البيع كما إذا باعها بالدراهم بخلاف المسألة الأولى لأن الباء فيها دخلت في الخمر فبقي العبد مبيعا فقال الشيخ هما سواء لأن هذا بيع مقايضة أي بيع عرض بعرض فكان كل واحد منهما ثمنا لصاحبه بخلاف بيعها بالدراهم لأن الدراهم تعينت للثمنية فبقيت الخمر مبيعة

وفي

قوله كل واحد منهما ثمن لصاحبه إشارة إلى أن كل واحد منهما متعين في هذه المسألة لأن كل واحد منهما إنما يصلح ثمنا لصاحبه إذا كان الآخر عينا بالنسبة إليه وذلك بأن يكون متعينا لأن المبيع لا يجب في الذمة إلا في عقد خاص فإذا كان العبد غير عين لا يصلح ثمنا ولا مبيعا لأن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة في البيوع وإذا كانت الخمر غير عين لم تصلح مبيعة فعلم أن

قوله كل واحد منهما ثمن لصاحبه لا يستقيم إلا أن يكونا متعينين ولكن إذا كانت الخمر غير عين يجب أن ينعقد في العبد فاسدا وإن أدخل الباء في العبد لأنه تعين لكونه مبيعا من كل وجه كما إذا باع خلا غير معين بعبد أو دراهم بثوب صح وتعين العبد والثوب للمبيعة ثم بين حكم المسألتين فقال فلم ينعقد أي البيع في الصورتين في الخمر لعدم

(١/٣٩٤)

محله حتى لا يثبت الملك فيها وإن اتصل بها القبض وينعقد في العبد لوجود محله ولكن بصفة الفساد لفساد ثمنه فيثبت الملك فيه في الصورتين إذا اتصل به القبض بإذن المالك

قوله بخلاف الميتة أي في المسألتين فإنه إذا باع العبد بالميتة أو الميتة بالعبد بطل البيع لأنه أي المذكور ليس بمال في الحال ولا في المال بخلاف الخمر وكذا لا يعد مالا في دين سماوي فوقع العقد بلا ثمن وهو باطل لعدم ركنه

وكذا جلد الميتة ليس بمال في الحال ولا في المال ولهذا لو ترك كذلك يفسد وإنما تحصل المالية بصنع مكتسب وهو الدباغ ولهذا اتفق العلماء على بطلان هذا البيع ولو قضى قاض بجوازه لا ينفذ فلانعدام ما هو ركن العقد لم ينعقد العقد كذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه اللّه

قوله ولا متقوم بدليل أن إنسانا لو استهلكه لا يضمن ألا ترى أنه جزء الميتة ويحصل التألم بقطعه كاللحم بخلاف الشعر والميتة ليست بمال ولا متقومة فكذا جزؤها ويجوز أن يكون

قوله ولا متقوم احترازا عن المنافع فإنها ليست بأموال حقيقة ولكنها يتقوم في العقود قالوا المراد بالميتة هي التي ماتت حتف أنفها أما البيع بالميتة التي ماتت بالخنق والجرح في غير المذبح ففاسد لا باطل كذا رأيت بخط شيخي قدس اللّه روحه وذكر في الذخيرة قال أبو الحسن في الجامع الصغير في ذبيحة المجوسي وكل شيء يعملونه وهو عندهم ذكاة كالتخنيق والوقذ فإنه يجوز البيع بينهم عند أبي يوسف رحمه اللّه ولو استهلكها مسلم ضمن القيمة وليس كالميتة حتف أنفها وقال محمد رحمه اللّه هو والميتة حتف أنفها سواء لأن الذكاة فعل شرعي والفاعل ليس من أهله فصار هذا الذبح في حقه والموت حتف أنفه سواء لأبي يوسف رحمه اللّه أنهم يتمولونه كالخمور ونحن أمرنا ببناء الأحكام على ما يدينون بخلاف الميتة حتف أنفها لأنها ليست بمال في حق أحد وهكذا ذكر في التجنيس من غير خلاف لمحمد

قوله وكذلك بيع الربا أي مثل البيع بالخمر بيع الربا وهو معاوضة مال بمال في أحد الجانبين فضل خال عن العوض مستحق بعقد المعاوضة غير مشروع بوصفه وهو الفضل أي بالفضل يفوت المساواة التي هي شرط الجواز وهو تبع كالوصف وكذلك الشرط الفاسد في البيع مثل الربا وهو شرط لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين فيه نفع أو للمعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق والربا قد يكون اسما للعقد ولنفس الفضل ففي

قوله بيع الربا مشروع بأصله

(١/٣٩٥)

المراد منه العقد أي بيع هو ربا وفي

قوله الشرط الفاسد مثل الربا المراد منه نفس الفضل أي الشرط الفاسد في إفساد البيع وعدم المنع من الانعقاد مثل الدرهم الزائد لأن الشرط الفاسد على ما وصفنا في معنى الدرهم الزائد من حيث إنه فضل استحق بعقد المعاوضة فأخذ حكمه ثم النهي في المسألتين وهو قوله تعالى وحرم الربا

وقوله عليه السلام لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء الحديث وما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع وشرط وغير ذلك من الأحاديث ورد لمعنى في غير البيع وهو الفضل الخالي عن العوض والشرط الفاسد فلا ينعدم به أصل المشروع لأنه إيجاب وقبول من أهله في محله ولا يختل شيء من ذلك بالدرهم الزائد ولا بالشرط الفاسد فكانا أمرين زائدين على العقد فكانا غيره لكن يثبت به صفة الفساد والحرمة وملك اليمين يحتمل ذلك ألا ترى أن صيد الحرم مملوك للمالك وكذا الخمر وجلد الميتة مملوكان وحرم الانتفاع بها فلما كانت الحرمة لا تنافي ملك اليمين لا تنافي سببه وكان ينبغي أن لا يفسد العقد لما ذكرنا أن النهي راجع إلى غيره إلا أن النهي إن لم يتصل بأصل العقد اتصل بوصفه لأن الفضل أو الشرط إذا دخل فيه صار من حقوقه وكوصفه فإنه يقال بيع رابح لمكان زيادة ما اشترى وبيع لازم وغير لازم لمكان شرط الخيار وبيع حال ونساء لمكان الأجل ولما ورد النهي لمعنى في صفته لا أصله رفع وصف البيع لا أصله ووصف المشروع أنه بيع حلال جائز فارتفع الوصف وصار حراما فاسدا وبقي الأصل موجبا للملك فإن قيل لما بقي أصله موجبا للملك فلماذا توقف ثبوت الملك على القبض

قلنا لأن السبب لما ضعف بصفة الفساد لم ينهض سببا للملك إلا بأن يتقوى بالقبض كالهبة والتبرعات فانعدم الملك قبل القبض لقصور السبب كذا في الأسرار

قوله ولهذا قلنا أي ولأن النهي يقتضي بقاء المشروعية قلنا في قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إن النهي لعدم الوصف من شهادته أي شهادة المحدود في القذف وهو الأداء حتى لو شهد لا يقبل وكذا يخرج به من أهلية اللعان أيضا لأن اللعان أداء وقد فسد الأداء ويبقى الأصل أي أصل الشهادة لأن عدم القبول إنما يتصور إذا كانت الشهادة

(١/٣٩٦)

موجودة شرعا وإذا بقي أصلها انعقد النكاح بها كما ينعقد بشهادة الأعمى لأن الانعقاد لا يتوقف على وصف الأداء وأهليته

قوله منها صوم يوم العيد الصوم في يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق مشروع عند علمائنا الثلاثة وهو استحسان وعند زفر والشافعي رحمه اللّه غير مشروع وهو رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمهما اللّه ثم إذا صح نذره في ظاهر الرواية يفتى بأن يفطر في هذه الأيام ويقضي في أيام أخر ليحصل له العبادة على الخلوص ويتخلص عن المعصية ولو صام في هذه الأيام خرج عن العهدة وجه قولهما أن الصوم غير مشروع في هذه الأيام وليس إلى العبد شرع ما ليس بمشروع كالصوم ليلا

وبيانه أن الشرع عين هذا الزمان للأكل بقوله فإنها أيام أكل وشرب عرفها بالأكل والشرب ولن يحصل التعريف إلا بوجود خاص من الفعل فيها أو وجوبه ووجود الأكل والشرب ليس من خصائص هذه الأيام فلا يحصل به التعريف وإنما الخاص فيها وجوب الأكل والشرب فكان ذلك جعلا من صاحب الشرع لها محال وجوب الأكل والشرب ويندفع الوجوب بجواز الضد فدل أن الصوم فيها ممتنع الوجود شرعا كما في الليل وأيام الحيض ولهذا قالا لا يجوز الظهر من الحر المقيم الصحيح يوم الجمعة لأن الوقت تعين للجمعة في حقه حتما فلم يبق الظهر ضرورة لأنهما لم يشرعا مجموعين بالإجماع والدليل عليه أن الصوم اسم لما هو قربة والمنهي عنه يكون معصية فلا يكون صوما ألا ترى أنه لا يصح أداء شيء من الواجبات به ولو بقي مشروعا بعد النهي لصح كالصلاة في الأرض المغصوبة ولا معنى لقولهم إنما لا يجوز لأن الواجب في الذمة كامل وهذا صوم ناقص فلا يتأدى به الكامل لأن النقصان لا يمنع قضاء الواجب كما إذا ترك الفاتحة أو السورة أو التعديل في قضاء الفائتة يمكن فيه النقصان حتى وجب جبره بالسجود ولم يمنع من الخروج عن عهدة الواجب فعرفنا أن عدم الجواز لصيرورته معصية وعدم بقاء مشروعيته وإذا ثبت ذلك لا يصح النذر به لقوله عليه السلام لا نذر في معصية اللّه

ولنا ما مر أن النهي عن المشروع يقتضي بقاء مشروعيته إلى آخره وما ذكر ههنا أن الصوم في هذه الأيام حسن مشروع بأصله وهو في التحقيق راجع إلى ما تقدم وتقريره أن الشرائع كلها مبنية على الحكمة على ما عرف تفاصيلها في غير هذا

(١/٣٩٧)

الكتاب والحكمة في الصوم حصول التقوى لمباشرة إذ لا مشروع أدل على التقوى منه فإن من أدى هذه الأمانة كان أشد أداء لغيرها من الأمانات وأكثر اتقاء لما يخاف حلوله من النقمة بمباشرة شيء من القاذورات وإليه الإشارة في قوله تعالى لعلكم تتقون أياما معدودات وفيه أيضا معرفة قدر النعم ومعرفة ما عليه الفقراء من تحمل مرارة الجوع فيكون حاملا له على المواساة إليهم وفيه أيضا انطفاء حرارة الشهوة الخداعة المنسية للعواقب ورد جماح النفس الأمارة بالسوء وانقيادها لطاعة مولاها إلى غير ذلك من معان لا تحصى كثرة ثم لا بد لهذه العبادة من تعيين وقت لأن صوم الوصال متعذر والوقت على قسمين النهر والليالي والليالي أعدت للسكون والراحة وضعا والنهر أعدت للتصرف والتقلب للاكتساب وابتغاء الرزق وذلك مؤد إلى الجوع والعطش حامل على الأكل والشرب لما في الحركة من التحليل فتعينت النهر للصوم ليكون على خلاف العادة وليتحقق الحكم التي ذكرناها ثم في هذه المعاني مساواة بين هذه الأيام وسائر الأيام من جميع الوجوه فكان الشرع الوارد في جعل سائر الأيام محلا لهذه العبادة واردا بجعل هذه الأيام محلا لها أيضا للمساواة وتحقق الحكم فيها حسب تحققها في تلك فهذا معنى

قوله حسن مشروع بأصله والذي يدل على بقاء المشروعية أن الشافعي يقول للمتمتع أن يصوم صوم المتعة فيها في أظهر أقواله كذا في الأسرار وهو الإمساك أي أصل الصوم الإمساك للّه تعالى في وقته على سبيل الطاعة والقربة

ويجوز أن يكون

قوله طاعة لتناول الفرض منه لأن الطاعة اسم لفعل عمل بأمر آخر إذا قصد الفاعل جعله للأمر فإن الفعل وإن وجد لا يستحق اسم الطاعة ما لم يوجد هناك أمر كذا ذكره الشيخ أبو المعين رحمة اللّه عليه

وقوله قربة لتناول النفل لأنها اسم لكل ما يتقرب به إلى اللّه تعالى فصار التقدير أصل الصوم الإمساك للّه تعالى طاعة إن وجد الأمر كصوم رمضان وقربة إن لم يوجد كصوم أيام البيض وغيرها وههنا إن لم يتحقق الإمساك على سبيل الطاعة فقد يتحقق على سبيل القربة فكان مشروعا ويجوز أن يكون ترادفا وهو الأظهر ثم لما عرف بدلالة العقل والشرع أن مثل هذا المشروع لا يجوز أن يكون منهيا عنه لذاته كان النهي لغيره لا محالة لكن ذلك الغير قام به فيما نحن فيه فصار كالوصف له بحيث لا تصور لوجود ذلك الغير إلا

(١/٣٩٨)

بالصوم فصار قبيحا بوصفه ثم ذلك الغير ترك الإجابة والإعراض عن الضيافة الموضوعة في هذا الوقت بالصوم وإنما قيد بالصوم لأن الإعراض لا يحصل إلا به والدليل على المغايرة تصور الصوم بدون الإعراض وكفى لثبوت المغايرة بين الشيئين تصور وجود

أحدهما بدون صاحبه وإليه أشار الشيخ بقوله بل هو طاعة أي الصوم في هذا الوقت طاعة انضم إليه وصف هو معصية

وقوله فلم ينقلب الطاعة معصية معناه أن بحدوث هذا الوصف أو بورود النهي لم ينقلب الصوم الذي هو طاعة معصية بل هو طاعة انضم إليه وصف هو معصية وهو الإعراض ثم استوضح ما ذكر بقوله ألا ترى أن الصوم يقوم بالوقت أي يوجد به لأنه معيار ولا يتصور الصوم بدونه ولا فساد فيه أي في نفس الوقت فلا يجوز أن يتعلق النهي بالصوم باعتبار نفس الوقت أيضا

والنهي يتعلق بوصفه أي إنما يتعلق بالصوم باعتبار وصف الوقت وهو أنه يوم عيد والمتصل بالوقت كالمتصل بالصوم لأنه يقوم به فأوجب فساد الصوم وبقي أصل الصوم مشروعا

قوله مثل الفاسد من الجواهر الجوهر معرب كوهر والمراد منه ههنا ما هو المفهوم فيما بين الناس يقال لؤلؤة فاسدة إذا بقي أصلها وذهب لمعانها وبياضها واصفرت وكذا يقال لحم فاسد إذا بقي أصله ولم يبق منتفعا به فكذا المراد من الفاسد فيما نحن فيه ما هو مشروع بأصله غير مشروع بوصفه

قوله وبيانه أي بيان كون الصوم مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه على وجه يعقل أي على طريق يدرك بالعقل يعني على وجه التحقيق أن الناس أضياف اللّه تعالى يوم العيد بلحوم القرابين وتوسعة النعم والمتناول من جنس الشهوات بأصله لأنه مما تشتهيه النفس وترغب فيه طيب بوصفه لكونه ضيافة اللّه تعالى وإنما وصفه بالطيب لاستواء الغني والفقير والهاشمي فيه بخلاف الصدقة فكان تركه أي ترك المتناول طاعة بأصله أي بالنظر إلى أصل المتناول فإنه كف النفس عما تشتهيه وهو طاعة بوصفه أي هذا الترك معصية بالنظر إلى وصف المتناول لأنه ترك ضيافة اللّه تعالى وهو معصية

ويجوز أن يكون الضمير في أصله ووصفه راجعا إلى الترك أي ترك المتناول أصله طاعة ووصفه معصية لما ذكرنا

(١/٣٩٩)

وحاصل هذا الكلام أن النهي ورد لمعنى في غير الصوم وهو ترك الإجابة والإعراض عن الضيافة لكنه متصل بالصوم وصفا ففسد الصوم به وهذا هو طريقة القاضي الإمام أبي زيد والشيخين وعامة المتأخرين واعترض الشيخ أبو المعين رحمه اللّه على هذه الطريقة فقال النهي ورد عن عين الصوم بقوله عليه السلام لا تصوموا فصرفه إلى غيره عدول عن الحقيقة وذلك لا يجوز إلا بدليل

وأما قولهم النهي ورد لمعنى ترك الإجابة ففيه اعتراضات كثيرة مشهورة وبعد التسليم لا نسلم أنه غير الصوم بل هو عين الصوم وذلك لأن فعل أحد الضدين هو بعينه ترك لصاحبه إن لم تكن بينهما واسطة كالحركة مع السكون فإن التحرك هو ترك السكون والسكون ترك التحرك بعينه ليس وراء هذين الفعلين فعل آخر يكون تركا لأن التحرك مناف للسكون وكذا على العكس فوقعت الغنية عن إثبات فعل آخر لم يقصد الفاعل فعله ولا خطر بباله مباشرته ولا عرف ثبوته بالمشاهدة لنفي هذا الضد ولو جاز إثبات فعل آخر مع أن هذا الموجود كاف لنفي ضده لأمكن إثبات ما لا يتناهى من الأفعال ولا يبعد أن يكون أخذ الفعل تركا فإنه ليس بترك لما هو آخذ له وإنما يستحيل أن لو كان آخذا لما هو تارك له وإن كان الفعل له أضداد كثيرة فكل واحد منها ترك لجميع أضداده فالقيام ترك القعود والاتكاء والركوع والسجود والاضطجاع والإسلام ترك لليهودية والنصرانية والمجوسية وجميع الأديان ثم الصوم ضد للأكل والشرب والجماع ولإجابة الدعوة في هذا اليوم فكان بنفسه تركا لهذه الأشياء فإذا لم يوجد للصوم غير هو المنهي عنه فكان النهي عن ترك الإجابة نهيا عن عين الصوم

وقولهم لا بل هو غيره لتصور الصوم بدون الترك وهذا هو حد المغايرة وهو غير سديد ولا بد من بيان شرط المغايرة ليتضح عوار هذا الكلام وذلك أن المغايرة بين الشيئين يطلب من حيث الذات دون الجنس فإن تصور وجود

أحدهما مع عدم صاحبه من حيث الذات فهما متغايران وإن كان لا يجوز الانفكاك بين جنسهما كجوهر معين مع أعراضه المعينة متغايران لجواز وجودهما مع عدم صاحبه وإن كان الانفكاك بين جنس الجواهر والأعراض مستحيلا لاستحالة تعري الجواهر عن الأعراض واستحالة قيام الأعراض بأنفسها دون جوهر وعلى القلب من هذا العرضية مع الوجود في عرض معين ليسا بمتغايرين وهو في نفسه شيء واحد ولا يتصور عدم معنى العرضية مع ثبوت الوجود ولا عدم الوجود مع تقرر العرضية فكان العرض شيئا واحدا من غير أن يكون اجتمع فيه معنيان متغايران وإن كان يتصور انفكاك معنى الوجود في الجملة عن معنى العرضية فإن

(١/٤٠٠)

الجواهر موجودة وليست بأعراض واللّه تعالى موجود وليس بعرض وكذا الجوهرية مع الوجود من هذا القبيل وكذا اللّه تعالى موجود وهو قائم بذاته وهو متحد الذات وإن كان الوجود في الجملة قد ينفك عن القيام بالذات

ثم ما نحن فيه من هذا القبيل فإن ترك الإجابة وترك الأكل والشرب والجماع في هذا اليوم المعين شيء واحد وإن كان في الجملة يتصور انفكاكها عن الآخر فمن اعتبر العين في هذا الباب بالجنس وجعل جواز الانفكاك في الجملة دليلا على ثبوت المغايرة في المعين وإن كان لا يتصور فيه المغايرة فهو القائل بكون العرض الموجود شيئين متغايرين وكون الجوهر الموجود شيئين متغايرين وكون الباري الموجود القائم بالذات متغايرين وخروج هذا عن قضية العقول ودلائل الحق ودخوله في حيز الممتنع المحال مما لا يخفى على ذي لب ثم قال والذي أظن فيه الشفاء لن يتوصل إليه إلا بمعرفة مقدمات منها أن الترك ضد للمتروك ويتعلق به ثواب وعقاب فإن من ترك الصلاة فقد باشر ضدا لها يعاقب على مباشرة ذلك الضد المنهي لا لانعدام الصلاة من قبله لأن العبد لا يعاقب من غير فعل منهي باشره ومأثم ارتكبه ومنها ما بينا أن الفعل إذا كان له ضد واحد يكون كل واحد منهما تركا للآخر إلى آخر ما بينا ومنها أن ما كان له أضداد وهو بنفسه ترك للأضداد كلها ويجوز أن يختلف وصفه في الحكم باعتبار الإضافة إلى المتروك كمن أمر بالتحرك إلى اليمين ونهي عن التحرك إلى اليسار فتحرك أمامه كان هذا التحرك تركا للتحرك إلى اليمين الذي هو واجب وترك الواجب حرام وتركا للتحرك إلى اليسار الذي نهي عنه وترك المنهي عنه واجب وهذا الترك فعل واحد في ذاته وصف بالوجوب بالنسبة إلى ضد وبالحرمة بالنسبة إلى ضد آخر

ومنها أن ما كان متحدا حقيقة يلحق في الحكم بالمتعدد لعارض أوجب ذلك من مصادفته المحال المتعددة أو تعلق الأحكام المختلفة به فإن الرامي إلى إنسان عامدا لو أصاب السهم المقصود إليه ونفذه وأصاب آخر لم يقصده أخذ في حق الأول بأحكام العمد وفي حق الثاني بأحكام الخطإ والفعل في نفسه واحد وجعل متعددا لتعدد محال أثره واختلاف الأحكام المتعلقة به ومنها أن العارض مع الأصل إذا اجتمعا وأمكن اعتبارهما وجب الاعتبار ويجعل الأصل متبوعا والعارض تابعا لاستحالة القلب وتعذر التسوية

(١/٤٠١)

وبعد الوقوف على هذه المقدمات نخوض في إيضاح ما رمنا إيضاحه فيقول الصوم في هذه الأيام ترك للأكل والشرب والجماع ولإجابة دعوة اللّه تعالى عباده بالقرابين التي هي خالص أموال اللّه تعالى فإنها أموال خالصة للّه تعالى جعلت محالا لإقامة التقرب إلي اللّه سبحانه بإراقة دماء الأنعام قد شرف اللّه تعالى محمدا صلى اللّه عليه وسلم وأمته بهذه الضيافة فوجب عليهم إجابة دعوته والمسارعة إلى قبول إكرامه فكان الصوم تركا لإجابة الدعوة والأكل والشرب والجماع وهو في نفسه شيء واحد غير أنه بالإضافة إلى الأكل والشرب والجماع كان عبادة مأذونا فيها لما تعلق به من الحكم والمصالح التي بينا وبالإضافة إلى إجابة الدعوة كان منهيا عنه باعتبار أنه في حقها ترك للواجب فيكون منهيا عنه وهو في ذاته متحد وهذه الأضداد متعددة بلا شك فإن إجابة الدعوة غير الأكل والشرب لتصور وجودها بدون إجابة الدعوة وتغاير الأكل والشرب والجماع في أنفسها مما لا يشكل فكان الصوم الذي هو متحد في نفسه باعتبار الإضافة إلى الأضداد المتعددة بمنزلة المتعدد وهو باعتبار الإضافة إلى إجابة الدعوة منهي عنه وباعتبار الإضافة إلى الأكل والشرب والجماع عبادة مستحسنة فكان النهي باعتبار الحقيقة راجعا إلى الذات وباعتبار الحكم راجعا إلى غير ما هو صوم مستحسن على حسب ما ذكرت من المثال في المقدمات

ثم إجابة الدعوة ليست بضد أصلي للصوم فإن الصوم في غير هذه الأيام ليس بترك لإجابة الدعوة وهو في جميع الأوقات ترك للأكل والشرب والجماع لكونها أضدادا له أصلية فكان الصوم باعتبار الإضافة إلى هذه الأضداد بمنزلة الأصل وباعتبار الإضافة إلى إجابة الدعوة بمنزلة التابع فترك إجابة الدعوة في الصوم جعل كأنه وصف له وترك الأكل والشرب والجماع جعل كأنه موصوف متبوع فبقي الصوم مشروعا وبقي فيه نوع خلل فأمكن إيجابه بالقول لأن بالقول يمكن التمييز بين المشروع منه وبين المنهي عنه وهو معنى قول الشيخ في الكتاب إنما وصف المعصية متصل بذاته فعلا لا باسمه ذكرا ولو صام عن واجب آخر لا يجوز لحصوله مختلا في نفسه لاستحالة التمييز في الفعل بين ترك الأكل والشرب والجماع وبين ترك إجابة الدعوة وهذا كما جوز علماؤنا بيع السمن الذائب الذي ماتت فيه الفأرة لإمكان إيراد البيع على السمن دون صفة النجاسة ومنعوا من أكله لاستحالة التمييز بينهما ثم لو صام في هذه الأيام يخرج عن عهدة النذر لأنه لما أضاف النذر إلى هذه الأيام أوجب على نفسه قدر ما يتحقق فيها وقد أتى بذلك القدر كمن نذر أن يعتق هذه الرقبة وهي عمياء خرج عن

(١/٤٠٢)

نذره بإعتاقها وإن كان لا يتأدى شيء من الواجبات بها

والأفضل أن يصوم في وقت آخر ليكون مؤديا أكمل مما وجب عليه مع التخلص عن ارتكاب المنهي عنه كمن نذر أن يصلي عند طلوع الشمس فعليه أن يصلي في وقت آخر وإن صلى في ذلك الوقت خرج عن موجب نذره ولا يقال إن النهي لو كان لترك الإجابة لكان ينبغي أن يأثم من لم يأكل بدون النية لأنا نقول من لم يأكل بدون النية لعدم الطعام أو للحمية لا يأثم لأنه ترك الإجابة عن عذر أما من لم يأكل مع القدرة على الطعام وانعدام العذر فلا نسلم أنه لا يأثم وهذا بخلاف الصلاة في أرض مغصوبة لأن المنهي عنه هو الغصب دون الصلاة والصلاة فعل معلوم يتأدى بأركان وشرائط معلومة والغصب أيضا شيء معلوم لا اتحاد بينهما بوجه ولا يلزم أن من رأى رجلا يغرق وهو في الصلاة وقد أمكنه التخليص لو قطع الصلاة فلم يقطع حيث يجوز وإن كان مأمورا بتركها منهيا عن ترك التخليص والمضي في الصلاة هو ترك التخليص فكانت الصلاة منهيا عنها من حيث إنها ترك التخليص ثم لم يؤثر ذلك في صحة قضاء ما وجب عليه كاملا وكذا لو رأى رجلا يقتل آخر ويمكنه الدفع فمضى في صلاته أو اشتغل بها ابتداء حيث جازت صلاته مع ما بينا

وكذا من اشتغل بالصلاة في أول الوقت عند استنفار الناس إلى عدو من المشركين قد أظلهم وهو قادر على أن ينفر إليهم على هذا أيضا لأن الصلاة في هذه الحالة ليست بترك للتخليص والدفع فإنها مع التخليص والدفع ممكنة في الجملة عند قرب الغريق منه فيأخذ بيده فيخلصه وقرب القاصد للقتل منه فيقبض على يده أو يتعلق بثيابه أو بعض أعضائه فيمكنه فلو كانت الصلاة تركا للتخليص والدفع لما تصور حصولهما في حالة الصلاة ألبتة لأن ترك كل فعل ضده باجتماع الفعل مع تركه مستحيل كاستحالة اجتماع السواد والبياض في حالة واحدة فدل أن الترك معنى وراء الصلاة يقارن الصلاة وارتكاب النهي بفعل لا يمنع من صحة فعل آخر هو عبادة وليس بمنهي عنه كالمصلي يرمي ببصره إلى من لا يحل له النظر إليه من الأجنبيات والطائف ينظر إلى أعضاء الأجنبيات أو يقذف محصنا فكذا ما نحن فيه وهذا لأن الركن في باب الصلاة هو الأفعال المعهودة والصلاة في الحقيقة هذه الأفعال لا غيرها وترك التخليص والدفع بترك استعمال اليد وترك استعمالها في باب الصلاة ليس من الأركان إذ لا أداء لها بذلك إنما استعمالها جعل من باب النواقض لو كثر لوجود الإعراض عن العبادة فأما ترك استعمالها فليس من الصلاة لأن الصلاة ليست هي ترك استعمالها بل هي أداء الأركان

وكذا المشتغل بالصلاة في وقت التغير على هذا لأن الترك

(١/٤٠٣)

حصل بترك المشي والصلاة ليست بترك المشي إنما هي أفعال أخر وراء ترك المشي وهو القرار على المكان والقرار معنى وراء الأركان المعهودة ألا ترى أنه يتصور القرار على المكان بدون أركان الصلاة ويكون به تاركا للذهاب ويتصور ترك استعمال آلة التخليص والدفع وهي اليد بدون الصلاة ويحصل الترك فكان ترك المشي معنى مقارنا لأركان الصلاة والمنهي هو لا هي فأما في مسألتنا هذه فالصوم هو بنفسه ترك هذه الأشياء على ما قررنا واللّه أعلم هذا كله كلام الشيخ أبي المعين رحمه اللّه وخلاصة معناه أن المنهي عنه عين الصوم بجهة والمشروع عينه أيضا ولكن بجهة أخرى ويجوز أن يكون الشيء الواحد مشروعا حراما بجهتين مختلفتين عند عامة الفقهاء وزبدة الطريقة الأولى أن المشروع هو الصوم والمنهي عنه غيره ولكنه وصف له قائم به فالشيخ المصنف رحمه اللّه بين الطريقة الأولى وألحق بآخر كلامه ما يشير إلى الطريقة الثانية بقوله وبيانه على وجه تعقل إلى آخره ويوقف عليه بأدنى تأمل إن شاء اللّه تعالى

قوله ولهذا أي ولأن الطاعة وهي الصوم لم ينقلب معصية بالنهي صح النذر به أي بهذا الصوم أو ولأن ترك المتناول وهو الصوم طاعة بأصله صح النذر به لأنه نذر بالطاعة لأن كف النفس عن الشهوات بذاته قربة وهو جواب عن قولهم الصوم في هذه الأيام معصية فلا يصح النذر به والمعصية متصل بذاته فعلا لا باسمه ذكرا أي وصف هو معصية وهو ترك الإجابة متصل بفعل الصوم لا بذكر الصوم ولم يوجد منه إلا ذكر الصوم وهو

قوله نذرت أن أصوم للّه يوم النحر أو أصوم للّه غدا وغدا يوم النحر فلم يمنع صحة النذر به فإن قيل ذكر الصوم ذكر للمعصية لأن الصوم عينه ترك الإجابة على ما ذكرت وهو معصية فكان ذكرا للصوم وإيجابه ذكرا للمعصية وقصدا إليه فلم يصح كمن نذر أن يضرب أباه أو يشتم أمه لم يصح والعصيان نفس الضرب والشتم إلا أنه لما كان ذكرا له وقصدا إليه كان معصية أيضا فلم يصح قلنا لم ينعقد هذا النذر من حيث إنه ذكر المعصية ولكنه انعقد من حيث إنه ذكر طاعة وإيجاب قربة وقد بينا أن جهة القربة أصل فيه فيصح النذر به فإن قيل ما وجه رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه اللّه أنه إذا أضاف النذر إلى يوم النحر بأن قال للّه علي صوم يوم النحر لم يصح نذره وإذا أضاف إلى الغد بأن قال للّه

(١/٤٠٤)

علي أن أصوم غدا وغد يوم النحر صح نذره قلنا وجهه أنه إذا نص على يوم النحر فقد صرح في نذره بما هو منهي عنه فلم يصح

وإذا قال غدا فلم يصرح في نذره بالمنهي عنه فصح نذره وهو كالمرأة إذا قالت للّه علي أن أصوم يوم حيضي لم يصح نذرها ولو قالت للّه علي أن أصوم غدا وغد يوم حيضها صح نذرها ويجب عليها القضاء والجواب عنه على ظاهر الرواية أن الحيض وصف المرأة لا وصف اليوم وقد ثبت بالإجماع أن كونها طاهرة عن الحيض شرط ليكون أهلا لأداء الصوم فلما علقت النذر بصفة لا تبقى أهلا للأداء معها لم يصح لأنه لا يصح إلا من أهله كالرجل يقول للّه علي أن أصوم يوما أكلت فيه

قوله ولهذا أي ولأن هذا الصوم معصية بوصفه قلنا إنه لا يلزم بالشروع في ظاهر الرواية إذا شرع في صوم يوم النحر ثم أفسده لا يلزمه القضاء في ظاهر الرواية عن أبي يوسف رحمه اللّه يلزمه القضاء رواه بشر بن الوليد عنه كذا في الأسرار والكشف لأبي جعفر وذكر في المبسوط إذا أصبح يوم الفطر صائما ثم أفطر لا قضاء عليه في قول أبي حنيفة وعليه القضاء في قول أبي يوسف ومحمد رحمهم اللّه لهما أن الشروع ملزم كالنذر بدليل سائر الأيام والنهي لا يمنع صحة الشروع في حق القضاء كمن شرع في الصلاة في الأوقات المكروهة وجه ظاهر الرواية ما ذكر في الكتاب وهو أن الشروع في هذا الصوم متصل بالمعصية لأنه مرتكب للمنهي عنه وهو ترك الإجابة بنفس الشروع فلم يجب عليه إتمامه وحفظه بل أمر بقطعه رعاية لحق صاحب الشرع وهو الاحتراز عن المعصية فصار كأن صاحب الشرع قال له اقطع لأجل حقي فلا يجب على القاطع شيء لحصوله مضافا إلى صاحب الحق فبرئ العبد عن عهدته أي عهدة القطع أو عهدة ما شرع فيه كمن أمر غيره بإتلاف ماله فأتلفه لا يضمن لأنه بأمره بخلاف النذر فإنه بنذره ما صار مرتكبا للمنهي عنه وبخلاف الشروع في الصلاة في الوقت المكروه على ما نذكر

قوله ومنها أي ومن الفروع المخرجة على الأصل المذكور الصلاة عند طلوع الشمس ودلوكها أي زوالها أو غروبها يقال دلكت الشمس أي زالت أو غابت أي الصلاة

(١/٤٠٥)

في الأوقات الثلاثة المكروهة مشروعة بأصلها لأن النهي يقتضي المشروعية ولا قبح في أركانها من القيام والركوع والسجود لأنها تعظيم اللّه تعالى لتكون حسنة كما في سائر الأوقات وشروطها من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة فبقيت مشروعة بعد النهي كما كانت قبله والوقت صحيح بأصله أيضا لأنه زمان كسائر الأزمنة صالح لظرفية العبادة كما جاءت به السنة وهي ما روى عمرو بن عنبسة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال له حين سأله عن الصلاة صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حين تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني الشيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإنه حين تسجر جهنم فإذا أقبل الظل فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني الشيطان وحينئذ يسجد لها الكفار

وفي حديث الصنابحي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وقال إنها تطلع بين قرني الشيطان وإن الشيطان يزينها في عين من يعبدها حتى يسجدوا لها فإذا ارتفعت فارقها فإذا كانت عند قيام الظهيرة قارنها فإذا مالت فارقها فإذا دنت للمغيب قارنها فإذا غربت فارقها فلا تصلوا في هذه الأوقات فهذا معنى نسبة الوقت إلى الشيطان ورأيت في بعض القصص أن زرادشت اللعين أمر المجوس بالصلاة في هذه الأوقات الثلاثة فجاء الشرع بحرمة الصلاة فيها مخالفة لهم وقرنا الشيطان ناحيتا رأسه قيل إنه يقابل الشمس حين طلوعها فينصب حتى يكون طلوعها بين قرنيه فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له

وقيل هو مثل ثم لما أثبت التسوية بين صوم الأيام الخمسة وبين الصلاة في الأوقات الثلاثة من قبل أن النهي في كل منهما ورد لمعنى في وصف الوقت شرع في بيان التفرقة بينهما فقال إلا أن الصلاة أي لكن الصلاة لا توجد بالوقت لأن الوقت للصلاة ظرف ولا تأثير للظرف في اتحاد المظروف بل هي توجد بأفعال معلومة فلا يكون فساده مؤثرا فيها لأنه مجاور بخلاف الصوم لأنه توجد بالوقت لأنه معيار له على ما مر

(١/٤٠٦)

قوله وهو سببها إشارة إلى جواب سؤال مقدر وهو أن يقال فساد الظرف لما لم يؤثر في المظروف لأنه مجاور كان ينبغي أن لا يؤثر في نقصانه أيضا حتى يتأدى به الكامل كما لا يؤثر فساد ظرف المكان فيه كما في الصلاة في الأرض المغصوبة حيث تأدى بها الكامل فقال الوقت وإن كان ظرفا لكنه سبب للصلاة ففساده يؤثر في المسبب لا محالة إلا أنه لما كان مجاورا ولم يكن وصفا

يؤثر في النقصان لا في الفساد بخلاف الصلاة في الأرض المغصوبة فإن المكان فيها ليس بسبب ولا وصف فلا يؤثر في الفساد ولا في النقصان بل يوجب كراهة وهي لا يمنع أداء الواجب وفي

قوله وهو سببها إشارة إلى أن الوقت سبب لما شرع فيه من النفل كما هو سبب لما شرع فيه من الفرض وإلا لم يستقم هذا الكلام لأن كلامنا في النفل لا في الفرض وقيل في معنى سببية الوقت إن أدرك كل زمان والبقاء إليه نعمة فيستدعي شكرا وكان ينبغي أن يجب عليه الاشتغال بالخدمة في كل الأزمنة شكرا إلا أن اللّه تعالى رخص بالإيجاب في بعض الأزمنة دون البعض فإذا نذر أو شرع فقد أخذ بما هو العزيمة فثبت أن مطلق الوقت سبب فقيل لا يتأدى به أي بالمذكور وهو الصلاة في هذه الأوقات المكروهة الكامل وهو ما وجب في غير هذه الأوقات لأن الكامل لا يتأدى بالناقص

فإن قيل لا يمنع النقصان عن الجواز كما لا يمنع الكراهة عنه بدليل أن من ترك الفاتحة أو بعض الواجبات في أداء الصلاة أو في قضائها يخرج عن العهدة وأن يمكن فيه النقصان ولهذا وجب جبره بالسجود إن كان ساهيا وإذا كان كذلك وجب أن يتأدى به الكامل كما يتأدى بالصلاة في الأرض المغصوبة قلنا النقصان إنما يمنع إذا كان راجعا إلى نفس المأمور به أصلا أو وصفا لأن ذلك دخل تحت الأمر فلا بد من أن يمنع فوات ما دخل تحت الأمر عن الجواز فأما ما لم يدخل تحت الأمر ففواته لا يمنع عنه لأنه لا يخل بالمأمور به وذلك كمن أعتق رقبة عمياء عن كفارة يمينه لا يجوز لأن الوصف دخل تحت الأمر وإن كانت كافرة تجوز وأن يمكن فيهما نقصان بفوات الإيمان لأن وصف الإيمان لم يدخل تحت الأمر فنقصانه لا يمنع عن أداء الواجب ثم الوقت في الصلاة داخل تحت الأمر بالدلائل القطعية فنقصانه يمنع عن الجواز كوصف العمى في الرقبة فأما واجباتها فلم تدخل تحت الأمر ففواتها لا يؤثر في المنع عن الجواز كفوات وصف الإيمان في الرقبة لأن المأمور به كامل أصلا ووصفا

(١/٤٠٧)

وإنما حكمنا بالنقصان عملا بأخبار الآحاد التي لا تزاد على الكتاب وتوجب العمل لا العلم ولهذا قلنا ينجبر بالسجود فلا يظهر في حق المأمور به وكذا المكان في الصلاة لم يدخل تحت الأمر فلا ينتقص المأمور به بنقصانه

قوله ويضمن بالشروع حتى لو قطعها وجب عليه القضاء وينبغي أن يقضيها في وقت يحل فيه الصلاة فإن قضاءها في وقت آخر مكروه أجزأه

وقد أساء لأنه لو أتمها في ذلك الوقت أجزأه فكذا إذا قضاها في وقت مثل ذلك الوقت وقال زفر لا يضمن وهو رواية عن أبي حنيفة رحمهما اللّه لأنها منهي عنها فلم تجب صيانتها عن البطلان كالصوم المنهي عنه ولنا أن فساد الوقت لما لم يؤثر في إفسادها بقيت صحيحة وإن صارت ناقصة فوجبت صيانتها عن البطلان بخلاف الصوم لأنه يقوم بالوقت إذ الوقت فيه جزء من أجزاء الماهية حتى قيل هو الإمساك عن المفطرات الثلاث نهارا ولهذا لو أمسك في الليل لا يكون صوما بحال ويعرف به أي يعرف مقداره بالوقت حتى ازداد بازدياده وانتقص بانتقاصه

فازداد الأثر أي أثر فساد الوقت في الصوم فصار فاسدا فلم يضمن بالشروع يوضحه أن في الصلاة يمكنه الأداء بذلك الشروع لا بصفة الكراهة بأن يصير حتى ترتفع الشمس فلهذا لزمه وفي الصوم بعد الشروع لا يمكنه الأداء بدون صفة الكراهة فلم يلزمه وحقيقة الفرق ما ذكر الشيخ أبو المعين رحمه اللّه أن ما تركب من أجزاء متفقة متجانسة يكون للبعض اسم الكل كالماء والهواء والخل واللبن فإن اسم الماء كما ينطلق على جميع ماء البحر ينطلق على قطرة منه لكون أجزاء الماء متفقة متجانسة في نفسها وما تركب من أجزاء مختلفة لا يكون للبعض اسم الكل كالسكنجبين المتركب من الماء والسكر والخل لا يكون للبعض منه اسم الكل فإن الخل لا يسمى سكنجبينا وكذا الآدمي مع الأجزاء البسيطة من اللحم والدم والعظم والعصب والأجزاء المتركبة كالوجه واليد والرجل هكذا فإن شيئا من هذه الأجزاء من أي النوعين كان لا ينطلق عليه اسم الآدمي معروف ذلك عند أهل اللغة لا نزاع في ذلك ثم الصوم تركب من أجزاء متفقة وهي الإمساكات الموجودة من انشقاق الفجر إلى غروب الشمس فكان اسم الصوم واقعا على كل جزء من أجزائه والنهي ورد عن الصوم وجزء من أجزائه صوم فكان منهيا عنه ولهذا لو حلف أن لا يصوم فشرع فيه ثم أفسد يحنث في يمينه فكان ما انعقد منه انعقد مشروعا محظورا على ما قررنا ولو مضى فيه لكان كل جزء منه مشروعا محظورا والمضي إنما يلزم لإبقاء ما انعقد على ما انعقد

(١/٤٠٨)

والمنعقد الماضي كان مشتملا عليهما فالمضي لو لزم لما فيه من تقرير الطاعة لا يلزم لما فيه من تقرير المعصية لأن تقريرها حرام والتوبة عما سبق من المعصية والندم عليه فريضة وتقرير ما انعقد طاعة واجب لكنه مجتهد فيه وتعارضت فيه الأخبار من حيث الظاهر فتمكنت فيه الشبهة

فأما افتراض التوبة عن المعصية فلا شك فيه فكان جانب ترك المضي مرجحا على جانب وجوب المضي فلم يجب المضي فلا يلزمه القضاء بالإفساد بخلاف ما إذا شرع في الصلاة في الأوقات المكروهة ثم أفسد حيث يلزمه القضاء بالإفساد لأن الصلاة تركبت من أجزاء مختلفة غير متجانسة من قيام وركوع وسجود فلا يكون لبعضها اسم الصلاة وإنما ينطلق الاسم عند انضمام هذه الأجزاء بعضها إلى بعض بأن يقيد الركعة بالسجدة وصارت الركعات بعد ذلك أجزاء متجانسة فكان لركعة واحدة اسم الصلاة ولهذا لو حلف أن لا يصلي فشرع في الصلاة لا يحنث ما لم يقيد الركعة بالسجدة ومن انتقل من الفرض إلى النفل قبل تمامه لا يجعل متنفلا ما لم يوجد منه السجدة لأن ما دون الركعة ليس بصلاة والنهي ورد عن الصلاة في هذه الأوقات فلم يكن الشروع منهيا عنه ولا القيام ولا القراءة ولا للركوع وإنما يتوجه عليه النهي عند وجود السجدة فما مضى قبل ذلك انعقد عبارة محضة وإبطالها حرام وصيانتها واجبة ولا تحصل الصيانة بدون المضي فكان المضي في حق ما مضى امتناعا عن إبطال العمل وهو واجب وفي حق ما يستقبل تحصيل طاعة وتحصيل معصية فكان المضي طاعة ومعصية وامتناعا عن المعصية وهي إبطال العبادة وترك المضي امتناعا عن معصية وطاعة وارتكاب معصية وهي إبطال عبادة محضة فترجحت جهة المضي على جهة الإفساد فوجب المضي

فإذا أفسد فقد أفسد عبادة وجب عليه المضي فيها فيلزمه القضاء واللّه أعلم

قوله متعلق بما ليس بوصف أي ليس بوصف ولا سبب فلم تفسد ولم ينتقض أيضا حتى تأدى بها الواجب الكامل باتفاق الفقهاء إلا أن غرض الشيخ لما كان هو التفرقة بينها وبين صوم يوم النحر والتفرقة بين البيع وقت النداء وبين بيع الربا لا غير لم يتعرض لعدم الانتقاض وإنما كان النهي متعلقا بما ليس بوصف لأنه متعلق في الصلاة بشغل الأرض وفي البيع بترك السعي وهما أمران منفكان عن الصلاة والبيع ألا ترى أن الشغل يوجد بدون الصلاة والصلاة توجد بدون الشغل وكذا البيع يوجد بدون ترك السعي بأن تبايعا في الطريق ذاهبين وترك السعي يوجد بدون البيع بأن مكث من غير بيع وإذا كان كذلك كان النهي لأمر مجاور فأوجب الكراهة دون الفساد وفي بعض الشروح القبح المتصل بالمشروع على ثلاثة أوجه اتصال كامل ووسط

(١/٤٠٩)

وناقص فالكامل في صوم يوم العيد ولذلك لم يضمن بالشروع ولم يتأد به الكامل والوسط في الصلاة في الأوقات المكروهة إذ اتصال القبح بها أقل بالنسبة إلى الصوم وأكثر بالنسبة إلى الصلاة في الأرض المغصوبة ولذلك لا يتأدى به الكامل وتضمن بالشروع والناقص في الصلاة في الأرض المغصوبة ولذلك ثبت فيها الكراهة دون الفساد والنقصان لأن القبح فيها على طريق المجاورة لا على طريق الاتصال في الحقيقة

واعلم أن العلماء قد اختلفوا في الصلاة في أرض مغصوبة فذهب الجمهور إلى أنها صحيحة وذهب أهل الظاهر وأحمد بن حنبل ومالك في رواية والزيدية والجبائي وابنه أبو هاشم إلى أنها لا تصح قائلين بأن القول بصحتها يؤدي إلى أن يكون الفعل الواحد بذاته حراما وحلالا لأن هذا الفعل المعين غصب ومتعلق الحرمة بالاتفاق فلو صحت لكان هو بعينه متعلق الوجوب أيضا وذلك باطل وهذا لأن فعله واحد وهو كونه في الدار المغصوبة وهو في حالة القيام والركوع والسجود غاصب بفعله عاص به فلا يجوز أن يكون متقربا بما هو عاص به مثابا بما هو معاقب عليه

ولا يفيد قولكم أمكن انفكاك

أحدهما عن الآخر لأنه وإن أمكن ذلك في غير صورة النزاع لكنهما متلازمان فيما تنازعنا فيه فلا يمكن الجمع بين الأمرين وتمسك الجمهور بإجماع السلف فإنهم ما أمروا الظلمة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة مع كثرة وقوعها ولا نهوا الظالمين عن الصلاة في الأراضي المغصوبة إذ لو أمروا به ونهوا عنها لانتشر وبأن الفعل وإن كان واحدا في نفسه إذا كان له وجهان مختلفان يجوز أن يكون مطلوبا من أحد الوجهين مكروها من الوجه الثاني وإنما الاستحالة في أن يطلب من الوجه الذي يكره لعينه ثم فعله من حيث إنه صلاة مطلوب ومن حيث إنه غصب مكروه والغصب يعقل دون الصلاة والصلاة تعقل دون الغصب وقد اجتمع الوجهان في فعل واحد ومتعلق الأمر والنهي الوجهان المتغايران وهو نظير ما إذا قال السيد لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فإن ارتكبت النهي عاقبتك وإن امتثلت أعتقتك فخاط الثوب في تلك الدار فيصح من السيد أن يعاقبه ويعتقه ويقول أطاع بالخياطة وعصى بدخول الدار فكذلك ما نحن فيه من غير فرق فالفعل وإن كان واحدا فقد تضمن تحصيل أمرين

(١/٤١٠)

مختلفين يطلب

أحدهما ويكره الأخر وبأن جمعهما المكلف لم يخرجا عن حقيقتهما وهو أيضا كمن رمى سهما إلى مسلم بحيث يمرق إلى كافر وإلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم فإنه يثاب ويعاقب ويملك سلب الكافر عند من جعله سببا لذلك ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين وبهذا خرج الجواب عما قالوا إنه غاصب بفعله ولا فعل له إلا قيامه وركوعه وسجوده فكان متقربا بعين ما هو غاصب به لأنا إنما جعلناه عاصيا من حيث إنه يستوفي منافع الدار ومتقربا من حيث إنه أتى بصورة الصلاة كما ذكرنا في مسألة الخياطة وقد يعلم كونه غاصبا من لا يعلم كونه مصليا ويعلم كونه مصليا من لا يعلم كونه غاصبا

ألا ترى أنه لو سكن ولم يفعل فعلا لكان غاصبا في حالة النوم وعدم استعمال القدرة وإنما يتقرب بأفعاله وليست تلك الأفعال شرطا لكونه غاصبا فثبت أنهما وجهان مختلفان وإن كان الفعل واحدا ولما فرغ الشيخ من بيان تخريج الفروع على الأصل المذكور شرع في جواب ما يرد نقضا على ذلك الأصل فقال وهذا يخالف أي بقاء المشروعية مع ورود النهي يخالف بيع الحر أو ما ذكرنا من الفروع يخالف بيع الحر والمضامين والملاقيح من حيث إن النهي فيها لم يقتض بقاء المشروعية حتى بطلت أصلا وقد اقتضى ذلك في الفروع المتقدمة لأنها بيوع أضيفت إلى غير محلها إذ المعدوم لا يصلح محلا للبيع ولا بد للانعقاد من المحل فبطلت لعدم المحل وصار النهي عنها مستعارا للنفي بهذه القرينة واستعارة النهي للنفي صحيحة لما بينهما من المشابهة وهي استواؤهما في نفس الرفع ف

أحدهما برفع الأصل والآخر برفع الصفة أو لأن كل واحد منهما عبارة عن العدم أو لأن كل واحد منهما محرم ولهذا صحت استعارة النفي للنهي في قوله تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج والمضامين ما تضمنته أصلاب الفحول ومنه قول الشاعر إن المضامين التي في الصلب ماء الفحول في الظهور الحدب جمع مضمون من ضمن الشيء بمعنى تضمنه يقال ضمن كتابه كذا وكان مضمون كتابه كذا

والملاقيح ما في البطون من الأجنة جمع ملقوح أو ملقوحة من لقحت الدابة إذا حبلت وهو فعل لازم فلا يجيء اسم المفعول منه إلا موصولا بحرف الجر إلا أنهم استعملوه محذوف الجار وصورته أن يقول بعت الولد الذي سيحصل من هذا الفحل أو من هذه الناقة وكان ذلك من عادة العرب فنهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك

(١/٤١١)

قوله وكذلك صوم الليالي أي وكبيع الحر والمضامين والملاقيح صوم الليالي في أنه غير مشروع مع أنه منهي عنه لأن الوصال غير مشروع فإن الشرع أخرج زمان الليل من أن يكون وقتا للصوم ولم يجعله وقتا له أصلا فكان النهي عنه بمعنى النفي ثم صوم الفرض يتأدى بصيام أيام الوصال إذا نواه لأن القبح في المجاور وهو الإمساك في الليل لا لمعنى متصل بوقت الصوم بخلاف صوم يوم النحر لأن القبح لمعنى اتصل بوقت الصوم

قوله ولا ممكن لأن الآدمي لا يحيى بدون الأكل على ما عليه جبلته فلا بد من أن يعين بعض الزمان للصوم وبعضه للفطر فتعينت النهر للصوم لأن الابتلاء يتحقق فيها لأن في النفس داعية إلى الأكل والشرب وذلك في النهار في العادة فيتحقق خلاف هوى النفس بالإمساك عن الشهوات فيه فأما الإمساك في الليل فعلى وفاق هواها فلا يتحقق فيه معنى الابتلاء على الكمال إذ أصل بناء العبادة على مخالفة العادة لا على موافقتها ولا يقال بأن الجماع يوجد في الليالي عادة وهو إحدى المفطرات فكان الإمساك عنه في الليل على خلاف هوى النفس فينبغي أن يكون الليل محلا للصوم أيضا لأنا نقول شهوة الفرج تابعة لشهوة البطن ولهذا كان الصوم وجاء على ما ورد به الأثر فلا يعتبر بنفسها

قوله ولا يلزم النكاح بغير شهود أي ولا يلزم على الأصل المذكور النكاح بغير شهود فإنه لم يبق مشروعا مع أنه منهي عنه بدليل تحقق حكم النهي فيه وهو الحرمة وبدليل أنه لو حمل

قوله عليه السلام لا نكاح إلا بشهود على حقيقته يلزم الخلف في كلام صاحب الشرع فوجب حمله على النهي كما حمل قوله تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج عليه لهذا المعنى لأنا لا نسلم ذلك بل نقول هو منفي فكان ذلك إخبارا عن عدمه كقوله عليه السلام لا صلاة إلا بطهارة وكقولك لا دخل في الدار وذلك لا يوجب بقاء المشروعية بل يوجب انتفاء ضرورة صدق الخبر وما ذكر أنه يلزم منه الخلف غير مسلم لأن الكلام في النكاح الشرعي وهو منتف أصلا و

قوله وإنما يسقط الحد جواب سؤال يرد على هذا الجواب وهو أنه لما لم يبق مشروعا أصلا ينبغي أن لا يسقط الحد ولا يثبت النسب ولا يجب العدة والمهر فيه لأنها من أحكام النكاح والحكم لا يثبت بدون السبب فقال إنما يثبت هذه الأحكام لشبهة العقد وهي وجود صورته في محله لا لانعقاد أصل العقد إذ الشبهة ما يشبه الثابت وليس

(١/٤١٢)

بثابت

قوله ولأن النكاح شرع لملك ضروري يعني ولئن كان صيغته نهيا لم يكن القول ببقاء المشروعية والعمل بالحقيقة ولوجب حملها على النفي والنسخ أيضا لأن النهي إنما يوجب بقاء المشروعية فيما أمكن إثبات موجبه وهو الحرمة مع المشروعية لا فيما لم يمكن ذلك والنكاح من هذا القبيل لأنه شرع لملك ضروري لا ينفصل عن الحل لأن الأصل فيه أن لا يكون مشروعا لأنه استيلاء على حرة مثله في الشرف والكرامة واسترقاق لها حكما من غير جناية ولكنه إنما شرع ضرورة بقاء النسل إذا لو لم يشرع لاجتمع الذكور والإناث على وجه السفاح بداعية الشهوة وفيه ما لا يخفى من الفساد فشرع النكاح سببا للملك ليظهر أثره في حل الاستمتاع

ولهذا سمي ذلك الملك حلا في نفسه ولهذا لا يظهر أثره فيما وراء ذلك حتى بقيت حرة مالكة لأجزائها ومنافعها بعد النكاح كما كانت قبله ألا ترى أنه لو قطع طرفها أو آجرت نفسها أو وطئت بشبهة كان الأرش والأجر والعقر لها دون الزوج وإذا كان الموجب الأصلي في النكاح الحل وموجب النهي الحرمة لا يمكن الجمع بين موجبهما لتضاد بينهما ثم الحرمة ثابتة بالإجماع فينعدم الحل ضرورة ومن ضرورة انعدامه خروج السبب من أن يكون مشروعا لأن الأسباب الشرعية تراد لأحكامها لا لذواتها ومن ضرورة خروج السبب عن المشروعية صيرورة النهي فيه بمعنى النفي ولا يلزم على ما ذكرنا انعقاد النكاح وبقاؤه مع حرمة الاستمتاع في حالة الإحرام والاعتكاف والحيض وكذا بقاؤه مع الظهار الموجب للحرمة لأنه إنما انعقد وبقي في هذه الصور ليظهر أثره بعد زوال هذه العوارض فإنها تزول لا محالة فالإحرام ينتهي بضده والحيض تنتهي بالطهر وحرمة الظهار تزول بالكفارة فكان بمنزلة من تزوج امرأة وهناك مانع حسي لا يمكنه الوصول إليها إلا برفعه لا يمنع ذلك عن صحة النكاح لأن بعد رفع المانع يظهر أثره فأما فيما نحن فيه فالحرمة ليست بمغياة إلى غاية يمكن إظهار أثر النكاح بعد انتهائها فلا يكون في الانعقاد فائدة أصلا

قوله وكذلك نكاح المحارم منفي أي محمول على النفي لعدم محله لأن النص الوارد فيه يوجب تحريم العين والحرمة متى أضيفت إلى العين أخرجتها عن محلية الفعل

(١/٤١٣)

لأن الحل والحرمة لا يجتمعان في محل واحد فكانت إضافة الحرمة إليهن نفيا للحل لا نهيا

قوله مستعار عن النفي أي للنفي يعني إن كان المراد من النكاح المذكور في النص العقد فالنهي محمول على النفي لأنه ثبت بالدليل أن الحرمة الثابتة بالمصاهرة هي الحرمة الثابتة بالنسب على أن تقوم المصاهرة مقام النسب فكان تقديره وحرمت عليكم ما نكح آباؤكم فتخرج عن محلية النكاح فكان النهي مجازا بمعنى النفي لا محالة قال شمس الأئمة الكردري رحمه اللّه لا يرد قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم نقضا على هذا الأصل لأن كلامنا فيما كان مشروعا ثم صار منهيا عنه أيبقى مشروعا بعد النهي أم لا ولم يكن ذلك مشروعا أصلا بدليل قوله تعالى إنه كان فاحشة ومقتا فلم يكن من هذا الباب ثم ما ذكر جواب عن المسائل التي يرد نقضا على الأصل المختلف فيه وهو أن النهي عن الأفعال الشرعية يوجب بقاء المشروعية

فلما فرغ عنه شرع في جواب ما يرد نقضا على الأصل المتفق عليه وهو أن النهي عن الأفعال الحسية يوجب انتفاء المشروعية عنها أصلا وهي أربع مسائل فقال

وأما استيلاء أهل الحرب ووجه وروده أن الاستيلاء فعل حسي والنهي عن الفعل الحسي يوجب قبحا في عينه وانتفاء المشروعية عنه وقد قلتم بخلافه حيث جعلتموه سببا للملك الذي هو نعمة ولا بد لها من سبب مشروع رعاية للتناسب بين السبب والمسبب فكان هذا نقضا لذلك الأصل

وتوجيه الجواب أنا لا نسلم أن الاستيلاء منهي عنه لذاته بدليل أنه لو استولى على مال مباح أو على صيد يصير مملوكا له بالإجماع فثبت أنه منهي عنه لغيره وليس ذلك إلا عصمة المحل والعصمة إنما يثبت في حقنا دون أهل الحرب لأنها إنما تثبت بالخطاب بالإجماع ولم يثبت الخطاب في حقهم لانقطاع ولاية التبليغ والإلزام فكانوا في حق هذا الحكم أعني ثبوت العصمة بمنزلة من لم يبلغه الخطاب من المؤمنين في زمن الرسول صلى اللّه عليه وسلم فكان استيلاؤهم على هذا المال واستيلاؤهم على الصيد سواء ولكن يلزم على هذا استيلاؤهم على رقابنا فإنهم يعتقدون تملكها بالاستيلاء ويعتقدون إباحة ذلك ومع هذا لا يملكونها فلذلك ضم إليه دليلا آخر يفرق به بين الأموال والرقاب فقال ولأن العصمة متناهية يعني ولئن سلمنا أن العصمة ثابتة على الإطلاق في حق الجميع إلا أنها انتهت بانتهاء سببها وهو الإحراز لأن العصمة وهي عبارة

(١/٤١٤)

عن كون الشيء محرم التعرض محصنا لحق الشرع أو لحق العبد إنما يثبت بالإحراز وهو يتحقق باليد عليه حقيقة بأن كان في تصرفه أو بالدار على ما عرف وقد انتهى كلاهما بإحرازهم المأخوذ بدار الحرب فينتهي العصمة الثانية به كما ينتهي عصمة النفس بانتهاء الإسلام وإذا انتهت العصمة بانتهاء سببها سقط النهي ولم يبق الاستيلاء محظورا لأنه ثبت بناء على عصمة المحل ولم يبق فإن قيل ابتداء الاستيلاء ورد على محل معصوم فيلغو لعدم مصادفته محله فلا يفسد زوال العصمة بعد ذلك كمن أخذ صيد الحرم وأخرجه لا يملكه ولو هلك في يده يجب الضمان وإن زالت عصمة الحرم بعد الإخراج لأن ابتداء الأخذ لاقاه وهو ليس بمحل للملك

وكذا إذا اشترى خمرا فصارت خلا لا ينعقد البيع وإن صار محلا للبيع بعد زوال الخمرية كذلك هذا قلنا قد ثبت بالدليل أن للفعل الممتد حكم الابتداء في حالة البقاء كأنه يحدث ساعة فساعة كما في لبس الخف في حق المسح ولبس الثوب في حق الحنث والاستيلاء فعل ممتد فصار بعد الإدخال في دار الحرب كأنه استولى على مال غير معصوم ابتداء في دار الحرب فيصلح سببا للملك كاستيلاء المسلم على مثل هذا المال وهو مال أهل الحرب وهكذا نقول في الصيد أنه يملك بعد الإخراج عن الحرم حتى لو باع يجوز بيعه نص عليه في الجامع ولو أكله يحل إلا أنه يجب الإرسال ولو لم يرسل يجب الجزاء تعظيما للحرم وصيانة لحرمته فإنا لو قلنا بأن من أخذ الصيد وأخرجه لا يجب الإرسال والجزاء يؤدي ذلك إلى تفويت الأمن عن الصيد وإلى هتك حرمة الحرم فأما مسألة البيع فليست من هذا القبيل لأنه ليس بممتد فإذا لم يصادف محله بطل أصلا وهذا بخلاف استيلائهم على رقاب المسلمين حيث لا يصلح سببا للملك بحال لأن عصمتها عن الاسترقاق ثبتت بالحرية المتأكدة بالإسلام ولم تنته بالإحراز الموجود منهم وبخلاف ما إذا دخل المسلم دار الحرب مستأمنا فاستولى على ماله مسلم حيث لا يملكه وإن لم تبق العصمة بزوال اليد والدار جميعا وتحقق الاستيلاء على مال غير معصوم في حالة البقاء لأن الاستيلاء لم يتم لأنه إنما يتم بالإحراز والمسلم لا يحرز نفسه وماله بدارهم بل يدخلها على سبيل العارية وإنما هو من أهل دار الإسلام حيثما كان فكان بمنزلة ما لو استولى عليه في دار الإسلام

وحقيقة الخلاف أن عصمة النفوس والأموال يثبت بالإحراز بالدار أم بمجرد الإسلام فعندنا تثبت بالإحراز وعنده تثبت بالإسلام أو بما يخلفه في أحكام الدنيا وهو

(١/٤١٥)

عقد الذمة وقد عرف تحقيقه في موضعه ثم فيما نحن فيه لما زال العاصم وهو الإحراز بالدار بطلت العصمة فيملك بالاستيلاء لأن الاستيلاء على مال غير معصوم ليس بمحظور فيصلح سببا للملك وعنده لما بقي العاصم وهو إسلام المالك لم تزل العصمة فلا يملك بالاستيلاء لأنه محظور فلا يصلح سببا للملك الذي هو نعمة واللّه أعلم

قوله

وأما الملك بالغصب إلى آخره جواب عن نقض آخر يرد على ذلك الأصل أيضا ووجه وروده ما ذكرناه في الاستيلاء واعلم أن بعض المتقدمين من مشايخنا قالوا سبب الملك في المغصوب للغاصب تقرر الضمان عليه كي لا يجتمع البدل والمبدل في ملك شخص واحد ولكن هذا غلط لأن الملك عندنا يثبت من وقت الغصب ولهذا نفذ بيع الغاصب وسلم الكسب له وقال بعض المتأخرين الغصب هو السبب الموجب للملك عند أداء الضمان وهذا أيضا وهم فإن الملك لا يثبت عند أداء الضمان من وقت الغصب للغاصب حقيقة ولهذا لا يسلم له الولد ولو كان الغصب هو السبب للملك لكان إذا تم له الملك بذلك السبب يملك الزوائد المتصلة والمنفصلة كالبيع الموقوف إذا تم بالإجازة يملك المشتري المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة

ومع هذا في هذه العبارة بعض الشنعة لأن الغصب عدوان محض فلا يصلح سببا للملك كما قال الشافعي رحمه اللّه فالأسلم أن يقال الغصب يوجب رد العين ورد القيمة عند تعذر رد العين بطريق الجبر مقصودا بهذا السبب ثم يثبت الملك به للغاصب شرطا للقضاء بالقيمة لا حكما ثابتا بالغصب مقصودا ولهذا لا يملك الولد لأن الملك كان شرطا للقضاء بالقيمة والولد غير مضمون بالقيمة وهو بعد الانفصال ليس بتبع فلا يثبت هذا الحكم فيه بخلاف الزيادة المتصلة فإنها تبع محض والكسب كذلك بدل المنفعة فيكون تبعا محضا وثبوته في البيع بثبوته في الأصل سواء ثبت في المتبوع مقصودا بسببه أو شرطا لغيره كذا في المبسوط ولا بد من كشف سر المسألة وهو أن ضمان الغصب يجب بمقابلة اليد الفائتة أم بمقابلة العين فعندنا يجب بمقابلة العين وعند الشافعي رحمه اللّه يجب بمقابلة اليد قال لأن المضمون بالغصب ما فات بالغصب وهو اليد فكان شرع الضمان لجبر ما ذكرنا ما فات على المالك لأنه ضمان جبر بالاتفاق لا بإزاء ما هو قائم ليفوت وإذا كان الضمان لجبر ما ذكرنا بقي الملك في المغصوب كما كان

وكان ينبغي أن يثبت الملك في الضمان للمالك يدا لا ذاتا على مثال المضمون لكن إثبات يد الملك بدون ملك الذات غير ممكن فإن اليد كانت ثابتة على وجه يتمكن بها من الانتفاع وهذا بدون ملك الذات لا يتصور فأثبتنا الملك في الذات ضرورة تحقق المماثلة بين الفائت والجابر

(١/٤١٦)

وما ثبت ضرورة غيره كان عدما في حق نفسه ألا ترى أن المغصوب إذا كان مدبرا وتعذر رده وجب الضمان مقابلا باليد بالاتفاق ويثبت الملك فيه للمغصوب منه ضرورة تحقق المماثلة وفصل المدبر يوضح أن الضمان بمقابلة اليد إذ لو كان بدلا عن العين وكان من شرط القضاء به زوال ملك المالك عن العين لما قضى القاضي به في محله لا يتحقق هذا الشرط وإن تم بقضاء بالقاضي ينبغي أن يزول ملكه عن المدبر كما لو قضى بجواز بيع المدبر وإذا ثبت أن الضمان بمقابلة قطع اليد لم تقع الحاجة إلى إزالة ملك العين عن المالك إلى الغاصب كما في المدبر إذا ليس فيه اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد وحجتنا في ذلك قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الشاة المغصوبة المصلية أطعموها الأسارى فقد أمرهم بالتصدق بها ولو لم يملكوها لما أمرهم به لأن التصدق بملك الغير إذا كان مالكها معلوما لا يجوز ولكن يحفظ عليه عين ملكه فإن تعذر ذلك يباع فيحفظ عليه ثمنه ولأن الضمان إنما يجب بمقابلة ما هو المقصود ومقصود صاحب الدراهم مثلا عين الدراهم لا امتلاء كيسه ويده ألا ترى أنه تقوم العين به ويسمى الواجب قيمة العين لا قيمة اليد ويتقدر بمالية العين

والدليل عليه أنه خلف عن الضمان الأصلي بالغصب والمضمون الأصلي هو المال المغصوب بعينه بالإجماع وعليه رده إلى مالكه ليخرج عن الضمان الأصلي بالغصب فكذا الخلف يكون خلفا عن ذلك المضمون وهو المال هذا هو الأصل فلا يعدل عنه إلى ما ذكره الخصم إلا عند العجز عن هذا كما لا يقضى بالقيمة إلا عند العجز عن يمين المغصوب وهذا أولى مما قاله الخصم لأنه جعل المتقوم بدلا عما ليس بمتقوم مع إمكان جعله بدلا عن المتقوم وليس له نظير في الشرع ونحن جعلناه بدلا عما هو متقوم عند الإمكان ولما ثبت أن الواجب بدل العين وإنما يجب بطريق الجبر بالإنفاق والجبر يستدعي الفوات لا محالة لأنه إنما يجبر الفائت دون القائم كان من ضرورة القضاء بقيمة العين انعدام ملكه في العين ليكون جبرا لما فات ولتتحقق المماثلة التي هي شرط ضمان العدوان وما لا يمكن إثباته إلا بشرط فإذا وقعت الحاجة إلى إثباته يقدم شرطه عليه لا محالة كما في

قوله اعتق عبدك عني على ألف درهم فأعتقه يقدم التمليك منه على نفوذ العتق عنه ضرورة كونه شرطا في المحل لا أن يكون

قوله أعتقه عني سببا للتمليك مقصودا

(١/٤١٧)

وتبين بما ذكرنا أنا نثبت بالعدوان المحض ما هو حسن مشروع به وهو القضاء بالقيمة جبرا لحقه في الفائت ثم انعدام الملك في العين لما كان من شرط هذا المشروع يثبت به فيكون حسنا بحسنه

وصح الأمر بإيجاب البدل وإن لم يثبت شرطه بعد وهو عدم ملك الأصل إذا كان الشرط مما يثبت بالائتمار به مقتضى كالأمر بالإعتاق صح وإن لم يثبت ملك العبد لأنه مما يثبت مقتضى الائتمار به فإذا أعتق يثبت الملك بالشراء أولا ثم العتق كما لو صرح بالشراء ثم أمر بالإعتاق فكذا ههنا يزول ملك الأصل أولا مقتضى به ثم يترتب عليه ملك البدل كما لو أتى بما ينص على الإزالة من ضمان بيع وتبين أن الغصب موجب للملك في البدلين كالبيع إلا أنه أوجب اقتضاء والشراء نصا فإن قيل قد سلمنا أنه بدل العين إلا أنه بدل خلافة لا بدل مقابلة لأن في بدل المقابلة قيام المبدل شرط كالثمن مع المثمن ليقابل به البدل وفي بدل الخلافة الشرط عدم الأصل ليقوم الخلف مقامه كالتيمم مع الوضوء والاعتداد بالأشهر مع الاعتداد بالأقراء ثم ههنا عدم الأصل شرط فعلم أنه بدل خلافة وفي بدل الخلافة إذا ثبت القدرة على الأصل سقط حكم الخلف كالقدرة على الماء إذا حصلت أسقطت التيمم فههنا إذا عاد العبد من الإباق جاءت القدرة على الأصل فوجب أن يسقط اعتبار الخلف قلنا نحن نسلم أنه بدل خلافة ولكنا نحتاج إلى إزالة الأصل عن ملكه حال ما يقضي القاضي بإدخال البدل في ملكه احترازا عن اجتماع البدل والمبدول في ملك واحد فإذا دخل البدل في ملكه وزال الأصل عن ملكه ووقع الفراغ عنه لا يلتفت إلى حصول القدرة بعد ذلك لأنه بعد حصول المقصود بالبدل فلا يوجب سقوط اعتبار البدل كمن تيمم وصلى ثم قدر على الماء

قوله

وشرط الشيء تابع له لأنه يثبت لتصحيح الغير لا أن يثبت مقصودا بنفسه ولهذا يثبت بثبوت المشروط ويسقط بسقوطه كالطهارة للصلاة فصار أي ثبوت الملك للغاصب الذي هو شرط حسنا بحسنه أي بحسن الحكم الشرعي الذي هو مشروطه وهو الضمان وإن قبح أن لو ثبت الملك للغاصب مقصودا بالغصب ثم أجاب الشيخ عن فصل المدبر بوجهين تقرير الأول أنا نقول في فصل المدبر بزواله عن ملك المغصوب منه بعد تقرر حقه في القيمة تحقيقا لشرط المشروع وهو الضمان ولهذا لو لم يظهر المدبر بعد ذلك وظهر له كسب كان للغاصب دون المغصوب منه ولكن لا يدخل في ملك الغاصب صيانة لحق المدبر فإن حق العتق ثبت له بالتدبير والملك في المدبر

(١/٤١٨)

يحتمل الزوال ولكن لا يحتمل الانتقال والزوال كاف لتحقق الشرط فيثبت هذا القدر ونظيره الوقف فإنه يخرج عن ملك الواقف ولا يدخل في ملك الموقوف عليه

وقوله في ملك المشتري أراد به الغاصب لأنه بمنزلة المشتري عند أداء الضمان وتقدير الثاني أن في المدبر القيمة ليست ببدل عن العين لأن ما هو شرطه وهو انعدام الملك في العين متعذر في المدبر فيجعل هذا خلفا عن النقصان الذي حل بيده ولكن هذا عند الضرورة ففي كل محل يمكن إيجاد الشرط فيه لا يتحقق الضرورة فيجعل بدلا عن العين وإذا تعذر إيجاد الشرط يجعل خلفا عن النقصان الذي حل بيده ونظيره فصلان

أحدهما ضمان العتق فإنه بمقابلة العين في كل محل يحتمل إيجاد شرطه وهو تمليك العين وفيما لا يحتمل إيجاد الشرط كالمدبر وأم الولد عندهم لا يجعل بدلا عن العين وكذلك ضمان الصلح فإنه إذا أخذ القيمة بالترضي كان المأخوذ بدلا عن العين في كل محل يحتمل تمليك العين وفي كل محل لا يحتمل تمليك العين بجعل المأخوذ بمقابلة الجناية التي حلت بيده فكذلك إذا أخذ القيمة بقضاء القاضي كذا في المبسوط

قوله فالطريق الأول أي جعل الضمان مقابلا بالعين واجب أي ثابت متقرر لا يجوز العدول عنه من غير ضرورة وهذا أي جعله مقابلا بقطع اليد جائز أي ممكن محتمل يجوز المصير إليه عند الضرورة كالمجاز مع الحقيقة لا يترك الحقيقة من غير ضرورة ويصار إلى المجاز عند الضرورة

قوله

وأما الزنا فلا يوجب حرمة المصاهرة أصلا وهذا يرد نقضا على ذلك الأصل أيضا بالطريق الذي مر ذكره فقال نحن لا نوجب حرمة المصاهرة بالزنا من حيث كونه زنا ولكنا جعلناه موجبا لهذه الحرمة من حيث إنه سبب للماء كالوطء الحلال والماء سبب لوجود الولد الذي هو المستحق للكرامات والحرمات

وبيانه أن أصل هذه الحرمة في الوطء الحلال ليس لعين الملك ولكن لمعنى البعضية وهو أن ماء الرجل يختلط بماء المرأة في الرحم ويصيران شيئا واحدا ويثبت له حكم الإنسان يعتق ويوصى له ويرث وبين الواطئ والماء بعضية وكذا بين الموطوءة وهذا الماء فيصير بعضها مختلطا ببعضه

(١/٤١٩)

فيثبت حكم البعضية التي بينها وبين أمهاتها وبناتها والبعضية التي بين الواطئ وآبائه وأبنائه لذلك الماء الذي هو بعضها وإذا ثبت للماء والماء بعضهما تعدت البعضية إليهما ثم لما صار هذا الماء إنسانا استحق سائر كرامات البشر ومن جملتها حرمة المحارم فيثبت الحرمة في حقه للبعضية أعني تحرم عليه أمهات الموطوءة وبناتها وأباء الواطئ وأبناؤه للبعضية الحقيقية التي بينه وبينهم ثم يتعدى منه هذه الحرمة إلى الطرفين لتعدي البعضية منه إليهما أي يتعدى حرمة آباء الواطئ وأبنائه من الولد إلى المرأة وحرمة أمهات الموطوءة وبناتها منه إلى الرجل لصيرورة كل واحد من الرجل والمرأة بعضا للآخر بواسطته لأن جزأه صار جزءا منها إذ الولد مضاف بكماله إليها وجزؤها صار جزءا منه لأنه مضاف إليه بتمامه أيضا فصار الولد على هذا التحقيق سببا لثبوت الحرمة بينهما بالبعضية التي تحدث بينهما بواسطته حكما

والدليل على صحة ما ذكرنا من المعنى تعليل عمر رضي اللّه عنه في عدم جواز بيع أمهات الأولاد به حيث قال كيف تبيعونهن وقد اختلطت لحومكم بلحومهن ودماؤكم بدمائهن ثم أقيم الوطء مقام الولد لأن الوقوف على حقيقة العلوق متعذر وهو سبب ظاهر مفض إليه فأقيم مقامه وجعل الولد كالحاصل تقديرا واعتبارا للاحتياط وكما أن الوطء الحلال مفض إليه فكذا الحرام مفض إليه من غير تفاوت بينهما في الإفضاء إليه فيجوز أن يقوم مقامه في إثبات الحرمة أيضا وكان ينبغي أن يثبت الحرمة بين الواطئ والموطوءة لما بينا أن كل واحد منهما صار بعضا للآخر والاستمتاع بالبعض حرام بقوله تعالى فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وبقوله عليه السلام ناكح اليد ملعون إلا أنا تركناه في حق الموطوءة ضرورة إقامة النسل كما سقطت حقيقة البعضية في حق آدم عليه السلام لهذا المعنى حتى حلت حواء لآدم عليه السلام وقد خلقت منه حقيقة وحرمت عليه بنته ثم هذه البعضية لا يختلف بالحل والحرمة فلا يختلف حكم الحرمة وإنما يختلف حكم هذه البعضية بالمحل فإن إلقاء البذر إنما يكون حرثا في المحل الذي خلق منبتا له وذلك النساء لا الرجال إلا أن إتيان دبر المرأة يوجب الحرمة عندنا لمعنى المساس عن شهوة وأنه سبب للوطء الذي هو حرث من النساء ولا يتصور من الرجل سببا لوطء هو حرث والبعضية في الحرث فما لم يتصل به لا يكون علة للحرمة كذا في الأسرار

فلهذا قلنا لا تثبت الحرمة باللواطة ولا بوطء الميتة ولا بوطء الصغيرة وتبين بما ذكرنا أن هذا الفعل من حيث إنه زنا موجب للحد لا يصلح سببا للكرامة

(١/٤٢٠)

كما قال ولكنه مع ذلك حرث للولد وهو مباح من هذا الوجه فيصلح أن يكون سببا للحرمة والكرامة باعتبار أنه حرث فيكون هذه الحرمة مضافة إلى ما هو مباح لا إلى ما هو محظور ألا ترى أن في جانبها الفعل زنا ترجم عليه وإذا حبلت به كان لذلك الولد من الحرمة ما لغيره من بني آدم ويكون نسبه ثابتا منها وتحرم هي عليه ويتوقف في رجم الأم إلى أن تلد وينقطع الرضاع وثبوت هذا كله بطريق الكرامة لأنه حرث لا لأنه زنا فكذلك ههنا وإنما لم يثبت النسب من جانبه لأن المقصود من الانتساب التشرف ولا يحصل ذلك بالنسبة إلى الزاني فإن قيل فعلى ما ذكرتم يكون الزنا محظورا من وجه مباحا من وجه وهذا قول باطل فإنه لو كان كذلك لما وجب به الحد كما في الجارية المشتركة قلنا هذا الفعل من حيث كونه زنا محظور من كل وجه لكن من حيث كونه سببا للبعضية ليس بمحظور ويجوز أن يثبت للفعل جهتان إحداهما مشروع والأخرى محظور كما مر فوجوب الحد من حيث كونه زنا ومن هذا الوجه هو محظور من كل وجه وثبوت وصف آخر لأصل الفعل لا يقدح في الفعل من حيث كونه زنا لأنه لا يوجب فيه ملكا ولا شبهة فلا يوقع خللا فيما هو سبب للحد فيجب الحد ويمكن أن يقال الشرع أعرض عن تلك الشبهة في باب الحد لتعذر الاحتراز عنها

وبعض أصحابنا قالوا الحرمة تثبت ههنا بطريق العقوبة كما يثبت حرمان الميراث في حق القاتل عقوبة والأصل فيه قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وعلى هذا الطريق يقولون المحرمية لا تثبت حتى لا تباح الخلوة والمسافرة ولكن هذا فاسد فإن التعليل لتعدية حكم النص لا لإثبات حكم آخر سوى المنصوص عليه فإن ابتداء الحكم لا يجوز إثباته بالتعليل والمنصوص حرمة ثابتة بطريق الكرامة فإنما يجوز التعليل لتعدية تلك الحرمة إلى الفروع لا لإثبات حرمة أخرى كذا في المبسوط قلت وإنما اختار بعض مشايخنا هذا الطريق لأن ثبوت هذه الحرمة لما كان بطريق الاحتياط في إثبات حرمة المناكحة والمسافرة والخلوة جميعا كما قالوا فيما إذا كان الرضاع ثابتا غير مشهور بين الناس لا تحل المناكحة ولا الخلوة والمسافرة أيضا للاحتياط والاحتراز عن التهمة ومذهبنا في هذه المسألة مذهب عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعمران بن الحصين ومسروق رضي اللّه عنهم وذكر الإمام البرغري في طريقته أن في المسألة إجماع الصحابة وكذا ذكر القاضي الإمام أبو زيد في الأسرار فقال ويدل لنا إجماع الصحابة أو ما يقرب منه ثم

(١/٤٢١)

بما ذكرنا خرج الجواب عن هذا الحديث الذي استدل به الشافعي رحمه اللّه فإنا لا نجعل الحرام محرما للحلال وإنما بنيت الحرمة باعتبار أن الفعل حرث للولد وحرمة هذا الفعل لكونه زنا مع أن هذا الحديث غير مجرى على ظاهره فإن كثيرا من الحرام يحرم الحلال كما إذا وقعت قطرة من خمر في ماء قليل وكالوطء بالشبهة ووطء الأمة المشتركة ووطء الأب جارية الابن فإن هذا كله حرام حرم الحلال لا لأنه حرام بل للمعنى الذي قلنا فكذلك ههنا كذا في المبسوط

قوله والولد هو الأصل في استحقاق الحرمات أي الحرمات الأربع التي ذكرناها

ولا عصيان بالنظر إلى حقوق اللّه تعالى ولا عدوان بالنظر إلى حقوق العباد أيضا في الولد لأنه مخلوق بخلق اللّه تعالى ولا عصيان ولا عدوان في صنعه ولهذا استحق هذا الولد جميع كرامات البشر التي استحقها المخلوق من ماء الرشدة كما ذكرنا ثم يتعدى أي الحرمات المذكورة منه أي الولد إلى أطرافه أي طرفيه وهما الأب والأم لا غير لأن حرمة أمهات الموطوءة وبناتها لا يتعدى منه إلا إلى الأب وكذلك حرمة آباء الواطئ وأبنائه لا يتعدى إلا إلى الأم ولا يستقيم تفسير الأطراف بالأبوين والأجداد والجدات كما هو مذكور في عامة الشروح فافهم ويتعدى أي سببية ثبوت هذه الحرمة والضمير المستكن راجع إلى المفهوم لا إلى المذكور ولا يجوز أن يكون راجعا إلى ما رجع إليه الضمير المستكن في يتعدى الأول لأن الحرمة لا يتعدى إلى الأسباب ولهذا أعيد لفظ يتعدى وإلا كان يكفيه أن يقول وإلى أسبابه إلى أسبابه أي أسباب الولد من النكاح والوطء والتقبيل والمس بشهوة عندنا خلافا للشافعي والنظر إلى الفرج خلافا له ولابن أبي ليلى وما يعمل لقيامه مقام غيره أي يعمل بطريق الخلافة والبداية

فإنما يعمل بعلة الأصل أي بالمعنى الذي يعمل به الأصل من غير نظر إلى أوصاف نفسه وصلاحيته للحكم بل ينظر في ذلك إلى صلاحية الأصل كالنوم والتقاء الختانين والسفر لما أقيمت مقام خروج النجاسة وخروج المني والمشقة عملت عملها من غير نظر إلى أوصاف أنفسها وصلاحيتها للحكم وكالتراب لما أقيم مقام الماء في إفادة التطهير نظر إلى صلاحية الماء للتطهير ولم يلتفت إلى وصف التراب الذي هو تلويث فكذلك ههنا أقيم الزنا مقام الولد بمعنى السببية فأخذ حكم الولد وأهدر وصف الزنا بالحرمة لأنه مع هذه الصفة سبب صالح للولد ولهذا أقيم مقامه والولد لا يوصف بالحرمة والقبح لما ذكرنا

(١/٤٢٢)

وما روي أنه عليه السلام قال ولد الزنا شر الثلاثة فذلك في مولود خاص لأنا نشاهد أن ولد الزنا قد يكون أصلح ومنفعته أعود إلى الناس من ولد الرشدة كذا في طريقة الصدر الحجاج قطب الدين السربلي لقيامه أي الزنا مقام ما لا يوصف وهو الولد بذلك أي بوصف الحرمة في إيجاب حرمة المصاهرة أي قيامه مقام الولد وإهدار وصف الحرمة في حق هذا الحكم خاصة لا في حق سقوط الحد واللّه أعلم

قوله

وأما سفر المعصية هذه المسألة رابعة المسائل الأربع التي ترد نقضا على الأصل المذكور فأجاب وقال إنه ليس بمنهي لمعنى في عينه بل هو منهي لمعنى في غيره مجاور له فلا يوجب ذلك صيرورته معصية لذاته وانتفاء مشروعيته كالوطء حالة الحيض والبيع وقت النداء والاصطياد بقوس الغير وهذا لأن خطاه إنما صارت سفرا بقصده مكانا بعيدا لا بقصده الإغارة والبغي والتمرد على المولى ألا ترى أنه لو قصد ذلك المكان بلا قصد الإغارة صار مسافرا ولو قصد الإغارة بدون أن يقصد مكانا بعيدا لم يصر مسافرا وإن طاف الدنيا وكذلك إذا تبدل قصده بقصد الحج خرج من أن يكون عاصيا ولم يتغير سفره وكذا العبد إذا لحقه إذن مولاه لم يتغير سفره وخرج من أن يكون عاصيا فتبين بهذا أن معنى المعصية مجاور لهذا السفر فصلح سببا للترخيص

قوله ولا يلزم على هذا أي على ما ذكرنا أن النهي المطلق عن الأفعال الشرعية يوجب قبحا في غير المنهي عنه حتى بقي مشروعا النهي عن الأفعال الحسية حيث يوجب قبحا في عينها حتى لا تبقى مشروعة أصلا لأن القول بكمال القبح الذي هو مقتضى النهي في الأفعال الحسية مع كمال المقصود وهو أن يكون الفعل متصور

(١/٤٢٣)

الوجود من العبد ليتحقق الابتلاء على ما قلنا أي قبل هذا أن الأفعال الحسية لا تنعدم بصفة القبح

قوله والنهي أي المنهي عنه في صفة القبح ينقسم انقسام الأمر أي المأمور به في صفة الحسن تحقيقا للمقابلة إذ النهي يقابل الأمر ما قبح لعينه وضعا وهو قسمان قسم لا يحتمل أن يسقط القبح عنه بحال كالكفر وهو على مقابلة الإيمان وقسم يحتمل ذلك كالكذب فإن قبحه يسقط في إصلاح ذات البين وفي الحرب وفي إرضاء المنكوحتين كما ورد به الأثر وهو في مقابلة الصلاة

وما قبح ملحقا بالقسم الأول مثل بيع الحر والمضامين والملاقيح ومثل الصلاة بغير طهارة فإن البيع في نفسه مما يتعلق به المصالح ولكن الشرع لما قصر محله على مال متقوم حال العقد والحر ليس بمال وكذا الماء قبل أن يخلق منه الحيوان ليس بمال صار بيعه عبثا لحلوله في غير محله نحو ضرب الميت وأكل ما لا يتغدى به وكذلك الشرع لما قصر أهلية العبد لأداء الصلاة على حال طهارته عن الحدث صار فعل صلواته مع الحدث عبثا لخروجه من غير أهله نحو كلام الطائر والمجنون فالتحقا بالقبيح وضعا بواسطة عدم الأهلية والمحلية شرعا كذا في التقويم وهذا في مقابلة الصوم والزكاة والحج وما قبح لمعنى في غيره مجاور يقبل الانفكاك مثل البيع وقت النداء والصلاة في أرض مغصوبة وهذا في مقابلة السعي والطهارة وما قبح لمعنى في غيره وهو ملحق به وصفا مثل البيع الفاسد وصوم يوم النحر وهذا في مقابلة الجهاد والصلاة على الميت واللّه أعلم

(١/٤٢٤)