باب الأمرذكر الشيخ رحمه اللّه في أول الباب لفظة ذلك وهو للإشارة إلى البعيد ولما طال الكلام وبعد ذكر الأصل ذكر لفظ هذا وهو للإشارة إلى القريب وكذا ذكر قبيل باب النهي وكان عكسه أولى إلا أنه ذكر في شرح التأويلات أن مما لا يحس بالبصر فالإشارة إليه بلفظ ذلك وهذا سواء لأنه من حيث لا يحس بالبصر أشبه المحسوس الغائب ومن حيث هو مدرك بالعقل أو بالسمع أشبه المحسوس الحاضر فصح فيه استعمال اللفظين وذلك كما يقال دخل الأمير البلدة فيقول السامع سمعت هذا أو سمعت ذلك كان صحيحا لأنه إشارة إلى الإخبار عن دخول الأمير وهو ما لا يحس بالبصر ولهذا قال مجاهد ومقاتل وابن جريج والكسائي والأخفش وأبو عبيدة أن معنى قوله تعالى ذلك الكتاب هذا الكتاب واعلم أن عبارات القوم اختلفت في تعريف الأمر الذي بمعنى القول ولهذا لم يذكر الشيخ تعريفه كما ذكر تعريف الأقسام المتقدمة فقيل هو القول المقتضي طاعة المأمور بإتيان المأمور به وفيه تعريف الأمر بالمأمور والمأمور به المتوقف معرفتهما على معرفة الأمر لاشتقاقهما منه وبالطاعة المتوقفة معرفتها على معرفة الأمر أيضا لأنها لا تعرف إلا بموافقة الأمر وعلى التقديرين يلزم الدور وقيل هو قول القائل لمن دونه افعل ونحوه وهو غير مطرد لصدقه على التهديد والتعجيز والإهانة ونحوها وقيل هو اللفظ الداعي إلى تحصيل الفعل بطريق العلو ويلزم على اطراده واطراد (١/١٥٤) الأول أيضا أن صيغة الأمر لو صدرت من الأعلى نحو الأدنى على سبيل التضرع والشفاعة لا تسمى أمرا وعلى انعكاسهما أنها لو صدرت من الأدنى نحو الأعلى بطريق الاستعلاء تسمى أمرا ولهذا ينسب قائلها إلى الحمق وسوء الأدب وقيل هو اللفظ الدال على طلب الفعل بطريق الاستعلاء واحترز بلفظ الاستعلاء عن الالتماس والدعاء وهذا أقرب إلى الصواب واختار بعض المتأخرين أن الأمر اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء فأراد بالاقتضاء ما يقوم بالنفس من الطلب لأن الأمر بالحقيقة هو ذلك الاقتضاء والصيغة سميت به مجازا وبقوله فعل غير كف احترز عن النهي وبقوله على جهة الاستعلاء عن الالتماس والدعاء كما ذكرنا وذكر في القواطع أن حقيقة الكلام معنى قائم في نفس المتكلم والأمر والنهي كلام فيكون قوله افعل ولا تفعل عبارة عن الأمر والنهي ولا يكون حقيقة الأمر والنهي ولكن لا يعرفه الفقهاء وإنما يعرفون قوله افعل حقيقة في الأمر وقوله لا تفعل حقيقة في النهي قوله فإن المراد الفاء في فإن إشارة إلى تعليل كون الأمر من هذا الأصل وهو الخاص المراد بالأمر أي الوجوب لأن عندنا وعند هؤلاء المخالفين لا موجب له إلا الوجوب يختص بصيغة لازمة أي لازمة مختصة بذلك المراد فإن اللازم قد يكون خاصا وقد يكون عاما والمراد هو الخاص هنا لما سنشير إليه ثم اللفظ قد يكون مختصا بالمعنى ولا يكون المعنى مختصا به كالألفاظ المترادفة وقد يكون على العكس كبعض الألفاظ المشتركة وقد يكون الاختصاص من الجانبين كما في الألفاظ المتباينة فالشيخ بالتعرض للجانبين أشار إلى أنه من القسم الأخير والغرض من تعرض جانب اللفظ وهو قوله بصيغة لازمة هو إثبات كونه من هذا الأصل لأنه في بيان خصوص اللفظ ولا يلزم من خصوص المعنى خصوص اللفظ فلا بد من ذكره ليستقيم التعليل ومن التعرض لجانب المعنى وهو قوله المراد بالأمر يختص هو الإشارة إلى أن الخلاف الذي يذكر بعد في خصوص المعنى لا في خصوص اللفظ فإنهم لم يخالفونا في أن صيغة افعل خاصة في الوجوب ولكنهم قالوا إنه يستفاد من غير الصيغة أيضا كما يستفاد منها ولهذا قدم ذكره لأنه هو المقصود الكلي من هذا الباب لا بيان كونه من الخاص وهذا هو الغرض من العدول عن لفظة المخصوصة إلى لفظة اللازمة أيضا لأن الصيغة لما كانت لازمة له لا يوجد بدونها فكانت هذه اللفظة أدل على المقصود ويحتمل أن الشيخ جعل الأمر من الخاص باعتبار اختصاص المعنى بالصيغة من غير نظر إلى جانب اختصاص اللفظ بالمعنى وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ فعلى هذا كان ذكر اللازمة في قوله يختص (١/١٥٥) بصيغة لازمة تأكيدا إذ اللزوم يستفاد من الاختصاص بالصيغة أما ذكرها في قوله ليس للمراد بالأمر صيغة لازمة فلازم إذ لو لم يذكر اللازمة ههنا لم يفهم نفي اختصاص الوجوب بالصيغة من هذا الكلام وهو المقصود منه فيختل الكلام واعلم أن المخالفين وافقونا على أن الأمر اسم لما هو موجب وأن الإيجاب لا يستفاد إلا بالأمر فصارا متلازمين وأن الصيغة المخصوصة تسمى أمرا حقيقة فيحصل بها الإيجاب ولكن الاختلاف في أن الفعل هل يسمى أمرا حقيقة حتى يحصل به الإيجاب فعندنا لا يسمى أمرا على الحقيقة فلا يستفاد منه الإيجاب وعندهم يسمى أمرا بطريق الحقيقة فيفيد الإيجاب فهذا معنى قول الشيخ وحاصل ذلك أي حاصل هذا الاختلاف أن أفعال النبي عليه السلام عندهم أي عند ذلك البعض الذي دل عليه قوله من الناس موجبة كالأمر أي كالأمر المتفق عليه وهو صيغة افعل وصورة المسألة أنه إذا نقل إلينا فعل من أفعاله عليه السلام التي ليست بسهو مثل الزلات ولا طبع مثل الأكل والشرب ولا هي من خصائصه مثل وجوب الضحى والسواك والتهجد والزيادة على الأربع ولا ببيان لمجمل مثل قطعه يد السارق من الكوع فإنه بيان لقوله تعالى فاقطعوا أيديهما وتيممه إلى المرفقين فإنه بيان لقوله جل ذكره فامسحوا بوجوهكم وأيديكم هل يسعنا أن نقول فيه أمر النبي عليه السلام بكذا وهل يجب علينا اتباعه في ذلك أم لا فعند مالك في إحدى الروايتين عنه وأبي العباس بن شريح وأبي سعيد الإصطخري وأبي علي بن أبي هريرة وأبي علي بن خيران من أصحاب الشافعي يصح إطلاق الأمر عليه بطريق الحقيقة ويجب علينا الاتباع فيه وعند عامة العلماء لا يصح إطلاقه عليه بطريق الحقيقة ولا يجب الاتباع وأما إذا كان بيانا لمجمل فيجب الاتباع بالإجماع ولا يجب في الأقسام الأخر بالإجماع ثم اختلفوا فقال بعضهم لفظ الأمر مشترك بين الصيغة المخصوصة والفعل (١/١٥٦) بالاشتراك اللفظي كاشتراك لفظ العين بين مسمياته وقال بعضهم هو مشترك بالاشتراك المعنوي كاشتراك الحيوان بين الإنسان والفرس والحاصل أن الإيجاب مع حقيقة الأمر متلازمان يثبت كل واحد بثبوت الآخر وينتفي بانتفائه فيلزم من انحصار الإيجاب على الصيغة انتفاء الاشتراك في لفظ الأمر ومن ثبوته بغير الصيغة ثبوت الاشتراك فلهذا يتعرض في الدلائل تارة لنفي الاشتراك وإثباته وتارة لنفي الوجوب عن غير الصيغة وإثباته فافهم واحتج من قال بالاشتراك اللفظي بالكتاب وهو قوله تعالى وما أمر فرعون برشيد أي فعله وطريقته لأنه وصفه بالرشد والفعل إنما يوصف به لا القول وقوله عز ذكره وأمرهم شورى بينهم أي فعلهم وقوله جل ثناؤه تنازعتم في الأمر أي فيما تقدمون عليه من الفعل وقوله عز اسمه إخبارا أتعجبين من أمر اللّه أي صنعه فأطلق لفظ الأمر في هذه الآيات على الفعل والأصل في الإطلاق الحقيقة فهذا هو المشهور من وجه التمسك في هذا المقام وما ذكر الشيخ راجع إليه أيضا وقوله ولو لم يكن الأمر أي معنى الأمر وهو الطلب أو الإيجاب مستفادا بالفعل أي حاصلا به ومفهوما منه لما سمي الفعل بالأمر أي لما أطلق عليه لفظ الأمر لأنه يصير إذ ذاك لغوا من الكلام وإذا ثبت أن معنى الأمر مستفاد منه ولا يجوز أن يكون ذلك بطريق المجاز لأنه لا اتصال بينهما صورة بلا شبهة ولا معنى لأن معنى الأمر الطلب ومعنى الفعل تحقيق الشيء ولا اتصال بينهما بوجه ثبت أنه بطريق الحقيقة وإذا ثبت كونه حقيقة في الفعل ثبت كون الفعل موجبا لأنه من لوازم حقيقة الأمر ولئن سلمنا جواز الإطلاق بطريق المجاز فالحمل على الحقيقة أولى لأنها هي الأصل وبالسنة وهي ما روي أنه عليه السلام شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاها مرتبة وقال صلوا كما رأيتموني أصلي وما روي أنه عليه السلام قال في حجة الوداع خذوا عني مناسككم فإني امرؤ مقبوض فجعل المتابعة لازمة فثبت بالتنصيص أن فعله موجب وإن لم يكن موجبا لذاته كما ثبت بالتنصيص وهو قوله تعالى أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول إن قوله موجب وإن لم يصلح أن (١/١٥٧) يكون موجبا لذاته لأنه بشر مثلنا وبأن اختلاف الجمع في لفظ واحد باعتبار معنيين مختلفين يدل على أنه حقيقة في كل واحد منهما فإن العود بمعنى الخشب يجمع على عيدان وبمعنى اللّهو على أعواد وقد يجمع الأمر بمعنى الفعل على أمور وبمعنى القول على أوامر فيكون الأمر حقيقة فيهما واحتج من قال بالاشتراك المعنوي بأن القول المخصوص والفعل مشتركان في عام كالشيئية والشأن فيجب جعل اللفظ المطلق عليهما وهو الأمر للمشترك بينهما دفعا للاشتراك اللفظي والمجاز لأن كل واحد منهما خلاف الأصل واحتج الجمهور في نفي الاشتراك اللفظي بأن الأمر لو كان مشتركا بين القول المخصوص والفعل لما سبق أحدهما إلى الفهم دون الآخر لأن تناول المشترك للمعاني على السواء والأمر بخلافه وبأنه حقيقة في القول المخصوص فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك وفي نفي الاشتراك المعنوي بأنه لو كان مشتركا بالاشتراك المعنوي لما فهم منه أحدهما عينا عند الإطلاق لأن مسماه حينئذ أعم من كل واحد منهما ولا دلالة للأعم على الأخص كما لا دلالة للحيوان على الإنسان هذا هو المشهور المذكور في عامة الكتب وهو تعرض لنفي الاشتراك عن الأمر وانتفاء الإيجاب عن الفعل من لوازمه ولكن الشيخ رحمه اللّه تعرض فيما ذكر من الدليل لنفي الإيجاب من غير الصيغة على عكس ما ذكروا ليطابق ما ذكره في أول الباب فقال واحتج أصحابنا بأن العبارات إنما وضعت دلالات على المعاني المقصودة فكأنه أراد بذكر كلمة إنما حصر الدلالة على العبارات وإن كان لا ينقاد له اللفظ وأراد بالمعاني مدلولات الألفاظ يعني الموضوع للدلالة على المعاني التي قصد المتكلم إلقاءها إلى السامع وأراد أن يبينها له هي العبارات لا غير ولا يجوز قصور العبارات عن المعاني أي ولا يجوز عقلا أن يوجد معنى بلا لفظ فيحتاج في الدلالة عليه إلى شيء آخر لأن المهملات أكثر من المستعملات وكذا في المترادفات كثرة فأما وقوع المشترك في اللغة فليس من قبيل قصور العبارة ألا يرى أن لكل معنى من المشترك اسما على حدة إذا ضم إلى المشترك صارا مترادفين وكأنه جواب سؤال وهو أن يقال قد سلمنا أن العبارات هي الموضوعة للدلالة على المعاني إلا أن العبارات قاصرة عنها لأنها متناهية لتركبها من حروف متناهيات والمعاني غير متناهية فلا بد من أن يكون غير العبارة دالا عليها أيضا ضرورة فقال ليس كذلك لأنا نجد المهملات أكثر من (١/١٥٨) المستعملات ولا نجد معنى لا يمكن التعبير عنه بلفظ عند الحاجة إليه ولا نسلم أن المعاني التي تعقلها الذهن واحتيج إلى التعبير عنها غير متناهية لاستحالة تعقل الذهن ما لا يتناهى وإليه أشار بقوله المعاني المقصودة وإذا ثبت أن الوضع للدلالة على المعاني المقصودة محصور على العبارات وأنها لا تقصر عن المعاني لا يكون للفعل دلالة على معنى الأمر ولا يستفاد ذلك منه أصلا لأنه لو استفيد منه لم يبق الحصر في العبارات وقد تم الاستدلال ولكن الشيخ أدرج دليلا آخر للتوضيح فقال وقد وجدنا كل مقاصد الفعل مثل الماضي والحال والاستقبال مختصة بعبارات وضعت لها مثل ضرب ويضرب وسيضرب قالوا وهذا على مذهب الفقهاء فإن عندهم صيغة المضارع للحال وإذا انضم إليه سوف أو السين صارت للاستقبال وقد تعرف ذلك في شرح الجامع الصغير للمصنف ولكن لا حاجة إلى هذا التأويل ههنا لأنه في بيان خصوص المعنى لا في بيان خصوص اللفظ وإنما يحتاج إليه في خصوص اللفظ وهو أن يقال ضرب مختص بالماضي ويضرب بالحال وسيضرب بالاستقبال وأراد بقوله مختصة بعبارات أن معنى الماضي مختص بالصيغة الموضوعة له وكذا معنى الحال والاستقبال نفيا للترادف الذي هو خلاف الأصل فوجب أن يكون معنى الأمر وهو الطلب أو الإيجاب مختصا بالعبارة الموضوعة له كذلك لأنه من أعظم المقاصد إذ الثواب والعقاب مبنيان عليه وثبوت أكثر الأحكام به فهو بالاختصاص بالصيغة أولى ألا ترى أنه لو لم يختص بالصيغ وثبت بالفعل كما يثبت بالصيغة لزم منه الاشتراك في لفظ الأمر وهو خلاف الأصل وإذا ثبت اختصاصه بالصيغة لم يثبت بالفعل ويحتمل أن يكون كلمة إنما للتأكيد لا للحصر ولهذا لم يذكر في بعض النسخ ويكون الكل دليلا واحدا وتقريره أن العبارات وضعت دلالات على المعاني المقصودة والعبارة غير قاصرة عنها لما بينا أن المهملات أكثر من المستعملات فيكون للمعنى المثبت بالأمر صيغة موضوعة لا محالة لأنه معنى مقصود بل هو أعظم المقاصد وإذا كان له صيغة موضوعة كان هو مختصا بها لأنا وجدنا كل مقاصد الفعل مختصة بالعبارات الموضوعة لها فوجب أن يكون معنى الأمر مختصا بالعبارة الموضوعة له لأنه أعظم المقاصد وإذا صار مختصا بها لا يثبت بالفعل (١/١٥٩) قوله وإذا ثبت أصل الموضوع كان حقيقة يعني وإذا ثبت أن لهذا المعنى عبارة موضوعة في أصل اللغة وهي صيغة افعل مثلا كانت حقيقة في هذا المعنى لا محالة فتكون لازمة له والضمير في كان ويكون عائد إلى أصل الموضوع وإنما قال لازمة دون لازما لأن الأصل الموضوع هو الصيغة المخصوصة فأنث على تأويل الصيغة وإذا كانت الصيغة التي هي أصل الموضوع لازمة لهذا المعنى لا يوجد بدونها فيمتنع ثبوته بالفعل ضرورة قوله إلا بدليل أي لزوم الصيغة المخصوصة لهذا المعنى ثابت نظرا إلى أصل الوضع إلا أن يقوم دليل أنه قد يستفاد بغير الصيغة كما يستفاد بها فحينئذ ينتفي اللزوم ويثبت بدون الصيغة على خلاف الأصل ثم تعرض الشيخ لنفي الاشتراك عن لفظ الأمر المستلزم لنفي الإيجاب عن الفعل بطريق التوضيح فقال ألا ترى إلى آخره وهو ظاهر قال المصنف في شرح التقويم الفعل لا يصلح أن يكون موجبا لأن الأمر لطلب الوجود من الغير والفعل تحقيق الوجود وليس فيه دليل طلب الوجود فلا يكون سببا لطلب الوجود وإن دام على ذلك لأن ما لا يدل على طلب الوجود أصلا لا يدل عليه وإن كثر إلا أنه يدل على كونه مرضيا محمودا عنده قوله وقد قال النبي عليه السلام هذه معارضة لما تمسكوا به من السنة وهي ما روي عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال خلع النبي صلى اللّه عليه وسلم نعليه وهو يصلي فخلع من خلفه فقال ما حملكم على خلع نعالكم فقالوا رأيناك خلعت فخلعنا قال إن جبريل أخبرني أن في أحديهما قذرا فخلعتهما لذلك فلا تخلعوا نعالكم كذا في شرح الآثار وفي رواية أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه بينما رسول اللّه رضي اللّه عنه يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم فلما قضى صلاته قال ما حملكم على إلقائكم نعالكم قالوا رأيناك ألقيت نعليك فقال إن جبريل (١/١٦٠) عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا فليمسحه وليصل فيهما كذا في المصابيح وما روي أنه عليه السلام واصل فواصل أصحابه فأنكر عليهم ونهاهم عن ذلك وقال وأيكم مثلي يطعمني ربي ويسقيني ففي إنكار النبي عليه السلام عليهم دليل واضح على أن فعله ليس بموجب إذ لو كان موجبا كالأمر لم يكن لإنكاره معنى كما لو كان أمرهم بذلك وامتثلوا به قال الغزالي رحمه اللّه إنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله فكيف صار اتباعهم للبعض دليلا ولم يصر مخالفتهم في البعض دليلا وقوله عليه السلام يطعمني ربي ويسقيني يجوز أن يكون ذلك حقيقة الطعام والشراب كما ثبت ذلك لمن دونه من الأولياء بطريق الكرامة ويجوز أن يكون ذلك كناية عما تتقوى به الروح من القربة والمشاهدة والأنس بذكره وطاعته وغير ذلك قال بعضهم وذكرك للمشتاق خير شراب وكل شراب دونه كسراب قوله ولا ننكر تسميته مجازا جواب عن تمسكهم بقوله تعالى وما أمر فرعون برشيد فقال إنا لا ننكر تسمية الفعل بالأمر مجازا لأن الفعل يجب بالأمر فيجوز أن يسمى بالأمر إطلاقا لاسم السبب على المسبب وفي الإقليد شبه الداعي الذي يدعو إلى الفعل من يتولاه بأمره به فقبل له أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه قيل مأمور به كما قيل شأن وهو مصدر شأنت أي قصدت سمي به المشئون أي المطلوب وإليه أشار شمس الأئمة أيضا على أنه قد قيل إن المراد من الأمر في الآية المذكورة القول بدليل قوله فاتبعوا أمر فرعون أي أطاعوه فيما أمرهم والرشد الصواب وقد يوصف القول به وفي المطلع فاتبعوا أمر فرعون هو ما أمرهم به من عبادته واتخاذه إلها وما أمر فرعون برشيد أي بذي رشد بل هو غي وضلال وقيل بمرشد قوله والنبي عليه السلام دعا إلى الموافقة بلفظ الأمر جواب عن تمسكهم بقوله (١/١٦١) عليه السلام صلوا أي المتابعة إنما وجبت بقوله صلوا لا بالفعل ولو كان الفعل موجبا بنفسه لما احتيج إلى قوله صلوا بعد قوله تعالى أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول كما لا يحتاج قوله افعلوا كذا إلى شيء آخر يوجب الامتثال به قال الغزالي في جوابه وجواب أمثاله أن قوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي و خذوا عني مناسككم و هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي بيان من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن شرعه وشرعهم فيه سواء ففهموا وجوب الاتباع بذلك لا بمجرد حكاية الفعل وأما قولهم اختلاف الجمع يدل على اختلاف المسمى فلا تمسك لهم فيه لأن الأمور جمع الأمر بمعنى الشأن والصفة لا بمعنى الفعل والأعواد والعيدان كلاهما جمع عود مطلقا كذا في الصحاح وأما الأوامر فقد ذكر في المعتمد أنها جمع آمرة لا جمع أمر وهو حق لأن فواعل في الثلاثي جمع فاعل اسما ككواهل أو فاعلة اسما وصفة ككواثب وضوارب فأما فعل فلم يجمع على فواعل ألبتة لكنه قيل أوامر جمع آمرة مجازا كأن صيغة افعل جعلت آمرة وجمعت على أوامر كما جمع نهي على نواهي بهذا التأويل ولهذا يقال ما له ناهية أي نهي وأما قولهم هو متواطئ أي مشترك معنوي ففاسد أيضا لأن ذلك يؤدي إلى رفع المجاز والاشتراك أصلا لأن الاشتراك في أمر عام قد يوجد بين كل مشتركين وكل مجاز وحقيقة وقولهم المجاز والاشتراك خلاف الأصل قلنا كل ما هو خلاف الأصل يصير موافقا له إذا دل عليه الدليل وقد قام الدليل على المجاز ههنا كما ذكرنا واللّه أعلم قوله ومن ذلك أي ومن الخاص (١/١٦٢) باب موجب الأمرأي حكم الأمر الباب المتقدم في بيان لزوم الصيغة للمراد بالأمر بحيث لا يوجد ذلك المراد بدونها وبيان اختصاص ذلك المعنى بالصيغة ولكن ليس فيه بيان ذلك المراد صريحا وهذا الباب في بيان المراد أنه متعدد أم واحد متعين أو مبهم قوله وإذا ثبت خصوص الصيغة أي لزومها للمعنى واختصاصها به ثبت خصوص المراد أي انفراد المعنى وتعينه في أصل الوضع لأنه لو لم يكن معناه منفردا أو متعينا مع أن الصيغة المخصوصة لازمة له يلزم الاشتراك أو الإجمال في الصيغة وكلاهما خلاف الأصل وهذا لأن الغرض من وضع الألفاظ الإفهام للسامع والاشتراك والإجمال يخلان به إلا أن الاشتراك والإجمال وقعا لعوارض قد ذكرنا وسنذكرها أيضا إن شاء اللّه تعالى فإن قيل إنه في بيان خصوص اللفظ ولهذا قال الخاص لفظ وضع لكذا وما ذكر في هذا الباب من أقسام خصوص المعنى فكيف يستقيم أن يجعل من أقسام الخاص اللفظي قلنا لا يتم خصوص اللفظ إلا ببيان خصوص المعنى أعني تفرده لأنه قال في تحديد الخاص لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد فلا بد من التعرض لجانب خصوص المعنى ليتم خصوص اللفظ فلهذا جعله من أقسام الخاص واعلم أن صيغة الأمر استعملت لوجوه والمشهور منها ثمانية عشر وجها للوجوب كقوله تعالى أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وللندب كقوله تعالى فكاتبوهم وللإرشاد إلى الأوثق كقوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم والفرق بين الإرشاد والندب أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد للتنبيه على مصلحة الدنيا ولا ينقص ثواب بترك الإشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله وللإباحة كقوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم وللإكرام كقوله (١/١٦٣) تعالى ادخلوها بسلام آمنين وللامتنان كقوله تعالى كلوا مما رزقكم اللّه وللإهانة كقوله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم وللتسوية كقوله تعالى اصبروا أو لا تصبروا وللتعجب كقوله تعالى أسمع بهم وأبصر أي ما أسمعهم وما أبصرهم وللتكوين وكمال القدرة كقوله تعالى كن فيكون وللاحتقار كقوله تعالى ألقوا ما أنتم ملقون وللإخبار كقوله تعالى فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا وللتهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم و استفزز من استطعت ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى قل تمتعوا وإن كان قد جعلوه قسما آخر وللتعجيز كقوله تعالى فأتوا بسورة من مثله وللتسخير كقوله تعالى كونوا قردة خاسئين وللتمني كقول الشاعر ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي وللتأديب كقوله عليه السلام لابن عباس رضي اللّه عنهما كل مما يليك وهو قريب من الندب إذ الأدب مندوب إليه وللدعاء كقولك اللّهم اغفر لي إذا عرفت هذا فنقول اتفقوا على أن صيغة افعل ليست حقيقة في جميع هذه الوجوه لأن معنى التسخير والتعجيز والتسوية مثلا غير مستفاد من مجرد الصيغة بل إنما يفهم ذلك من القرائن إنما الذي وقع الخلاف فيه أمور أربعة الوجوب والندب والإباحة والتهديد فقال بعض الواقفية الأمر مشترك بين هذه الوجوه الأربعة بالاشتراك اللفظي كلفظ العين ونقل ذلك عن الأشعري في بعض الروايات وابن شريح من أصحاب الشافعي وبعض الشيعة وإلى هذا القول أشار الشيخ حيث جعل التوبيخ من مواجبه وقيل هو مشترك بين الوجوب والندب والإباحة بالاشتراك اللفظي وقيل بالمعنوي وهو أن يكون حقيقة في الإذن الشامل للثلاثة وهو مذهب المرتضى من الشيعة فعلى هذين القولين (١/١٦٤) يكون في التهديد مجازا وقيل هو مشترك في الإيجاب والندب لفظا وهو منقول عن الشافعي وقيل معنى بأن يجعل حقيقة في معنى الطلب الشامل لهما وهو ترجيح الفعل على الترك وقال أبو الحسن الأشعري في رواية والقاضي الباقلاني والغزالي ومن تبعهم لا يدرى أنه حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معا بالاشتراك فعلى قول هؤلاء جميعا لا حكم له أصلا بدون القرينة إلا التوقف مع اعتقاد أن ما أراد اللّه تعالى منه حق لأنه محتمل لازدحام المعاني فيه وحكم المجمل التوقف لا أن التوقف عند البعض في نفس الموجب وعند البعض في تعيينه وقال مشايخ سمرقند رئيسهم الشيخ أبو منصور رحمهم اللّه إن حكمه الوجوب عملا لا اعتقادا وهو أن لا يعتقد فيه بندب ولا إيجاب بطريق التعيين بل يعتقد على الإبهام أن ما أراد اللّه تعالى منه من الإيجاب والندب فهو حق ولكن يؤتى بالفعل لا محالة حتى إنه إذا أريد به الإيجاب يحصل الخروج عن العهدة وإن أريد به الندب يحصل الثواب فهذا بيان أقوال الواقفية فأما عامة العلماء من الفقهاء والمتكلمين فقالوا إنه حقيقة في واحد من هذه المعاني عينا من غير اشتراك ولا إجمال إلا أنهم اختلفوا في تعيينه فذهب الجمهور من الفقهاء وجماعة من المعتزلة كأبي الحسين البصري والجبائي في أحد قوليه إلى أنه حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه وذهب جماعة من الفقهاء والشافعي في أحد قوليه وعامة المعتزلة إلى أنه حقيقة في الندب مجاز فيما سواه وذهب طائفة إلى أنه حقيقة في الإباحة ونقل ذلك عن بعض أصحاب مالك رحمه اللّه قوله واحتجوا أي الطائفة الأولى من الواقفية بأن صيغة الأمر استعملت في معان مختلفة وهي ما ذكر في الكتاب من غير أن يثبت ترجيح أحدها على الباقي والأصل في الاستعمال الحقيقة فيثبت الاشتراك الذي هو من أقسام الإجمال عندهم فلا يجب العمل به إلا بدليل زائد يرجح أحد المعاني على سائرها لاستحالة ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح والتقريع التعجيز والإفحام والتوبيخ التهديد والفرق بينهما أن في التقريع لا يكون المأمور قادرا على إتيان المأمور به ولهذا يلحق به افعل كذا إن استطعت كقوله تعالى فأتوا بسورة من مثله فأت بها من المغرب والمراد منه النفي أي الإتيان بالسورة أو الشمس من المغرب ليس بموجود ومقدور أصلا وفي التوبيخ يكون المأمور قادرا على إتيان المأمور به كقوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر اعملوا ما شئتم فإن المأمور قادر على الكفر والإيمان جميعا إلا أن المأمور به في التوبيخ ليس بمطلوب بل المراد النهي منه أي لا تفعل هذا فإنك إن فعلته ستلحق بك عقوبته ولهذا يلحق به افعل (١/١٦٥) فإنك تستحق به العقاب ثم قوله تعالى واستفزز أي استخف واستزل وهيج من استطعت منهم على المعاصي بوسوستك ودعائك إلى الشر من قبيل التهديد لا من قبيل التقريع الذي ذكره الشيخ كذا في الكشاف والمطلع وعين المعاني وعامة التفاسير والتقويم وأصول شمس الأئمة وأصول أبي اليسر وغيرها ألا ترى أن اللعين قادر على الوسوسة والدعاء إلى الشر وإن لم يكن قادرا على الإضلال والإغواء فأنى يكون هذا من باب التقريع ولا حاجة إلى ذكر التقريع ههنا وإن ذكر في بعض الكتب لأنه في بيان المعاني الأصلية ليثبت الاشتراك على زعم الخصم وهذا من المعاني المجازية بالاتفاق فلا حاجة إلى ذكره وما ذكرنا هو المتمسك للباقين من القائلين بالاشتراك اللفظي إلا أنهم قالوا حمله على الإباحة أو التهديد الذي هو المنع بعيد لأنا ندرك التفرقة في اللغات كلها بين قوله افعل وقوله لا تفعل وبين قوله إن شئت فافعل وإن شئت لا تفعل حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها وقدرنا هذه الصيغة منقولة عن غائب لا في فعل معين من قيام أو قعود أو صلاة أو صيام حتى يتوهم فيه قرينة دالة بل في الفعل مطلقا سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ وعلمنا قطعا أنها ليست بألفاظ مترادفة على معنى واحد كما أنا ندرك التفرقة بين قولهم قام زيد ويقوم زيد في أن الأول للماضي والثاني للمستقبل وإن كان قد يعبر بالماضي عن المستقبل وبالعكس لقرائن تدل وكما ميزوا الماضي عن المستقبل ميزوا الأمر عن النهي وقالوا الأمر قوله افعل والنهي لا تفعل وإنهما لا ينبئان عن معنى قوله إن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل وهذا أمر نعلمه بالضرورة من اللغات فعلم بما ذكرنا أن قوله افعل يدل على ترجيح جانب الفعل على جانب الترك والتهديد الذي هو المنع خلافه وكذا قوله أبحت لك إن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل يرفع الترجيح فبقي الاشتراك بين الندب والوجوب ومن قال إنه مشترك بالاشتراك المعنوي قال جعله حقيقة في الإذن المشترك بين الثلاثة أو الطلب المشترك بين الوجوب والندب أولى دفعا للاشتراك والمجاز ثم الواقفية إنما قالوا بوجوب الصلاة بقوله تعالى أقيموا الصلاة بقرينة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وبما ورد من التهديدات في ترك الصلاة وما ورد من تكليف الصلاة في حال شدة الخوف والمرض إلى غير ذلك وأما في الزكاة فقد اقترن بقوله وآتوا الزكاة قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة (١/١٦٦) الآية وأما في الصوم فبقوله كتب عليكم الصيام وقوله عز اسمه فعدة من أيام أخر وإيجاب تداركه على الحائض وكذلك الزنا والقتل وغيرهما من المحرمات وردت فيها تهديدات ودلالات تواردت على طول مدة النبوة لا تحصى قوله ولعامة العلماء أي الذين قالوا بأن للأمر موجبا متعينا أن صيغة الأمر لفظ خاص من تصاريف الفعل والأولى أن يقال صيغة الأمر أحد تصاريف الفعل كما قال شمس الأئمة لأن النزاع وقع في خصوصه فلا يستقيم أن يجعل مقدمة الدليل وكما أن العبارات لا تقصر عن المعاني حتى كانت كافية في الدلالة على المعاني ولم يحتج إلى شيء آخر على ما بيناه في الباب المتقدم فكذلك العبارات مختصة بالمعاني أي كل عبارة مختصة بمعنى في أصل الوضع والمراد بالمراد الجنس ولا يثبت الاشتراك أي في العبارة إلا بعارض لما مر أن الغرض من وضع الكلام إفهام المراد للسامع والاشتراك يخل به فلم يكن أصلا ولكنه قد يقع بعارض وهو تعدد الوضع مع غفلة الواضع إن كانت اللغات اصطلاحية وذلك بأن كان الواضع نسي وضعه الأول وقد اشتهر ذلك إن كان الواضع متعددا وقد غفل كل واحد عن وضع صاحبه واشتهر الوضعان بين الأقوام أو الابتلاء إن كانت توقيفية وقد مر بيانه فكذلك صيغة الأمر لا بد أن تكون مختصة بمعنى خاص في أصل الوضع واللام في المعنى إشارة إلى اختصاص الصيغة بالمعنى ثم الاشتراك يثبت بضرب من الدليل المغير كسائر ألفاظ الخصوص السائر بمعنى الجميع يقال سائر الناس أي جميعهم كذا في الصحاح أو بمعنى الباقي كما هو أصله فقد ذكر في الفائق أنه اسم فاعل من سأر إذا بقي ومنه السؤر وهذا مما يغلط فيه الخاصة فيضعه موضع الجميع والمصدر بمعنى الفاعل والتشبيه متعلق بقوله لمعنى خاص أي صيغة الأمر لمعنى خاص ولا يثبت الاشتراك والتغير فيها عن الوضع الأصلي إلا بعارض كجميع الألفاظ الخاصة أو باقيها فإنها لمعان خاصة ولا يثبت الاشتراك والتغير فيها (١/١٦٧) إلا بدليل مغير كما قلنا ويجوز أن يكون معناه كسائر الألفاظ التي يحصل بها الخصوص في العام فيكون إضافة الألفاظ إلى الخصوص إضافة السبب إلى المسبب كقولك وقت الظهر والتشبيه متعلقا بقوله بضرب من الدليل المغير وإلى هذا الوجه أشار شمس الأئمة فقال فلا بد من أن يكون صيغة الأمر لمعنى خاص في أصل الوضع ولا يثبت الاشتراك فيه إلا بعارض مغير بمنزلة دليل الخصوص في العام ويجوز أنه لم يرد بالاشتراك الاشتراك الحقيقي المصطلح وإنما أراد به الاشتراك الصوري الذي يحدث للألفاظ بسبب الاستعارة بين المعنى الحقيقي والمجازي فإن لفظ الأسد باعتبار ظاهر الاستعمال مشترك بين الحيوان المخصوص وبين الشجاع وهذا الاشتراك لا يمنع خصوص اللفظ وإنما يثبت بعدما ثبت خصوص اللفظ في معناه الموضوع له بدليل يقترن باللفظ أنه غير عن موضوعه الأصلي وأريد به هذا المعنى الآخر ولهذا لا يخل هذا الاشتراك بالفهم لأن قيام الدليل الذي يسمونه قرينة لازم له فيدل على المراد لا محالة بخلاف الاشتراك الحقيقي فإنه لا يثبت معه الخصوص ويثبت بالاستعمال الخالي عن القرينة ولهذا يخل بالفهم ألا ترى أنك إذا قلت رأيت أسدا يفهم منه الهيكل المخصوص لا غير وإذا قلت رأيت أسدا يرمي يفهم منه الإنسان الشجاع لا غير فأما إذا قلت رأيت عينا فلا يفهم منه شيء معين ثم الخصوم لما استدلوا باستعمال الأمر في المعاني المختلفة أنه مشترك حقيقي نظرا إلى أن الأصل في الاستعمال الحقيقة واستدل الشيخ على أنه خاص بأن الأصل في الكلام الخصوص دون الاشتراك أجاب عما تمسكوا به فقال بعدما ثبت خصوص الصيغة بما ذكرنا من الدليل وإليه أشار بقوله ثم قد يثبت الاشتراك الصوري أي المجاز بالدليل المغير وهو القرينة كسائر الألفاظ الخاصة تصرف إلى المجاز بالقرائن المنضمة إليها فيثبت بالاستعمال الذي تمسكتم به بعدما ثبت الخصوص هذا النوع من الاشتراك لا الاشتراك الحقيقي لأنه لا يجتمع مع الخصوص والحاصل أن الاستعمال يدل على الاشتراك وعلى المجاز فحمله على المجاز أولى لأنه لا يخل بالفهم قوله وأما الذين قالوا بالإباحة قالوا الفاء في جواب إما لازم لكن المشايخ قد يتركونها كثيرا لأن نظرهم كان إلى المعنى لا إلى اللفظ كذا كان يقول شيخنا العلامة (١/١٦٨) مولانا حافظ الملة والدين نور اللّه مضجعه قالوا إن ما ثبت كونه أمرا أي الذي ثبت كونه أمرا من الصيغ الموضوعة وقيل هو احتراز عن السؤال والدعاء والتوبيخ ونحوها فإن الصيغة في هذه المعاني ليست بأمر على الحقيقة باتفاق هؤلاء كان مقتضيا لموجبه لا محالة فيثبت أدناه أي أدنى ما يصح أن يثبت بالأمر وهو الإباحة كما إذا وكل رجلا في ماله يثبت به الحفظ لأنه أدنى ما يراد بهذا اللفظ وهو متيقن وفي التقويم قالوا الأمر لطلب وجود المأمور به ولا وجود له إلا بالائتمار فدل ضرورة على انفتاح طريق الائتمار عليه وأدناه الإباحة وأما النادبون فقالوا لا يجوز أن يكون موجبه الإباحة لأن الأمر لطلب الفعل ولا بد فيه من أن يكون جانب إيجاد الفعل راجحا على جانب الترك وليس في الإباحة ذلك لأن كليهما فيها سواء ولما لم يكن بد من الترجح ولا يحصل ذلك إلا بالوجوب أو الندب يثبت أدناهما للتيقن به ولا يثبت الزيادة لأن معنى الطلب قد تحقق فلا معنى لإثبات صفة زائدة بعد من غير ضرورة وإنما يحصل الترجيح بالندب لاقتضائه كون الفعل أحسن من الترك وتعلق الثواب به قال الشيخ رحمه اللّه إلا أن هذا أي القول بالندب مع دليله فاسد خصه بالحكم بالفساد دون القول الأول لأن دليل النادبين قد تضمن إفساد القول الأول فلا حاجة إلى التعرض له قوله لأنه الضمير للشأن إذا ثبت أن الأمر موضوع لمعناه المخصوص وهو طلب الفعل بما ذكر من الدليل كان الكمال أصلا في ذلك المعنى لأن الناقص ثابت من وجه دون وجه وكماله بالوجوب لا بالندب لأن استحقاق العقاب لما ترتب على تركه كترتب الثواب على فعله دل أن الفعل مطلوب الأمر من كل وجه فيثبت به كمال الطلب من جانبه وكذا المطلوب وهو الفعل يحصل به من جانب المأمور غالبا فأما الندب ففيه نقصان في جانب الطلب لعدم ترتب العقاب على تركه وكذا لا يؤدي إلى وجود المطلوب غالبا وإذا كان كمال الطلب في الوجوب وجب القول به إذ لا قصور في دلالة الصيغة على الطلب لأنها موضوعة لذلك ولا في ولاية الأمر لأنه مفترض الطاعة يملك الإلزام وكان قوله لا قصور في دلالة الصيغة احتراز عن صيغة اقترن بها ما يمنع صرفها إلى الإيجاب مع كمال ولاية المتكلم كقوله تعالى اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير فكان قصور الصيغة عبارة عن عدم دلالتها على موضوعها وهو الإيجاب وقوله ولا في ولاية المتكلم احتراز عما إذا اقترن بالمتكلم ما يمنع صرفها إلى الإيجاب مع كمال دلالتها عليه كما في الدعاء والالتماس قال أبو اليسر الأمر لفظ فكان (١/١٦٩) المراد به خاصا كاملا لأن الأصل في الأشياء الكمال والنقصان بعارض والكمال إنما يكون بالوجوب لأن الوجوب يحمله على الوجود فكان الوجود بواسطة الوجوب مضافا إلى الأمر السابق فمن جعل الأمر للإباحة أو الندب جعل النقصان أصلا والكمال بعارض وهذا قلب القضية ولا حجة للنادبين في قوله عليه السلام إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا حيث فوض الأمر إلى مشيئتنا وهو دليل الندبية لأنا لا نسلم أنه رده إلى مشيئتنا بل رده إلى استطاعتنا فإنه قال ما استطعتم ولم يقل فافعلوا ما شئتم وليس الرد إلى الاستطاعة من خواص المندوب بل كل واجب كذلك ولما بين فساد شبهة الخصم شرع في بيان الاحتجاج على مذهبه ومدعاه لأنه لا يلزم من إبطال مذهب الخصم صحة هذا القول فقال والحجة لعامة العلماء وفي بعض النسخ الفقهاء وهو أحسن لمطابقته قوله ثم الفقهاء سوى الواقفية والإجماع أي دلالته لأن الإجماع في صورة أخرى ولكن يلزم منه ثبوت الحكم في هذه الصورة قوله قوله تعالى إنما قولنا لشيء الآية قولنا مبتدأ وأن نقول خبره وكن ويكون من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له احدث فهو يحدث عقيب ذلك بلا توقف وهذا مثل لأن مراد اللّه لا يمتنع عليه وأن وجوده عند إرادته غير متوقف كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل ولا قول ثمة والمعنى أن إيجاد كل مقدور على اللّه تعالى بهذه السهولة فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات كذا في الكشاف وسمي المعدوم شيئا باعتبار ما يئول إليه واعلم أن أهل السنة لا يرون تعلق وجود الأشياء بهذا الأمر بل وجودها متعلق بخلق اللّه وإيجاده وتكوينه وهو صفته الأزلية وهذا الكلام عبارة عن سرعة حصول المخلوق بإيجاده وكمال قدرته على ذلك بطريق الاستدلال بالشاهد يعني لو كان في قدرة البشر إيجاد الأشياء عن العدم بهذه الكلمة التي ليست في كلامهم ما هو أوجز في الدلالة على التكوين منها فيكون ما أرادوا وجوده عقيب المتكلم بهذه الكلمة بلا صنع آخر منهم (١/١٧٠) أليس يكون الإيجاد عليهم في غاية اليسر فتكوين العالم وأمثاله أيسر على اللّه بكثير وعند الأشعري ومن تابعه من متكلمي أهل الحديث وجود الأشياء متعلق بكلامه الأزلي وهذه الكلمة دالة عليه لا إن كانت من حرف وصوت أو كان لكلامه وقت أو حال تعالى عن ذلك كذا ذكر في شرح التأويلات في غير موضع وهذا لأنهم لما قالوا بأن التكوين عين المكون لم يمكنهم تعليق التكوين بالتكوين فعلقوه بالأمر وعندنا لما كان التكوين صفة ثابتة أزلية أمكن تعليق الوجود به فلا حاجة إلى تعليقه بالأمر فجعلناه عبارة عن سرعة الإيجاد وسهولته وذكر في التيسير في تفسير قوله تعالى وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون أنه تعالى لم يرد به أنه خاطبه بكلمة كن فيكون بهذا الخطاب لأنه لو جعل خطابا حقيقة فأما أن يكون خطابا للمعدوم وبه يوجد أو خطابا للموجود بعدما وجد لا جائز أن يكون خطابا للمعدوم لأنه لا شيء فكيف يخاطب ولا جائز أن يكون خطابا للموجود لأنه قد كان فكيف يقال له كن وهو كائن وإنما هو بيان أنه إذا شاء كونه كونه فكان وإذا عرفت هذا فاعلم أن الشيخ رحمه اللّه إنما اختار في هذا الكتاب أن المراد بقوله كن حقيقة التكلم بهذه الكلمة لا أنه مجاز عن الإيجاد والتكوين موافقا لمذهب الأشعرية مخالفا لعامة أهل السنة لأن التمسك بالآية في إثبات المطلوب على هذا القول أظهر وعن هذا اختار للتمسك هذه الآية من بين سائر الآي التي فيها هذه الكلمة لأنها أدل على أن المراد حقيقة التكلم إذ القول فيها مكرر مذكور في المبتدأ والخبر بخلاف سائر الآيات فقال وهذا عندنا أي معنى الآية عندنا وأراد بقوله عندنا نفسه وأقر أنه دون السلف المتقدمين على أن الضمير للشأن والظرف خبر المبتدأ مرفوع المحل أريد به أي بالنص ذكر الأمر إضافة المصدر إلى المفعول أي الأمر مذكور عند وجود الأشياء بهذه الكلمة التي هي أوجز الكلمات لا بكلمة أحدث وتكون ونحوهما والتكلم معطوف على ذكر والظرف وهو قوله على الحقيقة منصوب المحل على الحال وذو الحال الضمير في بها والتكلم هو العامل فيها أي أريد بالنص التكلم بهذه الكلمة حقيقة وقوله لا مجازا وبل كلاما عطف على الظرف المنصوب المحل ولو قيل لا مجاز وبل كلام بالرفع عطفا على الظرف المرفوع المحل وهو قوله على أنه أريد به كذا لكان أحسن لأن الخلاف إنما وقع في نفس التكلم أهو موجود عند وجود الأشياء أم لا لا في وصف التكلم أنه موجود بطريق الحقيقة أم هو موجود بطريق المجاز (١/١٧١) ومجازا بالنصب يقتضي أن يكون الخلاف في الوصف لا في الأصل وقوله من غير تشبيه نفي لقول الكرامية فإنهم يقولون إنه تعالى يصير متكلما بخلق الحروف والأصوات في ذاته وهذا يؤدي إلى تشبيه كلامه بكلام المخلوقين وتشبيه ذاته بذواتهم أيضا إذ يلزم منه أن يكون ذاته محل الحوادث كذوات المخلوقين تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقوله ولا تعطيل نفي لقول المعتزلة فإنهم أنكروا كلام النفس وقالوا إنه تعالى لم يكن متكلما في الأزل وإنما صار متكلما بخلق هذه الحروف والأصوات في محالها وهذا يؤدي إلى التعطيل وقد مر شرحه ثم شرع في بيان وجه التمسك بهذا النص فقال وقد أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر ولو لم يكن الوجود مقصودا من الأمر مقرونا به لما استقام أن يكون الوجود قرينة للإيجاد أي للآمر إذ الإيجاد ليس إلا الأمر على هذا القول وذلك لأن الفاء في مثل هذه الصورة لبيان أنه نتيجة للأول ثابت به كما يقال أطعمه فأشبعه وسقاه فأرواه فلو لم يكن الوجود مستفادا بالأمر لكان قوله كن فيكون بمنزلة قولك سقيته فأشبعته وأطعمته فأرويته وهذا لا يجوز خصوصا من الحكيم الذي لا يسفه وذكر بعض الشارحين أن مذهب الشيخ غير مذهب الأشعرية فإن عندهم وجود الأشياء بخطاب كن لا غير كما أن عند أهل السنة بالإيجاد لا غير ومذهب الشيخ أنه بالخطاب والإيجاد معا فكان هذا مذهبا ثالثا والدليل عليه أن قوله وقد أجرى سنته إنما يستعمل فيما إذا أمكن أن يثبت ذلك الشيء بغير ذلك السبب كما أن إجراء السنة أن لا يوجد ولد بلا أب وقد أمكن أن يوجد بلا أب كما وجد عيسى عليه السلام كذلك وقد قال هنا أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر فذلك يقتضي أن يمكن ثبوت الوجود بدون الخطاب وليس هذا بمذهب الأشعرية ولهذا صرف هذا الشارح الضمير المستكن في استقام إلى الآمر لا إلى الوجود وجعل الإيجاد على حقيقته لا عبارة عن الآمر وقال معناه ولو لم يكن الوجود مقرونا بالآمر لما استقام الأمر قرينة للإيجاد يعني لو لم يكن للآمر أثر في الوجود كما أن للإيجاد أثرا فيه لم يستقم أن يضم الأمر إلى الإيجاد في تكون الأشياء ووجودها لأن الشيء إنما يضم ويقرن بغيره لتحقيق موجب ذلك الغير إذا كان له أثر في ذلك فأما إذا لم يكن له أثر فلا يضم قال فإن قيل فإذا حصل الوجود بالإيجاد فما فائدة هذا الأمر قلنا إظهار العظمة والقدرة كما أنه تعالى يبعث من في القبور يبعثه ولكن وسطه نفخ الصور لإظهار العظمة (١/١٧٢) أو يقال دلت الدلائل العقلية على أن الوجود بالإيجاد ووردت النصوص القاطعة على أنه بهذا الأمر فوجب القول بموجبهما من غير اشتغال بطلب الفائدة كما أن في الآيات المتشابهة وجب الإيمان من غير اشتغال بالتأويل قال العبد الضعيف أصلحه اللّه إن كان معنى هذا الكلام ما ذكر هذا الشارح فلا يخلو من أن يتعلق الوجود بالآمر كما يتعلق بالإيجاد أو لا تعلق له به أصلا بل هو علامة تعرف بها الملائكة أن عنده يحدث خلق كما هو قول بعض المفسرين على ما ذكر في المطلع وعين المعاني فإن كان الأول فلا يخلو من أن يكون كلاهما علة واحدة للوجود وذلك لا يجوز لأنه يؤدي إلى افتقار صفة الإيجاد إلى شيء آخر في إثبات موجبه وذلك دلالة النقصان تعالى صفاته عن ذلك ولا يلزم عليه الإرادة فإن الوجود موقوف على الإرادة أيضا كما هو موقوف على الإيجاد ولم يلزم منه نقصان صفة الإيجاد لأن الإرادة من أسبابه أو شرائطه ولا تأثير لها في الوجود وكلامنا فيما هو مؤثر فيه ألا ترى أنه لا واسطة بين الوجود وبين الإيجاد أو الأمر على هذا المذهب فكان من قبيل العلل لا من قبيل الأسباب بخلاف الإرادة لأن الوجود لا يضاف إليها بلا واسطة أو يكون كل واحد علة للوجود وثبوت معلول واحد بعلتين محال وإن كان الثاني فلا يستقيم التمسك بهذا النص على المدعي لأن الوجود لما تعلق بالإيجاد ولم يتعلق بالخطاب لا يكون الوجود قرينة للأمر وحكما له فكيف يستدل به على أن الأمر للوجوب فثبت أن الأولى أن يجعل الوجود متعلقا بالخطاب لا بالإيجاد عند الشيخ كما هو مذهب الأشعري ليصح تمسكه بهذه الآية يؤيده ما ذكره شمس الأئمة أن المراد حقيقة هذه الكلمة عندنا لا أن يكون مجازا عن التكوين كما زعم بعضهم فإنا نستدل به على أن كلام اللّه تعالى غير محدث ولا مخلوق لأنه سابق على المحدثات أجمع يريد به ما تمسكت الأشعرية في إثبات أزلية كلام اللّه تعالى بهذه الآية فقالوا إنه تعالى أخبر أنه خلق المخلوقات بخطاب كن فلو كان هذا مخلوقا لاحتاج إلى خطاب آخر وكذا في الثاني والثالث إلى ما لا يتناهى وقد استدل الشيخ أيضا في نسخة أخرى بهذه الآية على أن الأمر للوجوب مع أنه جعل الأمر فيها كناية عن الإيجاد فقال كن صيغة الأمر والمراد من الأمر الإيجاد كنى (١/١٧٣) بالأمر عن الإيجاد والكناية لا يصح إلا لمشابهة بينهما ولا مشابهة بينهما إلا بطريق السببية وهو أن يكون الأمر للإيجاب ثم الإيجاب حامل على الوجود فصار الوجود مضافا إلى الأمر بواسطة الوجوب والفرق بينهما أن الطريق الأول يدل على أن أصل الأمر للوجود ثم نقل إلى الوجوب لما سنذكره والطريق الثاني يشير إلى أن أصله للوجوب ثم استعير للإيجاد استعارة السبب للمسبب فإن قيل فعلى ما اختار الشيخ في هذا الكتاب يلزم منه الأمر للمعدوم وذلك لا يصح لعدم شرطه وهو الفهم ألا ترى أن الصبي والمجنون ليسا بمأمورين لعدم الفهم والمعدوم سواء حالا منهما قلنا هذا أمر تكوين لا أمر تكليف فلا يتوقف على الفهم بل يتوقف على الإمكان ألا ترى أن أمر التكليف الذي من شرطه الوجود والفهم قد يتعلق بالمعدوم على معنى أن الشخص الذي سيوحد يصير مأمورا ومكلفا بالأمر الأزلي القائم بذات اللّه تعالى أو بأمر النبي السابق على زمان وجود هذا الشخص ولهذا كنا مأمورين بأوامره عليه السلام وإن كنا معدومين حينئذ ومن أنكره فهو معاند فكذلك يصح أمر التكوين على تقدير ما تصور كونه في علمه إلى هذا أشير في عين المعاني وأجيب عنه أيضا بأن الأمر للمعدوم إنما لا يصح إذا لم يتعلق به فائدة وقد تعلق به أعظم الفوائد ههنا وهو الوجود فلذلك صح وهل يسمى الأمر للمعدوم في الأزل أمرا وخطابا الحق أنه يسمى أمرا لأن الأمر هو الطلب وهو موجود في الأزل ولا يسمى خطابا عرفا فإنه يصح منا أن نقول أمرنا النبي عليه السلام بكذا ولا يصح أن نقول خاطبنا بكذا قوله تعالى ومن آياته الآية أي ومن آياته قيام السموات والأرض واستمساكهما بغير عمد قال الفراء أن تدوما قائمتين أي ثابتتين تماما لمنافع الخلق بأمره بأن أمرهما اللّه تعالى فقال لهما كونا قائمتين وقيل بإقامته وتدبيره وسياق كلام الشيخ يدل على أن القيام عبارة عن الوجود عنده ثم إن كان الأمر على حقيقته كما اختار ههنا فالتمسك ظاهر وهو ما ذكر في الكتاب ومقصودا حال عن الوجود والعامل فيها حقية إذ هي مصدر والتقدير حق الوجود مقصودا وإن كان كناية عن الإيجاد فهو ما ذكر الشيخ في شرح التقويم أنه تعالى كنى بالأمر عن إيجاد السموات والأرض فلا بد من مناسبة بينهما ولا طريق إلا أن يجعل الأمر إيجابا حتى يحمل المأمور على الإيجاد فيحصل الوجود فيصير الأمر سببا للوجود فيصح الكناية بطريق السببية وقد تقدم مثله قوله قوله تعالى فليحذر الذين الآية يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت معرض عنه وخالفني عنه إذا أعرض عنه وأنت قاصده ويلقاك (١/١٧٤) الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذاهب عنه صادرا فمن الأول قوله تعالى وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم ومن الثاني قوله عز ذكره فليحذر الذين يخالفون عن أمره أي الذين يخالفون المؤمنين عن أمره أي يعرضون وهم المنافقون والمخالف لا بد له من مخالف فاستغنى عن ذكره بذكر المخالف عنه لأن الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه لا غير والضمير في أمره للّه سبحانه أو للرسول عليه السلام وهو الأظهر لأنه بناء على قوله لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا والدعاء على طريق العلو ممن هو مفترض الطاعة أمر ويؤيده ما ذكر عن المبرد أن معناه لا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم إلى شيء كما يكون من بعضكم لبعض إذ كان أمره فرضا لازما قال ومثله قوله تعالى استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم وعلى هذا يكون المصدر مضافا إلى الفاعل أن تصيبهم فتنة محنة في الدنيا ويصيبهم عذاب أليم في الآخرة ووجه التمسك أنه تعالى ألحق الوعيد بمخالفة أمر النبي عليه السلام مطلقا ومخالفة أمره هي ترك ما أمر به إذ المخالفة ضد الموافقة وموافقته إتيان بما أمر به فيكون مخالفته ترك ذلك ولو لم يكن مخالفة أمره حراما مطلقا لما ألحق الوعيد به وإذا كان مخالفة أمره وهي ترك المأمور به مطلقا حراما يكون الإتيان بالمأمور به واجبا ضرورة وإذا كان إتيان ما أمر به الرسول واجبا كان الإتيان بما أمر به اللّه تعالى كذلك بالطريق الأولى كذا في الميزان وغيره وفي التمسك بهذه الآية اعتراضات مع أجوبتها صفحنا عن ذكرها احترازا عن الإطناب قوله وكذلك دلالة الإجماع أي الإجماع في صورة أخرى يدل على ثبوت المطلوب ههنا وهو أن العقلاء أجمعوا على أن من أراد أن يطلب فعلا من غيره لا يجد لفظا موضوعا لإظهار مقصوده سوى صيغ الأمر فهذا الإجماع يدل على أن المطلوب من الأمر وجود الفعل وأنه موضوع له وإلا لم يستقم طلبهم الفعل من المأمور بهذه الصيغة فهذا هو المراد بدلالة الإجماع والدلالة تعمل عمل الصريح إذا لم يوجد صريح يخالفه فيثبت بها المدعي ونظيره إثبات نجاسة سؤر الكلب بدلالة الإجماع فإن الإجماع المنعقد على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب يدل على نجاسة سؤره لأن لسانه يلاقي الماء دون الإناء فلما تنجس الإناء فالماء أولى ولا يقال لا نسلم أنهم لم يجدوا لفظا (١/١٧٥) لإظهار هذا المقصود سوى الأمر لأن قولهم أوجبت عليك كذا أو ألزمت أو أطلب منك كذا وأمثالها يدل عليه أيضا ألا ترى أن النبي عليه السلام لو قال أوجبت عليكم كذا أو ألزمت كان ذلك بمنزلة قوله افعلوا كذا في وجوب الفعل بالاتفاق لأنا نقول لا دلالة لما ذكرت على المطلوب من صيغ الأمر حقيقة لأنه إخبار عن الإيجاب والطلب لا إنشاء وكلامنا فيه ولهذا يجري فيه التصديق والتكذيب ولا مدخل لهما في الإنشاء إلا أنه قد يراد به الإنشاء ويصير كناية عن الأمر فحينئذ يثبت به الإلزام بطريق الاقتضاء كما عرف وصار معناه أوجبت عليك كذا لأني أمرتك به كسائر العبارات من الأسامي مثل رجل وفرس وحمار والحروف مثل من وعن وإلى وعلى إلا بدليل كلحوق حرف الشرط به في قولك إن فعلت كذا فعبدي حر وكعدم إمكان إجرائه على حقيقته مثل الإخبار عن أمور القيامة بصيغة الماضي كقوله تعالى وقالوا الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن وقالوا الحمد للّه الذي صدقنا وعده وسيق الذين كفروا وسيق الذين اتقوا عبر بها عن الماضي لتحققه وكونه ثابتا لا محالة كأنه تحقق ومضى وكذلك الحال أي كما أن معنى المضي للماضي لازم فكذلك معنى الحال لصيغة المضارع لازم إلا بدليل واحتمال أن يكون المضارع للاستقبال لا يخرجه عن موضوعه وهو الحال وهذا على مذهب بعض النحاة وبعض الفقهاء فإنهم قالوا في قول الرجل كل مملوك أملكه فهو حر أنه يتناول ما هو في ملكه في الحال ولا يتناول ما سيملكه على ما عرف في شرح الجامع الصغير فكذلك صيغة الأمر لطلب المأمور به فيكون المأمور به حقا لازما بالأمر في أصل الوضع ليفيد الأمر فائدته وقوله ألا ترى متصل بقوله حقا لازما أو هو توضيح لما ثبت بهذه الدلائل لأن جميعها يدل على أن موجب الأمر هو الوجود إلا قوله تعالى فليحذر الذين فإنه يدل على أن موجبه الوجوب فاستوضح ذلك بقوله ألا ترى أن الأمر فعل متعد إلى آخره فإن قيل لا يستقيم أن يكون الائتمار أي الامتثال لازما للأمر لأنه إن أراد به اللازم اللغوي فالائتمار ليس كذلك لأنه متعد يقال ايتمر زيد عمرا واللازم إنما سمي لازما للزومه على الفاعل وعدم تعديه إلى الغير وإن أراد به اللازم الحقيقي الذي ينتفي الملزوم بانتفائه فالائتمار ليس كذلك أيضا لأن الأمر يتحقق بدون الامتثال ألا ترى أن الأمر قد يتحقق من اللّه تعالى للكفارة بالإيمان بدون الائتمار منهم ولهذا صح أن يقال أمرته فلم (١/١٧٦) يأتمر كما صح أن يقال أمرته فائتمر ولا يصح أن يقال كسرته فلم ينكسر قلنا أنا لا ننكر أن الائتمار متعد في ذاته ولكن ما هو متعد إلى مفعول واحد قد يكون لازما بالنسبة إلى ما هو متعد إلى مفعولين للزومه على الفاعل والمفعول الواحد وعدم تعديه إلى المفعول الآخر فيصلح أن يكون لازما أي مطاوعا لما هو متعد إلى مفعولين كما يقال علمته القرآن فتعلمه وأطعمته الطعام فطعمه وكسوته الثوب فاكتساه والأمر متعد إلى مفعولين إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بالباء يقال أمرت زيدا بكذا فيصلح أن يكون الائتمار لازما له وأما قوله الائتمار ليس بلازم حقيقي له لتحقق الأمر بدونه فالجواب عنه ما ذكر في الكتاب وهو أن الائتمار لازم الأمر في الأصل لما ذكرنا أن المقصود منه حصول الفعل كما أن الغرض من الكسر حصول الانكسار ولهذا يقال أمرته فائتمر كما يقال كسرته فانكسر فكما لا يتحقق الكسر بدون الانكسار فكذلك ينبغي أن لا يتحقق الأمر بدون الائتمار بالنظر إلى الأصل إلا أن الائتمار لو جعل لازم الأمر كما هو مقتضى الأصل حتى يثبت الائتمار بنفس الأمر لسقط الاختيار من المأمور أصلا وصار ملحقا بالجمادات وفيه نزوع إلى مذهب الجبر فلذلك نقل الشرع حكم الوجود وهو كونه لازما للأمر عنه إلى الوجوب لكونه مفضيا إلى الوجود نظرا إلى العقل والديانة فصار الوجوب لازما للأمر بعدما كان الوجود لازما له وقوله حقا أي ثابتا حال عن الوجوب وقوله بالأمر متعلق بحقا قال الشيخ رحمه اللّه في نسخة أخرى فاجتمع ههنا ما يوجب الوجود عقيب الأمر وما يوجب التراخي لأن اعتبار جانب الأمر يوجب الوجود عقيبه واعتبار كون المأمور مخاطبا مكلفا يوجب التراخي إلى حين إيجاده فاعتبرنا المعنيين وأثبتنا بالأمر آكد ما يكون من وجوه الطلب وهو الوجوب خلفا عن الوجود وقلنا بتراخي حقيقة الوجود إلى اختياره وقال أبو اليسر الائتمار من حكم الأمر كما أن الانكسار من حكم الكسر إلا أن حصوله بفعل مختار فيقتضي وجوب الفعل حتى يحصل الائتمار فإن الائتمار لا يحصل بدونه والدليل على أنه من حكم الأمر أن المأمور إذا لم يكن ذا اختيار في الائتمار يحصل الائتمار عقيب الأمر بلا واسطة كالانكسار عقيب الكسر قال اللّه تعالى لقوم موسى كونوا قردة خاسئين وقد حصل الائتمار عقيب (١/١٧٧) الأمر وقد أنبأنا عن الائتمار عقيب الأمر في قوله عز ذكره كن فيكون وجعل القيام موجب الأمر فيما لا اختيار له في قوله عز اسمه ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره فعرفنا أن الائتمار موجب الأمر كما أن الانكسار موجب الكسر قوله وللمأمور ضرب من الاختيار إنما قال ذلك لأن الاختيار المطلق الكامل للّه تعالى واختيار العبد تابع لذلك قال تعالى وما تشاءون إلا أن يشاء اللّه رب العالمين وقال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه اللّه في بيان الاعتقاد بالفارسية آن مختاري كه جملة مختاران باختيار خود جزان نكند كه أو خواهد ويجوز أن يكون هذا معنى قوله وإن كان ضروريا يعني لما لم يسع للعبد أن يختار خلاف ما أراده اللّه تعالى منه كان مضطرا في ذلك الاختيار كالمكره على المشي إلى المقتل فإنه مختار في رفع الأقدام حقيقة وفي حمله على هذا الوجه نفي مذهب الجبرية والقدرية جميعا فإن الفرقة الأولى نفت اختيار العبد أصلا والفرقة الثانية أثبتوه مطلقا حتى كان للعبد أن يختار خلاف ما أراد اللّه تعالى منه عندهم فأثبت الشيخ أمرا بين أمرين كما هو دأب أهل السنة في ترك الغلو والتقصير ويجوز أن يكون معناه أن العبد مضطر في ثبوت هذه الصفة له كما هو مضطر في كونه عاقلا وجاهلا وأبيض وأسود وطويلا وقصيرا لأنه ليس في وسعه إثبات هذه الصفة ولا نفيها كما ليس في وسعه إثبات تلك الصفات ولا نفيها ولما فرغ عن إقامة الدليل على مدعاه وإلى الفراغ أشار بقوله واللّه أعلم شرع في الجواب عن شبهة الواقفية فقال ولو وجب التوقف في حكم الأمر لوجب في حكم النهي لوجود الداعي إليه على ما زعمتم وهو استعماله في معان مختلفة مثل التحريم كقوله تعالى لا تأكلوا الربا والكراهة كالنهي عن الصلاة في أرض مغصوبة وعن الصلاة في ثوب واحد والتنزيه كقوله تعالى ولا تمنن تستكثر والتحقير كقوله تعالى ولا تمدن عينيك وبيان العاقبة كقوله تعالى لا تعتذروا والإرشاد كقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء والشفقة كالنهي عن اتخاذ الدواب كراسي والمشي في نعل (١/١٧٨) واحد وحينئذ يصير حكمهما واحدا وهو باطل لأنهما ضدان بإجماع أهل اللسان ويستحيل أن يكون الأثر الثابت بالضدين شيئا واحدا قوله يبطل الحقائق كلها لأنه ما من كلام إلا وفيه احتمال قريب أو بعيد من نسخ أو خصوص أو مجاز فلو أوجب مجرد الاحتمال التوقف لتعطلت النصوص وأحكام الشرع وذلك باطل قوله ألا ترى أنا لم ندع أنه محكم أي نحن ما أنكرنا احتمال صيغة الأمر غير ما وضع له من الوجوب حيث لم نقل إنه محكم ولكنا أنكرنا ثبوت المحتمل عند عدم الدليل كما حققناه في أول باب الخصوص قوله وإذا أريد بالأمر الإباحة والندب إلى قوله وهذا أصح جمع الشيخ بين الإباحة والندب وبين الخلاف فيهما على نمط واحد ونحن نبين كل فصل على حدة فنقول اختلف القائلون بأن الأمر للوجوب في أنه إذا أريد به الندب كان حقيقة فيه أو مجازا فذهب عامة أصحابنا وجمهور الفقهاء إلى أنه مجاز فيه وهو اختيار الشيخ أبي الحسن الكرخي وأبي بكر الجصاص وشمس الأئمة السرخسي وصدر الإسلام أبي اليسر والمحققين من أصحاب الشافعي قال أبو اليسر قال أبو حنيفة وأصحابه وعامة الفقهاء إن الأمر إذا أريد به الندب فهو مجاز فيه وذهب بعض أصحاب الشافعي وجمهور أصحاب الحديث إلى أنه حقيقة فيه وإليه مال الشيخ وشبهتهم أن المندوب بعض الواجب لأن الواجب هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه والندب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه فإذا أريد به الندب فقد أريد به بعض ما يشتمل عليه الوجوب فكان حقيقة فيه كما لو أريد من العام بعضه يكون حقيقة فيه وكما لو أطلق لفظ الإنسان على الأعمى والأشل ومقطوع الرجل يكون حقيقة وإن فات بعضه وكيف لا ومن شرط المجاز أن يكون المعنى المجازي مغايرا للمعنى الحقيقي وهذا هو عين المعنى الحقيقي لأنه جزؤه إلا أنه قاصر فكيف يكون اللفظ فيه مجازا ولأن من شرط ثبوت المجاز انتفاء الحقيقة بالكلية فما بقي شيء من الحقيقة لا يتحقق الشرط فلا يتحقق المجاز وحجة الجمهور أن الأمر حقيقة في الإيجاب فإذا استعمل في غيره يكون مجازا كما لو استعمل في التهديد والدليل على أن الندب غير الإيجاب أن من لوازم الإيجاب استحقاق العقوبة على الترك ومن لوازم الندب عدم استحقاقها على الترك وباشتراكهما في استحقاق الثواب لا ينتفي هذه الغيرية فثبت أنه مجاز فيه ألا ترى أنه يصح نفيه فإنه لو قال ما أمرت بصلاة الضحى ولا بصوم أيام الحيض يصح ولا يكذب بخلاف ما لو قال ما (١/١٧٩) أمرت بالصلوات الخمس ولا بصيام رمضان فإنه يكذب بل يكفر وصحة التكذيب والنفي من خواص المجاز وليس هذا كالعام إذا أريد به بعضه فإنه حقيقة فيه لأنه موضوع لشمول جمع من المسميات لا لاستغراقها عندنا والشمول موجود في البعض والكل حتى إن من شرط الاستغراق فيه يقول إنه مجاز في البعض أيضا وكذا لفظ الإنسان موضوع بإزاء معنى الإنسانية وبالعمى والشلل لا ينتقض ذلك المعنى بخلاف الأمر فإنه موضوع للطلب المانع من النقيض والندب مغاير له لا محالة ولا نسلم أن من شرط المجاز انتفاء الحقيقة بالكلية بل الشرط انتفاء الكلية وذلك يحصل بانتفاء جزء منها كما يحصل بانتفاء كلها يوضحه أن أهل اللسان اتفقوا على أن إطلاق اسم الكل على البعض من جهات المجاز ولو كان الانتفاء بالكلية شرطا لما صح هذا القول منهم وأما إذا أريد به الإباحة فقد ذكر عبد القاهر البغدادي في أصوله أن المباح غير مأمور به عند جمهور الأمة سوى طائفة من المعتزلة البغدادية وهذا قول شاذ خارج عن الإجماع وذكر أبو اليسر وصاحب الميزان أنه إذا أريد به الإباحة فهو مجاز فيه بالإجماع لأن الأمر طلب تحصيل المأمور به وليس في الإباحة طلب بل معناه التخيير بين الشيئين إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فلم يكن أمرا بل كان إرشادا فكان مجازا فيه بالإجماع بخلاف ما إذا أريد به الندب فإن فيه طلب تحصيل المندوب إليه والحاصل أن الحكم بأنه حقيقة في الإباحة مع القول بأنه حقيقة في الوجوب لا يصح إلا بأن يجعل مشتركا بين الإيجاب والندب والإباحة بالاشتراك اللفظي أو بالمعنوي وهو أن يجعل موضوعا للإذن المشترك بين الثلاثة كما هو مذهب بعض الشيعة وكذا القول بأنه حقيقة في الندب مع كونه حقيقة في الوجوب لا يمكن إلا بأن يجعل مشتركا بينهما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي بأن يجعل موضوعا لمطلق الطلب كما هو مذهب بعض أصحابنا من مشايخ سمرقند ومذهب بعض أصحاب الشافعي فأما من جعله خاصا في الوجوب عينا فلا يمكنه القول بأنه حقيقة في غيره إليه أشير في الميزان وإذا حققت ما ذكرنا عرفت أن الخلاف فيهما ليس على نمط واحد كما أشار إليه (١/١٨٠) الشيخ في قوله وزعم بعضهم وعرفت أيضا أن قوله وهذا أصح مخالف لقول العامة بل للإجماع على ما ذكره أبو اليسر ووجهه ما ذكر في بعض الشروح أن الندب والإباحة ليسا بمغايرين للوجوب لأن الغيرين موجودان جاز وجود أحدهما بدون الآخر على ما عرف في مسألة الصفات والوجوب لا يتصور بدون الإباحة والندب فلم يكونا مغايرين للوجوب فلهذا كان الأمر حقيقة فيهما وظهر مما ذكرنا أنه لم يتجاوز عن موضوعه فكيف يسمى مجازا ولكن لقائل أن يقول قد بينا أن معنى الندب الثواب على الفعل وعدم العقاب على الترك ومعنى الإباحة التخيير بين الفعل والترك والوجوب يتصور بدون هذين المعنيين بل لا يثبت معهما كما يتصور الندب والإباحة بدون الوجوب فكان مغايرا لهما ألبتة فيكون مجازا فيهما وقوله زعم معناه قال لكن من عادة العرب أن من قال كلاما وكان عندهم كاذبا فيه قالوا زعم فلان وإذا كان صادقا عندهم قالوا قال فلان ومنه قيل زعم كنية الكذب وفي التحقيق الزعم ادعاء العلم بالشيء ولا علم ومنه قوله تعالى زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا وقوله عليه السلام بئس مطية الرجل زعموا قوله ويتصل بهذا الأصل أي بالأمر إذ هو أصل عظيم من أصول الفقه واعلم أن جمهور الأصوليين على أن موجب الأمر المطلق قبل الحظر وبعده سواء فمن قال بأن موجبه التوقف أو الندب أو الإباحة قبل الحظر فكذلك يقول بعده ومن قال بأن موجبه الوجوب قبل الحظر فعامتهم على أن موجبه الوجوب بعد الحظر أيضا وذهبت طائفة من أصحاب الشافعي إلى أن موجبه قبل الحظر الوجوب وبعده الإباحة وعليه دل ظاهر قول الشافعي في أحكام القرآن كذا ذكره صاحب القواطع هذا هو المشهور المذكور في عامة الكتب ورأيت في نسخة من أصول الفقه أن الفعل إن كان مباحا في أصله ثم ورد حظر معلق بغاية (١/١٨١) أو بشرط أو لعلة عرضت فالأمر الوارد بعد زوال ما علق الحظر به يفيد الإباحة عند جمهور أهل العلم كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا لأن الصيد كان حلالا على الإطلاق ثم حرم بسبب الإحرام فكان قوله تعالى فاصطادوا إعلاما بأن سبب التحريم قد ارتفع وعاد الأمر إلى أصله وإن كان الحظر واردا ابتداء غير معلل بعلة عارضة ولا معلق بشرط ولا غاية فالأمر الوارد بعده هو المختلف فيه وذكر في المعتمد الأمر إذا ورد بعد حظر عقلي أو شرعي أفاد ما يفيد لو لم يتقدمه حظر من وجوب أو ندب وقال بعض الفقهاء إنه يفيد بعد الحظر الشرعي الإباحة وهذا الكلام يشير إلى أنه لا خلاف في الحظر العقلي أنه لا يدل على أن الأمر للإباحة مثل الأمر بالقتل والذبح احتج من قال بأنه يفيد الإباحة بأن هذا النوع من الأمر للإباحة في أغلب الاستعمال كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فإذا تطهرن فأتوهن وقوله عليه السلام كنت نهيتكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت ألا فانتبذوا وكقول الرجل لعبده ادخل الدار بعدما قال له لا تدخل الدار فإنه يفهم منه الإباحة دون الوجوب وهذا لأن الحظر المتقدم قرينة دالة على أن المقصود رفع الحظر لا الإيجاب كما أن عجز المأمور قرينة دالة على أن المقصود ظهور عجزه لا وجود الفعل فصار كأن الآمر قال قد كنت منعتك عن كذا فرفعت ذلك المنع وأذنت لك فيه واحتج العامة بأن المقتضي للوجوب قائم وهو الصيغة الدالة على الوجوب إذ الوجوب هو الأصل فيها والعارض الموجود لا يصلح معارضا لذلك لأنه كما جاز الانتقال من المنع إلى الإذن جاز الانتقال منه إلى الإيجاب والعلم به ضروري كيف وقد ورد الأمر بعد الحظر للوجوب أيضا كقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين وقوله عز اسمه ولكن إذا دعيتم فادخلوا وكالأمر للحائض والنفساء بالصلاة والصوم بعد زوال الحيض والنفاس وكالأمر بالصلاة بعد زوال السكر وكالأمر بالقتل في شخص حرام القتل بالإسلام أو الذمة بارتكاب أسباب موجبة للقتل من الحراب والردة وقطع الطريق وكالأمر بالحدود بسبب الجنايات بعدما كان ذلك (١/١٨٢) محظورا وكقول الرجل لعبده اسقني بعدما قال له لا تسقني فهذا كله يفيد الوجوب وإن كان بعد الحظر فثبت بما ذكرنا أن الحظر المتقدم لا يصلح قرينة لصرف الصيغة عن الوجوب إلى الإباحة كما أن الإيجاب المتقدم لا يصلح قرينة لصرف النهي الوارد بعده عن التحريم إلى الكراهة أو التنزيه بالاتفاق وإنما فهم الإباحة فيما ذكروا من النظائر بقرائن غير الحظر المتقدم فإنه لولا الحظر المتقدم لفهم منها الإباحة أيضا وهي أن الاصطياد وأخواتها شرعت حقا للعبد فلو وجبت عليه لصارت حقا عليه فيعود الأمر على موضوعه بالنقض ولهذا لم يحمل الأمر بالكتابة عند المداينة ولا الأمر بالإشهاد عند المبايعة على الإيجاب وإن لم يتقدمه حظر لئلا يصير حقا علينا بعدما شرع حقا لنا قوله ومنهم من قال بالندب والإباحة إنما جمع الشيخ بين الندب والإباحة وإن لم يوجد القول بالندب في عامة الكتب وإنما المذكور فيها الإباحة فقط لأنه قد قيل في قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه إنه أمر ندب حتى قيل يستحب القعود في هذه الساعة لندب اللّه تعالى إلى ذلك وقال سعيد بن جبير إذا انصرفت من الجمعة فساوم بشيء وإن لم تشتره وعن ابن سيرين قال إنه ليعجبني أن يكون لي حاجة يوم الجمعة فأقضيها بعد الانصراف كذا في التيسير وذكر شمس الأئمة رحمه اللّه في شرح كتاب الكسب أنه أمر إيجاب فقال أصل الكسب فريضة بقوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه يعني الكسب والأمر حقيقة في الوجوب قال وما ذكرنا من التفسير مروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإنه قال طلب الكسب بعد الصلاة هو الفريضة بعد الفريضة وتلا قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة الآية وما نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال إن شئت فاخرج وإن شئت فصل إلى العصر وإن شئت فاقعد يدل على أنه أمر إباحة قوله ومن هذا الأصل الاختلاف في الموجب أي ومما يتعلق بالخاص الاختلاف في موجب الأمر في معنى التكرار قد يثبت بما ذكر في البابين أن الصيغة مخصوصة بالوجوب وأن الوجوب مختص بهذه الصيغة ولا يثبت بغيرها فبعد ذلك اختلفوا في أن ذلك الوجوب المختص بالصيغة يوجب العموم والتكرار أم يوجب فعلا واحدا خاصا حقيقة أو حكما وهذا الباب لبيانه (١/١٨٣) باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار قيل في الفرق بين العموم والتكرار أن العموم هو أن يوجب اللفظ ما يحتمله من الأفعال مرة واحدة لأن العموم هو الشمول وأدناه أن يكون الأفعال ثلاثة والتكرار أن يوجب فعلا ثم آخر ثم آخر فصاعدا وأدناه أن يكون في فعلين وبيانه في قوله طلق العموم فيه أن يطلقها ثلاث تطليقات جملة والتكرار أن يطلقها واحدة بعد واحدة والظاهر أن المراد منهما الدوام وأنهما مترادفان ههنا لأن العموم لا يتصور في الفعل المأمور به إلا بطريق التكرار ولهذا لم يوجد في سائر الكتب إلا لفظة الدوام أو التكرار ذكر في الميزان أن استعمال لفظ التكرار ههنا لا يراد به حقيقته لأنه عود عن الفعل الأول وهو لا يتحقق عند أكثر المتكلمين وإنما يراد به تجدد أمثاله على الترادف وهو معنى الدوام في الأفعال وفي القواطع التكرار أن يفعل فعلا وبعد فراغه منه يعود إليه واعلم أن القائلين بالوجوب في الأمر المطلق اختلفوا في إفادته التكرار فقال بعضهم إنه يوجب التكرار المستوعب لجميع العمر إلا إذا قام دليل يمنع منه ويحكى هذا عن المزني وهو اختيار أبي إسحاق الإسفراييني من أصحاب الشافعي وعبد القاهر البغدادي من أصحاب الحديث وغيرهم وقال بعض أصحاب الشافعي إنه لا يوجب التكرار ولكن يحتمله ويروى هذا عن الشافعي رحمه اللّه والفرق بين الموجب والمحتمل أن الموجب يثبت من غير قرينة والمحتمل لا يثبت بدونها وقال بعض مشايخنا الأمر المطلق لا يوجب التكرار ولا (١/١٨٤) يحتمله لكن المعلق بشرط كقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا أو المقيد بوصف كقوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا والسارق والسارقة فاقطعوا يتكرر بتكرره وهو قول بعض أصحاب الشافعي ممن قال إنه لا يوجب التكرار ولكن يحتمله وهذا القول يستقيم على أصلهم لأن الأمر لما احتمل التكرار عندهم كان تعليقه بالشرط أو الوصف قرينة دالة على ثبوت ذلك المحتمل فأما من قال إنه لا يحتمل التكرار في ذاته فهذا القول منه غير مستقيم لأنه لا أثر للتعليق والتقييد في إثبات ما لا يحتمله اللفظ ولهذا لم يذكر القاضي الإمام في التقويم لفظ ولا يحتمله وإنما قال وقال بعضهم المطلق لا يقتضي تكرارا ولكن المعلق بشرط أو وصف يتكرر بتكرره وقال شمس الأئمة أيضا والصحيح عندي أن هذا ليس بمذهب علمائنا رحمهم اللّه هكذا قيل ولقائل أن يقول ليس بمستبعد أن الأمر المطلق لا يكون محتملا للتكرار والمقيد بالشرط يحتمله أو يوجبه لأن المقيد عين المطلق فلا يلزم من عدم احتمال المطلق التكرار عدم احتمال المقيد إياه والمذهب الصحيح عندنا أنه لا يوجب التكرار ولا يحتمله سواء كان مطلقا أو معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف إلا أن الأمر بالفعل يقع على أقل جنسه وهو أدنى ما يعد به ممتثلا ويحتمل كل الجنس بدليله وهو النية وهو قول بعض المحققين من أصحاب الشافعي قال أبو اليسر الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار ولا يحتمله معلقا كان أو مطلقا وهو قول مالك والشافعي وعامة الفقهاء وحاصل هذا القول أن العموم ليس بموجب للأمر ولا بمحتمل له ولكنه يثبت في ضمن موجبه بدليل يدل عليه قوله أو قال ذلك لأجنبي أي قال لأجنبي طلق امرأتي وإنما جمع بينهما ليشير إلى أنهما سواء في هذا الحكم وإن كان أحدهما تمليكا وتفويضا حتى اقتصر على المجلس وامتنع الرجوع عنه والثاني توكيل محض حتى لا يقتصر على المجلس ويملك الرجوع ويملك الرجوع عنه قوله واقع على الثلاث عند بعضهم وهم الفريق الأول لأن الأمر بالفعل يوجب التكرار والعموم عندهم فتملك هي أو هو أن يطلق نفسها واحدة وثنتين وثلاثا جملة أو (١/١٨٥) على التفاريق كذا ذكره أبو اليسر وهذا إذا لم ينو الزوج شيئا أو نوى ثلاثا فأما إذا نوى واحدة أو ثنتين فينبغي أن يقتصر على ما نوى عندهم لأنه وإن أوجب التكرار عندهم إلا أنه قد يمتنع عنه بدليل والنية دليل وعند الشافعي ومن وافقه يقع على الواحدة وإن نوى ثنتين أو ثلاثا فهو على ما نوى وعندنا يقع على الواحدة إن لم ينو شيئا أو نوى واحدة أو ثنتين وإن نوى ثلاثا فعلى ما نوى فإن طلقت نفسها ثلاثا وقعن جميعا وإن طلقت نفسها واحدة فلها أن تطلق ثانية وثالثة في المجلس وكذا الوكيل إذا طلقها واحدة له أن يطلقها ثانية وثالثة في المجلس وبعده ما لم ينعزل إليه أشير في المبسوط قوله لفظ الآمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر الباء يتعلق بالطلب واللام في المصدر بدل المضاف إليه وهو الآمر أو الضمير الراجع إليه والذي صفة المصدر أي لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بمصدر ذلك الأمر فإن اضرب مختصر من قولك أطلب منك الضرب وانصر مختصر من قولك أطلب منك النصر كما أن ضرب مختصر من قوله فعل الضرب في الزمان الماضي والمختصر من الكلام والمطول في إفادة المعنى سواء فإن قولك هذا جوهر مضيء محرق وقولك هذا نار سواء وقولك هذا شراب مسكر معتصر من العنب وقد غلى واشتد مع قولك هذا خمر سواء فيكون قوله اضرب وأطلب منك الضرب سواء واسم الفعل وهو المصدر الذي دل عليه الأمر اسم عام لجنس الفعل أي شامل لجميع أفراده لوجود حرف الاستغراق وفي بعض النسخ اسم عام لجنسه أي اسم موضوع لجنس الفعل لا لفعل واحد والأصل في الجنس العموم فوجب القول بعمومه لأن القول بالعموم فيما أمكن القول به واجب كما في سائر ألفاظ العموم واعتبروا الأمر بالنهي فقالوا النهي في طلب الكف عن الفعل مثل الأمر في طلب الفعل وأنه يوجب الدوام حتى لو ترك الفعل مرة ثم فعله يكون تاركا للنهي فكذلك الأمر يوجبه حتى لو فعل المأمور به مرة ثم لم يفعله يكون تاركا للأمر ولأنه لو اقتضى الفعل مرة وجب أن لا يجوز عليه النسخ ولا يصح الاستثناء منه لأن النسخ يؤدي إلى البداء إذ الفعل الواحد لا يكون حسنا وقبيحا في زمان واحد والاستثناء يؤدي إلى استثناء الكل من الكل وكلاهما فاسد واحتج الفريق الثاني بما ذكرنا أن الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر فيقتضي المصدر غير أن الثابت به مصدر نكرة لأن ثبوته بطريق الاقتضاء (١/١٨٦) للحاجة إلى تصحيح الكلام وبالمنكر يحصل هذا المقصود فلا حاجة إلى إثبات الألف واللام فيه لأنه ليس في صيغة الأمر ما يدل على الألف واللام والنكرة في الإثبات تخص ولكنها تقبل العموم بدليل يقترن بها لأنها اسم جنس وهو يقبل العموم ألا ترى إلى قوله تعالى لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا وصف الثبور بالكثرة ولو لم يحتمل اللفظ العموم لما صح وصف الثبور بها وبما ذكرنا ظهر الفرق بين الأمر والنهي لأن المصدر في النهي نكرة في موضع النفي فيعم ضرورة لما عرف فأما ههنا فهي في موضع الإثبات فتخص إلا إذا قام دليل على خلافه فأما صحة النسخ والاستثناء فلأن ورودهما عليه قرينة دالة على أنه أريد به العموم كما أن الاستثناء في قولك ما رأيت اليوم إلا زيدا دليل على أن المستثنى منه إنسان واستدلوا بحديث الأقرع بن حابس وهو ما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال أيها الناس قد فرض اللّه عليكم الحج فحجوا فقال الأقرع بن حابس أكل عام يا رسول اللّه فسكت حتى قالها ثلاثا فقال لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم فسؤاله وهو من فصحاء العرب وقول النبي عليه السلام ولو قلت نعم لوجبت دليل واضح على أن الأمر يحتمل التكرار وقول الشيخ ألا ترى إلى قول الأقرع متصل بقوله على احتمال العموم ولو كان مع الواو لكان أحسن وتمسك الفريق الثالث بالنصوص الواردة في القرآن مثل قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس فإنه يتكرر بتكرر الدلوك لتقيده به وقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا فإنه يتكرر بتكرر الجنابة لتعلقه به والسنة مثل قوله عليه السلام أدوا عمن تمونون وقوله في خمس من الإبل السائمة شاة إذ معناه أدوا عن خمس من الإبل السائمة شاة وبأن الشرط كالعلة فإنه إذا وجد الشرط وجد المشروط مثل ما إذا وجدت العلة وجد المعلول بل أقوى منها الانتفاء المشروط بانتفاء الشرط عند البعض بخلاف العلة لأن المعلول لا ينتفي بانتفاء العلة بالاتفاق ثم لا خلاف أن الأمر المتعلق بالعلة يتكرر بتكررها فكذا المتعلق بالشرط واحتج من ادعى التكرار وهم الفريق الأول لا كما زعم بعضهم أن هؤلاء فريق آخر غير الأولين الذين قالوا بالعموم بحديث الأقرع والاحتجاج بطريقين أحدهما أن الأمر لو كان موجبه المرة ولم (١/١٨٧) يقتض التكرار لغة لما أشكل عليه ولم يبق لسؤاله معنى كما لو قال حجوا مرة واحدة ولما أشكل عليه علم أن المرة ليست بمقتضاه فيلزم أن يكون مقتضاه التكرار ضرورة اتفاقنا على أن مقتضاه أحدهما ولا يعارض بأنه لو كان موجبه التكرار لما أشكل عليه أيضا كما لو قال حجوا كل عام لأنه قد عرف أن موجب الأمر التكرار ولكنه قد علم من قواعد الدين أن الحرج فيه منفي وفي حمله على موجبه حرج عظيم فأشكل عليه فلذلك سأل ألا ترى أن النبي عليه السلام لما عرف وجه إشكاله كيف أشار في قوله ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم إلى انتفاء التكرار لضرورة لزوم الحرج وإلا كان موجبه التكرار والثاني ما ذكر في التقويم وإليه أشار المصنف أن الأمر لو لم يحتمل الوجهين لما أشكل عليه لأن موجب اللفظ إذا كان واحدا لا يشتبه على السامع إذا كان من أهل اللسان ولما احتملهما والتكرار من المرة يجري مجرى العموم من الخصوص وجب القول بالعموم حتى يقوم دليل الخصوص قوله ولنا أن لفظ الأمر أي سلمنا أن صيغة الأمر اختصرت لمعناها من طلب الفعل ولكن لفظ الفعل الذي دلت عليه الصيغة فرد سواء قدرته معرفا كما قال الفريق الأول أو منكرا كما قال الفريق الثاني وإليه أشار بقوله تطليقا أو التطليق وبين الفرد والعدد تناف لأن الفرد ما لا ثلث فيه والعدد ما تركب من الأفراد والتركب وعدمه متنافيان فكما لا يحتمل العدد معنى الفرد مع أن الفرد موجود في العدد فكذلك لا يحتمل الفرد معنى العدد مع أنه ليس بموجود فيه أصلا فثبت أنه لا دلالة لهذا اللفظ على عدد من الأفعال كالضرب لا يدل على خمس ضربات أو عشر ضربات ولا يحتمل ذلك بل دلالته على مطلق الضرب الذي هو معنى واحد وقوله مثل قول الرجل متصل بمجموع قوله لفظ الأمر صيغة اختصرت إلى قوله (١/١٨٨) فرد وقوله وكذلك أي وكلفظ الفعل الذي اقتضاه الأمر سائر أسماء المفرد أي جميع أسماء الأجناس التي صيغتها صيغة فرد والمصادر أي سائر المصادر التي تقتضيها الأفعال مثل الماضي والمضارع فرد معترض والغرض من إيراده أن يبين حكم سائر أسماء الأجناس أنها لا يحتمل العدد كما لا يحتمل الأمر التكرار وأن يمنع كون اسم الجنس عاما أو قابلا للعموم على ما زعمه الخصوم ولهذا قال وهما أي تطليقا والتطليق اسمان مفردان ليسا بصيغتي جمع ولا عدد قوله وكذلك الأمر عطف على النظير أي ومثل قول الرجل طلقي الأمر بسائر الأفعال في أن الثابت به لفظ فرد لا اسم عدد والمقصود منه أن يبين أن كون المصدر المنكر أو المعرف الثابت بالأمر فردا ليس مختصا بقوله طلقي بل هو مستمر في جميع الأوامر قوله إلا أنه أي المصدر الثابت بالأمر اسم جنس جواب عما يقال أنه لما كان فردا غير محتمل للعدد ينبغي أن لا يصح في قوله طلقي نية الثلاث لأنه عدد بلا شبهة كما لا يصح نية الثنتين عندكم فأجاب عنه بأنه مع كونه فردا اسم جنس وأنه يقع على الأدنى للتيقن بفرديته ويحتمل كله باعتبار معنى الفردية فيه لا باعتبار كونه متعددا فإنك إذا عددت الأجناس وقلت أجناس التصرفات المشروعة النكاح والطلاق والعتاق والبيع والإجارة وكذا وكذا كان هذا أي الطلاق مع جميع أجزائه واحدا منها ألا ترى أنه يصح وصفه بالوحدة فيقال الطلاق جنس واحد من التصرفات كما يصح أن يقال الحيوان جنس واحد من الموجودات ولا يقدح كونه ذا أجزاء في الخارج في توحده من حيث الجنس لأن ذلك باعتبار المعنى الذهني ولا تعدد فيه فلما كان فردا من حيث المعنى صح أن يكون محتمل اللفظ (١/١٨٩) فأما ما بين الكل والأقل فليس بفرد بوجه فلا يكون محتمل اللفظ ألبتة فلهذا لا تعمل فيه النية لأن النية لتعيين محتمل اللفظ لا لإثبات ما لا يحتمله وقوله كالإنسان فرد آخره يحتمل معنيين أحدهما أنه فرد من حيث هو جنس وإن كان ذا أجزاء أي أفراد في الخارج كزيد وعمرو فكذا الطلاق ووجه التشبيه ظاهر والثاني أن الإنسان الذي هو في الخارج واحد كزيد مثلا فرد حقيقة من حيث هو آدمي وإن كان ذا أجزاء في نفسه أي أطراف وأعضاء كالرأس واليد والرجل فكذا الطلاق واحد من حيث إنه جنس وإن كان ذا أجزاء ثلث فصار هذا الاسم الفرد أي الطلاق أو اسم الجنس وقوله ولا صورة ولا معنى تأكيد لقوله ليس بفرد حقيقة ولا حكما ويؤيده ما ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه ولا تعمل نية الثنتين أصلا لأنه ليس فيه معنى الفردية صورة ولا معنى فلم يكن من محتملات الكلام أصلا ويجوز أن يكون قوله حقيقة ولا حكما احترازا عما ذكر من الأقل والكل وقوله ولا صورة ولا معنى احترازا عما سنذكر وهو أن يكون فردا صيغة أو دلالة أي ما بين الكل والأقل ليس بفرد حقيقة كالأقل إذ هو متعدد ولا حكما كالكل إذ هو دونه ولا صورة أي صيغة كماء أو الماء في قوله لا أشرب ماء أو الماء وهو ظاهر ولا معنى كالنساء في قوله لا أتزوج النساء لأنه صار عبارة عن الجنس باعتبار اللام وهو ليس كذلك فإن قيل كيف يقال إنه لا يحتمل العدد ولو قرن به على سبيل التفسير لاستقام كقول الرجل لآخر طلق امرأتي مرتين أو ثلاث مرات وكانت المرة نصبا على التفسير ولو لم يحتمله لما صح ذلك وكذلك تقول صم أبدا أو أياما كثيرة قلنا هذا القران لم يصح لغة على سبيل التفسير للمحتمل ولكن على سبيل التغيير إلى معنى آخر ما كان يحتمله مطلقه بل يحتمل التغيير إليه كما يصح قران الشرط بالطلاق والاستثناء بالجملة على سبيل تغيير موجبه إلى وجه آخر لا على سبيل بيان موجب المطلق منه فإن قول القائل أنت طالق ثلاثا لا يحتمل التأخر ولا ثنتين ولو قال إلى شهر أو إلا واحدة تأخر إلى شهر ولم يقع الاثنتان (١/١٩٠) ولهذا قالوا إذا قرن بالصيغة ذكر العدد في الإيقاع يكون الوقوع بلفظ العدد لا بأصل الصيغة حتى لو قال لامرأته طلقتك ثلاثا أو قال واحدة فماتت قبل ذكر العدد لم يقع شيء فتبين أن عمل هذا القران في التغيير لا في التفسير لأن التفسير يكون مقررا للحكم المفسر لا مغيرا له يوضحه أنه لو قال لامرأته أمرك بيدك فطلقي نفسك أو اختاري فطلقي نفسك فقالت طلقت نفسي أو اخترت نفسي يقع الطلاق بائنا اعتبارا للمفسر وهو اختاري أو أمرك بيدك لأن طلقي تفسير له ولو قال اختاري تطليقة أو أمرك بيدك في تطليقة فطلقت نفسها أو اختارت نفسها فهي رجعية لأن التطليقة لم توضع على وجه التفسير بل خيرها في التصريح فكان رجعيا كذا في الجامع الصغير للتمرتاشي فأما النصب فليس على التفسير ولكن لقيامه مقام المصدر فإن قوله طلقت امرأتي ثلاث مرات معناه تطليقات ثلاثا كذا في التقويم وأصول شمس الأئمة وقال الغزالي في المستصفى فإن قيل فلو فسر بالتكرار فقد فسره بمحتمل أو كان ذلك إلحاق زيادة كما لو قال أردت بقولي اقتل اقتل زيدا وبقولي صم أي يوم السبت خاصة فإن هذا تفسير بما ليس يحتمله اللفظ بل ليس تفسيرا إنما هو ذكر زيادة لم يوضع اللفظ المذكور لها لا بالاشتراك ولا بالتخصيص قلنا الأظهر عندنا أنه إن فسره بعدد مخصوص كسبعة أو عشرة فهو إتمام بزيادة وليس بتفسير إذ اللفظ لا يصلح للدلالة على كمية وعدد وإن أراد استغراق العمر فقد أراد كلية الصوم في حقه فإن كلية الصوم شيء فرد إذ له حد واحد وحقيقة واحدة فهو واحد بالنوع كما أن الصوم الواحد واحد بالعدد فاللفظ يحتمله ويكون ذلك بيانا للمراد لا استئناف زيادة ولهذا لو قال أنت طالق ولم يخطر بباله عدد كانت الطلقة الواحدة ضرورة لفظه فيقتصر عليها ولو نوى الثلاث نفذت لأنه كلية الطلاق فهو كالواحد بالجنس أو بالنوع ولو نوى طلقتين فالأغوص ما قاله أبو حنيفة رحمه اللّه وهو أنه لا يحتمله فإن قيل الزيادة التي هي كالتتمة لا تصلح إرادتها باللفظ فإنه لو قال طلقت زوجتي وله أربع نسوة وقال أردت زينب يبين وقوع الطلاق من وقت اللفظ ولولا احتماله لوقع من وقت التعيين قلنا بل الفرق أغوص لأن قوله زوجتي مشترك بين الأربع يصلح لكل واحدة فهو كإرادة أحد المسميات بالمشترك أما الطلاق فموضوع لمعنى لا يتعرض للعدد والصوم لمعنى لا يتعرض للعشرة وليست الأعداد موجودة ليكون اسم الصوم مشتركا بينها اشتراك الزوجية بين النسوة إلى هنا كلامه رحمه اللّه وبما ذكرنا تبين أن صحة الاستثناء لا يدل على أنه يحتمل التكرار والعدد لأن ذلك بمنزلة قرينة دالة على أنه (١/١٩١) أريد به ما هو محتمله وهو الكل أو ألحق به على وجه الزيادة ما ليس بمحتمله لغة فكأنه قيل في قوله صم إلا يوم السبت صم الأيام كلها إلا يوم السبت أو صم الأسبوع إلا يوم السبت فإن قيل قوله طلقتك في اقتضاء المصدر لغة مثل قوله طلق إذ معناه فعلت فعل الطلاق كما أن معنى الأمر افعل فعل الطلاق فهلا صحت فيه نية الثلاث بما ذكرتم ومن أين وقع الفرق قلنا إنما لا يصح فيه نية الثلاث كما لا يصح نية الثنتين لأنه إخبار والخبر لا يقتضي وجود المخبر به ليصح فإن الخبر خبر وإن كان كذبا ولا أثر له في إيجاده أيضا لأن المخبر به لا يصير موجودا بالإخبار في الزمان الماضي ولكن يقتضي وجوده ليكون صحيحا في الحكمة بأن يكون صدقا فكان ثابتا ضرورة الصدق وهي يرتفع بالواحدة غير أن الشرع جعله إنشاء فاقتضى ما كان يقتضيه الإخبار وهو الواحدة فأما قوله طلق فأمر وله أثر في إيجاد المأمور به على ما بينا فصار مذكورا فكان التعميم داخلا على المذكور فكان حكما أصليا فلهذا صحت فيه نية الثلاث كذا في مختصر التقويم وأما ما ذهب إليه الفريق الثالث فغير صحيح لأنه لا أثر للشرط في التكرار لأن قوله اضربه إن لم يقتض التكرار فقوله اضربه قائما أو إن كان قائما لا يقتضيه أيضا بل لا يزيده إلا اختصاص الضرب الذي يقتضيه الإطلاق بحالة القيام وهو كقوله لوكيله طلق زوجتي إن دخلت الدار لا يقتضي التكرار بتكرر الدخول فكذلك قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه وإذا زالت الشمس فصل كقول الرجل لزوجاته من شهد منكن الشهر فلتطلق نفسها فمن زالت عليها الشمس فلتطلق نفسها وأما تكرار أوامر الشرع فليس من موجب اللغة بل بدليل شرعي في كل شرط فقد قال وللّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ولا يتكرر الوجوب بتكرر الاستطاعة فإن أحالوا ذلك على الدليل أحلنا ما تكرر أيضا على الدليل كيف ومن كان جنبا فليس عليه أن يطهر إذا لم يرد الصلاة فلم يتكرر مطلقا لكن اتبع فيه موجب الدليل كذا ذكر الغزالي رحمه اللّه وأما اعتبارهم الشرط بالعلة فضعيف لأن العلة موجبة للحكم والموجب لا ينفك عن الموجب فأما الشرط فليس بموجب ولهذا يوجد الشرط بدون المشروط والمشروط بدون الشرط عندنا يوضح الفرق بينهما أن الحكم يقتصر ثبوته على العلة ولا يحتاج إلى (١/١٩٢) أمر آخر وثبوت المشروط لا يقتصر على الشرط بل يحتاج إلى موجب يوجبه وهو العلة وأما الشروط المذكورة فيما استشهدوا فعلل أو في معنى العلل فلهذا تكررت الأوامر بتكررها قوله وكذلك سائر أسماء الأجناس أي وكالمصدر الثابت بالأمر سائر أسماء الأجناس أي جميعها أو باقيها في وقوعه على الأقل واحتماله للكل دون العدد إذا كانت فردا صيغة أي لم يكن صيغته صيغة تثنية ولا جمع سواء كانت معرفة أو منكرة مثل ماء أو الماء في يمين الشرب أو دلالة بأن كانت صيغته صيغة جمع قرنت بها لام التعريف أو الإضافة مثل العبيد وبني آدم في يمين الكلام فأما قدرا من الأقدار المتخللة بين الحدين وهما الأقل والكل فلا أي لا يحتمله اللفظ فإن نوى كوزا أو كوزين أو قدحا أو قدحين لا يعمل نيته وقدرا منصوب بلا يحتمله المقدر وليس من شرط أما دخوله في المرفوع ألبتة بل يجوز دخوله في المنصوب كما في قوله تعالى فأما اليتيم فلا تقهر ونحوه قوله وأما الفرد دلالة إلى آخره اعلم أن اللام للتعريف فإن دخلت على معهود وهو الذي عرف وعهد إما بالذكر أو بغيره من الأسباب فهي تعرف ذلك المعهود ويسمى هذا تعريف العهد وهو الأصل فيه وهو في الحقيقة تعريف فرد من أفراد الجنس كقولك فعل الرجل كذا تريد رجلا بعينه قال تعالى كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول أي ذلك الرسول بعينه وإن لم يكن ثمة معهود فهي لتعريف نفس الحقيقة مع قطع النظر عن عوارضها وهي بمنزلة المعهود لحضورها في الذهن واحتياجها إلى التعريف ويسمى هذا تعريف الجنس ثم الحقيقة في ذاتها لما كانت صالحة للتوحد والتكثر لتحققها مع الوحدة والكثرة كانت اللام في تعريف الحقيقة للاستغراق ولغيره بحسب اقتضاء المقام فإن أمكن ارتباط الحكم بجميع أفراده فاللام للاستغراق مفردا كان اللفظ أو جمعا نحو قوله تعالى إن الإنسان لفي خسر وقوله جل ذكره الرجال قوامون على النساء وإن لم يمكن فاللام لنفس الجنس دون الاستغراق والعهد نحو قوله تعالى (١/١٩٣) إخبارا عن يعقوب عليه السلام وأخاف أن يأكله الذئب ويقع على أقل ما يحتمله اللفظ وهو الواحد في المفرد بالاتفاق وكذا في الجمع عندنا وذكر صاحب الكشاف فيه أن الفرق بين لام الجنس داخلة على المفرد وبينها داخلة على المجموع هو أنها إذا دخلت على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه إلى الواحد وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية والجمعية وفي حمل الجنس لا في وحدانه وكذا ذكر صاحب المفتاح فيه فقال فيما تعذر حمله على الاستغراق حمل على أقل ما يحتمله وهو الواحد في المفرد والعدد الزائد على الاثنين بواحد في الجمع فلا يوجب في مثل حصل الدرهم إلا واحدا وفي مثل حصل الدراهم إلا ثلثه ووجهه أنه أمكن رعاية الصيغة مع اعتبار حرف التعريف فيجعل حرف التعريف للجنس مراعى فيه الجمعية رعاية للمعنيين فأما جعله مجازا عن الفرد مع إمكان العمل بالحقيقة فغير سديد وقلنا إذا دخلت في الجمع بطل معنى الجمعية أي لم يبق مقصودا في الكلام وصار مجازا عن الجنس أي صار كاسم المفرد المعرف باللام وذلك لأنه اجتمع ههنا صيغة الجمع وحرف التعريف فلو اعتبر صيغة الجمع لزم إلغاء حرف التعريف لأنه إما للعهد أو للجنس ولا يمكن أن يجعل للعهد إذا ليس في أقسام الجموع معهود يمكن صرفها إليه لأن الجمع لم يوضع لمعدود معين بل هو شائع كالنكرة ولا يمكن أن يجعل للجنس أيضا مع اعتبار الصيغة لأن اعتبارها يقتضي أن يكون الجمع فيها مقصودا وجعل اللام للجنس ينافيه لأن اسم الجنس دلالته على نفس الحقيقة مع قطع النظر عن العوارض وكون الجمع مقصودا مع قطع النظر عنه متنافيان ولو اعتبر حرف التعريف فجعل للجنس وجعلت الصيغة مجازا عن الفرد لم يلغ معنى الجمعية بالكلية لأن في الجنس معنى الجمع من وجه وإن لم يكن مقصودا إذ هو مشتمل على الأفراد إما تحقيقا أو توهما فكان اعتبار حرف التعريف أولى من اعتبار (١/١٩٤) الصيغة إذ فيه جمع بين المعنيين من وجه فكان أولى من إلغاء أحدهما بالكلية وما ذكرنا مؤيد بالنص والعرف أما النص فقوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد ولم يكن الحظر متعلقا بالجمع بل كان حرم عليه صلى اللّه عليه وسلم الفرد فصاعدا وقوله تعالى والخيل والبغال والحمير أريد به الجنس لا الجمع وأما العرف فإنه يقال فلان يحب النساء وفلان يخالط الناس وإنما يراد به الجنس فلهذا جعلنا مجازا عن الجنس فهذا معنى قوله فرد دلالة قال شمس الإسلام الأوزجندي فإذا بطل معنى الجمع يتناول الأدنى بحقيقته أي بحقيقة الفردية مع احتمال الكل بحقيقته ولا يلزم على ما ذكرنا قولها خالعني على ما في يدي من الدراهم وليس في يدها شيء حيث يلزمها ثلاثة دراهم لا درهم واحد ولا قوله لا أكلمه الأيام أو الشهور حيث يقع على العشرة عند أبي حنيفة وعلى الجمعة والسنة عندهما لا على اليوم الواحد والشهر الواحد لأنا نقول إنما يجعل اللام في الجمع للجنس إذا لم يمكن صرفها إلى معهود حتى لو أمكن تصرف إليه كما في قولك كنت اليوم مع التجار ولقيت الفقهاء تريد قوما بأعيانهم قد جرت عادتك بلقائهم وقد أمكن ههنا لأن قولها ما في يدي عام يتناول الدراهم وغيرها ومن الدراهم بيان له فوجب صرف اللام إليه وكذا أيام الجمعة وشهور السنة معهودة بين الناس فيجب صرف اللام إليها عندهما فأما أبو حنيفة رحمه اللّه فقد جعل الاسم معهودا على الثلاثة فصاعدا إلى العشرة فصرف اللام إلى أكثر هذا المعهود احتياطا كذا ذكر الشيخ في شرح الجامع إذا عرفنا هذا جئنا إلى بيان المسائل فنقول إذا قال واللّه لا أشرب ماء أو الماء أو لا آكل طعاما أو الطعام أنه يقع على الأدنى لأنه هو المتيقن به وهو الكل لولا غيره فيكون فيه معنى الجنسية أيضا فإن نوى الكل صحت نيته فيما بينه وبين اللّه تعالى حتى لا يحنث أصلا لأنه نوى محتمل كلامه لأنه فرد من حيث إنه اسم جنس لكنه عدد من وجه فلن يتناوله الفرد إلا بالنية كذا في شرح الجامع للمصنف وهذا يشير إلى أنه لا يصدق قضاء إن كان اليمين بطلاق أو نحوه لأنه خلاف الظاهر إذ الإنسان إنما يمنع نفسه باليمين عما يقدر عليه وشرب كل المياه ليس في وسعه وفيه تخفيف عليه أيضا وكذا إذا حلف لا يتزوج النساء أو لا يكلم العبيد أو لا يشتري الثياب يقع على الأدنى على احتمال (١/١٩٥) الكل وكذا لو حلف لا يكلم بني آدم لأنا إذا حملناه على حقيقة الجمع بطلت الإضافة لأنها للتعريف بمنزلة اللام ولا تعريف لشيء من أنواع الجمع وإذا حملناه على الجنس حصل به تعريف الجنس مع العمل بالجمع فصار أولى فإن نوى الكل في هذه المسائل صحت نيته ولا يحنث أبدا قال شمس الإسلام قالوا وإطلاق الجواب دليل على أنه يصدق قضاء وديانة إن كان اليمين بطلاق أو نحوه لأنه نوى حقيقة كلامه وعن أبي القاسم الصفار رحمه اللّه أنه لا يصدق قضاء لأنه نوى حقيقة لا تثبت إلا بالنية فصار كأنه نوى المجاز ولا يذهبن بك الوهم كما ذهب بالبعض إلى أنه ينبغي أن لا ينعقد اليمين عند إرادة الكل لأن كلام جميع الناس وتزوج جميع النساء وشراء جميع العبيد غير متصور كما لم ينعقد في قوله لأشربن الماء الذي في الكوز ولا ماء فيه لعدم تصور شرب الماء المعدوم لأن شرط البر في مسألة الكوز شرب الماء وهو غير متصور فأما شرط البر في هذه المسائل فعدم الكلام والتزوج والشراء وهو متصور فإن حلف لا يتزوج نساء أو لا يشتري عبيدا فهذا على الثلاثة مما ذكر لأن دلالة الجنس عدمت ههنا فوجب العمل بصيغة الجمع وأدناه ثلاثة فإن نوى به ما زاد على الثلاثة قالوا يكون مصدقا لأنه نوى حقيقة كلامه وعلى قول أبي القاسم لا يصدق قضاء لأنه نوى حقيقة لا تثبت إلا بنية وفيه تخفيف فلا يصدق قضاء فإن نوى الواحد مما ذكر صحت نيته لأن الجمع يذكر ويراد به الواحد فقد نوى ما يحتمله لفظه وفيه تغليظ عليه فيصدق بخلاف ما لو قال إن تزوجت ثلاث نسوة فكذا وقال عنيت به الواحدة لا يصدق وإن كان فيه تغليظ لأنه نوى الخصوص في العدد وذلك لا يصح إلا بطريق الاستثناء واعلم أن اللام وحدها هي حرف التعريف عند سيبويه والهمزة قبلها همزة وصل مجلوبة للابتداء كهمزة اسم وابن وعند الخليل كلمة التعريف أل كهل وبل وإنما استمر التخفيف بالهمزة لكثرة الاستعمال فالشيخ بقوله لغا حرف العهد وقوله بقي اللام (١/١٩٦) أشار إلى مذهب سيبويه حيث لم يقل حرفا العهد وبقي الألف واللام كما قال غيره قوله وإنما أشكل جواب عما تمسك به الفريقان الأولان من سؤال الأقرع فقال لم يكن سؤاله بناء على الاحتمال الذي ذكروه بل إنما كان لأنه عرف أن سائر العبادات متعلقة بأسباب متكررة مثل تعلق الصلاة بالأوقات والصوم بالشهر والزكاة بالأموال النامية ولهذا تكررت بتكرر النماء وقد رأى الحج متعلقا بالوقت الذي هو متكرر بحيث لم يصح أداؤه قبله وبالبيت الذي ليس هو بمتكرر فاشتبه عليه فلهذا سئل لا لكون الأمر للتكرار لغة ومعنى قوله عليه السلام لو قلت نعم لوجبت أي لو قلت نعم يجب في كل عام لوجبت فريضة الحج في كل عام وحينئذ صار الوقت سببا فإنه عليه السلام كان صاحب الشرع وإليه نصب الشرائع كذا ذكر الشيخ في شرح التقويم السارق لا يؤتى على أطرافه الأربعة عندنا ولكن يحبس حتى يحدث توبة وعند الشافعي رحمه اللّه يؤتى على الجميع لأن اللّه تعالى نص على الأيدي بلفظ الجمع وأضافها إلى السارق والسارقة فأوجبت الاستغراق كقولك عبيدكما فيدخل اليسار كاليمين في الحكم بمطلق الاسم كما في الطهارة ولا يحمل على اليمين لأن فيه إبطال الإطلاق وذلك يجري مجرى النسخ عندكم ولأن فيه إبطال صيغة الجمع لأنه لا يكون لسارق وسارقة أيمان بل لهما يمينان فثبت أن اليسار محل القطع كاليمين وكيف إلا واليسار آلة السرقة كاليمين وفوق الرجل اليسرى فيكون محل القطع إلا أن في المرة الثانية يثبت المحلية للرجل بالسنة وبالإجماع فلا يوجب ذلك انتفاء المحلية الثابتة بمطلق الكتاب ولنا قراءة عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه فاقطعوا أيمانهما وهذه القراءة من قراءة العامة بمنزلة المقيد من المطلق فيصير كأنه قال فاقطعوا أيمانهما من الأيدي فلا يتناول اليسرى فهذا قيد جاء في الحكم لأن الواجب قطع يد فإذا قيدت باليمين كان القيد زيادة وصف يثبت فيه كما في قوله تعالى فصيام ثلاثة أيام متتابعات فيرتفع الإطلاق بالقيد ويجب الحمل بالإجماع وكان كرجل قال لآخر أعتق عبدا من عبيدي ثم قال عنيت سالما والدليل عليه أن في المرة الثانية لا يقطع اليسرى ويقطع الرجل فلو كان النص متناولا لليسرى لم يجز قطع الرجل مع بقاء اليد لأن مع بقاء المنصوص لا يجوز العدول إلى غيره وإذا ثبت التقييد في النص جعلت صيغة الجمع مجازا عن التثنية ضرورة كقوله تعالى فقد صغت قلوبكما كيف والعمل بصيغة الجمع غير ممكن على ما نذكر فثبت أن اليسار لم يدخل في النص وأنه لم يتناول إلا اليمنى وأن استدلال الخصم بالآية غير صحيح وكذا بالقياس إذ لا مدخل له في الحدود (١/١٩٧) ثم الشيخ خرج هذه المسألة على الأصل الذي بينه فقال وعلى هذا الأصل أي على ما ذكرنا أن اسم الجنس لا يحتمل العدد لأنه فرد يخرج أن كل اسم فاعل وقوله دل على المصدر لغة صفة لفاعل واحترز به عن اسم الفاعل إذا جعل علما مثل الحارث والقاسم فإنه لا يدل على المصدر وقوله لم يحتمل العدد خبران فإن قيل فالضمير المستكن في لم يحتمل إن جعل راجعا إلى كل اسم فاعل كما هو مقتضى الكلام لم يبق له تعلق بالمقصود وهو نفي القطع في المرة الثالثة وإن جعل راجعا إلى المصدر لا يخلو التركيب عن نوع خلل إذ الخبر لا بد أن يكون محكوما به على المبتدأ وهو اسم إن ههنا وعلى تقدير كونه راجعا إلى المصدر لا يكون كذلك قلنا دأب المشايخ النظر إلى المعنى لا إلى التركيب كذا سمعت عن شيخنا العلامة مولانا حافظ الملة والدين قدس اللّه روحه غير مرة ولما كان بناء الباب لبيان أن المصدر لا يحتمل العدد لا يخفى على الفطن أن المقصود منه نفي احتمال العدد عن المصدر لا عن الفاعل وصار من حيث المعنى كأنه قال وعلى هذا يخرج أن كل مصدر دل عليه اسم فاعل لا يحتمل العدد كالمصدر الذي دل عليه الأمر ورأيت في بعض النسخ ولم يحتمل العدد بالواو فعلى هذا يكون الخبر قوله دل على المصدر ولا يراد السؤال ثم لما لم يحتمل المصدر الثابت بلفظ السارق العدد لا يجوز أن يراد بالآية إلا الأيمان وذلك لأنه لما لم يحتمل العدد لا بد من أن يراد به الكل أو الأقل ولا يجوز أن يراد به الكل لأن كل السرقات التي توجد منه لا يعلم إلا بآخر العمر فيؤدي إلى أن لا يقطع وإن سرق ألف مرة إلا عند الموت وقد انعقد الإجماع على خلافه فتعين أن المراد سرقة واحدة فكأنه قيل الذي فعل سرقة والتي فعلت سرقة فاقطعوا أيديهما ثم ظاهر هذا الكلام يقتضي أن يقطع اليدان جميعا بسرقة واحدة وهو غير مراد بالإجماع أيضا فثبت أن الواجب بالآية قطع يد واحدة لسرقة واحدة في حق كل سارق وسارقة ثم هذه اليد الواحدة إما أن تكون اليمنى أو اليسرى وقد ثبت أيضا بالإجماع وبالسنة قولا وفعلا وبقراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه أن قطع اليمنى مراد بالآية فلم يبق قطع اليسرى مرادا بها ضرورة فهذا معنى قوله لم يحتمل العدد حتى قلنا إلى آخره ولو كان محتملا للعدد كما زعم الخصم لجاز أن يثبت قطع اليسرى بالآية كاليمنى وصار التقدير الذي سرق سرقات والتي سرقت سرقات فاقطعوا من كل واحد منهما بكل واحدة منها يدا وذكر في طريقه الخلاف للإمام البرغري بهذه العبارة أما قراءة العامة فلا يمكن (١/١٩٨) العمل بها لأن اللّه تعالى لم يذكر السرقة إنما ذكر اسم السارق وهذا يقتضي السرقة ولا يتناول إلا سرقة واحدة وبالإجماع لا يقطع بسرقة واحدة إلا يد واحدة فإن كانت قراءة العامة معمولا بها لقطعت اليدان كلاهما بالمرة الأولى لأن العقوبة المذكورة جزاء جناية واحدة كالجلد مائة في الزنا وأجمعنا أن بالسرقة الواحدة لا يقطع إلا اليمين عرفنا أن هذه الآية لا يتناول إلا اليمين فإن قيل قد ثبت تكرر الجلد بتكرر الزنا من شخص واحد مع أن المصدر وهو الزنا لا يدل على التكرار والعدد كما قلتم في السرقة فليكن السرقة كذلك قلنا قد ثبت في قواعد الشرع أن المصدر في مثل هذا الكلام علة للحكم فالزنا علة والجلد حكمه فتكرر بتكرره لبقاء محل الحكم وهو البدن فأما السرقة فعلة للقطع أيضا إلا أن حكمها الثابت بالنص قطع اليمين وبقطعها مرة لم يبق حكم المحل أصلا كما بعد المرة الثالثة عندكم فلهذا لا يتكرر الحكم بتكررها قوله وموجب الأمر إلى آخره واعلم أن الثابت بالأمر وهو الواجب ينقسم بحسب نفسه إلى معين كأكثر الواجبات وإلى مخير كأحد الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين وبحسب فاعله إلى فرض عين كعامة العبادات وإلى فرض كفاية كصلاة الجنازة والجهاد وبحسب وقته إلى موسع كالصلاة وإلى مضيق كالصوم وإلى أداء وقضاء كما يذكر فالشيخ ذكر عامة هذه الأقسام وبدأ بتقسيم الأداء والقضاء فقال وموجب الأمر على ما فسرنا يتنوع نوعين قيل معناه الواجب بالأمر نوعان أداء وقضاء وكل واحد منهما نوعان حسن لمعنى في عينه وحسن لمعنى في غيره لأن كلامنا في موجب الأمر والمأمور به حسن لا محالة وقيل معناه أن موجب الأمر يتنوع نوعين أحدهما في صفة قائمة في الموجب والثاني في صفة قائمة في غير الموجب ثم الأول يتنوع نوعين وهما الأداء والقضاء وهذه صفة راجعة إلى نفس الموجب كما ترى والثاني يتنوع نوعين أيضا وهما المؤقت وغير المؤقت والوقت صفة راجعة إلى غير الموجب والذي يدور في خلدي أن معناه أن موجب الأمر أي الثابت بالأمر وهو الواجب على ما فسرنا أن الأمر للإيجاب يتنوع نوعين وهما الأداء والقضاء وكل واحد من الأداء والقضاء يتنوع نوعين أيضا وهما الأداء المحض وغير المحض والقضاء المحض وغير المحض (١/١٩٩) فمحصل الأقسام أربعة ثم ينقسم الأداء المحض إلى كامل وقاصر والقضاء المحض إلى القضاء بمثل معقول وبمثل غير معقول فصار الأقسام ستة فبين الشيخ قبل الباب التقسيمين الأولين الذين بهما صار الأقسام أربعة وبعد الباب اعتبر الحاصل من التقاسيم وبين الأقسام ستة وذلك لا يخل بالمعنى ووجه آخر وهو أن يجعل هذا تقسيم مطلق الأداء والقضاء من غير نظر إلى تركبهما وتمحضهما وذلك أربعة أداء كامل وقاصر وقضاء بمثل معقول وبمثل غير معقول فدخل المتركب منهما في هذا التقسيم كالمتمحض ثم بعد الباب ميز المتركب منهما من المتمحض منهما فمحصل الأقسام ستة وهذا أحسن الوجوه لأنه أوفق للكتب فإن الشيخ رحمه اللّه ذكر في شرح التقويم ثم حكم الوجوب شيئان الأداء والقضاء والأداء على نوعين واجب ونفل والقضاء على نوعين أيضا بمثل يعقل وبمثل لا يعقل لكنه ثبت شرعا وهكذا ذكر القاضي الإمام في التقويم أيضا إلا أن الشيخ ههنا أخرج النفل عن قسم الأداء وجعل الأداء الواجب على قسمين كامل وقاصر قوله وهذا تنويع في صفة الحكم أي الذي ذكرنا من التقسيم تنويع في صفة حكم الأمر وهذا الباب لبيان هذه الأقسام وعلى الوجهين الأولين هذا إشارة إلى الباب لا إلى ما ذكر من التقسيم لأن ما تضمنه الباب هو بيان أنواع صفة الحكم ولهذا لقب الباب به والتنويع المذكور يتناول غيره كما يتناوله على الوجهين الأولين فلا يصح صرف اسم الإشارة إليه فيجب صرفه إلى الباب أي هذا الباب تنويع في صفة الحكم ولكن إعادة لفظة هذا في قوله وهذا باب يأبى ذلك (١/٢٠٠) باب يلقب ببيان صفة حكم الأمروذلك أي حكم الأمر وقوله كامل وقاصر تقسيم للأداء المحض بمثل معقول أي مماثلته مدرك بالعقل وبمثل غير معقول أي غير مدرك بعقولنا لا أنه خلاف العقل إذ العقل حجة من حجج اللّه تعالى ولا تناقض في حججه فيستحيل أن يرد الشرع بخلاف العقل كذا قيل قوله والأداء اسم لتسليم نفس الواجب أي عينه بالأمر الباء للسببية وهي تتعلق بالواجب لا بالتسليم على ما زعم بعضهم أي الواجب بسبب الأمر وإضافة الواجب إلى الأمر توسع لأن الوجوب بالسبب ووجوب الأداء بالأمر على ما يعرف بعد إلا أن السبب لما علم بالأمر أضيف الوجوب إليه وهذا التعريف يشمل تسليم المؤقت في وقته كالصلاة والصوم وتسليم غير المؤقت كالزكاة فإن قيل كيف يمكن تسليم عين الواجب وهو وصف في الذمة لا يقبل التصرف من العبد ولهذا قيل الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها قلنا لما شغل الشرع الذمة بالواجب ثم أمر بتفريغها أخذ ما يحصل به فراغ الذمة حكم ذلك الواجب كأنه عينه أو يقال الواجب بالأمر غير الواجب بالسبب إذ الواجب بالأمر فعل الصلاة أو إيتاء ربع العشر الذي به يحصل فراغ الذمة مثلا وهو ممكن التسليم فأما الوصف الشاغل للذمة فحاصل بالسبب لا بالأمر فعلى هذا لا يكون إضافة الواجب إلى الأمر في التعريف على سبيل التوسع بل يكون بطريق الحقيقة كذا قيل قوله والقضاء اسم لتسليم مثل الواجب به أي بالأمر ولم يذكر الشيخ مثل (١/٢٠١) الواجب من عنده كما ذكره شمس الأئمة فقال القضاء إسقاط الواجب بمثل من عند المأمور هو حقه وكذا ذكره القاضي الإمام أيضا ولا بد منه إذ لو لم يكن من عند المأمور لا يكون قضاء وإن كان مثلا للواجب فإن من صرف دراهم الغير إلى دينه لا يكون قضاء وللمالك أن يستردها من رب الدين وكذا لو صرف العصر إلى الظهر أو ظهر اليوم إلى ظهر الأمس بأن نوى أن يكون هذا الظهر قضاء عن الفائت لا يصح وإن كانت المماثلة بينه وبين الفائت أقوى منها بين النفل والفائت بكونها ثابتة بين الظهر والظهر ذاتا ووصفا وبين النفل والظهر ذاتا لا وصفا لأن ذلك ليس من عنده ألا ترى كيف أكده شمس الأئمة رحمه اللّه بقوله هو حقه احترازا عن الوديعة ولهذا اختير في المنتخب ما ذكره شمس الأئمة رحمه اللّه قوله وقد يدخل في الأداء قسم آخر أي يزاد عليه قسم آخر على قول من جعل الأمر حقيقة في الندب فيصير الأداء عنده قسمين تسليم عين الواجب كما ذكرنا وتسليم عين المندوب إليه قال القاضي الإمام في التقويم الأداء نوعان واجب كالفرض في وقته وغير واجب كالنفل وكذا ذكر الشيخ في شرح التقويم أيضا فقال الأداء على نوعين واجب ونفل وكلاهما موجب الأمر وعلى قول من جعله حقيقة في الإباحة أيضا ينبغي أن ينقسم الأداء ثلاثة أقسام تسليم الواجب وتسليم المندوب وتسليم المباح إذ الكل موجب للآمر عنده وقد ذكرنا أن هذا قول خارج عن الإجماع والتعريف الشامل للقسمين على القول الأول هو ما ذكره القاضي الإمام الأداء اسم لفعل ما طلب من العمل بعينه وإن جعل الواجب بمعنى الثابت في التعريف المذكور في الكتاب فهو يشمل القسمين أيضا والشامل للأقسام الثلاثة على القول الآخر هو ما يقال الأداء تسليم عين ما أمر به قال الإمام بدر الدين رحمه اللّه إنما ذكر هذا يعني قوله يدخل في الأداء قسم آخر احتراز عما يقال ما ذكرتم من تفسير الأداء ينتقض بقولهم أدى النفل وهو ليس بتسليم الواجب بالأمر فلا يكون التعريف جامعا يقال هذا قسم آخر وما ذكرنا قسم آخر إذ نحن في تفسير الأداء الذي هو موجب الأمر فلا يرد ذلك نقضا علينا قوله فأما القضاء فلا يحتمل هذا الوصف وهو دخول النفل فيه لأن القضاء مبني (١/٢٠٢) على كون المتروك مضمونا والنفل لا يضمن بالترك وأما إذا شرع في النفل ثم أفسده فإنما يجب القضاء لأنه بالشروع صار ملحقا بالواجب لا لأنه نفل كما قبل الشروع قوله قال اللّه تعالى متصل بقوله الأداء تسليم نفس الواجب واستشهاد على أنه مستعمل في تسليم العين لأن الآية نزلت في تسليم مفتاح الكعبة وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما فتح مكة طلب المفتاح فقيل له إنه مع عثمان بن طلحة وكان يلي سدانة الكعبة فوجه إليه عليا رضي اللّه عنه فأبى أن يدفعه إليه وقال لو علمت أنه رسول اللّه لم أمنعه المفتاح فلوى علي رضي اللّه عنه يده وأخذه منه قسرا حتى دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البيت وصلى فيه فلما خرج قال له العباس اجمع لي السدانة مع السقاية وسأله أن يعطيه المفتاح فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا رضي اللّه عنه برده إليه فرده إليه وألطف له في القول واعتذر إليه فقال لعلي رضي اللّه عنه أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق قال لأن اللّه تعالى أنزل في شأنك قرآنا وأمرنا برده عليك وقرأ هذه الآية فأتى النبي عليه السلام وأسلم ثم إنه هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده إلى اليوم وأمانة في الأصل مصدر سمي به الشيء الذي يؤتمن عليه ثم الآية عامة في كل أمانة كما قال ابن مسعود رضي اللّه عنه الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والصوم والزكاة والجنابة وفي الكيل والوزن وأعظم من ذلك الودائع وذكر في عين المعاني قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة اللّه تعالى التي حملها الإنسان وحفظ الحواس التي هي ودائع اللّه جل جلاله ثم الواجب في ذمة العبد بمنزلة عين مودعة عنده فإذا أداه في وقته مراعيا حقه بأقصى الإمكان كان أداء بمنزلة تسليم عين الوديعة وإذ قصر في رعايته كان بمنزلة الخيانة في الأمانة فكان قضاء إذ الخيانة في الأمانة يوجب الضمان وأداء الضمان قضاء حقيقة لا أداء كذا في بعض الشروح واعلم أن عامة الأصوليين قسموا الواجب إلى أداء وقضاء وإعادة ثم من لم يجعل الأمر حقيقة في الندب فسر الأقسام فقال الأداء تسليم عين الواجب في وقته المعين أي المقدر شرعا والقضاء تسليم مثل الواجب في غير وقته المعين شرعا والإعادة إتيان مثل الأول على صفة الكمال بأن وجب على المكلف فعل موصوف بصفة فأداه على وجه النقصان وهو نقصان فاحش يجب عليه الإعادة وهي إتيان مثل الأول ذاتا مع صفة الكمال كذا ذكر في الميزان فعلى هذا إذا فعل ثانيا في الوقت أو خارج الوقت يكون إعادة وعبارة بعضهم الواجب إذا فعل في وقته ويسمى أداء وإذا فعل بعد خروج وقته المضيق أو الموسع يسمى قضاء وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في وقته (١/٢٠٣) المضروب له يسمى إعادة فالإعادة اسم لمثل ما فعل مع ضرب من الخلل والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود فشرط الوقت في الإعادة فلا يكون إتيانه بعد الوقت إعادة ومن جعل الأمر حقيقة في الندب قال الأداء ما فعل أولا في وقته المقدر شرعا والقضاء ما فعل بعد وقت مقدر استدراكا لما سبق له وجوب والإعادة ما فعل ثانيا في وقت الأداء لخلل في الأول فقوله ما فعل يتناول الفرائض والنوافل وقوله أولا احتراز عن الإعادة وقوله في وقته المقدر احتراز عن القضاء وقوله في تعريف القضاء استدراكا احترازا عما إذا فعل لا بقصد الاستدراك وقوله لما سبق له وجوب احتراز عن النوافل وقوله في تفسير الإعادة ثانيا احتراز عن الأداء وقوله لخلل أي لفوات شرط سواء كان مفسدا أو لم يكن احتراز عن صلاة من صلى بجماعة بعد أن صلاها منفردا على وجه الصحة فإنها لا تسمى إعادة ثم التعريف الذي ذكره الشيخ للأداء أحسن مما قالوا لأنه جامع يشمل المؤقت وغيره على ما ذكرنا وما ذكروه لا يشمل غير المؤقت كالزكاة والكفارات والنذور المطلقة ثم فعل غير المؤقت إن كان أداء عندهم فلا يكون الحد الذي ذكروه جامعا فيكون فاسدا بالاتفاق وإن لم يكن كذلك بل كان الأداء مختصا بالمؤقت كالقضاء فالحد صحيح عندهم فاسد عندنا لأنا لا نسلم لهم أن الأداء مختص بالوقت لأن فعل غير المؤقت يسمى أداء شرعا وعرفا قال اللّه تعالى إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وقال عليه السلام أدوا عمن تمونون و أدوا عن كل حر وعبد نصف صاع الحديث وكل ذلك ليس مؤقتا بوقت مقدور ويقال أدى زكاة ماله بعد سنين وأدى طعام الكفارة كما يقال أدى الصوم والصلاة وقد نص الشيخ عليه في هذا الباب فقال والأداء في العبادات إلى آخره وإذا ثبت أنه أداء كان الحد الذي ذكروه فاسدا لعدم انعكاسه وإنما لم يذكر الشيخ الإعادة في تقسيم الواجب لأنها إن كانت واجبة بأن وقع الفعل الأول فاسدا بأن ترك القراءة أو ركنا آخر من الصلاة مثلا فهي داخلة في الأداء أو القضاء لأن الفعل الأول لما فسد أخذ حكم العدم شرعا ويكون الاعتبار للثاني فيكون أداء إن وقع في الوقت وقضاء إن وقع خارج الوقت وإن لم تكن واجبة بأن وقع الفعل الأول (١/٢٠٤) ناقصا لا فاسدا بأن ترك مثلا في الصلاة شيئا يجب بتركه سجدة السهو فلا تكون داخلة في هذا التقسيم لأنه تقسيم الواجب بالأمر وهي ليست بواجبة ولهذا وقع الفعل الأول عن الواجب دون الثاني والثاني بمنزلة الخبر بسجود السهو وهذا بناء على أن المأمور إذا أتى بالمأمور به على وجه الكراهة أو الحرمة يخرج عن العهدة على القول الأصح كالحاج إذا طاف محدثا خلافا لهم واعلم أيضا أنهم اتفقوا على أن وجوب الفعل إذا تقرر ولم يفعل في وقته المقدر وفعل بعده أنه يكون قضاء حقيقة سواء تركه في وقته عمدا أو سهوا ولكنهم اختلفوا فيما انعقد بسبب وجوبه وتأخر وجوب أدائه لمانع سواء كان المكلف قادرا على الإتيان به كالصوم في حق المريض والمسافر أو غير قادر عليه إما شرعا كالصوم في حق الحائض وإما عقلا كالصلاة في حق النائم والمغمى عليه فقال بعض أصحاب الحديث إنه يسمى قضاء مجازا وهو في الحقيقة فرض مبتدأ لأن القضاء الحقيقي مبني على وجوب الأداء وهو ساقط عن هؤلاء بالاتفاق وكيف يقال بوجوب أداء الصوم على الحائض ولا سبيل لها إلى الأداء ولا إلى إزالة المانع من الأداء بخلاف الحدث فإنه يمكن إزالته وكذلك المغمى عليه والنائم لكنه سمي قضاء مجازا لأن من شرط هذا الفرض فوات الأول فلفوات إيجابه في الوقت سمي قضاء وقال عامة الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي إنه قضاء حقيقة لأن حقيقته ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا لمصلحة ما انعقد سبب وجوبه وقد انعقد في حق هؤلاء فيكون هذا حقيقة والدليل عليه أنه يجب عليهم نية قضاء الفائت بالإجماع ولو كان فرضا مبتدأ لما وجبت وليس من شرطه وجوب الأداء حقيقة بل تصور ذلك كاف وإن كان بعيدا كتصور وجوب الطهارة بالماء في موضع لا ماء فيه لصحة نقل الحكم إلى التراب وقد تصور زوال هذه الأعذار في الوقت وإيجاب الأداء بعده فيكون هذا القدر كافيا في نقل الحكم إلى القضاء بشرط أن لا يكون مؤديا إلى الحرج وهذا كالمحدث إذا ضاق به وقت الصلاة لا يتأتى له الأداء ووجوب الأداء يلاقيه وكذلك من لا يجد ماء ولا ترابا نظيفا لا يتصور منه الأداء ولا التسبيب إليه ومع ذلك صح الوجوب عليه والسكران يلاقيه وجوب الصلاة وهو ممنوع من أدائها وذكر في الميزان في هذه المسألة وليس من شرط القضاء وجوب الأداء في حق من عليه ولكن الشرط وجوب الأداء في الجملة لعموم دليله وفواته عن الوقت في حقه مع إدراك وقت القضاء وانتفاء الحرج عنه على ما عرف من مسألة المجنون واللّه أعلم قوله فسمي الأداء قضاء كما في قوله تعالى فإذا قضيتم مناسككم (١/٢٠٥) سقط البقرة ٢٠٠ أي أديتم وأتممتم أمور الحج وقوله عز اسمه فإذا قضيت الصلاة أي أديت وفرغ منها لأن المراد منها الجمعة وأنها لا تقضى ورأيت في نسخة من أصول الفقه أن الواجب الأصلي في يوم الجمعة هو الظهر لقول عائشة رضي اللّه عنها إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة إلا أن الجمعة أقيمت مقامها مع القدرة على أدائها لنوع حاجة فكان اسم القضاء لها حقيقة من هذا الوجه قوله لأن القضاء لفظ متسع بالكسر أي عام يجوز إطلاقه على تسليم عين الواجب ومثله لأن معناه الإسقاط والإتمام والإحكام وهذه المعاني موجودة في تسليم عين الواجب كما هي موجودة في تسليم مثله فيجوز إطلاقه على الأداء بطريق الحقيقة لعموم معناه كإطلاق الحيوان على الإنسان والفرس والأسد وغيرها إلا أنه لما اختص بتسليم المثل عرفا أو شرعا كان في غيره مجازا فكان إطلاقه على الأداء حقيقة لغوية مجازا عرفيا أو شرعيا قوله وقد يستعمل الأداء في القضاء مقيدا أي بقرينة يعني لا بد فيه من قرينة تدل على القضاء إذا استعمل فيه كما أنه لا بد من قرينة تدل على الشجاع إذا استعمل لفظ الأسد فيه من نحو قوله يرمي أو غيره في قولك رأيت أسدا يرمي أو في الحمام وهذا كما يقال أدى ما عليه من الدين فبقرينة قوله من الدين يفهم منه القضاء لأن أداء حقيقة الدين محال وكما يقال نويت أن أؤدي ظهر الأمس فبقرينة الأمس يفهم منه القضاء لأن أداء ظهر الأمس بعد مضيه محال قوله لأن للأداء خصوصا دليل على اشتراط التقييد يعني أن معنى الأداء مختص بتسليم نفس الواجب لأنه في اللغة ينبئ عن شدة الرعاية والاستقصاء في الخروج عما لزمه وذلك بتسليم عين الواجب لا بتسليم مثله بعدما فات فلا يمكن إطلاقه على تسليم المثل إلا بطريق المجاز فلهذا يحتاج إلى التقييد بقرينة فأما القضاء فإحكام الشيء نفسه وذلك موجود في تسليم المثل والعين فيطلق عليهما بطريق الحقيقة فلا يحتاج إلى التقييد بالقرينة وقال القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما اللّه وقد يستعمل القضاء في الأداء مجازا لما فيه من إسقاط الواجب ويستعمل الأداء في القضاء مجازا لما فيه من التسليم (١/٢٠٦) فجعلا كل واحد منهما مجازا في الآخر والتوفيق بينهما أن الشيخ نظر إلى معناهما اللغوي فوجد معنى القضاء شاملا لتسليم العين وتسليم المثل فجعله حقيقة فيهما ووجد معنى الأداء خاصا في تسليم العين فجعله مجازا في غيره فاشترط التقييد بالقرينة والقاضي الإمام وشمس الأئمة نظرا إلى العرف أو الشرع فوجدا كل واحد منهما خاصا بمعنى فجعلاه مجازا في غير ما اختص كل واحد به وفي بعض النسخ إلا أن للأداء خصوصا مقام لأن معناه على هذا الوجه أن الأداء قد يسمى قضاء وعلى العكس إلا أن الأداء مختص بتسليم عين الواجب في الحقيقة والقضاء بتسليم المثل على ما بينا لأن الأداء ينبئ عن شدة الرعاية والقضاء لا ينبئ عن شدة الرعاية بل عن مجرد الإحكام فيكون مختصا بتسليم المثل الذي ليس فيه شدة الرعاية بل فيه نوع قصور وهذا الوجه يوافق ما ذكره شمس الأئمة رحمه اللّه فعلى هذا الوجه يجوز أن يكون قوله مقيدا متصلا بالجملتين كما في قوله تعالى فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ويكون معناه ويسمى الأداء قضاء مقيدا بقرينة ويستعمل الأداء في القضاء مقيدا بقرينة وقوله نفس الواجب وعينه ترادف وقوله في الثلاثي أي الثلاثي المجرد منه أي من الأداء لأن الأداء من منشعبة الثلاثي يقال أدى يؤدي أداء وتأدية كما يقال سلم يسلم سلاما وبلغ يبلغ بلاغا وقوله يأدو وذكر في الصحاح يقال الذئب يأدو للغزال أي يختله ليأكله والختل الخداع وأدوت له وأديت أي ختلته وهذا مثل يضرب في مقاساة المرء في الشيء ومعاناته لرجاء نفع يعود إليه في عاقبته ثم حاصل ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الأداء على معنى القضاء كقوله نويت أن أؤدي ظهر الأمس وعكسه كقوله نويت أن أقضي الظهر الوقتية جائز فأما صحة الأداء بنية القضاء حقيقة كنية من نوى أداء ظهر اليوم بعد خروج الوقت على ظن أن الوقت باق وكنية الأسير الذي اشتبه عليه شهر رمضان فتحرى شهرا وصامه بنية الأداء فوقع صومه بعد رمضان وعكسه كنية من نوى قضاء الظهر على ظن أن الوقت قد خرج وهو لم يخرج بعد وكنية الأسير الذي صام رمضان بنية القضاء على ظن أنه قد مضى فليس مبنيا على هذا الأصل كما ذهب إليه البعض لأنه وإن اقتصر على قصد القلب ولم يذكر باللسان شيئا فلا يشكل لأن كلامنا في إطلاق اللفظ على معنى وليس ههنا لفظ وإن ضم إليه الذكر باللسان فكذلك لأنه أراد بكل لفظ حقيقته حينئذ وليس كلامنا فيه وأما جوازه فباعتبار (١/٢٠٧) أنه أتى بأصل النية ولكنه أخطأ في الظن والخطأ في مثله معفو على ما عرف في موضعه قوله واختلف المشايخ أي مشايخنا واللام بدل الإضافة في القضاء أيجب بنص مقصود أي بنص قصد به إيجاب القضاء ابتداء أم بالسبب الذي يجب به الأداء وهو الأمر لأن وجوب الأداء يضاف إليه لا إلى السبب إذ لا يثبت بالسبب إلا نفس الوجوب وإن شئت أبهمت السبب كما أبهمه الشيخ فقلت يجب القضاء بما يجب به الأداء سواء كان الموجب نصا أو غيره وقال بعض الشارحين معنى قوله بنص مقصود بسبب ابتدائي غير سبب الأداء عرف بالنص أنه سبب له ويدل على صحة الوجه الأول ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في شرح التقويم ثم اختلف أصحابنا قال بعضهم القضاء يجب بأمر مبتدأ من اللّه تعالى وقال بعضهم لا يحتاج إلى أمر مبتدأ بل يجب المثل إذا فات المضمون بالكتاب والسنة والإجماع وما ذكر صاحب الميزان فيه اختلف مشايخنا في الأمر المؤقت إذا خرج الوقت قبل تحصيل الفعل حتى وجب القضاء أنه يجب بالأمر السابق أو يجب بأمر مبتدأ قال بعضهم يجب بالأمر السابق وقال بعضهم يجب بأمر مبتدأ وعليه يدل سياق كلام شمس الأئمة رحمه اللّه أيضا وذكر صدر الإسلام أبو اليسر قال عامة الفقهاء إن الوقت متى فات لا يبقى المأمور دينا في الذمة ويجب القضاء في وقت آخر بدليل آخر بعض الناس يبقي دينا في الذمة بعد خروج الوقت بحكم ذلك الأمر والحاصل أن وجوب القضاء لا يتوقف على أمر جديد وإنما يجب بالأمر الأول عند القاضي الإمام أبي زيد وشمس الأئمة والمصنف ومن تابعهم وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي والحنابلة وعامة أصحاب الحديث وعند العراقيين من أصحابنا وصدر الإسلام أبي اليسر وصاحب الميزان لا يجب بالأمر الأول بل بأمر آخر وبدليل آخر وهو مذهب عامة أصحاب الشافعي وعامة المعتزلة والخلاف في القضاء بمثل معقول فأما القضاء بمثل غير معقول فلا يمكن إيجابه إلا بنص جديد بالاتفاق احتج من قال بأنه يجب بأمر مبتدأ بأن الواجب بالأمر أداء العبادة ولا مدخل للرأي في معرفتها وإنما تعرف بالنص فإذا كان الأمر مقيدا بوقت كان كون المأمور به عبادة مقيدا به أيضا ضرورة توقفه على الأمر فإن العبادة مفسرة بأنها فعل يأتي به المرء على وجه التعظيم للّه تعالى بأمره وإذا كان كذلك لا يكون الفعل في وقت آخر عبادة بهذا الأمر لعدم دخوله تحت الأمر كمن قال لغيره افعل كذا يوم الجمعة لا يتناول هذا الأمر ما عدا يوم الجمعة بحكم الصيغة كما لو كان مقيدا بالمكان (١/٢٠٨) بأن قيل اضرب من كان في الدار لا يتناول من لم يكن فيها وإذا لم يتناوله الأمر كان الفعل بعد الوقت وقبله سواء فيحتاج إلى أمر آخر ضرورة ولا يمتنع أن يكون الفعل مصلحة في وقت دون غيره ولهذا كانت الصلوات مخصوصة بأوقات والصوم كذلك ولا يقال نحن لا ندعي أنه يتناوله من حيث الصيغة لأنه لو كان كذلك لما سمي قضاء ولكنا نقول المأمور لما فات يضمن بالمثل من غير توقف على أمر آخر كما في حقوق العباد لأنا نقول من شرط إيجاب الضمان المماثلة ولا مدخل للرأي في مقادير العبادات وهيئاتها فلا يمكن إثبات المماثلة فيها بالرأي وكيف يمكن ذلك والأداء مشتمل على الفعل وإحراز فضيلة الوقت ولهذا لم يجز قبل الوقت وقد فاتت فضيلة الوقت بحيث لا يمكن تداركه قال عليه السلام من فاته صوم يوم من رمضان لم يقضه صيام الدهر كله فكيف يكون الفعل بعد الوقت مثلا للفعل في الوقت ولما لم يمكن إيجابه بالأمر الأول توقف على دليل آخر ضرورة قال أبو اليسر رحمه اللّه إن إقامة الفعل في الوقت إنما عرفت قربة شرعا بخلاف القياس فلا يمكننا إقامة مثل هذا الفعل في وقت آخر مقام هذا الفعل بالقياس عند الفوات كما في الجمعة فإن أداء الركعتين لما عرف قربة بخلاف القياس لا يمكننا أن نقيم مثل هاتين الركعتين مقامهما في وقت آخر بالقياس عند الفوات وكما في تكبيرات التشريق فإنها لما عرفت قربة في تلك الأيام شرعا بخلاف القياس لا يمكننا أن نقيم مثل هذه التكبيرات في غير تلك الأيام مقامها عند الفوات واحتج من قال بأنه يجب بالأمر الأول بالقياس وهو أن الشرع ورد بوجوب القضاء في الصوم والصلاة قال اللّه تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر أي فأفطر فعليه عدة من أيام أخر وقال عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها وما ورد فيه معقول المعنى فوجب إلحاق غير المنصوص به وبيانه أن الأداء قد صار مستحقا عليه بالأمر في الوقت ومعلوم بالاستقراء أن المستحق لا يسقط عن المستحق عليه إلا بالأداء أو بالإسقاط أو بالعجز ولم يوجد الكل فبقي كما كان قبله أما عدم وجود الأداء فظاهر وكذا عدم الإسقاط لأنه لم يوجد صريحا بيقين ولا دلالة لأنه لم يحدث إلا خروج الوقت وهو بنفسه لا يصلح مسقطا لأن بخروج الوقت تقرر ترك الامتثال وذلك لا يجوز أن يكون مسقطا بل (١/٢٠٩) هو تقرر ما عليه من العهدة وإنما يصلح الخروج مسقطا باعتبار العجز ولم يوجد العجز إلا في حق إدراك الفضيلة لبقاء القدرة على أصل العبادة لكونه متصور الوجود منه حقيقة وحكما فيتقدر السقوط بقدر العجز فيسقط عنه استدراك شرف الوقت إلى الإثم إن تعمد التفويت وإلى عدم الثواب إن لم يكن تعمد للعجز ويبقى أصل العبادة الذي هو المقصود مضمونا عليه لقدرته عليه فيطالب بالخروج عن عهدته بصرف المثل إليه كما في حقوق العباد فإن قيل لا نسلم أن القدرة على أصل الواجب تبقى بعد فوات الوقت لأن الأمر مقيد بالوقت بحيث لو قدم الأداء عليه لا يصح فيكون الواجب فعلا موصوفا بصفة ومن وجب عليه فعل موصوف بصفة لا يبقى بدون تلك الصفة كالواجب بالقدرة الميسرة لا تبقى بعد فوات تلك القدرة لفوات وصفه وهو اليسر قلنا هذا إذا كان الوصف مقصودا ونحن نعلم أن نفس الوقت ههنا ليس بمقصود لأن معنى العبادة في كون الفعل عملا بخلاف هوى النفس أو في كونه تعظيما للّه تعالى وثناء عليه وهذا لا يختلف باختلاف الأوقات كما لا يختلف باختلاف الأماكن وكان هذا كمن أمر بأن يتصدق درهما من ماله باليد اليمنى فشلت يده اليمنى يجب أن يتصدق باليسرى لأن الغرض به يحصل فكذا هنا وأما عدم صحة الأداء قبل الوقت فليس لكونه مقصودا بل لكونه سببا للوجوب والأداء قبل السبب لا يجوز ولما كان الوقت تبعا غير مقصود لم يجز أن يسقط بسقوطه ما هو المقصود الكلي وهو أصل العبادة كمن أتلف مثليا وعجز عن تسليم المثل صورة يسقط عنه ذلك للعجز ولا يسقط بسقوط ما هو المقصود وهو المثل معنى فيجب عليه القيمة كذا هنا قال الشيخ أبو المعين رحمه اللّه القضاء مثل الأداء وإن لم يكن في الفضيلة مثله والمثلية في حق إزالة المأثم لا في إحراز الفضيلة وكذا جميع عبادات أصحاب الأعذار كالمومئ وغيره يقوم مقام العبادات الكاملة في حق إزالة المأثم لا في حق إحراز الفضيلة ولما ثبت أن النص معقول المعنى تعدى الحكم وهو وجوب القضاء به إلى الفروع وهي الواجبات بالنذر المؤقت من الصلاة والصيام والاعتكاف وغيرها وبما ذكرنا خرج الجواب عن قولهم إن مثل العبادة لا يصير عبادة إلا بالنص لأنا قد سلمنا ذلك ولكن الكلام في أن الفعل الذي قد شرع عبادة في غير (١/٢١٠) هذا الوقت حقا للعبد هل يجب إقامته مقام الفعل الواجب في الوقت عند فواته فنقول بأنه يجب لأن الشرع قد أقامه في الصوم والصلاة بمعنى معقول فيقاس عليهما غيرهما وقد خرج الجواب أيضا عن الجمعة وتكبيرات التشريق لأن سقوطهما للعجز لأن إقامة الخطبة مقام ركعتين غير مشروع للعبد في غير ذلك الوقت فبمضي الوقت يتحقق العجز فيه ويلزمه صلاة الظهر لأن مثلها مشروع للعبد بعد مضي الوقت وكذا الجهر بالتكبير دبر الصلوات غير مشروع للعبد في غير أيام التكبير بل هو منهي عنه لكونه بدعة فبمضي الوقت يتحقق الفوات فيه فيسقط كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه ولا يقال لما وجب القضاء في الصلاة والصوم بالنص إذ لولاه لما عرف وجوب القضاء كيف يستقيم قولكم القضاء بالأمر الذي يوجب الأداء لأنا نقول قد عرفنا بالنص الموجب للقضاء أن الواجب لم يكن سقط بخروج الوقت وأن هذا النص طلب لتفريغ الذمة عن ذلك الواجب بالمثل ولهذا سمي قضاء ولو وجب به ابتداء لما صح تسميته قضاء حقيقة وهذا كمن غصب شيئا وهلك عنده يجب الضمان لورود النصوص الموجبة له ولكنه يضاف إلى الغصب السابق الموجب للأداء وهو رد العين والنصوص لطلب التفريغ عن ذلك الواجب فكذا هنا قال الشيخ رحمه اللّه في شرح التقويم الفريق الآخر قالوا الفائت مضمون عليه لأنه واجب الأداء وما وجب أداؤه فات يصير مضمونا عليه كالمغصوب وإن لم يكن أداؤه واجبا وكانت أمانة عنده يضمن بالتفويت أيضا فثبت أنه صار مضمونا عليه عند الفوات وله مثل مشروع عنده مملوك له وهو النفل فإنه شرع عبادة بحكم الأمر وأداء المثل من عنده عن الفائت المضمون أمر ثابت بالكتاب والسنة والإجماع فلا يحتاج إلى أمر مبتدأ وهو الأصح قوله وبيان ذلك أي بيان الوجوب بذلك السبب في هذا أي في المنصوص عليه وهو الصوم والصلاة وهو معقول أي وجوب القضاء يدرك بالعقل وسقط فضل الوقت إلى كذا ضمن فيه معنى الانتهاء أي سقط منتهيا إلى غير مثل بأن لم يجب من (١/٢١١) جنسه وإلى غير ضمان بأن لم يجب من خلاف جنسه أيضا فإذا عقل هذا أي المعنى الذي ذكرنا في المنصوص وهو الصوم والصلاة وجب القياس به وهكذا الكلام يشير إلى أن ثمرة الاختلاف تظهر فيما ذكر من المنذورات المتعينة فعند العامة يجب قضاؤها بالقياس وعند الفريق الأول لا يجب لعدم ورود نص مقصود فيه ولكن ذكر أبو اليسر في أصوله أنه إذا نذر صوم هذا الشهر أو نذر أن يصلي في هذا اليوم أربع ركعات فمضى اليوم والشهر ولم يف فالقضاء واجب بالإجماع بين الفريقين ولكن على قول الفريق الأول بسبب آخر مقصود غير النذر وهو التفويت وعلى القول الآخر بالنذر واعلم أن التفويت إنما يوجب القضاء عندهم لأنه بمنزلة نص مقصود فكأنه إذا فوت فقد التزم المنذور ثانيا فعلى هذا إذا فات لا بالتفويت بأن مرض أو جن في الشهر المنذور صومه أو أغمي عليه في اليوم المنذور فيه الصلاة يجب أن لا يقضى عندهم لعدم النص المقصود صريحا أو دلالة فتظهر ثمرة الاختلاف ولكن ما ذكر شمس الأئمة أن وجوب القضاء بدليل آخر وهو تفويت الواجب عن الوقت على وجه هو معذور فيه أو غير معذور يشير إلى أن الفوات بمنزلة التفويت عندهم في إيجاب القضاء فحينئذ لا يظهر فائدة الاختلاف في الأحكام بين أصحابنا وإنما يظهر في التخريج قوله وهذا أقيس أي قول العامة أقرب إلى المعقول مما ذهب إليه الفريق الأول وأشبه بمسائل أصحابنا أي أوفق لها فإنهم قالوا إن قوما فاتتهم صلاة من صلوات الليل فقضوها بالنهار بالجماعة جهر إمامهم بالقراءة ولو فاتتهم صلاة من صلوات النهار فقضوها بالليل لم يجهر إمامهم بالقراءة ومن فاتته صلاة في السفر فقضاها في الحضر صلى ركعتين لو فاتته في الحضر فقضاها في السفر صلى أربعا كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه وفي اعتبار حالة وجوب الأداء دون وجوب القضاء دليل على أنه يجب بالسبب السابق ولا يلزم عليه ما إذا فاتته صلاة في المرض الذي يعجز فيه عن القيام والركوع والسجود فيقضيها في حالة الصحة أو على العكس حيث يعتبر فيه حالة القضاء لا حالة الأداء حتى وجب عليه القيام والركوع والسجود في الفصل الأول مع أن الأداء لم يجب بهذه الصفة ولم يجب عليه في الفصل الثاني مع أن الأداء وجب بهذه الصفة فهذا يدل على أنه وجب بدليل آخر كما قال الفريق الأول لأنا نقول السبب في حق الأداء انعقد في الفصلين موجبا للقيام والركوع والسجود باعتبار يوهم القدرة مجوزا للانتقال إلى الخلف وهو القعود أو الإيماء عند العجز إن اختار الفعل في هذه الحالة فكذلك عمله في حق القضاء من غير (١/٢١٢) تفاوت فإذا فاتته صلاة في حالة المرض أو الصحة فقد فاتته صلاة كاملة بقيام وركوع وسجود كان له فيها ولاية الانتقال إلى الخلف عند الفعل للعجز فإذا قضاها فهي بتلك الصفة بعينها فإن وجد شرط النقل في هذه الحالة كان له ذلك وإلا فلا كما في الأداء ألا ترى أنه لو افتتحها في الوقت قائما ثم حدث به عجز كان له أن يتمها قاعدا وبإيماء ولو افتتحها قاعدا ثم زال العجز كان له أن يتمها قائما فإذا ثبت الانتقال في الأداء فكذلك في القضاء وهذا كمن وجب عليه التيمم ثم قدر على الماء أو على العكس لا يجوز له التيمم في الفصل الأول ويجوز في الفصل الثاني لأن السبب انعقد موجبا للطهارة بالماء في الحالين لتوهم حدوث الماء مجوزا للانتقال إلى الخلف وهو التراب عند العجز فإن أقدم على الفعل حالة العجز كان له ولاية الانتقال إلى الخلف وإلا فلا فكذا هذا بخلاف السفر والحضر فإن السبب هناك قد تقرر موجبا للركعتين أو الأربع فلا يتغير ذلك في القضاء فإن قيل قد ذكرتم أن القضاء إنما يجب إذا كان قادرا على المثل وإلا سقط فينبغي أن لا يجهر الإمام في قضاء صلاة الليل إذا قضوها بالنهار لأن الجهر بالقراءة في نافلة النهار غير مشروع وكذا ينبغي أن لا يلزمه قضاء المغرب لأنه ليس له نافلة مشروعة على هيئة المغرب قلنا إنما يشترط لصحة القضاء كون النفل مشروعا من غير نظر إلى الكيفية والكمية فإنه يجب قضاء الظهر مع أن النفل لم يكن مشروعا على صفة الظهر ركعتان بقراءة وركعتان بغير قراءة وكذا لا يجوز التسليم على رأس الركعتين في قضاء الظهر ويجوز في النفل فعلم أن المعتبر ما قلنا كذا أورد شيخي في فوائد الجامع الكبير ناقلا عن أستاذه مولانا بدر الدين الكردي رحمهما اللّه وأجيب أيضا في جنس هذه المسائل بأن الشرع لما أمره بالقضاء على هذه الهيئة والصفة عرفنا أن له نفلا يصلح للصرف إلى ما عليه ولكن يظهر ذلك في ضمن فعل القضاء لا مطلقا كما أن له أن يعين أحد الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين ضرورة التخيير ولكن يثبت ذلك في ضمن الفعل لا أن يعينه بالقول ابتداء وكما أن للأب أن يمتلك جارية الابن ولكن في ضمن الفعل لا أن يمتلكها ابتداء ونظائره كثيرة قوله ولهذا قلنا أي ولما ذكرنا أن ما قدر عليه يجب ولا يسقط (١/٢١٣) بسقوط ما عجز عنه قلنا إذا فاتته صلاة في أيام التشريق وجب قضاؤها بلا تكبير أي في غير أيام التشريق والمسألة على أربعة أوجه إن تركها قبل أيام التشريق ثم قضاها في هذه الأيام لا يكبر وعن أبي يوسف أنه يكبر لأنه قدر على وجه الكمال فيلزمه كالمريض إذا فاتته صلاة بإيماء فقضاها في الصحة يقضيها بركوع وسجود وأنا نقول الجهر بالتكبير لم يشرع إلا مقدرا فلو كبر للفائتة يكون زيادة على ذلك المقدر وإن تركها في أيام التشريق فقضاها في غير أيام التشريق وهي مسألة الكتاب فإنه لا يكبر وقال الشافعي رحمه اللّه يكبر ليكون القضاء على حسب الفوات وأنا نقول الجهر بالتكبير بدعة إلا في زمان مخصوص فيبطل بفوته كرمي الجمار يسقط بانقضاء أيام النحر وكالجمعة وكالأضحية وصار كالصحيح إذا نسي صلاة فقضاها في المرض يقضيها بإيماء وإن قضاها في أيام التشريق من العام القابل وحده أو بجماعة لا يكبر أيضا لأن الزيادة على المشروع بدعة فأما إذا قضاها في هذه الأيام من هذه السنة بجماعة فإنه يكبر لأن وقت التكبير قائم ولو كبر لا يزيد على المشروع في هذه الأيام فيكبر ليكون القضاء على حسب الفوات كذا ذكر شمس الإسلام الأوزجندي في شرح الجامع وذكر الشيخ في شرح الجامع في هذه المسألة أنه إنما يكبر لأن التكبير جهرا مشروع فيها ويصلح أن يكون مشروعا في حق النوافل إلا أنه لم يؤد لفقد شرطه وهو الجماعة فظهر ذلك في حق الصرف إلى ما عليه لأنه مثل لما فات بجماعة وعندهما لم يكبر في النوافل احتياطا فظهر ذلك في حق ما عليه أيضا ولا يشترط الجماعة عندهما للتكبير كما في الأداء فإن قيل إنه قد عجز عن صفة الجهر لا غير لأن أصل التكبير مشروع فينبغي أن لا يسقط الأصل مع القدرة عليه بالعجز عن الوصف فيجب عليه التكبير خفية قلنا قد ذكرنا أن الوصف إذا كان مقصودا يسقط الأصل بفواته وههنا كذلك لأن التكبير في هذه الأيام من الشعائر وذلك يختص بصفة الجهر فيسقط بسقوطه لعدم حصول المقصود بالأصل بدون الوصف قوله ويتفرع عن هذا الأصل وهو أن القضاء يجب بما وجب به الأداء عند عامة مشايخنا وبنص مقصود عند آخرين مسألة النذر بالاعتكاف وهي أن يقول للّه علي أن أعتكف شهر رمضان أو أن أعتكف هذا الشهر سواء عينه باسمه العلمي أو بالإشارة فصامه (١/٢١٤) ولم يعتكف لزمه أن يقضي الاعتكاف متتابعا بصوم مبتدأ وعند الحسن بن زياد لا شيء عليه وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف وزفر رحمهم اللّه لأنه التزم اعتكافا بصوم لا أثر للاعتكاف في وجوبه ولا سبيل إلى قضائه في شهر آخر لأنه يلزمه بصوم للاعتكاف أثر في وجوبه فيزيد على ما التزمه فوجب أن يبطل وجه الظاهر على مذهب الفريق الأول هو أن القضاء إنما يجب بالتفويت ابتداء لا بالدليل الذي تعلق به الأصل والتفويت سبب مطلق عن الوقت أي لا يخص القضاء بوقت دون وقت كالأوامر المطلقة فصار كأنه قال بعد فوات الوقت للّه علي أن أعتكف شهرا متتابعا لأنا قد ذكرنا أن التفويت بمنزلة التنصيص ثانيا على الإيجاب فلذلك يلزمه الاعتكاف بصوم مقصود وأما الفريق الثاني فإنهم يقولون الواجب بالنذر بمنزلة الواجب بالأمر وذلك مضمون بالقضاء فكذلك هذا وإذا وجب صار من ضرورته إيجاب الفضل لأن تحمل الفضل أحق من إبطال الأصل فإن لم يقضه حتى جاء شهر رمضان من قابل فقضى فيه لم يجز عندنا خلافا لزفر رحمه اللّه لأن الصوم شرط الاعتكاف والشرط يعتبر وجوده تبعا لا وجوده قصدا كالطهارة ولهذا صح نذره بهذا الاعتكاف فكان كمن نذر أن يصلي ركعتين وهو متطهر يجوز له أن يصلي المنذور بتلك الطهارة فإن انتقض وضؤه يلزمه التوضؤ لأداء المنذور فإن توضأ لصلاة أخرى يجوز له أن يصلي المنذور بتلك الطهارة فكذا هذا ولنا أنه إذا لم يعتكف حتى وجب القضاء عليه صار التفويت بمنزلة نذر مطلق عن الوقت على القول الأول أو صار ذلك النذر مطلقا عن الوقت على القول الثاني فلا يتأدى بصوم رمضان وهذا لأن الصوم وإن كان شرطا ههنا لكنه مما يلتزم بالنذر بخلاف الطهارة لأنها مما لا يلتزم بالنذر أصلا ولما أثر النذر في إيجابه لا يتأدى بواجب آخر كذا في شرح الجامع للمصنف وشمس الإسلام رحمهما اللّه وإذا عرفت هذا فاعلم أن الفريق الأول استدلوا بهذه المسألة على صحة مذهبهم بوجهين أحدهما أنهم قالوا لو كان القضاء واجبا بالسبب الأول لكان ينبغي أن يبطل فيما إذا صام ولم يعتكف كما قال أبو يوسف رحمه اللّه لأن السبب الأول لا أثر له في إيجاب الصوم كما ذكرنا ولا يمكن إيجاب القضاء بلا صوم ولا يمكن إيجاب صوم بلا موجب فيبطل ولم يبطل باتفاق بيننا فعرفنا أنه وجب بسبب آخر أوجب الصوم (١/٢١٥) والثاني أنه لو كان واجبا بما وجب به الأداء وهو الأمر بالوفاء بالنذر لجاز قضاؤه في الرمضان الثاني كما قال زفر رحمه اللّه لأنه مثل الأول في كون الصوم مشروعا فيه مستحقا عليه وصحة أداء الاعتكاف به ومع هذا لم يجز فعرفنا أن وجوب القضاء غير مضاف إلى السبب الذي يجب به الأداء وفي قول الشيخ أنه يقضي اعتكافه ولا يجري في شهر رمضان الآخر إشارة إلى الوجهين والدليل على الوجهين واحد وهو أن التفويت بمنزلة نذر مطلق عن الوقت فلهذا لم يفصل بينهما وقوله لكنا نقول استدراك عما قالوا إنه يجب بالتفويت ولهذا ذكر كلمة الحصر أي لا يجب إلا بكذا في هذا أي في النذر بالقياس على ما قلنا من الصلاة والصوم لا بنص مقصود وهو التفويت وفيه إشارة إلى أن التفويت كنص مقصود عندهم في هذا الباب وهو النذر وإذا ثبت هذا أي عدم وجوب القضاء بنص مقصود بالدليل الذي ذكره لم يكن بد من إضافة وجوب القضاء إلى السبب الأول وهو النذر قوله ألا ترى أنه يجب بالفوات مرة استدلال على أنه لا يمكن إضافته إلى التفويت لأنه لو كان كذلك يلزم أن لا يجب في الفوات وذلك بأن جن أو أغمي عليه أو مرض حتى فاته المنذور لا باختياره إذ لا يمكن أن يجعل فوات المنذور حينئذ بمنزلة نذر ابتدائي لأنه لا بد فيه من كونه مختارا ولا اختيار في الفوات فلا يكون الفوات بمنزلة نص مقصود ولما وجب في الفوات كما وجب في التفويت يضاف إلى معنى يشملهما وهو السبب الأول وصورة الفوات في مسألة الاعتكاف بأن مرض مرضا لا يمنعه من الصوم ويمنعه من الاعتكاف بأن صار مبطونا أو نحوه قوله إلا أن الاعتكاف جواب سؤال يرد عليه وهو أنه لو كان مضافا إلى السبب الأول فكيف وجب زائدا على ما أوجبه السبب الأول مع أن الحكم لا يزيد على العلة فقال نعم إلا أن مطلق الاعتكاف الواجب من غير نظر إلى تقيده بوقت أو عدم تقيده به أو الاعتكاف الواجب الذي هو مطلق عن الوقت يقتضي صوما للاعتكاف أي للنذر الذي يوجبه أثر في إيجابه لأن الصوم شرطه وشرط الشيء تابع له وما لا يتوسل إلى الواجب إلا به يجب كوجوبه تبعا له وقيد بالواجب لأن في الاعتكاف النفل لا يشترط الصوم في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما اللّه أنه يشترط فيه الصوم أيضا لأن (١/٢١٦) الصوم فيه كالطهارة في الصلاة فعلى هذا لا يكون الاعتكاف النفل أقل من يوم وجه الظاهر أن مبنى النفل على المساهلة والمسامحة حتى يجوز صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على النزول والواجب لا يجوز قال محمد رحمه اللّه إذا دخل المسجد بنية الاعتكاف فهو معتكف ما أقام تارك له إذا خرج فيثبت أن الظاهر ما ذكرنا كذا في المبسوط غير أنه امتنع وجوب الصوم بوجوب هذا الاعتكاف بعارض على شرف الزوال وهو شرف الوقت وهو معنى قوله وإنما جاء هذا النقصان أي عدم اقتضاء الاعتكاف صوما له أثر في إيجابه بعارض شرف الوقت أي بتقيد الاعتكاف واتصاله بوقت شريف لا يقبل إيجاب الصوم من جهة العبد لشرفه أو معناه إنما لم يوجب هذا الاعتكاف صوما لأنه يضاف إلى شهر شريف فكان الاعتكاف فيه أفضل من غيره قال عليه السلام من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه فاكتفى فيه بصوم الشهر لإدراك هذه الفضيلة وما ثبت بشرف الوقت وهو زيادة فضيلة حصلت لهذا الاعتكاف بسبب شرف الوقت فقد فات بفوات الوقت أصلا لأنه لا يتمكن من اكتساب مثله إلا بإدراك العام القابل وذلك متردد لاستواء الحياة والممات في هذه المدة فلا يثبت به القدرة فسقط أي استدراك ما ثبت بشرف الوقت واكتساب مثله للعجز كما في الصوم والصلاة بعد خروج الوقت فبقي أي الاعتكاف مضمونا في الذمة بإطلاق الاعتكاف أي بإطلاق ما يوجب الاعتكاف وهو النذر السابق عن الوقت كالأمر بالصلاة بعد خروج الوقت ولما صار النذر بالاعتكاف مطلقا بزوال العارض وجب به الصوم المقصود ولم يتأد في الرمضان الثاني كما لو كان ذلك النذر مطلقا ابتداء لأنه يريد بذلك صرف الواجب إلى الواجب الآخر وليس له ذلك فصار الحاصل أن الفريق الأول جعلوا التفويت كالنذر المطلق والعامة جعلوا النذر السابق بعد زوال العارض كالنذر المطلق ولا يقال لما صار النذر السابق كالمطلق بعد زوال العارض حتى وجب به الصوم (١/٢١٧) المقصود لزم أن لا يتأدى بصوم القضاء فيما إذا لم يصم ولم يعتكف ثم اعتكف في قضاء الصوم متتابعا كما لو كان النذر مطلقا ابتداء لأنا نقول امتناع وجوب الصوم في هذا الاعتكاف يجوز أن يكون باعتبار شرف الوقت ويجوز أن يكون باعتبار اتصاله بصوم الشهر فإن زال شرف الوقت لم يزل الاتصال لبقاء الخلف فيجوز لبقاء إحدى العلتين قوله وكان هذا أحوط الوجهين قيل الوجهان إيجاب القضاء بالسبب الذي وجب به الأداء وإيجابه بسبب آخر مقصود والأول أحوط لأنه لو أضيف إلى سبب آخر يجب أن لا يلزم عليه القضاء عند الفوات والأول يوجب القضاء عند الفوات والتفويت جميعا فكان أولى والأولى أن يقال الوجهان إيجاب القضاء بصوم مقصود وإسقاطه بزوال الوقت لتعذر الاعتكاف بلا صوم وتعذر إيجاب الصوم بلا موجب كما قاله أبو يوسف رحمه اللّه فإيجاب القضاء أحوطهما لأن فيه إسقاط النقصان وإعادة الواجب إلى صفة الكمال بإيجاب تبعه لوجوبه وفي الوجه الآخر إسقاط أصل الواجب لتعذر إيجاب التبع وقد أمكن اعتبار هذا الوجه مع رعاية الأصل الذي مهدناه بالطريق الذي قلنا وبيان الإمكان أن الزيادة التي تثبت بسبب شرف الوقت للعبادة احتملت السقوط بزوال الوقت كما بينا في الصوم والصلاة فالنقصان وهو عدم وجوب الصوم به والرخصة الواقعة بالشرف وهي الاكتفاء بصوم الوقت لأن يحتمل السقوط والعود إلى الكمال أولى لأن الأول عود من الكمال إلى النقصان وهذا عود من النقصان إلى الكمال ومن الرخصة إلى العزيمة ولما عاد إلى الكمال لم يتأد في الرمضان الثاني وفي بعض النسخ والنقصان بالواو والنصب عطفا على السقوط وليس بمستقيم لأن السقوط حينئذ يرجع إلى الزيادة والنقصان يرجع إلى محل الزيادة وهو الصوم والصلاة فيختلف الضمير المستكن في احتمل فيختل الكلام ولأن السقوط في قوله لأن يحتمل السقوط راجع إلى النقصان والعود إلى الكمال راجع إلى الرخصة وفي عطف النقصان على السقوط إبطال هذه اللطيفة فكانت النسخة الأولى أولى قوله وفي غير المؤقتة كسجود التلاوة وأداء الزكاة وصدقة الفطر والكفارات أبدا أي في العمر لأن جميع العمر فيه بمنزلة الوقت فيما هو مؤقت وهذا على مذهب من قال الأمر المطلق لا يوجب الفور ظاهر وهو مذهب عامة أصحابنا وكذا على مذهب بعض القائلين بالفور لأن أول أوقات الإمكان وإن تعين عندهم إلا أن بفوته لا يصير قضاء (١/٢١٨) لأن معنى هذا الأمر افعل في الوقت الأول فإن أخرت ففي الثاني والثالث إلى آخر العمر فيكون أداء لا قضاء فأما عند الباقين منهم إذا فات عن أول أوقات الإمكان فإنه يصير قضاء لأن أول أزمنة الإمكان وقت مقدر كوقت الصلاة ولهذا من شرط منهم الأمر الجديد في القضاء شرطه ههنا كذا في الميزان وغيره على ما تبين من بعد يعني قبيل باب النهي والمحض منه أي الخالص الكامل من الأداء هو الذي يؤديه الإنسان ملتبسا بوصفه كما شرع مثل الصلاة بجماعة لأن هذه صلاة توفر عليها حقها من الواجبات والسنن والآداب لما بينا أن الأداء ينبئ عن الاستقصاء وشدة الرعاية وفيها ذلك وهذا في الصلاة التي سنت الجماعة فيها مثل المكتوبات والوتر في رمضان والتراويح فأما فيما لم تسن الجماعة فيه مثل عامة النوافل والوتر في غير رمضان فالجماعة فيها صفة قصور عندنا كالإصبع الزائدة فأداء فيه قصور لعدم وصفه المرغوب فيه شرعا وهو الجماعة فإن الصلاة بالجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة كما نطق به الحديث الجهر ساقط أي وجوبه والجهر صفة كمال في الصلاة بدليل وجوب السجدة بتركه ولما كان الأداء منقسما أقساما ثلاثة لأنه إما إن أديت الصلاة كلها مع الجماعة أو بعضها وذلك البعض إما إن كان أول الصلاة أو غيره أعاد قوله والشارع مع الإمام في الجماعة أي الذي شرع معه وأتمها معه مؤد أداء محضا أي كاملا ليبين القسمين الآخرين قوله والمسبوق ببعض الصلاة أي الذي فاته أول الصلاة مع الإمام بأن فاتته الركعة الأولى أو أكثر مؤد أيضا لأنه يؤديها في الوقت لكنه منفرد في أداء ما سبق به لأن الاقتداء لم يتحقق فيما فرغ الإمام من أدائه فكان أي المسبوق فيه مؤديا أداء قاصرا أو فعله أداء قاصرا ولكن فعله في القصور دون فعل المنفرد من وجهين أحدهما أن صفة الجماعة موجودة ههنا في البعض بخلاف المنفرد والثاني أنه وإن كان منفردا فيما سبق به حتى لزمه القراءة وسجود السهو لو سها فيه لكنه مقتد فيه باعتبار التحريمة لأنه أدركها مع الإمام وهي شيء واحد ولهذا لا يصح اقتداء الغير به فكان الذي صلى بغير إمام منفردا في الكل أداء وتحريمة والمسبوق منفردا في البعض أداء لا تحريمة فكان قصوره دون الأول بدرجتين (١/٢١٩) قوله ومن نام خلف الإمام ثم انتبه بعد فراغه أو أحدث أي صار محدثا وهو المسمى باللاحق أي الذي أدرك أول الصلاة وفاته الباقي مؤد أي باعتبار بقاء الوقت أداء يشبه القضاء باعتبار فوات ما التزمه من الأداء مع الإمام بفراغه ولما كانت الجهة مختلفة صح اجتماعهما في فعل واحد مع كونهما متنافيين وإنما جعلنا فعله أداء يشبه القضاء لا على العكس لأنه باعتبار أصل الفعل مؤد وباعتبار الوصف قاض والوصف تبع ثم من المعلوم أن القضاء يقوم مقام الأداء فكان هو في حكم المقتدي دون المنفرد حتى لا يلزمه القراءة وسجود السهو لو سها كالمقتدي وكان فعله في القصور دون فعل المسبوق لأنه مؤد باعتبار الوقت وقاض صفة الجماعة فيما فاته مع الإمام فكان أداؤه كاملا بعضه حقيقة وبعضه حكما يوضح ما ذكرنا ما قال محمد رحمه اللّه في أيمان الجامع لو قال عبدي حر إن صليت الجمعة مع الإمام فسبق فيها بركعة لم يحنث لأنه إنما صلى معه ركعة فأما الأخرى فلا لأن المسبوق منفرد لا إمام له ولو افتتح مع الإمام ثم نام حتى سلم الإمام ثم قام فصلى حنث لأن النائم الذي يقضي مثل ما انعقد له إحرام الإمام مقتد به كذا ذكر الشيخ في جامعه فإن قيل قد جعل صاحب الشرع المسبوق قاضيا بقوله وما فاتكم فاقضوا فكيف يستقيم جعله مؤديا قلنا قد بينا أن استعمال إحدى العبارتين مكان الأخرى مجازا جائز وإنما سمي المسبوق قاضيا مجازا لما فعله من إسقاط الواجب أو باعتبار حال الإمام وإليه أشار في قوله وما فاتكم ونحن إنما جعلناه مؤديا باعتبار حاله ويؤيده ما أورده الإمام محمد بن إسماعيل رحمه اللّه في الصحيح وما فاتكم فأتموا أشار إلى أكثر هذه اللطائف شمس الأئمة رحمه اللّه قوله ألا ترى أنهم أي المشايخ استدلال على شبه القضاء في الوقت حتى لو اقتدى به خارج الوقت لا يتغير بمغير بحال بالاتفاق ثم سبقه الحدث أي قبل فراغ الإمام (١/٢٢٠) ثم سبقه الحدث أي بعد الفراغ ضرورة فدخل في مصره في الصورتين بعد فراغ الإمام أو نوى الإقامة أي في موضع الإقامة والوقت باق إذ لو لم يكن باقيا يصلي ركعتين وإن تكلم بلا خلاف أنه يصلي ركعتين باعتبار معنى القضاء ولو تكلم أي هذا المسافر اللاحق بعد وجود المغير صلى أربعا لزوال شبه القضاء بالخروج عن التحريمة المشتركة وبقاء الوقت فيتغير فرضه وعكس هذه المسألة مسافر أحدث فانفتل ليأتي مصره فيتوضأ ثم علم أن أمامه ماء فإنه يتوضأ ويصلي أربعا فإن تكلم صلى ركعتين لأنه حين عزم على الانصراف إلى أهله فقد صار مقيما وبعدما صار مقيما في صلاة لا يصير مسافرا فيها لأن السفر عمل وحرمة الصلاة تمنعه من مباشرة العمل بخلاف الإقامة لأنها ترك السفر وحرمة الصلاة لا تمنعه عن ذلك فإذا تكلم فقد ارتفعت حرمة الصلاة وهو متوجه أمامه على عزم السفر فصار مسافرا كذا في المبسوط بعد أي بعد وجود المغير ولو تكلم أي هذا الرجل المسبوق فالحاصل أن المسبوق يصلي أربعا بعد وجود المغير سواء فرغ الإمام أو لم يفرغ تكلم أو لم يتكلم لأنه مؤد وكذا اللاحق إذا تكلم أو لم يفرغ إمامه فأما إذا فرغ إمامه ثم وجد المغير والوقت باق فإنه يصلي ركعتين عندنا وقال زفر رحمه اللّه يصلي أربعا لأنه إما أن يعتبر اللاحق بالمسبوق نظرا إلى انفراده حقيقة أو بالمقتدي نظرا إلى الاقتداء حكما والحكم في صلاتهما أنها تتغير بالمغير فكذا للاحق وأنا نقول اللاحق مع كونه مقتديا ليس بمؤد لأنه يستحيل أن يجعل مؤديا خلف الإمام ولا إمام له بل هو قاض شيئا فاته مع الإمام وجعل كأنه خلف الإمام في الحكم لأن العزيمة في حقه أن يؤدي مع الإمام لأنه مقتد لكن الشرع جوز الأداء بعد فراغ الإمام إذا فاته الأداء بعذر وجعل أداؤه في هذه الحالة كالأداء مع الإمام وهذا هو تفسير القضاء لأن معناه أن يؤدي شيئا بمثل ما وجب عليه قبل ذلك فصار اللاحق بمنزلة القاضي الحقيقي بعد الوقت فلا يؤثر في فعله نية الإقامة وهذا لأن المغير لم يتصل بالأصل لانقضائه فلم يتغير في نفسه فلا يتغير ما بنى عليه وهو القضاء بخلاف المسبوق فإنه منفرد مؤد شيئا عليه في الحال وكذا الذي خلف الإمام حقيقة لأنه مؤد في الحال فيجوز أن تعمل نية الإقامة في تغير صلاته وصلاته (١/٢٢١) محتملة للتغير مع وصف التبعية بدليل أنه يجوز أن يكون صلاته على خلاف وصف صلاة الإمام في الابتداء فجاز في البقاء ولأنه منفرد فيما سبق وأثر التغير يظهر فيه وهو ليس بتابع فيه كذا في مبسوط الشيخ رحمه اللّه فإن قيل نية الإمام إنما لم تعتبر لخروجه عن حرمة الصلاة فأما المقتدي فهو في حرمة الصلاة فيكون نيته معتبرة قلنا المقتدي تبع فيجعل كالخارج من الصلاة حكما بخروج إمامه منها كذا في مبسوط شمس الأئمة رحمه اللّه قوله وأصل ذلك استدل أولا بالحكم على صحة المذهب ثم بين المعنى فيه فقال وأصل ذلك أي أصل ما ادعينا من شبه القضاء في فعل اللاحق أن هذا أي اللاحق وقوله كأنه خلف الإمام لا أنه في الحقيقة خلف الإمام نفي لقول زفر رحمه اللّه فإنه جعله مؤديا خلف الإمام حقيقة حيث جعل اللاحق والمؤدي خلف الإمام سواء كما بينا فصار أي اللاحق قاضيا لما انعقد له إحرام الإمام بمثله الباء تتعلق بقاضي والضمير عائد إلى ما وفي هذه العبارة نوع تسامح لأنه لا يقضي ما انعقد له إحرام الإمام وإنما يقضي ما انعقد له إحرام نفسه من المتابعة والمشاركة معه في الفعل الذي فاته بفراغ الإمام إلا أن المتابعة والمشاركة لما لم تتحقق بدون فعل الإمام جعل فعل الإمام أصلا فما لم يتغير الأصل أي ما دام الأصل وهو الأداء لا يقبل التغير لا يتغير المثل لأن القضاء خلف الأداء والخلف لا يفارق الأصل وقد تم هنا بيان الأصل ثم شرع في ترتيب الفروع المذكورة عليه فقال فإذا لم يفرغ الإمام وقد وجد المغير في صلاة المقتدي تمت صلاته لعدم المانع للمغير من العمل لقبول الأصل التغير لأنه مؤد من كل وجه فاعتراض المغير يؤثر فيه قوله بخلاف المسبوق متصل بقوله ثم وجد المغير أو بقوله فإذا لم يتغير الأداء لم يتغير القضاء وإنما قال أيضا لئلا يتوهم أن (١/٢٢٢) مسألة المسبوق تخالف مسألة التكلم لأن ظاهر الكلام يقتضي ذلك لولاه فقوله أيضا يدل على أن مسألة التكلم توافق مسألة المسبوق وأنهما تخالفان مسألة اللاحق فعلى هذا لو قيل وبخلاف بالواو لاستقام المعنى كما استقام بدونها وكان عطفا على مسألة التكلم من حيث المعنى والتقدير بخلاف ما إذا تكلم وبخلاف المسبوق أيضا قوله وأما القضاء فنوعان أي القضاء الخالص نوعان فأما الذي شابه معنى الأداء فقسم آخر أو معناه أن القضاء بالنظر إلى كون المثل معقولا وغير معقول نوعان فيدخل فيه جميع أقسامه لأن القضاء الذي فيه معنى الأداء لا يخلو من أن يكون قضاء بمثل معقول أو غير معقول ثم تقسيمه بالنظر إلى خلوصه وعدم خلوصه لا يضر بالتقسيم الأول كما أن اللفظ يقسم على اسم وفعل وحرف بالنظر إلى معنى ثم يقسم إلى مفرد ومركب بالنظر إلى معنى آخر ولا يضر ذلك بالتقسيم الأول فكذا هذا وتقدير الكلام أما القضاء فنوعان قضاء بمثل معقول وقضاء بمثل غير معقول أما القضاء إلى آخره وإنما اختصر اعتمادا على ما ذكره في أول الباب قوله فمثل الفدية في باب الصوم فإنها شرعت خلفا عن الصوم عند العجز المستدام عن الصوم لعجز الشيخ الفاني ومن بحاله والفدية والفداء البدل الذي يتلخص به عن مكروه توجه إليه قوله وثواب النفقة أي الإنفاق في الحج بإحجاج النائب واعلم أن الإحجاج عن الغير جائز ولكنه في الحج الفرض مشروط بالعجز الدائم حتى جاز عن الميت وعن المريض الذي لا يستطيع الحج إذا لم يزل مريضا حتى مات فإن صح فعليه حجة الإسلام والمؤدى تطوع لأنا عرفنا جوازه بحديث الخثعمية وقد ورد في عجز الشيخوخة وأنها دائمة لازمة ولأنه فرض العمر فيعتبر فيه عجز يستغرق بقية العمر ليقع به اليأس عن الأداء بالبدن وفي التطوع ليس بمشروط بالعجز حتى إن صحيح البدن إذا أحج بماله رجلا على سبيل التطوع عنه يجوز لأن مبنى التطوع على التوسع ثم المتأخرون من أصحابنا اختلفوا في هذه المسألة فقال عامتهم للآمر ثواب النفقة ويسقط الواجب عن الآمر فأما الحج فيقع (١/٢٢٣) عن المأمور وهو رواية عن محمد رحمه اللّه لأن الحج عبادة بدنية ولا تجري النيابة في أداء العبادات البدنية ولكن له ثواب الإنفاق لأنه فعله فيثاب عليه وإنما يسقط عن الآمر الحج إما لأن الإنفاق سبب وإقامة السبب مقام المسبب أصل في الشرع أو لأن الواجب عليه إنفاق المال في طريق الحج وأداء الحج فإذا عجز عن أداء الحج بقي عليه مقدار ما يقدر عليه وهو إنفاق المال في طريق الحج فيلزمه دفع المال لينفقه الحاج في الطريق والدليل عليه أنه يشترط أهلية النائب لصحة الأفعال حتى لو أمر ذميا لا يجوز ولو كان الفعل ينتقل إلى الآمر لشرط أهليته لا أهلية النائب كما في الزكاة ولا يقال لما لم تجر النيابة في الأفعال ووقعت عن نفسه لزم أن يسقط عن المأمور فرض الحج بهذه الأفعال لأنا نقول فرض الحج لا يتأدى إلا بنية الفرض أو بمطلق النية ولم يوجد وإنما وجدت النية عن الآمر وقال بعضهم الحج يقع عن الآمر وهو اختيار شمس الأئمة في المبسوط وهو ظاهر المذهب لأن ظواهر الأخبار في هذا الباب تشهد به فإنه عليه السلام قال لسائلة حجي عن أبيك واعتمري وقال رجل يا رسول اللّه إن أبي مات ولم يحج أفيجزئني أن أحج عنه فقال نعم وحديث الخثعمية في هذا الباب مشهور على ما سنذكره فدل أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه ولهذا يشترط الحج عنه ولو نوى الحج لنفسه يصير ضامنا يوضحه أن الواجب عليه الفعل لا الإنفاق بدليل أنه لو حج من غير أن ينفق من ماله يسقط عنه الفرض ولو أنفق في الطريق ولم يحج لا يسقط فثبت أن النيابة في الفعل وإذا ثبت هذا قلنا قوله وثواب النفقة في الحج بإحجاج النائب إنما يصح على المذهب الأول لا على المذهب الثاني لأن الفعل فيه أقيم مقام الفعل لا الإنفاق ثم على هذا المذهب بيان أن المماثلة بين الفعل والفعل غير معقولة مع كونها معقولة ظاهرا أن يقال إنما جعل فعل نفسه مثلا لفعل نفسه في قضاء الصلاة والصوم لحصول المشقة وإتعاب النفس في الفعل الثاني كحصولها في الفعل الأول فأما فعل الغير فلا يحصل به المشقة له فكيف يكون مثلا لفعل نفسه ألا ترى أنه لا مدخل للقياس فيه حتى لم تجز أن يقضي الابن صلاة أبيه ولا صيامه بأمره وبغير أمره ولو كانت المثلية معقولة بينهما لجاز إثباته بالقياس كما في المنذورات المتعينة قوله لا صورة ولا معنى أما عدمها صورة فظاهر وأما معنى فلأن معنى الصوم (١/٢٢٤) إتعاب النفس بالكف عن قضاء الشهوتين ومعنى الفدية تنقيص المال ودفع حاجة الغير فلم يكن الفدية مثلا للصوم قياسا أي رأيا وفي قوله لأنا لا نعقل المماثلة لطف ورعاية أدب ليس ذلك في قوله فيما بعده وكذلك ليس بين أفعال الحج ونفقة الإحجاج مماثلة بوجه يعرف ذلك بالذوق وإنما جاء التفرقة من قبل أنه قد قيل إن بين الفدية والصوم مماثلة وهي أنه لما صرف طعام يوم إلى مسكين فقد منع النفس عن الارتفاق بذلك الطعام فكأنه لم يوصل إلى نفسه حظها من الطعام يوما وهذا معنى الصوم ولم يقل المماثلة بوجه عن أحد بين الإنفاق وأفعال الحج فكأن الشيخ نظر إلى ذلك المعنى ونفاه بألطف عبارة وقوله لكنا استدراك من حيث المعنى يعني لما لم يكن الفدية مثلا معقولا للصوم وكذا الإنفاق للحج لا يجوز إثباته بالرأي لكنا جوزناه أي المذكور وهو الفدية بالنص قوله قال اللّه تعالى وعلى الذين يطيقونه أي وعلى المطيقين الذين لا عذر لهم إن أفطروا فدية طعام مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره عندنا وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية وقرأ ابن عباس يطوقونه ويطيقونه أي يكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز وحكم هؤلاء الإفطار والفدية وهو على هذا الوجه غير منسوخ ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه أي يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم كذا في الكشاف وذكر في التيسير وفي قراءة ابن عباس رضي اللّه عنهما وعلى الذين يطوقونه أي يكلفونه فلا يطيقونه وفي قراءة حفصة رضي اللّه عنها وعلى الذين لا يطيقونه وقيل هو الشيخ الفاني فعلى هذا لا يكون منسوخا فإنه حكم ثابت مجمع عليه قوله وهذا مختصر أي قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه أو وهذا النص مختصر أي حذف عنه حرف لا كما في قوله تعالى يبين اللّه لكم أن تضلوا بالإجماع أي بإجماع القائلين بأنه غير منسوخ أو معناه بدلالة الإجماع فإن حكم الشيخ الفاني ومن بمعناه مجمع عليه وهو مستفاد من الكتاب ولا يستفاد منه بدون حرف لا فيكون محذوفا لا محالة فيكون النص مختصرا ضرورة ويمكن أن يجري على ظاهره أي هذا النص مختصر بالإجماع أما عند من جعله غير منسوخ فلما ذكرنا وأما عند من جعله منسوخا فلأن التقدير عنده وعلى الذين يطيقون الصوم فلا يصومون فعليهم فدية ولما ثبت أنه مختصر لا يمكن العمل بظاهره رجحنا ما ذكرنا بقراءة ابن عباس وحفصة رضي اللّه عنهم (١/٢٢٥) قوله وثبت أي قيام الإنفاق مقام الأفعال في الحج بحديث الخثعمية وهي أسماء بنت عميس من المهاجرات والحديث مذكور في الكتاب وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن امرأة من خثعم قالت يا رسول اللّه إن فريضة اللّه على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم قال وقال رجل إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه السلام لو كان عليها دين أكنت قاضيه قال نعم فاقض اللّه فهو أحق بالقضاء كذا في المصابيح لا يستمسك على الراحلة أي لا يقدر على إمساك نفسه عليها وضبطها والثبات عليه أفيجزئني بالهمز أي يكفيني عما وجب في ذمته أن أحج عنه بفتح الهمزة وضم الحاء أي أحرم عنه بنفسي وأؤدي الأفعال عنه وهذا هو المشهور من الرواية وعلى هذا الوجه لا دلالة في الحديث على أن الإنفاق قائم مقام الأفعال فلا يستقيم التمسك به في هذه المسألة إلا أن يثبت أن أباها كان أمرها بذلك وأنفق عليها وفي بعض النسخ أن أحج بضم الهمزة وكسر الحاء أي آمر أحدا أن يحج عنه وعلى هذا الوجه صح التمسك به أرأيت أي أخبريني وكان هذا اللفظ للنظر ثم صار للإخبار وذلك أن العرب إذا لم يجدوا الضالة يقولون لكل من يرونه أرأيت ضالة كذا أي أخبرني عنها أما كان يقبل منك وفي عامة الكتب من المبسوط وغيره أكان يقبل بدون كلمة ما وهذا هو الصحيح لأن نعم لا يستقيم جوابا للمذكور ههنا لأنه لتصديق ما سبق من الكلام نفيا كان أو إثباتا فيصير تقدير المذكور ههنا نعم لا يقبل فيفسد المعنى بل جوابه بلى لأنه لتحقيق ما بعد النفي لكنه يستقيم جوابا للمذكور في عامة الكتب فتبين أنه هو الصحيح ورأيت في الأسرار في حديث الخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما كان يجوز قالت بلى قال فدين اللّه أحق ومعنى قوله أحق أي بالقبول لأنه أكرم الأكرمين فأولى بكرمه وأجدر برأفته أن يقبل منه حالة العجز فعل الغير أو الإنفاق الذي لا يقدر إلا عليه ويؤيده رواية المبسوط اللّه أحق أن يقبل وقيل معناه فدين اللّه أولى بالقضاء ويؤيده رواية المصابيح وفي بعض النسخ فقضيتيه بالياء ذلك بطريق الإشباع لكسرة التاء وهو جائز في لغة حمير قال شاعرهم يا أم عمرو لم ولدتيه معمما بالكبر والتيه ليتك إذ جئت به هكذا كما بذرتيه أكلتيه (١/٢٢٦) كذا في الجوامع الجمادية قيل وفي حديث الخثعمية دليل على أن أباها كان أمرها بالحج حيث قاس رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قبول الحج بالأداء من الغير بقبول الدين بالأداء من الغير وإنما يجب ويتحقق قبول الدين بالأداء من الغير إذا كان ذلك الأداء بأمر المديون لأن رب الدين إن امتنع فيه عن القبول يجبر عليه فأما إذا كان بغير أمر منه فرب الدين بالخيار في القبول فلا يتحقق القبول فهذا يدل على أن ذلك كان بالأمر والظاهر أنه عليه السلام قاس على العادة الفاشية بين الناس أنهم يقبلون ديونهم من أي وجه تصل إليهم من المديون أو غيره تبرعا أو غير تبرع نظرا منهم إلى حصول المقصود وهذا لا يدل على الأمر بوجه قوله ولهذا قلنا متصل بما اتصل به الاستدراك في قوله ولكنا جوزناه بالنص أي ولعدم تصرف الرأي فيما لا ندركه قلنا إن ما لا يدرك بالعقل مثله ولم يرد فيه نص يسقط لأن إيجاب المثل متوقف إما على إدراك العقل ليمكن إيجابه بالسبب الأول أو على السمع فإذا لم يوجد واحد منهما فلا وجه إلا الإسقاط كترك الاعتدال في أركان الصلاة لا يضمن بشيء سوى الإثم لأنه ليس لذلك الوصف منفردا عن الأصل مثل عقلا ولا نصا وقوله يتغير احتراز عن نقصان الركن نفسه من الصلاة فإن قوله نقص الصلاة في أركانها يحتمل ذلك قوله ولهذا أي ولما ذكرنا أن ما لا يعقل مثله ولا نص فيه يسقط قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللّه إذا أدى خمسة زيوفا في الزكاة مكان خمسة جياد يجوز أن يسقط عنه الواجب ولكنه يكره لقوله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون الآية ولا يضمن شيئا بمقابلة الجودة لأن المؤدى قد صح ولزم حتى لا يملك أحدهما الفسخ لصيرورته صدقة وليس للوصف الذي تحقق فيه الفوات منفردا مثل صورة وهو ظاهر ولا معنى لأنها لا تتقوم عند المقابلة بجنسها فيسقط أصلا ألا ترى أنه لو أدى أربعة جيادا عن خمسة زيوف لا يصح إلا عن أربعة عندنا خلافا لزفر رحمه اللّه وكذا لو كان له إبريق فضة وزنه مائة وخمسون وقيمته لصياغته مائتان وقد حال عليه الحول لا تجب فيه الزكاة لسقوط اعتبار الجودة في هذه الأموال عند المقابلة بجنسها ولا معنى لقوله من قال سقوط اعتبار الجودة للربا ولا ربا بين العبد وسيده لأنا نقول إن اللّه تعالى عامل عباده معاملة المكاتبين أو الأحرار فإنه تعالى استقرضهم (١/٢٢٧) وملكهم والربا يجري بين المولى ومكاتبه ألا ترى إلى ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال في صوم يوم الشك أنه تعالى نهى عن الربا أفيقبل منكم واحتاط محمد رحمه اللّه في ذلك الباب أي باب العبادة فقال عليه أن يؤدي فضل ما بينهما ووجهه أن الجودة متقومة من وجه فإنها تتقوم في الغصوب وفي تصرف المريض حتى لو حابى بها بأن باع قلبا وزنه عشرة وقيمته عشرون بعشرة لم تسلم المحابات للمشتري وكذا في تصرف الوصي حتى لو باع درهما جيدا من مال اليتيم بدرهم رديء لا يجوز وغير متقومة من وجه فوجب الاحتياط في حق اللّه تعالى ألا ترى أن ما لا عبرة به أصلا وهو تغير السعر إلى الزيادة اعتبر في ضمان حق اللّه تعالى حقا قيل إن من أخذ صيدا من الحرم فأخرجه ثم تغير سعره إلى زيادة ثم هلك أنه يضمن الزيادة احتياطا فهذا أولى كذا في شرح الجامع للمصنف وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه في شرحه للجامع أن الجودة إنما سقطت في حكم الربا في حق العاقدين ليتحقق المماثلة التي هي شرط جواز البيع فأما في حق غير العاقد كالوارث والصغير فلا لعدم الحاجة إليه لأنه لا يؤدي إلى الربا ثم اعتبار الجودة في حق الفقير يؤدي إلى الربا وجه دون وجه فمن حيث إن الفقير بما يأخذ من الغني لا يملك منه مقدار الواجب إذ قدر الواجب قبل الأخذ لم يكن ملكا للفقير حتى يصير مملكا إياه صاحب المال بما يأخذ بل يأخذ صلة لا يؤدي إلى الربا ومن حيث إنه تعلق بالواجب حق الفقير إن لم يصر ملكا له حتى صار صاحب المال ضامنا بالاستهلاك والحق ملحق بالحقيقة يتحقق فيه الربا لأنه يصير مملكا الواجب منه بما يأخذ من صاحب المال فإذا تردد بين الأمرين قلنا متى كان في اعتبار جهة الربا منفعة للفقير فإنها تعتبر كما إذا أدى أربعة جيادا عن خمسة زيوف لا يجوز ومتى كان في اعتبار الربا ضرر في حقه لا يعتبر كما في مسألتنا فإنه لو اعتبر لا يسلم الدراهم الزائدة واللّه أعلم قوله ولهذا أي ولعدم المثل عقلا ونصا قلنا إن رمي الجمار وأخواته لا يقضى فإن قيل كيف يستقيم هذا وقد أوجبتم الدم عليه باعتبار ترك الرمي قلنا إيجاب الدم عليه ليس بطريق أنه مثل للرمي قائم مقامه بل لأنه جبر لنقصان (١/٢٢٨) تمكن في نسكه بترك الرمي كسجود السهو في الصلاة وجب جبرا لنقصان لا قضاء بما فاته ألا ترى أنه يجب أيضا إذا أراد في الصلاة من جنسها وفي الزيادة لا يتصور القضاء كذا هذا ولما ذكر الشيخ أن لا مدخل للرأي فيما ليس له مثل معقول ولزم عليه إيجاب الفدية في الصلاة تعرض لذلك فقال فإن قيل إذا ثبت أي وجوب الفدية عند اليأس غير معقول المعنى فلم أوجبتم الفدية في الصلاة بلا نص يوجب ذلك قياسا على الصوم من غير معنى يعقل وقوله بلا نص حال عن الفدية أي أوجبتموها حال كونها غير منصوصة قلنا نحن لا نعدي ذلك الحكم بالقياس ولا نوجبه حتما لكنا نقول يحتمل أن يكون إيجاب الفدية في الصوم بناء على معنى معقول وإن كنا لا نقف عليه والصلاة نظير الصوم من حيث إن كل واحد منهما عبادة بدنية محضة لا تعلق لوجوبهما ولا لأدائهما بالمال بل أهم منه لأنها عبادة لذاتها لكونها تعظيم اللّه تعالى والصوم عبادة بواسطة قهر النفس على ما يعرف بعد إن شاء اللّه تعالى فإذا وجب تدارك الصوم عند العجز بالفدية فالصلاة بالتدارك أولى يحتمل أن لا يكون معقولا وما لا ندركه لا يلزمنا العمل به فلا يجب علينا العمل بذلك الاحتمال لمعارضة الاحتمال الثاني إياه لكن وجوب الفدية في الصوم لما احتمل الوجهين المذكورين أمرناه بالفدية في الصلاة بناء على الوجه الأول على سبيل الاحتياط فلئن كان هذا الحكم في الصلاة مشروعا فقد صار مؤدى وإلا فليس به بأس لأنه ح يكون برا مبتدأ يصلح ماحيا للسيئات فتبين أن إيجاب الفدية في الصلاة بهذا الطريق لا بالقياس ولهذا لم يحكم بجواز الفداء في الصلاة مثل حكمنا بجوازه في الصوم لأنا حكمنا بجوازه في الصوم قطعا لكونه منصوصا عليه فيه ورجونا القبول أي الجواز في الصلاة فضلا فإن محمدا رحمه اللّه قال في الزيادات في هذا أي في فداء الصلاة يجزيه إن شاء اللّه كما قال يجزيه إن شاء اللّه في فداء الصوم فيما إذا تطوع به الوارث بأن مات من عليه الصوم من غير قضاء ولا إيصاء بالفدية ولو كان ثابتا بالقياس لما احتاج إلى إلحاق الاستثناء به كما في سائر الأحكام الثابتة بالقياس ولا يقال لما كانت الصلاة مثل الصوم أو أهم منه يلزم أن يثبت الحكم فيه بالدلالة وإن كان غير معقول المعنى كما يثبت الحكم في الأكل والشرب بطريق الدلالة بالنص الوارد في الجماع وإن كان غير (١/٢٢٩) معقول المعنى حتى لم يكن للقياس فيه مدخل لأنا نقول لا بد في الدلالة من كون المعنى المؤثر في الحكم معلوما سواء كان التأثير في ذلك الحكم معقولا كالإيذاء في التأفيف أو غير معقول كالجناية على الصوم في إيجاب الكفارة المكيفة المقدرة وها هنا المعنى الذي هو المؤثر في إيجاب الفدية غير معلوم فلا يمكن إثباته بالدلالة كما لا يمكن بالقياس ثم إذا مات وعليه صلوات يطعم عنه لكل صلاة نصف صاع من حنطة أو صاع من غيرها وكان محمد بن مقاتل يقول أو لا يطعم عنه لكل يوم نصف صاع على قياس الصوم ثم رجع فقال كل صلاة فرض على حدة بمنزلة صوم يوم وهو الصحيح كذا في المبسوط وغيره وهذا إذا أوصى بالفدية عن الصلاة فإن لم يوص وتبرع بها الوارث قيل لا يسقط الصلوات عن الميت لأن الاختيار فيه معدوم أصلا ولأنه أدنى رتبة من الإيصاء فيحكم فيه بعدم الجواز إظهارا لانحطاط رتبته كما فعل كذلك في الصوم وقيل تسقط عنه إن شاء اللّه تعالى كما في الإيصاء لأن دليل الجواز وهو الرجاء إلى فضل اللّه وكرمه يشمل الإيصاء والتبرع جميعا يوضحه ذكر في النوازل سئل أبو القاسم عن امرأة ماتت وقد فاتتها صلوات عشر أشهر ولم تترك مالا فقال لو استقرض ورثتها قفيز حنطة ودفعوها إلى مسكين ثم يهبها المسكين لبعض ورثتها يتصدق بها على المسكين فلم يزل يفعل كذلك حتى يتم لكل صلاة نصف صاع أجزأ ذلك عنها فتبين بهذا أن التبرع فيه كالإيصاء وقد لزم الشيخ مسألة أخرى فتصدى لها أيضا فقال فإن قيل لا مثل للأضحية عقلا ولا نصا وقد أوجبتم بعد فوات وقتها التصدق بالعين فيما إذا كانت الشاة التي عينت للتضحية بالنذر أو بالشراء الصادر من الفقير بنية الأضحية باقية بعد أيام النحر فإنه يلزمه التصدق بعينها حية أو بالقيمة فيما إذا استهلكت الشاة المعينة للتضحية بالنذر أو غيره أو كان غنيا ولم يضح أصلا حتى مضت أيام النحر فإنه يلزمه التصدق بالقيمة كذا في الإيضاح والمبسوط قلنا لأن التضحية ثبتت قربة بالنص وهو قوله تعالى والبدن (١/٢٣٠) جعلناها لكم من شعائر اللّه وقوله عليه السلام ضحوا وغير ذلك واحتمل أن يكون التصدق أصلا في باب التضحية لأنه هو المشروع في باب المال كما في سائر العبادات المالية من الزكاة وصدقة الفطر لأن معنى العبادة وهو مخالفة هوى النفس بإزالة المحبوب من يده يحصل به إلا أن الشرع أي الشارع نقل القربة من تمليك عينها أو قيمتها إلى الإراقة في أيام النحر لأجل تطبيب الطعام لأن الناس أضياف اللّه تعالى يوم العيد ولهذا كره الأكل قبل الصلاة ليكون أول ما يتناولون من طعام الضيافة ومن عادة الكريم أن يضيف بأطيب ما عنده ومال الصدقة يصير من الأوساخ لإزالته الذنوب بمنزلة الماء المستعمل وإليه أشار اللّه تعالى في قوله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ولهذا حرم على النبي عليه السلام وعلى من التحق به نسبا لكرامتهم وعلى الغني لعدم حاجته فلا يليق بالكريم المطلق الغني على الحقيقة أن يضيف عباده بالطعام الخبيث فنقل القربة من عين الشاة إلى الإراقة لينتقل الخبث إلى الدماء فتبقى اللحوم طيبة فيتحقق معنى الضيافة في هذه الأيام باستواء الغني والفقير فيه إلا أنه مع ما بينا يحتمل أن يكون معنى التضحية أصلا دون التصدق فلم يعتبر بهذا الموهوم وهو التصدق في معارضة المنصوص المتيقن به وهو التضحية فإذا فات المتيقن بفوات وقته وجب العمل بالموهوم وهو التصدق مع الاحتمال أي احتمال أن لا يكون معتبرا احتياطا أيضا يعني كما قلنا بوجوب الفدية في الصلاة احتياطا وحاصل الجواب أنا أوجبنا التصدق باعتبار كونه أصلا لا باعتبار كونه مثلا لها قوله وهو أي فعل التضحية أو الذبح نقصان في المالية إلى قوله في الهبة معترض فنبين المسألة أولا ثم نكشف الغرض عن إيرادها فنقول إذا وهب شاة لرجل فضحى الموهوب له بها لم يكن للواهب أن يرجع فيها في قول أبي يوسف وقال محمد له أن يرجع فيها ويجزيه الأضحية وقال أبو حنيفة مع أبي يوسف رحمهما اللّه وجه قول (١/٢٣١) محمد رحمه اللّه أن ملك الموهوب له لم يزل عن العين والذبح نقصان فيها فلا يمنع الرجوع فيما بقي كشاة القصاب وهذا لأن القربة لم تقع بعين الشاة بل بالإراقة بدليل أن ما أديت به القربة لا يجوز أن يبقى على ملكه والمذبوح باق على ملكه يأكله ويضمن له مستهلكه ويورث عنه ويبيعه فيجوز إلا أنه يتصدق بثمنه وذلك لا يدل على عدم الملك فإن الأملاك الخبيثة سبيلها التصدق بها مع قيام الملك وإذا ثبت أن أداء القربة لم يقع إلا بالإراقة بقي الحكم فيما وراء الدم على ما لو ذبح لا للأضحية والرجوع فيها لا يغير حكم الإراقة لأن الفائت لا يعمل فيه الفسخ ونظيره وهب شاتين فضحى بأحديهما وأكلها ثم رجع في الأخرى أو ذبح شاة الهبة وباع جلدها ورجع الواهب فيما بقي لا يبطل البيع ولأبي يوسف رحمه اللّه أن القربة كما يتأدى بالدم يتأدى بأجزاء الشاة بدليل أن سلامتها معتبرة للجواز ابتداء وبعد الذبح لو باع شيئا منها يتصدق بثمنه لمكان أنه بقي قربة فيجب صرفه إلى حيث لا يبطل به حق اللّه عز وجل ولو لم يتعلق معنى القربة بما بقي لبقي على حكم سائر الأغنام فتأدى القربة بإراقة الدم وبإبطال حق التمول من الباقي فلذلك لم يبطل أصل الملك لأن القربة لم تتأد به وإذا كان كذلك لم يصح الرجوع لأنه يبطل ما أدى من القربة بالعين ألا ترى أنه يصير بعد الرجوع مالا يتمول كسائر الأموال كذا في الأسرار فمحمد رحمه اللّه عد سقوط التمول نقصا فيه لا باعتبار ظهور معنى القربة فيه ونحن اعتبرناه أثر القربة ثم الغرض من إيراد هذه المسألة في أثناء الكلام أن معنى التصدق في النقل إلى التضحية حاصل أيضا من وجه لأن التصدق تنقيص المال بإيصال منفعته إلى الفقير والتضحية تنقيص المال بالإراقة أو التنقيص مع إزالة التمول عن الباقي فيكون بينهما نوع مماثلة قال المصنف رحمه اللّه في شرح التقويم إن اللّه تعالى نقل القربة من التمليك إلى الإراقة فثبت المماثلة بينهما شرعا من حيث إن اللّه تعالى أقام الإراقة مقام التمليك وفيه شبهة المماثلة فإن محمدا قال القربة لا تتم إلا بالتمليك حتى لو وهب شاة فضحى الموهوب لا ينقطع حق الواهب قبل التمليك فدل أن القربة لا تتم إلا بالتمليك فإذا كان بينهما مماثلة من هذا الوجه فإذا ذهب وقت التضحية وجب التمليك بالشاة أو القيمة لأنه مثل من حيث إن الشرع أقام أحدهما مقام الآخر (١/٢٣٢) وقوله إلا أنه يحتمل جواب سؤال وهو أن يقال لما ثبت أصالة التصدق في التضحية بما ذكرتم والنقل إلى الإراقة لمعنى الضيافة ينبغي أن يخرج عن العهدة بالتصدق في أيام النحر أيضا كمن وجب عليه الجمعة لو صلى الظهر في منزله يخرج عن العهدة وإن كان مأمورا بأداء الجمعة لكون الظهر أصلا فأجاب وقال يحتمل أن يكون إراقة الدم أصلا من غير اعتبار معنى التصدق وهي واجبة بالنص في هذه الأيام فلا يعتبر الموهوم في مقابلته بخلاف صلاة الظهر فإن أصالتها ثبت بالنص أيضا كوجوب الجمعة فيجوز أن تقابل الجمعة قوله والدليل على أنه أي وجوب التصدق كان بهذا الطريق وهو احتمال كونه أصلا في التضحية لا أنه مثل للأضحية غير معقول كالفدية للصوم أنه إذا جاء القابل أي أيام النحر منه لم ينتقل الحكم إلى الأضحية والحال أن هذا وقت يقدر فيه على مثل الأصل أي على مثل أصل الواجب وهو الإراقة إذ الإراقة للإراقة مثل من كل وجه أو معناه على المثل الأصلي فيجب أن يبطل الخلف وهو وجوب التصدق كما في الفدية يعني من وجب عليه الفدية إذا قدر على الصوم يسقط عنه الفدية وينتقل الحكم إلى الصوم لأنه المثل الأصلي في الباب إلا أنه أي التصدق لما ثبت أصلا من الوجه الذي بينا وهو أن الأصل في القربات المالية التصدق ووقع الحكم به أي حكم الشرع بوجوبه لم يبطل بالشك أيضا وهو أن التصدق إن كان أصلا لا يبطل بالقدرة على الإراقة وإن كانت الإراقة أصلا يبطل للقدرة على المثل الأصلي كما في الفدية وقد صار كونه أصلا محكوما به فلا يبطل بهذا الشك كما لم يبطل الإراقة المنصوص عليها في أيام النحر باحتمال كون التصدق أصلا وإليه أشار بقوله أيضا وذكر في شرح التقويم أنه إذا عاد وقت الأضحية إنما لا يسقط التصدق لأنه مثل أصلي في هذا الباب على معنى أنه كان أصلا فنقل منه إلى التضحية ولو لم يكن مثلا أصليا لعادت الأضحية للقدرة عليها كما أن المثل في حقوق العباد إذا فات ووجبت القيمة عاد حقه بالقدرة على المثل وها هنا لما لم يعد الفائت دل أنه مثل أصلي (١/٢٣٣) وبعض أصحابنا رحمهم اللّه قالوا إنما لا تعود الأضحية لأن المثل وجب وتأكد بإيجاب اللّه تعالى فلا يسقط بالقدرة على الفائت كما في المثليات إذا انقطعت عن أيدي الناس وقضى القاضي بالقيمة ثم عاد المثل لا يعود حقه إليه كذا هذا وقد وقع لفظ إلا أن في هذه المسألة في ثلاثة مواضع كلها بمعنى لكن فالأول استدراك من قوله واحتمل أن يكون التصدق أصلا وفي هذا الاستدراك تحقيق ذلك الاحتمال والثاني استدراك عما يلزم من هذا الاحتمال مع استدراكه وهو أنه لما احتمل أن يكون أصلا والنقل بعارض فيلزم أن يجوز التصدق في أيام النحر فقال لكنه يحتمل أن يكون التضحية أصلا وفي هذا الاستدراك رفع ذلك الاحتمال والثالث استدراك من قوله وجب العمل بالموهوم مع الاحتمال ويجوز أن يكون استدراكا من قوله فيجب أن يبطل وقوله على ما نبين أراد به في شرح المبسوط لا في هذا الكتاب أو هو تبين بالتاء أي ظهر وقوله فنقل إلى هذا أي الذبح متصل بقوله نقل من الأصل إلى التضحية على سبيل الإعادة لطول الكلام واللّه أعلم قوله وأما القضاء الذي بمعنى الأداء إلى آخره رجل أدرك الإمام في الركوع من صلاة العيد يأتي بتكبيرات العيد قائما إن كان يرجو أن يدرك الإمام في الركوع ليكون التكبيرات في القيام من كل وجه وإن كان هذا اشتغالا بقضاء ما سبق قبل فراغ الإمام كي لا يفوت أصلا فإن خاف إن كبر تكبيرات العيد أن يرفع الإمام رأسه فإنه يكبر للافتتاح وهو فرض ثم يكبر للركوع وهو واجب ثم يكبر في الركوع تكبيرات العيد ولا يرفع يديه لأن الرفع سنة ووضع الأكف على الركبة سنة فلا يجوز الاشتغال بسنة فيها ترك سنة وعن أبي يوسف رحمه اللّه أنه لا يأتي بها في الركوع لأنها قد فاتت موضعها وهو القيام وهو غير قادر على مثل من عنده قربة في الركوع فلا يصح أداؤها فيه كالقراءة والقنوت وتكبير الافتتاح فإنه إذا أنسي الفاتحة والسورة لا يأتي بها في الركوع وكذا إذا أدرك الإمام في الركوع الأخير من الوتر في رمضان وخشي أنه لو قنت قائما يفوته الركوع فركع فإنه لا يقنت في الركوع والدليل عليه أن الإمام إذا نسي التكبيرات لا يأتي بها في الركوع ووجه ظاهر الرواية أن التكبيرات شرعت في القيام المحض وشرع من جنسها فيما لو شبه بالقيام فإن تكبير الركوع حسب منها حتى أن من سها عنه وهو إمام أو مسبوق يسجد للسهو وإن سها عنه (١/٢٣٤) ثم تذكر في ذلك الركوع كبر فيه لأنه واجب وقد بقي محله الخالص وإذا كان من جنسها ما شرع في حال الانحناء وله شبه بالقيام احتمل أن يكون سائرها ملحقة بهذه لاتحاد الجنس واحتملت المفارقة فكان الاحتياط في فعلها على أن ذلك أداء لا قضاء وكان هذا احتياطا لا تعليلا ومقايسة كما قلنا في الفدية في الصلاة بخلاف القراءة والقنوت وتكبير الافتتاح لأنها غير مشروعة فيما له شبه القيام بوجه وبخلاف الإمام إذا سها عن التكبيرات حتى ركع أنه يعود إلى القيام لأنه قادر على حقيقة الأداء فلا يعمل بشبهه وهذا عجز عن حقيقته فيعمل بشبهه كذا في جامع المصنف وغيره قوله لأن الركوع يشبه القيام أي حقيقة وحكما أما حقيقة فلأن القيام ليس إلا الانتصاب وهو باق باستواء النصف الآخر إذ المضادة أو المفارقة بينه وبين القعود إنما يثبت بفوات الاستواء في النصف الأسفل لأن استواء النصف الأعلى موجود فيهما لكن فيها نقصان لما فيه من الانحناء وذلك لا يضر لأنه قد يكون قيام بعض الناس هكذا كذا ذكر الإمام الإسبيجابي وأما حكما فلأن من أدرك الإمام في الركوع وشاركه فيه يصير مدركا لتلك الركعة قال عليه السلام من أدرك الإمام في الركوع فقد أدركها وهذا الحكم أي وجوب التكبير قد ثبت بالشبهة لأنه عبادة فيحتاط في إثباتها فتثبت بشبهة الأداء قوله ألا ترى قيل تقرير وتأكيد لقوله الركوع يشبه القيام والأشبه أنه دليل آخر استوضح به ما تقدم وليست أي تكبيرة الركوع في حال محض القيام فإن محمدا رحمه اللّه قال يكبر وهو يهوي قالوا وهذا أصح مما روي عنه يكبر ثم يهوي لأنه يخلو إذا حالة الانحناء عن الذكر بخلاف الأول ويؤيده حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه عليه السلام كان يكبر وهو يهوي وما روي أنه عليه السلام كان يكبر مع كل خفض ورفع ولهذا قال في الجامع الصغير ويكبر مع الانحطاط إذا قرأ الفاتحة في الأوليين ولم يزد عليها قرأ في الآخرين الفاتحة والسورة وإن قرأ في الأوليين السورة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب لم يقرأ بعدها في الآخرين قال عيسى بن أبان الجواب على (١/٢٣٥) العكس إذا ترك الفاتحة يقضيها في الآخرين وإن ترك السورة لا يقضيها لأن قراءة الفاتحة واجبة وقراءة السورة غير واجبة وبهذا الطريق تمسك يحيى بن أكثم وطعن على محمد في الجامع الصغير وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما اللّه أن يقضيها أما السورة فلما تذكر وأما الفاتحة فلما قال عيسى وعن أبي يوسف رحمه اللّه أنه لا يقضي واحدة منهما أما الفاتحة فلما يذكر وأما السورة فلأنها سنة في الأوليين وما كان سنة في وقته كان بدعة في غير وقته فلا يقضي وجه الظاهر ما يذكر قوله وكذلك السورة يعني كما أن تكبيرات العيد تقضى في الركوع باعتبار شبه الأداء فكذلك السورة إذا فاتت عن الأوليين يؤتى بها في الآخرين لشبهه الأداء وإن كانت قضاء ظاهرا وذلك لأن موضع القراءة جملة الصلاة لقوله عليه السلام لا صلاة إلا بقراءة ولقوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن إذ المراد واللّه أعلم القراءة في الصلاة لكن الشفع الأول تعين للقراءة بخبر الواحد الذي يوجب العمل وهو ما روي عن علي رضي اللّه عنه القراءة في الأوليين قراءة في الآخرين أي تنوب عن القراءة فيهما كما يقال لسان الوزير لسان الأمير وقد تعين الشفع الأول لقراءة السورة أيضا بما روي عن جابر وأبي قتادة رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الآخرين بفاتحة الكتاب كذا في مبسوط الشيخ فبقي للشفع الثاني شبهة كونه محلا لأن القيام في الآخرين مثل القيام في الأوليين في كونه ركن الصلاة والدليل على المعين غير قطعي فمن هذا الوجه لم يتحقق الفوات فوجب أداؤها اعتبارا بهذه الشبهة وإن كان في الحقيقة قضاء بالنظر إلى خبر الواحد وما ذكرنا مؤيد بما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه ترك القراءة في ركعة من صلاة (١/٢٣٦) المغرب فقضاها في الثالثة وجهر وعثمان رضي اللّه عنه ترك قراءة السورة في الأوليين من صلاة العشاء فقضاها في الآخرين كذا في المبسوط ويلزم على ما ذكرنا أنه لما وجب قضاء السورة التي هي دون الفاتحة في الوجوب مع عدم القدرة على المثل باعتبار شبهة الأداء فلأن يجب قضاء الفاتحة التي هي آكد في الوجوب من السورة مع القدرة على المثل لشرعية الفاتحة في الآخرين نفلا كان أولى فقوله ولهذا جواب عنه أي ولكون قضاء السورة لشبهه الأداء لا لمعنى القضاء قلنا لو ترك الفاتحة في الأوليين سقطت لأنه لا يمكن قضاؤها باعتبار معنى الأداء كما لا يمكن باعتبار معنى القضاء أما من حيث القضاء فلأنه لم يشرع له قراءتها في الآخرين نفلا ابتداء حقا له ليصرفه إلى ما عليه وإنما شرعت إما على سبيل الوجوب كما رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمهما اللّه أو على سبيل الاحتياط أداء عملا بقوله عليه السلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فلما كانت شرعيتها بهذه الجهة لم يستقم صرفها إلى ما عليه لأنه يصير تغييرا للمشروع وذلك ليس في ولاية العبد إليه أشار شمس الأئمة رحمه اللّه وحاصله أن قراءة الفاتحة في الآخرين ليست بنفل مطلق بل فيه جهة الوجوب نظرا إلى الاحتياط فلذلك لم يستقم صرفها إلى ما عليه وأما من حيث الأداء فلأن الفاتحة شرعت في الآخرين أداء فإن قرأها مرة واحدة وقعت عن الواجب أو المسنون الذي فيه جهة الوجوب وإن قرأها مرتين كان خلاف المشروع لأن تكرار الفاتحة في ركعة واحدة غير مشروع فلذلك تسقط ولا يقال لما انتقلت إحداهما إلى الشفع الأول لم يبق تكرارا معنى لأنا نقول يبقى صورة ورعاية الصورة واجبة أيضا ولأن النفل إنما يتصور على تقدير القضاء وكلامنا على تقدير الأداء وقوله والسورة لم تجب قضاء جواب عن السؤال المذكور بطريق المنع يعني لا نسلم أن السورة وجبت قضاء بل وجبت باعتبار الأداء وذلك في الفاتحة غير ممكن ثم إذا قضى السورة قال بعضهم يقدم السورة على الفاتحة لأنها ملحقة بالقراءة فكان تقديم السورة أولى وقال بعضهم يؤخر وهو الأشبه وأبعد من التغيير كذا ذكر المصنف في شرح المبسوط (١/٢٣٧) قوله على هذا الوجه أي على الأداء والقضاء منقسما كل واحد على أقسام ثلاثة كما في حقوق اللّه تعالى أما الأداء الكامل فهو رد المغصوب وتسليم المبيع على الوصف الذي ورد عليه الغصب والبيع وأداء الدين أي على الوصف الذي وجب ثم عد أداء الدين من هذا القسم وإن كانت الديون تقضى بأمثالها لأنه لا طريق لأداء الدين سوى هذا ولهذا كان للمقبوض في الصرف والسلم حكم عين الحق إذ لو لم يكن كذلك لصار استبدالا ببدل الصرف ورأس مال السلم أو المسلم فيه قبل القبض وإنه حرام وكذا له حكم عين الحق في غير الصرف والسلم بدليل أنه يجبر رب الدين على القبض ولو كان غير حقه لم يجبر عليه لأنه كان استبدالا ح وأنه موقوف على التراضي فعرفنا أنه عين ما وجب حكما ألا ترى أن القضاء مبني على الأداء أو على تصوره وذلك منتف فيه بالكلية وفي انتفائه انتفاء القضاء فيؤدي إلى أن تسليم العين لا يكون أداء ولا قضاء وذلك خلاف المعقول والإجماع فعلم أن تسليم العين في حكم تسليم الدين فكان من قبيل الأداء المحض ولم يجعل من الأداء القاصر لأنه أدى ما عليه أصلا ووصفا فكان أداء كاملا قوله مشغولا بالجناية بأن جنى المغصوب في يد الغاصب أو المبيع في يد البائع جناية يستحق بها رقبته أو طرفه أو بالدين بأن استهلك في يدهما مال إنسان فتعلق الضمان برقبته أو ما أشبه ذلك أي الجناية والدين بأن رده مريضا أو مجروحا أو رد الجارية المبيعة أو المغصوبة مشغولة بالحبل ولا بد من بيان هذه المسائل والفرق بين بعضها والبعض فنقول إذا غصب عبدا فارغا فرده مشغولا بالجناية أو بالدين إن هلك في يد المالك قبل الدفع أو البيع في الدين برئ الغاصب وإن دفع أو قتل بذلك السبب أو بيع في ذلك الدين رجع المالك على الغاصب بالقيمة بلا خلاف ولو سلم البائع العبد المبيع مشغولا بالدين فبيع في ذلك الدين يرجع بكل الثمن بلا خلاف ولو سلمه مشغولا بالجناية فهلك في ذلك الوجه يرجع بكل الثمن عند أبي حنيفة رحمه اللّه وعندهما يرجع بنقصان العيب بأن قوم حلال الدم وحرام الدم فيرجع بتفاوت ما بين القيمتين من الثمن (١/٢٣٨) ففي هذه المسائل أصل الأداء موجود لأنه رد عين ما غصب أو باع لكنه قاصر لأنه أداه لا على الوصف الذي وجب عليه أداؤه إلا أن كونه مباح الدم في البيع بمنزلة العيب عندهما فلا يمنع تمام التسليم وعنده بمنزلة سبب الاستحقاق فيمنع تمام القبض وكونه عيبا لا شك فيه لأن العبد الذي حل دمه أو طرفه لا يشترى بما إذا لم يكن كذلك وهذا المعنى أشد من المرض وهو عيب بالإجماع وإنما الشبهة في كونه استحقاقا فوق العيب فقالا إنه ليس باستحقاق لأن تلف المالية التي ورد البيع عليها لم يكن بوجوب العقوبة لأن وجوبها يتعلق بكونه مخاطبا لا بالمالية لأن المالية لا يستحق عقوبة كالبهائم وكيف يتعلق بالمالية وإنها سبب سقوط الخطاب الذي توقف وجوب العقوبة عليه يوضحه أن المشتري إذا اشترى عبدا وولي القصاص يأباه صح البيع وملكه المشتري ولو كان حقه فيما اشترى لما صح كحق المرتهن ونحوه فثبت أن البيع ورد على محل غير مستحق بسبب الجناية والمستحق بها النفس وإنما تملك بالبيع المالية وبحل الدم لا تفوت المالية ولا تصير مستحقة وإنما تلفت المالية بالاستيفاء وذلك فعل إنشاء المستوفي باختياره بعدما دخل المبيع في ضمان المشتري فيقتصر الفوات على زمان وجود الاستيفاء فلا ينتقض به التسليم وكان هذا بمنزلة ما لو سلمه زانيا فجلد عند المشتري ومات منه لم يرجع بالثمن لاقتصار الفوات على زمان الجلد كذا هذا بخلاف ما إذا استحق المبيع بملك أو حق رهن أو دين لأن المستحق هناك هو الذي تناوله البيع وهو المالية فينتقض به قبض المشتري من الأصل وبخلاف ما إذا غصب عبدا ثم رده حلال الدم فقتل عند المولى حيث يرجع بالقيمة لأن الرد لا يتم مع قيام سبب العقوبة لأنه رد على سبيل الخروج عن عهدة الغصب وذلك بإعادة يده كما كانت قبل الغصب فكان سقوط الضمان بهذا الرد موقوفا على سقوط حكم هذا السبب الطارئ عند الغاصب فإذا لم يسقط عدم الرد المستحق عليه الذي يبرئه عن عهدة الضمان فبقي تحته فأما التسليم بحكم الشراء فقد تم مع السرقة والقصاص لأنه عيب قبل الاستيفاء بالإجماع والعيب لا يمنع تمام القبض والرجوع بالثمن إنما يكون بالانتقاض بعدم التمام وذلك بالفوات والفوات كان بسبب بعد القبض فلا ينتقض به القبض فإن قيل يشكل على هذا الفرق ما إذا رد المغصوبة حاملا فهلكت بالولادة حيث يرجع بالنقصان لا بالقيمة عندهما كما لو سلم المبيعة حاملا فهلكت عند المشتري بالولادة يرجع بالنقصان لا بالثمن بالاتفاق فلم يفرقا بين الغصب والبيع في الحمل وفرقا بينهما في الجناية (١/٢٣٩) قلنا لأن الأصل في الحمل هو السلامة والهلاك مضاف إلى ألم الطلق الذي هو حادث وليس بمضاف إلى الانغلاق الذي كان في يد الغاصب فلا يبطل به حكم الرد كما لو حمت الجارية عند الغاصب ثم ردها فهلكت لم يضمن الغاصب إلا النقصان بالاتفاق لأن الهلاك لم يكن بالسبب الذي كان عند الغاصب إنما كان ذلك لضعف الطبيعة عن دفع آثار الحمى المتوالية وذلك لا يحصل بأول الحمى الذي كان عند الغاصب وإن ذلك غير موجب لما كان بعده وأبو حنيفة رحمه اللّه يقول زالت يد المشتري عن المبيع بسبب كانت إزالتها به مستحقة في يد البائع فيرجع بالثمن كما لو استحقه مالك أو مرتهن أو صاحب دين وهذا لأن الإزالة لما كانت مستحقة قبل قبض المشتري ينتقض به قبض المشتري من الأصل فكأنه لم يقبضه وإنما قلنا ذلك لأن القتل بسبب الردة مستحق لا يجوز تركه وبسبب القصاص مستحق في حق من عليه إلا أن ينشئ من له حق عفو باختياره البيع وإن كان يرد على المالية ولكن استحقاق النفس بسبب القتل والقتل متلف للمالية في هذا المحل فكان في معنى علة العلة وعلة العلة تقام مقام العلة في الحكم فمن هذا الوجه المستحق كأنه المالية ولأنه لا تصور لبقاء المالية في هذا المحل بدون النفسية وهي مستحقة بالسبب الذي كان عند البائع فيجعل ذلك بمنزلة استحقاق المالية لأن ما لا ينفك عن الشيء بحال فكأنه هو إلا أن استحقاق النفسية في حكم الاستيفاء فقط وانعقاد البيع صحيحا وراء ذلك وإذا مات في يد المشتري فلم يتم الاستحقاق في حكم الاستيفاء فلهذا هلك في ضمان المشتري وإذا قتل فقد تم الاستحقاق ولا يبعد أن يظهر الاستحقاق في حكم الاستيفاء دون غيره كملك الزوج في زوجته وملك من له القصاص في نفس من عليه القصاص لا يظهر إلا في حكم الاستيفاء حتى إذا وطئت المنكوحة بشبهة كان العقر لها وإذا قتل من عليه القصاص خطأ كانت الدية لورثته دون من له القصاص وهذا بخلاف الزنا فإن بزنا العبد لا يصير نفسه مستحقة إذ المستحق عليه ضرب مؤلم واستيفاء ذلك لا ينافي المالية في المحل والتلف حصل لخرق الجلاد أو لضعف المجلود فلم يكن مضافا إلى الزنا بوجه وإذا اشتراه وهو يعلم بحل دمه ففي أصح الروايتين عن أبي حنيفة رحمه اللّه يرجع بالثمن أيضا إذا قتل عنده لأن هذا بمنزلة الاستحقاق وفي الرواية الأخرى قال لا يرجع لأن حل الدم من وجه كالاستحقاق ومن وجه كالعيب حتى لا يمنع صحة البيع فلشبهه (١/٢٤٠) بالاستحقاق قلنا عند الجهل به يرجع بجميع الثمن ولشبهه بالعيب قلنا لا يرجع عند العلم بشيء لأنه إنما جعل كالاستحقاق لدفع الضرر عن المشتري وقد اندفع حين علم به فأما الحامل فهناك السبب الذي كان عند البائع يوجب انفصال الولد لا موت الأم بل الغالب عند الولادة السلامة فهي مثل الزاني إذا جلد وليس هذا كالغصب لأن الواجب على الغاصب نسخ فعله وهو أن يرد المغصوب كما غصب ولم يوجد ذلك حين ردها حاملا وههنا الواجب على البائع تسليم المبيع كما أوجبه العقد وقد وجد ذلك ثم إن تلف بسبب كان الهلاك به مستحقا عند البائع ينتقض قبض المشتري فيه وإن لم يكن مستحقا لا ينتقض قبض المشتري فيه واللّه أعلم كذا في المبسوط والأسرار وإذا حققت ما ذكرنا علمت أن قوله أو الدين راجع إلى المسألتين وأن الخلاف المذكور مختص بتسليم المبيع مشغولا بالجناية وفي لفظ الكتاب إشارة إليه قيل انتقض التسليم عنده وعندهما هذا تسليم كامل والتسليم يستعمل في العقد لا في الغصب وإنما يستعمل فيه الرد لأنه يقتضي مسابقة الأخذ ولهذا قال الشيخ في مسألة الغصب فرده مشغولا وفي مسألة البيع أو تسليم المبيع فعلم باستعمال لفظة التسليم أن الخلاف في البيع دون الغصب إذ لو كان فيهما لقيل انتقض الرد والتسليم وهذا رد وتسليم كامل وقوله إذا هلك في ذلك الوجه إشارة إلى أن مسألة الدين خارجة عن الخلاف أيضا لأن الهلاك إنما يتحقق في الجناية لا في الدين وإنما يتحقق فيه البيع فحيث قيل هلك ولم يقل هلك أو بيع علم أن مسألة الدين على الوفاق وقوله تسليم كامل أي تام أراد به ليس بموقوف كما قاله أبو حنيفة رحمه اللّه لا أنه أداء كامل إذ العيب يمنع الكمال في الأداء كما ذكرنا قوله وأداء الزيوف هو جمع زيف أي مردود يقال زافت عليه دراهمه أي صارت مردودة عليه لغش ودرهم زيف وزائف ودراهم زيوف وزيف وهو دون النبهرج في الرداءة لأن الزيف ما يرده بيت المال ولكنه يروج فيما بين التجار والنبهرج ما يرده التجار وربما تسامح فيه بعضهم وإذا وجب على المديون دراهم جياد فأدى زيوفا مكانها فهو أداء قاصر لوجود تسليم أصل الواجب إذ الزيوف من جنس الدراهم ولهذا لو تجوز بها في السلم والصرف تجوز مع أن الاستبدال فيهما حرام قبل القبض ولكنه قاصر لفوات الوصف وهو الجودة (١/٢٤١) ثم إذا كان قائما في يد رب الدين ولم يكن علم بالزيافة حالة القبض كان له أن يفسخ الأداء ويطالبه بالجياد إحياء لحقه في الوصف وفي الصرف والسلم يشترط مجلس العقد وإذا هلك عنده بطل حقه في الجودة عند أبي حنيفة ومحمد رح فلا يرجع بشيء على المديون وقال أبو يوسف رحمه اللّه له أن يرد مثل المقبوض ويطالبه بالجياد لهما أن استيفاء الحق قدرا حصل بالزيوف لأنها من جنس حقه مساو له قدرا وإنما بقي حقه في الجودة التي لا مثل لها ولا قيمة ولا يمكن تداركها إلا بضمان الأصل ولا سبيل إليه لأن القضاء بالضمان على القابض حقا له ممتنع إذ الإنسان لا يضمن لنفسه وكيف يضمن وقد ملكه ملكا صحيحا بالقبض وحقا لغيره ولا طالب له ممتنع أيضا فإذا تعذر التدارك سقط للعجز وهذا هو القياس واستحسن أبو يوسف رحمه اللّه فقال يضمن مثل ما قبض ليحيي حقه في الجودة لأن حقه مراعى في الوصف كما في القدر ولو كان المقبوض دون حقه قدرا لم يسقط حقه في المطالبة بقدر النقصان فكذا إذا كان دون حقه وصفا إلا أنه تعذر عليه الرجوع بالقيمة لتأديته إلى الربا فيرد مثل المقبوض كما يرد عينه إذا كان قائما لأن مثل الشيء يحكي عينه وإنما يصير الزيوف حقا له إذا أسقط حقه في الجودة فأما إذا لم يسقط فهي غير حقه وتضمين الإنسان لنفسه إنما يبطل لعدم الفائدة وقد حصل ههنا فائدة عظيمة وهي تدارك حقه في الصفة فيصح نظيره شراء الإنسان مال نفسه باطل وإذا تضمن فائدة صح وهو أن يشتري مال المضاربة أو كسب عبده المأذون المديون أو ماله مع مال غيره فكذا هذا كذا في شرح الجامع الصغير للمصنف وشمس الأئمة رحمهما اللّه وقوله إذا لم يعلم به ليس بشرط لكونه أداء قاصرا كما يدل عليه سياق الكلام بل هو أداء قاصر علم به أو لم يعلم لكنه شرط لصحة العين إذا كانت قائمة ورد المثل إذا كانت هالكة عند أبي يوسف فإنه إذا علم به عند القبض ليس له ذلك بالاتفاق ولهذا أي ولكونه أداء بأصله لأنه لا مثل له أي للوصل منفردا عن الأصل ولم يجز إبطال الأصل أي أصل الأداء للوصف أي لأجل الوصف الذي هو تبع وهذا جواب عن كلام أبي يوسف ثم الفرق لمحمد رحمه اللّه بين هذه المسألة وبين مسألة الزكاة التي تقدمت أنه أمكن تضمين الوصف هناك لأن سقوطه للاحتراز عن الربا وأنه لا يجري بين المولى وعبده وههنا لا يمكن تضمين الوصف لجريان الربا فيما بين العباد فلهذا وافق أبا (١/٢٤٢) حنيفة والفرق لأبي يوسف رحمه اللّه بينهما أن ما قبضه الفقير في مسألة الزكاة لا يمكن أن يجعل مضمونا عليه لأنه إنما يقبضه في الحكم كفاية له من اللّه تعالى لا من المعطي وبدون رد المثل يتعذر اعتبار الجودة منفردة عن الأصل ولهذا لو كان المقبوض قائما لا يتمكن من الرد وطلب الجياد وكذا ليس له ولاية المطالبة عن الغني إن لم يؤد إليه شيئا وههنا رب الدين يتمكن من مطالبته أصلا ووصفا بطريق الجبر فأمكن أن يجعل المقبوض مضمونا بالمثل إحياء لحقه قوله والأداء الذي هو في معنى القضاء إلى آخره رجل تزوج امرأة على أبيها عتق الأب لأن المهر يملك بنفس العقد كالبضع فإن استحق الأب بقضاء بطل ملكها وبطل عتقه وعلى الزوج قيمته لأنه سمى مالا وعجز عن تسليمه فيجب قيمته كما إذا تزوجها على عبد الغير ابتداء فإن لم يقض بقيمته حتى ملك الزوج الأب أي أبا المرأة واللام للعهد بوجه من الوجوه أي بشراء أو هبة أو ميراث أو نحوها لزم الزوج تسليم العبد إلى المرأة حتى لو امتنع عنه بعد طلب المرأة يجبر على التسليم ولو أراد أن يدفعه إليها فأبت عن القبول تجبر عليه أيضا لأن هذا أداء لعين ما استحق بالتسمية في العقد وكونه ملك الغير لا يمنع صحة التسمية وثبوت الاستحقاق بها على الزوج ألا ترى أنه تلزمه القيمة إذا تعذر التسليم وليس ذلك إلا لاستحقاق الأصل فرق بين هذا وبين ما إذا باع عبدا فاستحق العبد بقضاء ثم اشتراه البائع من المستحق لا يجبر البائع على تسليمه إلى المشتري لأن بالاستحقاق ظهر أن البيع توقف على إجازة المستحق وقد بطل برده فإذا انفسخ البيع لا يجبر البائع على التسليم أما الموجب لتسليم العبد ههنا فقائم وهو النكاح لأنه لا ينفسخ باستحقاق المهر كما لا ينفسخ بهلاكه فإذا قدر على تسليم العبد يلزمه إلا أنه في معنى القضاء لأن تبدل الملك بمنزلة تبدل العين فكان هذا غير ما وجب تسليمه بالعقد حكما والدليل عليه أن عائشة رضي اللّه عنها قالت دخل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم والبرمة تفور بلحم فقرب إليه خبز وإدام من أدم البيت فقال عليه السلام ألم أر برمة فيها لحم قالوا بلى ولكن ذاك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة قال هو عليها صدقة ولنا هدية كذا في المصابيح فجعل اختلاف السبب بمنزلة اختلاف العين ولا يقال كيف يصح هذا والصدقة لا تحل لبني (١/٢٤٣) هاشم ومواليهم لأنا نقول إنها كانت مولاة عائشة وهي من بني تيم لا من بني هاشم كيف وكان ذلك التصدق تطوعا بدليل كونه لحما وحرمته مختصة بالنبي عليه السلام وتصدق أبو طلحة بحديقة له على أمه ثم ماتت فورثها منها فسأل عن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال إن اللّه تعالى قبل عنك صدقتك ورد عليك حديقتك ولأن بتبدل الوصف يتغير حكم العين حسا وشرعا كالخمر إذا تخللت تغير حكمها الطبيعي من الحرارة إلى البرودة ومن الإسكار إلى عدمه وحكمها الشرعي من الحرمة إلى الحل وقد يتغير بتبدله حل التصرف الثابت للبائع إلى الحرمة وحرمته الثابتة للمشتري إلى الحل أيضا فيجوز أن يجعل العين باعتباره بمنزلة شيء آخر وإذا ثبت هذا كان هذا التسليم من الزوج أداء مال من عنده مكان ما استحق عليه فكان شبيها بالقضاء من هذا الوجه ولهذا أي ولكون العبد عين المسمى في العقد حقيقة قلنا لا يملك الزوج أن يمنعها إياه أي العبد لأنه عين حقها ولهذا أي ولكونه غير المسمى حكما قلنا إنه لا يعتق قبل التسليم إليها والقضاء به لها لأنه لما كان ملحقا بالمثل كان ملكا للزوج قبل التسليم والقضاء فلا يعتق عليها والفقه فيه أن العقد حال وقوعه لم يقع تمليكا للعبد لأن تمليك مال الغير لا يصح وإنما وقع تمليكا لمثل مالية العبد في الذمة فكان المهر مثل ماليته إلا أن مالية العبد مثل لما في ذمته حقيقة ومالية محل آخر ليست كذلك لأنها تكون مثلا بالحزر والظن فمتى أمكن تسليم عين العبد لا يصار إلى غيره لأنه أعدل من القيمة وإذا ثبت هذا لا يكون العبد ملكا لها قبل التسليم أو القضاء ولهذا أي ولكونه غير المسمى حكما قلنا إذا تصرف الزوج فيه بإعتاق أو كتابة أو بيع أو هبة قبل التسليم والقضاء نفذت تصرفاته لأنها صادفت ملك نفسه وكان ينبغي أن (١/٢٤٤) ينقض التصرفات التي تحتمل النقض كالبيع والهبة لتعلق حق المرأة بعين العبد كالمشتري إذا تصرف في الدار المشفوعة والراهن إذا تصرف في المرهون وإنما لا تنقض لأنها لو نقضت بطل حق الزوج في التصرف لا إلى خلف ولو لم تنقض بطل حق المرأة إلى خلف وهو القيمة والإبطال خلف أهون فكان أولى بالتحمل بخلاف مسألة الشفيع لأن ثمة لو نقض بطل حق المشتري إلى خلف وهو الثمن ولو لم ينقض بطل الشفيع أصلا وفي الرهن لا ينقض تصرفاته بل يؤخر إلى أن يفك الرهن كذا في الجامع لشمس الإسلام رحمه اللّه ولهذا أي ولكون العبد غير المسمى في الحكم قلنا إذا قضى القاضي بقيمته بعد الاستحقاق ثم ملكه الزوج لم يعد حقها إلى العين فلا يجبر الزوج على التسليم ولا المرأة على القبول لأن الحق نقل من العين إلى القيمة بالقضاء وتقرر به فانقطع الحق عما له حكم المثل كمن غصب شيئا له مثل من جنسه فهلك عنده ثم انقطع مثله فقضى القاضي عليه بالقيمة ثم جاء أو أنه لم يعد حقه إلى المثل ولو كان للعبد بعد الدخول في ملك الزوج حكم عين المسمى من كل وجه لعاد حقها فيه إذا كان القضاء بالقيمة بقول الزوج مع اليمين كما في المغصوب إذا عاد من إباقة بعد قضاء القاضي بالقيمة للمغصوب منه بقول الغاصب مع يمينه واللّه أعلم قوله ويتصل بهذه الجملة أي وبما ذكرنا من أقسام الأداء يتصل مسألة مبنية على الأداء وهي أن من غصب طعاما فقدمه إلى مالكه وأباحه كله فأكله وهو لا يعلم به أو غصب ثوبا فكساه رب الثوب فلبسه حتى يخرق ولم يعرفه يبرأ الغاصب عن الضمان عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه اللّه لا يبرأ وهذا إذا لم يحدث فيه ما يقطع حق المالك فإن أحدث فيه ما يقطع حقه بأن كان دقيقا فخبزه ثم أطعمه أو لحما فشواه ثم أطعمه أو تمرا فنبذه وسقاه أو ثوبا فقطعه وخاطه قميصا وكساه لا يبرأ عن الضمان بالاتفاق لأنه ملكه بهذه التصرفات عندنا ولو وهبه وسلمه إليه أو باعه منه وهو لا يعلم به وأكله المالك من غير أن يطعمه الغاصب يبرأ عن الضمان بالاتفاق هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه له أنه ما أتى بالرد المأمور به فإنه غرور منه والشرع لا يأمره بالغرور والغاصب لا يستفيد البراءة إلا بالرد المأمور به فإذا لم يوجد صار ضامنا ولأنه ما أعاده إلى ملكه كما كان لأن المباح له الطعام لا يصير مطلق التصرف فيما أبيح له فكان (١/٢٤٥) فعله قاصرا في حكم الرد فلو جعلنا هذا ردا تضرر به المغصوب منه لأنه أقدم على الأكل بناء على خبزه أنه أكرم ضيفه ولو علم أنه ملكه ربما لم يأكله وحمله إلى عياله فأكله معهم فلدفع الضرر عنه بقي الضمان على الغاصب كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه فالنكتة الأولى تشير إلى أن الأداء لم يوجد والثانية تشير إلى أنه وجد قاصرا ولكنه لم يعتبر نفيا للغرور وحجتنا في ذلك أن الواجب على الغاصب نسخ فعله وقد تحقق ذلك أما من حيث الصورة فلأنه وصل إلى يد المالك وبه ينعدم ما كان فائتا وأما من حيث الحكم فلأنه صار متمكنا من التصرف حتى لو تصرف فيه نفذ تصرفه غير أنه جهل بحاله وجهله لا يكون مبقيا للضمان في ذمة الغاصب مع تحقق العلة المسقطة كما أن جهل المتلف لا يكون مانعا من وجوب الضمان عليه عند تحقق الإتلاف إذا كان يظن أنه ملكه وأما الغرور فثابت ولكن الغرور بمجرد الخبر لا يوجب حكما كمن عرف بسراق في الطريق فأخبر أن الطريق أمن فخرجوا فقطع عليهم لا يضمن الغار شيئا وإنما المعتبر منه ما يوجد في ضمن عقد ضمان كما في ولد المغرور ولم يوجد ذلك فإن الغاصب المضيف ما شرط لنفسه عوضا ولأن أكثر ما في الباب أن لا يكون فعل الغاصب هو الرد المأمور به ولكن تناول المغصوب منه عين المغصوب كاف في إسقاط الضمان عن الغاصب ألا ترى أنه لو جاء إلى بيت الغاصب وأكل ذلك الطعام بعينه وهو يظن أنه ملك الغاصب برئ الغاصب من الضمان فكذلك إذا أطعمه الغاصب إياه كذا في المبسوط قوله ليس بأداء مأمور به إذ لا بد للمأمور به من أن يكون حسنا والغرور قبيح منهي عنه فكيف يكون مأمورا به إذ المرء لا يتحامى أي لا يجتنب ولا يحترز في العادات عن مال الغير في موضع الإباحة لأن المانع من التصرف في مال الغير الحرمة الشرعية أو المنع الحسي فإذا زال ذلك بالإباحة لا يبالي بإتلافه بخلاف مال نفسه فإنه يحترز عن إتلافه أشد الاحتراز بقاء له على نفسه وإذا كان كذلك كان التلف مضافا إلى الغرور لا إلى فعله فبقي الضمان على الغار فبطل معنى الأداء أي بطل إيصاله إلى المالك حقيقة ردا للغرور المنهي عنه وحاصل هذا الدليل أن ما صدر عنه ليس بأداء لكونه غرورا وقوله ولو كان قاصرا لتم بالهلاك جواب عين نكتة للشافعي لم تذكر في الكتاب (١/٢٤٦) وهي ما ذكرنا أن الغاصب أزال يدا مطلقة لجميع التصرفات وما أعاد بتقديم الطعام إليه إلا يد إباحة فكان هذا أداء قاصرا فلا ينوب عن الكامل فأجاب وقال لو كان قاصرا كما زعمتم لتم بالهلاك كما في أداء الزيوف عن الجياد مع أنا لا نسلم أنه قاصر بل هو كامل لأنه إيصال الحق إلى مالكه أصلا ووصفا وقوله ما أعاد الأيد إباحة قلنا جهة الإباحة ساقطة بالإجماع لأنه لا يتصور في حق المالك إلا جهة الملك فأما الخلل الذي ادعاه الخصم وهو الغرور الذي تضمنه هذا الأداء فإنما وقع بجهل المالك والجهل أي جهل المالك لا يبطل الأداء الصادر من الغاصب إذ علم المالك ليس من شرائط صحة الأداء كما ذكرنا وكفى بالجهل عارا لأنه نقيصة فإن الرجل يعير به فوق تعييره بنقصان أعضائه فكيف يصلح عذرا في تبديل إقامة الفرض اللازم وهو الرد إلى المالك يعني تسليم هذا العين إلى المالك فرض على الغاصب وقد أتى به بجهله بأن هذا ملكه لا يصلح مبطلا له ألا ترى أن المغصوب لو كان عبدا فقال الغاصب للمالك أعتق هذا العبد فقال أعتقته وهو لا يعلم أنه عبده ينفذ عتقه ولا يرجع على الغاصب بشيء وكذا البائع لو قال للمشتري أعتق عبدي هذا وأشار إلى المبيع فأعتقه المشتري ولم يعلم بأنه عبده صح إعتاقه ويجعل قبضا ويلزمه الثمن لأنه أعتق ملكه وجهله بأنه ملكه لا يمنع صحة ما وجد منه فكذا هذا وقوله والعادة المخالفة للديانة الصحيحة لغو جواب عن قوله المرء لا يتحامى في العادات عن مال الغير يعني العادة إنما تعتبر إذا لم يكن مخالفة للديانة الصحيحة وقيد بالصحيحة احترازا عن ديانات أهل الأهواء والمتقشفة ونحوها فإن العادة المخالفة لها يعتبر وما ذكرت من العادة مخالفة للديانة الصحيحة لأن مقتضى الإسلام أن لا يرغب في مال الغير وأن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه قال عليه السلام والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه فكما يكره إتلاف مال نفسه مع كونه مطلق التصرف فيه فكذلك ينبغي أن يكره إتلاف مال الغير وروي عن بعض الكبار أنه قال وقع حريق بالليل فخرجت أنظر إلى دكاني فقيل لي الحريق بعيد من دكانك فقلت الحمد للّه ثم قلت في نفسي هب إنك نجوت من البلاء (١/٢٤٧) ألا تهتم للمسلمين ما تهتم لنفسك فأنا أستغفر اللّه من قولي الحمد للّه منذ ثلاثين سنة وإذا كان كذلك كانت العادة المخالفة لهذه الديانة غير معتبرة فلا تصلح ناقصة للأداء الموجود حقيقة في القضاء بمثل معقول في حقوق العباد قوله كامل وقاصر قيل هذا التقسيم يجري في حقوق اللّه تعالى أيضا فإن قضاء الفائتة بالجماعة قضاء بمثل معقول كامل وقضاؤها منفردا قضاء بمثل معقول قاصر كما في الأداء فصارت الأقسام بهذا الاعتبار أربعة عشر ويحتمل أن لا يجري هذا التقسيم فيها لأن صفة القصور في المثل إنما تثبت إذا تحقق الوجوب في الصفة ليتمكن بفواتها قصور فيه كما في الأداء ولم يتحقق هنا لأن وصف الجماعة ليس بلازم في القضاء لأن اللزوم فيه يبتني على صيرورة الواجب دينا في الذمة وبعد الفوات لا يصير وصف الجماعة دينا في الذمة بالإجماع بل الدين أصل الصلاة لا غير فبفوات هذا الوصف لا يتمكن قصور في المثل بل القضاء منفردا مثل كامل والقضاء بجماعة أكمل منه فكانت الأقسام بهذا الاعتبار ثلاثة عشر وهذا بخلاف الأداء فإن فوات هذا الوصف يوجب قصورا فيه لأنه ثبت له فيه شبه الوجوب من حيث إنه سنة مؤكدة ولكن أثره يظهر في الفعل حتى سقط به التخيير بين الفعل والترك بترجح جانب الفعل على سبيل التأكيد دون صيرورته دينا في الذمة لأنه ليس بواجب حقيقة فلشبه الوجوب يثبت القصور في الأداء بفواته ولعدم الوجوب حقيقة لا يثبت في القضاء وهذا لأن وصف الجماعة من الشعار فيليق بالأداء الذي ينبئ عن شدة الرعاية ويجوز أن يثبت له فيه شبه الوجوب دون القضاء الذي ينبئ عن التقصير في الامتثال ولهذا قيل كره قضاء الصلوات في المسجد علانية وإنما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما فاته غداة ليلة التعريس بجماعة لبقاء معنى الأداء من وجه بأن ما بعد الطلوع إلى الزوال له حكم ما قبل الطلوع في بعض الأحكام مثل قضاء سنة الفجر وتدارك الورد الذي فاته بالليل كما جاءت به السنة وكان ينبغي أن تكره الجماعة في القضاء لما قلنا إلا أنه لما كان مبنيا على الفائت انتفت الكراهة كما انتفى شبه الوجوب وبقي الجواز بظاهر الحديث واللّه أعلم قوله وفي باب القروض إنما عد الشيخ رد المثل في باب القروض من القضاء وفي باب الديون من الأداء لأن رد عين ما قبض ممكن في القرض فصح أن يجعل رد مثله (١/٢٤٨) قضاء لوجود شرطه وهو تصور الأصل فأما تسليم الدين فغير ممكن فلا يصح أن يجعل تسليم العين فيه قضاء له لعدم شرطه فكان تسليم العين فيه كتسليم نفس الدين فلهذا كان من أقسام الأداء فإن قيل ينبغي أن يكون رد المثل في القرض قضاء يشبه الأداء لأن بدل القرض في حكم عين المقبوض إذ لو لم يجعل كذلك كان مبادلة الشيء بجنسه نسيئة ولهذا كان القرض في حكم الإعارة حتى لا يلزم فيه التأجيل عندنا بخلاف الديون قلنا بدل القرض غير المقبوض حقيقة وإنما أخذ حكم المقبوض ضرورة الاحتراز عن الربا فلا يظهر فيما وراء موضع الضرورة وهو كونه أداء كذلك قيل والأولى أن يقال كونه شبيها بالأداء لا يمنعه من أن يكون من أقسام القضاء بمثل معقول كما أشرنا إليه فيما سبق لأن الشيخ قسم القضاء بالمثل المعقول مطلقا ولم يقيده بالقضاء المحض فيدخل فيه القضاء المحض وغير المحض قوله تحقيقا للجبر جبر الكسر جبرا أي أصلحه فالغاصب فوت على المغصوب منه ما له صورة ومعنى فالجبر التام أن يتداركه بأداء مال من عنده هو مثل لما فوت عليه صورة ومعنى حتى يقوم مقام الأصل وهو المغصوب من كل وجه فكان أي المثل صورة ومعنى سابقا أي على المثل معنى وهو القيمة فلا يصار إليه إلا عند تعذر رد الأصل صورة ومعنى وهو مذهب عامة الفقهاء وقال نفاه القياس لأن الواجب على الغاصب رد القيمة في جميع الأموال عند تعذر رد العين لأن حق المغصوب منه في العين والمالية وقد تعذر إيصال العين إليه فيجب إيصال المالية إليه ووجوب الضمان على الغاصب باعتبار صفة المالية ومالية الشيء عبارة عن قيمته ولكن العامة يقولون الواجب هو المثل قال اللّه تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وتسمية الفعل الثاني اعتداء بطريق المقابلة مجازا كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها وقد ثبت بالنص أن هذه الأموال أمثال متساوية قال عليه السلام الحنطة بالحنطة مثل بمثل الحديث فيجب رد المثل لا رد القيمة ولأن المقصود هو الجبر كما ذكرنا وذلك في المثل أتم لأن فيه مراعاة الجنس والمالية وفي القيمة مراعاة المالية فقط فكان إيجاب المثل أعدل إلا إذا تعذر ذلك (١/٢٤٩) بالانقطاع من أيدي الناس فح يصار إلى المثل القاصر وهو القيمة للضرورة كذا في المبسوط قوله فالقيمة فيما له مثل كالمكيل والموزون والعددي المتقارب إذا انقطع مثله أي عن أيدي الناس بأن لا يوجد في الأسواق وهذا بالاتفاق وفيما لا مثل له كالحيوانات والثياب والعدديات المتفاوتة فإن الواجب فيها المثل معنى وهو القيمة عند تعذر رد العين عند الجمهور وقال أهل المدينة يضمن مثلها من جنسها معدلا بالقيمة لأن فيه رعاية المماثلة صورة ومعنى أما صورة فظاهر وأما معنى فلأنهما عدلا قيمة فكان أولى من الدراهم التي تفوت فيها المماثلة صورة وروي أن عائشة رضي اللّه عنها كسرت قصعة لصفية رضي اللّه عنها ثم جاءت بقصعة مثل تلك القصعة فردتها واستحسن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وروي أن أعرابيا أتى عثمان رضي اللّه عنه وقال إن بني عمك عدوا على إبلي فقطعوا ألبانها وأكلوا فصلانها الحديث إلى أن قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أرى أن يأتي هذا واديه فيعطي ثمة إبلا مثل إبله وفصلانا مثل فصلانه فرضي به عثمان وتمسك الجمهور بالحديث المشهور وهو ما روي عن النبي عليه السلام من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا وهذا تنصيص على اعتبار القيمة فيما لا مثل له إذ لم يقل يضمن مثله نصف عبد آخر وبأن ضمان التعدي مبني على المماثلة وهذه الأموال تتفاوت في المالية خلقة فتعذر فيها رعاية الصورة إذ لو روعيت لفاتت المماثلة معنى فوجب رعاية المعنى الذي لا تفاوت فيه وهو القيمة بخلاف المكيلات والموزونات لأنها لا تتفاوت خلقة فأمكن فيها رعاية الصورة والمعنى يوضحه أنه لو اشترى عشرة أقفزة حنطة بعشرة دراهم كان له أن يبيع واحدا منها مرابحة على درهم لعدم تفاوت القفزان وبمثله في العبيد لا يجوز للتفاوت الذي بينهم فلا يعرف قدر الواحد من الجملة قطعا وأما حديث عائشة فتأويله أن الرد كان على سبيل المروءة ومكارم الأخلاق لا على طريق الضمان فقد كانت القصعتان لرسول اللّه عليه السلام (١/٢٥٠) ويحتمل أن القصعة كانت من العدديات المتقاربة وأما حديث عثمان فقد كان ذلك على سبيل الصلح لا على طريق القضاء بالضمان لأن المتلف لم يكن عثمان والإنسان غير مؤاخذ بجناية بني عمه إلا أنه تبرع بأداء مثل ذلك عن بني عمه لفرط ميله إلى أقاربه وانتصارهم به كذا في الأسرار والمبسوط قوله ولهذا أي ولكون المثل الكامل أصلا في الباب وسابقا على القاصر قال أبو حنيفة إلى آخره والمسألة على وجوه أما إن كان القتل بعد البرء أو قبله وأما إن كان القطع والقتل من شخص واحد أو من شخصين وأما إن كانا خطأين أو عمدين أو أحدهما عمدا والآخر خطأ فإن كان القتل بعد البرء فهما جنايتان على كل حال بالاتفاق وكذا إن كان قبل البرء إلا أنه من شخص آخر وكذا إن كان قبل البرء من ذلك الشخص ولكن كان أحدهما عمدا والآخر خطأ وإن كانا خطأين من شخص واحد والقتل قبل البرء فهما جناية واحدة بالاتفاق وإن كانا عمدين فهما جنايتان عند أبي حنيفة رحمه اللّه وجناية واحدة عندهما فتبين بما ذكرنا أن قوله قطع يد رجل مقيد بالعمد أي قطعا عمدا وإن قوله ثم قتله عمدا مقيد بأن يكون قبل البرء أي قتله عمدا قبل برء اليد أنه الضمير للشأن أي الشأن أن الولي يتخير إن شاء قطعه ثم قتله وإن شاء قتله من غير قطع لأن القصاص مبني على المساواة في الفعل والمقصود الفعل وفي القتل بدون القطع مراعاة المساواة في المقصود بالفعل وفيه مع القطع مراعاة المساواة في المقصود بالفعل وصورة الفعل جميعا فيتخير الولي بينهما لا يمنع من القطع بخلاف الخطأ فالمعتبر هناك صيانة المحل عن الإهدار لا صورة الفعل لأن الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع علينا وقالا بل له أن يقتل وليس له أن يقطع لأن القطع موقوف في حق الحكم على السراية فإذا سرى سقط حكمه في نفسه وصار قتلا والفعل الثاني ههنا إتمام لما توقف عليه القطع وتحقيق له بدليل أن حكمه حكم السراية بعينه فكانا جناية واحدة بخلاف ما إذا تخلل بينهما برء لأن الجناية الأولى قد انتهت واستقر حكمها بالبرء فيكون الثانية إنشاء جناية أخرى ألا ترى أنهما لو كانا خطأين وتخلل برء بينهما تجب دية ونصف كما لو حلا بشخصين وبخلاف ما إذا كان الجاني اثنين لأن الفعل من الأول لم يتوقف على أن يصير بالسراية فعلا مضافا إلى شخص آخر فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول وبخلاف ما إذا كان أحدهما عمدا والآخر خطأ لأن صفة الفعل يختلف باختلاف الموجب لأن باختلاف صفة الفعل يختلف الموجب فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول كما إذا اختلف الفاعل أو محل الفعل (١/٢٥١) وإيضاح جميع ما ذكرنا في فصل الخطأ أنه لو قطع يده ثم قتله قبل البرء لا يجب إلا دية واحدة فكذا ههنا وقلنا هذا أي القتل بعد القطع قبل البرء هكذا أي تحقيق لموجب القطع كما ذكرتم فكانا جناية واحدة ولكنه من طريق المعنى والمقصود فأما من طريق الصورة فلأن الفعل متعدد وقوله في باب جزاء الفعل إشارة إلى ما ذكرنا من الفرق أن الواجب في باب القصاص جزاء الفعل فإنما يقتل نفوسا بنفس واحدة لتعدد الأفعال بخلاف الخطأ فإن الواجب فيه بدل الفائت فإن جماعة لو قتلوا واحدا خطأ لم تجب إلا دية واحدة وههنا قد تعدد الفعل فيجوز أن يتعدد الجزاء قوله ألا ترى أنه يصلح ماحيا أثر القطع كما يصلح محققا يعني أن القتل بعد القطع كما يصلح إتماما للفعل الأول من وجه فكذلك يصلح ماحيا له بمنزلة البرء من حيث إن المحل يفوت به ولا تصور للسراية بعد فوات المحل والقتل بنفسه علة صالحة للحكم وهو إزهاق الروح فوق الأول لأنه ليس بمؤد إلى الإزهاق لا محالة بل الغالب فيه عدمه فيصلح أن يكون الحكم مضافا إلى القتل ابتداء ألا ترى أن القاتل لو كان غير القاطع كان القصاص في النفس على الثاني خاصة ولو كان محققا لا محالة لوجب القصاص عليهما ويؤيده قوله تعالى وما أكل السبع إلا ما ذكيتم جعل الذكاة قاطعة للسراية وإلا لما حل المذكى بعد جرح السبع ولهذا قلنا إذا رمى إلى صيد تاركا للتسمية عمدا وجرحه ثم أدركه وذكاه حل فعلم أن الفعل الثاني يصلح ماحيا كما يصلح محققا فلهذا خيرناه بين الوجهين قوله ولهذا قلنا أي ولكون المثل الكامل أصلا في ضمان العدوان وسابقا على القاصر قلنا إذا انقطع المثل في المثلي تعتبر القيمة وقت القضاء عند أبي حنيفة رحمه اللّه لأن التحول إلى القيمة إنما يتحقق وقت القضاء إذ المثل هو الواجب في الذمة قبله وهو مطالب به حتى لو صبر إلى مجيء أو أنه كان له أن يطالبه بالمثل وإنما يتحول إلى القيمة للعجز وذلك وقت القضاء بخلاف ما إذا كان المغصوب أو المستهلك مما لا مثل له لأن الواجب هناك وإن كان هو المثل عند أبي حنيفة ولكنه غير مطالب بأداء المثل بل (١/٢٥٢) هو مطالب بأداء القيمة بأصل السبب فتعتبر قيمته عند ذلك وأبو يوسف رحمه اللّه يقول لما انقطع المثل فقط التحق بما لا مثل له في وجوب اعتبار القيمة والخلف إنما يجب بالسبب الذي يجب به الأصل وذلك الغصب فتعتبر قيمته يوم الغصب ومحمد رحمه اللّه يقول أصل الغصب أوجب المثل خلفا عن رد العين وصار ذلك دينا في ذمته فلا يوجب القيمة أيضا لأن السبب الواحد لا يوجب ضمانين ولكن المصير إلى القيمة للعجز عن أداء المثل وذلك بالانقطاع عن أيدي الناس فتعتبر قيمته بآخر يوم كان موجودا فيه فانقطع كذا في المبسوط قوله ولهذا لم يضمن منافع الأعيان إلى آخره أي ولكون المثل الكامل أو القاصر شرطا في القضاء قلنا لا يضمن المنافع بالأعيان لأنها ليست بمثل للمنافع لا كاملا ولا قاصرا أو معناه ولكون العجز مسقطا للضمان في حقوق العباد كما في حقوق اللّه تعالى فإنه لو غصب زوجة إنسان أو ولده وهلك عنده لا يجب الضمان للعجز قلنا لا يضمن المنافع بالإتلاف للعجز عن تسليم المثل واعلم بأن المنافع لا تضمن بالغصب ولا بإتلاف عندنا وقال الشافعي تضمن بهما وصورة الغصب أن يمسك العين المغصوبة مدة ولا يستعملها وصورة الإتلاف أن يستعملها بأن يستخدم العبد أو يركب الدابة أو يسكن البيت ثم الخلاف في مسألة الغصب ليس بناء على الأصل المذكور بل هو بناء على الاختلاف في زوائد الغصب فإنها ليست بمضمونة على الغاصب عندنا لأن الغصب هو إزالة اليد المحقة بإثبات يد المبطلة ولا يتصور الإزالة في الزوائد لحدوثها في يد الغاصب فكذلك المنافع أزهى زوائد تحدث في العين شيئا فشيئا وعنده هي مضمونة لأن الغصب ليس إلا إثبات اليد المبطلة وقد يتحقق ذلك في الزوائد فكذلك المنافع لأن اليد تثبت على المنفعة كما تثبت على العين فأما الخلاف في الإتلاف فبناء على الأصل المذكور وهو القدرة على المثل وعدمها لا على إثبات اليد وإزالتها ألا ترى أن الزوائد تضمن بالإتلاف بلا خلاف فتحقق بما ذكرنا أن الشيخ إنما قيد بقوله بالإتلاف احترازا عن الغصب وبقوله بطريق التعدي احترازا عن الإتلاف بالعقد كالإجارة والعارية ثم منافع الحر مضمونة بالإتلاف عنده قولا واحدا حتى لو استسخر حرا واستعمله لزمه أجر المثل (١/٢٥٣) وغير مضمونة بالغصب في قول حتى استولى عليه وحبسه حتى تعطلت منافعه لا يلزمه شيء لأن منافع الحر تحت يده ولا يد لغيره عليه كثياب بدنه بخلاف العبد وجه قول الشافعي رحمه اللّه في مسألة الإتلاف أن المنافع أموال متقومة فتضمن بالإتلاف كالأعيان وإنما قلنا أنها أموال بدليل الحقيقة والعرف والحكم أما الحقيقة فلأن المال غير الآدمي خلق لمصالح الآدمي والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة وكيف لا والمصلحة في التحقيق تقوم بمنافع الأشياء لا بذواتها والذوات تصير متقومة ومالا بمنافعها إذ كل شيء لا منفعة فيه لا يكون مالا فكيف يسقط حكم المالية والتقوم عنها وأما العرف فلأن الأسواق إنما تقوم بالمنافع والأعيان جميعا فإن الحجر والخانات إنما بنيت للتجارة وقد يستأجر المرء جملة ويؤاجر متفرقا لابتغاء الربح كما يشتري جملة ويبيع متفرقا وأما الحكم فلأنها في الشرع عدت أموالا متقومة حتى صلحت مهرا وورد العقد عليها وضمنت بالمال في العقود الصحيحة والفاسدة بالإجماع والعقد لا يجعل ما ليس بمال مالا ولا ما ليس بمتقوم متقوما كورود العقد على الميتة والخمر وإذا ثبت أنها أموال متقومة وقد تحقق إتلافها لأن الانتفاع بالشيء إتلاف لمنافعه تكون مضمونة عليه ولعلمائنا رحمهم اللّه في نفي المماثلة بين المنفعة والعين طريقان أحدهما نفيها بنفي المالية والتقوم عن المنفعة أصلا وثانيهما بإثبات التفاوت في المالية بينهما بيان الأول أن المنفعة ليست بمال ولا بمتقومة فلا تضمن بالإتلاف بالمال كالميتة والخمر وذلك لأن صفة المالية للشيء بالتمول والتمول عبارة عن صيانة الشيء وادخاره لوقت الحاجة لا عن الانتفاع بالإتلاف فإن الأكل لا يسمى تمولا والمنافع لا تبقى وقتين بل كما توجد تتلاشى فكيف يرد عليها التمول وكذا التقوم الذي هو شرط الضمان ومبناه لا يسبق الوجود فإن المعدوم لا يوصف بأنه متقوم إذ المعدوم ليس بشيء وبعد الوجود التقوم لا يسبق الأحراز كالصيد والحشيش والأحراز لا يتحقق فيما لا يبقى زمانين فكيف يكون متقوما ولا يقال المنافع توجد محرزة ضرورة إحراز ما قامت هي به لأنا نقول إن ذلك يوجب أنها يكون محرزة للغاصب لا للمغصوب منه وإحراز الغاصب لا يوجب الضمان عليه كما في زوائد الغصب ليست بمضمونة عندنا ولو كانت محرزة للمغصوب منه فذلك لا يوجب الضمان أيضا لأنه إحراز ضمني لا قصدي وذلك لا يوجب الضمان (١/٢٥٤) كالحشيش النابت في أرض مملوكة لا يكون مضمونا بالإتلاف وإن كان محرزا ضمنا لإحراز الأرض وعلى هذا نقول الإتلاف يتصور في المنفعة أيضا لأنه لا يحل المعدوم ولا يأتي مقترنا بالوجود لأنه ضده فيمتنع الوجود وإنما يأتي بعده وهي لا تبقى في الزمان الثاني ليحله الإتلاف وإثبات الحكم بدون تحقق سببه لا يجوز وبيان الثاني أن ضمان العدوان مقدر بالمثل بالنص والمنافع وإن كانت أموالا متقومة فهي دون الأعيان في المالية فلا تضمن بالأعيان كما لا تضمن الديون بالعين والرديء بالجيد وهذا لأن المنفعة تقوم بالعين والعين تقوم بنفسها وما يقوم بغيره تبع له والتفاوت بين التبع والمتبوع ظاهر وكذا المنافع لا تبقى وقتين والعين أوقاتا وبين ما تبقى وبين ما لا تبقى تفاوت عظيم ثم من ضرورة كون الشيء مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له إذ هو اسم إضافي كالأخ والعين لا تضمن في باب العدوان بالمنفعة قط فعرفنا أنه لا مماثلة بينهما يوضحه أن المنفعة لا تضمن بالمنفعة عند الإتلاف حتى أن الحجر في خان واحد على تقطيع واحد لا يكون منفعة أحديهما مثلا لمنفعة الأخرى عند الإتلاف بالإجماع مع أن المماثلة بين المنفعة والمنفعة أظهر منها بين العين والمنفعة فلأن لا يضمن المنفعة بالعين وهي الدراهم أو الدنانير أولى فالشيخ رحمه اللّه أشار بقوله لأن العين ليس بمثل لها إلى آخره إلى الطريق الأول وبقوله ولأن التفاوت بين ما يبقى إلى آخره إلى الطريق الثاني قوله إلا أن يثبت إحرازها استثناء منقطع من قوله وليس لما لا يبقى صفة التقوم أي وليس لما لا يبقى صفة التقوم حقيقة إلا أن يثبت إحرازها شرعا بخلاف القياس فيتقوم وهو في الحقيقة جواب سؤال مقدر وهو أن يقال قد ثبتت لها صفة التقوم في باب العقد مع استحالة إحرازها حقيقة لعدم بقائها زمانين فجاز أن تثبت لها هذه الصفة في الإتلاف أيضا سدا لباب العدوان فأجاب أن إحرازها وتقومها في باب العقد إنما ثبت غير معقول المعنى بناء على جواز العقد يعني لما جاز العقد شرعا يثبت الإحراز ضرورة بناء عليه فلا يثبت في غير موضع العقد ولا يقال وقد ثبت التقوم لها في غير العقد أيضا كما إذا وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره يجب نصف العقر لصاحبه لأنا نقول منافع البضع التحقت بالأعيان عند الدخول على ما عرف فيكون الضمان في مقابلة العين حكما ولأنها إنما تضمن بالعقر إذا كانت فيه شبهة العقد فأما إذا كان عدوانا محضا فلا يجب العقر وإنما يجب الحد وهذا الجواب يشير إلى عدم صحة المقايسة بين العقد والإتلاف لكون الأصل غير معقول المعنى (١/٢٥٥) وقوله ولأن التقوم في حكم العقد ثبت بقيام العين مقامها جواب آخر عن هذا السؤال يعني لما كان بالناس حاجة إلى هذا العقد أقام الشرع العين المنتفع بها مقام المنفعة في قبول العقد إذ لا بد له من محل ألا ترى أنه لو أضاف العقد إلى المنافع لا يصح بأن قال آجرتك منافع هذه الدار شهرا ثم عند حدوث المنفعة يثبت حكم العقد فيها فيثبت التقوم لها بهذا الطريق للضرورة ولا يتحقق مثل هذه الضرورة في العدوان فتبقى الحقيقة معتبرة قوله وهذا أصح اعلم بأن الشافعي رحمه اللّه جعل المنافع المعدومة في باب الإجارة كالموجودة حكما لأن العقود لا تصح إلا مضافة إلى محال أحكامها والحكم وهو الملك إنما يثبت في المنفعة دون الدار فلا بد من وجودها حال العقد إما حقيقة أو تقديرا من جهة الشرع ليكون الحكم في المقدر على مثال الحكم في المحقق فأنزل المنافع موجودة تحريا لصحة العقد واعتبرت الإضافة إلى الدار لأنها محل المنفعة فصارت المنفعة بذكرها مذكورة لأن باعتبارها حدثت لها عرضية الوجود وصار كالنطفة في الرحم يعطى لها حكم الولد الحي باعتبار العرضية وعندنا عقد الإجارة مضاف إلى العين التي هي محل حدوث المنافع خلفا عن المنافع في حق كونها شرطا للعقد لأنه لا يثبت الحكم إلا بالإضافة إلى محل فصار وجود المحل شرطا لصحة العقد وتعذر اعتبار هذا الشرط بحقيته في بيع المنافع إذ لا وجود لها حالة العقد ولا بقاء لها بعد الوجود فأقمنا الدار مقام المنفعة لصحة الإضافة ثم بعدما وجد اللفظان المرتبطان وصارا علة لإثبات حكم يتأخر عملهما في إثبات الحكم وهو الملك إلى حين وجود المنافع حقيقة ساعة فساعة ومن أصحابنا من قال اللفظ الصادر منهما مضافا إلى محل المنفعة صح كلاما وهو العقد منهما إذ العقد فعلهما ولا فعل يصدر منهما سوى ترتيب القبول على الإيجاب ثم الانعقاد حكم الشرع يثبت وصفا لكلامهما شرعا فجاز أن يقال العقد قد وجد منهما وذلك عبارة عن كلامين يترتب أحدهما على الآخر فيحكم الشرع بالانعقاد عند حدوث المنافع ساعة فساعة كذا في إشارات الأسرار للشيخ الإمام أبي الفضل الكرماني رحمه اللّه (١/٢٥٦) فعلى الطريقة الأولى يكون العقد منعقدا في حق العين والحكم ينفذ في المنفعة وعلى الطريقة الثانية ينعقد على المنفعة لا على العين فإذا عرفت هذا فنقول أجاب الشيخ عن السؤال المقدر على معتقد الخصم أولا بقوله إلا أن يثبت إحرازها بولاية العقد لأن هذا الكلام يدل على أن العقد يرد على المنفعة ابتداء ثم أجاب على مذهبه ثانيا بقوله ولأن التقوم إلى آخره ورجح مذهبه بقوله وهذا أصح ووجهه أن ما قاله الخصم قلب الحقيقة وهو جعل المعدوم موجودا وما قلنا إبقاء الأمر على حقيقة وتأخير الحكم إلى حين الوجود وأنه قابل للتأخر والتراخي كما إذا أوصى بما يثمر نخيله يتأخر حكمه إلى حين وجود الثمرة لا أنها تجعل موجودة ولأن إقامة السبب مقام المسبب في الشرع أمر شائع كإقامة السفر مقام المشقة والنوم مقام الحدث والبلوغ مقام اعتدال العقل وحدث الملك مقام شغل الرحم في وجوب الاستبراء فأما جعل المعدوم موجودا فليس له في الشرع استمرار مثل استمرار ما ذكرنا فيكون ما قلنا أصح وقوله ألا ترى أن ضمان العقد فاسدا كان أو جائزا يجب بالتراضي جواب آخر عن ذلك السؤال المقدر بطريق التوضيح وهذا الجواب يثبت وصفا مفارقا به يفسد القياس وصار كأنه قال لا يصح القياس لأن التقوم ثبت غير معقول المعنى وإن كان معقول المعنى ففي المقيس عليه وصف يفارق به المقيس وهو الرضاء لأن للرضاء أثرا في إيجاب أصل المال وفضله فيجب الأجر بالتراضي فأما ضمان العدوان فمبني على أوصاف العين والرجوع إلى أوصاف المحل يوجب عدم الضمان ههنا فصار هذا القياس كما قيل مس الفرج حدث كما إذا مس وبال والغرض من إيراده هو الجواب عن العقد الفاسد لأن ما ذكر أولا إنما يصلح جوابا عن العقد الصحيح لا عن الفاسد لأن إثبات التقوم بطريق الضرورة إنما يكون في العقد الجائز دون الفاسد فيلزم منه أن لا تتقوم المنافع فيه كما في الإتلاف والغصب فأما إثبات التقوم والتزام المال بطريق التراضي فموجود في العقد الصحيح والفاسد بخلاف الإتلاف والغصب ثم الانفصال عن لزوم العقد الفاسد على ما ذكره أولا هو أن التقوم لما ظهر في حق العقد لا تميز فيه بين الصحيح والفاسد بل يؤخذ حكم الفاسد من الصحيح ولا يجعل الفاسد بنفسه أصلا قوله ولأن التفاوت قد ذكرنا أن التفاوت بين العين والمنفعة من وجهين (١/٢٥٧) أحدهما أن العين تبقى والمنفعة لا تبقى وثانيهما أن المنفعة تقوم بالعين لكونها عرضا والعين تقوم بنفسها فجمع الشيخ بين الوجهين بقوله بين ما تبقى وتقوم العرض به وبين العرض القائم به أي العرض الذي لا يبقى وهو مع ذلك قائم بغيره قوله تفاوت فاحش قال الشافعي رحمه اللّه التفاوت باعتبار البقاء لا يؤثر في المنع من إيجاب الضمان بعد المساواة في الوجود كما إذا أتلف ما يتسارع إليه الفساد نحو الجمد والبطيخ فإنه تضمن الدراهم ولا مساواة بينهما في البقاء لأن الدراهم يبقى أزمنة كثيرة والجمد ونحوه لا يبقى فكذا التفاوت الذي بين العين والمنفعة في البقاء لا يمنع من وجوب الضمان لتساويهما في أصل الوجود فأجاب الشيخ بأن التفاوت بينهما فاحش لا يبقى معه المساواة بينهما فمنع من إيجاب الضمان وهذا لأن المماثلة إنما تعتبر في المعنى الذي بني عليه الضمان وهو المالية لا في كل معنى فإن الدراهم مثل للحيوان في المالية لا غير وههنا التفاوت في نفس المالية لما ذكرنا أن مالية المنافع لا تساوي مالية الأعيان لأنها لا تقبل البقاء والمالية صفة للموجود فإذا كان الموجود غير قابل للبقاء كيف يكون معنى المالية فيهما مثل معنى المالية في الأعيان فأشبه التفاوت بين العين والدين بخلاف ما يتسارع إليه الفساد لأن التفاوت بينه وبين الدراهم في مقدار البقاء لأنه يبقى في زمانين وأزمنة كثيرة إلا أن الدراهم أكثر بقاء منه ومثل هذا التفاوت لا يمنع وجوب الضمان وهذا لأن المساواة بين المتلف وبدله إنما يشترط حال وجوب الضمان لأنها حال إقامة أحدهما مقام الآخر فيجب أن يكون كل واحد منهما موصوفا بالبقاء ليصح المقابلة بوجود المساواة فأما البقاء بعد الإقامة فليست من موجب الغصب والعدوان فلهذا لا يمنع التفاوت بعد ذلك من وجوب الضمان قوله باعتبار الحاجة إليها فإن قيل الحاجة ماسة إلى إهدار هذا التفاوت ههنا أيضا سدا لباب العدوان إذ في اعتباره انفتاح باب الظلم وتضيق الأمر على الناس قلنا ليس الأمر كما زعمت فإن مساس الحاجة فيما يكثر وجوده وهو ما كان مشروعا لا فيما يندر وجوده وهو العدوان فإنه منهي عنه وسبيله أن لا يوجد كيف وقد أوجبنا للزجر التعزير والحبس فإنه ذكر في المبسوط وعندنا يأثم ويؤدب على ما صنع ولكنه لم يضمن شيئا فإن قيل في اعتبار هذا التفاوت إبطال حق المالك أصلا وفي إهداره وإيجاب (١/٢٥٨) الضمان إبطال حق الغاصب وصفا فكان ترجيح حق صاحب الأصل أولى كيف وأنه مظلوم والغاصب ظالم وإلحاق الحبس بالظالم أولى قلنا حق الغاصب فيما وراء ظلمه محترم معصوم لا يجوز تفويته عليه ولهذا قدر الضمان بالمثل وإنما يجوز استيفاء الضمان منه على طريق الانتصاف مع قيام حرمة ماله فلا يترجح حق المغصوب منه على الغاصب وأما قوله حق الغاصب يفوت وصفا وحق المالك يفوت أصلا فليس كذلك لأن حق المالك لا يفوت بل يتأخر إلى دار الجزاء لتعذر الاستيفاء نحو حق الشتم والأذى فأما حق الغاصب في الوصف فيبطل أصلا لأنه يستحق عليه بقضاء القاضي وما يستحق بالقضاء الذي هو حجة الشرع لا توصل إليه في دار الآخرة فكان تأخر الأصل أهون من إبطال الوصف يوضح ما ذكرنا أنا لو أوجبنا عليه زيادة على ما أتلف كان ظلما مضافا إلى الشرع لأن الموجب هو الشرع وذلك لا يجوز وإذا لم يوجب الضمان لتعذر إيجاب المثل كان ذلك لضرورة ثابتة في حقنا وهي أنا لا نقدر على القضاء بالمثل وذلك مستقيم وقوله ألا ترى توضيح لقوله وسقط اعتبار هذا التفاوت ودليل عليه وتقديره وسقط اعتبار هذا التفاوت لأنه لو لم يسقط وبقي معتبرا لأدى إلى إبطال العقود أصلا قوله يبطلها أصلا أي العقود لأنها شرعت للاسترباح ولا يحصل ذلك إلا بالتفاوت بين البدل والمبدل فإن البائع يرى خيرية في الثمن نظرا إلى جانبه والمشتري كذلك في جانب المبيع فيتبايعان طلبا للفضل الذي رأى كل واحد منهما في مال صاحبه ولا كذلك في باب العدوان لما ذكر وقد أوردت هذه المسألة في بعض النسخ بطريق آخر فلا بد من شرحه أيضا فنقول قوله وليس إلى التقوم حاجة إذ الاستبدال صحيح من غير التقوم معناه أنها قد تقومت في باب العقود لا بطريق الضرورة إذ هي تندفع بالاستبدال من غير تقوم كما في الخلع والعتق على مال والصلح عن دم العمد ولما تقومت فيه من غير ضرورة عرفنا أنه هو الأصل فيها فيثبت تقومها في ضمان العدوان أيضا ثم أجاب عنه فقال إن القياس يأبى ثبوت تقومها لما مر من الدلائل ولكنها تقومت بالنص في العقد بخلاف القياس وإن لم يكن إلى التقوم حاجة فنقتصر على مورد النص لكونه غير معقول المعنى (١/٢٥٩) قوله وإنما قلنا ذلك أي بأن التقوم ثبت نصا بخلاف القياس لأن اللّه تعالى شرع ابتغاء الإبضاع بالمال المتقوم بقوله عز ذكره أن تبتغوا بأموالكم والأموال إنما تضاف إلينا بواسطة الإحراز الذي به يثبت التقوم للأموال فثبت أن الابتغاء بالمال المتقوم ثم هذا النص يقتضي أن لا يكون الابتغاء إلا بالمال لأن معناه واللّه أعلم وأحل لكم ما وراء ذلكم بشرط أن تبتغوا بأموالكم والمشروط لا وجود له بدون الشرط والشرع جوز الابتغاء بالمنافع فإنه إذا تزوج امرأة على رعي غنمها سنة جاز قال تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام على أن تأجرني ثماني حجج فعرفنا ضرورة أن المنافع في العقد أموال متقومة حيث صح الابتغاء بها وبطلت المقايسة لأنه قياس مع الفارق على ما بيناه ولا يثبت شيء من ذلك بالعدوان يعني لا يثبت به أصل المال ولا فضله فإنه إذا أتلف جلد ميتة لا يجب عليه شيء ولو أتلف ثوب إنسان لم يجب عليه أكثر من قيمته فعلم أنه لا أثر للعدوان في إيجاب أصل ولا فضل واللّه أعلم قوله لأن المال ليس بمثل للنفس صورة وهذا ظاهر إذ لا مماثلة بين الآدمي والإبل أو الدراهم صورة ولا معنى لأن الآدمي مالك مبتذل لما سواه والمال مملوك مبتذل له ولا تساوي بين المالك والمملوك بل هما على التضاد في الدرجة هذا في الدرجة العليا وذلك في الدرجة السفلى ولأن معنى المال هو ما خلق المال له من إقامة المصالح به ومعنى الآدمي هو ما خلق له من عبادة ربه والخلافة في أرضه لإقامة حقوقه وتحمل أمانته ولا مشابهة بين المعنيين ولأن المال جعل مثل لمال آخر يخالفه صورة بتساويهما في قدر المالية لا غير وهذا المتلف ليس بمال فكان طريق المماثلة بينهما منسدا ولأن المثل معنى عبارة عن قيمة الشيء وهي عبارة عن قدر ماليته بالدراهم أو الدنانير وإذا لم يكن الشيء مالا لم يكن له قيمة كذا في الأسرار قوله ولهذا قلنا أي ولكون المماثلة غير معقولة بين المال والنفس قلنا المال غير مشروع بطريق المثل عند احتمال القود وإنما قيد بقوله مثلا لأن المال بطريق الصلح مشروع مع احتمال القود بالاتفاق وبيان هذا أن موجب العمد القود على التعيين عندنا لا يعدل عنه إلى المال إلا صلحا وهو أحد قولي الشافعي وفي قوله الآخر موجبه القود أو (١/٢٦٠) الدية والخيار إلى الولي في التعيين لقوله عليه السلام من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية فهذا تنصيص على أن كل واحد منهما موجب القتل وإن الولي مخير بينهما ولأن وجوب المال هو الأصل في القتل شرع لجبر حق المقتول فيما فات عليه بدليل حالة الخطأ فإن الفوات عليه في الوجهين يقع على نمط واحد ألا ترى أنه ينتفع به يقضي به ديونه وتنفذ وصاياه أما القصاص فإنما ينتفع به الوارث إذ التشفي يحصل له ولهذا كان المقتول شهيدا في العمد دون الخطأ لأن نفع القصاص لا يعود إليه بخلاف نفع الخطأ إلا أن الشرع أوجب القصاص ضمانا زائدا لمعنى الانتقام وتشفي الصدر نظرا للولي وإبقاء للحياة فشرعه لا ينفي الضمان الأصلي لكنه تعذر الجمع بينهما لأن كل واحد منهما يجب حقا للعبد حتى يعمل فيه إسقاطه ويورث عنه ولا يجوز الجمع بين الحقين لمستحق واحد بمقابلة محل واحد فأثبتنا الجمع بينهما على سبيل التخيير ولنا أنه أتلف مضمونا فيتقيد ضمانه بالمثل ما أمكن كإتلاف المال وتفويت حقوق اللّه تعالى من الصلاة والصوم والمال ليس بمثل للمتلف لما ذكرنا والقصاص مثل له صورة لأنه قتل وإفاتة حياة كالأول ومعنى لأن المقصود بالقتل ليس إلا الانتقام والثاني في معنى الانتقام كالأول ولهذا سمي قصاصا وفيه مقابلة النفس بالنفس كما قال تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس فمع القدرة على المثل الكامل لا يجوز المصير إلى غيره لأنه سابق على أقسام القضاء ألا ترى أن الصوم لا يجوز قضاؤه بالفدية مع القدرة على المثل الكامل وهو الصوم لما ذكرنا فإن قيل كما أن المال ليس بمثل للقصاص أو النفس فكذا القتل ليس بمثل للقطع مع القتل فيما تقدم فينبغي أن لا يجوز الاقتصار على القتل مع القدرة على القطع والقتل قلنا المال ليس بمثل للنفس صورة ولا معنى فأما القتل فمثل للقطع صورة ومعنى ومثل للقطع معنى لا صورة فلهذا النوع من المماثلة كان الواجب في الابتداء أحدهما إما الجمع أو الاقتصار فلا يكون الاقتصار انتقالا عن الواجب الأصلي مع القدرة على استيفائه إلى خلفه بخلاف الدية في القتل العمد لأنها لو وجبت كانت خلفا عن القصاص لأنه الواجب الأصلي دون الدية التي لا مماثلة بينها وبين الفائت بوجه فيكون (١/٢٦١) خيار الدية انتقالا عن الأصل إلى الخلف مع القدرة عليه ولأن الاقتصار بمنزلة استيفاء بعض الحق وإسقاط الباقي ولهذا جاز الاقتصار بالإجماع قوله وهو أي القصاص إلى الأحياء الذي هو المقصود من شرعية الضمان أقرب بيانه أن الأول أفات حياة فيكون المثل القائم مقامه ما ينجبر به الفائت وإنما يحصل ذلك بإتلاف حياة تحصل به حياة للولي القائم مقام القتيل وذلك في القصاص دون إيجاب المال لأن إفاتة الحياة مضمونة بما تقوم مقامها وإنما تقوم مقام الحياة حياة أخرى لا مال إذ كل الدنيا لا يسوى بحياة ساعة وقد نص اللّه تعالى على أن في القصاص حياة لنا وذلك في شرعيته واستيفائه أما الأول فلأن من قصد قتل عدوه وتفكر أنه يقتص منه فإنه ينزجر عن ذلك فيكن القصاص حياة لهما جميعا فعلى هذا يكون الخطاب لكافة الناس وأما الثاني فلأن من قتل إنسانا يصير حربا على أولياء القتل خوفا على نفسه وهم يخافونه لأنه يستعين عليهم بغيره على ما عليه العادات المتغلبة فمتى قتلوه قصاصا اندفع عنهم الشر والهلاك وبقيت حياتهم وعلى هذا يكون الخطاب للورثة واللّه تعالى سمى دفع الهلاك من الحي إحياء قال تعالى ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا فيكون في القصاص حياة أولاده وفي حياتهم حياة لأن بقاء الرجل ببقاء ولده من طريق المعنى ولهذا يسعى لولده كما سعى لنفسه فثبت أن القصاص إلى الإحياء أقرب وإنما قال أقرب لأن للمال نوع قرب إلى المقصود إذ بوجوبه قد يمتنع القاتل عن القتل وباستيفائه قد يمتنع الولي عن انتقام لكنه دون القصاص في هذا المعنى فلهذا كان القصاص أقرب إلى المقصود قوله وإنما شرع المال جواب عما قال الشافعي أن المال مثل للنفس بدليل حالة الخطأ فقال إنما شرع المال في تلك الحالة لأجل صيانة الدم عن الهدر فإنه عظيم الخطر وتعذر إيجاب القصاص لا بطريق أنه مثل وتحقيقه أن القصاص نهاية في العقوبات المعجلة في الدنيا فلا يجوز مؤاخذة الخاطئ به لكونه معذورا فيه ونفس المقتول محترمة لا تسقط حرمتها بعذر الخاطئ فوجب صيانتها عن الهدر فأوجب الشرع المال في حالة الخطأ لصيانة النفس المحترمة عن الإهدار لا بطريق أنه مثل كما أوجب الفدية على الشيخ الفاني عند وقوع اليأس له عن الصوم وذلك لا يدل على أن الإطعام مثل الصوم فيكون في إيجاب المال منة على القاتل بأن سلمت له نفسه به مع أنه قتل نفسا معصومة ومنة على المقتول بأن لم يهدر حقه بإيجاب شيء يقضي به حوائجه أو حوائج ورثته مع أن القاتل (١/٢٦٢) معذور وإذا ثبت هذا في الخطأ ففي كل موضع من مواضع العمد يتحقق هذا المعنى وهو تعذر القصاص مع بقاء المحل لمعنى في المحل يجب المال أيضا لأن المخصوص من القياس بالنص يلحقه ما يكون في معناه من كل وجه فالأب إذا قتل ابنه عمدا يجب المال لتعذر إيجاب القصاص بحرمة الأبوة وإذا عفا أحد الشريكين يجب للآخر المال لأنه تعذر عليه استيفاء القصاص لمعنى في المقاتل وهو أنه أحيا بعض نفسه بعفو الشريك فكان ذلك في معنى الخطأ فوجب المال للآخر بخلاف ما إذا مات من عليه القصاص لأنه تعذر الاستيفاء لفوات المحل فلا يكون في معنى الخاطئ وفي لفظ الشيخ إشارة إلى ما ذكرنا حيث قال وإنما شرع عند عدم المثل ولم يقل في حالة الخطأ إذ وجوب المال ليس مختصا بحالة الخطأ بل هو ثابت في غيره من الصور كما ذكرنا فلهذا قال عند عدم المثل ليكون شاملا للصور جمعا قوله ولهذا أي ولما ذكرنا أن ما ليس بمال لا يكون المال مثلا له فلا يجوز أن يضمن به قلنا إذا شهد الشهود على رجل بالعفو عن القصاص ثم رجعوا بعد القضاء به لم يضمنوا لولي القصاص شيئا وقال الشافعي رحمه اللّه يضمنون الدية له وكذا إذا قتل من عليه القصاص إنسان آخر لا يضمن لولي القصاص شيئا وما ذكر ههنا يدل على أن عنده يضمن لولي القصاص الدية كالشاهد ورأيت في التهذيب ولو وجب القصاص على رجل فقتله أجنبي يجب عليه القصاص لورثته وحق من له القصاص في تركته ولو عفا وارثه عن القصاص على الدية للوارث كالقصاص وحق من له القصاص في تركته فهذا يدل على أن الأجنبي لا يضمن عنده شيئا لولي القصاص كما هو مذهبنا وكذا ذكره في الأسرار أيضا وسنذكر الفرق له على تقدير الوفاق وقوله أو بقتل القاتل إضافة المصدر إلى المفعول له أن القصاص ملك متقوم للولي ألا ترى أن القاتل إذا صالح في مرضه على الدية يعتبر ذلك جميع المال وقد أتلفوا عليه ذلك بشهادتهم فيضمنون عند الرجوع وإن لم يكن مالا كما تضمن النفس بالإتلاف حالة الخطأ وكذا القاتل أتلف عليه حقه المتقوم فيضمن وإن لم يضمن عنده كما هو المذكور في التهذيب والأسرار فالفرق له أن القاتل إنما أتلفه ضمنا لإتلاف المحل لا قصدا إليه فلا يضمن بخلاف الشاهد فإنه أتلفه قصدا إليه وهذا لأن ملك القصاص ضروري فيظهر في حق الولي من حيث تطرقه إلى الاستيفاء دون المملوك عليه حتى لم يصر المحل مملوكا له فلا يظهر في حق القتل إليه أشير في الأسرار ولنا أن (١/٢٦٣) المتلف ليس بمال متقوم فلا يضمن المال لأن المال ليس بمثل لا صورة ولا معنى لأن ملك القصاص ملك من عليه القصاص وملك حياته في حق الاستيفاء وشرعيته لمعنى الإحياء فلا يكون المال مثلا إلا أن القاتل إنما يلتزم في الصلح الدية بمقابلة ما هو من أصول حوائجه فهو محتاج إلى هذا الصلح لإبقاء نفسه وحاجته مقدمة على حق الوارث فلهذا يعتبر من جميع المال قوله وإنما شرعت الدية جواب عن الخطأ الذي هو المقيس عليه للخصم فقال لا يجوز القياس على الخطأ لأن وجوب المال ورد على خلاف القياس لصيانة الدم عن الهدر وإظهار خطر المحل وما في الشهادة إراقة دم ليصان بالضمان بل فيها إبطال ملك القصاص بإثبات العفو والعفو مندوب إليه فيكون إهداره جائزا بهذا الطريق وهو العفو بل حسنا لقوله تعالى ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ولأن القصاص حياة حكما وفي العفو حياة حقيقة فلا يمكن إيجاب الضمان لمعنى الصيانة وصار كأن الشهود أثنوا عليه بفعل مندوب والمراد من الإهدار ههنا عدم إيجاب شيء من المال بمقابلته قوله ولهذا أي ولما بينا أن ما ليس بمال متقوم لا يضمن بالمال قلنا إذا شهد شاهدان بالتطليقات الثلاث بعد الدخول ثم رجعا بعد القضاء بالفرقة لم يضمنا شيئا عندنا وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى يضمنان للزوج مهر مثلها وكذلك إن قتل رجل منكوحة رجل لم يضمن القاتل شيئا من المهر عندنا وعند الشافعي يضمن مهر المثل للزوج وكذلك لو ارتدت المرأة بعد الدخول لم تغرم للزوج شيئا عندنا وعنده له مهر المثل عليها كذا في المبسوط وذكر في إشارات الأسرار للشيخ أبي الفضل الكرماني رحمه اللّه في مسألة رجوع شهود الطلاق بعد الدخول في جانب الشافعي ولا يلزم المرأة إذا ارتدت بعد الدخول لا تضمن للزوج شيئا وقد فوتت عليه الملك بالردة كما فوت الشاهد بالشهادة لأن الردة تؤثر في تغيير الاعتقاد لا في النكاح قصدا والشاهد أتلف بالشهادة قصدا فهذا يخالف ما ذكر في المبسوط عن الشافعي في مسألة الردة فيحمل على أن له في مسألة الردة قولين وذكر في التهذيب إن وجدت الردة بعد الدخول فقد استقر مهرها بالدخول فلا يسقط بالردة وإن وجدت قبل الدخول نظر فإن ارتدت (١/٢٦٤) المرأة سقط مهرها لأن الفسخ من قبلها وإن ارتد الزوج فعليه نصف المهر وهذا يؤيد ما ذكره أبو الفضل تمسك الشافعي رحمه اللّه بأن ملك النكاح متقوم على الزوج ثبوتا فيكون متقوما عليه زوالا لأن الزائل عين الثابت فمن ضرورة تقومه في إحدى الحالتين تقومه في الحالة الأخرى كملك اليمين بل أولى لأن ملك اليمين يجوز اكتسابه بلا بدل بخلاف ملك النكاح فإنه لا ينفك عن مهر ويجب بالفاسد قيمته كما في الأعيان ألا ترى أن الزوج لو خالعها على مال يجوز وما لم يكن متقوما لا يصير متقوما بالعقد كالخمر والميتة وإنما المعاوضة لإقامة المسمى من المال مقام أصل القيمة بتراضيهما ولنا أن ملك النكاح ليس بمال متقوم فلا يضمن بالمال عند الإتلاف لأن ضمان الإتلاف مقدر بالمثل ولا مماثلة بينهما صورة ولا معنى لأن معنى الشيء ما شرع أو خلق ذلك الشيء له وملك النكاح شرع للسكن والازدواج وإقامة حكم اللّه تعالى في النسل وإبقاء العالم والمال خلق بذلة لإقامة المصالح فأنى يتماثلان ولأن ملك النكاح في حكم جزء من الآدمي بمعنى تفريع الآدمي منه فكان معتبرا به معنى وأنه خلق مالك المال والمال خلق بذلة مملوكا له فكيف يتشابهان قوله وإنما يقوم بالمال بضع المرأة جواب عما استدل به الشافعي أنه متقوم ثبوتا فيتقوم زوالا فقال إنما المتقوم عند الثبوت بضع المرأة لا الملك الوارد عليه ولا يلزم من تقومه تقوم الملك لأن ذلك لإظهار خطر ذلك المحل ليكون مصونا عن الابتذال ولا يمتلك مجانا فإن ما يتملكه المرء مجانا لا يعظم خطره عنده وذلك محل له خطر مثل خطر النفوس لأن النسل يحصل منه فأما الملك الوارد عليه فليس بذي خطر ولهذا صح إزالته بالطلاق من غير شهود ولا ولي ولا عوض ولا يقال عدم توقفه على هذه المقدمات حالة الإبطال لا يدل على كونه غير خطير في تلك الحالة فإنه لو أتلف ماله المتقوم بلا شهادة بأن يأكله أو يلقيه في البحر صح ومع هذا لو أتلفه عليه إنسان ضمن لأنا نقول إنما ضمن ثمة باعتبار مملوكه الذي هو متقوم في ذاته حقيقة لا باعتبار ملكه وقد بينا أنه ليس بمتقوم حقيقة فلا يضمن قوله ولهذا أي ولأن تقوم البضع لإظهار خطره لم يجعل له أي للبضع حكم التقوم عند الزوال أي عند خروجه عن ملك الزوج أو عند زوال ملك الزوج عنه لأن معنى (١/٢٦٥) الخطر للمحل إنما يظهر عند التملك والاستيلاء عليه بإثبات الملك فأما عند زوال الاستيلاء عنه وإطلاقه فلا ولهذا لو زوج الأب الصغير بماله يصح ولو خالع ابنته الصغيرة بمالها من زوجها لم يصح قوله ولا يلزم الشهادة بالطلاق قبل الدخول جواب عما يقال لو لم يكن البضع متقوما عند الزوال لما ضمن الشهود شيئا بالشهادة على الطلاق قبل الدخول ثم الرجوع بعد القضاء بشهادتهم وقد ضمنوا نصف المهر عندكم فثبت أنه متقوم عند الزوال أيضا فقال الشيخ لم يوجب ذلك قيمة لما أتلفوا عليه وهو البضع فقيمته مهر المثل تاما ولا يغرمونه بل يغرمون نصف المسمى وإن كان ذلك أقل من مهر المثل بكثير أو أكثر منه بكثير فلو ضمنوا بدل المتلف لما اعتبر نصف الواجب بالعقد كما في مال اشتراه الإنسان لا يعتبر الثمن عند الإتلاف وهذا القدر يكفي جوابا عن النقض ثم بين وجه لزوم نصف المسمى فقال لكن المسمى إلى آخره وبيانه أن عود المعقود عليه إليها بوقوع الفرقة قبل الدخول مسقط جميع الصداق إذا لم يكن الفرقة مضافة إلى الزوج ولم تكن بانتهاء النكاح فهم بإضافة الفرقة إليه منعوا العلة المسقطة من أن تعمل عملها في النصف فكأنهم ألزموا الزوج ذلك النصف بشهادتهم أو كأنهم فوتوا يده في ذلك النصف بعد فوات تسليم البضع فكانوا بمنزلة الغاصبين في حقه فيضمنون ذلك عند الرجوع ولا يلزم عليه أن الابن إذا أكره امرأة أبيه حتى زنى بها قبل الدخول يغرم الأب نصف المهر ويرجع به على الابن ولم يوجد منه ما تصير الفرقة به مضافة إلى الأب لأنا نقول هو بإكراهه إياها منع صيرورة الفرقة مضافة إليها وذا موجب نصف الصداق على الأب فكأنه ألزمه ذلك أو قصر يده عنه فلذلك يضمن وهذا الجواب هو مختار المتأخرين وعبارة المتقدمين فيه أن المهر قبل الدخول على شرف السقوط فإن المرأة إذا ارتدت والعياذ باللّه أو قبلت ابن الزوج يسقط عنه كل المهر فالشهود بشهادتهم أكدوا ما كان على شرف السقوط فكأنهم ألزموه ذلك فلهذا ضمنوا ولكنهم قالوا لا نسلم التأكيد بل المهر كله وجب متأكدا بنفس العقد لأنه لم يبق بعده إلا الوطء الذي جرى مجرى القبض وهذا العقد لا يتعلق تمامه بالقبض على ما عرف ولئن سلمنا التأكيد فلا نسلم أن تأكيد الواجب سبب للضمان ألا ترى أن الشاهدين لو شهدا على الواهب يأخذ العوض حتى أبطل القاضي عليه حق الرجوع ثم رجعا وقد هلكت الهبة لم يضمنا للواهب شيئا وقد أكدا بثبوت العوض حكم زوال ملكه ولم يجر مجرى الإزالة ابتداء كذا في الأسرار (١/٢٦٦) ولما كان جواب المتأخرين أقرب إلى التحقيق اختار الشيخ قوله كما قال الشافعي متصلا بقوله تاما كاملا لا بقوله قيمة للبضع على ما ظنه البعض فإن عند الشافعي إذا كان ما ذكرنا بعد الدخول يجب على الشهود تمام مهر المثل قولا واحدا وإن كان قبل الدخول فكذلك في رواية المزني عنه وفي رواية الربيع عنه يجب عليهم نصف مهر المثل لأن الزوج لم يغرم لها إلا نصف المسمى وقد عاد إليه نصفه ألا ترى أنهما لو شهدا بالإقالة ثم رجعا لم يغرما شيئا لأنهما إن أخرجا السلعة عن ملك المشتري فقد رد إليه الثمن والأصح هو الأول لأنهم أتلفوا جميع البضع فيجب عليهم جميع بدله ولا اعتبار بما غرم ألا ترى أنه يرجع بمهر المثل وإن غرم المسمى سواء كان مهر المثل أقل من المسمى أو أكثر وكذا لو برأته عن الصداق يرجع بمهر المثل على الشهود وإن لم يغرم شيئا كذا في التهذيب فالشيخ بقوله تاما كاملا كما قال الشافعي أشار إلى هذا المذهب قوله فمثل رجل تزوج امرأة على عبد إذا تزوج امرأة على عبد مطلق وجب الوسط عندنا إن أتاها بالعين أجبرت على القبول وإن أتاها بالقيمة أجبرت على القبول وعند الشافعي رحمه اللّه لا تصح التسمية فيجب مهر المثل لأن النكاح عقد معاوضة فيكون قياس البيع والعبد المطلق لا يستحق بعقد المعاوضة فكذا بالنكاح وهذا لأن المقصود بالمسمى مهرا هو المالية وبمجرد ذكر العبد لا تصير المالية معلومة فلا يصح التزامه بعقد المعاوضة لبقاء الجهالة فيه ألا ترى أنه لو سمى ثوبا أو دابة أو دارا لم تصح التسمية فكذا إذا سمى عبدا ولنا أن المهر إنما يستحق عوضا عما ليس بمال والحيوان يثبت دينا في الذمة مطلقا في مبادلة ما ليس بمال بمال ألا ترى أن الشرع أوجب في الدية مائة من الإبل وأوجب في الجنين غرة عبدا أو أمة فإذا جاز أن يثبت الحيوان مطلقا دينا في الذمة عوضا عما ليس بمال فكذلك يثبت شرطا وهذا لأن المهر باعتبار المالية مال وجب ابتداء والجهالة المستدركة في التزام المال ابتداء لا يمنع صحته كما في الإقرار فإن من أقر لإنسان بعبد صح إقراره ولكن لما كان عين المهر عوضا باعتبار ذاته (١/٢٦٧) لزم مراعاة الجانبين فأوجب الشرع الوسط نظرا لهما كما في الزكوات أوجب الوسط نظرا للفقراء وأرباب الأموال وهذا بخلاف تسميته الثوب أو الدابة لأن الجهالة فيها جهالة الجنس لأنه يشتمل على أجناس مختلفة ومعنى كل جنس يعدم في الجنس الآخر فلا يتحمل فأما العبد ههنا فمعلوم الجنس ولكنه مجهول الوصف وهي جهالة يسيرة فتتحمل فيما بني على المسامحة وهو النكاح دون ما بني على المضايقة وهو البيع وإذا ثبت أن الواجب هو الوسط فإذا أتى به أجبرت على القبول لأنه أدى عين الواجب ولو أتى بالقيمة أجبرت على القبول أيضا وإن كان تسليم قيمة الشيء قضاء له لا محالة إذ هو تسليم مثل الواجب ولهذا لا يجب القيمة إلا عند العجز عن تسليم الأصل ولكن هذا الأصل وهو المسمى لما كان مجهولا باعتبار الوصف ومعلوما باعتبار الجنس صح تسليمه باعتبار كونه معلوما كما لو كان عبدا له بعينه واحتمل العجز باعتبار جهالة الوصف إذ لا يمكنه تسليم المجهول فيجب القيمة بهذا الاعتبار كما إذا سمى عبد نفسه فأبق ثم لما كان الأصل وهو العبد المسمى لا يتحقق أداؤه لجهالة وصفه إلا بتعيينه أي بتعين الأصل وهو المسمى وهو إضافة المصدر إلى المفعول ولا تعيين إلا بالتقويم صار التقويم أي القيمة أصلا من هذا الوجه إذ هي بهذا الاعتبار قبل العبد الذي يقضي به فكان تسليمها من هذا الوجه أداء لا قضاء لأن القضاء خلف عن الأداء فيثبت بعد ثبوت الأصل لا قبله فصارت القيمة مزاحمة للمسمى أي مساوية له في الوجوب لأنها صارت أصلا في الإيفاء اعتبارا والعبد أصل تسمية فكأنه وجب بالعقد أحد الشيئين فلهذا يخير الزوج وإنما يخير هو دون المرأة لأن اعتبار القيمة إنما وجب لإمكان التسليم وهو عليه دون المرأة بخلاف العبد المعين والمكيل والموزون الموصوف لأن المسمى معلوم جنسا ووصفا فكانت قيمته قضاء خالصا فلا يعتبر عند القدرة على الأصل (١/٢٦٨) فإن قيل فعلى ما ذكرتم يصير كأنه تزوجها على عبد أو قيمته وذلك يوجب فساد التسمية فيجب مهر المثل إذا كما قال الشافعي رحمه اللّه ألا ترى أنه لو عين العبد فقال تزوجتك على هذا العبد أو قيمته لم تصح التسمية فعند جهالة العبد أولى قلنا إنما يفسد التسمية في المسألة المذكورة لأنه إذا قال علي عبد وقيمته صارت القيمة واجبة بالتسمية ابتداء وهي مجهولة لأنها دراهم مختلفة العدد لأنه لا بد من اختلاف يقع بين المقومين فصار كأنه قال علي عبد أو دراهم فيفسد للجهالة فأما إذا قال علي عبد فقد صحت التسمية لأن جهالته لا تمنع الصحة ولم تجب القيمة بهذا العقد لأنه ما سماها فيه لكنها اعتبرت بناء على وجوب تسليم المسمى لما ذكرنا أنه لا يتمكن منه إلا بمعرفتها ولما كانت مبنية على تسمية مسمى معلوم جاز أن يثبت كما إذا تزوجها على عبد بعينه فاستحق أو هلك فإن القيمة تجب وينتصف بالطلاق قبل الدخول لأنها وجبت بناء على مسمى معلوم لا ابتداء كذا في الأسرار قوله ومن قضية الشرع أي ومن حكم الشريعة في هذا الباب أي باب الأمر أن حكم الأمر أي المأمور به يوصف بالحسن والمعنى أن ثبوت الحسن للمأمور به من قضايا الشرع لا من قضايا اللغة لأن هذه الصيغة تتحقق في القبيح كالكفر والسفه والعبث كما يتحقق في الحسن ألا ترى أن السلطان الجائر إذا أمر إنسانا بالزنا والسرقة والقتل بغير حق كان أمرا حقيقة حتى إذا خالفه المأمور ولم يأت بما أمر به يقال خالف أمر السلطان ثم اختلف أن الحسن من موجبات الأمر أم من مدلولاته فعندنا هو من مدلولات الأمر وعند الأشعرية وأصحاب الحديث هو من موجباته وهو بناء على أن الحسن والقبح في الأفعال الخارجة عن الاضطرار هل يعرف بالعقل أم لا فعندهم لا حظ له في ذلك وإنما يعرف بالأمر والنهي فيكون الحسن ثابتا بنفس الأمر لا أن الأمر دليل ومعروف على حسن سبق ثبوته بالعقل وعندنا لما كان للعقل حظ في معرفة حسن بعض المشروعات كالإيمان وأصل العبادات والعدل والإحسان كان الأمر دليلا ومعروفا لما ثبت حسنه في العقل وموجبا لما لم يعرف به كذا في الميزان وذكر في القواطع ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى أن العقل بذاته ليس بدليل على تحسين شيء ولا تقبيحه ولا يعرف حسن الشيء وقبحه حتى يرد السمع بذلك وإنما (١/٢٦٩) العقل آلة تدرك به الأشياء فيدرك به ما حسن وما قبح بعد أن ثبت ذلك بالسمع وذهب إلى هذا كثير من المتكلمين وذهب إليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمهم اللّه قال وذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن الحسن والقبح ضربان ضرب علم بالعقل كحسن العدل والصدق النافع وشكر النعمة وقبح الظلم والكذب الضار وكفران النعمة وضرب عرف بالسمع كحسن مقادير العبادات وهيئاتها وقبح الزنا وشرب الخمر قالوا وسبيل السمع إذا ورد بموجب العقل أن يكون وروده مؤكدا لما في العقل وإليه ذهب من أصحابنا أبو بكر القفال الشاشي وأبو بكر الصيرفي وأبو بكر الفارسي والقاضي أبو حامد والحليمي وغيرهم وإليه ذهب كثير من أصحاب أبي حنيفة خصوصا العراقيون منهم وهو مذهب المعتزلة بأسرهم وإذا عرفت هذا فنقول الظاهر أن قوله عرف ذلك أي كونه موصوفا بالحسن بكونه مأمورا لا بالعقل نفسه إشارة إلى أنه من موجبات الأمر كما ذهب إليه جماعة من أصحابنا وعامة أصحاب الحديث ويدل عليه ما ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه ولا نقول أنه أي حسن المأمور به ثابت عقلا كما ذهب إليه بعض مشايخنا لأن العقل بنفسه غير موجب عندنا وأشار بقوله نفسه إلى أن العقل ليس بمهدر أصلا بل هو آلة يعرف به الحسن بعد ما ثبت بالأمر كالسراج للأبصار ولكنه غير موجب بحال سواء كان مما زعم الخصم أنه مدرك بالعقل قبل الشرع أو لم يكن ومسألة الحسن والقبح مسألة كلامية عظيمة فالأولى أن يطلب تحقيقها من علم الكلام وأن يقتصر ههنا على ما ذكرنا وإنما كان الحسن من موجبات الأمر لأن الأمر من اللّه تعالى طلب تحصيل المأمور بأبلغ الجهات وإنما يصح هذا الطلب إذا كان الفعل (١/٢٧٠) حسنا لأنه تعالى حكيم لا يليق بحكمته طلب ما هو قبيح قال اللّه تعالى قل إن اللّه لا يأمر بالفحشاء فدل الأمر على كونه حسنا والعقل إليه هاد لا أنه موجب بنفسه إذ لو كان حسن المأمور به بالعقل لما جاز ورود النسخ عليه لأن الحسن العقلي حقيقي لا يجوز عليه التبديل فثبت أن حسن المشروعات بالأمر والعقل يدرك الحسن في بعضها في ذاته وفي بعضها في غيره كذا رأيت بخط شيخي قدس اللّه روحه فإن قيل الفعل عرض وأنه صفة والصفة لا تقوم بها الصفة فكيف يصح وصفه بالحسن والقبح والوجوب حقيقة وأيضا الفعل قبل الوجود يوصف بكونه حسنا وقبيحا وواجبا وحراما والمعدوم كيف يقبل الصفة حقيقة قلنا هذه صفات راجعة إلى الذات كالوجود مع الموجود والحدوث مع المحدث وكالعرض الواحد الذي يوصف بأنه موجود ومحدث ومصنوع وعرض وصفة ولون وسواد فهذه صفات راجعة إلى الذات لا معان زائدة عليها ولأن الفعل يوصف بأنه حسن وقبيح لدخوله تحت تحسين اللّه تعالى وتقبيحه كما يوصف بأنه حادث ومحدث لدخوله تحت أحداث اللّه تعالى لا أنه محدث لحدوث قام به لأن ذلك الحدوث محدث فيحتاج إلى حدوث آخر فيؤدي إلى القول بمعان لا نهاية لها وأنه باطل ولأن هذه صفات إضافية وأسماء نسبية والصفات الإضافية ليست بمعان قائمة بالذات ويكون الذات موصوفة بها على الحقيقة وإنما يقتضي وجود غير يكون علقة بين الصفة والموصوف والاسم والمسمى كما في لفظ الأب والابن والأخ والذات موصوفة بهذه الصفات حقيقة لا مجازا وإن لم يكن الأبوة والبنوة والأخوة معاني قائمة بالذات موصوفة بهذه الصفات حقيقة لا مجازا وإن لم يكن الأبوة والبنوة والأخوة معاني قائمة بالذات زائدة عليها ثم يوصف المعدوم بهذه الصفات على الطريق الأول والثاني مجازا لأن صفات الذات لا يتصور قبل الذات وكذا الأحداث لا يتعلق بالمعدوم إلا حالة الحدوث وعلى الطريق الثالث يوصف على سبيل الحقيقة كوصف المعدوم بأنه معلوم ومذكور ومخبر عنه كذا في الميزان (١/٢٧١) باب بيان صفة الحسن للمأمور بهالمأمور به نوعان في هذا الباب أي في وصف الحسن حسن لمعنى في نفسه أي اتصف بالحسن باعتبار حسن ثبت في ذاته وحسن لمعنى في غيره أي اتصف بالحسن باعتبار حسن ثبت في غيره ضرب لا يقبل سقوط هذا الوصف وهو حسن بحال سواء كان مكرها أو غير مكره كالتصديق وضرب منه يقبله أي يقبل سقوط وصف الحسن عنه كالإقرار فإن وصف الحسن سقط عنه عند الإكراه هذا ما دل عليه سياق الكلام وذكر في بعض الشروح وهو مشكل لأن حسن الإقرار وما يضاهيه لا يسقط في حالة الإكراه ألا ترى أنه لو صبر عليه حتى قتل كان مأجورا فكيف يكون حسنه ساقطا في هذه الحالة وإنما سقط وجوبه ولا يلزم منه سقوط حسنه لأن عدم الوجوب لا يستلزم عدم الحسن كالمندوب على أنا لا نسلم أن الوجوب ساقط وأجيب عنه أنه لا يلزم من كون الصابر عليه شهيدا بقاء حسن الإقرار لأنه لو سقط حسنه لا يلزم منه إباحة ضده وهو إجراء كلمة الكفر بل بقي ذلك حراما كما كان إلا أن الترخص ثبت رعاية لحق نفسه فإذا صبر حتى (١/٢٧٢) في جميع الأحوال وضرب يقبله أي يقبل سقوط هذا الوصف كالإقرار فإنه لا يبقى مأمورا به في حالة الإكراه وهذا أحسن ولكن سياق الكلام يأباه وما ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه أدل على هذا المعنى فإنه قال والنوع الأول قسمان حسن لعينه لا يحتمل السقوط بحال يعني به السقوط عن المكلف وحسن لعينه قد يحتمل السقوط في بعض الأحوال وضرب منه أي من الذي حسن لمعنى في نفسه ما ألحق به حكما لكنه يشبه بما حسن لمعنى في غيره نظرا إلى حقيقته كالزكاة لا يتأدى أي ذلك الغير الذي هو مقصود كالصلاة والجمعة مثلا بالذي قبله وهو الطهارة والسعي فكان شبيها بالذي حسن لمعنى في نفسه من حيث إن ما هو موصوف بالحسن حقيقة يحصل بنفس المأمورية وضرب منه ما حسن لحسن في شرطه بعدما كان حسنا لمعنى في نفسه كالصلاة أو ملحقا بالذي حسن لمعنى في نفسه كالزكاة فإن الصلاة حسنة لعينها لكونها تعظيم اللّه تعالى قولا وفعلا والزكاة ملحقة بها وقد ازدادت كل واحدة حسنا باعتبار حسن شرطها وهو القدرة على الأداء وهذا القسم يسمى جامعا لاشتماله على ما هو حسن لعينه ولغيره وقد يجتمع الحسن بالاعتبارين في شيء واحد كالمرأة الجميلة إذا تزينت بزينة اكتسبت حسنا زائدا على حسنها بتلك الزينة ونظيره الظهر المحلوف بأدائه فإن أداه صار حسنا احترازا عن هتك حرمة اسم اللّه تعالى بعد أن كان حسنا في نفسه قوله فنحو الإيمان باللّه تعالى وصفاته احترز به عمن آمن بوحدانيته تعالى وأنكر الصفات كالفلاسفة والمعتزلة وغيرهم وقوله غير أنه نوعان ليس بمجرى على ظاهره لأن النوع لا بد من أن يوجد فيه تمام ماهية الجنس مع زيادة قيد ولا يوجد تمام ماهية الإيمان في الإقرار ولا في التصديق على ما اختاره الشيخ فيكون معناه غير أنه ركنان أي هو مشتمل على ركنين بدليل قوله تصديق وهو ركن وإقرار هو ركن (١/٢٧٣) واعلم أن مذهب المحققين من أصحابنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان شرط إجراء الأحكام في الدنيا حتى أن من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من البيان كان مؤمنا عند اللّه تعالى غير مؤمن في أحكام الدنيا كما أن المنافق إذا وجد منه الإقرار دون التصديق كان مؤمنا في أحكام الدنيا لوجود شرطه وهو الإقرار كافرا عند اللّه تعالى لعدم التصديق وقال كثير من أصحابنا إن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان إلا أن الإقرار ركن زائد يحتمل السقوط بعذر الإكراه والتصديق ركن أصلي لا يحتمل السقوط فعند هؤلاء لو صدق بقلبه ولم يقر بلسانه من غير عذر لم يكن مؤمنا عند اللّه تعالى وكان من أهل النار وهو مذهب المصنف وشمس الأئمة وكثير من الفقهاء وتمسكوا في ذلك بظواهر النصوص من نحو قوله عليه السلام بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللّه والشهادة لا تكون إلا باللسان وقوله عليه السلام أتدرون ما الإيمان شهادة أن لا إله إلا اللّه وقوله عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه وقوله صلى اللّه عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا اللّه وغير ذلك وتمسك الفريق الأول بأن الإيمان لغة وعرفا هو التصديق فحسب وأنه عمل القلب ولا تعلق له باللسان فالإيمان باللّه هو تصديق اللّه فيما أخبر على لسان رسوله أو تصديق رسوله فيما بلغ عن اللّه تعالى فمن أطلق اسم الإيمان على غير التصديق فقد صرفه عن مفهومه لغة وبأن الشيء لا وجود له إلا بوجود ركنه والذي آمن موصوف بالإيمان على التحقيق من حين آمن إلى أن مات بل إلى الأبد فيكون مؤمنا بوجود الإيمان وقيامه به حقيقة ولا وجود للإقرار حقيقة في كل لحظة فدل أنه مؤمن بما معه من التصديق القائم بقلبه الدائم بتجدد أمثاله لكن اللّه تعالى أوجب الإقرار ليكون شرطا لإجراء أحكام الدنيا إذ لا وقوف للعباد على ما في القلب فلا بد لهم من دليل ظاهر لتمكنهم بناء الأحكام (١/٢٧٤) عليه واللّه تعالى هو المطلع على ما في الضمائر فيجري أحكام الآخرة على التصديق بدون الإقرار حتى أن من أقر ولم يصدق فهو مؤمن عندنا وعند اللّه تعالى هو من أهل النار ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو كافر عندنا وعند اللّه تعالى هو من أهل الجنة ثم لما كان الإقرار ركنا عند الشيخ والشيء لا يبقى بدون ركنه لزم عليه بقاء الإيمان حالة الإكراه بدون الإقرار فأدرج في أثناء كلامه الجواب عنه فقال الإقرار ركن ملحق به أي بالتصديق في كونه ركنا لكنه استدراك عن قوله هو ركن أي الإقرار مع كونه ركنا محتمل للسقوط عن المكلف في بعض الأحوال وهو حالة الإكراه لأن اللسان ليس معدن التصديق الذي هو الأصل في الإيمان فلا يلزم من فوات الإقرار فوات التصديق وهذا يقتضي أن لا يكون الإقرار ركنا لكن اللسان لما كان معبرا عما في القلب كان الإقرار دليلا على التصديق وجودا وعدما فجعل ركنا فيه وقيام السيف في مسألة الإكراه على رأسه دليل ظاهر على أن الحامل له على تبديل الإقرار حاجته إلى دفع الهلاك عن نفسه لا تبديل التصديق فلم يصلح عدمه في هذه الحالة دليلا على عدم التصديق فلم يبق ركنا فأما في غير هذه الحالة فعدمه مع التمكن منه دليل على عدم التصديق لأن الامتناع عنه مع كونه حسنا لعينه وواجبا عليه من غير عذر وكلفه في الإتيان به لا يكون إلا لتبدل الاعتقاد فصلح أن يكون ركنا وإن كان دون التصديق مختارا في التصديق احترازا عن التصديق حالة اليأس فإنه لا ينفع أصلا كان مؤمنا يعني عند اللّه تعالى وإنما قال إن تحقق ذلك لأن التصديق الاختياري مع عدم التمكن من الإقرار أو ما يقوم مقامه في غاية الندرة قوله وكالصلاة عطف من حيث المعنى على قوله وإقرار هو ركن لأن الصلاة والإقرار كل واحد منهما يحتمل السقوط فكانا من الضرب الثاني فكان قوله وإقرار هو ركن ابتداء بيان الضرب الثاني وكان من حق الكلام أن يقال أما الضرب الأول من القسم الأول فكالتصديق الذي هو الركن الأصلي في الإيمان لأنه لا يحتمل السقوط عن المكلف بحال وأما الضرب الثاني فكالإقرار الذي هو ركن ملحق بالتصديق لأنه حسن لعينه إذ هو إقرار بوحدانية اللّه تعالى وإقرار بالعبودية له وهو حسن وضعا لكنه يحتمل السقوط إلى آخره وكالصلاة فإنها حسنت لمعنى في نفسها وهو التعظيم للّه تعالى قولا وفعلا لجميع الجوارح وتعظيم المعظم حسن في الشاهد فدل أنها حسنت في ذاتها وضعا ولهذا كانت رأس العبادات قال عليه السلام الصلاة عماد الدين وقال عليه السلام وجعلت قرة (١/٢٧٥) عيني في الصلاة لكنها تسقط بالأعذار إلا أن اعتبار المعنى من غير نظر إلى اللفظ في كلام المشايخ خصوصا تصنيفات الشيخ غير غريب والأحسن أن يقال الحسن لعينه باعتبار كون الحسن حقيقة في ذاته أو حكما ينقسم قسمين ما حسن لعينه حقيقة وما ألحق به حكما والقسم الأول باعتبار احتمال السقوط وعدمه ينقسم قسمين أيضا ما يحتمل السقوط وما لا يحتمل فجعل الأقسام ثلاثة فالقسم المتوسط من القسم الأول باعتبار أصل التقسيم ومستبد باعتبار الحاصل وكان من حق الكلام أن يقال الحسن لمعنى في نفسه ضربان ما حسن لعينه حقيقة وما ألحق به حكما والضرب الأول قسمان ما لا يقبل السقوط وما يقبله إلا أن الشيخ عد الأقسام في أول الباب باعتبار الحاصل وترك التقسيم الأول لأنه يفهم مما ذكر بأدنى تأمل ثم قال بعده وأما الضرب الأول من القسم الأول وأراد منه أي من الضرب الأول الحسن لعينه مطلقا باعتبار أصل التقسيم المفهوم مما ذكره فدخل فيه القسمان الأولان ولهذا لم يفرد القسم المتوسط بالذكر فعلى هذا يكون قوله وكالصلاة عطفا على فنحو الإيمان ويكون الكاف في محل الرفع ويدل عليه قوله إلا أنها دون التصديق إذ لو كان عطفا على الإقرار لم يبق لهذا الاستثناء فائدة ويؤيده أيضا قوله فيما بعد والأمر المطلق في اقتضاء صفة الحسن يتناول الضرب الأول من القسم الأول حيث أراد به الحسن لعينه مطلقا كما سنبينه إن شاء اللّه تعالى قوله إلا أنها ليست بركن جواب عما يقال إنها لما كانت كالإقرار فهلا جعلت ركنا من الإيمان كما دل عليه ظواهر النصوص التي تدل على أن العمل من الإيمان فقال الإقرار دليل على التصديق وجودا وعدما كما ذكرنا فيصلح أن يكون ركنا أما الصلاة فعدمها لا يصلح دليلا على عدم التصديق أصلا ووجودها لا يصلح دليلا على وجوده إلا مقيدا بصفة وهو الجماعة حتى لو صلى الكافر منفردا لا يحكم بإسلامه فلهذا لا يصلح أن يكون ركنا فيه قوله صار حسنا لمعنى قهر النفس بيانه أن الصوم إنما حسن لحصول قهر النفس الأمارة بالسوء التي هي عدو اللّه وعدوك به على ما جاء في الخبر أنه تعالى أوحى إلى داود (١/٢٧٦) عليه السلام عاد نفسك فإنها انتصبت لمعاداتي وقال عليه السلام أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك لا أنه حسن في ذاته لأن تجويع النفس ومنع نعم اللّه تعالى عن مملوكه مع النصوص المبيحة لها مثل قوله تعالى قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل أحل لكم الطيبات كلوا من طيبات ما رزقناكم كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ليس بحسن وكذا الزكاة إنما صارت حسنة بواسطة دفع حاجة الفقير الذي هو من خواص الرحمن لا لنفسها لأن تمليك المال وتنقيصه في ذاته إضاعة وهي حرام شرعا وممنوع عقلا وكذا الحج إنما صار حسنا بواسطة أنه زيارة أمكنة معظمة محترمة عظمها اللّه تعالى وشرفها على غيرها قال واحد من الصحابة ما أنت يا مكة إلا وادي شرفك اللّه على البلاد وفي زيارتها تعظيم صاحبها فصار حسنا بواسطة شرف المكان لا لذاته إذ قطع المسافة وزيارة أماكن معلومة يساوي في ذاته سفر التجارة وزيارة البلاد غير أن هذه الوسائط تثبت بخلق اللّه تعالى لا اختيار للعبد فيها فإن النفس ليست بجانية في صفتها بل هي مجبولة على تلك الصفة كالنار على صفة الإحراق ولهذا لا يلام أحد على الميل إلى الشهوات ولا يسأل عنه يوم القيامة لأنه طبعي ولا يقال لما لم تكن جانية في صفتها كيف استحقت القهر لأنا نقول إنما وجب قهرها بمخالفة هواها لئلا يقع المرء في الهلاك بسبب متابعتها كما أن التباعد وجب عن النار احترازا عن الهلاك وإن كانت مجبولة في صفة الإحراق غير مختارة وكذا الفقير ليس بمستحق عبادة إذ العبادة لا يستحقها إلا اللّه عز وجل وإنما قال ذلك لأنه بفقره قد يستحق إيصال النفع إليه بطريق المبرة التي تدعو إليها الطبيعة إذ هي في الأصل مائلة إلى الإحسان إلى الغير ودفع الضرر عن الجنس ولكن لا يستحق ما هو عبادة أصلا لما ذكرنا وكذا البيت ليس بمستحق للتعظيم بنفسه إذ هو حجر كسائر البيوت بل بجعل اللّه تعالى إياه معظما وأمره أبانا بتعظيمه ولما ثبت أن هذه الوسائط ثبتت بخلق اللّه تعالى بدون اختيار العبد كانت مضافة إلى اللّه جل جلاله وسقط اعتبارها في حق العبد فصارت هذه العبادات حسنة خالصة من العبد للرب بلا واسطة كالصلاة فشرط لها الأهلية الكاملة فلا يجب على الصبي كالصلاة خلافا للشافعي رحمه اللّه في فصل الزكاة (١/٢٧٧) فإن قيل الصلاة صارت قربة بواسطة الكعبة أيضا فينبغي أن تكون من الضرب الثالث لا من الثاني كالحج قلنا إنما أراد بالواسطة ههنا ما يتوقف ثبوت الحسن للمأمور به عليه كما بينا أن حسن هذه العبادات يتوقف على هذه الوسائط المذكورة حتى شابهت باعتبارها الحسن لغيره والصلاة تعظيم اللّه تعالى وهو حسن في ذاته من غير توقف له على جهة الكعبة فإنها قد كانت حسنة حين كانت القبلة بيت المقدس وجهة المشرق وقد تبقى حسنة عند فوات هذه الجهة حالة اشتباه القبلة فلما لم يتوقف حسنها على الواسطة كانت الضرب الثاني بخلاف تلك العبادات فإنها لا تكون حسنة بدون وسائطها فكانت في الضرب الثالث إليه أشار الإمام العلامة بدر الدين الكردري في فوائد التقويم فصار هذا أي القسم الثالث كالقسم الثاني وهو الإقرار والصلاة حتى شرطنا لها أهلية كاملة لأن العبادة الخالصة محض حق اللّه تعالى شرعت على العباد ابتلاء وهو غني على الإطلاق فتوقف وجوب حقه لغناه على كمال الأهلية فلم يجب على الصبي والمجنون بخلاف حقوق العباد فإنها يجوز أن تجب بأهلية قاصرة لحاجتهم فيجب على الصبي والمجنون وينوب الولي منابهما في الأداء واعلم أن إيراد الإيمان في نظائر هذا النوع مشكل لأنه في بيان الحسن الذي ثبت للمأمور به بالأمر وعرف ذلك به لا قبله بالعقل وحسن الإيمان ثابت قبل الأمر ويعرف بالعقل لا بتوقف ذلك على ورود السمع حتى قلنا بوجوب الاستدلال على من لم تبلغه الدعوة أصلا ولهذا لم يذكر القاضي الإمام الإيمان في هذه الأقسام بل بدأ بالصلاة لأن حسن هذه الهيئة ثابت بالأمر لا بالعقل إلا أن يكون حسنه ثابتا بالسمع عند الشيخ لا بالعقل كما هو مذهب الأشعرية لكن قوله لا يقبل سقوط هذا الوصف يأبى هذا الاحتمال ثم حاصل ما ذكر أن التصديق في أعلى درجات الحسن والإقرار دونه لأنه يحتمل السقوط والصلاة دونه لأنها ليست بركن في الإيمان والصوم واختاره دونها لأنها مشابهة للحسن لغيره قوله وأما الضرب الأول من القسم الثاني وهو ما حسن لمعنى في غيره وذلك الغير لا يتأدى إلا بفعل مقصود فمثل السعي إلى الجمعة ليس بفرض مقصود أي ليس بحسن في نفسه إذ هو مشي ونقل أقدام وإنما حسن وصار مأمورا به لإقامة الجمعة إذ به يتوصل إلى أدائها فكان حسنا لغيره لا لذاته ثم الجمعة لا تتأدى به بل بفعل مقصود (١/٢٧٨) بعده فلم يكن له مشابهة بالحسن لعينه أصلا ولهذا قدم هذا الضرب على غيره لأنه أعلى رتبة من غيره في كونه حسنا لغيره بمقابلة التصديق في القسم الأول ومعنى السعي إلى الجمعة هو الإقبال عليها والمشي بلا سرعة فإنه روي عن عمر وابن مسعود وابن الزبير رضي اللّه عنهم أن معنى قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر اللّه تعالى أقبلوا على العمل الذي أمرتم به وامضوا فيه وليس في حديث السكينة فصل بين الجمعة وغيرها وأجمع الفقهاء أنه يمشي في الجمعة على هيئته كذا في شرح التأويلات قوله وكذلك الوضوء أي وكالسعي الوضوء في كونه من هذا الضرب لأنه من حيث هو فعل يفيد الطهارة للبدن ليس بعبادة مقصودة أي لا يصلح أن يكون عبادة مقصودة إذ لا بد لها من كونها حسنة لذاتها وأنه في نفسه تبرد وتطهر وذلك ليس بحسن لذاته وإنما حسن بسبب التمكن من إقامة الصلاة فكان حسنا لغيره ولا يتأدى به أي بالوضوء الصلاة بحال ويسقط بسقوط الصلاة فكان كاملا في كونه حسنا لغيره ولهذا جاز التيمم لصلاة العيد وصلاة الجنازة مع وجود الماء عند خوف الفوت لأن التوضؤ إنما يلزمه إذا كان يتوصل به إلى أداء الصلاة ولو اشتغل به هنا تفوته الصلاة لا إلى خلف فتسقط عنه وإذا سقط عنه صار وجود الماء كعدمه فكان فرضه التيمم كذا في المبسوط قوله وتستغني أي الصلاة عن صفة القربة في الوضوء جواب عما قال الشافعي رحمه اللّه النية شرط في الوضوء لأنه عبادة إذ العبادة اسم لفعل يؤتى به تعظيما للّه تعالى بأمره وحكمه الثواب وكل ذلك موجود في الوضوء وقال عليه السلام الطهارة على الطهارة نور على نور يوم القيامة وإذا ثبت أنه عبادة كانت النية من شرطه كسائر العبادات ونحن نسلم أن الوضوء يصلح أن يصير عبادة وأن لا بد لصيرورته عبادة من النية ولكنا نقول صحة الصلاة تستغني عن هذه الصفة بل هي إنما تتوقف على كونه طهارة وباستعمال الماء بطريق التبرد يحصل الطهارة التي هي شرط الصلاة كما لو استدام الطهارة ولم يحدث حتى حضرت صلوات وهذا لما ذكرنا أن معنى العبادة فيه غير (١/٢٧٩) المقصود بل مقصود التمكن من إقامة الصلاة بالطهارة فإذا طهرت الأعضاء بأي سبب كأن سقط الأمر كالسعي إلى الجمعة يسقط بسعي لا للجمعة وإن كان يصلح أن يصير عبادة بالنية لأن المقصود منه التمكن من أداء الجمعة بحصوله في المسجد لا لكونه عبادة فعلى أي وجه حصل سقط الأمر كذا هذا كذا في الأسرار قوله والضرب الثاني وهو الذي حسن لمعنى في غيره وذلك الغير يتأدى بالمأمور به لا يحتاج إلى فعل مقصود الجهاد وصلاة الجنازة أما الجهاد فلأنه ليس بحسن في وضعه لأنه تعذيب عباد اللّه تعالى وتخريب بلاده وليس في ذلك حسن كيف وقد قال عليه السلام الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب وسئل نبي من بني إسرائيل عن تعمير ملوك فارس وقد كانوا عمروا الأعمار الطوال فأوحى اللّه تعالى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وفي رواية أنصفوا عبادي وعمروا بلادي فأدمت لهم الملك وإنما صار حسنا بواسطة كفر الكافر فإن الكافر صار عدو اللّه تعالى وللمسلمين فشرع الجهاد إعداما للكفرة وإعزازا للدين الحق وإعلاء لكلمة اللّه تعالى وأما صلاة الجنازة فلأنها ليست بحسنة في ذاتها إذ هي بدون الميت عبث كذا ذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه وإنما صارت حسنة بواسطة إسلام الميت ألا ترى أن الميت لو لم يكن مسلما كانت الصلاة عليه قبيحة منهيا عنها قال اللّه تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية فصارت حسنة لمعنى في غير الصلاة وهو قضاء حق الميت المسلم قوله وذلك أي كفر الكافر وإسلام الميت منفصل عن الجهاد والصلاة فإن الكفر قائم بالكافر والإسلام بالميت والجهاد قائم بالمجاهد والصلاة بالمصلي والمقصود من هذا الكلام تحقيق كون هذا الضرب حسنا لغيره إذ حصول المقصود بالإتيان بالمأمور به نفسه يوهم أنه ملحق بالحسن لعينه كالصوم فحقق كونه حسنا لغيره بقوله وذلك معنى منفصل إلى آخره دفعا لذلك الوهم قوله لكنه خلاف الخبر لأنه روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لن يبرح هذا الدين قائما تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة وعن عمران بن حصين رضي اللّه عنه قال قال رسول (١/٢٨٠) اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال قوله كان شبيها بالقسم الأول وهو الحسن لعينه وهذا الضرب عكس الضرب الثالث من النوع الأول لأن ذلك حسن لعينه شبيه بالحسن لغيره وهذا الضرب حسن لغيره شبيه بالحسن لعينه وإنما اعتبرت الواسطة وهي كفر الكافر وإسلام الميت ههنا دون الصوم ونظيريه لأنها وإن كانت بتقدير اللّه تعالى ومشيئته فهي تثبت باختيار العبد وصنعه عن طواعية فوجب اعتبارها وإذا اعتبرت كانت العبادة حسنة لمعنى في غيرها لأن العبادة تتم بالعبد للرب عزت قدرته فتكون الواسطة المضافة إلى غير اللّه تعالى غير فعل العبادة صورة ومعنى بخلاف تلك الوسائط فإنها تثبت بصنع اللّه تعالى لا بصنع للعبد فيها فسقط اعتبارها فبقيت العبادة حسنة من العبد للرب بلا واسطة ثم حكم النوع الأول مع ضروبه الثلاثة واحد وهو أنه إذا وجب بالأمر لا يسقط إلا بالأداء لو باعتراض ما يسقطه بعينه وحكم الضربين الأولين من القسم الثاني واحد أيضا وهو بقاء الوجوب ببقاء وجوب الغير وسقوطه بسقوط الغير حتى إذا حمله إنسان من الجامع إلى موضع مكرها بعد السعي قبل أداء الجمعة ثم إذا خلى عنه كان السعي واجبا عليه وإذا حصل المقصود بدون السعي بأن حمل مكرها إلى الجامع أو كان معتكفا فيه فصلى الجمعة سقط اعتبار السعي ولا يتمكن بعدمه نقصان فيما هو المقصود وإذا سقطت عنه لمرض أو سفر سقط السعي وكذلك حكم الوضوء إلا أن مع عدم السعي يتم أداء الجمعة وبدون الوضوء لا يجوز أداء الصلاة من المحدث لأن من شرط الجواز الطهارة عن الحدث هكذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه قلت الوضوء مساو للسعي في هذا أيضا لأن فعل الوضوء بمنزلة فعل السعي وحصول الطهارة به بمنزلة حصول الرجل في الجامع بالسعي وقد تحصل الصلاة بدون فعل الوضوء كما تحصل الجمعة بدون فعل السعي ولا يحصل بدون صفة الطهارة كما لا تحصل الجمعة بدون كونه في الجامع وكذلك لو تصور إسلام الخلق عن آخرهم لا تبقى فريضة الجهاد أيضا وكذلك حق الميت متى سقط بعارض مضاف إلى اختياره من بغي أو قطع طريق أو كفر سقط حقه وكذا إذا قام به الولي سقط عن الباقين لحصول المقصود ومتى لم يقض حقه بأن صلى عليه غير الولي كانت الصلاة باقية على الولي وكذا إذا لم تنكسر شوكة الكفار بالقتال (١/٢٨١) مرة لم يسقط الفرض ووجب ثانيا لأن المعنى الذي له وجب بمنزلة السبب الموجب فلا يبقى الحكم بدون السبب كذا ذكر القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما اللّه ثم الشيخ لما ذكر في أثناء كلامه ما يفهم منه هذه الأحكام لم يذكرها صريحا قوله وأما الضرب الثالث وهو الذي سماه جامعا يختص بالأداء دون القضاء أي هذا القسم يتأتى في الأداء دون القضاء لأن هذا القسم إنما صار جامعا للحسن الذاتي والحسن الإضافي باعتبار اشتراط القدرة وهي مشروطة في وجوب الأداء دون وجوب القضاء على ما ستعرفه فلا يتأتى في القضاء الجمع بين الحسنين فيكون مختصا بالأداء ضرورة ثم الحسن باعتبار الغير إنما يثبت في هذا القسم مع كونه حسنا لذاته لأن العبادة لا تصح أن تكون مأمورا بها إلا بقدر من المخاطب فيتوقف وجوبها على القدرة توقف وجوب السعي على وجوب الجمعة فصار حسنا لغيره مع كونه حسنا لذاته وذلك إشارة إلى الغير المفهوم من قوله الضرب الثالث أي الشيء الذي صار الحسن لعينه حسنا لغيره بواسطته هي القدرة التي يتمكن بها العبد من أداء ما لزمه أي يقدر عليه وذلك أي الشرط المذكور وهو القدرة شرط الأداء أي شرط وجوب الأداء دون الوجوب أي دون نفس الوجوب وقيل معناه الشرط المذكور وهو القدرة الحقيقية شرط الأداء أي شرط حقيقة الأداء دون الوجوب أي دون وجوب الأداء لأن شرطه سلامة الآلات وصحة الأسباب لا حقيقة القدرة والأول هو الوجه وعليه دل ما ذكر القاضي الإمام وشمس الأئمة في كتابيهما وأصل ذلك أي أصل اشتراط القدرة قوله تعالى لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها أي طاقتها وقدرتها أي لا يأمرها بما ليس في طاقتها فثبت بالنص أن القدرة شرط لصحة الأمر واعلم أن الأمة قد اختلفوا في جواز التكليف بالممتنع وهو المسمى بتكليف ما لا يطاق فقال أصحابنا لا يجوز ذلك عقلا ولهذا لم يقع شرعا وقالت الأشعرية إنه جائز عقلا واختلفوا في وقوعه والأصح عدم الوقوع والخلاف في التكليف بما هو ممتنع لذاته كالجمع بين الضدين والعقد بين شعيرتين فأما التكليف بما هو ممتنع لغيره كإيمان من علم اللّه تعالى أنه لا يؤمن مثل فرعون وأبي جهل وسائر الكفار الذين ماتوا على كفرهم فقد اتفق الكل على جوازه عقلا وعلى وقوعه شرعا فالأشعرية تمسكوا بأن التكليف منه تصرف في عباده ومماليكه فيجوز سواء أطاق العبد أو لم يطق وهذا لأن امتناع التكليف إما أن كان لاستحالته في ذاته أو لكونه قبيحا لا وجه إلى الأول لتصور صدور الأمر من اللّه تعالى بالممتنع للعبد ولا (١/٢٨٢) إلى الثاني لأن القبح إنما يكون باعتبار عدم حصول الغرض والقديم منزه عن الغرض وتمسك أصحابنا بأن تكليف العاجز عن الفعل بالفعل يعد سفها في الشاهد كتكليف الأعمى بالنظر فلا يجوز نسبته إلى الحكيم جل جلاله تحقيقه أن حكمة التكليف هي الابتلاء عندنا وإنما يتحقق ذلك فيما يفعله العبد باختياره فيثاب عليه أو يتركه باختياره فيعاقب عليه فإذا كان بحال لا يمكن وجود الفعل منه كان مجبورا على ترك الفعل فيكون معذورا في الامتناع فلا يتحقق معنى الابتلاء ويعرف باقي الكلام في علم الكلام فإذا ثبت هذا فنقول ما ذكر الشيخ ههنا من قوله وهذا أي اشتراط هذه القدرة فضل ومنة من اللّه تعالى عندنا يوهم بظاهره أن التكليف بدون هذه القدرة يجوز عنده كما هو مذهب الأشعرية وما ذكر في بعض مصنفاته أن المكنة الأصلية مشروطة في العبادات تحقيقا للعدل على ما قال اللّه تعالى لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها والميسرة مشروطة في بعضها تحقيقا للفضل على ما نطق به النص وما ذكر القاضي الإمام في التقويم أن الشرع جعل من شرط وجوب الأداء مكنة العبد منه حكمة وعدلا يشير إلى خلاف ذلك كما هو مذهب أهل السنة ووجه التوفيق بينهما أن إعطاء هذه القدرة التي يصير العبد بها أهلا للتكليف الذي هو تشريف فضلا من اللّه ومنة لأنه لا يجب على اللّه تعالى شيء على ما عرف في مسألة الأصلح وإليه أشار بقوله عندنا وبناء التكليف على هذه القدرة واشتراطها له فيه عدل وحكمة وهذا كاشتراط العقل لصحة الخطاب عدل وحكمة لأن خطاب من لا يفهم قبيح وخلق العقل في الإنسان ليصير أهلا للخطاب فضل ومنة كذا ذكر في عامة الشروح ولقائل أن يقول هذا التأويل وإن كان صحيحا في نفسه لكن سياق الكلام لا يدل عليه فإن الكلام مسوق لاشتراط القدرة لصحة التكليف لا لإعطاء القدرة وخلقها في المكلف فالأوجه أن تصرف الإشارة في قوله وهذا فضل إلى اشتراط القدرة دون إعطائها وبيان ذلك أن جواز التكليف مبني على القدرة الحقيقية التي بها يوجد الفعل المأمور به إلا أنها لما لم تسبق الفعل ولا بد للتكليف من أن يكون سابقا على الفعل المأمور به نقل الحكم عنها إلى سلامة الآلات وصحة الأسباب التي تحدث هذه القدرة بها عند إرادة الفعل عادة فشرط لصحة التكليف سلامة الآلات وصحة الأسباب لصلاحيتها لقبول تلك القدرة وتعلق تلك القدرة بها لا محالة فاشتراط هذه القدرة مع أن التكليف (١/٢٨٣) صحيح بدونها بناء على توهم وجود القدرة الحقيقية عند الفعل كما سنبينه يكون تحقيقا للفضل إليه أشير في الميزان وعليه دل سياق كلام شمس الأئمة السرخسي رحمه اللّه فإنه قال من شرط وجوب الأداء القدرة التي بها يتمكن المأمور من الأداء غير أنه لا يشترط وجودها وقت الأمر لصحته لأنه لا يتأدى المأمور به بالقدرة الموجودة وقت الأمر وإنما يتأدى بالموجود منها عند الأداء وذلك لا يوجد سابقا على الأداء فإن الاستطاعة لا تسبق الفعل وعدمها عند الأمر لا يمنع صحة الأمر ولا يخرجه من أن يكون حسنا بمنزلة عدم المأمور فإن النبي عليه السلام كان رسولا إلى الناس كافة ثم صح الأمر في حق الذين وجدوا بعده ويلزمهم الأداء بشرط أن يبلغهم فيتمكنوا من الأداء فكما يحسن الأمر قبل وجود المأمور يحسن قبل وجود القدرة التي يتمكن بها من الأداء ولكن بشرط التمكن عند الأداء ألا ترى أن التصريح به لا يعدم صفة الحسن في الأمر فإن المريض يؤمر بقتال المشركين إذا برئ فيكون ذلك حسنا قال اللّه تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي إذا أمنتم من الخوف فصلوا بلا إيماء ولا مشي فثبت بما ذكر رحمه اللّه أن التكليف قبل القدرة الحقيقية صحيح بناء على وجودها عند الفعل فاشتراط القدرة التي هي سلامة الآلات وصحة الأسباب عند التكليف يكون فضلا لا محالة قوله وهذا شرط في أداء حكم كل أمر أي ما ذكرنا من القدرة بسلامة الآلات شرط وجوب أداء ما ثبت بكل أمر سواء كان المأمور به حسنا لعينه أو لغيره حتى أجمعوا أن الطهارة لا تجب على العاجز عنها ببدنه بأن لم يقدر على استعماله حقيقة وتأويله إذا لم يجد من يستعين به فإن وجد من يستعين به لا يجوز له التيمم كذا في المبسوط وفي فتاوى القاضي الإمام فخر الدين رحمه اللّه إن كان المعين حرا أو امرأته جاز له التيمم في قول أبي حنيفة رحمه اللّه لأنه لا يجب عليهما إعانته وإن كان مملوكا اختلف المشايخ على قوله والفرق على أحد القولين أن العبد وجب عليه الإعانة فكان بمنزلة بدنه بخلاف الحر وعن هذا قيل إن كان المعين يعينه ببدل لا يجوز له التيمم عند الكل فثبت بما ذكرنا أن قوله وأجمعوا مؤول بما ذكرنا على أنه روي عن محمد رحمه اللّه إن لم يجد من يعينه لا يجوز له أن يتيمم في المصر إلا أن يكون مقطوع اليدين لأن الظاهر أنه يجد في المصر من يستعين به من قريب أو بعيد والعجز بعارض على شرف الزوال بخلاف مقطوع اليدين كذا في المبسوط (١/٢٨٤) قوله وعلى من عجز عن استعماله أي حكما بأن حل نقصان ببدنه بأن ازداد مرضه بالتوضؤ أو بماله بأن لا يجد الماء إلا بثمن غال واختلف في تفسير الغالي فقيل إن كان لا يجده إلا بضعف القيمة فهو غال وقيل ما لا يدخل تحت تقويم المقومين فهو غال ويعتبر قيمة الماء في أقرب المواضع من الموضع الذي يعز فيه الماء كذا في فتاوى القاضي الإمام فخر الدين رحمه اللّه وقوله في مرض معطوف على قوله في الزيادة وهو لف ونشر مشوش قوله وكذلك أي وكالوضوء الصلاة لا يجب أداؤها إلا بهذه القدرة أي المكنة ولهذا كان وجوب الأداء بحسب ما يتمكن منه قائما أو قاعدا أو بالإيماء لأن تمكن السفر المخصوص به أي بالحج لا يحصل دونهما أي دون الزاد والراحلة في الغالب فالزاد والراحلة من ضرورات السفر على ما عليه العادة لأن الزاد عبارة عن قوته والراحلة عبارة عما تحمله وهو لا يجد بدا عنهما ولا يشترط زيادة المال والخدم لأن الوجوب ح يتعلق بالمكنة الميسرة وهي ليست بشرط بالإجماع وإنما قيد بقوله في الغالب لأنه قد يوجد بدونهما بطريق الكرامة كما هو محكي عن بعض السلف وقد يوجد بدون الراحلة أيضا إلا أن ذلك نادر لا يصح بناء الحكم عليه ولا يقال أدنى القدرة فيه صحة البدن بحيث يقدر على المشي واكتساب الزاد في الطريق ولهذا صح النذر به ماشيا فينبغي أن يكون الوجوب متعلقا بهذا القدر من القدرة لا بالزاد والراحلة لأنا نقول في اعتبار هذه القدرة حرج عظيم لأنه يؤدي إلى الهلاك في الغالب والحرج منفي وإنما اعتبرنا في الصلاة القدرة المتوهمة وإن كان لا يتحقق الأداء بها ليظهر أثره في الخلف وهو القضاء لا لعين الأداء ولا خلف للحج ينتفي بمباشرته الحرج فلذلك لم تعتبر إلا بقدرة مالية وهي أن يكون متمكنا من أدائها بأن كان مالكا للمال قادرا عليه بنفسه أو بنائبه حتى لو ثبت له التمكن بمال الغير بأن أذن له في ذلك لا يعتبر في وجوب الأداء الزكاة وهذا بخلاف الطهارة حيث ثبت القدرة على الماء بالإباحة لأن صفة العبادة فيها غير مقصودة بل المقصود الطهارة وهي تحصل بالإباحة (١/٢٨٥) وههنا معنى العبادة مقصود مع ذلك صفة الغنى في المؤدى معتبر ولا يحصل ذلك بالإباحة وكذلك لو كان بعيدا من ماله أو لم يكن يجد المصرف لا يثبت التمكن حتى لو هلك المال قبل الوصول إليه سقط الواجب بالإجماع وإنما قيد به لأن في الهلاك بعد التمكن خلافا كما سيأتي قوله ولهذا قال زفر إلى آخره قد ذكرنا أن المأمور بفعل لا بد من أن يكون قادرا على تحصيل المأمور به حقيقة لأن تكليف ما ليس في الوسع ليس بحكمة إلا أن القدرة على نوعين أحدهما سلامة الآلات وصحة الأسباب وهي تسمى قدرة لحدوث القدرة فيها عند قصد الفعل في المعتاد والثاني حقيقة القدرة التي يوجد بها الفعل والتكليف يعتمد الأولى وكان ينبغي أن يعتمد الثانية غير أن تعذر تقدم المشروط على الشرط منع عن ذلك فنقل الشرطية إلى الأولى لحصول الثانية بها عادة عند الفعل فثبت أنه لا بد من أن يكون المأمور قادرا على الفعل حقيقة على معنى أنه لو عزم على الفعل لوجد الفعل بالقدرة الحقيقية فكانت حالة وجود الفعل حالة وجود القدرتين جميعا فلهذا قال زفر رحمه اللّه إذا صار الإنسان أهلا للتكليف في آخر الوقت بأن أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو طهرت الحائض أو أفاق المجنون في آخر الوقت بحيث لا يتمكن من أداء الفرض فيه لا يجب عليه الصلاة لأنه ليس بقادر على الفعل حقيقة لفوات الوقت الذي هو من ضرورات القدرة فلم يثبت التكليف لعدم شرطه ولا معنى لقول من قال إن احتمال القدرة ثابت باحتمال امتداد الوقت وهو كاف لصحة التكليف لأن ذلك احتمال بعيد وهو لا يصلح شرطا للتكليف لأن المقصود لا يحصل به ألا ترى أن احتمال سفر الحج بدون زاد وراحلة واحتمال القدرة على الصوم للشيخ الفاني واحتمال القدرة على القيام والركوع والسجود للمريض المدنف والمقعد بزوال المرض والزمانة واحتمال الإبصار للأعمى بزوال العمى أقرب إلى الوجود من هذا الاحتمال ومع ذلك لم يصلح شرطا للتكليف فهذا أولى قوله لكن أصحابنا استحسنوا أي عملوا بالدليل الخفي الأقوى وتركوا القياس الذي عمل به زفر بعد تمام الحيض بأن انقطع الدم على العشرة أو دلالة انقطاعه أي الحيض قبل تمامه بأن انقطع الدم فيما دون العشرة بإدراك وقت الغسل بعد الانقطاع (١/٢٨٦) وحاصله أن الدم إذا انقطع على العشرة أي تم الحيض بتمام العشرة وقد بقي من الوقت شيء قليل أو كثير كان عليها قضاء تلك الصلاة عندنا وإن لم تدرك وقت الغسل وإن انقطع على ما دون العشرة وقد بقي من الوقت مقدار ما يمكنها أن تغتسل وتتحرم للصلاة كان عليها قضاء تلك الصلاة وإلا فلا لأن زمان الاغتسال فيما دون العشرة من جملة الحيض في حق المسلمة ولهذا لا ينقطع حق الرجعة للزوج قبل الاغتسال وذلك لأن الدم يسيل تارة وينقطع أخرى فبمجرد الانقطاع لا يحكم بالخروج من الحيض لجواز أن يعاودها الدم فإذا اغتسلت يحكم بطهارتها فلما كانت مدة الاغتسال من الحيض وجب أن يدرك جزء من الوقت بعد مدة الاغتسال ليجب عليها الصلاة وقوله يصلح للإحرام لمبالغة جانب القلة لا أن يكون ذلك شرطا حتى لو أدركت أقل من ذلك يجب عليها الصلاة وكذلك في سائر الفصول أي كما استحسنوا في الحيض استحسنوا في إيجاب الصلاة على الكافر إذا أسلم والصبي إذا بلغ والمجنون إذ أفاق في آخر الوقت وهو المختار من مذهب الشافعي أيضا فإنه قد ذكر في الملخص في الفتوى في مذهب الشافعي ولو زال العذر المسقط للقضاء كالجنون والصبا والكفر والحيض في قدر تكبيرة من الوقت لزمه تلك الصلاة ولو زال قبيل الغروب لزمه الظهر والعصر ولو زال قبيل الفجر لزمه العشاء والمغرب وكذا ذكر الغزالي أيضا وجه الاستحسان أن سبب الوجوب هو جزء من الوقت قد وجد في حق الأهل فيثبت به أصل الوجوب إذ هو ليس بمفتقر إلى شيء آخر وكذا شرط وجوب الأداء موجود لأنه ليس بمتوقف على حقيقة القدرة لامتناع تقدم القدرة على الفعل واستحالة تقدم المشروط على شرطه بل هو متوقف على توهم القدرة الذي ثبت بناء على سلامة الآلات وصحة الأسباب وقد وجدا لتوهم ههنا لجواز أن يظهر في ذلك الجزء امتداد بتوقف الشمس فيسع الأداء فيثبت بهذا القدر وجوب الأداء ثم بالعجز الحالي عن الأداء ينتقل الحكم إلى خلفه وهو القضاء يوضحه أن في أوامر العباد يثبت لزوم الأداء بهذا القدر من القدرة فإن من قال لعبده (١/٢٨٧) اسقني ماء غدا يكون أمرا صحيحا موجبا للأداء وإن لم يثبت في الحال أنه قادر على ذلك غدا لجواز أن يموت قبله أو يظهر عارض يحول بينه وبين التمكن من الأداء فكذلك في أوامر الشرع وجوب الأداء يثبت بهذا القدر كذا ذكر الإمام السرخسي رحمه اللّه فإن قيل قد ذكرت أن القدرة على نوعين قدرة سلامة الآلة والقدرة الحقيقية فنحن نسلم أن توهم القدرة الحقيقية كاف لصحة التكليف إذا كان مبنيا على سلامة الآلة ووجودها حقيقة ولكن لا نسلم أن توهم حدوث الآلة وسلامتها كاف لصحته فإن توهم حدوث آلة الطيران للإنسان ثابت وكذلك توهم حدوث سلامة آلة الأبصار والمشي للأعمى والمقعد ثابت ومع ذلك لا يصح التكليف بالطيران والإبصار والمشي والتوهم الذي ذكرتم من هذا القبيل لأن الوقت للفعل بمنزلة الآلة كاليد للبطش والرجل للمشي فلا يصح بناء التكليف عليه قلنا توهم هذه القدرة إنما لا يصلح شرط التكليف إذا كان المطلوب منه عين ما كلف به فأما إذا كان المطلوب منه غيره فهو كاف لصحته كالأمر بالوضوء إذا كان المقصود منه حقيقة التوضؤ لا يصح إلا عند وجود الماء حقيقة فأما إذا كان المطلوب منه خلفه وهو التيمم فتوهم الماء وإن كان بعيدا كاف لصحة الأمر به ليظهر أثره في حق خلفه ويشترط ح سلامة آلات الخلف لأنه هو المقصود لا سلامة آلات الأصل وفي مسألتنا المقصود من هذا التكليف إيجاب خلفه لا حقيقة الأداء فيشترط سلامة الآلات في حق الخلف وهو القضاء لا سلامة آلات الأصل وهو الأداء بل يكفي فيه توهم الحدوث قوله باحتمال امتداد الوقت عن الجزء الأخير كلمة عن بمعنى من البيانية ويتعلق بالوقت والوقت بمعنى الزمان والباء في بوقف الشمس للسببية وتتعلق بالامتداد أي باحتمال امتداد الزمان الذي هو الجزء الأخير من وقت الصلاة بسبب وقف الشمس كما كان لسليمان صلوات اللّه عليه وسلامه روي أن سليمان عليه السلام لما عرض له الخيل الصافنات الجياد وفاته صلاة العصر أو ورد له كان في ذلك الوقت باشتغاله بها وأهلك تلك الخيل بالعقر وضرب الأعناق كما قال تعالى فطفق مسحا بالسوق والأعناق تشؤما بها حيث شغلته عن ذكر ربه وعبادته وقهرا للنفس بمنعها عن حظوظها جازاه اللّه تعالى بأن أكرمه برد الشمس إلى موضعها من وقت الصلاة ليتدارك (١/٢٨٨) ما فاته من الصلاة أو الورد وبتسخير الريح بدلا عن الخيل فتجري بأمره رخاء حيث أصاب إليه أشير في كتاب عصمة الأنبياء وكتاب حصص الأتقياء من قصص الأنبياء عليهم السلام قوله وذلك نظير مس السماء أي اعتبار توهم القدرة وإن كان بعيدا في وجوب الأداء لخلفه نظير اعتبارنا توهم البر وإن كان بعيدا في انعقاد اليمين على مس السماء لوجوب الكفارة فإذا حلف ليمس السماء أو ليحولن هذا الحجر ذهبا انعقدت يمينه عندنا ويأثم في هذه اليمين لأن المقصود باليمين تعظيم المقسم وإنما يحصل منها هتك حرمة الاسم باستعمال اليمين في هذا المحل وقال زفر رحمه اللّه لا ينعقد لأن من شرط انعقاد اليمين أن يكون ما يحلف عليه في وسعه إيجاده ولهذا لم ينعقد اليمين الغموس وذلك غير موجود ههنا ولكننا نقول انعقاد اليمين باعتبار توهم الصدق في الخبر وهو موجود فإن السماء عين ممسوسة قال اللّه تعالى إخبارا عن الجن وأنا لمسنا السماء والملائكة يصعدون إليها ولو أقدره اللّه تعالى على صعودها لصعدها كعيسى ومحمد عليهما السلام وكذلك الحجر محل قابل للتحول لو حوله اللّه عز وجل فينعقد يمينه ثم يحنث في الحال لعجزه عن إيجاد شرط البر ظاهرا وذلك كاف للحنث ولا يؤخر الحنث إلى حين الموت لعدم الفائدة وهذا بخلاف الغموس لأن تصور البر الذي هو الأصل مستحيل فيه بمرة فلا ينعقد للخلف وهو الكفارة ولا يقال إعادة الزمان الماضي في قدرة اللّه تعالى وأيضا وقد فعله لسليمان عليه السلام فكان ينبغي أن ينعقد يمين الغموس بهذا الطريق أيضا لأنا لا نسلم تصور إعادة الزمان الماضي على أنه أخبر عن فعل قد وجد منه كاذبا فيستحيل فيه الصدق لأن اللّه تعالى وإن أعاد الزمان لا يصير الفعل فيه موجودا من الحالف بدون أن يفعله فلهذا لم ينعقد الغموس كذا في المبسوط قوله فصار مشروعا متعلق بقوله وقد وجد احتمال القدرة والضمير المستكن في فصار راجع إلى وجوب الأصل أي فصار وجوب الأصل وهو الأداء مشروعا بهذا الاحتمال ثم وجب النقل يعني إلى خلفه وهو القضاء للعجز الحالي قوله كمن هجم أي دخل وإنما اختار لفظ الهجوم دون الدخول لأن معناه الإتيان بغتة والدخول (١/٢٨٩) من يمينه ثم يحنث في الحال لعجزه من أيجاد شرط البرظاهرا وذلك كاف للحنث ولا يؤخر الحنث إلى حين الموت لعدم الفائدة وهذا بخلاف الغموس لأن تصور البر هو الأصل مستحيل فيه بمرة فلا ينعقد للخلف وهو الكفارة ولا يقال كاف للحنث ولا يؤخر الحنث إلى حين الموت لعدم الفائدة وهذا بخلاف الغموس لأن تصور البر هو الأصل مستحيل فيه بمرة فلا ينعقد للخلف وهو الكفارة ولا يقال إعادة الزمان الماضي في قدرة اللّه تعالى وأيضا لأنا لا نسلم تصور إعادة الزمان الماضي على أنه أخبر عن فعل قد وجد منه كاذبا فيستحيل فيه الصدق لأن اللّه تعالى وإن أعاد الزمان لا يصير الفعل فيه موجودا من الحالف بدون أن يفعله فلهذا لم ينعقد الغموس كذا في المبسوط قوله فصار مشروعا متعلق بقوله وقد وجد القدرة والضمير المستكن في فصار راجع إلى وجوب الأصل أي فصار وجوب الأصل وهو الأداء مشروعا بهذا الاحتمال ثم وجب النقل يعني إلى خلفه وهو القضاء لعجز الحالي قوله كمن هجم أي دخل وإنما اختار لفظة الهجوم دون الدخول لأن معناه الإتيان بغتة و الدخول من غير استئذان وإتيان وقت الصلاة بهذه الصفة ولأن العجز في هذه الحالة أكثر فإن من دخل عليه باستئذان ربما يتهيأ لذلك فأما إذا دخل عليه بغتة فالظاهر أنه لا يمكنه التهيؤ لذلك فهجوم وقت الصلاة على المسافر مع اشتغاله بتعب السفر وعدم من يعلمه بالوقت من مؤذن ونحوه يحقق العجز عن استعمال الماء لعدم تهيئته الماء قبل ذلك ومع ذلك يتوجه عليه خطاب الأصل أي الوضوء وهو قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم لاحتمال حدوث الماء بطريق الكرامة كما هو منقول عن بعض المشايخ ثم ينتقل بالعجز الظاهري إلى خلفه وهو التراب قوله والأمر المطلق أي المطلق عن القرينة الدالة على أن المأمور به حسن لعينه أو لغيره يتناول الضرب الأول من القسم الأول القسم الأول هو الحسن لعينه وقد تنوع نوعين ما حسن لعينه حقيقة وما ألحق به حكما فالأمر المطلق يتناول الضرب الأول دون ما عداه من الأقسام أو معناه يتناول الضرب الأول أي النوع الأول وهو الحسن لعينه من القسم الأول أي من التقسيم الأول وهو قوله المأمور به نوعان في هذا الباب ويدل عليه ما ذكر بعده ويحتمل الضرب الثاني أي ما حسن لغيره نص على هذا في غير واحد من الكتب وهكذا ذكر الشيخ في شرح التقويم أيضا فقال وأما الأمر المطلق في العبادة فينصرف إلى ما حسن لمعنى في عينه مثل الإيمان باللّه والصلاة إلا بدليل يصرفه إلى غيره والحاصل أن الأمر المطلق يثبت به حسن المأمور به لعينه وعند بعض مشايخنا كلام مبدل يثبت الحسن لغيره لأن ثبوت الحسن فيه بطريق الاقتضاء على ما مر وهو ضروري والضرورة تندفع بالأدنى وهو الحسن لغيره فلا يثبت ما وراءه إلا بدليل زائد ولكنا نقول يثبت بمطلق الأمر أقوى أنواع الطلب وهو الإيجاب فيقتضي ذلك كمال صفة الحسن في المأمور به لأن نفس الطلب من الحكيم لما اقتضى نفس الحسن فكماله يقتضي كمال الحسن أيضا وذلك في الحسن الذاتي إذ هو الحسن الحقيقي والحسن المستفاد من الغير له شبه بالمجاز لأنه ثابت من وجه دون وجه ولأن الكلام في الأمر بفعل هو للّه تعالى عبادة فكان الأمر به استعبادا إذ لا فرق في المعنى بين قوله أقيموا الصلاة وبين قوله اعبدوني بها والعبادة للّه تعالى حسنة لعينها فهذا معنى قول الشيخ وكذلك كونه عبادة يقتضي هذا المعنى وقولهم ثبت بطريق الاقتضاء فيثبت الأدنى قلنا ثبوته بطريق الاقتضاء يمنع ثبوت العموم ولا يمنع ثبوت صفة الكمال فيه وكلامنا في ذلك وذكر في الميزان وأكثر مشايخنا قالوا هذه المسألة فرع مسألة الحسن والقبح فمن قال الحسن عقلي قال يعرف بالعقل أن الحسن راجع إلى ذاته أو إلى غير متصل به ومن قال هو (١/٢٩٠) تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة (اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري سنة الولادة / سنة الوفاة ٧٣٠هـ. تحقيق عبد اللّه محمود محمد عمر. الناشر دار الكتب العلمية سنة النشر ١٤١٨هـ - ١٩٩٧م. مكان النشر بيروت عدد الأجزاء ٤ شرعي فالحسن عندهم ما أمر به فيجب أن يكون كل مأمور به حسنا إلا إذا ثبت بالدليل أنه حسن لغيره وهذا هو الأصح قوله وعلى هذا أي على أن الأمر المطلق يقتضي كمال صفة الحسن للمأمور به قال زفر والشافعي رحمهما اللّه لما تناول الأمر بعد الزوال يوم الجمعة الجمعة وهو قوله جل ذكره فاسعوا إلى ذكر اللّه دل هذا الأمر على صفة حسنه أي على كون المأمور به وهو الجمعة حسنا لعينه وعلى أنه أي المأمور به هو المشروع في حق من تناوله الأمر دون غيره حتى لو صلى الصحيح المقيم الظهر في منزله ولم يشهد الجمعة لا يجزيه إلا إذا أعاد الظهر بعد فراغ الإمام من الجمعة عند زفر وبعد خروج الوقت عند الشافعي رحمهما اللّه وذلك لأن الإجماع منعقد على أن فرض الوقت صلاة واحدة وقد ثبت أنها هي الجمعة في حقه إذ هو مأمور بالسعي إلى الجمعة وترك الاشتغال بالظهر ما لم يتحقق فوت الجمعة فيلزم منه انتفاء شرعية الظهر قبل فوات الجمعة ضرورة إلا أن عند زفر فوت الجمعة بفراغ الإمام لأنه يشترط السلطان لإقامة الجمعة وعند الشافعي فوتها بخروج الوقت لأن السلطان عنده ليس بشرط كذا في المبسوط قوله وقالا أي بناء على هذا الأصل إن المعذور إذا صلى الظهر يوم الجمعة في بيته ثم أتى الجمعة فصلاها لا ينتقض به الظهر وهو القياس حتى لو شرع مع الإمام فقبل أن يتم الإمام الجمعة خرج وقت الظهر لا يلزمه إعادة الظهر وعندنا ينتقض الظهر ويلزمه الإعادة وهذا استحسان وجه قولهما أن هذا اليوم في حقه كسائر الأيام فيتوجه عليه خطاب الظهر وصار الظهر حسنا مشروعا في حقه ولهذا صح أداء الظهر منه بالإجماع من غير إساءة وإذا صح أداؤه في وقته لم ينتقض بالجمعة كما إذا صلى الظهر في بيته ثم أدرك الجماعة أو كما إذا صلى الظهر ثم أدى العصر ويلزم مما ذكرنا أنه لو أدى الجمعة قبل أداء الظهر لا يجوز عندهما كما لو أدى غير المعذور الظهر لما ذكرنا أن فرض الوقت واحد وقد تعين الظهر في حقه فاندفع غيره ضرورة وليس كذلك فإن المعذور لو أدى الجمعة قبل أداء الظهر يجوز عن فرض الوقت بالإجماع كما لو أدى الظهر فالأوجه (١/٢٩١) ما ذكره القاضي الإمام في الأسرار وهو أن فرض الوقت واحد وأجمعنا أن المعذور لم يؤمر بإقامة الجمعة عينا بل له الخيار بين إقامة الجمعة والظهر فإذا أدى أحدهما اندفع الآخر كالمكفر عن اليمين إذا كفر بنوع بطل سائر الأنواع ولم ترخص نقض ما أدى بالآخر كما إذا صلى الجمعة لم ينتقض بالظهر قوله وقلنا نحن لا خلاف في هذا الأصل يعني في كون الأمر المطلق مقتضيا لكمال الحسن لكن الكلام في كيفية توجه الأمر بالجمعة فيقول الفرض الأصلي في هذا اليوم هو الظهر في حق الكافة لأن فرض العين ما يخاطب الآحاد بإقامته ترخص شرائط لا يتمكن الواحد من إقامتها بنفسه فبقي الفرض كما كان مشروعا والدليل عليه أنه إذا فاته فرض الوقت أصلا ينوي قضاء الظهر بعد الوقت فلو لم يكن أصل فرض الوقت الظهر لما صح نية قضاء الظهر بعد فوات الوقت فثبت أن فرض الوقت هو الظهر في حق الكل كما في سائر الأيام إلا أن الأمر ورد بأداء الجمعة في هذا اليوم وليس ذلك على سبيل النسخ للظهر كما زعم الخصم لأنه بعد فوات الجمعة وبقاء الوقت يؤدى الظهر وهو لا يصلح قضاء للجمعة لاختلافهما اسما ومقدارا وشروطا كيف ولا قضاء للجمعة بالإجماع فعرفنا أن موجب الأمر ليس نسخ الظهر بل قضيته إقامة الجمعة مقام الظهر بفعلنا غير أن هذا الأمر حتم في حق غير المعذور وليس كذلك في حق المعذور بل رخص له أن لا يقيم الجمعة مقام الظهر بفعله ويأتي بالفرض الأصلي بدليل أن المسلمين أجمعوا أن المسافر إذا صلى الجمعة قبل الظهر كان ذلك فرض وقته وكذا المقيم الصحيح إذا صلى الظهر بعد فوات الجمعة كان فرض وقته وفرض الوقت ما علق إلا بالوقت فأما الفوت فإنما يتعلق به قضاء الفائت فتبين بما ذكرنا أن الظهر مشروع في حق الصحيح المقيم كما أن الجمعة مشروعة في حق المسافر وصار كأن الشارع جعل الدلوك يوم الجمعة سببا للظهر والجمعة على أن يختار العبد الجمعة وأنها تقوم مقام الظهر إذا أديت ومثاله وقت رمضان علقت شرعية الصوم بالشهر في حق الكل ويسقط في حق المسافر بعدة من أيام أخر فإذا ثبت هذا قلنا إذا صلى المقيم الظهر صح لأنه فرض وقته ولم ينسخ بالجمعة كما في حق المعذور لأنهما سواء في كون الظهر مشروع الوقت في حقهما وإنما اختلفا في وجوب الفعل وعدمه وعدم الوجوب لا يمنع الصحة كالمسافر إذا صام الشهر صح كالمقيم وإن اختلفا في الوجوب لأنهما اتفقا في أن الشهر سبب شرع (١/٢٩٢) هذا الصوم في حقهما إلا أن الصحيح المقيم يأثم بترك الجمعة بأداء الظهر لأنه منهي عن ذلك ولكن لما كان النهي لمعنى في غير ما أتى به من الفعل لم يوجب فساد الفعل وأما المسافر إذا صلى الجمعة بعد الظهر فقد انتقض ظهره أيضا لأنه يساوي المقيم في شرعية الجمعة في حقه على ما بينا وإنما يفارقه في أن ثبت له رخصة الترك وهذه رخصة حقيقية لأنها رخصة ترفيه بالإجماع وهي محققة للعزيمة لا نافية لها فإذا قدم على العزيمة صار معرضا عن الرخصة التي هي حقه فالتحق بالمقيم والمقيم يفسد ظهره بجمعته كذا هذا كذا في الأسرار وغيره وعن محمد رحمه اللّه أنه قال لا أدري ما أصل فرض الوقت في هذا اليوم ولكن يسقط الفرض عنه بأداء الظهر أو الجمعة يريد به أن أصل الفرض أحدهما لا بعينه ويتعين بفعله كذا في المبسوط قوله وثبت أن قضية الأمر يعني قوله تعالى فاسعوا أداء الظهر بالجمعة أي إقامتها مقام الظهر بالفعل وإسقاطه عن الذمة بأدائها فصار ذلك أي الأمر بالجمعة مقررا للظهر لا ناسخا له بمنزلة فداء إسماعيل عليه السلام بالكبش حيث وقع الذبح عن إسماعيل ولهذا سمي ذبيحا وأمر بنقضه أي الظهر بالجمعة بعدما أدي كما أمر بإسقاطه بالجمعة قبل الأداء وذلك لأن قوله تعالى فاسعوا يتناول من صلى الظهر ومن لم يصله ولأنه وقع مكروها وسبيله النقض بالإعادة ولا يقال في الأمر بالنقض إبطال العمل وهو حرام منهي فلا يجوز القول به لأن النقض للإكمال جائز ولأنه إبطال ضمني فلا يعتبر قوله وإنما وضع عن المعذور جواب عما يقال إن المعذور رخص له ترك الجمعة فإذا ترخص وأدى الظهر في بيته استوفى موجب الرخصة فلا يكون أداء الجمعة منه نقضا لما صنع لأنه لا يمكنه تبديل الرخصة بعد الاستيفاء وإليه أشار الشيخ في قوله ولم ينتقض بالجمعة من بعد فقال العمل بالرخصة لا يوجب إبطال العزيمة إذا أمكن العمل بها بعد ذلك وقد أمكن ههنا لبقاء الجمعة بعد أداء الظهر فلو لم يجز جمعته بعدما حضر وأدى الجمعة لكان عائدا على موضوعه بالنقض لأن السقوط كان لدفع الحرج فلو لم يجز كان فيه إثبات حرج لم يثبت في حق غير المعذور وذلك باطل قوله يختص بالأداء دون القضاء حتى إذا قدر في الوقت على الأداء ثم زالت (١/٢٩٣) القدرة بعد خروج الوقت كان القضاء واجبا عليه حكما لتقصيره لأن التقصير لا يصلح سببا لإسقاط الواجب عنه لأنه جناية وهي لا تصلح سببا للتخفيف فلم يشرط البقاء الواجب لأن بقاء الشيء غير وجوده ولهذا صح إثبات الوجود ونفي البقاء بأن يقال وجد ولم يبق فلا يلزم أن يكون شرط الوجود شرط البقاء لأن ما هو شرط الشيء لا يلزم أن يكون شرطا لغيره كالشهود في باب النكاح شرط للانعقاد لا للبقاء ولا يلزم منه تكليف ما ليس في الوسع لأنه بقاء التكليف الأول الذي وجد شرطه لا أنه تكليف ابتدائي فلهذا لم يشترط فيه القدرة وهذا إنما يستقيم على قول من أوجب القضاء بالنص الذي وجب به الأداء فأما من أوجب القضاء بنص مقصود فلا بد له من أن يشترط القدرة في القضاء أيضا لأنه تكليف آخر والدليل على أن القدرة ليست بشرط في وجوب القضاء أن في النفس الأخير من العمر يلزمه تدارك ما فاته من الصلوات والصيامات والحج وغيرها وتيقنا أنه ليس بقادر على تداركها ولهذا تبقى عليه بعد الموت وليس ذلك كالجزء الأخير من الوقت في حق الأداء لأنا اعتبرنا ذلك ليظهر أثره في خلفه ولا خلف للقضاء فلم يعتبر وقد بقيت الفوائت عليه فعلم أن القدرة مختصة بالأداء ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا فاتته صلوات في الصحة فقضاها في حالة المرض قاعدا أو مضطجعا أو موميا حيث يخرج عن العهدة ولو لم يشترط القدرة في القضاء لما خرج عن العهدة لأن القيام والركوع والسجود كانت واجبة ولم يأت بها لأنا نقول إنه قضاها كما وجب عليه الأداء لأن الشرط في الأداء أصل القدرة التي تمكنه من الأداء قائما أو قاعدا لا قدرة مكيفة فظهر بهذا أن استطاعته على القيام ما كانت شرطا في الابتداء بل شرطنا ذلك لكونه قادرا على القيام لا أن يكون القدرة على القيام مشروطة في وجوب الصلاة ألا ترى أنه لو كان مريضا في الوقت يلزمه الصلاة على ما يستطيعه فعلم أن الشرط هو مطلق القدرة لا القدرة المكيفة فيكون اشتراط القيام والركوع وغيرهما أمرا عارضا زائدا كذا رأيت في بعض الشروح ولم يتضح لي هذا الجواب وقوله ولهذا قلنا أي ولعدم اشتراطها لبقاء الواجب قلنا لا يسقط بالموت وإن كان عجزا كليا في أحكام الآخرة فيبقى تحت عهدته مؤاخذا به فثبت أن دوام القدرة (١/٢٩٤) ليس بشرط للبقاء ولقائل أن يقول أثر عدم السقوط في حق الإثم دون وجوب الفعل فإن الفعل ساقط عن الميت بالإجماع وذلك لا يدل على عدم اشتراط بقاء القدرة لبقائه فإن ما ثبت بالقدرة الميسرة لا يسقط بالموت في حق الإثم أيضا فإنه إذا فرط في أداء الزكاة بعد التمكن حتى هلك المال يبقى الواجب في حق الإثم حتى جاز أن يؤاخذ به في الآخرة وإن سقط في أحكام الدنيا فلا يصح هذا الاستدلال والحاصل أن بقاء الوجوب يستغني عن القدرة عند الشيخ وإن كان لا يثبت ابتداء بدون القدرة ويظهر ثمرته فيما إذا مات قبل أن يقدر ثانيا أثم لما فيه من الفوت بتأخيره مختارا وإن لم يكن القدرة قائمة عند الإيجاب ولم يقدر حتى مات لم يؤاخذ به لعدم شرط الوجوب فإذا قدر على الحج مثلا بملك الزاد والراحلة حال أمن الطريق وجب عليه الأداء فإن لم يحج ولم يقدر بعد حتى مات يؤاخذ به في الآخرة وإن لم يكن له قدرة عليه أصلا لم يؤاخذ به وهذا الذي ذكرنا إذا لم يكن الفعل حالة البقاء مطلوبا منه فأما إذا كان مطلوبا منه فلا بد له من القدرة لأن طلب الفعل بدون القدرة لا يجوز ألا ترى أن المنظور إليه اشتراط القدرة حالة الفعل فيجب الفعل بحسب القدرة في تلك الحالة فإنه إذا وجبت الصلاة عليه في حالة الصحة قائما يقضيها في حالة المرض مضطجعا ويخرج به عن العهدة ولو وجبت عليه في حالة المرض مضطجعا يقضيها في حالة الصحة قائما لا مضطجعا فلو لم يشترط القدرة حالة البقاء ولم يكن حال البقاء منظورا إليها في ذلك لكان الجواب على العكس في المسألتين وبعض الحذاق من تلامذة شيخنا كان يقول لا فرق في اشتراط القدرة بين الأداء والقضاء لأن الأداء إذا كان مطلوبا بنفسه يشترط فيه القدرة التي هي سلامة الآلات حقيقة وإن كان مطلوبا لغيره يشترط فيه نفس التوهم لا غير على ما مر فكذا القضاء إذا كان الفعل منه مقصودا يشترط فيه القدرة وإن لم يكن الفعل فيه مقصودا يشترط فيه التوهم أيضا ففي النفس الأخير إنما يبقى عليه وجوب قضاء الصلوات المتكثرة والصيامات المتعددة بناء على توهم الامتداد ليظهر أثره في المؤاخذة كما إن وجوب الأداء يثبت في الجزء الأخير من الوقت بناء على التوهم ليظهر أثره في القضاء وكان يخرج الفروع ويقول إنما يبقى الصوم والصلاة في الذمة بعد فوات القدرة لتوهم حدوث القدرة بعد ذلك لا لأن القدرة لم تشترط للبقاء وكذلك ما ثبت بقدرة ميسرة يبقى بعد فوات القدرة كالكفارة بالمال تبقى بعد فوات المال بناء على توهم حدوث القدرة ألا ترى أنه لو ملك بعد فوات المال وانتقال الحكم إلى الصوم ما يؤدي به الكفارة يجب عليه الكفارة بالمال ولو كان (١/٢٩٥) بقاء القدرة شرطا لبقائه ينبغي أن لا يجب الكفارة بالمال بعد سقوطها بفوات المال كما لو كفر بالصوم ثم ملك المال وإنما يسقط الزكاة بهلاك المال لتعين المحل حتى لو سرق مال الزكاة أو صار ضمارا سقط عنه الزكاة لفوات القدرة ولو وجده بعد سنين لا تجب عليه زكاة السنين الماضية ولكنه يجب عليه أداء الزكاة التي كانت عليه وكذا العشر والخراج لأن كل واحد متعلق بنماء متعين فبهلاكه لم يبق التوهم وكان يقول لا أجد فرقا بين الصلاة ووجوب الكفارة في أنه تعتبر القدرة عند الفعل ويكفي قبله التوهم ويدل على اشتراط القدرة في القضاء ما مر في باب الأداء والقضاء أن الأداء إنما يفوت مضمونا إذا كان قادرا على المثل حتى لو عجز عن المثل سقط كما في سقوط فضل الوقت وغصب المنافع وإتلاف ملك النكاح فلو لم يكن القدرة شرطا في القضاء لما سقط بالعجز إلا أن ما وجب بالقدرة الممكنة يبقى بعد فوات تلك القدرة لتوهم القدرة بعد ذلك فإن تحقق التوهم وجب الفعل وإلا ظهر أثره في المؤاخذة في الدار الآخرة وذكر في الأسرار في مسألة التفريط أن الأصل أن القدرة المشروطة لابتداء وجوب الأداء يشترط لبقاء وجود الأداء لأنها شرط الأداء فإن اللّه تعالى ما كلف أداء ما ليس في القدرة وأسقط بالحرج كثيرا من حقوقه والأداء حقيقته وقت الفعل فيشترط قيام تلك القدرة المشروطة للأداء وقت الفعل أيضا ألا ترى أنا نشترط القدرة على التوضؤ بالماء حين المباشرة وقيام القدرة على أداء الصلاة قائما حين الأداء لا حين الوجوب قوله وأما الكامل من هذا القسم أي من الشرط الذي بينا أن الواجب يتوقف عليه ويزداد حسنا باشتراطه القدرة الميسرة وهذه زائدة على الأولى وهي الممكنة بدرجة لأن بها يثبت الإمكان ثم اليسر وإنما شرطت هذه القدرة في أكثر الواجبات المالية ولم يشترط في البدنية لأن أداءها أشق على النفس من العبادات البدنية لأن المال شقيق الروح محبوب النفس في حق العامة والمفارقة عن المحبوب بالاختيار أمر شاق إليه أشار أبو اليسر وفرق ما بين الأمرين أي القدرتين أن الأولى لما شرطت للتمكن من الفعل لم يتغير بها صفة الواجب إذ لا يمكن إثباته بدونها فكانت شرطا محضا ليس فيها معنى العلة بوجه والشرط المحض لا يشترط دوامه لبقاء المشروط كالطهارة شرط لجواز الصلاة ولا يشترط دوامها لبقاء الجواز وكالشهود في باب النكاح كما ذكرنا وهذه أي القدرة الميسرة (١/٢٩٦) غيرت صفة الواجب صفة لموصوف دل عليه ميسرة وقوله شرط جواب لما وفي بعض النسخ فشرط بالفاء فعلى هذا يكون غيرت جواب لما وقوله فجعلته تفسيرا للتغيير وقوله سمحا سهلا لينا ألفاظ مترادفة والتقدير وهذه القدرة لما كانت قدرة ميسرة مغيرة صفة الواجب من مجرد الإمكان إلى صفة السهولة شرط بقاؤها لبقاء الواجب وليس معنى التغيير أنه كان واجبا أولا بقدرة ممكنة بصفة العسر ثم تغير باشتراط هذه القدرة إلى وصف اليسر بل معناه أنه لو كان واجبا بقدرة ممكنة لكان جائزا فلما توقف الوجوب على هذه القدرة دون الممكنة صار كأن الواجب تغير من العسر إلى اليسر بواسطتها فكانت مغيرة وصارت شرطا في معنى العلة فيشترط دوامها باعتبار معنى العلة لا باعتبار أنها شرط ولا يقال بقاء الحكم يستغني عن بقاء العلة أيضا كاستغناء المشروط عن بقاء الشرط فيجب أن لا يشترط دوامها أيضا لأنا نقول ذلك إذا أمكن البقاء بدون العلة كالرمل في الحج فأما إذا لم يكن فبقاء العلة شرط وههنا مما لا يمكن لأن اليسر لا يبقى بدونها والواجب لا يبقى بدون هذا الوصف لمعنى تبدل صفة الواجب أي من العسر إلى اليسر ذلك الوصف أي اليسر فيبطل الحق أي الواجب لأنه متى وجب بصفة لا تبقى إلا بتلك الصفة قوله ولهذا أي ولاشتراط بقاء هذه القدرة لبقاء الواجب الذي تعلق بها قلنا الزكاة تسقط بهلاك المال عندنا وكذا العشر والخراج لأن الشرع علق وجوبه أي وجوب هذا الواجب بقدرة ميسرة وقال الشافعي رحمه اللّه إذا تمكن من الأداء ولم يؤد ضمن لأن الوجوب تقرر عليه بالتمكن من الأداء ثم بهلاك المال عجز عن الأداء لعدم ما يؤدي به ومن تقرر عليه الوجوب لم يبرأ بالعجز عن الأداء فبقي عليه إلى الآخرة كما في ديون العباد وصدقة الفطر والحج ولأن الواجب جزء من النصاب فلما لم يؤد حتى ذهب المال بعد تمكنه منه صار مفوتا للحق عن محله فيضمن كمن لم يصل حتى ذهب الوقت ولنا أن الحق المستحق إذا وجب بوصف لا يبقى إلا كذلك لأن الباقي عين الواجب ابتداء لا غيره كالملك إذا ثبت مبيعا يبقى كذلك وإن ثبت هبة تبقى كذلك وكذلك ما في الذمة من صوم أو صلاة أو مال وهذا الواجب وجب بعد نماء المال حقيقة أو تقديرا فلو بقي بعد هلاك ذلك المال الذي هو نماء لا تقلب غرامة يأتي على أصل ماله (١/٢٩٧) فإن قيل الباقي عندي غير الواجب ابتداء بل هو مثله ضمنه بالتفويت عن وقته وهو أول أوقات الإمكان كتفويت الصلاة والصوم عن الوقت أو بالمنع عن الفقير بعد تعين مقدار الواجب محلا للصرف إلى الفقير كمنع الرهن عن المرتهن قلنا الزكاة ليست بموقتة فلا يتصور تفويتها عن الوقت وكذا المنع لا يوجب الضمان إلا بتحقق يد الغاصب على المال بأن أبطل على صاحب الحق حقه من ملك كما في منع الوديعة عن المالك أو يد متقومة كما في منع الرهن عن المرتهن ولا تصور ليد الغاصب فيما نحن فيه على المال لأنه حق صاحب المال ملكا ويدا وإنما حق الفقير في أن تعين محلا للصرف إليه وبالمنع لا تبطل تلك المحلية فلا يوجب الضمان كمنع المشتري الدار عن الشفيع حتى صار بحرا ومنع المولى العبد المديون عن البيع أو العبد الجاني عن أولياء الجناية من غير اختيار الأرش حتى هلك لا يوجب الضمان ولا على ما في ذمته من فعل التسليم لأن الغصب لا يتصور على ما في الذمة ولأنه بالمنع إنما يضمن إذا لم يكن عن ولاية وله ولاية المنع ما دام يتحرى من هو أولى كالإمام حتى قال العراقيون من مشايخنا إذا طلب الساعي فامتنع من الأداء إليه حتى هلك المال ضمن وهكذا ذكره الكرخي في مختصره لأن الساعي متعين للأخذ فيلزمه الأداء عند طلبه فبالامتناع يصير مفوتا ومشايخنا يقولون لا يصير ضامنا وكذا ذكره أبو سهل الزجاجي وأبو طاهر الدباس وهو الأصح لأنه ما فوت بهذا الحبس على أحد ملكا ولا يدا وله رأي في اختيار محل الأداء إن شاء من السائمة وإن شاء من غيرها فإنما حبس السائمة ليؤدي من محل آخر فلا يضمن كذا في الأسرار والمبسوط قوله علق وجوبه أي وجوب هذا الجواب وهو الزكاة بقدرة ميسرة بدليلين أحدهما أن المكنة الأصلية تحصل بملك الخمسة مثلا ومع ذلك لم يوجبها الشرع إلا بعد ملك المائتين ليكون الواجب قليلا من كثير والثاني أن الوجوب تعلق بوصف النماء لئلا ينتقض به أصل المال وإنما يفوت به بعض النماء غير أن الشرع أقام المدة في النصاب المعد للنمو مقام حقيقته تيسيرا لما في التعليق بحقيقة النمو ضرب حرج فعرفنا أنها (١/٢٩٨) متعلقة بقدرة ميسرة وإلى الوجه الثاني أشير في الكتاب وهو المعتمد بمال مطلق أي عن صفة النماء فيتبدل الواجب أي من اليسر إلى العسر فكان غير الأول فلا يثبت إلا بسبب آخر كصلاة المقيم لا يتغير إلى الركعتين إلا بمغير وهو السفر وكذا على العكس قوله ولا يلزم جواب السؤال وهو أن يقال إن اشتراط النصاب في الابتداء للتيسير كاشتراط النماء لأن المكنة الأصلية تثبت بدونه كما ذكرنا فوجب أن يشترط بقاؤه لبقاء الوجوب كما شرط لابتدائه ولو ملك بعض النصاب في الابتداء لا يجب به شيء من الزكاة فكذلك يجب أن لا يبقى ببقاء البعض شيء من الواجب وقد قلتم بخلافه فقال لا نسلم أن اليسر في اشتراط النصاب بل اليسر في إيجاب القليل من الكثير وذلك ثابت فيما بقي من المال فإنه لم يجب عليه إلا أداء ربع عشر الباقي وهذا لأن اليسر في الابتداء كان بإيجاب ربع العشر في كل جزء من النصاب ولم يكن يزداد يسر ما تعلق بجزء بانضمام جزء آخر إليه لأنه تعلق به ربع العشر أيضا كما تعلق بذلك الجزء فكما لم يزدد اليسر بانضمام جزء آخر إليه لا ينتقض أيضا بهلاكه إلا أن كمال النصاب شرط في الابتداء ليصير أهلا للوجوب فإن أهل الوجوب هو الغني والشرع أكد هذا الشرط في باب الزكاة فاعتبر الغناء بالمال الذي جعل سببا لوجوب الزكاة لا بمال آخر ولا يحصل الغناء به لولا مال آخر إلا إذا كان نصابا كاملا فيشترط النصاب ليصير به غنيا أهلا للوجوب والغناء لا يثبت بمطلق المال بل يثبت بكثرة المال وذلك أمر لا يضبط لاختلافه بالأشخاص والأزمان والأماكن فتولى الشارع تقديره بذاته فكان النصاب شرطا لثبوت الأهلية لا لثبوت اليسر بل اليسر فيما دون النصاب أكثر منه في النصاب لأن إيتاء درهم من أربعين درهما أيسر على رب المال من إيتاء خمسة من مائتي درهم كما أن إيتاء خمسة من المائتين أيسر من إيتاء ألف درهم من أربعين ألفا وإذا ثبت أنه شرط الوجوب لا شرط اليسر لم يشترط بقاؤه لبقاء الوجوب فيما بقي من المال قوله ولكن الغناء وصف جواب سؤال آخر يرد على هذا الجواب وهو أنه لما لم يحصل به اليسر وجب أن لا يشترط في الابتداء أيضا لأن الزكاة لا يجب إلا بقدرة ميسرة فقال الغناء وصف لا بد منه إلى آخره قوله إلا غناء من غير الغنى لا يتحقق فإن قيل الإغناء الواجب تمليك ما (١/٢٩٩) يدفع حاجة الفقير دون الإغناء الشرعي وتحققه لا يتوقف على ملك النصاب فكيف يصح قوله والإغناء من غير الغنى لا يتحقق قلنا المراد به نفي صفة الحسن عن الإغناء أي الإغناء بصفة الحسن من غير الغنى لا يتحقق فلم يكن مأمورا به شرعا لأنها وجبت لدفع حاجة الفقير لا لإحواج المؤدي ويؤيده ما ذكر القاضي الإمام في التقويم ولما شرعت أي صدقة الفطر للأغنياء عن الفقير لم يكن الفقير أهلا لوجوبها فتصير مشروعة لإحواجه فهذا يشير إلى أن حسن الإغناء المأمور به متعلق بالغناء الشرعي دون أصله ونص عليه شمس الأئمة أيضا فقال وإنما يتحقق الإغناء بصفة الحسن من الغنى وإذا كان كذلك لم يكن حسنا عند عدم ما تعلق به حسنه فلم يجز أن يكون مأمورا به شرعا فإن قيل حسن الإغناء لا يتوقف على الغناء الشرعي أيضا فإن اللّه تعالى مدح أق واما على الإيثار مع مساس حاجتهم إلى ما آتوا بقوله جل ذكره ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة قلنا بناء الأحكام على الأمور الغالبة والغالب من حال البشر عدم الصبر على الشدة وإظهار الجذع والضجر عند إصابة المكروه قال تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا فقلنا لم يحسن الإغناء من غير الغنى لئلا يؤدي إلى الأمر المذموم فأما من اختص بتوفيق من ربه وأوتي قوة في دينه حتى آثر مراد غيره على مراده وصبر على الشدائد والمكاره فحسن الإغناء منه لا يتوقف على الغنى الشرعي بل هو أحسن من الإغناء الصادر عن الغنى قال عليه السلام أفضل الصدقة جهد المقل إلا أن هذا لما كان نادرا لم يصلح لبناء الحكم فبني على الأول قوله لما كان أمرا زائدا على الأهلية الأصلية يعني لما ثبت أن اشتراط النصاب لثبوت الأهلية وأصل الأهلية ثابت بالعقل والبلوغ كان هذا أمرا زائدا على تلك الأهلية في هذه العبادة حتى صارت أهلية هذه العبادة بالعقل والبلوغ وملك النصاب كما أن القدرة الممكنة من الفعل في الصلاة أمر زائد على الأهلية الأصلية وإذا كان كذلك كان اشتراطه للوجوب لا للتيسير كاشتراط الأهلية الأصلية واشتراط القدرة في الصلاة فلم يشترط دوامه إلى آخره (١/٣٠٠) ولا يقال لما كان النصاب شرط الأهلية لا شرط اليسر ينبغي أن لا يسقط الزكاة بهلاكه لأنا نقول سقوط الزكاة لفوات النماء الذي تعلق اليسر به لا لفوات النصاب ألا ترى أنه إذا هلك بعضه يبقى بقسطه الباقي ولو كان النصاب شرط اليسر لسقطت الزكاة بفوات جزء من النصاب لانتفاء الكل بفوات جزئه قوله وهذا أي هلاك النصاب يخالف استهلاكه بأن أنفقه رب المال في حاجة نفسه أو أتلفه مجانة بأن ألقاه في البحر مثلا فإنه لا يسقط الحق وإن فات النماء والملك كما في الهلاك لأن النصاب صار في حق الواجب حقا لصاحب الحق وهو الفقير بيانه أن النصاب وإن كان في ملك رب المال وفي يده حتى جاز بيعه وسائر تصرفاته فيه عندنا ولكنه في حق الواجب صار حقا للفقير من حيث إنه صار رصدا لقضاء حقه منه إذ الواجب جزء من النصاب لا مطلق المال في الذمة بدليل أنه لو وهب النصاب من الفقير لا ينوي الزكاة أجزأه عن الزكاة ولو وهب مالا آخر له لم يجزه عنها وكذلك لو هلك المال قبل التمكن من الأداء لا يجب عليه شيء ولو كان الواجب مالا مطلقا في الذمة لكان هلاك النصاب وبقاؤه سواء وإذا ثبت أن الحق متعلق بالعين كان المستهلك جانيا على محل الحق بالإتلاف فيجعل المحل قائما زجرا عليه ونظرا لصاحب الحق إذ لو لم يجعل قائما أدى إلى فوات الحق لأن كل من وجب عليه الزكاة يصرف مال الزكاة إلى حاجته فلا يصل الفقير إلى حقه وإذا جعل قائما تقديرا يبقى الواجب ببقائه كما يثبت ابتداء بالنماء تقديرا وهذا كالمولى إذا أعتق العبد الجاني أو قتله من غير أن يعلم بالجناية يضمن القيمة لأولياء الجناية لأنه جنى على حقهم بإتلاف محله ولو فرط في تسليم العبد حتى هلك لا يضمن شيئا لأن التفريط لا يصلح سببا للضمان فكذا هذا ولأنه خوطب بأداء العين إلى الفقير فإذا أقدم على الاستهلاك فقد قصد إسقاط الحق الواجب عن نفسه فلا يقدر عليه فيجعل العين كالقائم ردا لقصده فإذا هلك بآفة سماوية فلا صنع من جهته فجاز أن يسقط الواجب ونظيره الصائم إذا سافر لم يحل له الفطر لأن الصوم واجب عليه فلم يسقط باختياره (١/٣٠١) وقصده ولو مرض أبيح له لأنه آفة سماوية فكذلك ههنا ولأن السعي لا يأخذ ذلك الواجب بل يأخذ واجبا آخر بسببه لأن سبب الوجوب قد تحقق وهو الاستهلاك وسبب الوجوب إذا تحقق أمكن تحقيق الوجوب ولأن القدرة الميسرة شرط لبقاء الواجب نظرا لمن يجب عليه والمفوت لها لا يستحق النظر كذا في الأسرار وطريقة الإمام البرغري وغيرهما قوله ولهذا قلنا أي ولاشتراط بقاء القدرة الميسرة لبقاء الواجب الذي تعلق بها قلنا كذا والتخيير تيسير لأنه إذا ثبت له الخيار شرعا ترفق بما هو الأيسر عليه كالمسافر إذا خير بين الصوم والفطر ولو لم يكن مخيرا وكان الواجب شيئا عينا بدون اختياره كان أشق عليه كالمقيم وجب عليه الصوم عينا ولا يلزم عليه صدقة الفطر قد خير فيها بين نصف صاع من بر وبين صاع من شعير أو تمر أو غير ذلك ولم يفد التخيير التيسير حتى قلتم إنها واجبة بقدرة ممكنة لأنا نقول ذلك ليس بتخيير معنى فلا يفيد التيسير وتحقيقه أن المقصود من التخيير قد يكون تأكيدا لواجب وقد يكون تيسيرا لأمر على المكلف فنظير الأول قوله تعالى أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم أي لا بد أن يصدر واحد منهما منكم وقولك لولدك حين غضبت عليه إما أن تقرأ الليلة ربع القرآن أو تقرأ الكتاب الفلاني أو تكتب كذا جزء من العلم ثم تنام وإلا لأنتقمن منك فالمقصود منه تأكيد ما أوجبت عليه من السهر في التعب لا التيسير عليه ومعناه لا بد لك من أن تفعل أحد هذه الأشياء ألبتة وأن لا يفوت عنك السهر لا محالة ونظير الثاني قولك لغلامك اشتر بهذا الدرهم لحما أو خبزا أو فاكهة فالمقصود منه التيسير ومعناه اختر منها ما تيسر عليك ثم يعرف المقصود في التخييرات الشرعية بكون تلك الأشياء التي خير المكلف فيها متماثلة في المعنى وغير متماثلة فيه لأنها إذا كانت متماثلة في المعنى فالتخيير يقتصر على الصورة ولا عبرة بالصور فيفيد تأكيد الواجب وإن كانت مخالفة في المعاني غير متماثلة فيها كما في الصور فح يتعدى أثر التخيير إلى المعنى فيفيد التيسر لا محالة فصدقة الفطر من القبيل الأول لأن الواجب فيها مقدار مالية نصف صاع من بر وقيمة صاع من شعير أو تمر تساويه عندهم وكذا المقصود دفع حاجة الفقير في هذا اليوم والكل فيه سواء فلا يفيد التخيير التيسير قصدا بل يفيد التأكيد ويصير معناه لا بد من أن يقع الأداء لا محالة إما بنصف صاع من بر أو غير ذلك مما يماثله في المالية وكفارة اليمين من القبيل الثاني لأن مالية تلك الأشياء مختلفة اختلافا ظاهرا (١/٣٠٢) فالتخيير فيها يقع على الصورة والمعنى فيفيد التيسير واعلم أن ما ذكر أن التخيير يفيد التيسير إنما يستقيم على قول عامة الفقهاء وأكثر المتكلمين فإنهم قالوا بأن الأمر بأحد الأشياء يوجب واحدا منها غير عين وأن المأمور مخير في تعيين واحد منها فعلا فأما على قول المعتزلة فلا يستقيم لأنهم قالوا بأن الكل واجب على طريق البدل بمنزلة فرض الكفاية فإنه واجب على الكل ويسقط بأداء البعض ولما كان الكل واجبا لا يفيد التخيير التيسير والمسألة طويلة مذكورة في عامة الكتب قوله ولأنه نقل دليل آخر على أنها متعلقة بقدرة ميسرة وذلك لأنه لما نقل إلى الصوم بالعجز الحالي مع توهم القدرة فيما بعد ولم يعتبر العجز المستدام في العمر كما اعتبر في سائر الأفعال مثل قوله إن لم آت البصرة فعبدي حر أو قوله إن لم أطلقك فأنت طالق أو إن لم أكلم فلانا فعلي كذا وكما اعتبر في حق الشيخ الفاني حتى لو قدر بعد الفدية لا تجزيه تلك الفدية دل على تيسير الأمر على المكلف حيث لم يشترط أصل المكنة مع احتمال حدوثها في العمر ليبرأ عنهما بالصوم ولا يبقى تحت عهدة الوجوب إلى حدوث القدرة ثم استدل على أن المعتبر العجز الحالي بقوله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فإنه تعالى لما نقل الحكم إلى الصوم عند العجز ولو اعتبر العجز المستدام في العمر ولا يثبت ذلك إلا بآخر العمر لا يتحقق منه أداء الصوم علم أن المراد العجز الحالي وذكر في المبسوط ولو كان له مال غائب وهو لا يجد ما يكفر به أجزأه الصوم لأن المانع قدرته على التكفير بالمال وذلك لا يحصل بالملك بدون اليد إلا أن يكون في ماله الغائب عبد فح لا يجزيه التكفير بالصوم لأنه متمكن من التكفير بالعتق فإن نفوذ العتق باعتبار الملك دون اليد فلما لم يشترط الانتظار إلى وصول المال فلأن لا يشترط الانتظار إلى حصوله أولى وكذلك في طعام الظهار يعني كما أن المعتبر العجز الحالي فيما ذكرنا فكذلك هو المعتبر في جميع الكفارات في نقل الحكم عن واجب إلى ما بعده مثل كفارة الظهار والصوم والقتل فيعتبر في جميعها العجز الحالي في نقل الحكم عن الرقبة إلى الصوم وكذلك في النقل عن الصوم إلى الإطعام في كفارة الظهار والصوم حتى لو مرض (١/٣٠٣) أياما فكفر بالإطعام جاز وإن قدر على الصوم بعد فثبت أن القدرة المشروطة فيها ميسرة فكانت أي الكفارات من قبيل الزكاة وإنما خص الطعام بالذكر مع أن الحكم في الصوم كذلك لأنه آخر ما ينقل إليه في كفارة الظهار كالصوم في كفارة اليمين ولما ذكر الشيخ رحمه اللّه أن الكفارة من قبيل الزكاة وقد فارقتها في أن الواجب فيها يعود بعد هلاك المال بإصابة مال آخر قبل الأداء ولا يعود في الزكاة وهذا يدل على أنها دون الزكاة وفي أن الواجب بالاستهلاك فيها ينتقل إلى الصوم كما ينتقل بالهلاك وفي الزكاة خالف الاستهلاك الهلاك كما قررنا وهذا يشير إلى أنها فوق الزكاة تعرض للجواب عن الأول بقوله إلا أن المال ههنا غير عين يعني الواجب غير متعلق بهذا المال قبل الأداء والقدرة الميسرة تثبت بملك المال ولا تختص بمال دون آخر لأن المال إنما اعتبر ههنا لكونه صالحا للتقرب به إلى اللّه تعالى فيحصل به الثواب ليصير مقابلا بالأثم الذي عليه ولهذا لم يشترط فيه النماء فكان المال الموجود وقت الحنث والمستفاد بعده فيه سواء بخلاف الزكاة لأنها متعلقة بالعين فلا تبقى القدرة بهلاك العين على ما مر من بعد أي من بعد الحنث أو من بعد الهلاك دامت أي ثبتت وعن الثاني بقوله ولهذا أي ولكون المال غير عين ساوى الاستهلاك الهلاك في الكفارات حتى إن من وجب عليه التكفير بالمال إذا أتلف ماله جاز له التكفير بالصوم كما إذا هلك بغير صنع منه بخلاف الزكاة حيث فارق الاستهلاك الهلاك كما ذكرنا وذلك لأن بقاء الواجب بعد فوات القدرة إنما يكون بكونه موقتا كالصلاة فإنها لما شرعت موقتة كان التأخير عن الوقت جناية على نفس الحق بالتفويت أو بالتعدي على محل الواجب بأن كان متعلقا بمحل عين كالزكاة وههنا الواجب لما لم يكن موقتا ليعد تفويته عن الوقت جناية ولم يكن المال متعينا أيضا ليصير استهلاكه تعديا كان الاستهلاك كالهلاك ضرورة إليه أشير في طريقة الإمام البرغري رحمه اللّه قوله وصارت هذه القدرة أي القدرة المالية في الكفارة على هذا التقدير أي على تقدير أنها تدوم بأي مال أصابه نطير الاستطاعة التي لا تسبق الفعل من حيث إن وجودها يعتبر حالة الأداء لا قبله ولا بعده كالاستطاعة لا يتقدم الفعل ولا يتأخر عنه حتى (١/٣٠٤) لو كان موسرا وقت الحنث معسرا وقت الأداء يجزيه التكفير بالصوم ولو كان على العكس لا يجزيه قوله ولهذا قلنا أي ولما ذكرنا أن الزكاة تجب بقدرة ميسرة وأن من شرط وجوبها الغناء قلنا بطل وجوب الزكاة بالدين أي بالدين الذي اقترن بوجوب الزكاة لكن إذا لحقه دين بعد وجوب الزكاة فذلك لا يسقط الزكاة كذا في فتاوى القاضي الإمام فخر الدين رحمه اللّه لأن ما عرف مانعا لا يلزم أن يكون رافعا لأنه أي لأن الدين ينافي الغنى واليسر لأن الغنى إنما يحصل بما يفضل عن حاجته وهذا المال مشغول بالحاجة الأصلية إذ الحاجة إلى قضاء الدين أصلية فلا يحصل الغناء بملك قدر الدين ولهذا حل له أخذ الصدقة وهي لا تحل للغني وكذلك اليسر فيما إذا كان للمؤدي فضل مال غير مشغول بحاجته ونعني بمشغولية المال بالحاجة أنه متعين لقضاء الدين لأن تفريغ الذمة عن الدين واجب ولا يحصل ذلك إلا بهذا المال فكان كالمصروف إلى الدين كالماء المعد للعطش وإنما أورد هذه المسألة في هذا الموضع ليبتني عليها المسألة التي تليها ويبين الفرق بينهما قوله لأنه قال أي لأن محمدا والإضمار من غير ذكر جائز عند الشهرة وعدم الاشتباه كقوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر والمذكور في أصول شمس الأئمة لأن المذكور في كتاب الأيمان قوله ولم يذكر أي محمد أنه إذا كفر بالصوم قبل صرف الألف إلى الدين ما جوابه واختلف المشايخ المتأخرون فيه فمنهم من قال يجزيه وهو الأصح لما أشار إليه في الكتاب في قوله ألا ترى أن الصدقة تحل لهذا وفي هذا التعليل لا فرق بين ما قبل قضاء الدين وبعده وهذا لأن المال الذي في يده مستحق بدينه فيجعل كالمعدوم في حق التكفير بالصوم كالمسافر إذا كان معه ماء وهو يخالف العطش يجوز له التيمم لأن الماء مستحق بعطشه فيجعل كالمعدوم في حق التيمم وقال بعضهم لا يجزيه استدلالا بالتقييد الذي ذكره بقوله بعدما يقضي دينه والتقييد في الرواية يدل على انتفاء ما عداه وعلى هذا يحتاج إلى الفرق والحاصل أن في الكتاب ما يدل على القولين فالتعليل بقوله إن الصدقة تحل له يدل على أن الصوم يجزيه في الحالين والتقييد يدل على أنه لا يجزيه قبل قضاء الدين فلهذا اختلفوا (١/٣٠٥) قوله وجبت بصفة اليسر لأن مبنى الزكاة في الشرع على اليسر والسهولة ولهذا وجب القليل من الكثير ووجبت في النماء لا في أصل المال تيسيرا على أرباب الأموال ولهذا شرط لتكرار الواجب تكرار الحول كذا في أصول الفقه لبعض المشايخ وشرط القدرة يعني قدرة توجب هذا اليسر ولمعنى الإغناء بقوله عليه السلام أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم نص على معنى الإغناء وهذا الحديث ورد في صدقة الفطر فإن ابن عمر رضي اللّه عنهما روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر الناس أن يؤدوا صدقة الفطر قبل أن يخرجوا إلى المصلى وقال أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم ولكن الحكم يثبت في الزكاة بطريق الدلالة لأن الإغناء لما وجب في صدقة الفطر لسد خلة الفقير مع قصور صفة الغناء فيها لقصور النصاب فلأن يجب في الزكاة لهذا المعنى مع كمال صفة الغناء فيها كان أولى وقوله عليه السلام في مثل هذا اليوم متعلق بالإغناء لا بالمسألة يعني أغنوهم في مثل هذا اليوم عن المسألة ثم قيل المثل زائد كما في قوله تعالى ليس كمثله شيء والصواب أنه ليس كذلك وفائدته تعميم الحكم إذ لو لم يذكر لاقتصر الحكم على ذلك اليوم المعين وإنما أدخل اللام في قوله ولمعنى الإغناء لأن الزكاة والكفارة في صفة اليسر وشرط القدرة تشتركان فأما معنى الإغناء فمختص بالزكاة فلهذا أفرده باللام قوله ولقوله عليه السلام لا صدقة إلا عن ظهر غنى ذكر في مجازات الآثار النبوية أن هذا القول مجاز لأن المراد بذلك أن المصدق إنما يجب عليه الصدقة إذا كانت له قوة من غنى والظهر ههنا كناية عن القوة فكان المال للغنى بمنزلة الظهر الذي عليه اعتماده وإليه استناده ولذلك يقال فلان ظهر لفلان إذا كان يتقوى به ويلجأ في الحوادث إليه وذكر في المغرب وأما لا صدقة إلا عن ظهر غنى أي صادرة عن غنى فالظهر فيه مقحم كما في ظهر القلب وظهر الغيب ووجه التمسك به أنه عليه السلام شرط الغناء (١/٣٠٦) لوجوب الصدقة لأن المراد من قوله لا صدقة ليس نفي الوجود إذ هي توجد وتصح بدون الغناء فيحمل على نفي الوجوب لأن الوجوب أشد مناسبة للوجود من غيره وليس اشتراطه لثبوت اليسر في الواجب لأنه لا يحصل به بل لثبوت الأهلية على ما مر ولا احتياج لثبوت الأهلية إليه إلا أن يكون المقصود غناء الفقير فتبين بهذا أنها وجبت لمعنى الإغناء ولما ثبت أنها وجبت لمعنى إغناء الفقير إنما يجب شكرا لنعمة الغناء لأن المال نعمة عظيمة به تعلق بقاء الأبدان وبه نيط مقاصد الدنيا والآخرة وإليه أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله نعم المال الصالح للرجل الصالح فوجب أن لا يخلو عن شكر يجب للّه تعالى على سبيل العبادة كنعمة البدن ولم يجب في المال عبادة محضة سوى الزكاة فتعينت لشكر نعمة المال ثم الشكر يستدعي سببا كاملا ليؤثر في إيجاب الشكر من كل وجه إذ لو لم يكن كاملا كان ملحقا بالعدم من وجه والعدم لا يؤثر فيمتنع وجوب الشكر من ذلك الوجه والدين يسقط الكمال أي عن الغنى قال شمس الأئمة وحاجته إلى قضاء الدين بالمال تعدم تمام الغنى بملكه لأنه يوجب استحقاق المال عليه والمستحق بجهة كالمصروف إلى تلك الجهة بمنزلة الماء المعد للعطش ولا يعدم أصله أي أصل الغنى لأن المال باق على ملكه ولهذا جازت تصرفاته فيه ولما زال وصف الكمال عنه لم يجب به الإغناء لأنه متعلق بالغنى الكامل وقد عدم قوله شطرا من الكامل أي بعضا منه وشطر الشيء نصفه إلا أنه يستعمل في البعض توسعا ومنه قوله عليه السلام في الحائض تقعد شطر عمرها سمى البعض شطرا توسعا في الكلام واستكثارا للقليل ومثله في التوسع تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها نصف العلم كذا في المغرب قوله ولهذا حلت أي ولانتفاء الغنى بانتفاء الكمال عنه حلت للمديون الصدقة أي الزكاة وهي لا تحل لغني إذا لم يكن عاملا وابن السبيل (١/٣٠٧) قوله ولهذا لا يتأدى الزكاة أي ولأن الزكاة وجبت لمعنى الإغناء لا يتأدى إلا بعين متقومة أي بتمليك عين متقومة حتى لو أسكن الفقير داره سنة بنية الزكاة لا يجزيه لأن المنفعة ليست بعين متقومة وكذا لو أباحه طعاما بنية الزكاة فأكله الفقير لا يجزيه عن الزكاة لأنه أكل مال الغير وبه لا يحصل الغنى قال أبو اليسر الزكاة شرعت لإغناء الفقير لقوله عليه السلام أغنوهم والواجب فيها هو الإغناء الكامل وهو تمليك مال محترم متقوم بلا نقصان في نفسه والإغناء الكامل لا يجب إلا على الغني الكامل كما في التمليك بغير عوض لا يحصل إلا من المالك قوله ساترة أو زاجرة أي ساترة بعد الجناية زاجرة قبلها وذلك لأن الكفارة تضمنت معنى العبادة والعقوبة فباعتبار معنى العبادة هي ساترة للذنب أي ماحية له قال اللّه تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات وقال عليه السلام أتبع السيئة الحسنة تمحها أو هي ساترة لمرتكب الذنب لأنه لما مزق لباس تقواه بارتكابه حتى صار عريانا سترته الكفارة وصارت ترقيعا لما مزق وباعتبار معنى العقوبة هي زاجرة كسائر العقوبات قوله ولذلك أي ولأنها لم تشرع للإغناء تتأدى بالإباحة في المخاطب بها أي في كونه مخاطبا بأداء الكفارة بل شرطت القدرة واليسر بها أي شرطت القدرة الميسرة وفي بعض النسخ بل القدرة واليسر بها أي تعلقت أو وجبت بالقدرة الميسرة وذلك بالدين أي اليسر لا يفوت به بل تيسير الأداء قائم بملك المال مع قيام الدين عليه لأن اليسر فيها ثبت بالتخيير أو اعتبار العجز الحالي كما ذكرنا وذلك لا يفوت بالدين والانعدام وإن كان من الألفاظ المحدثة فإن أهل اللغة لم يجوزوا عدمته فانعدم لأن عدمته (١/٣٠٨) بمعنى لم أجده وحقيقته تعود إلى قولك فات وليس له مطاوع فكذا لعدمت إذ ليس فيه إحداث فعل وذكر في المفصل ولا يقع يعني انفعل إلا حيث يكون علاج وتأثير ولهذا كان قولهم انعدم خطأ إلا أنه لما شاع استعماله في الكتب صار استعماله أولى من غيره لأنه أقرب إلى الفهم ولهذا قيل الخطأ المستعمل أولى من الصواب النادر قوله وعلى هذا الأصل وهو أن بقاء القدرة الميسرة شرط لبقاء ما تعلق بها يخرج مسألة العشر يستغنى عن قيام تسعة الأعشار يعني القدرة على أداء ما هو عشر من الجملة لا تفتقر إلى تسعة الأعشار بالنظر إلى ذاته وإن افتقرت إليها من حيث هو عشر كما أن الجزء لا يفتقر إلى الكل نظرا إلى ذاته فأما من حيث هو جزء فلا يستغنى عنه بأرض نامية بالخارج أي بالنماء الحقيقي قوله وكذلك الخراج يسقط أي كما أن العشر يسقط بهلاك الخارج فكذا الخراج يسقط إذا اصطلم الزرع أي استأصله آفة لأنه متعلق بنماء الأرض كالعشر حتى لو كانت الأرض سبخة لا يجب عليه شيء وكذا لو لم يسلم الخارج لرب الأرض بأن زرعها ولم تخرج شيئا أو غرقت الأرض ثم نضب عنها الماء في وقت لا يقدر على زراعتها قبل مضي السنة لا يجب عليه الخراج فعرفنا أنه متعلق بقدرة ميسرة إلا أن النماء التقديري بأن كان متمكنا من الزراعة في وقتها كاف للوجوب لأنه أمكن اعتبار النماء التقديري في الخراج لكون الواجب من خلاف جنس الخارج فلا يجعل تقصيره عذرا في إبطال حق الغزاة ويجعل النماء موجودا حكما لتقصيره حيث عطلها مع التمكن كما يجعل موجودا بعد حولان الحول في مال الزكاة بخلاف العشر لأنه اسم إضافي فلا يمكن إيجابه إلا في النماء الحقيقي وبخلاف ما إذا أصاب الزرع آفة لأنه لم يقصر حيث لم يعطلها إلا أنه أصيب فلا يغرم شيئا كي لا يؤدي إلى استيصاله حتى لو كان بعد الاصطلام مدة يمكن فيها استغلال الأرض إلى آخر السنة لا يسقط الخراج أيضا كذا سمعت من شيخي قدس اللّه روحه قال شمس الأئمة رحمه اللّه ومما حمد من سير الأكاسرة أنهم إذا أصاب زرع بعض الرعية آفة غرموا له ما أنفق في الزراعة من بيت مالهم (١/٣٠٩) وقالوا التاجر شريك في الخسران كما هو شريك في الربح فإن لم يعطه الإمام شيئا فلا أقل من أن لا يغرمه الخراج قوله وبدليل عطف على قوله ألا ترى أنه لا يجب من حيث المعنى وتقديره بدليل أنه لا يجب إلا بسلامة الخارج وبدليل كذا حط إلى نصف الخارج يعني الخراج كله وإنما يجب إذا لم يكن أكثر من نصف الخارج فإذا كان أكثر من النصف حط إلى نصف الخارج ليسلم له النصف على كل حال والتنصيف عين الأنصاف فلو كان الخارج مثلا يساوي دينارا والواجب دينار أن يجب نصف دينار قوله وهذا أي جميع ما ذكرنا من الزكاة والعشر والخراج مخالف للحج الذي قاسها الشافعي عليه فإنه إذا وجب بملك الزاد والراحلة لم يسقط بفوتهما لأنها أي عبادة الحج وجبت بشرط القدرة دون صفة اليسر فإنه تعالى شرط فيه نفس الاستطاعة بقوله عز اسمه لمن استطاع إليه سبيلا ولا يتحقق إلا بالزاد والراحلة عادة فكان ملكهما أدنى ما يقطع به هذا السفر فكان أي ملك الزاد والراحلة شرط الوجوب لا شرط اليسر فلا يشترط دوامه لبقاء الواجب وذكر في الأسرار الحج لا يجب إلا بملك الزاد والراحلة ويبقى بدونه لأنه شرط الوجوب لأن أداء الحج بالوقوف والطواف ولا يتيسر بالزاد والراحلة وإنما يتيسر بهما السفر وما لا يثبت به قدرة الأداء ولا التيسير لا يشترط للأداء فعلم أنه شرط الوجوب رحمة علينا قوله وكذلك أي وكما أن الحج لا يسقط بعد الوجوب بفوات الزاد والراحلة لا يسقط صدقة الفطر بهلاك الرأس الذي هو السبب بأن كان له عبد وجب عليه صدقة الفطر بسببه فهلك وذهاب المال الذي هو الشرط وإن لم تجب ابتداء بدونهما لأن اشتراط الغناء للوجوب لا لتيسير الأداء لما ذكرنا أن الصدقة لا يستقيم إيجابها إلا على غنى كما لا يستقيم إلا على مؤمن لأنها ما شرعت إلا لإغناء الفقير خصوصا هذه الصدقة لقوله عليه السلام أغنوهم فلو كان الفقير أهلا لوجوبها عليه لصارت مشروعة لإحواجه وذلك لا يجوز وبيانه أنه إذا ملك ما يتمكن به من إغناء الفقير عن المسألة به متمكنا من الإغناء فلو (١/٣١٠) اعتبر هذا الغناء وأمر بالإغناء لعاد على موضوعه بالنقض لأنه ح يصير محتاجا إلى المسألة وهذا لا يجوز لأن دفع حاجة نفسه لئلا يحتاج إلى المسألة أولى من دفع حاجة الغير ألا ترى أنه لو كان له طعام أو شراب يحتاج إليه وغيره أيضا يحتاج إليه كان الصرف إلى نفسه أولى بل واجبا إن خاف الهلاك عليها ولهذا شرط الشافعي رحمه اللّه أن يملك من وجبت عليه صاعا فاضلا من قوته وقوت من يقوته يوم الفطر وليلته إلا أن عندنا ما دون النصاب له حكم العدم في الشرع حتى حل لمالكه الصدقة فشرطنا النصاب ليثبت حكم الوجود شرعا فيتحقق الإغناء وما ذكر في بعض الشروح في جواب ما يقال المراد من الإغناء المذكور في الحديث الإغناء عن المسألة لا الإغناء الشرعي فلا يكون الغناء الشرعي شرطا لأهليته به إنه ثبت بالدليل أن المراد من الإغناء كفاية الفقير بقرينة قوله عن المسألة فبقي الغناء المشروط في جانب المؤدي مطلقا فينصرف إلى ما هو المتعارف في الشرع ضعيف جدا لأن اشتراط الغناء في المؤدي ما ثبت نصا وإنما ثبت ضرورة وجوب الإغناء فإذا تبين أن المراد منه ليس الغناء الشرعي فأنى يثبت اشتراطه في المؤدى به فكان ما ذكرناه أولا أولى قوله بثياب البذلة والمهنة البذلة بالكسرة ما يبتذل من الثياب والمهنة بالفتح الخدمة وحكى أبو زيد والكسائي المهنة بالكسر وأنكره الأصمعي كذا في الصحاح وفي المغرب المهنة بفتح الميم وكسرها الخدمة والابتذال فعلى هذا يكون البذلة والمهنة ترادفا وقيل أراد بثياب البذلة ثياب الجمال التي تلبس في الأعياد والمواسم وبالمهنة التي تلبس في غيرها فإذا ملك من ثياب البذلة والمهنة ما يساوي نصابا فاضلا عن حاجته الأصلية يجب عليه صدقة الفطر وبهذا النوع من المال يحصل أصل التمكن والغناء فأما صفة اليسر فمتعلقة بالمال النامي ليكون الأداء من فضل المال وذلك ليس بشرط ههنا ألا ترى أنه لا يشترط حولان الحول المحقق للنماء بل إذا ملك نصابا بليلة (١/٣١١) الفطر تلزمه صدقة الفطر فعرفنا أن الغناء شرط التمكن لا شرط اليسر فلا يشترط دوامه لبقاء الواجب كذا ذكر شمس الأئمة والإمام البرغري في كتابيهما قوله ولا يلزم أي على قولنا صدقة الفطر لم يجب بصفة اليسر أن الدين القائم وقت الوجوب يمنع عن وجوبها كما في الزكاة ولو لم تكن واجبة بصفة اليسر لم يكن الدين مانعا من الوجوب لأن الأداء مع الدين ممكن ألا ترى أنه لا يمنع وجوب الكفارة مع أنها تجب بقدرة ميسرة فلأن لا يمنع فيما تجب بقدرة ممكنة كان أولى لأنا نقول الدين إنما يمنع لأنه يعدم الغناء كما قررناه في فصل الزكاة والغناء من شروط الأهلية فعدمه يخل بها فيمتنع الوجوب لا محالة قوله بخلاف الدين على العبد إذا كان على العبد الذي هو للخدمة دين بأن أذن له مولاه في التجارة فعلقت رقبته به ومولاه موسر فعليه أن يؤدي عنه صدقة الفطر لأن صفة الغناء ثابتة له بما يملك من مال آخر سوى هذا العبد ومالية من يؤدي عنه غير معتبرة للوجوب كما في ولده وأم ولده وبسبب الإذن في التجارة لم يخرج من أن يكون للخدمة لأنه شغله بنوع من خدمته بخلاف ما إذا كان الدين على المولى لأنه ينفي غناه ولا صدقة إلا على الغنى ثم فرق بين دين العبد في صدقة الفطر وبينه في الزكاة حيث يمنع دينه في الزكاة ولا يمنع في صدقة الفطر فقال بخلاف زكاة التجارة إلى آخره وبيان الفرق أن المعتبر في الزكاة الغناء بذلك المال الذي يجب فيه الزكاة حتى لو هلك ذلك المال سقطت الزكاة وإن كان غنيا بمال آخر ودين العبد يمنع الغناء بماليته فأما المعتبر في صدقة الفطر فمطلق الغنى بأي مال كان ودين العبد لا يمنع الغناء بمال آخر فافترقا قوله هذا الذي ذكرنا أي ما ذكرنا من باب الأداء والقضاء إلى ههنا تقسيم في صفة حكم الأمر وهو ما مر في باب الأداء والقضاء وتقسيم في صفة المأمور به في نفسه وهو ما ذكر في هذا الباب من تقسيم الحسن فأما ما يكون صفة للمأمور به قائمة بغيره أي بغير المأمور به وهو الوقت إذ المأمور به قد يوصف بأنه موقت كما يوصف بأنه حسن (١/٣١٢) فلا بد من ترتيبه أي تقسيمه على الدرجة الأولى وهو الأداء لأنه هو المفتقر إلى الوقت المحدود في بعض الأوامر لا القضاء الذي هو الدرجة الثانية فإنه غير موقت وقيل معناه أن المأمور به في الدرجة الأولى أي القسمة الأولى انقسم إلى نوعين أداء وقضاء وإلى حسن لعينه ولغيره ثم كل واحد إلى أنواع فكذا في حكم الوقت ينقسم إلى موقت وغير موقت ثم إلى ما يكون ظرفا ومعيارا ومشكلا فهذا الانقسام والترتيب كالدرجة الأولى كما ترى إليه أشار الإمام المحقق العلامة بدر الملة والدين رحمه اللّه وقال الشيخ الإمام أستاذ الأئمة حميد الملة والدين رحمه اللّه معناه أن المأمور به في الدرجة الأولى مرتب على الأداء والقضاء وذا ترتيب في نفسه وههنا انقسم إلى موقت وغير موقت وهذا الترتيب في غيره والموقت ينقسم إلى وقت الأداء ووقت القضاء لقوله عليه السلام فإن ذلك وقتها قلت ويؤيد هذا الوجه ما ذكر الشيخ في شرح التقويم ثم هذا الذي ذكرنا من حكم الأمر من الأداء والقضاء على نوعين موقت وغير موقت فغير الموقت نوع واحد وأما الموقت فهو أنواع فصار الحاصل أن المأمور به انقسم إلى أداء وقضاء وكلاهما انقسم إلى موقت وغير موقت ونعني به أن مجموع أقسام الأداء والقضاء لا يخرج عن كونها موقتة وغير موقتة فبعض أقسام الأداء موقت وبعضها مع جميع أنواع القضاء غير موقت واللّه أعلم (١/٣١٣) باب تقسيم المأمور به في حكم الوقتقوله مطلقة أي غير متعلقة بوقت وموقتة أي متعلقة بوقت والمراد به الوقت المحدود الذي اختص جواز أدائها به حتى لو فات صار قضاء أما أصل الوقت فلا بد للمأمور به منه لأن الواجب بالأمر فعل لا محالة ولا بد له من وقت لأنه لا يوجد بدونه ولهذا قال مطلقة ولم يقل غير موقتة كما قال غيره قوله ظرفا للمؤدى وشرطا للأداء فإن قيل قد يستفاد الشرطية من الظرفية لأن الظروف محال والمحال شروط على ما عرف فإنه فائدة في قوله شرطا للأداء قلنا المراد من المؤدى الركعات التي تحصل في الوقت ومن الأداء إخراجها من العدم إلى الوجود فكانا غيرين واعتبر هذا بالزكاة فإن أداءها تسليم الدراهم مثلا إلى الفقير والمؤدى نفس تلك الدراهم التي حصلت في يده وإذا كان كذلك لا يستفاد من ظرفية المؤدى شرطية الأداء إذ لا يلزم من كون الشيء شرط الشيء أن يكون شرطا لغيره على أنا لا نسلم أنه يلزم من كون الشيء المعين ظرفا لشيء أن يكون شرطا لوجوده كالوعاء ظرف لما فيه وليس بشرط له لأنه يوجد بدون هذا الظرف ثم الغرض من إيراد هذه الجمل الثلاث بيان ما وقع به الاشتراك والامتياز لوقت الصلاة والصوم فامتاز وقت الصلاة عن وقت الصوم بكونه ظرفا واشتركا في كون كل واحد منهما شرطا للأداء وسببا للوجوب فيكون في قوله وشرطا للأداء فائدة عظيمة قوله ألا ترى أنه يفضل عن الأداء يعني إذا اكتفى في الأداء على القدر المفروض يفضل الوقت عن الأداء ولو أطال ركنا منه مضى الوقت قبل تمام الأداء وكذا يجوز الأداء في أي جزء شاء من أجزاء الوقت ولو كان معيارا لما جاز فثبت أنه ظرف لا معيار وتفسير (١/٣١٤) الظرف ههنا أن يكون الفعل واقعا فيه ولا يكون مقدرا به وتفسير المعيار أن يكون الفعل المأمور به واقعا فيه ومقدرا به فيزداد وينتقص بازدياد الوقت وانتقاصه كالكيل في المكيلات فكان قوله ظرفا محضا احترازا عن المعيار فإنه ظرف ولكنه ليس بمحض ولهذا أكده بقوله لا معيارا قوله فكان شرطا لأن فعل الصلاة لا يختلف بالإتيان به في الوقت وخارج الوقت من حيث الصورة والمعنى فعلم أن التفاوت إنما وقع باعتبار الوقت حتى سمي أحدهما أداء والآخر قضاء قوله والأداء يختلف باختلاف صفة الوقت فإن الأداء في الوقت الصحيح كامل وفي الوقت الناقص ناقص وإن وجد جميع شرائطه وتغيره بتغير الوقت علامة كون الوقت سببا له كالبيع لما كان سببا للملك تغير الملك بتغيره حتى لو كان البيع صحيحا كان الملك صحيحا ولو كان فاسدا كان الملك فاسدا حتى ظهر أثره في حل الوطء وثبوت الشفعة وغيرهما على ما عرف في فروع الفقه ولا يقال يجوز أن يكون اختلاف صفة الأداء باختلاف صفة الوقت لكونه ظرفا لا لكونه سببا كما في صوم يوم النحر كيف والوقت ليس بسبب للأداء بل السبب فيه الخطاب فلا يصح هذا الاستدلال لأنا نقول الأصل هو اختلاف الحكم باختلاف السبب فيحمل عليه ما لم يقم دليل يصرفه عنه ولأن المراد من اختلاف الأداء اختلاف الواجب في الذمة فإنه يجب كاملا وناقصا بكمال الوقت ونقصانه ووجوب الأداء وإن كان بالخطاب ولكنه ليس إلا تسليم ذلك الواجب الذي ثبت بالسبب في الذمة فيختلف أيضا باختلاف الواجب فتبين أن الاستدلال صحيح قوله ويفسد التعجيل قبله دليل آخر على سببية الوقت ولا يقال لا يصلح هذا دليلا على السببية لأن التعجيل كما لا يجوز قبل السبب لا يجوز قبل الشرط أيضا كالصلاة قبل الطهارات لأنا نقول ذلك إذا لم يوجد قرينة ترجح أحد الجانبين وقد وجد ههنا ما يدل على أن الفساد لعدم السبب وهو الدليل السابق وهو تغير الأداء بتغير الوقت إذ المشروط لا يختلف باختلاف صفة الشرط فتعين أن الفساد لعدم السبب لا لعدم الشرط فصلح دليلا على السببية وهذا كالمشترك لا يصلح دليلا على أحد مفهوميه عينا من غير قرينة فإذا انضمت إليه قرينة ترجيح أحد مفهوميه صلح دليلا عليه (١/٣١٥) قوله وهذا القسم أي الوقت الذي هو ظرف بالنظر إلى كونه سببا أربعة أنواع فكان هذا في الحقيقة تقسيما لسببيته لا لنفسه ما يضاف أي سببية تضاف إلى الجزء الأول أي فيما إذا أدى في أول الوقت إلى ما يلي ابتداء الشروع أي فيما إذا لم يؤد في أول الوقت ما يضاف إلى الجزء الناقص عند ضيق الوقت وفساده أي فيما إذا أخر العصر إلى وقت الاحمرار وقوله وفساده تفسير لضيق الوقت وإنما فسره به لأنه ربما يظن أن الجزء الأخير من وقت كل صلاة ناقص ففسره بقوله وفساده دفعا لهذا الوهم ما يضاف إلى جملة الوقت أي فيما إذا فات الأداء في الوقت ودلالة كون الوقت سببا يعني ما ذكرنا هو علامة سببية الوقت فأما الدليل على سببيته فمذكور في موضعه وهو باب بيان أسباب الشرائع قوله والأصل في أنواع القسم الأول أي القسم الذي هو ظرف وأراد بالأنواع الثلاثة الأولى دون النوع الأخير لأنا لا نحتاج فيه إلى جعل الجزء سببا لأن ذلك أي جعل كل الوقت سببا يوجب تأخير الأداء عن وقته أو تقديمه على سببه لأنه لا بد من رعاية معنى السببية ومعنى الظرفية فلو روعي فيه معنى السببية يلزم منه تأخير الأداء عن الوقت وفيه إبطال معنى الظرفية والشرطية المنصوص عليهما بقوله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ولو روعي معنى الظرفية يلزم منه تقديم الحكم على سببه وهو ممتنع بدلالة العقل وإذا لم يمكن أن يجعل كل الوقت سببا ولا بد من اعتبار معنى السببية وجب أن يجعل البعض سببا ضرورة ولا يقال لا يجب ذلك لأنه أمكن أن يجعل مطلق الوقت سببا والمطلق مغاير للكل والبعض لأنا نقول لا يمكن ذلك لأن في الإطلاق يدخل الكل والبعض فيلزم حينئذ أن يصح جعل الكل سببا من حيث هو مطلق الوقت وقد بينا أن ذلك لا يجوز فتبين أنه لا بد من تقييده بالبعض ولأنه لا بد من تعيين السبب ولا يمكن ذلك في مطلق الوقت ثم لما لزم أن يكون البعض سببا لزم أن يكون سابقا على الأداء ليقع الأداء بعده ولما لم يكن بعد الكل جزء مقدر أي مقدار معلوم يمكن ترجيحه على سائر الأجزاء مثل الربع والخمس والعشر ونحوها لعدم الدليل عليه وفساد الترجيح بلا مرجح وجب الاقتصار على الأدنى وهو الجزء الذي لا يتجزأ من الزمان إذ هو مراد بكل حال ولا دليل على الزائد عليه فتعين للسببية ولهذا لو أدى بعد مضي جزء من الوقت جاز (١/٣١٦) قوله ولهذا أي ولكون السببية مقتصرة على الجزء الأدنى قالوا أي أصحابنا الثلاثة والشافعي وأصحابه رحمهم اللّه إن الكافر إذا أسلم وقد بقي جزء واحد من الوقت لزمه فرض الوقت أي قضاؤه لوجود السبب حال صيرورته أهلا للوجوب وقد قال محمد في نوادر الصلاة أراد به النوادر التي رواها أبو سليمان عنه فذكر فيها امرأة أيام أقرائها عشرة فانقطع الدم عنها وعليها من الوقت شيء قليل أو كثير فعليها قضاء تلك الصلاة وإنما خص محمدا رحمه اللّه بالذكر وإن كان قولهم جميعا باعتبار التصنيف وهذا النوع من الاستدلال إنما يكون لإثبات المذهب أو لبيان تأثير الأصل ولا يكون لإثبات الأصل لأنه لا يستقيم إثبات الأصل بالفرع وما ذكر ههنا من القسم الأول قوله وإذا ثبت هذا أي وجوب الاقتصار على الجزء الأدنى بما ذكرنا من الدليل كان الجزء السابق أولى بالسببية أي حال وجوده لعدم ما يزاحمه إذ المعدوم لا يعارض الموجود قوله أفاد الوجوب بنفسه أي أفاد الجزء الأول الوجوب بنفسه من غير أن يحتاج إلى انضمام شيء آخر إليه أو من غير أن يتوقف عن الاستطاعة لأن السبب لما وجد في (١/٣١٧) حق الأهل ولم يوجد مانع ظهر تأثيره لا محالة ويجوز أن يكون الباء زائدة والضمير راجعا إلى الوجوب أي أفاد نفس الوجوب ويؤيده ما ذكر في بعض النسخ أفاد الوجوب نفسه والمراد منه أن يثبت معنى في الذمة يفيد صحة الأداء ولا يأثم بتركه قبل الطلب قال صدر الإسلام أبو اليسر نفس الوجوب اشتغال الذمة بالواجب كالصبي إذا أتلف مال إنسان يشتغل ذمته بوجوب القيمة ولا يجب عليه الأداء بل يجب على وليه وكذا القصاص يجب على القاتل ولا يجب عليه أداء الواجب وهو القصاص وإنما يجب عليه تسليم النفس إذا طلب من له القصاص بتسليم النفس لاستيفاء القصاص ثم قال الوجوب أمر حكمي والأمر الحكمي يعرف بالحكم وحكمه أنه إذا أدى ما في ذمته يقع واجبا قوله وأفاد صحة الأداء لأن الوجوب لما ثبت كان جواز الأداء من ضروراته على ما عليه عامة الفقهاء والمتكلمين فإن الوجوب يفيد جواز الأداء عندهم لكنه أي لكن السبب أو نفس الوجوب لا يوجب الأداء للحال وقوله لأن الوجوب يجوز أن يكون دليلا على قوله لا يوجب الأداء للحال وبيانه أن الوجوب ثبت جبرا من اللّه تعالى بلا اختيار من العبد والوجوب بلا اختيار منه في مباشرة سببه لا يوجب الأداء للحال كثوب هبت به الريح وألقته في حجر إنسان دخل في عهدته حتى صحت مطالبة صاحبه إياه به ولكن لا يجب التسليم قبل الطلب حتى لو هلك قبل الطلب لا يجب عليه شيء لأن حصوله في يده كان بغير صنعه فكذا هذا بخلاف الغصب فأنه مختار متعد في مباشرة سبب الضمان فيجب التسليم قبل الطلب إزالة للتعدي ويجوز أن يكون قوله لأن الوجوب دليلا على ثبوت نفس الوجوب بوجود نفس السبب وقوله وليس من ضرورة الوجوب دليلا على أن الوجوب لا يوجب الأداء للحال فيكون المجموع دليلا على المجموع وتقريره أن الوجوب لا يتوقف على اختيار العبد وقدرته توقف حقيقة الفعل عليه بل يثبت جبرا عند وجود سببه بلا اختيار منه وقد وجد السبب ههنا فيثبت الوجوب شاء العبد أو أبى ولكن لا يثبت به وجوب الأداء لأنه ليس من ضرورة الوجوب في الذمة تعجل الأداء أي تعجيل وجوب الأداء فإنه ينفك عنه كما في ثمن البيع ومهر النكاح أي الثمن والمهر الثابت بهما يجبان بالعقد أي عقد البيع والنكاح لامتناع خلو البيع عن الثمن والنكاح عن المهر ووجوب الأداء فيهما يتأخر إلى المطالبة حتى لو كان البيع بأجل يجب الثمن في الحال ويتأخر المطالبة إلى حلول الأجل وكما في صوم شهر رمضان في حق المسافر يثبت (١/٣١٨) نفس الوجوب في حقه وينعدم وجوب الأداء في الحال وإذا كان كذلك لا يثبت بنفس الوجوب وجوب الأداء للحال بل يتأخر إلى وجود دليله وهو الطلب ولم يوجد ههنا لأن الشرع خيره في وقت الأداء أي فوض إليه تعين الجزء الذي يؤدي فيه بالفعل لأنه إنما طالبه بالأداء في كل وقت لا في جزء معين وإذا لم يتعين بقي العبد مخيرا في الأداء في أي جزء شاء لكن بشرط أن لا يفوت عن الوقت ولهذا يتعين وجوب الأداء في آخر الوقت لتحقق المطالبة فيه قوله وأما الوجوب متصل بقوله وجوب الأداء يتأخر إلى المطالبة يعني الوجوب يثبت بناء على صحة السبب الذي هو علامة إيجاب اللّه تعالى علينا لا بالخطاب بل يثبت به مطالبة الواجب بالسبب قوله ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل أي ولما ذكرنا أن نفس الوجوب ينفصل عن وجوب الأداء قلنا الاستطاعة التي هي سلامة الآلات مقارنة للفعل أي مشروطة لوجود الفعل لا لنفس الوجوب فإنه يثبت في حق العاجز كالنائم والمغمى عليه وإن لم يثبت وجوب الأداء في حقه لعدم القدرة فثبت أن الوجوب ينفك عن وجوب الأداء وذكر الشيخ في نسخة له في أصول الفقه أن السبب موجب وهو جبري لا يعتمد القدرة إذ هي شرط في الفعل الاختياري لا في الجبري ولذلك لم يشترط القدرة سابقة على الفعل لأن ما قبله نفس الوجوب وهو جبر ووجوب الأداء وأنه لا يعتمد القدرة الحقيقية على ما عرف أما فعل الأداء فيعتمد القدرة فلذلك كانت الاستطاعة مع الفعل لا مع الخطاب وقيل معناه ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل أي لأجل ما ذكرنا من المعنى وهو أن نفس الوجوب لا يفتقر إلى فعل المكلف وقدرته كانت الاستطاعة مقارنة للفعل فكما أن نفس الوجوب لا يفتقر إلى فعل المكلف وقدرته كذلك وجوب الأداء لا يفتقر إلى وجود الفعل والقدرة الحقيقية لأن القدرة الحقيقية مقارنة للفعل فنفس الوجوب ينفصل عن وجوب الأداء كذلك وجوب الأداء ينفصل عن وجود نفس الفعل والقدرة الحقيقية لأن الوجود من وجوب الأداء غير مراد عند أهل السنة والجماعة إذ لو كان مرادا لوجد الإيمان من جميع الكفرة لأنه يستحيل تخلف المراد عن إرادة اللّه تعالى لأنه عجز واضطرار واللّه تعالى متعال عنه والكفار كلهم مخاطبون بالإيمان ولم يوجد الإيمان منهم حال كفرهم وكذلك العبادات المفروضة على المؤمنين فإنهم مخاطبون بها ثم قد لا توجد فثبت أن وجود الفعل غير مراد من وجوب الخطاب فحصل من هذا كله أشياء (١/٣١٩) ثلاثة نفس الوجوب ووجوب الأداء ووجود الفعل فنفس الوجوب بالسبب ووجوب الأداء بالخطاب ووجود الفعل بإرادة اللّه تعالى لكن عدم الفعل من العبد بعد توجه الخطاب لعدم إرادة اللّه تعالى إياه لا يكون حجة للعبد لأن ذلك عيب عنه فكان العبد ملزما ومحجوجا عليه بعد توجه الخطاب عليه لأن وجوب الأداء بالخطاب إنما يكون عند سلامة الآلات وصحة الأسباب والتكليف يعتمد هذه القدرة لأن اللّه تعالى أجرى العادة بخلق القدرة الحقيقية عند إرادة العبد الفعل أو مباشرته إياه ووجود الفعل يفتقر إلى هذه القدرة الحقيقية فكان قوله ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل متصلا بقوله ليس من ضرورة الوجوب تعجل الأداء لأن الاستطاعة مقارنة للفعل الذي يوجد من المكلف فلو كان نفس الوجوب يوجب تعجل الأداء كانت الاستطاعة مقارنة لنفس الوجوب كذا ذكر بعض الشارحين وحاصله أنه حمل الاستطاعة على حقيقة القدرة لا على سلامة الآلات وحمل قوله تعجل الأداء على حقيقته يعني ليس من ضرورة الوجوب أن يوجد الفعل مقارنا له ومتصلا به ولهذا أي ولكون الفعل غير متصل بالوجوب كانت الاستطاعة مقارنة للفعل لا مقارنة للوجوب ولو كان تعجل الأداء من ضرورة الوجوب لكانت مقارنة للوجوب لاقتران الفعل الذي هو المحتاج إلى القدرة به ولكن لا تعلق لهذا الوجه بالمطلوب وهو تأخر وجوب الأداء عن نفس الوجوب كما ترى إذ لا يلزم من هذا التقرير تأخر وجوب الأداء عن نفس الوجوب وقيل معناه أنا إنما أثبتنا الاستطاعة مقارنة للفعل لا سابقة عليه احترازا عن تكليف العاجز وتحقق الفعل بلا قدرة فإنها لو كانت متقدمة على الفعل كانت عدما وقت وجود الفعل لاستحالة بقاء الأعراض إلى الزمان الثاني فيكون الفعل واقعا ممن لا قدرة له ولو تصور الفعل بلا قدرة لم يكن لاشتراطها في التكليف فائدة ولصح تكليف العاجز وهو خلاف النص والعقل فثبت أن القول بمقارنة القدرة مع الفعل للاحتراز عن تكليف العاجز ثم لو لم يتأخر وجوب الأداء عن نفس الوجوب مع أن نفس الوجوب قد يثبت جبرا بلا اختيار العبد أي يثبت عند العجز وعدم القدرة على اختيار الفعل بدليل وجوب الصلاة على النائم والمغمى عليه لزم منه تكليف العاجز الذي احترزنا عنه في مسألة الاستطاعة وهذا وجه حسن ولكن لا ينقاد له سوق الكلام إذ ليس لاسم الإشارة فيه مرجع لعدم تقدم ذكر تكليف العاجز إلا بإضمار وهو أن يقال ليس من ضرورة الوجوب تعجل الأداء أي وجوب الأداء إذ لو كان ذلك من ضرورته لزم تكليف العاجز وهو غير جائز ولهذا أي ولعدم جواز تكليف العاجز كانت الاستطاعة كذا فالوجه الأول أولى وإن لم يخل عن تمحل أيضا (١/٣٢٠) قوله وهو كثوب أي ما ذكرنا من تحقق الوجوب وتأخر وجوب الأداء نظير ثوب هبت به الريح أي هاجت وثارت به وإنما ذكر هذا بعدما استوضح كلامه بنظرين وهما البيع والنكاح لأنه أوفق وأشبه بمرامه إذ لا اختيار له في مباشرة هذا السبب وتحقق الوجوب كما لا اختيار له في وجود الوقت وثبوت الوجوب به فأما البيع والنكاح فله في مباشرتهما اختيار تام قوله وفي مسألتنا لم يوجد المطالبة أي على وجه يأثم بتركه في أول الوقت وإنما يتحقق المطالبة في آخر الوقت لا قبله لأن له ولاية التأخير إلى آخر الوقت والتأخير ينافي المطالبة فإذا ضاق الوقت فقد انتهى التخيير فح يجب عليه الأداء لتحقق المطالبة ولا يلزم عليه ما إذا حال الحول على النصاب فإنه يصير مطالبا بالأداء مع أنه مخير فيه حتى لو هلك النصاب سقطت عنه الزكاة فثبت أن التخيير لا ينافي المطالبة لأنا لا نسلم أن المطالبة على الفور تحققت بل ثبتت بصفة التراخي بشرط أن لا يفوته عن العمر على ما عرف وفي آخر أجزاء العمر تعين المطالبة كما في آخر أجزاء الوقت ههنا كذا قيل قوله ولهذا قلنا تأثير المذهب أي ولأن الأداء لما لم يلزمه عندنا قلنا إذا مات قبل آخر الوقت لا شيء عليه ثم استدل على انفكاك وجوب الأداء عن نفس الوجوب بمسألة مجمع عليها فقال وهو أي تراخي وجوب الأداء عن الوجوب في أول الوقت نظير تراخي وجوب الأداء عن النائم والمغمى عليه إذا مر عليهما جميع وقت الصلاة ولم يزدد الإغماء على يوم وليلة حيث ثبت أصل الوجوب ولهذا وجب القضاء عليهما وتراخي وجوب الأداء لعدم أهلية الخطاب بزوال الفهم فإن قيل السببية تثبت بالخطاب أيضا فإن قبل ورود الشرع لم يكن السببية ثابتة للوقت فلا يتصور ثبوتها في حق من لا يخاطب قلنا بالخطاب عرف أن الشرع جعل الوقت سببا فبعد ذلك يفتى بالوجوب في حق كل أهل ثبت السبب في حقه ولا يشترط خطاب كل فرد لصيرورة السبب في حقه سببا لأن العلم بالوجوب كما ليس بشرط لثبوته جبرا فكذا بسبب الوجوب بل الحاجة في الجملة تقع إلى جعل الشرع إياه سببا ولا يشترط على كل فرد بل إذا عرف الفقيه (١/٣٢١) بالسببية يفتي بالوجوب في حق كل من ثبت السبب في حقه علم بذلك أو لم يعلم ألا ترى أن الزكاة تجب عليه ولا شك في تعلق الوجوب هناك بالسبب ولم يشترط علم كل شخص بذلك وكذلك الإتلاف جعل سببا للضمان والنكاح للحل والبيع للملك وكل ذلك ثابت في حق الصبيان والمجانين وإن لم يثبت الخطاب في حقهم كذا ذكر الشيخ أبو المعين رحمه اللّه في طريقته فإن قيل كيف يصح هذا الاستدلال وقد ثبت أن القضاء لا يجب إلا بعد وجوب الأداء لأنه خلف عنه والخلف لا يثبت إلا بعد ثبوت الأصل وقد تمحلتم في إثبات وجوب الأداء في حق الكافر إذا أسلم في الجزء الأخير ونظائره لا يجاب القضاء كما مر الكلام مع زفر رحمه اللّه في الباب المتقدم وههنا وجب القضاء بالإجماع فمع وجوبه تعذر القول بانتفاء وجوب الأداء عنهما يؤيده أن القضاء لا يجب إلا بما يجب به الأداء والأداء لا يجب إلا بالخطاب فوجب ههنا أما سقوط القضاء لعدم وجوب الأداء وهو خلاف الإجماع أو وجوب الأداء قبل الانتباه والإفاقة وح لا يصح الاستدلال قلنا قد ذكرنا فيما تقدم أن وجوب الأداء على نوعين نوع يكون الفعل فيه بنفسه مطلوبا من المكلف حتى يأثم فيه بترك الفعل ولا بد فيه من استطاعة سلامة الآلات ونوع لا يكون فعل الأداء فيه مطلوبا حتى لا يأثم فيه بترك الأداء بل المطلوب ثبوت خلفه وهو القضاء ويكتفى فيه بتصور ثبوت الاستطاعة ولا يشترط حقيقة الاستطاعة ففي مسألة النائم والمغمى عليه وجوب الأداء بمعنى كون الفعل فيه مطلوبا على وجه يأثم بتركه لم يوجد لفوات شرطه وهو استطاعة سلامة الآلات فأما وجوب الأداء على وجه يصلح وسيلة إلى وجوب القضاء ولا يكون الفعل فيه مقصودا فموجود لوجود شرطه وهو تصور حدوث الاستطاعة بالانتباه والإفاقة فوجب القضاء بناء على هذا النوع من الوجوب وعدم الإثم بناء على انتفاء النوع الأول فهذا هو التخريج على الطريقة المذكورة في هذا الكتاب ويؤيده ما ذكر الشيخ في شرح المبسوط أن تصور القدرة كاف في وجوب الأداء في الجملة لينعقد السبب سببا في حق الخلف قائما مقام الأداء لأنه لو لم يكن الأصل متصورا لصار الخلف في حق كونه حكما للسبب أصلا وهو باطل فلا بد من احتماله وتصوره ليجعل في الأصل كأنه هو الأصل تقديرا ودلالة أن التصور كاف لوجوب القضاء أن القضاء يجب على النائم والمغمى عليه إذا انتبه وأفاق ولا قدرة على الأداء لهما حقيقة وإنما يجب القضاء لما قلنا من الاحتمال وذكر بعض العلماء أن القضاء مبني على نفس الوجوب دون وجوب الأداء يعني به (١/٣٢٢) أن الوجوب إذا ثبت في الذمة فإما أن يكون مفضيا إلى وجوب الأداء أو وجوب القضاء فإن أمكن إيجاب الأداء وجب القول به وإلا وجب الحكم بوجوب القضاء وليس يشترط لوجوب القضاء أن يكون وجوب الأداء ثابتا أو لا ثم يجب القضاء لفواته بل الشرط أن يصلح السبب الموجب لإفضائه إلى وجوب الأداء في نفس الأمر فإذا امتنع وجوب الأداء لمانع ظهر وجوب القضاء فهذا هو معنى الخلفية بين الأداء والقضاء فعلى هذا لا يحتاج إلى إثبات وجوب الأداء لوجوب القضاء لأن السبب الموجب وهو الوقت يصلح للإفضاء إلى وجوب الأداء في نفس الأمر كما في حق المستيقظ والمفيق فيصلح أن يكون مفضيا إلى القضاء فلا يرد السؤال قوله فتبين أن الوجوب بأول الجزء أي بأول جزء من الوقت واللام لتحسين الكلام كما في قوله ولقد أمر على اللئيم يسبني أو بدل من الإضافة قوله خلافا لبعض مشايخنا نفي لقول مشايخ العراق من أصحابنا حيث قالوا الوجوب يتعلق بآخر الوقت وقوله إن الخطاب بالأداء لا يتعجل نفي لقول الشافعي رحمه اللّه إن الوجوب ووجوب الأداء عبارتان عن معنى واحد في العبادات البدنية فتبين كل فصل على حدة أما الفصل الأول فنقول الواجب إذا تعلق بوقت يفضل عن أدائه يسمى واجبا موسعا كما يسمى ذلك الوقت ظرفا وهذا عند الجمهور من أصحابنا وأصحاب الشافعي وعامة المتكلمين ومعنى التوسع أن جميع أجزاء الوقت وقت لأدائه فيما يرجع إلى سقوط الفرض ويجوز له التأخير عن أول الوقت إلى أن يتضيق بأن يعلم أنه لو أخر عنه فات الأداء فح يحرم عليه التأخير وأنكر بعض العلماء التوسع في الوجوب وقال إنه ينافي الوجوب لأن الواجب ما لا يسع تركه ويعاقب عليه والقول بالتوسع فيه يوجب أن يجوز تركه ولا يعاقب عليه وهذا جمع بين المتنافيين ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم الوجوب يتعلق بأول الوقت فإن أخره فهو قضاء وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم إنه يتعلق بآخره وهو قول بعض أصحابنا العراقيين فإن قدمه فهو نفل يمنع لزوم الفرض عند بعضهم وموقوف على ما يظهر من حاله عند آخرين فإن بقي أهلا للوجوب كان المؤدى واجبا وإن لم يبق كذلك كان نفلا (١/٣٢٣) فمن جعل الوجوب متعلقا بأول الوقت قال الواجب الموقت لا ينتظر لوجوبه بعد استكمال شرائطه سوى دخول الوقت فعلم أنه متعلق به فكما في سائر الأحكام مع أسبابها وإذا ثبت الوجوب بأول الوقت لم يجز أن يكون متعلقا بما بعده لما ذكرنا من امتناع التوسع وفائدة التوقيت على هذا القول أنه لو أتى بالفعل فيما بقي من الوقت يصلح أن يكون قضاء بخلاف الصوم إذا فات عن أول أوقاته بأن أكل أو شرب بعد الصبح فإنه لا يكون الإمساك فيما بقي قضاء ووجه ما ذهب إليه العراقيون أنه لما جاز له التأخير إلى أن يتضيق الوقت وامتنع التوسع لما ذكرنا كان الوجوب متعلقا بآخره ثم المؤدى قبله إما أن يكون نفلا كما قال البعض لأنه متمكن من الترك في أول وقت لا إلى بدل وإثم وهذا حد النفل إلا أن المطلوب يحصل بأدائه وهو إظهار فضيلة الوقت فيمنع لزوم الفرض كمن توضأ قبل دخول الوقت يقع نفلا لأنه إنما يجب للصلاة فما لم يحضر وقتها لا يوصف بالوجوب ومع هذا يمنع لزوم الفرض بعد دخول الوقت وإما أن يكون موقوفا كالزكاة المعجلة قبل الحول فإنه إذا عجل شاة من أربعين شاة إلى الساعي ثم تم الحول وفي يده ثمان وثلاثون له أن يسترد المدفوع إن كان قائما وإن كان الساعي تصدق به كان تطوعا ولو تم الحول وفي يده تسع وثلاثون كان المؤدى زكاة وكالجزء الأول من الصلاة فإنه لا يوصف بالوجوب ما لم يتصل بباقي أجزاء الصلاة فإن اتصل بمجموعها يوصف بالوجوب وإلا فلا وتمسك الجمهور بالنصوص والإجماع فإن قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقول جبرائيل للنبي عليهما السلام في حديث الإمامة ما بين هذين وقت لك ولأمتك وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم إن للصلاة أولا وآخرا أي لوقتها يتناول جميع أجزاء الوقت ويدل على أن جميعها وقت الأداء الواجب وليس المراد تطبيق فعل الصلاة على أول الوقت وآخره ولا فعلها في كل جزء بالإجماع فلم يبق إلا أنه أريد به أن كل جزء منه صالح لوقوع الفعل فيه ويكون المكلف مخيرا في إيقاعه في أي جزء أراد ضرورة امتناع قسم آخر فثبت أن التوسع ثابت شرعا وليس بممتنع عقلا أيضا كما زعموا فإن السيد إذا قال لعبده خط هذا الثوب في بياض النهار إما في أوله أو في وسطه أو في آخره كيف ما أردت فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي كان صحيحا ولا يخلو إما أن يقال ما أوجب شيئا أصلا أو أوجب مضيقا وهما (١/٣٢٤) محالان فلا يبقى إلا أن يقال أوجب موسعا وكذا الإجماع منعقد على أن الواجب إنما يتأدى بنية الظهر ولا يتأدى بنية النفل وبمطلق النية ولو كان نفلا كما زعم بعض العراقيين لتأدى بنية النفل ولو كان موقوفا كما زعم الباقون منهم لتأدى بمطلق النية ولاستوت فيه نية النفل والفرض وقولهم قد وجد في المؤدى في أول وقت حد النفل لأنه لا عقاب على تركه فاسد لأنا لا نسلم أن ذلك ترك بل هو تأخير ثبت بإذن الشرع وكذا الإجماع منعقد على وجوب الصلاة على من أدرك أو أسلم أو طهر في وسط الوقت أو في آخره ولو كان الوجوب متعلقا بأول الوقت كما قاله البعض لما وجبت الصلاة عليهم بعد فوات أول الوقت في حال الصبي والكفر والحيض كما لو فات جميع الوقت في هذه الأحوال وذكر الغزالي رحمه اللّه أن الأقسام في الفعل ثلاثة فعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب وفعل لا يعاقب على تركه مطلقا وهو الندب وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت لكن لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث فيفتقر إلى عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب فأولى الألقاب به الواجب الموسع أو الندب الذي لا يسع تركه وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب فإذا الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل والنزاع يرجع إلى اللفظ واللفظ الذي ذكرناه أولى وأما الفصل الثاني فنقول وجوب الأداء منفصل عن نفس الوجوب عندنا خلافا للشافعي رحمه اللّه في العبادات البدنية وفائدة الاختلاف تظهر في المرأة إذا حاضت في آخر الوقت لا يلزمها قضاء تلك الصلاة عندنا لأن وجوب الأداء لم يوجد وعنده إن أدركت من أول الوقت مقدار ما تصلي فيه ثم حاضت يلزمها قضاؤها قولا واحدا لتحقق وجوب الأداء وإن أدركت أقل من ذلك فأصحابه مختلفون في وجوب القضاء والظاهر من مذهبه أن استقرار الوجوب بإمكان الأداء بعد وجود الوقت وجه قوله إن الواجب في البدنيات ليس إلا الفعل لأن الصلاة اسم لحركات وسكنات معلومة وهي فعل وكذا الصوم اسم للإمساك عن المفطرات وهو فعل وليس معنى الأداء إلا الفعل ولما لم يكن بين الفعل والأداء واسطة كان وجوب الصلاة ووجوب الأداء عبارتين عن معنى واحد وهو لزوم إخراج ذلك الفعل من العدم إلى الوجود فلا معنى للفصل بين الوجوب ووجوب الأداء فيها بخلاف الحقوق المالية لأن الواجب قبل الأداء مال معلوم فيمكن أن يوصف بالوجوب قبل وجوب الأداء كما في حقوق العباد ونظيرهما الشراء مع الاستئجار فإن بشراء العين يثبت (١/٣٢٥) الملك ويتم السبب قبل فعل التسليم وبالاستئجار لا يثبت الملك في المنفعة قبل الاستيفاء لأنها لا تبقى وقتين ولا يتصور تسليمها بعد وجودها بل يقترن التسليم بالوجود فإنما تصير معقودا عليها مملوكا بالعقد عند الاستيفاء فكذلك في حقوق اللّه تعالى يفصل بين المالي والبدني من هذا الوجه ووجه ما ذهبنا إليه أن الوجوب حكم إيجاب اللّه تعالى علينا بسببه والواجب اسم لما لزمه بالإيجاب والأداء فعل العبد الذي يسقط الواجب عنه وهو بمنزلة رجل استأجر خياطا ليخيط له هذا الثوب قميصا بدرهم فيلزم الخياط فعل الخياطة بالعقد والأداء الخياطة نفسها وبها يقع تسليم ما لزمه بالعقد فكان الفعل المسمى واجبا في الذمة غير الموجود مؤدى حالا بالقميص واعتبر بالنائم والمغمى عليه فإن هناك أصل الوجوب ثابت لما ذكرنا من وجوب القضاء بعد الانتباه والإفاقة ووجوب الأداء غير ثابت لزوال الخطاب عنه كما مر تحقيقه وهذا يدلك على المغايرة بين الأمرين وإن كان التمييز يتعذر بينهما بالعبارة ولا يقال ذلك ابتداء عبادة يلزم بعد حدوث الأهلية بالانتباه والإفاقة بخطاب جديد لأن شرائط القضاء تراعى فيه كالنية وغيرها ولو كان ذلك ابتداء فرض لما روعيت فيه شرائط القضاء بل كان ذلك أداء في نفسه كالمؤدى في الوقت لولا النوم والإغماء والذي يحقق هذا أن الوقت لو مضى على غير الأهل ثم حدثت الأهلية لما وجب القضاء بأن كان كافرا أو صبيا في الوقت ثم حدثت الأهلية بالإسلام والبلوغ وحيث وجب ها هنا ومع الوجوب روعيت شرائط القضاء دل أن الأمر على ما بينا وكذلك وجوب أصل الصوم ثابت في حق المسافر والمريض حتى لو صام المسافر عن الواجب صح بالإجماع ووجوب الأداء متراخ إلى حال الإقامة والصحة حتى لو مات قبل الإقامة أو الصحة لقي اللّه تعالى ولا شيء عليه كذا في طريقة الشيخ أبي المعين رحمه اللّه وسيأتي بيان فساد فرقه في موضعه إن شاء اللّه عز وجل ثم اعترض الشيخ أبو المعين رحمه اللّه على هذه الطريقة فقال ما ذكرنا طريقة بعض مشايخنا وهي واهية بمرة بل هي فاسدة لأن أداء الصوم هو عين الصوم لا غيره فإن الصوم فعل العبد ولا فعل له إلا الأداء وهذا شيء لا حاجة إلى إثباته بالدليل لثبوت صحته في البداية قال ثم يقول الصوم ما هو الإمساك عن قضاء الشهوتين نهارا للّه تعالى أم غيره فإن قال غيره بان بهته ومكابرته لكل منصف وإن قال هو الإمساك فنقول الإمساك فعلك أم هو معنى وراء فعلك فإن قال هو معنى وراء فعلي فيقال أيوجد بفعلك أم بغير فعلك فإن قال يوجد بغير فعلي فقد جعل الصوم مما يوجد بلا فعل العبد واختياره وذا فاسد وإن قال يوجد بفعلي فيقال له بأي فعل يوجد وما ذلك (١/٣٢٦) الفعل الذي يوجد به الإمساك الذي هو صوم ولا سبيل له إلى بيان ذلك ثم يقال له ما الفرق بينك وبين قول القائل الضرب ليس بفعل للرجل ولكنه يوجد بفعله وكذا الجلوس والقيام والأكل والشرب وفي ارتكاب هذا خروج عن المعارف وجحد للضرورات وإن قال الإمساك فعلي فنقول إذا حصل منك الإمساك فقد حصل منك الفعل فما الأداء فعل آخر هو فإن قال نعم فإذا صار الصائم فاعلا بفعلين أحدهما الإمساك والآخر أداء الإمساك وكذا كل فاعل فعل فعلا كالآكل والشارب والقائم والقاعد كان فاعلا فعلين أحدهما ذلك الفعل والآخر أداؤه وهذه مكابرة عظيمة ثم هذا الكلام بناء على مذهب لأبي الهذيل العلاف من شياطين القدرية وهو أن الصوم والصلاة والحج ليست بحركات ولا سكون وهي معان تقارن الحركات والسكون حكى المذهب عنه أبو القاسم الكعبي وهو مذهب لم يقدر أبو الهذيل تصويره فضلا عن تحقيقه وهو كقوله إن الكون معنى وراء الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وأراد تصويره فلم يقدر عليه فكذا ما نحن فيه مكان القول بجعل أصل الوجوب غير وجوب الأداء مبنيا على هذا المذهب فإن الأداء هو حركات وسكنات والصوم والصلاة والحج معان وراءها فيجب تلك المعاني وتشتغل الذمة بها ثم تحصل عند وجود الحركات والسكنات أو بها فكان التحرك والسكون من العبد أداء لها وتحصيلا لها فتحصل هي بها أو معها ثم مع هذا هذه العبادات عنده أفعال للعبد فكذا عند هذا القائل هذه العبادات أفعال للعبد وهي معان وراء الأداء الذي هو من جنس الحركة والسكون فيجب بالأسباب ثم بالأمر يجب الحركات والسكون التي بها أو معها تحصل هذه العبادات الواجبة فكانت الحركات والسكون التي هي أغيارها وهي من قرائنها أداء لها لحصولها بحصول الحركات والسكون فأما من يقول إن هذه العبادات هي هذه الحركات والسكون وهي بنفسها أداء فلا يمكنه أن يجعل أصل الوجوب غير وجوب الأداء لأن المراد بوجوب الأصل وجوب هذه الأفعال وهي بأنفسها أداء فلا يتصور أن لا يكون الأداء واجبا لأن القول بعدم وجوب فعل ما مع وجوبه مناقضة ظاهرة وذا لا يقوله من له لب قال وقولهم إن من استأجر خياطا (١/٣٢٧) ليخيط له هذا الثوب إلى آخره كلام فاسد لأن المعقود عليه هناك ما يحل بالثوب من آثار الخياطة التي هي فعله وهو ما يحصل في الثوب من التركب على صور مخصوصة فأما الفعل فليس بمعقود عليه بل هو ذريعة يتوصل بها إلى المعقود عليه ويمكن بها التسليم للمعقود عليه وهو الواجب بالعقد وتسليمه غيره فإن التسليم وهو الفعل قائم بالخياط والمعقود عليه ما يصير مسلما بفعله في الثوب وهو حصول صفة التركب على هيئة مخصوصة ولا شك أن ما يحصل بالفعل هو غير الفعل يحققه أن الخياطة فعل الخياط والمعقود عليه وهو التركب الحاصل في الثوب ليس بفعل له حقيقة لاستحالة فعل العبد فيما وراء حيزه بل هو فعل اللّه تعالى ولكنه يضاف إلى العبد حكما لإجراء اللّه تعالى العادة بتخليقه تلك الصفة في الثوب عند مباشرة الخياطة فأما فيما نحن فيه فبخلافه لما بينا أن أداء الصوم ليس بغير للصوم والصوم فعل العبد والعبد هو الصائم كما أنه هو المؤدي فأما التركب الحاصل في الثوب فليس بفعل له فإنه ليس بمتركب بل المتركب هو الثوب ولو كانت صفة التركب فعلا له لكان هو المتركب فدل أن بين الأمرين تفاوتا عظيما على أن من ساعده أن المعقود عليه الخياطة يقول هي الواجبة بنفسها وأداؤها نفسها لا غيرها ووجوبها بالعقد وجوب أدائها لا غير بدلالة ما بينا أن أداء الفعل نفسه لا غير وقولهم إن في حق النائم والمغمى عليه أصل الوجوب ثابت ووجوب الأداء منتف غير صحيح لما بينا أن الأداء هو نفس الصوم أو الصلاة والقول بوجوب الشيء مع انتفاء وجوبه محال فإذا لا نسلم وجوب أصل الصوم والصلاة عليه بل الوجوب عليه عند زوال الإغماء بخطاب مبتدأ من قوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر والمغمى عليه مريض ومن قوله عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها والإغماء مثل النوم قولهم هذا يسمى قضاء ولو كان ابتداء فرض لزمه لكان أداء قلنا لا فرق بين الأداء والقضاء بل هما لفظان متواليان على معنى واحد يقال قضيت الدين وأديته وقضيت الصلاة وأديتها على أن المغايرة بينهما تثبت باصطلاح الفقهاء دون اقتضاء اللغة قولهم يراعى فيه شرائط القضاء قلنا عند الخصم لا فرق بين الأداء والقضاء في حق النية لا في الصوم ولا في الصلاة وإنما يحتاج إلى أن ينوي صوما وجب عليه عند زوال العذر ولولا العذر وجب في الوقت المعين له شرعا وبهذا لا يتبين أن الصوم أو الصلاة كانا يجبان في حالة سقط عن الإنسان أداؤهما وقولهم لو مضى الوقت على غير الأهل (١/٣٢٨) ثم حدثت الأهلية لما وجب عليه القضاء إلى آخره فاسد أيضا لأنا بينا بالدليل أن هذا محال والاشتغال بإثبات المستحيل بما يتحايل أنه دليل ضرب من السفه على أن الشرع أوجب على من مضى عليه الوقت وهو مغمى عليه أو نائم بعد زوال العذر ما كان يوجبه في الوقت لولا العذر وفي باب الصبا والكفر ما فعل هكذا والأمر لصاحب الشرع يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال ولا نقول يتحقق وجوب أصل الصوم في حق المسافر والمريض وتأخر وجوب الأداء لما بينا أنه محال بل نقول إن هناك أوجب اللّه تعالى الصوم على العبد معلقا باختياره الوقت تخفيفا منه على عباده ومرحمة عليهم فإن اختيار الأداء في الشهر كان الصوم واجبا فيه وإن أخر إلى حالتي الصحة والإقامة لم يكن الصوم واجبا عليه بل كان واجبا بعد الصحة والإقامة حتى أنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر بأن مات من مرضه أو في سفره يلقى اللّه تعالى ولا شيء عليه ولو أدرك بعض الأيام دون البعض وجب عليه بقدر ما أدرك فأما أن يقول بوجوب الأصل دون وجوب الأداء فكلا وهذا كله بخلاف الزكاة وسائر الواجبات المالية فإن هناك الواجب هو المال والأداء فعل في ذلك فيجب عند تحقق الأسباب الأموال في ذمم الصبيان وجعل ذلك شرعا كما لو وضع عند الصبي مال معين فيجب على الولي أداء ما وضع في ذمة الصبي من المال وتفريغها عنه كما لو وضع في بيت الصبي مال وهذا لا يمكن تصويره في الأفعال هذا كلامه أوردته بلفظه وحاصله منع المغايرة بين الوجوب ووجوب الأداء ودعوى استحالتها في الواجب البدني والجواب أن الأمر ليس على ما زعم فإنا وإن سلمنا أن الصوم أو الصلاة هو الفعل وأداء الصوم هو الفعل أيضا لكنا لا نسلم أنهما واحد وبيانه أن لكل شيء من الأجسام والأعراض وجودا في الذهن ويدرك ذلك بالعقل ويسمى ماهية ووجودا في الخارج ويدرك ذلك بالحس فنفس الوجوب عبارة عن اشتغال الذمة بوجوب الفعل الذهني ووجوب الأداء عبارة عن وجوب إخراج ذلك الفعل من العدم إلى الوجود الخارجي ولا شك أن إخراجه من العدم إلى الوجود غير ذلك التصور الموجود في الذهن وإن كان مطابقا له ولهذا لا يتبدل ذلك التصور بتبدل الوجود الخارجي بالعدم بل هو باق على حاله والبدني كالمالي بلا فرق فإن أصل الوجوب في المال عبارة عن لزوم مال متصور في الذمة ولزوم الأداء عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود الخارجي إلا أنه لما لم يكن في وسعه ذلك أقيم مال آخر من جنسه مقام ذلك المال الواجب في حق صحة الأداء والخروج عن العهدة وجعل كأنه ذلك المال الواجب وهذا معنى قولهم الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها فثبت بما ذكرنا أن المغايرة بينهما ثابتة من غير استحالة واللّه أعلم (١/٣٢٩) قوله ثم إذا انقضى الجزء الأول فلم يؤد أي لم يشرع في الأداء انتقلت السببية إلى الجزء الثاني ثم كذلك تنتقل أي ما انتقل من السببية إلى الثاني ينتقل إلى آخر أجزاء الوقت جزءا فجزءا مثل انتقالها إلى الثاني لأنه لما ثبت أن كل الوقت ليس بسبب بل السبب جزء منه والباقي ظرف وشرط كان الجزء القائم أولى بالسببية من الجزء الفائت فيجعل القائم خلفا عن الفائت في كونه سببا إلى أن يبلغ آخر الوقت فيصير ذلك الجزء هو السبب عينا لكن على تقدير الشرع فيه فإذا لم يشرع فيه حتى خرج الوقت فالوجوب يضاف إلى كل الوقت كذا في شرح التقويم للمصنف رحمه اللّه ولا يقال لا ضرورة في نقل السببية وجعل القائم خلفا عن الفائت إذ الفوات لا يمنع من تقرر السببية كما إذا فات الوقت لأنا نقول دل على ذلك تغير الأحكام في السفر والإقامة والحيض والطهر ونحوها بعد الجزء الأول فأن السببية لو تقررت عليه لما تغيرت الأحكام بهذه العوارض بعد انقضائه كما لا يتغير بها بعد انقضاء الوقت وإنما لم يمنع تقرر السببية فوات الوقت لعدم ما يعارضه بعده وأما ههنا فالجزء الثاني يعارض الأول وهو موجود بعد فوات الأول فكان أولى بالسببية قوله لما ذكرنا من ضرورة تقدم السبب على وقت الأداء يعني كما أن ضرورة كون السبب متقدما على وقت الأداء أي على الزمان الذي يقع فيه الأداء أوجبت انتقال السببية من الكل إلى الجزء فكذلك توجب انتقالها إلى الثاني والثالث لأن السبب إنما يكون متقدما بصفة الاتصال بالمسبب لا بصفة الانفصال إذ الانفصال بعارض وصفة الاتصال لا تثبت إلا بالانتقال إلى ما بعد الجزء الأول فكان هذا الانتقال من ضرورات التقدم أيضا كالانتقال الأول قوله وكان ما يلي الأداء به أولى كأنه جواب سؤال يرد عليه وهو أن يقال لا نسلم تحقق الضرورة في الانتقال إلى ما بعد الجزء الأول لأنه أمكن أن يجعل جميع ما تقدم على الأداء من أجزاء الوقت سببا لحصول المقصود به وهو تقدم السبب مع صفة الاتصال بالمسبب فقال ما يلي الأداء به أولى أي الجزء المتصل بالأداء بنفسه أولى بالسببية من جميع الأجزاء المتقدمة لأنه لما وجب نقل السببية عن كل الوقت إلى الجزء الأدنى لما ذكرنا من الدليل لم يجز تقديره أي لم يجز إثبات معنى السببية لجميع الأجزاء (١/٣٣٠) المتقدمة على الأداء لأن ذلك يؤدي إلى التخطي أي التجاوز عن القليل وهو الجزء المتصل بالأداء بلا دليل يوجب ذلك لأن الدليل إنما دل على أن الكل سبب أو الجزء الأدنى سبب فإثبات السببية لما وراء الكل والأدنى يكون إثباتا بلا دليل وإذا كان كذلك كانت الضرورة في الانتقال إلى الثاني والثالث باقية فإن قيل لا ضرورة في الانتقال إلى ما بعد الجزء الأول لأن حكم السبب الوجوب في الذمة لا حقيقة الأداء وقد ثبت الوجوب بالجزء الأول متصلا به فلا حاجة إلى انتقال السببية عنه قلنا الأمر كذلك إلا أن الأداء لما كان بناء على ذلك السبب لأنه أداء ذلك الواجب كان من نتيجة ذلك السبب أيضا فيجب أن يكون متصلا به وكذلك الحكم في البيع أيضا إلا أن البيع باق حكما إلى زمان الأداء شرعا إذ العقود الشرعية موصوفة بالبقاء على ما عرف فيثبت الاتصال بينه وبين الأداء الذي هو حكمه فأما الجزء الأول ههنا فقد انقضى حقيقة وكذا حكما لأنه لا ضرورة في إبقائه حكما لأن أمثاله التي تصلح للسببية توجد بعده فلا يثبت الاتصال فلهذا دعت الضرورة إلى الانتقال وذكر في بعض الشروح أن معنى قوله وكان ما يلي الأداء به أولى أن الجزء المتصل بالأداء أولى بالسببية من الجزء الأول لأن الجزء المتصل بالأداء لما صلح للسببية لا يجوز إلغاؤه وجعل ما قبله سببا لأن ذلك يؤدي إلى التخطي عن القليل وهو الجزء المتصل بلا دليل وذلك لا يجوز كمن سبقه الحدث في الصلاة فانصرف واستقبله نهر ووراءه نهر آخر فترك الأقرب ومشي إلى أبعد لا يجوز وتفسد صلاته لأنه اشتغال بما لا يعنيه فكذلك هذا قلت هذا معنى حسن ويشير إليه قوله ولم يجز تقريره على ما سبق ولكن قوله يؤدي إلى التخطي عن القليل لا ينقاد له ولو كان المعنى ما ذكر لوجب أن يقال يؤدي إلى التخطي عن القريب إلى البعيد بلا دليل وقوله بلا دليل احتراز عن انتقال السببية عن الجزء الأخير إلى الكل إن لم يوجد الأداء في الوقت فإنه وإن كان تخطيا عن القليل إلى الكثير ولكنه بالدليل وحاصل ما ذكرنا أن السببية لو لم تنتقل عن الجزء الأول فإما أن تضم إليه الأجزاء المتقدمة على الأداء أم لا فإن لم تضم إليه يلزم ترجيح المعدوم على الموجود مع صلاحية الموجود للسببية واتصال المقصود به وأنه فاسد وإن ضمت إليه يلزم التخطي عن القليل بلا دليل وهو فاسد أيضا فتعين الانتقال وقد استدلوا عليه بدلالة الإجماع أيضا فإن الأهلية لو حدثت في أثناء الوقت بأن أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو أفاق المجنون بعد انقضاء الجزء الأول لزمت عليهم الصلاة بالإجماع فلو استقرت السببية (١/٣٣١) على الجزء الأول ولم ينتقل جزءا فجزءا لما وجبت الصلاة عليهم كما لو حدثت الأهلية بعد خروج الوقت وكذلك أداء العصر وقت الاحمرار جائز نصا وإجماعا ولولا الانتقال لم يجز كما إذا قضى عصر الأمس في هذه الحالة فهذه الضرورة دعتهم إلى القول بالانتقال وقوله وإذا انتهى إلى آخر الوقت اعلم أن خيار تأخير الأداء يثبت إلى أن يتضيق الوقت بحيث لا يسع فيه إلا فرض الوقت بالإجماع حتى لو أخر عنه يأثم فأما انتقال السببية فكذلك يثبت إلى تضيق الوقت أيضا عند زفر رحمه اللّه لأنه مبني على ثبوت الخيار عنده ولم يبق ذلك وعندنا الانتقال ثابت إلى آخر جزء من الوقت لما ذكرنا أن كل جزء صالح للسببية وأن المعدوم لا يعارض الموجود وإنما لا يسعه التأخير لكي لا يفوت شرط الأداء وهو الوقت وإذا عرفت هذا فاعلم أن آخر الوقت في قوله وإذا انتهى أي الانتقال إلى آخر الوقت إن حمل على وقت التضييق بدليل قوله حتى تعين الأداء لازما كان موافقا لمذهب زفر لأن استقرار السببية عند التضييق مذهبه وإن حمل على الجزء الأخير كما هو حقيقته لم يبق لقوله حتى تعين الأداء لازما فائدة لأنه ثابت قبل ذلك إلا أن يقال المراد من استقرار السببية استقرارها في حق وجوب الأداء لا في عدم جواز الانتقال وهو بعيد لأن سوق الكلام لا يدل عليه أو يقال المراد من تعين الأداء تقرر الواجب يعني وإذا انتهى الانتقال إلى آخر جزء من الوقت حتى تقرر الواجب بحيث لا يحتمل السقوط استقرت السببية على ذلك الجزء إن اتصل الشروع به ولا ينتقل إلى غيره إذ لم يبق بعده شيء يحتمل الانتقال إليه ولهذا يعتبر حال المكلف عند ذلك الجزء في الحيض والطهر والصبا والبلوغ والكفر والإسلام على ما عرف وإن لم يتصل به الشروع فينتقل السببية إلى كل الوقت كما سيأتي بيانه فصار الحامل أنه يتعين للسببية الجزء المتصل بالأداء فإن اتصل بالجزء الأول كان هو السبب وإلا فينتقل إلى الثاني والثالث لأن في المجاورة عن الجزء الذي يتصل به الأداء في جعله سببا لا ضرورة وليس بين الأدنى والكل مقدار يمكن الرجوع إليه كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه قوله فإن كان ذلك الجزء صحيحا بيان استقرار السببية واعتبار صفة ذلك الجزء فإنه إن كان صحيحا كان الواجب كاملا كما في الفجر وإن كان فاسدا أي ناقصا كان الواجب ناقصا فإذا غربت الشمس في خلال العصر لا يفسد العصر لأنه وجب ناقصا لنقصان في سببه وبالغروب ينتفي النقصان فيتأدى كاملا ولو طلعت في خلال الفجر تفسد عندنا وقال الشافعي رحمه اللّه لا تفسد اعتبارا بالغروب واستدلالا بقوله عليه (١/٣٣٢) السلام من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر رواه أبو هريرة رضي اللّه عنه والفرق بينهما عندنا أن الطلوع بظهور حاجب الشمس وبه لا ينتفي الكراهة بل يتحقق فكان مفسدا للفرض والغروب بآخره وبه ينتفي الكراهة فلم يكن مفسدا للعصر وتأويل الحديث أنه لبيان الوجوب بإدراك جزء من الوقت قل أو كثر كذا في المبسوط ولكن يأبى هذا التأويل ما روي في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وإذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته والتأويل الصحيح ما ذكره أبو جعفر الطحاوي رحمه اللّه في شرح الآثار أن هذا الحديث كان قبل نهيه عليه السلام عن الصلاة في الأوقات المكروهة ولا يقال كان ذلك نهيا عن التطوع خاصة كالنهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر فلا يوجب نسخ هذا الحديث لأنا نقول بل هو نهي عن الفرائض والنوافل فإن قضاء الفوائت فيها لا يجوز ألا ترى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما فاتته صلاة الصبح غداة ليلة التعريس انتظر في قضائها إلى أن ارتفعت الشمس فدل هذا على أن ما رواه نسخ به وعن أبي يوسف رحمه اللّه أن الفجر لا يفسد بطلوع الشمس ولكنه يصبر حتى إذا ارتفعت الشمس أتم صلاته وكأنه استحسن هذا ليكون مؤديا بعض الصلاة في الوقت ولو أفسدها كان مؤديا جميع الصلاة خارج الوقت وأداء بعض الصلاة في الوقت أولى من أداء الكل خارج الوقت كذا في المبسوط وقوله بطل الفرض إشارة إلى نفي ما روي عن محمد رحمه اللّه أن أصل الصلاة يبطل ببطلان الجهة على ما عرف في شرح الجامع الصغير للمصنف قوله جعل الوقت متسعا الشارع جعل جميع الوقت محلا لأداء فرض الوقت (١/٣٣٣) وأثبتت له ولاية شغل الكل بالأداء وهو العزيمة لأن الأصل أن يكون العبد مشغولا بخدمة ربه في جميع الأوقات إلا أن اللّه تعالى جعل للعبد ولاية صرف بعض الأوقات إلى حوائج نفسه رخصة فثبتت أن شغل كل الوقت بالعبادة هو العزيمة ولهذا جعلنا الوقت في حق صاحب العذر مقام الأداء لحاجته إلى شغل الوقت بالأداء ولا يمكنه الأقبال على العزيمة ههنا إلا بأن يقع بعض الأداء في الوقت الناقص فيصير ذلك البعض ناقصا ولما لم يمكن الاحتراز عنه سقط اعتباره لأنه حصل حكما لا قصدا فإنه بناء على الأول كما قال محمد في النوادر إن من شرع في الخامسة بعدما قعد قدر التشهد في صلاة العصر فإنه يضيف إليها ركعة أخرى ويكون الركعتان تطوعا ومعلوم أن التطوع بعد العصر مكروه ولكن لما كانت بناء على الأول وقد حصل حكما لا قصدا لم يعتبر حتى لم تثبت صفة الكراهة كذا هذا كذا ذكره أبو اليسر رحمه اللّه وذكر القاضي الإمام علاء الدين المعروف بالغني في مختلفاته أنه السبب إنما هو الجزء القائم من الوقت لا جملة الوقت ونعني بالجزء القائم أنه لو أخر ينتقل السببية جزءا فجزءا إلى آخر الوقت وعلى هذا الحرف يخرج الفرق بين صلاة الفجر والعصر فإن الفجر يفسد بطلوع الشمس في خلاله والعصر لا يفسد بالغروب ثم قال وظن كثير من فقهائنا أنا نعني بالجزء القائم الجزء الذي هو قبيل الشروع وليس كذلك فإنه لو شرع في العصر في الوقت المستحب وطول القراءة حتى دخل الوقت المكروه يجوز ولو جعل الوجوب مضافا إلى الجزء الذي هو قبيل الشروع لكان لا يجوز لأن السبب كامل بل نقول بعد الشروع كل جزء إلى آخر الصلاة سبب لوجوب الجزء الذي يلاقيه ومحل لأدائه إلا أن يخرج الوقت فيتقرر السببية على الجزء الأخير إن كان شرع فيها في آخر الوقت قوله وأما إذا خلا الوقت يجوز أن يكون جواب سؤال وهو أن يقال لما انتقلت السببية إلى الجزء الأخير لزم أن يجوز الأداء في الأوقات الناقصة إذا كان الجزء الأخير ناقصا (١/٣٣٤) كالعصر إذا فاتت عن وقتها ينبغي أن يجوز قضاؤها في الأوقات المكروهة فأجاب بما ذكر ويجوز أن يكون ابتداء بيان النوع الرابع من القسم الأول وهو أن الوجوب يضاف إلى كل الوقت إذا فات الأداء في الوقت لأنا إنما جعلنا جزءا من الوقت سببا ضرورة وقوع الأداء في الوقت لأن الوقت بعينه شرط الأداء وذلك سبب أيضا ولا يجوز أن يكون الوقت الواحد ظرفا وسببا فجعلنا جزءا منه سببا والباقي ظرفا وهذه الضرورة فيما إذا جعله ظرفا متحققة فإذا لم يجعله ظرفا بأن لم يؤد في الوقت حتى فات سقطت الضرورة ووجب العمل بالأصل وهو أن يجعل الوقت سببا لكماله لأن الإضافة وجدت إلى جميع الوقت يقال صلاة الظهر والظهر اسم لجميع الوقت ولما جعل الكل سببا ولا فساد في كل الوقت كان الواجب على وقفه فلا يصح أداؤه في وقت ناقص كما في الفجر وقت الطلوع ولا يقال لو كان الوجوب مضافا إلى الكل بعد الفوات لزم أن لا يكون الوجوب ثابتا في الوقت فوجب أن لا يكون إنما بترك الأداء لأنا نقول إنما ينتقل السببية إلى الكل بعد اليأس عن الأداء في الوقت فلا يلزم منه انتفاء الوجوب في الوقت ولأنه لما كان مأمورا بأداء الصلاة في الوقت ومن ضرورته جعل بعض الوقت سببا في حقه فكان له القدرة على أن يقرر بعض الوقت للسببية بأن يصل الأداء به يأثم بتركه وتقصيره فإن قيل لو أضيف الوجوب إلى جميع الوقت وبعضه ناقص في العصر يكون الواجب ناقصا ضرورة فينبغي أن يجوز قضاؤه في وقت مثله قلنا السبب الكامل من وجه ناقص من وجه الواجب يكون كذلك فلا يتأدى في الوقت الناقص من كل وجه كذا في مختلفات القاضي الغني إلا أنه يقتضي أنه لو قضى العصر في اليوم الثاني فوقع بعضه في الوقت الناقص كان جائزا وليس كذلك فإن وقت التغير ليس بوقت لقضاء شيء من الصلاة كذا ذكر القاضي الإمام فخر الدين رحمه اللّه في الجامع الصغير والجواب الصحيح ما ذكره شمس الأئمة رحمه اللّه أنه إذا لم يشتغل بالأداء حتى تحقق التفويت بمضي الوقت صار دينا في ذمته فيثبت بصفة الكمال وإنما يتأدى بصفة النقصان عند ضعف السبب إذا لم يصر دينا في الذمة وذلك بأن يشتغل بالأداء لأنه يمنع صيرورته دينا في الذمة (١/٣٣٥) وحقيقة المعنى فيه أن النقصان في هذا الوقت إنما يمكن باعتبار الفعل لا باعتبار ذاته إذ هو وقت كسائر الأوقات لكن في الاشتغال بالصلاة في هذا الوقت تشبه بعبادة أهل الكفر وتعظيمهم ما يعتقدونه آلهة في هذا الوقت فإذا مضى من غير فعل لم يتحقق فيه نقصان وصار كسائر الأوقات في حق ما يرجع إلى الإيجاب في الذمة إلا أن النقصان الذي ذكرنا كان متحملا في الوقت للأمر بالأداء فإذا مضى لم يبق متحملا لأن الواجب تحقق في الذمة كاملا فلا يتأدى بصفة النقصان وهذا هو الجواب عما إذا أسلم الكافر أو بلغ أو طهرت الحائض في آخر وقت العصر ثم قضوها في اليوم الثاني في ذلك الوقت حيث لا يجوز لأنه إذا مضى الوقت صار الواجب دينا في ذمته بصفة الكمال فلا يتأدى ناقصا كذا قال شمس الأئمة رحمه اللّه تعالى ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا كان مقيما في أول الوقت ثم سافر في آخره وفاتته الصلاة حيث يجب عليه صلاة السفر مع أن الوجوب مضاف إلى كل الوقت لأنا نقول النقصان من الأربع إلى الركعتين لم يثبت من قبل السبب بل يثبت من قبل حال المصلي فلا يتفاوت بأن يضاف إلى الجزء أو إلى الكل بخلاف وقت العصر فإن النقصان فيه من قبل السبب فيتفاوت بإضافته إلى الوقت الناقص والكامل ولأن الرخصة باعتبار السفر وبعد خروج الوقت السفر باق فبمضي الوقت لا ينقلب فرضه أربعا بخلاف ما نحن فيه فإن النقصان باعتبار الوقت ولم يبق فيعود إلى الكمال قوله لأن هذا لا يروى أي عن السلف كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم اللّه فيحتمل أن يجوز قال أبو اليسر في هذا المقام لا نسلم فإنه لا يجوز بل يجوز بأنه لا رواية لهذا ومن المشايخ من قال لا يجوز لأن الفوات عن الوقت يوجب القضاء مطلقا عن الوقت فلا يجوز في وقت ناقص بخلاف الأداء كما قالوا في قضاء اعتكاف رمضان إذا صامه ولم يعتكف لا يجوز في الرمضان الثاني وإن كان الأداء جائزا في الرمضان الأول قوله لما لم يكن متعينا يعني لكون الوقت متسعا وكون العبد مختارا في الأداء والواو في قوله والاختيار للحال والضمير في فيه راجع إلى الأداء أو إلى التعيين الذي (١/٣٣٦) دل عليه الكلام قصدا أي بالقلب بأن نوى أن يكون هذا الجزء سببا ونصا أي بالقول بأن يقول عينت هذا الجزء للسببية لا يتعين ويجوز الأداء بعده وهذا أي عدم قبوله التعيين قصدا ونصا وليس إلى العبد ولاية تعيين الأسباب والشروط أي من غير تفويض إليه وههنا كذلك ينزع إلى الشركة أي يقضي ويذهب إليها يقال فلان نزع إلى أبيه في الشبه أي ذهب والتعيين نوع تصرف لأنه تقييد للمطلق وهو نسخ لإطلاقه ثم يتعين به المشروع أي بارتفاقه تعين ما هو متعلق به قوله وإنما للعبد أن يرتفق يعني ليس له الاختيار المطلق لأن ذلك للّه تعالى يفعل ما يشاء ويختار فلو ثبت التعيين بالقول كان اختيارا مطلقا فإنه خال عن الرفق والنفع وإنما جعل إلى العبد اختيار ما فيه رفق ولا رفق له في اختيار جزء من الجملة قولا بل فيه نوع ضرر لأنه ربما لا يمكنه الأداء فيه فيفوته الأداء أصلا مع بقاء الوقت وإنما إليه التعيين بأداء الصلاة وفيه فائدة بأن يختار الأداء في الجزء الذي تيسر عليه الأداء كذا في أصول الفقه للمصنف رحمه اللّه قوله أن لا ينفي غيره أي لا يمنع صحة صلاة أخرى لأن الوقت لما لم يكن معيارا لا يصير مستغرقا بالواجب فلا ينفي مشروعية سائر أنواع الصلاة وهذا لأن الصلاة اسم لأفعال معلومة من القيام والركوع والسجود والقعدة وهذه الأفعال وجبت في الذمة والأداء يحصل بمنافع بدنه فكان الوقت خلفا عنها فبقي غيرها مشروعا فيه والمنافع مملوكة له يصرفها إلى أي نوع شاء كالرجل عليه ديون وله مال لا ينفي وجوب دين آخر ولا قضاء دين آخر عن ذلك المال كذا هذا وكذلك من أجر نفسه لخياطة الثوب ملك أن يخيط ثوبا آخر لأن الواجب فعل الخياطة وذلك لا ينافي فعلا آخر كذا هنا قوله النية شرط ليصير ماله مصروفا إلى ما عليه أي ليصير المنافع التي هي مملوكة له صالحة لأداء الفرض وغيره مصروفة إلى ما عليه ولا يقال هذا تفسير القضاء لأن القضاء صرف ماله من المشروع بعد فوات الوقت إلى ما عليه وهذا صرف المنافع في الوقت إلى ما عليه ثم لا بد من تعيين النية وهو إن (١/٣٣٧) تعين فرض الوقت لتعدد المشروع في هذا الوقت ولم يصر مذكورا بالاسم المطلق بأن يقول نويت أن أصلي إلا عند تعيين الوصف بأن يقول بلسانه نويت أن أصلي فرض الظهر أو يقصد بقلبه ذلك وذكر فرض الوقت ليس بشرط عند البعض والأصح أنه شرط ولا يسقط هذا الشرط بضيق الوقت لأنه من العوارض وهي لا تعارض الأصل كالعصمة الثابتة بالإسلام والدار لا تسقط بعارض دخول دار الحرب حتى لو دخل مسلمان دار الحرب وقتل أحدهما صاحبه يجب الدية لأن الأصل وهو العصمة لم يبطل بهذا العارض فكذلك ههنا وجب التعيين باعتبار تعدد المشروع الذي ثبت بناء على توسع الوقت فلا يسقط بعارض ضيق الوقت ألا ترى أن التعدد باق فإنه لو قضى فرضا آخر عند ضيق الوقت أو أدى نفلا جاز ويجوز أن يكون المراد من العوارض النوم والإغماء ونحوهما أي لا يسقط هذا الشرط بأن نام أو أغمي عليه أو نسي حتى ضاق الوقت لأنها من العوارض وكذلك لا يسقط بتقصير العباد بالطريق الأولى لأن التقصير لا يصلح سببا لسقوط الحق قوله وإنما قلنا إنه معيار أي الوقت معيار لأنه قدر أي لأن الصوم قدر بالوقت حتى ازداد بازدياده وانتقص بنقصانه كالمكيل بالكيل وعرف به أي الصوم عرف بالوقت فقيل الصوم هو الإمساك عن المفطرات الثلاث نهارا مع النية بإذن صاحب الشرع فإذا دخل الوقت وهو النهار في تعريفه لا يوجد بدونه فكان مقدرا به وكان الوقت معيارا له ضرورة ويجوز أن يكون عرف من المعرفة ويكون تأكيدا لقدر أي قدر الصوم بالوقت وعرف مقدار الصوم به فكان معيارا له وسبب له عطف على معيار أي الوقت سبب للصوم كما يعرف في موضعه ومن حكمه أي حكم هذا النوع شغل المعيار به أي بهذا الواجب الموقت به وهو أي المعيار واحد والواو للحال فإذا ثبت له أي للمعيار وصف وهو كونه مشغولا بواجب يعني المعيار واحد فإذا صار معيارا للفرض لا يسع فيه غيره مع قيام الفرض فيه فكان من ضرورة تعين الفرض انتفاء غيره لأنه لا يتصور أداء صومين بإمساك واحد ولا يتصور في هذا الوقت إلا إمساك واحد وهو لا يفضل عن المستحق فلا يكون غيره مشروعا (١/٣٣٨) فيه ولا يتصور الأداء شرعا كذا قاله شمس الأئمة رحمه اللّه وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه المسافر إذا نوى واجبا آخر في رمضان أو تطوعا أو أطلق النية وقع عن فرض رمضان لأن شرع الصوم عام في حق المقيم والمسافر لأن وجوبه بشهود الشهر وقد تحقق في حق المسافر كما تحقق في حق المقيم ولهذا لو صام عن فرض الوقت يجزيه وقد بينا أن شرعه ينفي شرعية الغير فثبت أن غير فرض الوقت لم يبق مشروعا في حق المسافر أيضا إلا أن الشرع أثبت له الترخص بالفطر دفعا للمشقة فإذا ترك الترخص كان هو والمقيم سواء فيقع صومه عن فرض الوقت بكل حال وقوله رخص له أن يدعه بالفطر معناه أن الترخص مختص بالفطر دون غيره فلو جوزنا له الصوم لا عن فرض الوقت صار مترخصا بما لم يجعل الشرع له ذلك فكان هذا نصب المشروع للشرع لا انقيادا للشرع كذا ذكر الشيخ في شرح التقويم فانعدم فعله أي أداؤه الواجب الآخر أو التطوع لعدم ما نواه أي لعدمه في نفسه شرعا كالصوم في الليل وقال أبو حنيفة رحمه اللّه إذا نوى عن واجب آخر يقع عما نوى لأن الوجوب وإن كان ثابتا في حق المسافر لوجود سببه وهو شهود الشهر إلا أن الشرع أثبت له الترخص بترك الصوم تخفيفا عليه عند وجود السفر الذي هو محل المشاق ومعنى الترخص أن يدع مشروع الوقت بالميل إلى الأخف فإذا اشتغل بواجب آخر كان مترخصا لأن إسقاطه من ذمته أخف عليه من إسقاط فرض الوقت لأنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر لا يكون مؤاخذا بفرض الوقت ويكون مؤاخذا بذلك الواجب ولما جاز له الترخص بالفطر لأنه أخف عليه نظرا إلى منافع بدنه فلأن يجوز له الترخص بما هو أخف عليه نظرا إلى مصالح دينه كان أولى قوله ولهذا صح أداؤه وهذا عند جمهور الفقهاء وأكثر الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم وعند أصحاب الظواهر لا يجوز وهو مروي عن ابن عمر وأبي هريرة رضي اللّه تعالى عنهم لأن الوجوب في حقه مضاف إلى عدة من أيام فصار هذا الوقت في حقه (١/٣٣٩) كالشهر في حق المقيم فلا يجوز الأداء قبله وقال صلى اللّه عليه وسلم الصائم في السفر كالمفطر في الحضر وقال ليس من البر الصيام في السفر وتمسك الجمهور بقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه وهذا يعم المسافر والمقيم ثم قوله عز ذكره ومن كان مريضا أو على سفر لبيان الترخص بالفطر فينفى به وجوب الأداء لا جوازه وفي حديث أنس رضي اللّه عنه قال سافرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر لا يعيب البعض على البعض والأخبار في هذا كثيرة وتأويل حديثهم إذا كان يجهده الصوم حتى يخاف عليه الهلاك على ما روي أنه عليه السلام مر برجل مغشي عليه قد اجتمع عليه الناس وقد ظلل عليه فسأل عن حاله فقيل إنه صائم فقال ليس من البر الصيام في السفر يعني لمن هذا حاله كذا في المبسوط قوله بلا توقف احتراز عن أداء الصلاة في أول الوقت على قول بعض مشايخنا العراقيين فإنه موقوف على ما يظهر من حال المؤدي في آخر الوقت عندهم لأن السبب هو الجزء الأخير عندهم واحتراز عن أداء الزكاة في أول الحول فإنه موقوف على كمال النصاب في آخر الحول حتى لو هلك النصاب كان له أن يسترد من الساعي إن كان قائما لأن أصل السبب وإن وجد في أول الحول إلا أن وصفه وهو النماء لم يوجد فلو وجد أصل السبب قلنا بالجواز ولفوات وصفه قلنا بالتوقف وههنا السبب وهو شهود الشهر ثابت في حق الجميع بصفة الكمال فيصح الأداء بلا توقف كأداء الحج من الفقير لكمال سببه وهو البيت ويجوز أن يكون معناه بلا تردد وشك قوله وصار كونه ناسخا لغيره جواب عن قولهما إن شرع الصوم لما ثبت في حقه لم يبق غيره مشروعا أي صار كون صوم رمضان ناسخا لغيره من الصيامات متعلقا بإعراضه عن الرخصة وتمسكه بالعزيمة (١/٣٤٠) فإذا لم يفعل أي لم يعرض عن الرخصة لما ذكرنا بقي أي غير صوم الوقت مشروعا لأن المعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط فصح أداؤه وهذا الطريق يوجب أنه إذا نوى النفل يقع عن فرض الوقت كما روى ابن سماعة عنه وهو الأصح لأنه لا يمكن إثبات معنى الرخصة بهذه النية إذ هو يتجشم للحال مرارة الجوع ويلزمه قضاء فرض الوقت في الثاني ولا فائدة في النفل إلا الثواب وهو في فرض الوقت أكثر فكان هذا ميلا إلى الأثقل لا إلى الأخف وإذا لم يثبت الترخص بقي صوم الوقت مشروعا فيتأدى بنية النفل كما في حق المقيم وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما اللّه أنه يقع عما نوى لأن انتفاء شرعية النفل ليس من حكم الوجوب واستحقاق الأداء بمنافعه فإن ذلك موجود في الواجب الموسع بل من حكم تعين هذا الزمان لأداء الفرض ولا تعين في حق المسافر لأنه مخير بين الأداء فيه والتأخير إلى عدة من أيام أخر فلا ينتفي صحة أداء صوم آخر منه بهذا الإمساك كذا ذكر الإمام السرخسي وذكر القاضي الإمام أبو زيد أن اللّه تعالى أمر المسافر ابتداء بصوم العدة من غير شرط الترخص بالفطر فتأجل وجوب الصوم في حقه بالإضافة كمن نذر أن يصوم رجبا وهو في غير رجب لا يجب الصوم عليه في الحال فلم يبق في حقه رمضان فرضا إلا أن يعجله ولما نوى صوما آخر ما عجله فبقي رمضان في حقه كشعبان ما لم يعجل الفرض فيصح منه أداء النفل وغيره وتبين بهذا أنه مترخص بأداء النفل أيضا كما أنه مترخص بأداء فرض آخر وإن ترخصه لا يبطل إلا بصوم الوقت وأما إذا أطلق النية فعلى الرواية التي لا يصح نية النفل لا شك أنه يقع عن رمضان وإن بنية النفل لما وقع عن صوم الوقت مع أنها لا تحتمل الفرض فبالنية المطلقة التي تحتمله أولى أن يقع عنه وعلى الرواية التي يقع بنية النفل عن النفل قيل إذا أطلق النية لا يقع عن الفرض لأن رمضان لما صار في حقه كشعبان حتى قيل سائر أنواع الصيام لا بد من تعيين النية كما في الظهر المضيق ولأن المطلق يحتمل النفل والفرض والوقت يقبلهما فكان الحمل على النفل الذي هو أدنى أولى كما في خارج رمضان والصحيح أنه يقع عن فرض الوقت (١/٣٤١) على جميع الروايات لأن الترخص وترك العزيمة وهي صوم الوقت لا يثبت بهذه النية لأنه إنما يثبت بنية واجب آخر أو بنية صريح النفل على رواية الحسن وهذه النية لا تحتمل واجبا آخر غير فرض الوقت لأنه لا يتأدى بمثل هذه النية في غير رمضان ففيه أولى وليست بنية صريح النفل أيضا بل هي تحتمله كما تحتمل فرض الوقت ولما لم يثبت الترخص التحق بالمقيم فإطلاق النية منه ينصرف إلى صوم الوقت وصار الحاصل أن الرخصة عنده متعلقة بالفطر وما في معناه من ترفيه يرجع إليه وعندهما هي متعلقة بالفطر لا غير قوله أما المريض فالصحيح عندنا إلى آخره احترز به عما روى أبو الحسن الكرخي رحمه اللّه أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة رحمه اللّه وبهذه الرواية أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه اللّه فقال وإن كان مريضا أو مسافرا فصام رمضان بنية واجب آخر فعند أبي حنيفة يصير صائما عما نوى ولو صام بنية التطوع ففي ظاهر الرواية أنه يصير صائما عن رمضان وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما اللّه أنه يصير صائما عما نوى وهو اختيار شيخ الإسلام صاحب الهداية والقاضي الإمام فخر الدين والإمام ظهير الدين الولوالجي والقاضي الإمام ظهير الدين البخاري والشيخ الكبير أبي الفضل الكرماني رحمهم اللّه فقد ذكر أبو الفضل في الإيضاح وكان مشايخنا يفصلون بين المسافر والمريض وأنه ليس بصحيح والصحيح أنهما يتساويان قال وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما اللّه نصا أنه إذا نوى التطوع يقع عن التطوع وما ذكر ههنا اختيار المصنف وشمس الأئمة ومن تابعهما قلت وكشف هذا أن الرخصة لا تتعلق بنفس المرض بإجماع بين الفقهاء ولا يعبأ فيه بقول مخالفيهم وذلك لأن المرض متنوع نوع منه ما يضر به الصوم نحو الحميات المطبقة ووجع الرأس والعين وغيرها ونوع منه ما لا يضر به الصوم كالأمراض الرطوبية وفساد الهضم وغير ذلك والترخص إنما ثبت للحاجة إلى دفع المشقة والضرر ترفيها فمن البعيد أن يثبت فيما لا حاجة فيه إلى دفع ضرر فلذلك شرط كونه مفضيا إلى الحرج بخلاف السفر فإنه يوجب المشقة بكل حال فتعلق الترخص بنفس السفر وأقيم السفر مقام المشقة لما عرف (١/٣٤٢) ثم عندنا يثبت الترخص بخوف ازدياد المرض كما يثبت بحقيقة العجز لا خلاف فيه بين أصحابنا فإن من ازداد وجعه أو حماه بالصوم يباح له الفطر وإن لم يعجز عن الصوم ولم يرو عن أحد من أصحابنا خلاف ذلك فهذا المريض إن تحمل زيادة المرض وصام عن واجب آخر لا شك أنه يقع عما نوى عند أبي حنيفة إذ لا فرق بينه وبين المسافر بوجه فعلى هذا لا يستقيم الفرق الذي ذكره صاحب الكتاب إلا بتأويل وهو أن المرض لما تنوع كما ذكرنا تعلق الترخص في النوع الأول وهو الذي يضر به الصوم بخوف ازدياد المرض ولم يشترط فيه العجز الحقيقي دفعا للحرج وتعلق في النوع الثاني بحقيقة العجز لأنه وإن لم يضر به الصوم لكن لما آل أمر المريض إلى الضعف الذي عجز به عن الصوم لا بد من أن يثبت له الترخص دفعا للّهلاك عن نفسه كما يثبت بالإكراه إذ معنى العجز أنه لو صام لهلك غالبا فإذا صام هذا المريض عن واجب آخر ولم يهلك ظهر أنه لم يكن عاجزا ولم يثبت له الترخص فيقع عن فرض الوقت فظهر أن مراد الشيخ أبي الحسن من قوله الجواب في المريض والمسافر سواء المريض الذي أضر به الصوم وتعلق ترخصه بازدياد المرض ومراد المصنف من قوله إن رخصته متعلقة بحقيقة العجز المريض الذي لم يضر به الصوم وتعلق ترخصه بحقيقة العجز وقوله فإن الصحيح عندنا كذا أراد به نفسه وإنما قال هذا لأن رواية الشيخ أبي الحسن أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة لو أجريت على ظاهرها وعمومها من غير تأويل لأوجبت تعميم الحكم في حق كل مريض كعمومه في حق المسافر وذلك فاسد فالشيخ نظر إلى عمومها الظاهري وأشار إلى الفساد بقوله فإن الصحيح عندنا كذا يوضح ما ذكرنا ما قال شمس الأئمة في المبسوط فأما المريض إذا نوى واجبا آخر فالصحيح أنه يقع صومه من رمضان لأن إباحة الفطر له عند العجز عن أداء الصوم فأما عند القدرة فهو والصحيح سواء بخلاف المسافر ثم قال وذكر أبو الحسن الكرخي رحمه اللّه إن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة وهو سهو أو مؤول ومراده مريض يطيق الصوم ويخاف منه زيادة المرض فهذا يدلك بأدنى تأمل على صحة ما ذكرنا واللّه أعلم قوله بطريق التنبيه التنبيه الإعلام يعني جواز الترخص بالفطر لحاجته الدنيوية تنبيه على جوازه بأداء الصوم لحاجته الدينية بالطريق الأولى لأنه أهم فيتعدى الترخص أو الحكم من الفطر إلى الصوم الواجب للحاجة بالقياس أو بالدلالة (١/٣٤٣) قوله ولما صار متعينا إلى آخره الصحيح المقيم إذا أمسك في نهار رمضان ولم يحضره النية لم يكن صائما عندنا وقال زفر رحمه اللّه يخرج به عن عهدة الأمر لأن الأمر بالفعل متى تعلق بمحل بعينه أخذ حكم العين المستحق فعلى أي وصف وجد وقع عن جهة المأمور به كالأمر برد المغصوب والودائع لما كان متعلقا بمحل بعينه فعلى أي وجه أوقع الفعل لا يقع إلا عن الجهة المستحقة عليه كالأمر بأداء الزكاة لما تعلق بمحل عين وهو النصاب كان الصرف إلى الفقير واقعا عن الجهة المستحقة حتى لو وهب النصاب من الفقير من غير نية يخرج عن العهدة وكما لو استأجر إنسانا ليخيط له ثوبا كان الفعل الواقع فيه من جهة ما استحق عليه سواء قصد به التبرع أو أداء الواجب بالعقد والفقه الجامع للكل أنه لما أخذ تعلقا بمحل عين كان متعينا على اعتبار الوجود فإذا وجد وقع عنه وإن كان دينا باعتبار ذاته على معنى أنه يجب إيجاده ولنا حرفان أحدهما أن الواجب في الذمة أمر العبد بتحصيله وإيجاده في وقت عين والإيجاد بصورته ومعناه وصورته الإمساك ومعناه كونه عبادة وهذا المعنى لا يحصل إلا بالعزيمة ولم توجد فلا يقع عن الجهة المستحقة وإن تعين له بخلاف هبة النصاب لأن الإخراج تم بصورته ومعناه وكذا الفعل في الإجارة تم بصورته ومعناه والثاني وهو المذكور في الكتاب أن منافعه مع تعين الوقت للفرض واستحقاق الصوم عليه بقيت على ملكه ونعني بها الصلاحية التي يتمكن بها من أداء العبادة أو غيرها وهو مأمور بأن يؤدي بها ما هو مستحق عليه من العبادة وذلك بأداء يكون منه عن اختيار فلا يتحقق ذلك بدون العزيمة لأنه ما لم يعزم لا يكون صارفا ماله إلى ما هو مستحق عليه ولا يحصل ذلك بعدم العزيمة لأن العدم ليس بشيء ولا يقال الإمساك وجد منه اختيارا فلا حاجة إلى النية ليحصل الاختيار لأنا نقول إنما شرطنا الاختيار في صرف هذا الفعل عن العادة إلى العبادة ولا يحصل ذلك بدون النية وإنما لا يمكنه صرف منافعه إلى أداء صوم آخر لأنه غير مشروع لا لأن المنافع مستحقة عليه كما لا يمكنه ذلك في الليل وهذا بخلاف الأجير فإن المستحق منافعه إن كان أجيرا واحدا والوصف الذي يحدث في الثوب إن كان أجيرا مشتركا فيه وذلك لا يتوقف على عزم يكون منه وبخلاف الزكاة فإن المستحق صرف جزء من المال إلى المحتاج ليكون كفاية له من اللّه تعالى وقد تحقق (١/٣٤٤) ذلك فالهبة صارت عبارة عن الصدقة في حقه مجازا لأن المبتغى بها وجه اللّه تعالى دون العوض من المصروف إليه كما أن الصدقة على الغني صارت عبارة عن الهبة حتى ملك المتصدق الرجوع بدلالة في المحل قال شمس الأئمة في المبسوط وفي مسألة هبة النصاب معنى القصد حصل باختيار المحل ومعنى القربة حصل لحاجة المحل ألا ترى أن من وهب لفقير شيئا لا يملك الرجوع فيه لحصول الثواب له فالحاصل أن الخصم نظر إلى الإمساك فقال هو الواجب لا غير وجعل تأثير النية في تحصيل الإيقاع عن الجهة المستحقة ولا حاجة إلى ذلك إذا تعلق بمحل عين ونحن جعلنا تأثيرها في تحصيل معنى الإمساك وهو كونه عبادة ووقفنا الحصول على وجود المعنى كما وقفنا على حصول الصورة أو جعلنا تأثيرها في تحقيق معنى الاختيار الذي هو شرط في تحصيل العبادة ثم بعد حصول المعنى أو حصول أداء العبادة عن اختيار أعرضنا عن تعيين النية كما نذكره مع الشافعي رحمة اللّه عليه وكان أبو الحسن الكرخي رحمه اللّه ينكر هذا المذهب لزفر ويقول المذهب عنده أن صوم جميع الشهر يتأدى بنية واحدة كما هو قول مالك رحمه اللّه وهذا الاختلاف الذي ذكرناه في الصحيح المقيم فأما المريض أو المسافر فلا خلاف أنه لا يكون صائما ما لم يبق والفرق لزفر رحمه اللّه أن الأداء غير مستحق في هذا الوقت فلا يتعين إلا بنيته بخلاف الصحيح المقيم وقلنا إنما يشترط النية ليصير الفعل قربة وفي هذا المسافر والمقيم سواء كذا في المبسوط وقوله كصاحب النصاب أداء وهبة من الفقير بعد الحول إنما يستقيم مقيسا عليه لزفر إذا لم يحصل للفقير غنى بهذه الهبة بأن كان مديونا أو وهبه متفرقا فأما إذا لم يكن كذلك فلا لأن إيتاء مأتي درهم إلى الفقير بنية الزكاة لا يصح عنده ولا يخرج به عن العهدة فما ظنك في الهبة بدون نية الزكاة إلا إذا أراد به الإلزام على مذهب الخصم مما يتصور فيه الإمساك قربة أي من فرض الوقت والقضاء والمنذور والكفارة والنفل إلا واحدا وهو فرض الوقت لم يكن بد من التعيين أي تعيين المنافع للعبادة لأنه عبارة أي عقد الهبة عبارة والعبارة شيء فأمكن أن يجعل مجازا عن الصدقة بخلاف عدم العزيمة فإنه ليس بشيء (١/٣٤٥) قوله لما بقيت منافعه أي إلى آخره يصح صوم رمضان بنية التطوع ونية واجب آخر ونية الصوم مطلقا عن الصحيح المقيم وقال الشافعي رحمه اللّه لا يصح عن أحد بنية ما إلا بنية فرض رمضان لأن منافعه لما بقيت على ملكه وجب التعيين أي تعيين الجهة لأنه لا يتحقق صرف ماله إلى مشروع الوقت ما لم يعينه في عزيمته وهذا لأن الصوم متنوع في أوصافه فرضا ونفلا كأصل الإمساك متنوع إلى عادة وعبادة ومعنى العبادة معتبر في الوصف كما هو معتبر في الأصل فإنه مأمور به ويحصل به زيادة ثواب ويستحق تاركه زيادة تغليظ في العقاب فكان الوصف بنفسه عبادة كأصل الصوم ومن الممتنع حصول عبادة لا عن اختيار من العبد فكما شرطت العزيمة للأصل نفيا للجبر فكذلك يشترط للوصف لهذا المعنى كما في الصلاة ولا يقال تعين المحل لقبول المشروع دون غيره قد أغنى عن تعيين الوصف لأنا نقول تعين الوصف واجب على العبد ليقع عن اختيار ولا يغني تعين المحل عن ذلك شيئا إذ نحن ما اعتبرنا النية للتمييز حتى يسقط اعتبار التميز بالنية بتعين المحل وإنما اعتبرت للتحصيل على ما حققنا ولا يلزم عليه حجة الفرض حيث يتأدى بمطلق النية بالإجماع وبنية النفل عندي لأنه ثبت بخلاف القياس بدلالة النص وهو ما روي عن النبي عليه السلام أنه رأى رجلا يلبي عن شبرمة فقال ومن شبرمة فقال أخ لي أو صديق لي فقال أحججت عن نفسك قال لا فقال عليه السلام حج عن نفسك ثم عن شبرمة فأمر بالحج لنفسه بإحرام انعقد لغيره فجوزنا عن الفرض بنية النفل أيضا دلالة ولا يمكن إلحاق الصوم بالحج لأن أمر الحج عظيم الخطر لما يحتاج فيه إلى زيادة مشقة وليس الصوم في معناه ولكنا نقول الأمر على ما قلت أي لا بد للوصف من التحصيل بالنية نفيا للجبر كما لا بد للأصل منه إلا أن النية الموجودة شاملة للأصل والوصف وبيانه أنا أجمعنا على أن الشرط هو نية الصوم المشروع فيه حتى إذا نوى بهذا الوصف أجزأه وإن لم ينو فرضا وهو بنية أصل الصوم نوى مشروع الوقت لأن المشروع فيه واحد وهو الفرض بلا خلاف بيننا وبين الشافعي والواحد في مكان أو زمان ينال باسم جنسه كما ينال باسم نوعه باسمه العلم فإن زيدا لو نودي يا إنسان أو يا رجل وهو منفرد (١/٣٤٦) في الدار كان كما قيل يا زيد فكذا فيما نحن فيه الإمساك قد وجد بصورته ومعناه لأنه نوى الصوم وهو واحد فيتناوله مطلق الاسم وهو معنى قول علمائنا رحمهم اللّه إنه صوم عين فيتأدى بمطلق النية كالنفل وفي غير رمضان فإنه لا صوم مع النفل في غير رمضان في أصل الشرع وإنما يوجد غيره بعوارض وكذلك إذا نوى النفل لأن الموصوف بأنه نفل غير مشروع فلغت نية النفل وبقيت نية الصوم فصار كما لو نوى الصوم مطلقا بمنزلة ما إذا نوى الفرض في غير رمضان ولا فرض عليه يكون نفلا لأن الوصف لغا فبقي مطلق النية فإن قيل الواحد في المكان إنما ينال باسم جنسه إذا كان موجودا وههنا الصوم معدوم يوجد بتحصيله فكيف ينال المعدوم باسم جنسه قلنا كونه معدوما لم يمنع أن ينال باسم نوعه بأن نوى الصوم المشروع في الوقت فكذلك باسم جنسه لأن اسم جنسه اسمه كما أن اسم نوعه اسمه فإن قيل لو سلمنا أنه يتأدى بمطلق النية لا نسلم أنه يتأدى بنية التطوع أو بنية القضاء وغيره لأن المتوحد في المكان ينال باسمه ولا ينال باسم غيره فإن زيدا لا ينال باسم عمرو وإن كان ينال باسم إنسان ورجل كيف وأنه بهذه النية معرض عن الفرض لأنه ترك الثقيل إلى الخفيف فإنه لو أفطر في النفل أو في القضاء لا يلزمه الكفارة فلا يمكن أن يجعل مع الإعراض عنه مقبلا عليه لتضاد بينهما يوضحه أنه لو اعتقد المشروع في هذا الوقت أنه نفل يكفر فكيف يجوز أن يصير ناويا للصوم المشروع بنية النفل قلنا إنه قد نوى أصل الصوم ووصفه والوقت لا يقبل وصفه فلغت نية الوصف وبقيت نية الأصل إذ ليس من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل لأن قوام الأصل ليس بالوصف وأصل الصوم جنسه لا اسم غيره بخلاف عمرو فإنه ليس باسم جنس أصلا والأعراض إنما تثبت في ضمن نية النفل وقد لغت الاتفاق فيلغو ما في ضمنها ونظيره الحج على مذهبه وبه يبطل قوله إنه لو اعتقد فيه أنه نفل يكفر وذكر الشيخ أبو المعين رحمه اللّه في طريقته أن الفريضة اسم لفعل ألزمه اللّه تعالى وبين مقداره وأظهر لنا إلزامه لذلك الفعل بطريق لا ريبة فيه فلولا الإلزام الظاهر لما سمي الفعل فريضة والعبادة اسم لكل ما يحصل على طريق الإخلاص للّه تعالى على وجه (١/٣٤٧) لا يبقى فيه لغيره شركة ولهذا كانت العبادة مشروعة بخلاف هوى النفس لأنها لو كانت على موافقة الهوى لتسارع إليها المكلفون لما فيها من داعية الهوى واستلذاذ النفس لذلك فيتحقق فيها الشركة فيزول معنى الإخلاص فكانت العبادة اسما للفعل لا لعينه بل لوجود فعل آخر من الفاعل وهو الإخلاص وهو يحصل بالنية وهي أن يقصد بقلبه توجيه فعله إلى اللّه تعالى وحده فإذا وجد القصد ههنا كان الإمساك عبادة فبعد ذلك اتسامه بسمة الفرضية لن يتعلق بفعل يوجد من العبد بل يتعلق بوجود الإلزام من اللّه تعالى على طريق ظهر ثبوته بيقين وقد تحقق ذلك في هذا اليوم بعينه فتتسم هذه العبادة بهذه السمة شاء العبد أو لم يشأ كالمولود إذا ولد وقد كانت أمه ولدت قبله آخر يتسم هذا بسمة الأخوة لوجود من يقابله فكذا هذا غير أن من نوى نفلا أو واجبا آخر ظن أن لا أمر بتحصيل عبادة الصوم في هذا اليوم وأن العبادة وإن حصلت وحصل الإمساك للّه تعالى لم يتسم بسمة الفرض لزوال الأمر بالإمساك المعين في هذا اليوم وهذا الظن منه فاسد كما ظن أن هذا المولود لا يسمى أخا لأن أمه ما ولدت قبله وقد كانت ولدت كان الظن باطلا والإثم ثابتا كذا هذا قال وعن هذا قال بعض مشايخنا إن هذه المسألة مصورة في اليوم الأول من شهر رمضان إذا شك إنسان فيه وشرع بهذه النيات ثم تبين أن هذا اليوم من شهر رمضان حتى يكون هذا الظن معفوا فأما لو وجد في غيره من الأيام فيخشى عليه الكفر لأنه ظن أن لا أمر بالإمساك في هذا اليوم المعين بتعيين اللّه تعالى للإمساك ومثل هذا الظن يخشى منه الكفر ثم قال في آخر هذه المسألة ومن وقف على ما ذكرنا عرف جيد الخصوم عن سنن الصواب بتعلقهم في المسألة بقوله عليه السلام الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فإنا سلمنا أن العمل لن يصير عبادة بدون النية لكن وجدت النية في المتنازع فيه وإنما الخصم هو الذي ترك العمل بالجبر حيث أخرج عمله المقرون بالإخلاص عن أن يكون عبادة وكذا قوله عليه السلام ولكل امرئ ما نوى يقتضي جواز الصوم لوجود النية ثم يكون الصوم فرض الوقت لوجود الإلزام من اللّه تعالى على وجه توقف عليه بطريق لا شبهة فيه واللّه أعلم قوله لما وجب التعيين شرطا بالإجماع أي وجب تعيين مشروع الوقت باتفاق بيننا أما بتعيين الوصف كما قلت أو بتعيين الأصل كما قلتم وجب أن يشترط من أوله (١/٣٤٨) فإذا صام بنية من النهار لا يجزيه لأن الصوم واجب عليه في جميع النهار ولا يوجد ذلك إلا بالنية فإذا خلا أوله عن النية فسد لفقد شرط ولا وجه إلى تصحيحه بأعمال النية المتأخرة في الماضي بطريق الإلحاق بأول النهار لأن العزم أثره في المستقبل من حيث تحقيقه وإيجاده دون تصحيح الماضي لأنه خرج عن يده ولم يبق قادرا ولا وجه لاعتباره في الأكثر وإقامته مقام الكل لأنه أمر ترده الحقيقة لأنه مأمور بالكل ولم يوجد فإنزاله موجدا في الكل بالإيجاد في البعض خلاف الحقيقة ألا ترى أنه لا يكتفى بالإمساك في الأكثر ولا يقام مقام الكل فكذا في اعتبار النية التي بها يوجد معنى الصوم وإذا فسدوا له بعدم العزيمة وأنه غير متجزئ فسد الباقي ضرورة عدم التجزي ولا يقال لما صح الباقي بوجود العزيمة فيه صح الكل ضرورة عدم التجزي أيضا لأنا نقول ترجيح الفساد في باب العبادة أولى لأنه أقرب إلى الاحتياط إذ فيه الخروج عن العهدة بيقين فهذا معنى قوله ووجب ترجيح الفساد احتياطا ولا يلزم عليه النفل فإنه يجوز بنية من النهار بالإجماع لأنه غير مقدر شرعا فيمكن أن يجعل صائما من حين نوى لما بينه قوله وهذا بخلاف التقديم أي تأخير النية عن أول الإمساكات يخالف تقديمها عليه حيث جاز التقديم مع أن النية لم تقترن بأوله أيضا ولم يجز التأخير والفرق أن التقديم واقع على جملة الإمساك يعني أنه قد عزم في الليل أنه يمسك للّه تعالى من الفجر إلى الغروب فصحت النية بوضعها من حيث كونها عزما في المستقبل ولم يعترض عليه أي على ما قدم من النية ما يبطله لأنه لم يوجد ما يضاده من ترك العزيمة والإفطار بعد الصبح والأكل والشرب والمواقعة في الليل لا ينافي العزيمة المتقدمة بالإجماع لأن من شرط المنافاة اتحاد المحل والليل ليس بمحل للصوم أصلا فالأكل وما يشبهه لا ينافي عزيمته فإذا لم يبطل يحكم ببقائها إلى حين الشروع لتعذر اعتبارها مقترنة بحالة الشروع ولهذا عم الجواز أنواع الصيامات من القضاء وغيره فأما المتأخر فلا يتصور تقديمه أصلا فلا يمكن الحكم به لأن الشيء إنما يقدر حكما إذا تصور حقيقة وهذا كالنية في أول الصلاة جعلت باقية حكما إلى آخر الصلاة أما النية الموجودة في خلال الصلاة فلا يحكم باقترانها بأول الصلاة للتعذر كذا هنا ثم استوضح الشيخ ما ذكر من الفرق بمسألتين (١/٣٤٩) فقال ألا ترى أن النية بعد نصف النهار لا تصح ولو جاز الحكم باقتران هذه النية بأول الإمساك كما جاز في المتقدمة لما اختلف الحكم بين أول النهار وآخره كما لم يختلف الحكم هناك بين أول الليل وآخره وألا ترى أن في الصوم الدين وجب الفصل بين هذين الوجهين أي بين تقديم النية وتأخيرها حيث جاز التقديم ولم يجز التأخير بالإجماع فكذلك ههنا لأنه أقوى من سائر الصيامات فإن الإفطار فيه يوجب الكفارة دون غيره وعندنا إذا صام في رمضان بنية قبل انتصاف النهار يجزيه واختلف في ذلك طريق أصحابنا فمنهم من سوى بينه وبين النفل وفي الجواز ومنهم من سوى بين تقديم النية وتأخيرها وهذا هو المذكور في الكتاب فنتكلم عليه فنقول لما كانت النية شرطا ينبغي أن تكون شرطا على وجه لا يؤدي إلى فوات المشروط ولهذا لم يشترط مقارنتها بجميع أجزاء العبادة في جميع العبادات ولا بالجزء الأول في باب الصوم لامتناع تحصيلها وتعذر تحصيلها على وجه يفوت في الأعم الأغلب فلم يكن بد من تجويز التقديم ليحصل التكليف بقدر الوسع والتأخير يساوي التقديم في هذا المعنى لأنا لو لم نجوز التأخير لأدى إلى التفويت لأن الإنسان قد ينشئ النية من الليل وهو أمر غالب وقد يشتبه عليه رأس الشهر وهو أيضا أمر معتاد وقد تطهر المرأة عن الحيض ولا تشعر إلا بعد انفجار الصبح وكذا الصبي قد يبلغ في الليل ولا يعلم بذلك إلا بعد الانتباه وكذا الكافر قد يسلم في الليل ولا يعلم بوجوب الصوم عليه إلا عند وجود النهار وإذا ثبت المساواة بينهما في الحاجة وجب إلحاق التأخير بالتقديم لئلا يؤدي إلى فوات الصوم فإن قيل لا مساواة بين الحاجتين لأن الحاجة إلى جواز التقديم عامة في حق جميع المكلفين وإلى جواز التأخير خاصة في حق البعض ثابتة في بعض الأوقات وأحكام الشرع مبنية على ما عليه أحوال الدهماء لا على ما يبتلى به الأشخاص الجزئية على ما عرف ولهذا لم يجعل ما بعد الزوال محلا للنية وإن كان يتصور بقاء الحائض النائمة والصبي المحتلم إلى ما بعد الزوال ولم يعتبر الحاجة الخاصة فكذا فيما نحن فيه على أن الجواز لو ثبت باعتبار هذه الحاجة لثبت في حق من يثبت في حقه الحاجة لا في حق الكل لأن ما ثبت لحاجة عامة سقط فيه اعتبار الحاجة ووجب إجراء الحكم فيه على الإطلاق وما ثبت لحاجة خاصة اقتصر على موضعها لكونها عارضة وفي اعتبارها تغليب العارض على الأصل ولهذا لم يبق للحاجة عبرة في الإجارة ونحوها وإن شرعت لدفع (١/٣٥٠) الحوائج لكونها عامة واعتبرت في جواز التيمم حتى اقتصر على من تحققت الحاجة في حقه لكونها خاصة إذ الأصل وجود الماء وكون العوز والعدم فيه عارضا قلنا إنا إنما سوينا بين الأصل والفرع باعتبار أصل الحاجة لا باعتبار قدرها فنطلب المساواة في أصل الحاجة لا في قدرها وقد وجدت كما بينا فيفسد التفرقة بينهما بالدوام وعدمه وكذا بالخصوص والعموم إذ الخاصة منها في موضعها كالعامة في مواضعها والحاجة إلى تجويز الصوم بالنية المتأخرة خاصة فيما يشرع من الصوم في وقت معين فاختص القول بالجواز فيه وما ذكر أن بناء الأحكام على ما عمم وغلب دون ما شذ وندر كلام في غير موضعه لأن ذلك على ما ذكرنا فيما كان من الخاص في حيز الندرة فأما ما كان في نفسه في حد الكثرة فله العبرة وإن كان غيره أكثر كعدم الماء اعتبر في حق جواز التيمم شرعا وإن كان الوجود هنا هو الغالب لدخول العدم في نفسه في حد الكثرة وخروجه عن حد الندرة وههنا الأعذار في حد الكثرة لكثرة جهالتها إذ من ضرورة كثرة الجهات كثرتها على أن الجهة لو لم تكن إلا جهة النسيان لدخلت في حد الكثرة لاستيلائه على طبع كل فرد من أفراد الجنس فكيف وقد كثرت الجهات على ما سبق وقولهم ما ثبت باعتبار الحاجة القاصرة لم يعد موضعها قلنا فجوزوا في موضع الحاجة وخالفونا فيما وراء ذلك لتبين لكم العذر فيما وراء محل الحاجة على أن وجود النية من النهار في حق من لا عذر له من نسيان أو جهل غير متصور من حيث العادة بل يوجد منه النية أو ما يقوم مقامها في الليل بأكل زيادة من الطعام على المعتاد أو شرب زيادة شربه وإن تصور ووجد فهو في غاية الندرة فيلحق بالعدم أو نقول إذا تحقق فقد صار عاجزا عند انفجار الصبح عن تقديم النية فصار كالمعذورين وإذا حققت معنى المسألة فاصغ لشرح ما في الكتاب فقوله الحاجة إلى النية لأن يصير الإمساك قربة معناه النية محتاج إليها لغيرها لا لذاتها فلا يجوز إثباتها على وجه يؤدي إلى تفويت ذلك الغير وهذا الإمساك واحد أي الكف إلى آخر النهار ركن واحد ممتد بخلاف الصلاة فإنها أركان غير متجزئ صحة وفسادا حتى لو فسد جزء منه فسد الكل ولو حكم بصحة جزء بعدما تم يحكم بصحة الكل وحاصل المعنى أن الصوم وإن كان متركبا من جنس الإمساك الدائم من أول اليوم إلى آخره ولكن جعل جنس الإمساك كله في حق كونه صوما كشيء لا يتجزأ لأن الأشياء المتعددة إذا دخلت تحت خطاب واحد صارت كشيء واحد كما في قوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا (١/٣٥١) لما دخل جميع البدن تحت الخطاب صار كشيء واحد حتى جاز نقل البلة من موضع إلى موضع ولا يجوز ذلك في الوضوء لعدم هذا المعنى فكذلك ههنا لما دخلت الإمساكات المتعددة في قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل صارت كشيء واحد فلا يتجزأ صحة وفسادا والثبات على العزيمة حال أداء هذه العبادة بأن يداوم على العزم إلى حالة الانتهاء ساقط عن المكلف بالإجماع كما في سائر العبادات لأن اعتبار النية على هذا الوجه يوقعه في الحرج وربما لا يكون في الوسع وهذا معنى قوله للعجز ولهذا لو أغمي عليه أو لم يخطر بباله الصوم بعدما وجد العزم يتأدى صومه ولهذا يشترط في سائر العبادات قران النية بأولها لاستدامة النية من أولها إلى آخرها وحال الشروع في الأداء أي الثبات على العزيمة في حالة الشروع في هذه العبادة ساقط عنه بالإجماع أيضا فإنه لو نوى في أول الليل لا يشترط أن يستديم تلك النية إلى حالة الشروع وحاصله أنه لا يشترط اقتران العزيمة بأول حال الأداء أيضا للعجز وهو أن وقت الشروع مشتبه لا يعرف إلا بالنجوم ومعرفة ساعات الليل وهو مع ذلك وقت نوم وغفلة في حق عامة الخلق الذين ثبت أمور الشرائع على عاداتهم ولم يحرم النوم فيه شرعا أيضا بل سن لمن قام بالليل وبعدما كان متيقظا ولم يشتبه أول الفجر بالليل فسقط اشتراط اقتران النية بأوله وصار حال الابتداء في الصوم من حيث إنه يخرج في قران النية وبها نظير حال البقاء في الصلاة من حيث إنه يخرج فيها على الثبات على العزيمة وحال البقاء في الصوم من حيث إنه يمكن قران النية بها من غير حرج نظير حال الابتداء في الصلاة في هذا المعنى أيضا فصار الحاصل أن اقتران النية بابتداء الصوم متعذر والثبات على العزيمة حال بقائه كذلك وقران أصل النية به حال البقاء غير متعذر كما في ابتداء الصلاة والغرض من إيراد هذا الكلام هو الإشارة إلى أن النية المتصلة به في حالة البقاء أولى بالاعتبار من المتقدمة عليها لكونها متصلة بركن العبادة كالنية المتصلة بابتداء الصلاة أولى باعتبار من المتقدمة عليها لهذا المعنى ثم هذا العجز وهو تعذر قران النية بابتدائه أطلق التقديم أي أجازه مع فصل النية عن ركن العبادة وهو الإمساك لأنه إذا نوى في أول الليل ثم لم يخطر بباله الصوم إلى الغروب جاز صومه بالإجماع مع أن النية لم توجد حال الشروع ولا حال البقاء حقيقة وجعل أي العزم المتقدم والمعدوم حقيقة موجود تقديرا فصار له (١/٣٥٢) أي لما قدم من النية فضل استيعاب أي هو مستوعب لجميع الإمساكات تقديرا لأنه نوى الإمساك من الصبح إلى الغروب ونقصان حقيقة الوجود عند الأداء أي أنه ليس بموجود حقيقة حالة الأداء على حد الإخلاص أي على حقيقته وكلمة على متعلقة بالأداء لا بالوجود والأداء على حد الإخلاص أن تكون النية مقترنة بالأداء ليمتاز العبادة عن العادة وقد عدمت هنا حقيقة وإن وجدت تقديرا والعجز الداعي إلى التأخير موجود في الجملة يعني به أن العجز الذي ذكرنا كما هو داع إلى جواز التقديم ومرخص له فكذلك هو داع إلى جواز التأخير في حق بعض المكلفين كما في حق المقيم بعد الصبح وأمثاله وخلاصة المعنى أن الضرورة لم تندفع بتجويز التقديم في الجنس لأن فيهم أصحاب هذه الأعذار وإنما يندفع بالكلية بتجويز النية من النهار وفي يوم الشك ضرورة لازمة أي في حق الكل لأن تقديم النية عن صوم الفرض أي فرض الوقت حرام ولو نوى ليلة الشك أداء صوم فرض رمضان غدا وبان اليوم من رمضان لم يصح صومه عند الشافعي وكذا لا يجوز بنية النفل فثبت أن الضرورة فيه لازمة لا ترتفع إلا بتأخير النية فلأن يثبت بهذه الضرورة جواز التأخير مع أنه متصل بالركن وهو الإمساك أولى وهذا الكلام متصل بقوله ثم هذا العجز أطلق التقديم مع الفصل عن ركن العبادة يعني لما جاز الصوم بنية متقدمة مع فصلها عن ركن العبادة والاشتغال بأعمال أخر منافية للصوم من الأكل والشرب والوقاع للضرورة وهي موجودة في النية المتأخرة فلأن يجوز بها مع وصلها بالركن كان أولى فإن قيل هذا إنما يستقيم إن لو أمكن اعتبار المتأخرة تقديرا كالمتقدمة والأمر بخلافه لأن النية متى تقدمت وصحت بموضوعها عزما في المستقبل بقيت كذلك واقترنت بكل جزء لأن نيته انتظمت أجزاء الوقت ولو نوى صوم البعض لم يصح فمتى تأخرت صارت كما نوى صوم بعض اليوم إذ هي لا تعمل في الماضي بوجه ما قلنا لا حاجة إلى القول ببقائه حكما لأنه قام دليل سقوط الامتداد حقيقة فلئن ساغ لأحد أن يحكم بالاقتران بكل جزء منه حكما مع انعدامه حقيقة جاز لآخر أيضا أن يجعل الاقتران بجزء منه حقيقة كالاقتران بالكل لأنه من حيث اتصافه بكونه صوما جملة (١/٣٥٣) الإمساكات في اليوم شيء واحد فكان الاقتران منه بجزء منه حقيقة اقترانا بالكل حكما كذا في إشارات الأسرار ثم شرع الشيخ في بيان المساواة بينهما فقال ولهذا أي ولما أخر من النية رجحان على النية المتقدمة في الوجود عند الفعل أي من حيث إنها موجودة عند الفعل حقيقة بخلاف المتقدمة وهو أي الوجود عند الفعل حد حقيقة الأصل أن تكون النية مقترنة بالعمل فإذا اقترنت به حقيقة كان هذا حقيقة الأصل والاقتران به تقديرا ليس من حقيقته فكان حد حقيقة الأصل أن يكون الاقتران حقيقة لا تقديرا وحاصل المعنى أن الأصل في العبادات أن تكون النية مقترنة بها وهو موجود ههنا في المتأخرة دون المتقدمة ونقصان القصور أي وله نقصان من حيث إنه قاصر على الجملة لأنه لم يوجد في أوله ولكن ما قصر عنه العدم قليل بالنسبة إلى ما وجد فيه العزيمة يحتمل العفو لأن القليل محل العفو كالنجاسة القليلة والانكشاف القليل في حق الصلاة وابتلاع ما دون الحمصة مما بين الأسنان في حق الصوم وغير ذلك فاستويا من حيث إن لكل واحد منهما كمالا ونقصانا فالكمال في المتقدمة الاستيعاب والنقصان فيها عدمها عند الفعل والكمال في المتأخرة الوجود عند الفعل والنقصان فيها قصورها عن الجملة حقيقة فكانا مستويين في طريق الرخصة أي في جواز الترخص بها بل هذا راجح أي التأخير أولى بالترخص به لأن الاستيعاب فيه موجود تقديرا أيضا لأنا نقول أقمنا النية في الأكثر مقام الكل كما أن الاستيعاب ثابت تقديرا لا تحقيقا فصار جهة النقصان في المتأخرة معارضة لجهة الكمال في المتقدمة فسلم جهة الكمال وهي الوجود عند الفعل للمتأخرة عن التعارض فصار التأخير أرجح فإن قيل يلزم على هذا أن تكون النية من النهار أفضل عندكم وليست كذلك إذ النية أفضل من الليل بالإجماع قلنا إنما كانت النية من الليل أفضل لأن فيها المسارعة إلى الأداء والتأهب له أو الأخذ بالاحتياط لإكمال في الصوم كما أن الابتكار يوم الجمعة أولى من السعي بعد النداء لما فيه من المسارعة لا لتعلق كمال الصلاة نفسها به وكذلك المبادرة إلى سائر الصلوات كذا في الأسرار (١/٣٥٤) قوله ولما صح الاقتصار إلى قوله بعد الزوال جواب عن قوله ألا ترى أن النية بعد نصف النهار لا يصح أي لما صح اقتصار النية على بعض الإمساك وجب أن يكون لذلك البعض حكم الكل من وجه حتى يكون قران النية به كقرانها بالكل تقديرا وذلك هو الأكثر إذ له حكم الكل في كثير من المواضع بخلاف الربع والثلث فإنه وإن كان لهما حكم الكل في بعض مواضع الاحتياط إلا أن ذلك على خلاف الدليل لأنه لو أعطي للربع حكم الكل لكانت الثلاثة الأرباع التي تقابله بذلك أولى فأما ما زاد على النصف فغلب على ما يقابله وقرب إلى الكل فكان الحكم بكليته على وفاق الدليل خلفا عن الكل من كل وجه وهو الإمساك من أول النهار إلى آخره وهذا كالمثل من وجه وهو القيمة جعل خلفا عن المثل من كل وجه إذا انقطع المثل في ضمان العدوان وهو أن يشترط الوجود في الأكثر الضمير راجع إلى المصير إلى ماله حكم الكل أن يشترط وجود النية في الأكثر لأن الأقل الذي لم يصادفه النية في مقابلة الأكثر الذي صادفته في حكم العدم ولا ضرورة في ترك هذا الكل الثابت تقديرا يعني إنما وجب ترك اعتبار الكل الحقيقي للضرورة التي ذكرناها ولا ضرورة في ترك هذا الكل التقديري واعتبار ما دونه فلهذا لم نجوز الصوم بالنية بعد الزوال ولا يقال قد يتحقق الضرورة أيضا في حق الذي أقام أو أفاق بعد الزوال والذي بلغ أو أسلم في الليل ولم يعلم بالبلوغ أو وجوب الصوم إلا بعد الزوال لأنا إنما اعتبرنا الضروة في ترك اعتبار الكل لوجود خلفه وهو الأكثر وههنا قد فات الأكثر وبفواته فات الصوم لأن الأقل الذي صادفته النية في مقابلة الأكثر الذي لم تصادفه النية في حكم العدم فكان وجود الضرورة ههنا كوجودها بعد الغروب فلا يعبأ بها قوله ورجحنا الكثير على القليل جواب عن قوله ووجب ترجيح الفساد احتياطا وذلك لأن الكثير باعتبار ذاته راجح على القليل فالكثرة وإن كانت من الأوصاف كالصحة والفساد إلا أن هذا الوصف يثبت للشيء باعتبار ازدياد في أجزاء ذاته فكانت الكثرة وصفا راجعا إلى الذات بخلاف الصحة والفساد لأنهما من الأوصاف المحضة التي لا تعلق لها بالوجود فإنهما يطرآن بعد الوجود فكان الترجيح بالكثرة راجعا إلى الذات وبالصحة والفساد راجعا إلى الحال فكان الأول أولى لأن الذات أصل والحال تبع (١/٣٥٥) وعبارة الشيخ في شرح التقويم ولما وجدت النية في الأكثر فقد وجد بعض العبادة وعدم البعض فالشافعي رجح جانب العدم على جانب الوجود احتياطا لأمر العبادة ونحن رجحنا الموجود على المعدوم باعتبار الكثرة وهو أولى لأنه ترجيح بمعنى راجع إلى الذات وما فعله الشافعي رحمه اللّه راجع إلى العدم وهو ليس بشيء فلا يصلح مرجحا قوله ولأن صيانة الوقت يجوز أن يكون عطفا على الدليل المتقدم من حيث المعنى ويجوز أن يكون عطفا على قوله لأنه في الوجود راجح يعني ورجحنا الكثير الموجود فيه النية على القليل الذي لم يوجد النية فيه لأن الكثير في الوجود أي في وجوده وذاته راجح ولأن صيانة الوقت الذي لا درك له أصلا على العباد واجب لأنه تعالى فرض عليهم الأداء في هذا الوقت وبفواته يفوت الأداء لا إلى خلف في حق فضيلة الوقت فوجب صيانته احترازا عن الفوات وإليه أشار النبي عليه السلام بقوله من فاته صوم من رمضان لم يقضه صيام الدهر ولا وجه إلى الصيانة في حق أصحاب الأعذار المذكورين إلا بتجويز هذا الصوم بالنية الموجودة قبل انتصاف النهار فوجب القول به إذ التجويز مع خلل تمكن فيه أقرب إلى قضاء حق العبادة من التفويت فإن قيل لا يجوز تغيير الشرط وإسقاطه لفوات الفضيلة كمن عليه الفجر لو خاف فوت الجمعة لا يسقط عنه الترتيب وكذا لا يجوز التيمم في الجمعة وسائر الصلوات عند خوف فوت الجمعة والجماعة وكذا لا يجوز عند خوف فوت الوقت لأن الفائت هو الفضيلة وجاز في صلاة العيد والجنازة لأن الفائت أصل العبادة وههنا الفائت الفضيلة فلا يجوز تغيير الشرط وإسقاطه لفواتها قلنا نحن لا نقول بإسقاط الشرط وتغييره لاستدراك الفضيلة ولكن نقول ينبغي أن تكون النية مشروعة على وجه لا يؤدي إلى فوات هذه الفضيلة لحاجة الناس إلى استدراكها كما كانت مشروعة على وجه لا يؤدي إلى فوات أصل الصوم إذ الحاجة تدفع ما أمكن وإنما لا يجوز التيمم عند خوف فوت الجمعة والجماعة والوقت لأنه لا يمكن (١/٣٥٦) استدراك هذه الفضائل إلا بفوت فضيلة أخرى وهي أداء الصلاة بالوضوء لأنه أفضل من أدائها بالتيمم فلا يجوز استدراك فضيلة بتفويت فضيلة أخرى وكذا لا يسقط الترتيب لفوت الجمعة لأن الوقت وقت الفائتة بشهادة الرسول عليه السلام وإنما وقت الجمعة بعد قضائها فلا يجوز أداؤها قبل الوقت وفي قوله لأدرك له أصلا إشارة إلى الجواب عن صوم القضاء ونحوه حيث لا يجوز بنية من النهار لأنا إنما جوزناه في رمضان على خلاف الأصل لصيانة فضيلة الوقت الذي لا يدرك بالفوات أصلا على ما نطق به النص ولا حاجة في القضاء إلى صيانة الوقت لأن كل الأوقات فيه سواء فبقي على الأصل قوله إن أداء العبادة في وقتها مع النقصان أولى أي من القضاء لأنه أقرب إلى صيانة حق العبادة من التفويت كأداء العصر وقت الاحمرار أولى من قضائها بعد الغروب قوله فصار هذا الترجيح متعارضا أي صار ترجيح الكثير على القليل لصحة التأخير متعارضا لأن ما يوجب ترجيحه معنيان أحدهما اقتران النية بركن العمل وهذا يقتضي أن يكون التأخير أولى من التقديم وأن تجب الكفارة إذا أفطر والثاني صيانة الوقت وهذا يوجب أن يكون التأخير دون التقديم وأن لا يجب الكفارة بالفطر لتمكن خلل فيه وهذه الكفارة تسقط بالشبهة فهذا معنى كونه متعارضا وقيل معناه أن ترجيحنا الكثير في صورة التأخير بكون العبادة مؤداة في الوقت يعارضه ترجيح الشافعي وهو أن الجزء الأول من النهار عري عن النية فيحكم بالفساد احتياطا لأن كل واحد من الترجيحين راجع إلى حال العبادة بخلاف الترجيح الأول لأنه راجع إلى الذات فلم يعارضه ترجيح الشافعي هو راجع إلى الحال ولهذا دل على وجوب الكفارة إذا أفطر بخلاف الترجيح الثاني لأنه ضعف بالمعارض فصار له شبهة عدم وجود الصوم فلا يجب الكفارة قوله ويروى ذلك عن أبي حنيفة رحمه اللّه ذكر في المبسوط إذا أصبح غير ناو للصوم ثم نوى قبل الزوال ثم أكل فلا كفارة عليه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه اللّه أنه يلزمه الكفارة لأن شروعه في الصوم قد صح فيتكامل جنايته بالفطر كما لو كان نوى بالليل وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه أن ظاهر قوله عليه السلام لا صيام لمن (١/٣٥٧) لم يعزم الصيام من الليل ينفي كونه صائما بهذه النية والحديث وإن ترك العمل بظاهره يبقى شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات كمن وطئ جارية ابنه مع العلم بالحرمة لا يلزمه الحد لظاهر قوله عليه السلام أنت ومالك لأبيك وما ذكر ههنا موافق للمنظومة وذكر الشيخ أبو المعين رحمه اللّه في طريقته لا فرق في وجوب الكفارة بين ما إذا نوى من الليل وبين ما إذا نوى من النهار في ظاهر الرواية وفي النوادر قال لا يلزمه الكفارة فيما إذا نوى من النهار والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية فإن قيل لا نظير لما اخترتم من جواز تأخير النية في الشرع فلا يجوز العمل به فأما لجواز التقديم فنظائر جمة كتقديم نية الصلاة عليها وتقديم نية الزكاة على الأداء وغيرهما قلنا نحن ما جعلنا النية المتأخرة متقدمة لكن جعلنا الإمساكات موقوفة على النية فبعد وجودها ينقلب صوما شرعيا وتوقف الأمر على ما يوجد بعد موجود في الحسيات والشرعيات فإن الرمي حكمه موقوف على الإصابة وتصرفات الفضولي موقوفة على الإجازة والتعليقات موقوفة على الشرط وكذا الظهر المؤدى يوم الجمعة حكمه موقوف على وجود السعي إلى الجمعة وعدمه وكذا الوقتية المؤداة مع تذكر الفائتة حكمها موقوف عند أبي حنيفة على ما عرف فكان توقف الإمساكات على وجود النية في الأكثر طريقا مسلوكا قوله ولم نقل بالاستناد جواب عما قاله الشافعي أن النية المعترضة لا تؤثر في الماضي بوجه فقال إنما يلزم على من قال بصحة هذا الصوم بطريق الاستناد كما اختاره بعض مشايخنا اعتبارا بحكم البيع بشرط الخيار فإنه يثبت بطريق الاستناد ولكن هذا لا يصح لأن الاستناد يظهر أثره في الموجود لا في المعدوم فإنه لو كان الخيار للمشتري وحدثت زيادة في مدة الخيار في يد البائع وهلكت ثم أجيز البيع حتى استند حكمه إلى أول المدة لا يظهر أثر الاستناد في ذلك الهالك حتى لا يسقط بمقابلته شيء من الثمن وههنا ما تقدم على النية قد عدم فلا يمكن الحكم بصحته بطريق استناد النية إليه وهو معنى ما قال الشافعي رحمه اللّه النية المعترضة لا تؤثر في الماضي بل الصحيح ما ذهبنا إليه من إقامة الأكثر مقام الكل ولا يرد عليه ما قال الشافعي (١/٣٥٨) قوله ولا بفساد الجزء الأول رد لقوله أول الجزء الفعل مفتقر إلى العزيمة فيفسد بعدم العزيمة ومن فساده يلزم فساد الباقي فقال نحن لا نقول بفساد الجزء الأول مع احتمال طريق صحته وذلك بأن يجعل الإمساك في أول النهار موقوفا على وجود النية إلى وقت يمكن صون العبادة عن الفوات فإن حصلت النية في ذلك الوقت كان كحصولها في الجميع ويتبين أن الفعل في أول الوقت كان عبادة لما بينا أن الإمساكات في كونها صوما شيء واحد لا يتجزى فاقتران النية بجزء منها كان اقترانا بجميعها ضرورة عدم التجزؤ وإن لم يتصل النية بشيء من أجزاء الإمساك حتى مضى الوقت الذي أمكن الاستدراك تبين أنه لم يكن صوما فظهر بما ذكرنا أن كل جزء من أجزاء العبادة مقترن بالنية تقديرا كما في النية المتقدمة وأن القول بفساد الجزء الأول فاسد لانتفاء دليل الفساد وهو انعدام النية قوله والإمساك في أول النهار قربة إلى آخره بجواز أن يكون بيان احتمال طريق الصحة ويجوز أن يكون ابتداء كلام وبيانه أن المعتاد في الأكل هو الغداء والعشاء فأما ما وراءهما فمن السرف والشره ولهذا وعد اللّه تعالى في الآخرة الغداء والعشاء فقال ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا والصوم عبادة فيكون تركا للمعتاد ليحصل معنى المشقة لأنها مشروعة على خلاف هوى النفس وليس فيه ترك العشاء بل تأخيره إلى الغروب فكان معناه تأخير العشاء وترك الغداء المعتاد وهو عند الضحوة وأما ما قبل ذلك من الترك فخارج على العادة ولا مشقة فيما يخرج مخرج العادة فكان ابتداء الركن من الضحوة من حيث المعنى إلا أن الإمساك فيها لا يصلح للركنية إلا بما تقدم عليه من الإمساك المعتاد فكان هو واجب التحصيل ضرورة صيرورة هذا الإمساك ركنا فكان هذا أصلا وما تقدم عليه تبعا له ومعنى النية القصد إلى ترك الغداء للّه تعالى فإذا نوى في هذا الوقت فقد تحقق معنى النية وكانت مقترنة حقيقة بأول العبادة معنى وهو أصل فيستتبع تبعه فيما يثبت فيه كالأم يستتبع ولدها في الإسلام والعتاق والرق والاستيلاد والتدبير وكالأمير والمولى يستتبع العسكر والعبد في نية الإقامة فيثبت النية فيما تقدم تقديرا وإن لم يثبت تحقيقا وكان إثبات النية فيه تقديرا لا تحقيقا وفاء لحقه وتوفيرا لحظه وإذا وجدت النية المناسبة له لا يجب الحكم بفساده واللّه أعلم ثم هذا الحكم وهو جواز الصوم بنية من النهار ثابت في حق الصحيح المقيم بلا خلاف بين أصحابنا فأما المريض أو المسافر فكالصحيح المقيم عندنا وعند زفر لا يجوز لهما الصوم إلا بنية من الليل كذا في المبسوط وذكر في فتاوى القاضي الإمام فخر (١/٣٥٩) الدين وغيره مريض أو مسافر لم ينو الصوم من الليل في شهر رمضان ثم نوى بعد طلوع الفجر قال أبو يوسف يجزيهما وبه أخذ الحسن رحمهما اللّه فهذا يشير إلى أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه لا يجزيهما وجه عدم الجواز أن الأداء غير مستحق عليهما في هذا الوقت فلا يتعين عليهما إلا بنية من الليل كالقضاء ووجه الجواز أن الوجوب ثابت في حقهما كما في حق الصحيح المقيم إلا أن لهما الترخص بالفطر فإذا لم يترخصا صحت منهما النية قبل انتصاف النهار كما يصح من المقيم وكالنفل قوله وعلى هذا الأصل وهو أن وقت الصوم معيار قلنا النفل مقدر بكل اليوم لأن الوقت لما كان معيارا لهذه العبادة فلا بد من أن يمتلئ المعيار ليوجد ولا بد من أن يكون الصائم أهلا للصوم من أوله إلى آخره ليتحقق منه الصوم الشرعي فيفسد بوجود المنافي في أوله من كفر أو حيض أو نحوهما حتى إذا أسلم الكافر أو طهرت الحائض بعد الفجر وأراد أن يتنفل بصوم ذلك اليوم ليس له ذلك وكذا لا يتأدى بالنية بعد انتصاف النهار وقال الشافعي رحمه اللّه أنه ليس بمقدر شرعا بل يصير صائما من حين نوى لأن النبي عليه السلام قال إني إذا لصائم وهي كلمة تنبئ عن الإخبار للحال ولأن مبنى التطوع على النشاط فيتأدى بقدر ما يؤديه ألا ترى أن صلاة النفل تجوز قاعدا وراكبا مع القدرة على القيام والنزول وكذا الصدقة النافلة ليست بمقدرة وإن كانت الواجبة مقدرة ولهذا يجوز عنده بنية بعد الزوال في قول وكذا مع المنافي في أوله كالكفر والحيض في قول ولكن بشرط عدم الأكل في أول النهار لأن ركنه إمساك يخالف هوى النفس ولا يحصل ذلك مع الأكل في أول النهار بخلاف عدم النية أو الأهلية فإنه لا يجعل الإمساك موافقا للعادة على أن الأكل في أول النهار لا يمنع عن صحة الصوم في باقيه عند بعضهم أيضا منهم أبو زيد القاشاني وقد يوجد في الشرع إمساك بعض اليوم قربة كما في يوم الأضحى فيجوز أن يكون قربة في غيره من الأيام أيضا ولنا ما ذكرنا أن الصوم لا يعرف قربة إلا بمعيار شرعي ولم يعرف معياره في الشرع إلا يوم كامل فالذي يخترعه العبد من قبل نفسه لا يصلح معيارا له إذ لا مدخل للرأي في معرفة المقادير الشرعية وإذا كان كذلك لا يتأدى بالنية بعد الزوال كالفرض لفوات أكثر الركن بلا نية والدليل عليه أنه من نذر أن يصوم بعد الزوال في يوم لم يأكل فيه لم يصح بالإجماع ولو (١/٣٦٠) كان الإمساك في بعض اليوم صوما لصح كالنذر بالصدقة وإن قلت لأن النذر إيجاب المشروع وحقيقة المعنى فيه أن النفل تبع للفرض فيكون مقدرا بتقديره في الجملة كنافلة الصلاة مقدرة بركعتين لأنه أدنى مقادير الفرض ويجوز قاعدا أو راكبا لأن الفرض يجوز بتلك الهيئة عند العذر وكذا الصدقة بالقليل قد تقع عن الفرض حتى لو وجبت عليه زكاة فأدى دانقا سقط عنه الواجب بقدره في أحكام الدنيا والآخرة وههنا الإمساك في بعض اليوم قصدا لا يقع عن الفرض بحال فلا يجوز أن يقدر النفل به ولا تمسك له في الحديث فإن قوله عليه السلام إني إذا لصائم إخبار عن حالة العزم فعبر بلسانه ما خطر بقلبه وكان فيه بيان جواز العزم دون تغيير المعيار الشرعي وكان قوله لصائم منصرفا إلى الصوم المعهود في الشرع ولا في ما ذكر من قوله مبنى التطوع على النشاط لأنه لا أثر لنشاطه في التقدير أصلا فإنه لو أراد أن يصلي ركعة أو يكتفي بسجدة واحدة في كل ركعة أو تقدم السجود على الركوع وأراد أن يصوم أول النهار دون آخره بأن نوى أن يصوم إلى العصر ليس له ذلك بالإجماع وإنما أثر نشاطه في أنه مخير في فعله فإن شاء فعل المشروع المقدر الشرعي فيثاب عليه وإن شاء تركه من غير توجه عقاب عليه لا في تغيير التقدير الشرعي وأما الإمساك في أول يوم النحر فليس بصوم ولهذا لم يشترط فيه النية وإنما ندب إليه في حق أهل الأمصار ليكون ابتداء التناول من ضيافة اللّه تعالى ولهذا لم يثبت هذا الحكم في حق أهل السواد لأن لهم حق التضحية بعد طلوع الفجر وليس لأهل الأمصار أن يضحوا إلا بعد الصلاة قوله ومن هذا الجنس أي من جنس ما صار الوقت متعينا له كشهر رمضان للصوم المشروع فيه الصوم المنذور في وقت بعينه أي وقت معين مثل أن يقول للّه علي أن أصوم رجبا أو يوم الخميس واحترز به عن النذر المطلق مثل أن يقول نذرت أن أصوم يوما أو شهرا أو سنة لما انقلب صوم الوقت وهو النفل لأنه هو الأصل في غير رمضان وسائر الصيامات بمنزلة العوارض ولهذا يشترط فيها التعيين والتبييت واجبا أي بالنذر لم يبق نفلا لأن الصوم المشروع في وقت لا يقبل وصفين متضادين أي متنافيين أو متغايرين وهما كونهما نفلا وواجبا لأن النفل ما لا يستحق العبد العقوبة بتركه والواجب ما لا يستحقها بتركه فإذا ثبت الوجوب بالنذر انتفى النفل ضرورة فصار أي الصوم المشروع (١/٣٦١) في هذا الوقت واحد من هذا الوجه أي من حيث إنه لم يحتمل صفة النفلية وإن بقي محتملا لصفة القضاء والكفارة فأصيب بمطلق الاسم أي يقع عن المنذور بالنية المطلقة ومع الخطإ في الوصف أي بنية النفل كصوم رمضان لكنه إذا صامه أي صوم الوقت أو صام الوقت على طريق الاتساع عن واجب آخر صح عما نوى لأن التعيين أي تعيين الناذر الوقت للصوم المنذور حصل بولايته فلا يعدوه لحقه أي لحق صاحب الشرع فاعتبر أي هذا الوقت في احتمال ذلك العارض وهو ما يرجع إلى صاحب الشرع بما لو لم ينذر أي بعدم النذر أو المعنى فاعتبر النذر أو التعيين في حق إبطال احتمال الوقت ذلك العارض وهو القضاء والكفارة بما لو لم ينذر أي بالعدم يعني كمال الموجب الأصلي في هذا اليوم هو النفل حقا للعبد وصوم القضاء والكفارة كان محتمله فإذا نذر فقد تصرف فيما هو حقه بالإيجاب لا فيما هو حق الشرع وهو احتمال الوقت لصوم القضاء والكفارة إذ لو ظهر أثره في ذلك صار العبد مبدلا للمشروع والذي ليس بحقه من قبل نفسه وذلك لا يصح كمن سلم وعليه سجدتا السهو يريد به قطع الصلاة لا يعمل إرادته فيه لأنه تبديل للمشروع فكذا هذا واعلم أن إيراد هذا القسم في هذا النوع مشكل لأن هذا النوع في بيان ما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه وفي هذا القسم الوقت معيار ولكنه ليس بسبب إذ السبب فيه النذر على ما عرف فكان إيراده في القسم الذي يليه أولى وإنما أورده في هذا النوع لأن شبهه بصوم رمضان أقوى من شبهه بصوم الكفارة لأن الوقت فيه معيار وشرط للأداء وفي القسم الثالث الوقت معيار لا غير فلهذا أورده ههنا قوله وأما الوقت الذي جعل معيارا لا سببا وهو القسم الثالث من أقسام الموقتة فالشيخ ذكر هذا القسم في أقسام الموقتة وغيره من المشايخ ذكره في المطلقة وذلك لأن له شبها بهما جميعا فشبهه بالموقتة أنه تعلق بوقت مقدر له وهو النهار لا بمطلق الوقت كالزكاة حتى لو أداه ليلا لم يعتبر بخلاف الزكاة وشبهه بالمطلقة أنه لم يتعلق بوقت متعين يفوت الأداء كما يفوت بفوات شهر رمضان بل متى أداه يكون مؤديا لا (١/٣٦٢) قاضيا فاختار الشيخ جانب كونه موقتا واختار غيره جانب كونه مطلقا والوقت فيها أي فيما ذكرنا من الصيامات معيار ولهذا لا يتحقق قضاء صومين في يوم واحد وأداء كفارتين بالصوم في شهرين لا سبب فإن سبب الكفارات ما يضاف إليه من ظهار أو قتل أو يمين ونحوها وسبب القضاء التفويت أو الفوات أو ما هو سبب الأداء وسبب النذر المطلق أي المنذور المطلق النذر ومن حكمها أي من حكم هذه الصيامات أنها من حيث جعلت قربة لا تستغني عن النية وتكفي في أكثر الإمساك كصوم رمضان والنذر المعين والتطوع ومن حيث إنها غير متعينة في هذا الوقت بل هي من محتملاته لا يكون توقف الإمساك في هذه الصيامات إلا على صوم الوقت وهو النفل إذ هو الموضوع الأصلي في غير رمضان فأما على الواجب فلا أي فأما التوقف على الواجب وهو القضاء والكفارات فلا يكون لأن الواجب محتمل الوقت وإنما يكون التوقف على الموضوعات الأصلية كما في قولك رأيت أسدا يتوقف صحته وصدقه على رؤية الهيكل المعلوم لا على رؤية إنسان شجاع لأن الأول موضع اللفظ والثاني محتمله وهذا لأن التوقف إنما يثبت ضرورة استدراك فضيلة صوم الوقت التي لا يدرك أصلا والضرورة فيما هو الموضوع الأصلي للوقت لا فيما هو محتمله فإذا كان الوقت عينا لفرض كرمضان كان الوقف عليه فنفذ عليه وإن كان غير رمضان فالأصل فيه النفل فلا ينفذ على غيره فلهذا كانت النية شرطا من أوله ليقع الإمساك من أوله من محتمل الوقت فإذا نوى من الليل صوم القضاء ينعقد الإمساك من أول النهار لمحتمل الوقت فيجوز وأما إذا انعقد الإمساك لموضوع الوقت وهو النفل لا يمكن صرفه إلى محتمل الوقت وهذا في الحقيقة جواب عن كلام الخصم فإنه جمع بين صوم رمضان وصوم القضاء في عدم جواز التأخير ففرق الشيخ بينهما بما ذكره ومن حكمه أنه لا فوات له ذكر الشيخ في شرح التقويم ومن حكمه أنه لا يتضيق عليه وجوب الأداء وحكى عن أبي الحسن الكرخي أن عند أبي يوسف رحمه اللّه يتضيق كالحج والصحيح ما ذكرنا واللّه أعلم (١/٣٦٣) قوله وأما النوع الرابع من الموقتة فهو المشكل أي الذي لا يعلم أن وقته متوسع أم متضيق منه أي من الموقتة على تأويل المذكور وهو حج الإسلام إسناد الإشكال إلى الحج مجاز إذ الإشكال في وقته لا في نفسه وبيان الإشكال من وجهين أحدهما بالنسبة إلى سنة واحدة وهو أن الحج عبادة تتأدى بأركان معلومة ولا يستغرق الأداء جميع الوقت فمن هذا الوجه يشبه وقت الصلاة ومن حيث إنه لا يتصور في سنة واحدة إلا أداء حجة واحدة يشبه وقت الصوم والثاني بالنسبة إلى سني العمر فإن الحج فرض العمر ووقته أشهر الحج وهي من السنة الأولى يتعين على وجه لا يفضل عن الأداء وباعتبار أشهر الحج من السنين التي يتأتى يفضل الوقت عن الأداء وذلك محتمل في نفسه فكان مشتبها كذا ذكر شمس الأئمة رحمه اللّه وإلى الوجه الثاني أشار الشيخ في الكتاب وكذا في شرح التقويم فقال وقت الحج وقت عين جعل ظرفا لأداء الحج ومعنى إشكاله أنه إذا أخر الحج عن هذا الوقت المعلوم له ظرفا في هذه السنة وقع الشك والإشكال في أدائه فإنه إن عاش أدى وإن مات تحقق الفوات فسميناه مشكلا وهكذا في التقويم أيضا وهو الصحيح قوله وأشهر الحج في كل عام إلى آخره يعني لا يدري أوقته متوسع في الحقيقة في حق كل من وجب عليه أم متضيق فإن عاش سنين كان أشهر الحج من كل عام صالحا لأدائه بمنزلة آخر الوقت في الصلاة وكان الوقت في حقه متوسعا وإن لم يعش كان أشهر الحج من العام الأول متعينا لأدائه وكان الوقت متضيقا كما بينا ولا خلاف في الوصف الأول وهو أن كل عام صالح لأدائه حتى إذا أخر عن العام الأول وأداه في عام آخر كان مؤديا لا قاضيا بالاتفاق لكون ذلك عاما من عمره فأما الوصف الثاني وهو تعيين أشهر الحج من العام الأول للأداء فهو صحيح أي ثابت مع الوصف الأول عند أبي يوسف رحمه اللّه يعني أشهر الحج من العام الأول متعين للأداء في الحال كوقت الصلاة للصلاة من غير نظر إلى أنه يعيش إلى القابل أم لا فيأثم بتأخيره عنه كما في الصلاة إلا أنه إذا أداه في العام الثاني كان مؤديا لا قاضيا بخلاف الصلاة (١/٣٦٤) قوله بمنزلة يوم أدركه في حق قضاء رمضان يعني من وجب عليه قضاء رمضان إذ لو أدرك يوما من أيام أخر لا يتعين عليه وجوب القضاء في هذا اليوم حتى لو أخر عنه لا يأثم لأن وقت القضاء جميع العمر فكذلك ههنا وإنما خص هذا النظير دون أول أجزاء الوقت في الصلاة مع أنه مثله لأنه أشبه بوقت الحج من وقت الصلاة فإن وقت أداء الصوم ينقطع بإقبال الليل إلى الغد كما أن وقت أداء الحج ينقطع بانقضاء أشهر الحج من هذا العام إلى أشهر الحج من العام القابل بخلاف وقت الصلاة لأنه لم يتخلل من أجزائه ما يمنع جواز الأداء قوله وإنما يعرف أي حقيقة الخلاف في تعين الأشهر من العام الأول للأداء بمعرفة كيفية وجوب الحج فقال أبو يوسف رحمه اللّه وجوبه بطريق التضييق فيلزم منه تعين الأشهر من العام الأول وقال محمد رحمه اللّه وجوبه بطريق التوسع فيلزم منه جواز التأخير عن العام الأول وعدم تعينه للأداء فإن قيل لما ثبت أن وقته متضيق عند أبي يوسف لم يبق مشكلا كوقت الصوم ولما ثبت أنه متوسع عند محمد زال الإشكال عنه أيضا كوقت الصلاة قلنا إنما حكم أبو يوسف بالتضيق على سبيل الاحتياط حتى لا يؤدي إلى تفويت العبادة لا من حيث إنه انقطع جهة التوسع بالكلية ألا ترى أنه لو أدرك العام الثاني جاز أداؤه فيه وإنما قال محمد بالتوسع نظرا إلى ظاهر الحال لا أنه لا يحتمل التضيق عنده ألا ترى أنه لو مات قبل إدراك الأشهر من العام الثاني كان الأشهر من العام الأول متعينا للأداء عنده فثبت أن الإشكال لم يزل بما قالاه قوله مثل وجوب الزكاة جمع الشيخ بين ما وجب بإيجاب اللّه تعالى وبين ما وجب بإيجاب العبد فالزكاة وصدقة الفطر والعشر نظير الأول والنذر بالصدقة المطلقة أي غير المقيدة بوقت نظير الثاني فأما تعين الوقت فلا أي إما أن يكون تعيين الوقت مختلفا فيه ابتداء فلا يعني مسألة الحج مبنية على أن في الأمر المطلق أول أوقات الإمكان متعين للأداء عند أبي يوسف خلافا لمحمد لا أن الخلاف فيها ابتدائي (١/٣٦٥) قوله فأما مسألة الحج فمسألة مبتدأة أي غير بنائية فعند أبي يوسف هو واجب على الفور حتى يأثم بنفس التأخير رواه عنه بشر والمعلى وهكذا ذكره ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمهم اللّه قال سئل عمن له مال أيحج به أم يتزوج قال بل يحج به فهذا دليل على أن الوجوب عنده على الفور وعند محمد رحمه اللّه يسعه التأخير بشرط أن لا يفوته بالموت فإن أخره ومات قبل إدراك السنة الثانية فهو آثم بالاتفاق أما عند أبي يوسف فظاهر وأما عند محمد فلأن التأخير كان بشرط عدم الفوت وقد فوت فيأثم وعند الشافعي رحمه اللّه لا يأثم بالتأخير وإن مات كذا في المبسوط وغيره وهذا الخلاف في التأثيم بالتأخير فأما الوجوب فثابت عند الكل حتى وجب عليه الإيصاء بالإحجاج بالإجماع كما في تأخير صوم القضاء والكفارة ويجب الإيصاء بالفدية وإن جاز تأخيره وذكر الغزالي رحمه اللّه في المستصفى أن التأخير عند الشافعي جائز في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض لأن البقاء إلى السنة الثانية غالب في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض وذكر في إشارات الأسرار لأبي فضل الكرماني وقال محمد والشافعي رحمهما اللّه يجب موسعا يحل فيه التأخير إلا إذا غلب على ظنه أنه إذا أخر يفوت ثم ذكر في آخر كلام محمد وأما إذا مات قبل أن يحج فإن كان الموت فجأة لم يلحقه إثم وإن كان بعد ظهور إمارات يشهد قلبه بأنه لو أخر يفوت لم يحل له التأخير ويصير متضيقا عليه لقيام الدليل فإن العمل بدليل القلب واجب عند عدم الأدلة واستدل محمد رحمه اللّه بأن الحج فرض العمر فكان جميع العمر وقت أدائه إلا أنه لا يتأدى في كل عام إلا في وقت خاص وهو أشهر الحج فيكون وقته نوعا من أنواع أشهر الحج أي فردا من أفرادها لا أشهر الحج من هذا العام بعينها وما من سنة يمضي إلا ويتوهم إدراك الوقت بعدها وإنما يثبت العجز بعارض الموت فرجحنا الحياة عليه لأن ما (١/٣٦٦) كان ثابتا فالظاهر بقاؤه إلى أن يظهر المزيل وفيه شك فلم يعتبر وإذا كان كذلك لا يتعين إلا بتعينه فعلا كصوم القضاء فإنه موقت بالعمر ووقت أدائه النهر دون الليالي كما أن وقت الحج أشهر الحج دون باقي السنة ومع هذا لا يتعين إلا بتعين العبد فعلا فكذا هذا ولأبي يوسف رحمه اللّه أن أشهر الحج من السنة الأولى في حق المخاطب به آخر الوقت فيحرم التأخير عنه كما في آخر وقت الصلاة وذلك لأن الوقت في حقه أشهر الحج من عمره لا من جميع الدهر والأشهر التي من عمره ما كان متصلا بعمره وهذه الأشهر هي المتصلة بعمره يقينا والتي لم يجئ بعد غير متصلة بعمره فلا تصير وقت حجه إلا بالاتصال وذلك مشكوك والانفصال في الحال ثابت فلا يرتفع بالشك وعلى اعتبار الانفصال لا يبقى وقت لحجه غير الوقت الحاضر فيكون التأخير عنه تفويتا كالتأخير عن آخر وقت الصلاة يحققه أن بمضي وقت عرفة يفوت وقت الحج في الحال ولا يرجى عوده إلا بالعيش إلى العام القابل وفيه شك لأن العيش إلى سنة ليس بأرجح من الموت فلا يثبت العود بالشك ولا يرتفع حكم الفوت بخلاف الواجب المطلق عن الوقت حيث له أن يؤخره لأن الفوت فيه بالموت والعمر ثابت للحال والموت محتمل فلا يرتفع الثابت بالمحتمل فأما الثابت ههنا فالفوت بمضي الوقت فلا يرتفع بالمحتمل وهو العيش إلى السنة القابلة ونظيره المفقود لا يورث عنه ماله لأن ملكه ثابت فلا يزول بالشك ولا يرث عن واحد لأن ملك غيره لم يكن ثابتا له فلا يثبت بالشك أيضا وبخلاف تأخير صوم القضاء والكفارة لأن الموت في ليلة نادر فلم يعد تفويتا على ما ذكر في الكتاب فصار حرف المسألة أن الخصم يقول لا فوات إلا بالموت فإن جميع العمر وقت الأداء ويعتبر الظاهر لإبقاء ما كان من القدرة ولا يبطلها بالموهوم ونحن نقول إذا تعذر الأداء عليه بعد خروج الوقت فقد تحقق الفوات وله احتمال أن لا يكون فواتا بالإدراك وفيه شك فحكمنا بالفوات للحال على احتمال أن لا يكون فواتا فإن قيل قد ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حج سنة عشر من الهجرة ونزلت فرضيته سنة ست منها فعلم أن التأخير جائز (١/٣٦٧) قلنا تأخيره عليه السلام كان لعذر وهو اشتغاله بأمر الحروب وغيره ولأن التأخير إنما حرم للفوت وذلك بالشك في العيش وقد ارتفع ذلك في حقه عليه السلام فإنه كان يعلم أنه يعيش إلى أن يبين أمر الحج الذي هو أحد أركان الدين ويعلم الناس المناسك ولم يكن علم قبل عام الحج فلما ارتفع الشك في حقه اتسع الوقت وصار كأول وقت الصلاة وهذا الدليل لم يثبت في حق غيره كذا في الأسرار واعلم أن ما ذهب إليه محمد من القول بجواز التأخير بشرط سلامة العاقبة على ما ذكر في المبسوط وفي هذا الكتاب وغيرهما مشكل لأن العاقبة مستورة فلا يمكن بناء الأمر عليها فإنه إذا سألنا سائل وقال قد وجب علي حج وأريد أن أؤخره إلى السنة التي تأتي والعاقبة مستورة عني فهل يحل لي التأخير مع الجهل بالعاقبة أم لا فإن قلنا نعم فلم يأثم بالموت الذي ليس إليه وإن قلنا لا يحل فهو خلاف مذهبه وإن قلنا إن كان في علم اللّه أنك تموت قبل إدراك السنة الثانية لا يحل لك التأخير وإن كان في علمه أنك تحيا فلك التأخير فيقول أو ما يدريني ماذا في علم اللّه فما فتواكم في حق الجاهل فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم فيلزم منه القول بعدم الإثم وإن مات كما هو قول الشافعي أو الإثم بنفس التأخير وإن لم يمت كما هو قول أبي يوسف كذا رأيت في بعض نسخ أصول الفقه فثبت أن الصحيح من قول محمد ما ذكره أبو الفضل في إشارات الأسرار كما مر بيانه قوله ويصير الساقط بطريق التعارض كالساقط بالحقيقة يعني قد سقط أشهر العام القابل من كونها وقت الحج في حقه لتعارض دليل الإدراك وهو الحياة ودليل عدم الإدراك وهو الممات لما بينا أنهما سواء في هذه المدة فصار كأنه سقط حقيقة أي صار كأن أشهر الحج بعد ليس من عمره أصلا فيبقى هذا الوقت الموجود بلا معارض فيصير كوقت الظهر فالتأخير عنه يكون تفويتا كتأخير الظهر عن وقته بخلاف الصوم أي صوم القضاء والكفارة ونحوهما أن تأخيره عن اليوم الأول لا يفوته لما ذكر فلم يكن دليل عدم الإدراك مساويا لدليل الإدراك وهو معنى قوله والتعارض للحال غير قائم أي تعارض الحياة والموت في ليلة غير قائم لأن الحياة غالبة والموت نادر فلا يسقط إدراك اليوم الثاني (١/٣٦٨) باحتمال الموت لأن السقوط بتعارض الحياة والموت ولم يوجد وإذا لم يسقط كان مزاحما لليوم الأول فلم يثبت تعينه للأداء فجاز التأخير وفي بعض النسخ لأن التعارض للحال قائم أي تعارض اليوم الأول والثاني في الحال قائم وإن وجد احتمال الموت قبل مجيء اليوم كما في الحج لأن ذلك نادر فلا يقابل الغالب وهو الحياة وإذا ثبت التعارض لم يتعين اليوم الأول للأداء فجاز التأخير وقوله للحال إشارة إلى أن التعارض في الحج للحال معدوم وإن احتمل أن يثبت بالإدراك فأما التعارض ههنا فقبل الإدراك ثابت وهذا اللفظ يدل على أن ما في هذه النسخة أصح قوله ولا يلزم أن النفل بقي مشروعا جواب عن قوله والدليل على أنه بقي وقتا للنفل وتقريره أن التعيين إنما ثبت ههنا يعارض خوف الفوت لا أنه أمر أصلي فيظهر التعيين أي أثره في حرمة التأخير وحصول الإثم به لا في انتفاء شرعية النفل بخلاف تعين رمضان للفرض فإنه أمر أصلي ثبت بتعيين الشارع فيظهر أثره في انتفاء النفل وحصول الإثم جميعا فأما أن يبطل أي بهذا التعيين جهة اختيار التقصير والمأثم بالشروع في النفل فلا نعني شروعه في النفل اختيار جهة الإثم والتقصير لأنه ترك الفرض وقد بقي له اختيار ذلك كما له اختيار جانب الترك أصلا وفي سائر العبادات إذ لو لم يبق له اختيار ذلك لحصلت العبادة جبرا والفعل الجبري لا يصلح أن يكون عبادة قوله ومن حكم هذا الأصل أي وقت الحج أو الوقت المشكل أنه ظرف لا معيار وقوله إن وقت الحج إقامة للمظهر مقام المضمر ألا ترى أنه أي وقت الحج يفضل عن أداء الحج فإن وقت الوقوف وهو الركن الأعظم فيه يفضل عنه وكذلك وقت الطواف والرمي وغيرهما ولو كان معيارا لا يفضل عنه كوقت الصوم عن الصوم وأن الحج أفعال عرفت بأسمائها كالوقوف والطواف والسعي والرمي وغيرها وصفتها أي وهيئتها وترتيبها مثل كيفية الطواف والرمل فيه وكيفية السعي والرمي وتقديم بعضها على بعض لا بمعيارها أي لا مدخل للوقت في معرفة هذه العبادة فكان ظرفا كوقت الظهر ومشابهته (١/٣٦٩) لوقت الصوم ليس من حيث إنه مقدر للعبادة بل من حيث إنه لم يشرع فيه إلا حج واحد وذلك لا يوجب اشتباها في ظرفيته فإنه لو أذن فيه بأداء حج آخر لكان قادرا عليه بل على أمثاله من غير نقصان في الأول كما في وقت الصلاة فثبت أنه في ذاته ظرف لا معيار وإذا ثبت أنه ظرف لا يدفع غيره من جنسه كوقت الظهر قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه اللّه العبادة متى أعملت بأفعال معلومة بنفسها صارت متقدرة بتلك الأفعال لا بالوقت وإذا لم يتقدر بالوقت لا يصير الوقت معيارا لذلك الفعل فلا يصير مستغرقا به فلا يقتضي تعينه محلا لذلك الفعل نفي غيره لأن الحال بمحل إنما ينفي غيره إذا استغرقه كالصوم لما قدر بالوقت استغرقه ونفي غيره والانتفاء بسبب الفرض ليس بنص الكتاب فإنه ليس فيه نص على دفع غيره صريحا بل بحكم ضيق الوقت وذلك باستغراق الحال للمحل كله ولا استغراق إلا إذا قدرت العبادة بالوقت والحج لم يقدر بالوقت فإنه إذا فسر عن قدره قيل أنه إحرام ووقوف وطواف كالصلاة قيام وقراءة وركوع وسجود فلا يستغرق الوقت فلا ينفي غيره والأمر بالتعجل لا ينافي ما قلناه كالأمر بتعجيل الصلاة في آخر الوقت لا ينفي غيره قوله ولهذا أي ولأن وقت الحج ظرف لا معيار قلنا إذا نوى التطوع من عليه حجة الإسلام يصح ويقع عما نوى وقال الشافعي رحمه اللّه تلغو نية النفل ويقع عن حجة الإسلام لأنه لما عظم أمر الحج لما فيه من زيادة كلفة ومشقة عدمت في غيرها من الطاعات ولهذا لم يجب في العمر إلا مرة حجر عن الصرف إلى التطوع مع قيام الفرض صيانة له أي لحج الإسلام عن الفوت وإشفاقا عليه أي على المكلف لأن تحمل المشاق الكثيرة وترك حجة الإسلام واختيار النفل عليه مع أن الثواب في أداء الفرض أكثر وأن العقاب على تركه بعد التمكن من أدائه مستحق عليه من السفه والسفيه عندي مستحق الحجر في أمر الدنيا صيانة لماله كالمبذر ففي أمر الدين أولى فيجعل نية النفل لغوا تحقيقا لمعنى الحجر ويبقى أصل نية الحج وبه يتأدى فرض الحج بالإجماع توضيحه أنه لو نوى الفرض ثم طاف أو وقف بنية التطوع تلغو نيته ووقع ذلك عن الفرض لما ذكرنا فكذا في أصل الحج ولا يقال لما لغت نية النفل لم يبق أصل النية كما في الصوم على أصله لأنا نقول الصفة في هذه العبادة قد ينفصل عن الأصل فإنه لو عدم وصف الصحة في الحج بقي أصل الإحرام بخلاف الصوم لأن الصفة هناك لا تنفصل عن الأصل فإن الصحة إذا عدمت لم يبق أصل الصوم لكنا نقول الحجر عن هذا يفوت الاختيار وفوات الاختيار ينافي العبادة فيكون القول بالحجر لصيانة الحج مؤديا إلى تفويت الحج (١/٣٧٠) بيانه أن الحج عبادة والعبادة فعل اختياري لأن ما لا اختيار للعبد فيه لا يصلح طاعة أو عصيانا على ما عرف فإذا نوى النفل فقد أعرض عن الفرض بأبلغ من ترك أصل العزيمة لأن الوقت في ذاته قابل للنفل فمع هذا لو وقع عن الفرض كان واقعا بدون اختياره وهذا هو الجبر الصريح فالقول به يكون مفضيا إلى إبطاله فيكون عائدا على موضوعه بالنقض فالقول بصحته يكون قولا بإبطاله إذ العبادة لا تقع من غير اختيار قط بخلاف شهر رمضان فإنه غير قابل للنفل فلا تصح فيه نية النفل أصلا فلا يثبت الإعراض لأنه يثبت في ضمن النفل على ما مر وقوله وقط لا يصح العبادة بلا اختيار رد لقوله وصح أصله بلا نية وقوله ولكن الاختيار في كل باب بما يليق به إلى آخره جواب عن صحة إحرام الرفقة عنه بدون أمره وقصده عند أبي حنيفة رحمه اللّه يعني إنما جوزنا ذلك لأن الاختيار فيه موجود عنده تقديرا لا على أنه جائز من غير اختيار أصلا وبيانه أن الإحرام شرط الأداء عندنا بمنزلة الوضوء للصلاة ولهذا جوزنا تقديمه على أشهر الحج والرفقة إنما تعقد ليعين بعضهم بعضا عند العجز ولما عاقدهم عقد الرفقة فقد استعان بهم في كل ما يعجز عن مباشرته بنفسه والإذن دلالة بمنزلة الإذن إفصاحا كما في شرب ماء السقاية وإذا ثبت الأذان قامت نيتهم مقام نيته كما لو أمرهم بذلك نصا فكان هذا النوع من الاختيار كافيا فيما هو شرط العبادة فأما الأفعال فلا بد من أن تجري على بدنه عند بعض مشايخنا وإليه مال الشيخ لأن النيابة تجري في الشروط ولا تجري في الأفعال ألا ترى أن النيابة تجري في الوضوء فإنه لو غسل أعضاء المحدث غيره كان له أن يصلي بتلك الطهارة ولا تجري النيابة في أعمال الصلاة يوضحه أن النيابة عند تحقق العجز وفي أصل الإحرام تحقق عجزه عنه بسبب الإغماء فينوب عنه أصحابه فأما الأفعال فلم يتحقق فيها العجز لأنهم إذا حضروا المواقف كان هو الواقف وإذا طافوا به كان هو الطائف بمنزلة من طاف راكبا بعذر وعند بعضهم نيابتهم عنه في الأفعال يصح أيضا قال شمس الأئمة رحمه اللّه وهو الأصح إلا أن الأولى أن يقفوا به وأن يطوفوا به ليكونوا أقرب إلى أدائه لو كان رفيقا ولو أدوا عنه كان جائزا لأن الحج يؤدى بالنائب عند العجز بالإجماع قوله وجوازه عند الإطلاق إلى آخره جواب عن قوله يصح بإطلاق النية يعني لا نسلم أن جوازه في هذه الحالة باعتبار أن تعيين الفرض ساقط بل هو شرط ولكنه لا يحتاج إلى ذكره بالقلب أو باللسان حالة الإحرام لأن الظاهر أن المسلم لا يتكلف لحج النفل (١/٣٧١) وعليه حجة الإسلام فصار الفرض متعينا بدلالة الحال فاستغني عن التعيين وانصرف مطلق النية إليه فإذا سمى شيئا آخر نصا اندفع به ما تعين بالحال وأما الإحرام عن الأبوين فإنما يصح لأنه يجعل ثوابه لهما أو ل أحدهما وله ولاية ذلك عند أهل السنة والجماعة لأنه حقه فيصرفه إلى من شاء لا أن يكون الأفعال واقعا عنهما أو عن أحدهما ولهذا كان له أن يجعله عن أحدهما بعدما أحرم عنهما لأن جعل الثواب لهما أو ل أحدهما إنما يصح بعد الأداء فلغت نيته قبله ولهذا لم يسقط حجة الإسلام عنهما كذا في بعض الشروح وذكر شمس الأئمة في المبسوط إذا حج الرجل عن أبيه أو أمه حجة الإسلام من غير وصية أوصى بها الميت أجزأه إن شاء اللّه وتمسك فيه بأحاديث ثم ذكر في آخر هذه المسألة وإنما قيد الجواب بالاستثناء بعدما صح الحديث لأن سقوط حجة الإسلام عن الميت بأداء الورثة طريقة العلم لأنه أمر بينه وبين ربه والعلم لا يثبت بخبر الواحد فلهذا قيد الجواب بالاستثناء وأما قوله إذا طاف أو وقف متطوعا يقع عن الفرض فالجواب عنه أن عقد الإحرام قد انعقد للفرض ولا اعتبار للنية بعد ذلك إنما المعتبر هو النية عند الإحرام الذي هو جامع كما لو سجد سجدة في صلاة الفرض بنية التطوع لم يعتبر لأن التحريمة انعقدت للفرض والنية تعتبر عند التحريمة فإن قيل ما ذكرتم مخالف للنص فإنه روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي عليه السلام سمع رجلا يلبي عن شبرمة فقال ومن شبرمة قال أخ لي أو صديق لي فقال عليه السلام أحججت عن نفسك فقال لا فقال عليه السلام حج عن نفسك ثم عن شبرمة قلنا ليس كذلك فإن تأويله عندنا أنه كان ذلك للتعليم على سبيل الأدب ألا ترى أنه أمره أن يستأنف الحج ولم يقل أنت حاج عن نفسك وكان هذا حين كان الخروج عنه ممكنا بالعمرة فانتسخ واللّه أعلم (١/٣٧٢) قوله وأما الأمر المطلق عن الوقت فعلى التراخي اختلف العلماء في الأمر المطلق أنه على الفور أم على التراخي فذهب أكثر أصحابنا وأصحاب الشافعي وعامة المتكلمين إلى أنه على التراخي وذهب بعض أصحابنا منهم الشيخ أبو الحسن الكرخي وبعض أصحاب الشافعي منهم أبو بكر الصيرفي وأبو حامد إلى أنه على الفور وكذا كل من قال بالتكرار يلزمه القول بالفور لا محالة وذهب طائفة من أصحاب الشافعي إلى أنه على الوقف لا يحمل على الفور ولا على التراخي إلا بدليل ومعنى قولنا على الفور أنه يجب تعجيل الفعل في أول أوقات الإمكان ومعنى قولنا على التراخي أنه يجوز تأخيره عنه وليس معناه أنه يجب تأخيره عنه حتى لو أتى به فيه لا يعتد به لأن هذا ليس مذهبا لأحد تمسك القائلون بالفور بأن الأمر يقتضي وجوب الفعل في أول أوقات الإمكان بدليل أنه لو أتى به فيه يسقط الفرض عنه بالاتفاق فجواز تأخيره عنه نقض لوجوبه إذ الواجب ما لا يسع تركه ولا شك أن تأخيره ترك لفعله في وقت وجوبه فثبت أن في التأخير نقض الوجوب في وقت الوجوب وهو باطل ولأن التأخير تفويت لأنه لا يدري أيقدر على الأداء في الوقت الثاني أو لا يقدر وبالاحتمال لا يثبت التمكن من الأداء على وجه يكون معارضا للمتيقن به فيكون تأخيره عن أول أوقات الإمكان تفويتا ولهذا يستحسن ذمه على ذلك إذا عجز عن الأداء ولأن المتعلق بالأمر اعتقاد الوجوب وأداء الفعل و أحدهما وهو الاعتقاد يثبت بمطلق الأمر للحال فكذلك الثاني واعتبر الأمر بالنهي والانتهاء الواجب بالنهي يثبت على الفور فكذا الائتمار الواجب بالأمر وتمسك القائلون بالتراخي بأن صيغة الأمر ما وضعت إلا لطلب الفعل بإجماع أهل اللغة فلا تفيد زيادة على موضوعها كسائر الصيغ الموضوعة للأشياء وهذا لأن قوله افعل ليس فيه تعرض للوقت بوجه كما لا تعرض لقوله فعل ويفعل على زمان قريب أو بعيد ومتقدم أو متأخر فكما لا يجوز تقييد الماضي والمستقبل بزمان لا يجوز تقييد الأمر به أيضا لأن التقييد في المطلق يجري مجرى النسخ ولهذا لم يتقيد بمكان دون مكان يزيد ما قلنا إيضاحا أن مدلول الصيغة طلب الفعل والفور والتراخي خارجيان إلا أن الزمان من ضرورات حصول الفعل لأن الفعل لا يوجد من العباد إلا في زمان والزمان الأول والثاني والثالث في صلاحيته للحصول واحد فاستوت الأزمنة كلها وصار كما لو قيل افعل في أي (١/٣٧٣) زمان شئت فيبطل تخصيصه وتقييده بزمان دون زمان ألا ترى أنه لو أمره بالضرب مطلقا لا يتقيد بآلة دون آلة وشخص دون شخص وإن كان ذلك من ضروراته لما ذكرنا فكذا الزمان فثبت أن الأمر بصيغة لا يفيد الفور وكذا بحكمه وهو الوجوب لأن الفعل يجوز أن يكون واجبا وإن كان المكلف في أول الوقت مخيرا بين فعله وتركه فيجوز له التأخير ما لم يغلب على ظنه فواته وإن لم يفعله فيكون هذا الأمر مقتضيا طلب الفعل في مدة عمره بشرط أن لا يخلي زمان العمر منه فيثبت الوجوب عليه بوصف التوسع لا بوصف التضيق والتكليف على هذا الوجه جائز عقلا وشرعا أما عقلا فلأنه لو قال لغلامه افعل كذا في هذا الشهر أو في هذه السنة في أي وقت شئت بشرط أن لا تخلى هذه المدة عن الواجب صح ولم يستنكر وأما شرعا فلأن الصلوات المفروضات في الأزمنة المعلومة وقضاء الواجبات في العمر بهذه المثابة ولهذا يكون مؤديا في أي وقت فعله لأنه أتى بالمأمور به على الوجه الذي أمر به فثبت أنه لا دليل على الفور لا من جهة اللفظ ولا من جهة الحكم فبطل القول به وأما الجواب عن كلماتهم فنقول قولهم في جواز التأخير نقض الوجوب إذ الواجب لا يسع تركه قلنا ما ذكرتم حكم الواجب المضيق فأما الموسع فحكمه جواز التأخير إلى وقت مثله بشرط أن لا يخلي الوقت عنه ولو أخلى عصى وأثم فلا يلزم من التأخير نقض الوجوب وقولهم في التأخير تفويت وذلك حرام قلنا الفوات لا يتحقق إلا بموته وليس في مجرد التأخير تفويت لأنه يتمكن من الأداء في جزء يدركه من الوقت بعد الجزء الأول حسب تمكنه في الجزء الأول وموت الفجأة نادر لا يصلح لبناء الأحكام عليه فيجوز له التأخير إلى أن يغلب على ظنه بأمارة أنه إذا أخر يفوت المأمور به والظن عن أمارة دليل من دلائل الشرع كالاجتهاد في الأحكام فيجوز بناء الحكم عليه فإن قيل ما قولكم فيمن مات بغتة أيموت عاصيا أم غير عاص فإن قلتم يموت عاصيا فمحال لأنا إذا أطلقنا له التأخير واخترمته المنية من غير أن يحس بحضورها لم يتصور إطلاق وصف العصيان عليه لأن العصيان بالتأخير مع إطلاق التأخير محال وإن قلتم يموت غير عاص فلم يبق للوجوب فائدة قلنا اختلف الأصوليون فيه فمنهم من قال إذا مات بعد تمكنه من الأداء يموت عاصيا لأن التأخير إنما أبيح له بشرط أن لا يكون تفويتا وتقييد المباح بشرط فيه خطر مستقيم في الشرع كالرمي إلى الصيد يباح بشرط أن لا يصيب آدميا وهذا لأنه متمكن من ترك الترخص بالتأخير بالمسارعة إلى الأداء التي هي مندوب إليها فقلنا بأنه يتمكن من (١/٣٧٤) البناء على الظاهر ما دام يرجو الحياة عادة وإن مات كان مفرطا لتمكنه من ترك الترخص بالتأخير ومنهم من قال لا يموت عاصيا ولكنه يدل على بطلان فائدة الوجوب وهذا لما بينا أن التأخير عن الوقت الأول إلى وقت مثله لم يحرم عليه لأنه ليس فيه تفويت المأمور به ثم إذا أحس بالفوات بظهور علامات الموت منعناه من التأخير لأنه تفويت تعد فإذا مات بغتة وفجأة فهو غير مفوت للمأمور به لأنه أخر عن وقت إلى وقت مثله وقد أطلقنا له ذلك فصار الفوات عند موته بغتة من غير ظهور أمارات الموت مضافا إلى صنع اللّه تعالى لا إلى العبد لأنه قد فعل ما كان مطلقا له فلم يصح وصف فعله بالتفويت فلم يجز أن يوصف بالعصيان ثم عدم وصفه بالعصيان لم يدل على فوات فائدة الوجوب لأنا حققنا صفة الواجبية فيما يرجع إلى فعل العبد من منعه من التفويت فبوجود الفوات من اللّه تعالى لا يبطل فائدة الوجوب وقولهم وجب تعجيل الاعتقاد فيجب تعجيل الفعل قلنا اعتقاد الوجوب يستغرق جميع العمر ومن ضرورته تعجيل وجوبه وكذا الانتهاء في النهي فأما أداء الواجب فلا يستغرق جميع العمر فلا يتعين للأداء جزء من العمر إلا بدليل على أنا نقول يجب اعتقاد وجوبه على التوسع كما يلزمه فعله على التوسع فإذا وجب الفعل على حسب ما يعتقده من الوجوب ووجب الاعتقاد على حسب ما يلزمه من الفعل لم يقع الفرق بينهما بوجه واللّه أعلم قوله على ما أشرنا إليه متعلق بقوله فعلى التراخي لا بقوله خلافا للكرخي فإنه لم يشر إلى مذهبه فيما تقدم والإشارة قوله والذي عليه عامة مشايخنا أن الأمر المطلق لا يوجب الفور بلا خلاف قوله ومن هذا الأصل أي ومن الخاص (١/٣٧٥) |