٦ ( باب الوتر وأحكامه ) لما فرغ من بيان الفرض العلمي شرع في العملي وهو في اللغة الفرد خلاف الشفع بالفتح والكسر وفي الشرع صلاة مخصوصة وصفه بقوله ( الوتر واجب ) في الأصح وهو آخر أقوال الإمام وروى عنه أنه سنة وهو قولهما وروي عنه فرضين ووفق المشايخ بين الروايات بأن فرض عملا وهو الذي لا يترك واجب اعتقادا فلا يكفر جاحده سنة دليلا لثبوته بها وجه الوجوب قوله صلى اللّه عليه وسلم " الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني " رواه أبو داود والحاكم وصححه والأمر وكلمة حق وعلى الوجوب ( و ) كميته ( هو ) في الوتر ( ثلاث ركعات ) يشترط فعلها ( بتسليمة ) لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن " صححه الحاكم وقال على شرط الشيخين ( ويقرأ ) وجوبا ( في كل ركعة منه الفاتحة وسورة ) لما روي أنه عليه السلام " قرأ في الأولى منه أي بعد الفاتحة بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بقل هو اللّه أحد وقنت قبل الركوع " وفي حديث عائشة رضي اللّه عنها " قرأ في الثالثة قل هو اللّه أحد والمعوذتين " فيعمل به في بعض الأوقات عملا - بالحديثين لا على الوجوب ( ويجلس ) وجوبا ( على رأس ) الركعتين ( الأوليتين منه ) للمأثور ( ويقتصر على التشهد ) لشبهة الفرضية ( ولا يستفتح ) أي لا يقرأ دعاء الافتتاح ( عند قيامه للثالثة ) لأنه ليس ابتداء صلاة أخرى ( وإذا فرغ من قراءة السورة فيها ) أي الركعة الثالثة ( رفع يديه حذاء أذنيه ) كما قدمناه إلا إذا قضاه حتى لا يرى تهاونه فيه برفعه يديه عند من يراه ( ثم كبر ) لانتقاله إلى حالة الدعاء ( و ) بعد التكبير ( قنت قائما ) لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقنت في الوتر قبل الركوع وعند الإمام يضع يمينه على يساره وعن أبي يوسف يرفعهما كما كان ابن مسعود يرفعهما إلى صدره وبطونهما إلى السماء روى فرج مولى أبي يوسف قال رأيت مولاي أبا يوسف إذا دخل في القنوت للوتر رفع يديه في الدعاء قال ابن أبي عمران كان فرج ثقة قال الكمال ووجهه عموم دليل الرفع للدعاء ويجاب بأنه مخصوص بما ليس في الصلاة للإجماع على أنه لا رفع في دعاء التشهد انتهى . قلت وفيه نظر لأثر ابن مسعود الذي تقدم قريبا وفي المبسوط عن محمد بن الحنفية قال الدعاء أربعة : دعاء رغبة ففيه يجعل بطون كفيه إلى السماء ودعاء رهبة ففيه يجعل ظهر كفيه إلى وجهه كالمستغيث من الشيء ودعاء تضرع ففيه يعقد الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة ودعاء خفية وهو ما يفعله المرء في نفسه كذا في معراج الدراية ولما رويناه يقنت ( قبل الركوع في جميع السنة ولا يقنت في غير الوتر ) وهو الصحيح لقول أنس قنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الصبح بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب رعل وزكوان وعصية حين قتلوا القراء وهو سبعون أو ثمانون رجلا ثم تركه لما ظهر عليهم فدل على نسخه وروى ابن أبي شيبة لما قنت علي رضي اللّه عنه في الصبح أنكر الناس عليه ذلك فقال إنما استنصرنا على عدونا وفي الغابة : إن نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام في صلاة الجهر وهو قول الثوري وأحمد وقال جمهور أهل الحديث القنوت عند النوازل مشروع في الصلوات كلها اه فعدم قنوت النبي صلى اللّه عليه وسلم في الفجر بعد ظفره بأولئك لعدم حصول نازلة تستدعي القنوت بعدها فتكون مشروعيته مستمرة وهو محمل قنوت من قنت من الصحابة رضي اللّه عنهم بعد وفاته صلى اللّه عليه وسلم وهو مذهبنا وعليه الجمهور وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه اللّه تعالى إنما لا يقنت عندنا في الفجر من غير بلية فإن وقعت فتنة أو بلية فلا بأس به فعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أي بعد الركوع كما تقدم ( والقنوت ) من ( معناه الدعاء ) في الوتر ( وهو ) باللفظ الذي روي عن ابن مسعود ( أن يقول اللّهم ) أي يا اللّه ( إنا نستعينك ) أي نطلب منك الإعانة على طاعتك ( ونستهديك ) أي نطلب منك الهداية لما يرضيك ( ونستغفرك ) أي نطلب منك ستر عيوبنا فلا تفضحنا بها ( ونتوب إليك ) التوبة الرجوع عن الذنب وشرعا الندم على ما مضى من الذنب والإقلاع عنه في الحال والعزم على ترك العود في المستقبل تعظيما لأمر اللّه تعالى فإن تعلق به حق لآدمي فلا بد من مسامحته وإرضائه ( ونؤمن ) أي نصدق معتقدين بقلوبنا ناطقين بلساننا فقلنا آمنا ( بك ) وبما جاء من عندك وبملائكتك وكتبك ورسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ( ونتوكل ) أي نعتمد ( عليك ) بتفويض أمورنا إليك لعجزنا ( ونثني عليك الخير كله ) أي نمدحك بكل خير مقرين بجميع آلائك إفضالا منك ( نشكرك ) بصرف جميع ما أنعمت به من الجوارح إلى ما خلقته لأجله سبحانك لك الحمد لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ( ولا نكفرك ) أي لا نجحد نعمة لك علينا ولا نضيفها إلى غيرك الكفر نقيض الشكر وأصله الستر يقال كفر النعمة إذا لم يشكرها كأنه سترها بجحد وقولهم كفرت فلانا على حذف مضاف والأصل كفرت نعمته ومنته ولا نكفرك ( ونخلع ) بثبوت حرف العطف أن نلقى ونطرح ونزيل ربقة الكفر من أعناقنا وربقة كل ما لا يرضيك يقال خلع الفرس رسنه ألقاه ( ونترك ) أي نفارق ( من يفجرك ) بجحده نعمتك وعبادته غيرك نتحاشى عنه وعن صفته بأن نفرضه عدما تنزيها لجنابك إذ كل ذرة في الوجود شاهدة بأنك المنعم المتفضل الموجود المستحق لجميع المحامد الفرد المعبود والمخالف لهذا هو الشقي المطرود ( اللّهم إياك نعبد ) عود للثناء وتخصيص لذاته بالعبادة أي لا نعبد إلا إياك إذ تقديم المفعول للحصر ( ولك نصلي ) أفردت الصلاة بالذكر لشرفها بتضمنها جميع العبادات ( ونسجد ) تخصيص بعد تخصيص إذ هو أقرب حالات العبد من الرب المعبود ( وإليك نسعى ) هو إشارة إلى قوله في الحديث حكاية عنه تعالى " من أتاني سعيا أتيته هرولة " والمعنى نجهد في العمل لتحصيل ما يقربنا إليك ( ونحفد ) نسرع في تحصيل عبادتك بنشاط لأن الحفد يعني السرعة ولذا سميت الخدم حفدة لسرعتهم في خدمة ساداتهم وهو بفتح النون ويجوز ضمها وبالحاء المهملة وكسر الفاء وبالدال المهملة يقال حفد وأحفد لغة فيه ولو أبدل الدال ذالا معجمة فسدت صلاته لأنه كلام أجنبي لا معنى له ( نرجو ) أي نؤمل ( رحمتك ) دوامها وإمدادها وسعة عطائك بالقيام لخدمتك والعمل في طاعتك وأنت كريم فلا تخيب راجيك ( ونخشى عذابك ) مع اجتنابنا ما نهيتنا عنه فلا نأمن مكرك فنحن بين الرجاء والخوف وهو إشارة إلى المذهب الحق فإن أمن المكر كفر كالقنوت من الرحمة وجمع بين الرجاء والخوف لأن شأن القادر أن يرجى نواله ويخاف نكاله وفي الحديث " لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن إلا أعطاه اللّه ما يرجو وأمنه مما يخاف " فلإنعامك علينا بالإيمان وتوفيقك للعمل بالأركان ممتثلين لأمرك مقتصرين على القلب واللسان إذ هو طمع الكاذبين ذوي البهتان نعتقد ونقول ( إن عذاب الجد ) أي الحق وهو بكسر الجيم اتفاقا بمعنى الحق وهو ثابت في مراسيل أبي داود فلا يلتفت لمن قال أنه لا يقول الجد ( بالكفار ملحق ) أي لاحق بهم بكسر الحاء أفصح وقيل بفتحها يعني أن اللّه سبحانه وتعالى ملحقه بهم ولما روى النسائي بإسناد حسن أن في حديث القنوت ( وصلى اللّه على النبي ) صلينا عليه صلى اللّه عليه ( و ) على ( آله وسلم ) كما اختار الفقيه أبو الليث رحمه اللّه تعالى أنه يصلي في القنوت على النبي صلى اللّه عليه وسلم ( والمؤتم يقرأ القنوت كالإمام ) على الأصح ويخفي الإمام والقوم على الصحيح لكن استحب للإمام الجهر في بلاد العجم ليتعلموه كما جهر عمر رضي اللّه عنه بالثناء حين قدم عليه وفد العراق ولذا فصل بعضهم إن لم يعلم القوم فالأفضل للإمام الجهر ليتعلموا وإلا فالإخفاء أفضل ( وإذا شرع الإمام في الدعاء ) وهو اللّهم اهدنا الخ كما سنذكره ( بعد ما تقدم ) من قوله اللّهم إنا نستعينك الخ ( قال أبو يوسف رحمه اللّه يتابعونه ويقرؤونه معه ) أيضا ( وقال محمد لا يتابعونه ) فيه ولا في القنوت الذي هو اللّهم إنا نستعينك ونستغفرك ( ولكن يؤمنون ) على دعائه والدعاء قال طائفة من المشايخ أنه لا توقيت فيه والأولى أن يقرأ بعد المتقدم قنوت الحسن بن علي رضي اللّه عنهما قال علمني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر وفي لفظ في قنوت الوتر ورواه الحاكم وقال فيه إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود اللّهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت وتعاليت وحسنه الترمذي وزاد البيهقي بعد واليت ولا يعز من عاديت وزاد النسائي بعد وتعاليت وصلى اللّه على النبي فهو كما ترى بصيغة الإفراد المروى عنه صلى اللّه عليه وسلم حال دعائه في قنوت الفجر لما كان يفعله قال الكمال ابن الهمام لكنهم أي المشايخ لفقوه من حديث في حق الإمام عام لا يخص القنوت فقالوه بنون الجمع أي اللّهم اهدنا وعافنا وتولنا إلى أخره انتهى . قلت ومنهم صاحب الدرر والغرر والبرهان ( والدعاء ) الذي قالوه ( هو اللّهم اهدنا ) ورواية الحسن اهدني كما نبهنا عليها - أصل الهداية الرسالة والبيان كقوله تعالى : " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " فأما قوله إنك لا تهدي من أحببت ولكن اللّه يهدي من يشاء فهي من اللّه تعالى التوفيق والإرشاد فطلب المؤمنين مع كونهم مهتدين بمعنى طلب التثبيت عليها أو بمعنى المزيد منها ( بفضلك ) لا وجوب عليك وهذه الزيادة ليست في قنوت الحسن اللّهم اهدني ( فيمن هديت ) أي مع من هديته ( وعافنا ) العافية السلامة من الأسقام والبلايا والمحن والمعافاة أن يعافيك اللّه من الناس ويعافيهم منك ( فيمن عافيت ) أي مع من عافيته ( وتولنا ) من توليت الشيء إذا اعتنيت به ونظرت فيه بالمصلحة كما ينظر الولي في حال اليتيم لأنه سبحانه ينظر في أمور من تولاه بالعناية ( فيمن توليت ) أي مع من توليت أمره من عبادك المقربين ( وبارك لنا فيما أعطيت ) البركة الزيادة من الخير فطلب ترقيا على المقامين السابقين ثم رجع إلى مقام الخشية والجلال فقال ( وقنا ) من الوقاية وهي الحفظ بالعناية بدفع ( شر ما قضيت ) لالتجائنا إليك ( إنك تقضي ) بما شئت ( ولا يقضي عليك ) لأنك المالك الواحد لا شريك لك في الملك فنطلب موالاتك ( لأنه لا يذل من واليت ) لعزتك وسلطان قهرك ( ولا يعز من عاديت ) ذلك بأن تقدست وتنزهت فهي صفة خاصة لا تستعمل إلا للّه ( ربنا ) أي سيدنا ومالكنا ومعبودنا ومصلحنا وقال البيضاوي تبارك اللّه تعالى شأنه في قدرته وحكمته فهو معنى ( وتعاليت ) - ووجه تقديم تباركت الاختصاص به سبحانه - ( وصلى اللّه على ) النبي ( سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ) لما روينا ( ومن لم يحسن ) دعاء ( القنوت ) المتقدم قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه تعالى ( يقول اللّهم اغفر لي ) ويكررها ( ثلاث مرات أو ) يقول ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) في التجنيس هو اختيار مشايخنا ( أو ) يقول ( يا رب يا رب يا رب ) ثلاثا ذكره الصدر الشهيد فهذه ثلاثة أقوال مختارة ( وإذا اقتدى بمن يقنت في الفجر ) كشافعي ( قام معه في ) حال ( قنوته ساكتا في الأظهر ) لوجوب متابعته في القيام ولكن عندهما يقوم ساكتا وقال أبو يوسف يقرؤه معه لأنه تبع للإمام والقنوت مجتهد فيه فصار كتكبيرات العيدين والقنوت في الوتر بعد الركوع ( ويرسل يديه في جنبيه ) لأنه ذكر ليس مسنونا ( وإذا نسي القنوت في ) ثالثة ( الوتر وتذكره في الركوع أو ) في ( الرفع منه ) أي من الركوع ( لا يقنت ) على الصحيح لا في الركوع الذي تذكر فيه ولا بعد الرفع منه ويسجد للسهو ( ولو قنت بعد رفع رأسه من الركوع لا يعيد الركوع ويسجد للسهو لزوال القنوت عن محله الأصلي ) وتأخير الواجب ( ولو ركع الإمام قبل فراغ المقتدي من قراءة القنوت أو قبل شروعه فيه وخاف فوت الركوع ) مع الإمام ( تابع إمامه ) لأن اشتغاله بذلك يفوت واجب المتابعة فتكون أولى وإن لم يخف فوت المشاركة في الركوع يقنت جمعا بين الواجبين ( ولو ترك الإمام القنوت يأتي به المؤتم إن أمكنه مشاركة الإمام في الركوع ) لجمعه بين الواجبين بحسب الإمكان ( وإن ) كان ( لا ) يمكنه المشاركة ( تابعه ) لأن متابعته أولى ( ولو أدرك الإمام في ركوع الثالثة من الوتر كان مدركا للقنوت ) حكما ( فلا يأتي به فيما سبق به ) كما لو قنت المسبوق معه في الثالثة أجمعوا أنه لا يقنت مرة أخرى فيما يقضيه لأنه غير مشروع وعن أبي الفضل تسويته بالشاك وسيأتي في سجود السهو ( ويوتر بجماعة ) استحبابا ( في رمضان فقط ) عليه إجماع المسلمين لأنه نقل من وجه والجماعة في النقل في غير التراويح مكروهة فالاحتياط تركها في الوتر خارج رمضان وعن شمس الأئمة أن هذا فيما كان على سبيل التداعي أما لو اقتدى واحد بواحد أو اثنان بواحد لا يكره وإذا اقتدى ثلاثة بواحد اختلف فيه وإذا اقتدى أربعة بواحد كره اتفاقا ( وصلاته ) أي الوتر ( مع الجماعة في رمضان أفضل من أدائه منفردا آخر الليل في اختيار قاضيخان قال ) قاضيخان رحمه اللّه ( هو الصحيح ) لأنه لما جازت الجماعة كان أفضل ولأن عمر رضي اللّه عنه كان يؤمهم في الوتر ( وصححه غيره ) أي غير قاضيخان ( خلافه ) قال في النهاية حكاية هذا واختار علماؤنا أن يوتر في منزله لا بجماعة لعدم اجتماع الصحابة على الوتر بجماعة في رمضان لأن عمر رضي اللّه تعالى عنه كان يؤمهم فيه وأبي بن كعب كان لا يؤمهم وفي الفتح والبرهان ما يفيد أن قول قاضيخان أرجح لأنه صلى اللّه عليه وسلم أوتر بهم فيه ثم بين عذر الترك وهو خشية أن يكتب علينا قيام رمضان وكذا الخلفاء الراشدون صلوه بالجماعة ومن تأخر عن الجماعة فيه أحب صلاته آخر الليل والجماعة إذ ذاك متعذرة فلا يدل على أن الأفضل فيه ترك الجماعة أول الليل انتهى . وإذا صلى الوتر قبل النوم ثم تهجد لا يعيد الوتر لقوله صلى اللّه عليه وسلم " لا وتران في ليلة " |