الباب الخامس ذكر الاستواء على العرشإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له: نقول: إن اللّه عز وجل يستوي على عرشه استواء يليق به من غير طول استقرار، كما قال: (الرحمن على العرش استوى) (٥ /٢٠) ، وقد قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) من الآية (١٠ /٣٥) ، وقال تعالى: (بل رفعه اللّه إليه) من الآية (١٥٨ /٤) ، (٢/ ١٠٦) وقال تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) من الآية (٥ /٣٢) ، وقال تعالى حاكيا عن فرعون لعنه اللّه: (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا) من الآيتين (٣٦ - ٣٧ /٤٠) ، كذب موسى عليه السلام في قوله: إن اللّه سبحانه فوق السماوات . وقال تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) من الآية (١٦ /٦٧) فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: (أأمنتم من في السماء) من الآية (١٤ /٦٧) ... لأنه مستو على العرش (٢/ ١٠٧) الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: (أأمنتم من في السماء) من الآية (١٦ /٦٧) يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، ألا ترى اللّه تعالى ذكر السماوات، فقال تعالى: (وجعل القمر فيهن نورا) من الآية (١٦ /٧) ، ولم يرد أن القمر يملأهن جميعا، وأنه فيهن جميعا، ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن اللّه تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن اللّه عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطّونها إذا دعوا إلى الأرض ١ (٢/ ١٠٨) . فصلوقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قول اللّه تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (٥ /٢٠) أنه استولى وملك وقهر، وأن اللّه تعالى في كل مكان، وجحدوا أن يكون اللّه عز وجل مستو على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة . ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن اللّه تعالى قادر على كل شيء والأرض للّه سبحانه (٢/ ١٠٩) قادر عليها، وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم، فلو كان اللّه مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء، وهو تعالى مستو على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش، والأقدار؛ لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلها لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن اللّه تعالى مستو على الحشوش والأخلية، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها . وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن اللّه تعالى في كل مكان، فلزمهم أنه في بطن مريم وفي الحشوش والأخلية، وهذا خلاف الدين . تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا . مسألة:ويقال لهم: إذا لم يكن مستويا على العرش بمعنى يختص العرش (٢/ ١١٠) دون غيره، كما قال ذلك أهل العلم، ونقله الأخبار، وحملة الآثار، وكان اللّه عز وجل في كل مكان فهو تحت الأرض التي السماء فوقها، وإذا كان تحت الأرض والأرض فوقه، والسماء فوق الأرض وفي هذا ما يلزمكم أن تقولوا إن اللّه تحت التحت، والأشياء فوقه، وأنه فوق الفوق والأشياء تحته، وفي هذا ما يجب أنه تحت ما هو فوقه، وفوق ما هو تحته، وهذا هو المحال المتناقض، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا . دليل آخر:ومما يؤكد أن اللّه عز وجل مستو على عرشه دون الأشياء كلها، ما نقله أهل الرواية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . روى عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا (٢/ ١١١) عمرو بن دينار، عن نافع، عن جبير، عن أبيه رضي اللّه عنهم أجمعين، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ حتى يطلع الفجر) . روى عبيد اللّه بن بكر قال: ثنا هشام بن أبي عبد اللّه، عن يحيى بن كثير، عن أبي جعفر، أنه سمع أبا حفص يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذا بقى ثلث الليل ينزل اللّه تبارك وتعالى فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ؟ من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه ؟ من ذا الذي يسترزقني فأرزقه ؟ حتى ينفجر الفجر) . (٢/ ١١٢) وروى عبد اللّه بن بكر السهمي، قال: ثنا هشام بن أبي عبد اللّه عن يحيى بن كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، قال: ثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال: فكنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى إذا كفا بالكديد - أو قال بقديد - حمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: (إذا مضى ثلث الليل - أو قال ثلثا الليل - نزل اللّه عز وجل إلى السماء، فيقول: من ذا الذي يدعوني أستجيب له ؟ من ذا الذي يستغفرني أغفر له ؟ من ذا الذي يسألني أعطيه ؟ حتى ينفجر الفجر) نزولا يليق بذاته من غير حركة وانتقال، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا . دليل آخر:قال اللّه تعالى (٢/ ١١٣) : (يخافون ربهم من فوقهم) من الآية (٥٠ /١٦) ، وقال تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) من الآية (٤ /٧٠) ، وقال تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) من الآية (١١ /٤١) ، وقال تعالى: (ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا) من الآية (٥٩ /٢٥) ، وقال تعالى: (ثم استوى على العرش مالكم من ولي ولا شفيع) (٤ /٣٢) ، فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه، والسماء بإجماع الناس ليست الأرض، فدل على أنه تعالى منفرد بوحدانيته، مستو على عرشه استواء منزها عن الحلول والاتحاد . (٢/ ١١٤) دليل آخر:قال اللّه تعالى: (وجاء ربك والملك صفا صفا) (٢٢ /٨٩) ، وقال تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام والملائكة) من الآية (٢١٠ /٢) ، وقال: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى) (٨ - ١٣ /٥٣) إلى قوله: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) (١٨ /٥٣) ، وقال تعالى لعيسى ابن مريم عليه السلام: (إني متوفيك ورافعك إليّ) ، وقال تعالى: (وما قتلوه يقينا بل رفعه اللّه إليه) من الآية (١٥٨ /٤) ، (٢/ ١١٥) وأجمعت الأمة على أن اللّه سبحانه رفع عيسى صلى اللّه عليه وسلم إلى السماء، ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى اللّه تعالى في الأمر النازل بهم يقولون جميعا: يا ساكن السماء، ومن حلفهم جميعا: لا والذي احتجب بسبع سماوات . دليل آخر:قال اللّه عز وجل: (وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) من الآية (٥١ /٤٢) ، وقد خصت الآية الشريفة البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر، ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم، كان أبعد من الشبهة، وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول: ما كان لأحد أن يكلمه اللّه إلا وحيا (٢/ ١١٦) ، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا، فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول: ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحيا، أو من وراء حجاب، أو أرسل رسولا، وننزل أجناسا لم يعمهم بالآية فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم . دليل آخر:قال اللّه تعالى: (ثم ردوا إلى اللّه مولاهم الحق) من الآية (٦٢ /٦) ، وقال: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) من الآية (٣٠ /٦) ، وقال: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم) (١٢ /٣٢) ، وقال عز وجل: (وعرضوا على ربك صفا) من الآية (٤٨ /١٨) ، كل ذلك يدل على أنه تعالى ليس في خلقه، ولا خلقه فيه، وأنه مستو (٢/ ١١٧) على عرشه سبحانه، بلا كيف ولا استقرار، تعالى اللّه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، فلم يثبتوا له في وصفهم حقيقة، ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية؛ إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أوصافهم تدل على النفي، يريدون بذلك التنزيه، ونفي التشبيه على زعمهم، فنعوذ باللّه من تنزيه يوجب النفي والتعطيل . دليل آخر:قال اللّه تعالى (اللّه نور السماوات والأرض) من الآية (٣٥ /٢٤) فسمى نفسه نورا، والنور عند الأمة لا يخلو من أن يكون أحد معنيين (٢/ ١١٨) : إما أن يكون نورا يسمع، أو نورا يرى . فمن زعم أن اللّه يسمع ولا يرى فقد أخطأ في نفيه رؤية ربه، وتكذيبه بكتابه، وقول نبيه صلى اللّه عليه وسلم . وروت العلماء عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: (تفكروا في خلق اللّه ولا تفكروا في اللّه عز وجل، فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام، واللّه عز وجل فوق ذلك) . دليل آخر:وروت العلماء رحمهم اللّه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إن العبد لا تزول قدماه من بين يدي اللّه عز وجل حتى يسأله عن عمله) . وروت العلماء أن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم بأمة (٢/ ١١٩) سوداء ف قال: يا رسول اللّه إني أريد أن أعتقها في كفارة، فهل يجوز عتقها ؟ فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم: أين اللّه ؟ قالت: في السماء، قال فمن أنا ؟ قالت: أنت رسول اللّه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة . وهذا يدل على أن اللّه تعالى على عرشه فوق السماء فوقية لا تزيده قربا من العرش . (٢/ ١٢٠) |