الباب الرابع الكلام على من توقف في القرآن وقال لا أقول إنه مخلوق ولا أنه غير مخلوقجواب:يقال لهم: لِم زعمتم ذلك وقلتموه ؟ فإن قالوا: قلنا ذلك؛ لأن اللّه لم يقل في كتابه إنه مخلوق، ولا قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا أجمع المسلمون عليه، ولم يقل في كتابه إنه غير مخلوق، ولا قال ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا أجمع عليه المسلمون، فتوقفنا لذلك، ولم نقل إنه مخلوق، ولا إنه غير مخلوق . (٢/ ٩٨) يقال لهم: فهل قال اللّه تعالى لكم في كتابه توقفوا فيه ولا تقولوا إنه غير مخلوق، وقال لكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توقفوا عن أن تقولوا إنه غير مخلوق، وهل أجمع المسلمون على التوقف عن القول إنه غير مخلوق ؟ فإن قالوا: نعم، فقد بهتوا . وإن قالوا: لا، قيل لهم: فلا تقفوا عن أن تقولوا غير مخلوق بمثل الحجة التي بها ألزمتم أنفسكم التوقف . ثم يقال لهم: ولم أبيتم أن يكون في كتاب اللّه ما يدل على أن القرآن غير مخلوق ؟ فإن قالوا: لم نجده، قيل لهم: ولم زعمتم أنكم إذا لم تجدوه في القرآن فليس بموجود (٢/ ٩٩) فيه ؟ ثم إنا نوجدهم ذلك، ونتلو عليهم الآيات التي احتججنا بها في كتابنا هذا، واستدللنا بها على أن القرآن غير مخلوق، ك قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) من الآية (٥٤ /٧) ، وكقوله: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) من الآية (٤٠ /١٦) ، وكقوله: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) من الآية (١٠٩ /١٨) ، وسائر ما احتججنا في ذلك من آي القرآن . ويقال لهم: يلزمكم أن تتوقفوا في كل ما اختلف الناس فيه، ولا تقدموا في ذلك على قول، فإن جاز لكم أن تقولوا ببعض تأويل المسلمين إذا دل على صحتها دليل فلم لا قلتم إن القرآن غير مخلوق بالحجج التي ذكرناها في كتابنا هذا قبل هذا الموضع ؟ (٢/ ١٠٠) مسألة:فإن قال قائل: حدثونا، أتقولون: إن كلام اللّه في اللوح المحفوظ . قيل له: كذلك نقول؛ لأن اللّه تعالى قال: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) (٢١ - ٢٢ /٨٥) ، فالقرآن في اللوح المحفوظ . وهو في صدور الذين أوتوا العلم، قال اللّه تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) من الآية (٤٩ /٢٩) . وهو متلو بالألسنة، قال اللّه تبارك وتعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) (١٦ /٧٥) . والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة، محفوظ في صدورنا في الحقيقة، متلو بألسنتنا في الحقيقة، مسموع لنا في الحقيقة، كما قال تعالى (٢/ ١٠١) : (فأَجِرْه حتى يسمع كلام اللّه) من الآية (٦ /٩) . مسألة:فإن قال قائل: حدثونا عن اللفظ بالقرآن كيف تقولون فيه ؟ قيل له: القرآن يقرأ في الحقيقة، ويتلى، ولا يجوز أن يقال يلفظ به؛ لأن القائل لا يجوز له أن يقول إن كلام اللّه ملفوظ به؛ لأن العرب إذا قال قائلهم لفظت باللقمة من فمي فمعناه رميت بها، وكلام اللّه تعالى لا يقال يلفظ به، وإنما يقال يقرأ، ويتلى، ويكتب، ويحفظ . وإنما قال قوم لفظنا بالقرآن ليثبتوا أنه مخلوق، ويزينوا بدعتهم، وقولهم بخلقه، ويدلسوا كفرهم على من لم يقف على معناهم، فلما وقفنا على معناهم أنكرنا قولهم، وكذا لا يجوز أن يقال إن شيئا من القرآن مخلوق؛ لأن القرآن بكماله غير مخلوق . (٢/ ١٠٢) مسألة:إن قال قائل: أليس قد قال اللّه تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) من الآية (٢ /٢١) ؟ قيل له: الذكر الذي عناه اللّه عز وجل ليس هو القرآن، بل هو كلام الرسول صلى اللّه عليه وسلم ووعظه إياهم . وقد قال اللّه تعالى لنبيه: (وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) (٥٥ /٥١) ، وقد قال اللّه تعالى: (ذكرا رسولا) نهاية آية (١٠) وبداية آية (١١ /٦٥) فسمى الرسول ذكرا، والرسول محدث . وأيضا فإن اللّه تعالى قال (٢/ ١٠٣) : (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) من الآية (٢ /٢١) يخبر أنه لا يأتيهم ذكر محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، ولم يقل لا يأتيهم ذكر إلا كان محدثا، وإذا لم يقل هذا لم يوجب أن يكون القرآن محدثا . ولو قال قائل: ما يأتيهم رجل من التميميين يدعوهم إلى الحق إلا أعرضوا عنه، لم يوجب هذا القول أنه لا يأتيهم رجل إلا كان تميميا، فكذلك الحكم فيما سألونا عنه . مسألة:فإن سألونا عن قول اللّه تعالى: (قرآنا عربيا) من الآية (٢ /١٢) . قيل لهم: اللّه عز وجل أنزل وليس بمخلوق . فإن قالوا: فقد قال اللّه تعالى (٢/ ١٠٤) : (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) من الآية (٢٥ /٥٧) والحديد مخلوق . قيل لهم: الحديد جسم موات، وليس يجب إذا كان القرآن منزلا أن يكون جسما مواتا، فكذلك لا يجب إذا كان القرآن منزلا أن يكون مخلوقا، وإن كان الحديد مخلوقا . مسألة:ويقال لهم: قد أمرنا اللّه تعالى أن نستعيذ به وهو غير مخلوق، وأمر أن نستعيذ بكلمات اللّه التامات، وإذا لم نؤمر أن نستعيذ بمخلوق من المخلوقات، وأمرنا أن نستعيذ بكلام اللّه، فقد وجب أن كلام اللّه غير مخلوق . (٢/ ١٠٥) |