الباب الثالث في ذكر الرواية في القرآنقال أبو بكر: أتيت أنا والعباس بن عبد العظيم العنبري أبا عبد اللّه أحمد بن حنبل، فسأل العباسُ أبا عبد اللّه - رحمه اللّه، ورضي عنه - فقال له: قوم ههنا قد حدثوا يقولون: القرآن لا مخلوق ولا غير مخلوق . فقال: هؤلاء أضر من الجهمية على الناس، ويلكم فإن لم تقولوا ليس بمخلوق فقولوا مخلوق . قال أبو عبد اللّه: هؤلاء قوم سوء . فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد اللّه ؟ ف قال: الذي أعتقد وأذهب إليه ولا أشك فيه أن القرآن غير مخلوق . (٢/ ٨٨) ثم قال: سبحان اللّه ومن يشك في هذا ؟ ! ثم تكلم أبو عبد اللّه مستعظما للشك في ذلك، ف قال: سبحان اللّه أفي هذا شك ؟ ! قال اللّه تبارك وتعالى: (ألا له الخلق والأمر) من الآية (٥٤ /٧) وقال: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان) (١ - ٣ /٥٥) ففَرَّق بين الإنسان وبين القرآن، ف قال: " علَّمَ " " خلَقَ " فجعل يعيدها " علَّم " " خلَقَ " أي فَرْقٌ بينهما . قال أبو عبد اللّه: والقرآن علم اللّه، ألا تراه يقول: (علم القرآن) والقرآن فيه أسماء اللّه عز وجل، أي شيء يقولون ؟ ألا يقولون: إن أسماء اللّه غير مخلوقة، لم يزل اللّه قديرا عليما عزيزا حكيما سميعا بصيرا، لسنا نشك أن أسماء اللّه عز وجل غير مخلوقة، لسنا نشك أن علم اللّه عز وجل غير مخلوق، فالقرآن من علم اللّه وفيه أسماء اللّه، فلا نشك أنه غير مخلوق، وهو كلام اللّه عز وجل، ولم يزل به متكلما، ثم (٢/ ٨٩) قال: وأي كفر من هذا ؟ وأي كفر أشر من هذا ؟ إذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء اللّه مخلوقة، وأن علم اللّه مخلوق، ولكن الناس يتهاونون بهذا ويقولون، إنما يقولون القرآن مخلوق ويتهاونون به ويظنون أنه هين، ولا يدرون ما فيه وهو الكفر، وأنا أكره أن أبوح بهذا لكل أحد، وهم يسألون وأنا أكره الكلام في هذا، فبلغني أنهم يدعون أني أمسك . فقلت له: فمن قال القرآن مخلوق ولا يقول إن أسماء اللّه مخلوقة ولا علمه لم يزد على هذا، أقول: هو كافر ؟ ف قال: هكذا هو عندنا . ثم قال أبو عبد اللّه: نحن نحتاج أن نشك في هذا القرآن عندنا فيه أسماء اللّه وهو من علم اللّه، فمن قال: إنه مخلوق فهو عندنا كافر . فجعلت أردد عليه، فقال لي العباس - وهو يسمع - سبحان اللّه أما يكفيك دون هذا . فقال أبو عبد اللّه: بلى . وذكر الحسين بن عبد الأول، قال: سمعت وكيعا يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل . (٢/ ٩٠) وذكر محمد بن الصباح البزار، قال: حدثنا علي بن الحسين بن شعبان، قال: سمعت ابن المبارك يقول: إنا نستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية . قال محمد: نقول: نخاف أن نكفر ولا نعلم . وذكر هارون بن إسحاق الهمداني عن أبي نعيم، عن سليمان بن عيسى القاري، عن سفيان الثوري رضي اللّه عنه قال: قال لي حماد بن أبي سليمان: أبلغ أبا حنيفة المشرك أنى منه بريء ؟ قال سليمان: ثم قال سفيان؛ لأنه كان يقول القرآن مخلوق .وحاشى الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي اللّه عنه من هذا القول، بل هو زور وباطل، فإن أبا حنيفة من أفضل أهل السنة . وذكر سفيان بن وكيع قال: سمعت عمر بن حماد بن أبي سليمان قال: أخبرني أبي قال: الكلام الذي استتاب فيه ابن أبي ليلى أبا حنيفة هو قوله: القرآن مخلوق، قال: فتاب منه وطاف به في الخلق، قال أبى: فقلت له كيف صرت إلى هذا، قال: خفت واللّه أن يقدم عليَّ فأعطيته التقية . (٢/ ٩١) وذكر هارون بن إسحاق قال: سمعت إسماعيل بن أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد الطنافسي إن حماد - يعني ابن أبي سليمان - بعث إلى أبي حنيفة: أني بريء مما تقول، إلا أن تتوب، وكان عنده ابن أبي عقبة، قال: ف قال: أخبرني جارك أن أبا حنيفة دعاه إلى ما استتيب منه بعد ما استتيب . وهذا كذب محض على أبي حنيفة رضي اللّه عنه . وذكر عن أبي يوسف قال: ناظرت أبا حنيفة رضي اللّه عنه شهرين حتى رجع عن خلق القرآن . وقال سليمان بن حرب: القرآن غير مخلوق، وأخذته من كتاب اللّه تعالى، قال اللّه تعالى: (لا يكلمهم اللّه ولا ينظر إليهم) من الآية (٧٧ /٣) ، وكلام اللّه ونظره واحد، يعني غير مخلوق . وذكر الحسين بن عبد الأول، قال: حدثنا محمد بن الحسن ابن أبي يزيد الهمذاني عن عمرو بن قيس، عن أبي قيس المديني، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال (٢/ ٩٢) رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (فضل كلام اللّه عز وجل على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه) ، فهذا يثبت أن القرآن كلام اللّه عز وجل، وما كان كلاما للّه عز وجل لم يكن خلقا للّه، وقد بين اللّه أن القرآن كلامه بقوله عز وجل: (حتى يسمع كلام اللّه) من الآية (٦ /٩) ، ودل على ذلك في مواضع من كتابه العزيز، وقد قال اللّه تعالى مخبرا أن اللّه كلم موسى تكليما . وروى وكيع عن الأعمش عن خيثمة، عن عدى بن حاتم، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ومما يدل أن اللّه عز وجل متكلم، وأن له كلاما ما رواه (٢/ ٩٣) عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة عن الأشعب الحداني عن شهر ين حوشب قال: (فضل كلام اللّه عز وجل على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه) وروى يعلى بن المنهال السعدي، قال: حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، قال: ثنا الجراح بن الضحاك الكندي، عن علقمة بن مرثل، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه) ، وقال: (إن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه) ، (٢/ ٩٤) وذلك أنه منه . وروى سعيد بن داود، قال: حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه) الآية، من الآية (٢٧ /٣١) . وذكر هارون بن معروف قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال بن أساف، عن فروة بن نوفل وقال: كنت جارا لخباب بن الأرت، فقال لي: يا هذا تقرب إلى اللّه عز وجل بما استطعت فإنك لن تتقرب إلى اللّه بشيء أحب إليه من كلامه . وروى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله تعالى: (قرآنا عربيا غير ذي عوج) من الآية (٢٨ /٣٩) ، (٢/ ٩٥) قال: غير مخلوق . وروى الليث بن يحيى، قال: حدثني إبراهيم بن أبي الأشعث، قال: سمعت مؤمل ابن إسماعيل يحدث عن الثوري، قال: من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر . وصحت الرواية عن جعفر بن محمد أن القرآن لا خالق ولا مخلوق . وروي ذلك عن عمه زيد بن علي، وعن جده علي بن الحسين رضي اللّه عنهم أجمعين . ومن قال: إن القرآن غير مخلوق، وإن من قال بخلقه كافر من العلماء، وحملة الآثار، ونقلة الأخبار، وهم لا يحصون كثرة، ومنهم: حماد، والثوري وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومالك بن أنس رضي اللّه عنه، والشافعي رضي اللّه عنه وأصحابه، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، ومالك رضي اللّه عنهم، والليث بن سعد رضي اللّه عنه، وسفيان بن عيينة، وهشام، وعيسى بن يونس، وجعفر (٢/ ٩٦) ابن غياث، وسعيد بن عامر، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو بكر بن عياش، ووكيع، وأبو عاصم النبيل، ويعلى بن عبيد، ومحمد بن يوسف، وبشر ابن الفضل، وعبد اللّه بن داود، وسلام بن أبي مطيع، وابن المبارك، وعلي بن عاصم، وأحمد بن يونس، وأبو نعيم، وقبيصة بن عقبة، وسليمان بن داود، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ويزيد بن هارون، وغيرهم . ولو تتبعنا ذكر من يقول بذلك لطال الكلام، وفيما ذكرنا من ذلك مقنع، والحمد للّه رب العالمين . وقد احتججنا لصحة قولنا: إن القرآن غير مخلوق من كتاب اللّه عز وجل، وما تضمنه من البرهان، وأوضحه من البيان، ولم نجد أحدا ممن تحمل عنه الآثار، وتنقل عنه الأخبار، ويأتم به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن، وإنما قال ذلك رعاع الناس، وجهال من جهالهم، لا موقع لهم . والحجاج الذي قدمناه في ذلك يأتي على كثير من قولهم، ودفع باطلهم، والحمد للّه على قوة الحق حمدا كثيرا . (٢/ ٩٧) |