Geri

   

 

 

İleri

 

٥٩

وَ مَرْجُوٌّ شَفَاعَةِ اَهْلِ خَيْرٍ لِاَصْحَابِ الْكَبَائِرِ كَالْجِبَالِ

مرجو اسم مفعول من رجوته رجاء بالمد بمعنى الأمل فإنا راج وهو مرجو وهي مرجوة والشفاعة لغة الوسائل وعرفا سؤال الخير للغير مأخوذ من الشفع ضد الوتر من شفع من باب فتح يفتح سميت به لأن الشافع يضم المشفوع له إلى نفسه أو يضم سؤاله إلى سؤاله والكبائر جمع كبيرة

والمراد بها ههنا كل معصية غير الشرك وغير الصغائر ولذا وصفها

بقوله كالجبال واختلفوا في حدها وضبطها والأحسن ما قيل فيها كل ما كان شنيعا بين المسلمين وفيه هتك حرمة من حرمات اللّه تعالى فهو كبيرة

وروي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنها تسعة الشرك باللّه وقتل النفس بغير حق وقدف المحصنات والزنا والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم بغير حق وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد في الحرم وزاد أبو هريرة رضي اللّه عنه أكل الربا وزاد علي رضي اللّه عنه السرقة وشرب الخمر

وقيل هو كل ما كان مفسدة مثل شئ مما ذكر أو أكثر منه

وقيل هو كل ما توعد عليه الشارع بخصوصه

وقيل كل معصية أصر عليه العبد فهي كبيرة وكل ما استغفر عنها فهي صغيرة ويقرب من هذا ما روي أن رجلا سأل ابن عباس رضي اللّه عنه أسبع الكبائر فقال هي إلى السبعمائة أقرب إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار

وقيل هي كل معصية وجب بها حد وهو قول بعض الفقهاء وقال صاحب الكفاية الحق إنهما اسمان إضافيان لا يعرفان بذاتهما فكل معصية أضيفت إلى ما

(١٢٦)

فوقها فهي صغيرة وإن أضيفت إلى ما دونها فهي كبيرة انتهى لكن

قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم يدل بظاهره أن الكبائر ممتازة عن الصغائر بالذات فتأمل والكبيرة المطلقة هي الكفر إذ لا ذنب فوقه وبالجملة فالمراد بالكبائر ههنا غير الكفر إذ لا شفاعة ولا عفو في الكفر أصلا والحاصل إن شفاعة أهل الخير كالأنبياء والمؤمنين لأهل الكبائر ثابتة مرجوة القبول يجب الإيمان بوقوعها

قال تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه

وقال تعالى واستغفر أسلوب هذا الكلام يدل على ثبوت الشفاعة في الجملة وإلا لما كان لنفي نفعها عن الكافرين عند القصد إلى تقبيح حالهم وتحقيق يأسهم معنى لأن مثل هذا المقام يقتضي أن يوسموا بما يخصهم لا بما يعمهم وغيرهم وليس المراد أن تعليق الحكم والكافرين يدل على نفيه عما عداهم حتى يرد علينا ما يقوم حجة على من يقول بمفهوم المخالفة وقال عليه الصلاة والسلام شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وفي سنن ابن ماجة من حديث عثمان بن عفان رضي اللّه عنه يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء وحديث يشفع نبيكم رابع أربعة جبرائيل ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم نبيكم صلى اللّه عليه وسلم ثم الملائكة ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء. رواه أبو عمرو بن السماك والشفاعة العظمى التي أعطيها نبينا صلى اللّه عليه وسلم الشفاعة في فصل القضاء حين يسأل الناس آدم عليه السلام في ذلك فلا يجيبهم لتذكره ما وقع له من الأكل من الشجرة ثم يأتون إلى نوح عليه السلام ثم إلى الأنبياء من بعده فكل يقول نفسي لا أريد سواها فيأتون محمدا صلى اللّه عليه وسلم وقد زاد بهم الكرب فيسألونه الشفاعة العظمى في فصل القضاء فيقول أنا لها ويسجد تحت العرش وقدر السجود والاختلاف فيه مبسوط في موضعه فيشفع صلى اللّه عليه وسلم فيشفع ويعجل الحساب ويرتاح الناس من هول الموقف بهذه الشفاعة خاصة به صلى اللّه عليه وسلم اتفاقا وكذا الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب عند الأكثر وكذا الشفاعة في زيادة الدرجات وفي حديث الحاكم عن ابن مسعود رضي اللّه عنهما بعد أن ذكر الدجال وخروج يأجوج ومأجوج وغير ذلك قال ثم يؤمر بالصراط فيضرب على جهنم فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم زمر كلمح البصر والبرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير ثم كأسرع البهائم ثم كذلك حتى يمر الرجل سعيا ثم مشيا ثم يكون آخرهم رجل يتلبط على بطنه فيقول أي رب لماذا أبطأت بي فيقال

(١٢٧)

إنما أبطأ بك عملك ثم يؤذن في الشفاعة فيكون أول شافع روح القدس جبرائيل ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم يقول نبيك رابعا لا يشفع بعده أحد فما الظاهر فيما يشفع فيه وهو المقام المحمود الذي ذكره اللّه تعالى فليس من نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة أو بيت في النار وهو يوم الحسرة ثم تشفع الملائكة والشهداء والصالحون والمؤمنون فيشفعهم ثم يقول اللّه تبارك وتعالى أنا أرحم الراحمين فيخرج من النار أكثر مما أخرج منها من جميع الخلق برحمته فإذا أراد أن لا يخرج منها أحدا غير وجوههم وألوانهم فيجئ الرجل فينظر فلا يعرف فيناديه الرجل فيقول يا فلان أنا فلان فيقول لا أعرفك فعند ذلك يقولون ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيقول اللّه تعالى اخسؤوا فيها ولا تكلمون فإذا قال ذلك أطبقت عليهم فلا يخرج منهم بشر وتمام الحديث في مستدرك الحاكم وأنكر المعتزلة وقوع الشفاعة واحتجوا بمثل

قوله تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا تقبل منها شفاعة

وقوله تعالى ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع

والجواب بعد تسليم دلالتها على العموم في الأشخاص والأزمان والأحوال: إنه يجب تخصيصها بالكفار جمعا بين الأدلة ولما كان أصل العفو والشفاعة ثابتا بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع قالت المعتزلة يجوز العفو عن الصغائر مطلقا وعن الكبائر بعد التوبة وبالشفاعة وزيادة الثواب وكلاهما فاسدان أما الأول فلأن التائب ومرتكب الصغيرة المجتنب عن الكبيرة لا يستحقان العذاب عندهم فلا معنى للعفو والثاني فلأن النصوص واردة في الشفاعة بمعنى العفو عن الجناية

ثم اعلم أن المراد من الشفاعة لأصحاب الكبائر أي التي ماتوا عليها من غير توبة

وأما التائب عنها بشروطها ولو عند اليأس كما قدمنا فكمن لا ذنب له

لقوله تعالى إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل اللّه سيئاتهم حسنات وذكروا أن للتوبة شروطا ثلاثة اثنان عامان الأول الندم على الذنب وخوف عقابه الثاني العزم على أن لا يعود إليه ما عاش كما لا يعود اللبن إلى الضرع الثالث وهو خاص الاقلاع عن الذنب في الحال بأن يتركه إن كان متلبسا به أو مصرا على المعاودة إليه فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع وهو رد الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه إن قدر ولو إلى وارثه فإن كانت غير مال استغفر

(١٢٨)

له ولا فائدة للتوبة والاستغفار مع التلبيس بالمعصية والاصرار عليها ففي الحديث المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه

وقوله عليه السلام التوبة ندم أي معظم شروطها الندم لا مجرد الندم قال العلامة ابن العماد وشروطها المذكورة مأخوذة من القرآن أما الندم فمأخوذ من

قوله تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم

وأما الاقلاع وترك العود ورد المظلمة فمستفاد من قوله ولم يصروا على ما فعلوا لأن من لم يقلع عن الذنب فهو مصر عليه ومن أقلع وعزم على العود بعد مدة فهو مصر أيضا وكذا من عزم على ترك العود مطلقا لكن أمسك ما غصبه مثلا ولم يرد فهو مصر وفي هذا الأخير نظر فتدبر وزاد بعضهم في الشروط وقوع التوبة في وقتها وهو ما قبل الغر غرة لما رواه الترمذي وحسنه عنه عليه السلام أنه قال إن اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغر غر أي تبلغ روحه حلقومه قيل هذا عند الأشاعرة

وأما عندنا فإنما يشترط عدم الغر غرة في إيمان الكافر دون توبة المؤمن العاصي عملا بالاستصحاب إذ المؤمن قد سبق منه المعرفة والكافر يريد أن ينشئ إيمانا ح فلا يقبل منة فتوبة اليأس مقبولة عندنا لا إيمانه انتهى وقدمنا الكلام فيه مفصلا فارجع إلى تحقيقه وزاد بعضهم شرطا آخر وهو أن تقع التوبة قبل ظهور الآيات كطلوع الشمس من مغربها

ثم اعلم أن توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها

وأما ما سواها من أنواع التوبة هل قبوله قطعي أو ظني فيه خلاف بين أهل السنة فأختار إمام الحرمين أنه ظني واختار بعضهم أنه قطعي فمن اختار الأول نظر إلى نحو

قوله تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن اختار الثاني نظر إلى

قوله تعالى: فأولئك يبدل اللّه سيئاتهم حسنات

وقوله تعالى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات من غير تعليق وهو الأظهر وحاصله إن الناس على قسمين لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما عند أهل السنة مؤمن وكافر فالكافر في النار إجماعا والمؤمن على قسمين طائع وعاص فالطائع في الجنة إجماعا والعاصي على قسمين تائب وغير تائب فالتائب في الجنة إجماعا خلافا لإمام الحرمين كما قدمنا وغير التائب من المعاصي غير الكفر كبيرة كانت أو صغيرة مات مصرا عليها فهو في مشية اللّه تعالى إما أن يعاقبه بإدخاله النار ثم يدخله الجنة

وإما أن يسامح بعد

(١٢٩)

دخوله النار بمجرد فضله تعالى أو بفضله بشفاعة من النبي صلى اللّه عليه وسلم بلا خلاف أو ممن يشاء اللّه مع خلاف في أن هذه الشفاعة هل هي مختصة به صلى اللّه عليه وسلم أو لا كما قدمنا

الإعراب مرجو خبر مقدم وشفاعة أهل خير مبتدأ مؤخر لأصحاب متعلق بمرجو مضاف إلى الكبائر وكالجبال إما في محل جر صفة للكبائر نظرا للمعنى أو في محل نصب على الحال منه نظرا للفظه

(وحاصل معنى البيت) إن الشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر التي هي كالجبال غير الشرك أو حال كونها كالجبال خلافا لما يزعمه أهل المعتزلة واللّه أعلم بحقيقة الحال قال الناظم رحمه اللّه