٦٠وَ ذُوالْاِيمَانِ لَايَبْقَي مُقِيمًا بِشُومِ الذَّنْبِ فِي دَارِاشْتِعَالِ ذو بمعنى صاحب وأراد بقوله لا يبقى مقيما أي لا يخلد في النار بسبب شوم ذنبه أي ارتكابه الكبائر كما يقوله بعض المعتزلة والشوم سوء العاقبة والمراد بها أقبح الذنوب أو الذنوب القبيحة التي عاقبتها وبال ونكال وأراد بدار الاشتعال جهنم والمعنى أن من ارتكب من أهل الإيمان كبيرة وإن عظمت ومات مصرا عليها لا يخرج بسببها عن إيمانه ما لم تكن موجبة للكفر وإن دخل النار بسببها وعوقب عليها لا يخلد فيها قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن الخير الإيمان باللّه ورسوله وكتابه المنزل فمن وجد منه ذلك ومات عليه يجب أن يرى ثوابه في الجنة وإن كان لمن أهل الكبائر وذلك لا يكون إلا بعد خلاصه من النار إذ الثواب قبل العقاب منتف بالاتفاق فثبت أن المؤمن العاصي لا يخلد في دار الاشتعال أي جهنم وقال تعالى وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات وقال تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا فإن المؤمن وإن عمل جميع الكبائر غير الكفر لا بد أن يوجد منه عمل الصالحات في الجملة إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن المؤمن من أهل الجنة ابتداء أو مآلا وأنه وإن عمل جميع المعاصي غير الكفر لا يخرج بها عن الإيمان ولا يخلد في النار ويرجى له الغفران وأيضا الخلود في النار من أعظم العقوبات وقد جعل جزاء للكفر الذي هو أعظم الجنايات فلو جوزي به المذنب كما جوزي به الكافر كان زيادة على قدر الجناية قال الشيخ النووي مذهب أهل الحق من السلف والخلف إن من مات موحدا أدخل الجنة (١٣٠) قطعا على كل حال كيف ما كان فإن كان سالما من المعاصي كطفل أو مجنون اتصل جنونه بالبلوغ وتائب توبة نصوحا وموفق ما ألم بمعصية قط فإنهم يدخلون الجنة ولا يدخلون النار لكنهم يردونها على الخلاف في الورود وأما من عمل كبيرة ومات بغير توبة فهو في المشيئة إن شاء جعله كالقسم الأول وإن شاء عذبه ثم يدخله النار ولا يخلد في النار أحد مات موحدا ولو عمل جميع المعاصي كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات كافرا وإن عمل أعمال البر ما عمل هذا مذهب أهل الحق انتهى وقدمنا نحوه وذهبت المعتزلة إلى أن من دخل النار كان خالدا فيها لأنه إما كافرا وصاحب كبيرة مات بلا توبة فالكافر مخلد بالإجماع وكذا صاحب الكبيرة بلا توبة لوجهين أحدهما أنه يستحق العذاب الذي هو مضرة خالصة دائمة فينافي استحقاق الثواب الذي هو منفعة خالصة دائمة والجواب عنه منع قيد الدوام وإلحاقه بالكافرين بل منع الاستحقاق بالمعنى الذي قصدوه وهو الاستيجاب وإنما الثواب فضل منه والعذاب عدل فإن شاء عفا وإن شاء عذبه مدة ثم يدخله الجنة الوجه الثاني لهم النصوص الدالة على الخلود ك قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وقوله تعالى ومن يعص اللّه ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وقوله تعالى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والجواب إن قاتل المؤمن لكونه مؤمنا لا يكون إلا كافرا فيستحق الخلود وكذا من تعدى جميع حدود اللّه الشاملة للكفر وكذا من أحاطت به الخطيئة وشملت من كل جانب لأن هذا لا يتأتى في حق المؤمن لما قدمنا ولو سلم فالخلود قد يستعلم في المكث الطويل كقولهم سجن مخلد ولو سلم فمعارض بالنصوص الدالة على عدم الخلود ذكره السعد رحمه اللّه في شرح العقائد وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما من عبد قال لا إله إلا اللّه ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق الحديث فائدة اختلفت الماتريدية والأشاعرة في معنى السعادة والشقاوة قالت الماتريدية السعادة الإسلام والشقاوة الكفر والسعيد هو المسلم والشقي هو الكافر وعلى هذا فيتصور أن السعيد قد يشقى بأن يرتد بعد الإيمان وأن الشقي قد يسعد بأن يؤمن بعد الكفر وأن السعادة والشقاوة قد يتغيران ويتبدلان وما ختم له به من إيمان أو كفر هو الذي سبق له في العلم الأزلي الذي لا تبدل ولا تغير فيه (١٣١) ويدل عليه قوله صلى اللّه عليه وسلم إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها الحديث وقالت الأشاعرة هما أزليتان لا تتغيران ولا تتبدلان فالسعادة الموت على الإيمان لتعلق العلم الأزلي بها والشقاوة الموت على الكفر لتعلق العلم الأزلي بها كذلك والسعيد من علم اللّه في الأزل موته على الإيمان وإن تقدم منه كفر والشقي من علم اللّه في الأزل موته على الكفر وإن تقدم منه إيمان فعلى هذا لا يتصور في السعيد أن يشقى ولا في الشقي أن يسعد والظاهر أن الخلاف في الختام لفظي وإنما يظهر الخلاف في الدوام فيجوز عندهم أن يقال أنا مؤمن إن شاء اللّه نظر للمآل لأنه مجهول الحصول ووافقهم الشافعي على ذلك وعند الماتريدية لا يجوز ذلك نظر للحال فلا بد أن يكون جاز ما بوجود الإيمان غير شاك فيه فإن وضع هذه الكلمة للشك ولذا بطل به الطلاق والعتاق واليمين والبيع ونحو ذلك فكيف يتحقق الإيمان مع وجود الشك ووافقهم على ذلك الإمام أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم اللّه تعالى فافهم وتحقق هذا المقام فإنه من مزالق الأقدام وقد وقع فيه خبط من بعض الفضلاء الكرام. الإعراب ذو الإيمان مبتدأ لا نافية ويبقى مضارع منفى بها وفاعله مستتر يعود إلى ذو الإيمان والجملة في محل رفع خبر المبتدأ ومقيما منصوب على الحال أو التمييز أو خبر يبقى على أنه بمعنى دام وبشوم جار ومجرور متعلق به والباء فيه للسببية والذنب مجرور بإضافة شوم من إضافة الصفة إلى الموصوف وفي دار اشتعال متعلق بما تعلق به شوم (وحاصل معنى البيت) إن المؤمن لا يبقى مخلدا في جهنم إن دخلها بسبب ما اقترفه في الدنيا من الكبائر وإن مات مصرا عليها بعد أن مات على الإيمان وإنما الخلود لمن مات على الكفر لما تقدم من الأدلة القاطعة بذلك كما تقدم واللّه أعلم وأحكم قال الناظم رحمه اللّه |