١١وَ مَا الْقُرْاَنِ مَخْلُوقًا تَعَالَي كَلَامُ الرَّبِّ عَنْ جِنْسِ الْمَقَالِ أي ليس القرآن كلام اللّه تعالى حادثا أحدثه اللّه تعالى باللفظ المركب من الحروف والأصوات لأن ذلك من صفات المخلوقين الحادثة وكلامه تعالى قديم منزه عن الحدوث وعن جنس ما يقوله الناس وعن كتابتهم وتلك إنما هي دوال على كلامه القديم إذ الشئ له وجود عينا ووجود ذهنا ووجود عبارة ووجود كتابة فالكتابة تدل على العبارة والعبارة تدل على ما في الذهن وما في الذهن يدل على ما في الخارج وهو الكلام القديم والدوال الثلاثة حادثة والقرآن يطلق بالاشتراك فيطلق على القراءة الحاصلة بالحروف وبالأصوات فهذه حادثة مخلوقة للّه تعالى دالة على كلامه القديم بواسطة ما في الذهن فقولك سمعت القرآن فالمسموع إنما هو القراءة الحادثة الدالة على كلامه القديم فهي غيره ولذا صحت الإضافة في قولك قراءة القرآن عبادة ويطلق أيضا على ما بين الدفتين من النقوش المسمي بالمصحف وهذا حادث أيضا إذ هو فعل العبد والعبد بجميع أفعاله مخلوق ويطلق أيضا بالحقيقة على القرآن الحكيم كلام رب العالمين أي الذي نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين فحيث وصف القرآن بما هو من لوازم القدم كقولنا القرآن غير مخلوق دل على أن المراد الكلام القديم القادم بذاته تعالى وحيث وصف بما هو من لوازم الحدوث كقولنا القرآن مخلوق دل على أن المعنى اللفظي أو النقوش الحادثة كقولنا فلان يحسن القرآن وقولك يحرم على الإطلاق لشموله كلامه تعالى القديم وشموله الحادث أيضا ولا يقال مخلوق لشموله لهما إلا عند نصب قرينة تبين المراد قال السعد رحمه اللّه على العقائد عقب القرآن بكلام اللّه تعالى لما ذكر المشايخ من أنه يقال القرآن كلام اللّه غير مخلوق لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحرف قديم كما ذهب إليه بعض الحنابلة يعني به ابن تيمية الحراني جهلا وعنادا وأقام غير المخلوق مقام (٢٥) غير الحادث تنبيها على اتحادهما وقصدا لجري الكلام على وفق الحديث حيث قال عليه السلام القرآن كلام اللّه غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر باللّه العظيم وتنصيصا على محل الخلاف بالعبارة المشهورة فيما بين الفريقين وهو أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق ولهذا نترجم المسألة بمسألة خلق القرآن وتحقيق الخلاف بيننا وبينهم يرجع إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف وهو لا يقولون بحدوث الكلام النفسي ودليلنا ما مر إن ثبت بالإجماع وتواتر النقل عن الأنبياء عليهم السلام أنه تعالى متكلم ولا معنى له سوى أنه متصف بالكلام ونمنع قيام اللفظي الحادث بذاته تعالى فتعين النفسي القديم وأما استدلالهم بأن القرآن متصف بما هو من صفات المخلوقين وسمات الحدوث من التأليف والنظم والانزال وكونه عربيا مسموعا فصيحا معجزا إلى غير ذلك فإنما يقوم حجة على هذه الحنابلة لا علينا لأنا قائلون بحدوث النظم وإنما الكلام في المعنى القديم والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه تعالى متكلما ذهبوا إلى أنه متكلم بمعنى إيجاد الأصوات والحروف في محلها أو إيجاد أشكال الكتابة في اللوح المحفوظ وإن لم يقرأ على اختلاف بينهم وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة لا من أوجدها وإلا لصح اتصاف الباري تعالى بالأعراض المخلوقة له تعالى عن ذلك علوا كبيرا انتهى وحاصله أنه اتفق المتكلمون على أنه تعالى متكلم للإجماع على أنه حي فلزم أن يتصف بالتكلم إذ لو لم يوصف به لوصف بضده وهو نقص في حقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا والاختلاف إنما هو في معنى الكلام فعند أهل السنة أن كلامه تعالى قائم بذاته كسائر صفاته وليس بحرف ولا صوت ولا متبعض ولا متجز وعند المعتزلة محدث مخلوق ولم يكن تعالى متكلما به في الأزل مستمسكين بقوله تعالى حتى يسمع كلام اللّه والمسموع هو الألفاظ المركبة من الحروف فيكون مخلوقا ومعنى كونه متكلما أي موجد لهذه الحروف والأصوات وبقوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر والمنزل في وقت مخصوص يلزمه الحدوث والجواب إن المعنى حتى يسمع ما يدل على كلام اللّه وأنزلناه أي المقروء الدال على كلامه تعالى القديم وقرآنا معبرا عنه بالعربية المفهمة تقريبا للفهم عن كلامه القديم الذي ليس بحرف ولا صوت إذ الحروف والأصوات حادثان وذاته تعالى قديمة والقديم لا يقوم به الحادث فمن قال إن كلام اللّه تعالى القائم بذاته مخلوق حادث فقد كفر كما قدمنا ومن قال لا أدري أمخلوق أم غير مخلوق فهو أشر ممن قال إنه مخلوق كمن قال لا أعرف المؤمن خير أم الكافر ونقل شيخنا الحديث المتقدم عن الفردوسي مسندا من حديث جماعة من الصحابة رضي اللّه عنهم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال القرآن كلام اللّه تعالى غير مخلوق فمن قال غيرها فقد كفر وفي لفظ لأنس رضي اللّه عنه فاقتلوه وقال الفراء ابن جماعة روينا بالسند عن الربيع (٢٦) عن أحمد أن رجلا سأله أصلي خلف من يشرب الخمر فقال لا فقال أصلي خلف من يقول إن القرآن مخلوق فقال سبحان اللّه أنهاك عن مؤمن وتسألني عن كافر انتهى والعلم أن هذه المسألة قد انتشر فيها الكلام جدا وهي مما وجه بها تسمية هذا العلم بالكلام لأنها أشهر مباحثها وأكثرها جدالا حتى أن بعض أهل الحق قتل لما لم يقل بخلق القرآن والمحنة بذلك وقعت في زمن الخلفاء العباسيين وأول من أظهر القول بخلق القرآن المأمون بن السيد هارون الرشيد في سنة ٢١٤ بعد وفاة الإمام الشافعي رحمه اللّه بنحو تسع سنين فأجاب كرها أكثر من دعاه إلى ذلك وامتنع الخائفون من عذاب اللّه تعالى فحبس وأهين منهم أبو مسهر الغساني إلى أن مات في أيام المعتصم ثم لما ولي أخوه المعتصم أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد شدد المحنة وضرب الإمام ثم لما ولي ابنه هارون بالغ في المحنة بإشارة ابن داود وقتل نصر بن أحمد الخزاعي بسبب ذلك وفي تلك السنة مات أبو يعقوب يوسف البويطي في السجن كما أعلمه بذلك الإمام رحمه اللّه عند موته بأنه يموت في قيوده ويقال إن الواثق تاب عن ذلك في آخر عمره ثم لما ولى المتوكل جعفر بن المعتصم كشف المحنة وقمع البدعة وأكرم الإمام أحمد كما في شرح ابن الفرس النجاري تتمة اللفظ الدال على الكلام النفسي إن كان عربيا فالقرآن الكريم الذي أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم وإن كان عبرانيا فالتوراة الذي أنزل على موسى عليه السلام وإن كان قبطيا فالزبور الذي أنزل على داود عليه السلام وإن كان سريانيا فالإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام فالاختلاف في العبارات الحادثة لا في كلامه تعالى الإعراب ما نافية بمعنى ليس القرآن اسمها ومخلوقا خبرها ويصح رفعه على عدم أعمالها وكلام الرب فاعل تعالى وعن جنس المقال متعلق بتعالى (وحاصل معنى البيت) إنه يجب على المكلف أن يعتقد أن القرآن الذي هو كلام اللّه تعالى قديم منزه عن الحدوث وعن جنس قول البشر وعن الحروف والأصوات وأن القائل بخلقه وحدوثه فهو كافر فإن المقروء بألسنتنا المكتوب في مصاحفنا حادث دال على كلامه القديم قال الناظم رحمه اللّه |