Geri

   

 

 

İleri

 

٥ الإسناد

ثمَّ الإِسْنادُ وهُو الطَّريقُ المُوصِلَةُ إِلى المتنِ.

والمَتْنُ: هُو غايَةُ ما يَنْتَهي إِليه الإِسنادُ مِن [ الكلامِ ]، وهُو إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ، ويقتَضي لفظُهُ – إِمَّا تَصْريحاً أو حُكْماً – أَنَّ المنَقْولَ بذلك الإِسنادِ مِن قولِهِ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ، أو مِن فِعْلِهِ، أو مِن تَقريرِهِ.

٥-١

مثالُ المَرفوعِ مِن القولِ تَصريحاً: أَن يقولَ الصَّحابيُّ: سمعتُ النبيَّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: كذا، أو: حدَّثَنا رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ بكَذا، أو يقولُ هو أو غيرُه: قالَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ كذا، أو: عنْ رسولِ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ أَنَّه قالَ كذا، أو نحوَ ذلك.

ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ تَصريحاً: أَن يقولَ الصَّحابيُّ: رأَيْتُ رسولَ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ فعَلَ كذا، أو يقولَ هُو أو غيرُه: كانَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ يفعَلُّ كذا.

ومِثالُ المَرفوعِ مِن التَّقريرِ تَصريحاً: أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ: فعَلْتُ بحضرَةِ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ كذا، أو يقولَ هو أو غيرُه: فعَلَ فُلانٌ بحَضْرَةِ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ كذا، ولا يذكُرُ إِنكارَهُ لذلك.

ومثالُ المرفوعِ مِن القولِ حُكْماً لا تَصْريحاً: مصدرية أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ – الَّذي لم يأْخُذْ عَنِ الإِسرائيليَّاتِ – ما لا مجالَ للاجْتِهادِ فيهِ، ولا [ لهُ ] تعلُّقٌ ببيانِ لُغةٍ أو شرحِ غريبٍ؛ كالإِخْبارِ عنِ الأمورِ الماضيةِ مِن بدْءِ الخَلْقِ وأَخْبارِ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام، أو الآتيةِ كالملاحمِ والفِتَنِ وأَحوالِ يومِ القيامةِ.

وكذا الإِخْبارُ عمَّا يحْصُلُ بفِعْلِهِ ثوابٌ مَخْصوصٌ أو عِقابٌ مَخْصوصٌ.

وإِنَّما كانَ لهُ حُكْمُ المَرفوعِ؛ لأنَّ إِخبارَهُ بذلك يقتَضي مُخْبِراً لهُ، و [ ما ] لا مَجالَ للاجتِهادِ فيهِ يَقتَضي مُوقِفاً للقائلِ بهِ، ولا مُوقِفَ للصَّحابَةِ إِلاَّ النبيُّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ، أو بعضُ مَن يُخْبِرُ عَن الكُتبِ القديمةِ، فلهذا وقعَ الاحْتِرازُ عنِ القسمِ الثَّاني، وإِذا كانَ كذلك؛ فلهُ حُكْمُ ما لو قالَ: قالَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ؛ فهُو مَرْفوعٌ؛ سواءٌ كانَ ممَّا سمِعَهُ منهُ أو عنهُ بواسِطةٍ.

ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ حُكماً: أَنْ يفعَلَ الصَّحابيُّ ما لا مَجالَ للاجْتِهادِ فيهِ فيُنَزَّلُ على أَنَّ ذلك عندَه عنِ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ كما قالَ الشافعيُّ [ – رضيَ اللّهُ عنهُ – ] في صلاةِ عليٍّ كرم اللّه وجهه في الكُسوفِ في كُلِّ ركعةٍ أَكثرَ مِن رُكوعَيْنِ.

ومثالُ المَرفوعِ مِن التَّقريرِ حُكْماً: أَنْ يُخبِرَ الصَّحابيُّ أَنَّهُم كانُوا يفْعَلونَ في زمانِ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ كذا؛ فإِنَّهُ يكونُ لهُ حُكمُ الرَّفعِ مِن جهةِ أَنَّ الظَّاهِرَ هو اطِّلاعُهُ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ على ذلك لتوفُّرِ دَواعِيهِم على سُؤالِهِ عن أُمورِ دِينِهم، ولأنَّ ذلك الزَّمانَ زمانُ [ نُزولِ ] الوَحْيِ فلا يقعُ مِن الصَّحابةِ فِعْلُ شيءٍ ويستمرُّونَ عليهِ إِلاَّ وهُو غيرُ ممنوعِ الفعلِ.

وقدِ استدلَّ جابِرٌ وأَبو سعيدٍ [ الخُدريُّ ] – رضي اللّه عنهما – على جوازِ العَزْلِ بأَنَّهُم كانوا يفعَلونَه والقرآنُ ينزِلُ، ولو كانَ ممَّا يُنْهَى عنهُ لنَهى [ عنهُ ] القُرآنُ.

ويلتَحِقُ بقَولي: حُكْماً؛ ما وردَ بصيغةِ الكنايةِ في موضعِ الصِّيَغِ الصَّريحةِ بالنِّسبةِ إِليه صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ؛ كقولِ التَّابعيِّ عنِ الصَّحابيِّ: يرفعُ الحَديثَ، أو: يرويهِ، أو: يَنْميهِ، أو: روايةً، أو: يبلُغُ بهِ، أو: رواهُ.

وقد يَقْتَصِرونَ على القولِ معَ حَذْفِ القائلِ، ويُريدونَ بهِ النبيَّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ؛ كقولِ ابنِ سيرينَ عنْ أَبي هُريرةَ [ رضيَ اللّهُ عنهُ ] قالَ: قالَ: تُقاتِلونَ قَوْماً الحديث.

وفي كلامِ الخَطيبِ أَنَّه اصْطِلاحٌ خاصٌّ بأَهلِ البَصرَةِ.

ومِن الصِّيَغِ المُحْتَمِلةِ: قولُ الصَّحابيِّ: مِن السُّنَّةِ كذا، فالأكثرُ على أَنَّ ذلك مرفوعٌ.

ونقلَ ابنُ عبدِ البرِّ فيهِ الاتِّفاقَ؛ قالَ: وإِذا قالَها غيرُ الصَّحابيِّ؛ فكذلك، ما لم يُضِفْها إِلى صاحِبِها كسُنَّةِ العُمَرينِ.

وفي نَقْلِ الاتِّفاقِ نَظَرٌ، فعَنِ الشَّافعيِّ في أَصلِ المسأَلةِ قولانِ.

وذَهَبَ إِلى أَنَّهُ غيرُ مرفوعٍ أَبو بكرٍ الصَّيرفيُّ مِن الشَّافعيَّةِ، وأَبو بكرٍ الرَّازيُّ مِن الحنفيَّةِ، وابنُ حزمٍ مِن أَهلِ الظَّاهِرِ، واحتَجُّوا بأَنَّ السُّنَّةَ تتردَّدُ بينَ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ وبينَ غيرِه، وأُجِيبوا بأَنَّ احْتِمالَ إِرادةِ غيرِ النبيِّ صلّى اللّهُ [ عليهِ ] وسلَّمَ بعيدٌ.

وقد روى البُخاريُّ في صحيحِه في حديثِ ابنِ شِهابٍ، عن سالِمِ بنِ عبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ عن أَبيهِ في قصَّتِه معَ الحجَّاج حينَ قالَ لهُ: إِنْ كُنْتَ تُريدُ السُّنَّةَ فهَجِّرْ بالصَّلاةِ [ يومَ عَرَفَةَ ].

 قالَ ابنُ شِهابٍ: فقلتُ لسالِمٍ: أَفَعَلَهُ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ ؟ فقالَ: وهل يَعْنونَ [ بذلك ] إِلاَّ سُنَّتَهُ [ صلّى اللّه تعالى عليه وآله وسلم ] ؟!

فنَقَلَ سالمٌ – وهو أَحدُ الفُقهاءِ السَّبعَةِ مِن أَهلِ المدينةِ وأَحدُ الحفَّاظِ مِن التَّابعينَ [ عنِ الصَّحابةِ ] – أَنَّهم إِذا أَطلَقوا السُّنَّةَ؛ لا يُريدونَ بذلك إِلاَّ سُّنَّةَ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ.

وأَمَّا قولُ بعضِهِم: إِذا كانَ مرفوعاً؛ فلمَ لا يقولونَ فيهِ: قالَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلم ؟ فجوابُهُ: إِنَّهُم تَرَكوا الجَزْمَ بذلك تورُّعاً واحتِياطاً.

ومِن هذا: قولُ أَبي قِلابةَ عن أَنسٍ: مِن السُّنَّةِ إِذا تزوَّجَ البِكْرَ على الثَّيِّبِ أَقامَ عندَها سَبعاً، أَخرَجاهُ في [ الصَّحيحينِ ].

قالَ أَبو قِلابةَ عن أنس: لو شِئْتُ لقلتُ: إِنَّ أَنساً رفَعَهُ إِلى النبيِّ [ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ ].

أَي: لو قُلتُ: لمْ أَكْذِبْ؛ لأَنَّ قولَه: مِن السُّنَّةِ هذا معناهُ، و لكنَّ إِيرادَهُ بالصِّيغَةِ التي ذَكَرها الصَّحابيُّ أَوْلى.

ومِن ذلك: قولُ الصَّحابيِّ: أُمِرْنا بكَذا، أو: نُهينا عنْ كذا، فالخِلافُ [ فيهِ ] كالخِلافِ في الَّذي قَبْلَهُ؛ لأنَّ مُطْلَقَ ذلك ينصَرِفُ بظاهِرِه إِلى مَنْ لهُ الأمرُ والنَّهْيُ، وهُو الرَّسولُ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ.

وخالفَ في ذلك طائفةٌ و تمَسَّكوا باحْتِمالِ أَنْ يَكونَ المُرادُ غيرَه، كأَمرِ القُرآنِ، أو الإِجماعِ، أو بعضِ الخُلفاءِ، أو الاستِنْباطِ !

وأُجيبوا بأَنَّ الأصلَ هو الأوَّلُ، وما عداهُ مُحْتَمَلٌ، لكنَّهُ بالنسبةِ إليهِ مرجوحٌ.

وأَيضاً؛ فمَن كان في طاعةِ رئيسٍ إِذا قالَ: أُمِرْتُ؛ لا يُفْهَمُ عنهُ أَنَّ آمِرَهُ [ ليس ] إِلاَّ رئيسُهُ.

وأَمَّا قولُ مَن قالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُظنَّ ما ليسَ بأمرٍ أمراً ! فلا اخْتِصاصَ لهُ بهذهِ المسأَلَةِ، بل [ هُو ] مذكورٌ فيما لو صرَّحَ، فقالَ: أَمَرَنا رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ بكذا.

وهو احْتِمالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الصَّحابيَّ عدلٌ عارفٌ باللِّسانِ، فلا يُطلقُ ذلك إِلاَّ بعدَ التحقُّقِ.

ومن ذلك: قولُه: كنَّا نفعَلُ كذا، فلهُ حُكْمُ الرَّفعِ أَيضاً كما تقدَّمَ.

ومِن ذلك: أَنْ يَحْكُمَ الصَّحابيُّ على فِعلٍ مِن الأفعالِ بأَنَّه طاعةٌ للّهِ تعالى أو لرسولِهِ [ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ ]، أو معصيةٌ؛ كقولِ عَمَّارٍ: مَن صامَ اليومَ الَّذي يُشَكُّ فيهِ؛ فقدْ عَصى أَبا القاسِمِ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ.

 فلهذا حُكْمُ الرَّفعِ أَيضاً؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذلك ممَّا تلقَّاهُ عنِ [ النبيِّ ] صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ.

٥-٢

أو تَنْتَهي غايةُ الإِسنادِ إلى الصَّحابِيِّ كَذلكَ؛ أَي: مِثْلَ ما تقدَّمَ في كونِ اللَّفْظِ يَقْتَضي التَّصريحَ بأَنَّ المَقولَ هُو مِن قولِ الصَّحابيِّ، أو مِن فعلِهِ، أو مِن تقريرِه، ولا يَجيءُ فيهِ جَميعُ ما تقدَّمَ بل مُعْظَمُه.

والتَّشبيهُ لا تُشْتَرَطُ فيهِ المُساواةُ مِن كلِّ جهةٍ.

ولمَّا [ أَنْ ] كانَ هذا المُخْتَصرُ شامِلاً لجَميعِ أَنواعِ [ عُلومِ ] الحَديثِ اسْتَطْرَدْتُ [ منهُ ] إِلى تَعريفِ الصَّحابيِّ مَن ما هو، فقلتُ: وهُو: مَنْ لَقِيَ النَّبِيِّ صلّى اللّهُ [ تَعالى ] عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ ُمؤمِناً بهِ وماتَ عَلى الإِسلامِ، ولو تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ؛ [ في ] الأَصَحَّ.

 والمرادُ باللِّقاءِ ما هُو أَعمُّ مِن المُجالَسَةِ والمُماشاةِ ووصولِ أَحدِهِما إِلى الآخَرِ وإِنْ لم يُكالِمْهُ، وتدخُلُ [ فيهِ ] رُؤيَةُ أَحدِهما الآخَرَ، سواءٌ كانَ ذلك بنفسِه أو بغيْرِه.

والتَّعْبيرُ بـاللُّقِيَّ أَولى مِن قولِ بعضِهم: الصَّحابيُّ مَن رأَى النبيَّ [ صلّى اللّه تعالى عليه وآله وسلم ]؛ لأنَّهُ يخرُجُ [ حينئذٍ ] ابنُ أُمِّ مكتومٍ ونحوُهُ مِن العُميانِ، وهُم صحابةٌ بلا تَرَدُّدٍ، واللُّقي في هذا التَّعريفِ كالجِنْسِ.

و في قَوْلِي: مُؤمناً؛ كالفَصْلِ، يُخْرِجُ مَن حَصَلَ لهُ اللِّقاءُ المذكورُ، لكنْ في حالِ كونِه كافراً.

وقَوْلي: بهِ فصلٌ ثانٍ يُخْرِجُ مَن لَقِيَهُ مُؤمِناً لكنْ بغيرِه مِن الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام.

لكنْ: هل يُخْرِجُ مَن لَقِيَهُ مُؤمِناً بأَنَّهُ سَيُبْعَثُ ولم يُدْرِكِ البِعْثَةَ كبحيرة ؟ و فيهِ نَظرٌ !

وقَوْلي: وماتَ على الإِسلامِ؛ فصلٌ ثالِثٌ يُخْرِجُ مَنِ ارتَدَّ بعدَ أَنْ لَقِيَه مُؤمِناً [ بهِ ]، وماتَ على الرِّدَّةِ؛ كعُبَيْدِ اللّهِ بنِ جَحْشٍ وابن خَطَلٍ.

وقَوْلي: [ ولو ] تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ؛ أي: بينَ لُقِيِّهِ لهُ مُؤمِناً [ بهِ ] وبينَ موتِه على الإِسلامِ؛ فإِنَّ اسمَ الصُّحبةِ باقٍ لهُ، سواءٌ أَرجَعَ إِلى الإسلامِ في حياتِهِ [ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ ] أو بعدَه، [ و ] سواءٌ أَلَقِيَهُ ثانياً أَمْ لا !

وقَوْلي: في الأصحِّ؛ إِشارةٌ إِلى الخِلافِ في المسأَلةِ.

ويدلُّ على رُجْحانِ الأوَّلِ قصَّةُ الأشْعَثِ بنِ قيسٍ؛ فإِنَّه كانَ ممَّنِ ارتَدَّ، وأُتِيَ بهِ [ إِلى ] [ أَبي بكرٍ ] [ الصدِّيقِ ]  أَسيراً، فعادَ إِلى الإسلامِ، فقَبِلَ منهُ ذلك، وزوَّجَهُ أُخْتَهُ، ولم يتخلَّفْ أَحدٌ عنْ ذِكْرِهِ في الصَّحابةِ ولا عنْ تخريجِ أحاديثِه في المَسانيدِ وغيرِها.

تَنْبيهانِ:

أَحَدُهما: لا خَفاءَ برُجْحانِ رُتبةِ مَن لازَمَه صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ، وقاتَلَ معَهُ، أو قُتِلَ تَحْتَ رايتِه، على مَن لم يُلازمْهُ، أو لم يَحْضُرْ معهُ مشهداً، و على مَن كلَّمَهُ يَسيراً، أو ماشاهُ قَليلاً، أو رآهُ على بُعْدٍ، أو في حالِ الطُّفولةِ، وإِن كانَ شرفُ الصُّحْبةِ حاصِلاً للجَميعِ.

ومَنْ ليسَ لهُ مِنهُم سماعٌ منهُ؛ فحديثُهُ مُرْسَلٌ من حيثُ الرِّوايةُ، وهُم معَ ذلك معددونَ في الصَّحابةِ؛ لما نالوهُ مِن شرفِ الرُّؤيةِ.

 و ثانيهِما: يُعْرَفُ كونُه صحابيّاً؛ بالتَّواتُرِ، أو الاستفاضَةِ، أو الشُّهْرةِ، أو بإِخبارِ بعضِ الصَّحابةِ، أو بعضِ ثقاتِ التَّابِعينَ، أو بإِخبارِهِ عنْ نفسِهِ بأَنَّهُ صحابيٌّ؛ إِذا كانَ دعواهُ ذلكَ تدخُلُ تحتَ الإِمكانِ !

وقد استَشْكَلَ هذا الأخيرَ جماعَةٌ مِن حيثُ [ إِنَّ ] دعواهُ ذلك نظيرُ دَعْوى مَن قالَ: أَنا عَدْلٌ !

ويَحْتاجُ إِلى تأَمُّلٍ !!

٥-٣

أو تنتَهي غايةُ الإِسنادِ إِلى التَّابِعيَ، وهو مَنْ لَقِيَ الصَّحابِيَّ كذلكَ، وهذا متعلِّقٌ باللُّقيِّ، وما ذُكِرَ معهُ؛ إِلاَّ قَيْدُ الإِيمانِ بهِ؛ فذلكَ خاصٌّ بالنبيِّ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلم.

وهذا هُو المُختارُ؛ خلافاً لمَن اشْتَرَطَ في التَّابعيِّ طولَ المُلازمةِ، أو صُحْبَةَ السَّماعِ، أو التَّمييزَ.

وبَقِيَ بينَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ طبَقَةٌ اخْتُلِفَ في إِلحاقِهِم بأَيِّ القِسمينِ، وهُم المُخَضْرَمونَ من الَّذين أَدْرَكوا الجَاهِليَّةَ والإِسلامَ، ولم يَرَوا النبيَّ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلم، فعدَّهُم ابنُ عبدِ البرِّ في الصَّحابةِ.

 وادَّعَى عِياضٌ وغيرُه أَنَّ [ ابنَ ] عبدِ البرِّ يقولُ: إِنَّهُم صحابةٌ ! وفيهِ نظرٌ؛ لأنَّهُ [ أَفصَحَ ] في [ خُطبةِ ] كتابِه بأَنَّهُ إِنَّما أَورَدَهُم ليكونَ كتابُه جامِعاً مُستوعِباً لأهْلِ القرنِ الأوَّلِ.

والصَّحيحُ أَنَّهُم مَعددونَ في كبارِ التَّابعينَ سواءٌ عُرِف أَنَّ الواحِدَ منهُم كانَ مُسلماً في زمنِ النبيِّ [ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلم ] – كالنَّجاشيِّ – أَمْ لا ؟

 لكنْ إِنْ ثبتَ أَنَّ النبيَّ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلم ليلةَ الإِسْراءِ كُشِفَ لهُ عن جَميعِ مَن في الأرْضِ فرَآهُمْ، فيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَنْ كانَ مُؤمِناً [ بهِ ] [ في حياتِه ] [ إِذْ ذاكَ ] – وإِنْ لمْ يُلاقِهِ – في الصَّحابةِ؛ لحُصولِ الرُّؤيَةِ من جانِبِهِ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ.

فـالقسمُ الأوَّلُ ممَّا تقدَّمَ ذِكْرُهُ مِن الأقْسامِ الثَّلاثةِ – وهُو ما تَنْتَهي إلى [ النَّبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ ] غايةُ الإِسنادِ – هُو المَرْفوعُ، سواءٌ كانَ ذلك الانتهاءُ بإِسنادٍ مُتَّصلٍ أَم لا.

والثَّانِي: هو المَوْقوفُ، وهو ما انْتَهَى إلى الصَّحابيِّ.

والثَّالِثُ: المَقْطوعُ، وهو ما ينْتَهي إلى التَّابعيِّ.

ومَنْ هو دُونَ التَّابِعِيِّ مِن أَتْباعِ التَّابعينَ فمَنْ بعْدَهُم؛ فيهِ؛ أَي: في التَّسميةِ، مِثْلُهُ؛ أَي: مثلُ ما ينتَهي إِلى التَّابعيِّ في تسميةِ [ جميعِ ] ذلك مَقطوعاً، وإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: موقوفٌ على فُلانٍ.

فحَصَلَتِ التَّفرقةُ في جميع الاصطِلاحِ بين المَقطوعِ والمُنْقَطِعِ، [ فالمُنْقَطِعُ ] مِن مباحِثِ الإِسنادِ كما تقدَّمَ، والمَقْطوعُ مِن مباحِثِ المَتْنِ كما ترى.

وقد أَطلَقَ بعضُهُم هذا في موضِعِ هذا، وبالعكْسِ؛ تجوُّزاً عنِ الاصطِلاح.

 ويُقالُ للأخيرينِ؛ أي: الموقوفِ والمَقطوعِ: الأَثَرُ.

٥-٤

والمُسْنَدُ في قولِ أَهلِ الحَديث: هذا [ حديثٌ مُسنَدٌ ]: هو: مرفوعُ صَحابِيٍّ بِسَنَدٍ ظاهِرُهُ الاتِّصالُ، فقولي: مرفوعٌ كالجنسِ، وقولي: صحابيٍّ كالفصلِ، يَخرُجُ بهِ ما رفعهُ التَّابعيُّ؛ فإِنَّه مُرْسَلٌ، أو مَن دونَه؛ [ فإِنَّه ] مُعْضَلٌ أو مُعلَّقٌ.

و في قولي: ظاهِرُهُ الاتِّصالُ يُخْرِجُ ما ظاهِرُه الانقطاعُ، ويُدخِل [ ما ] فيه الاحتمالُ، وما يوجَدُ فيه حقيقةُ الاتِّصالِ مِن بابِ أَولى.

ويُفهَمُ مِن التَّقييدِ بالظُّهورِ أَنَّ الانقطاعَ الخفيَّ كعنعَنَةِ المدلِّسِ والمُعاصرِ الذي لم [ يثبُتْ ] لُقِيُّهُ؛ لا يُخرِجُ عن الحديثَ عن [ كونِه ] مُسنَداً؛ لإِطباقِ [ الأئمَّةِ ] الَّذينَ خَرَّجوا المسانيدَ على ذلك.

وهذا التَّعريفُ مُوافِقٌ لقَولِ الحاكمِ: المُسْنَدُ: ما رواهُ المحدِّثُ عن شيخٍ يَظْهَرُ سماعُه منهُ، وكذا شيخُه من شيخِهِ مُتَّصلاً إِلى صحابيٍّ إِلى رسولِ اللّهِ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلم.

وأمَّا الخَطيبُ فقالَ: المُسْنَدُ: المُتَّصلُ.

فعلى هذا: الموقوفُ إِذا جاءَ بسندٍ مُتَّصلٍ يسمَّى عندَه مسنداً، لكنْ قال: إِنَّ ذلك قد يأْتي، لكنْ بقلَّةٍ.

وأَبعدَ ابنُ عبدِ البرِّ حيثُ قالَ: المُسندُ المرفوعُ ولم يتعرَّضْ للإِسنادِ؛ فإِنَّهُ يصدُقُ على المُرسلِ والمُعضَلِ والمُنقطِعِ إِذا كانَ المتنُ مرفوعاً ! ولا قائلَ بهِ.

فإِنْ قَلَّ عَدَدَهُ؛ أي: عددُ رجالِ السَّندِ،

٥-٥

فإِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ بذلك العددِ القليلِ بالنِّسبةِ إِلى [ أَيِّ ] سندٍ آخَرَ يَرِدُ بهِ ذلك الحَديثُ بعينِه بعددٍ كثيرٍ، أو ينتَهِيَ إِلى إِمامٍ مِن أَئمَّةِ الحَديثِ ذي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ كالحفظِ [ والفِقهِ ] والضَّبطِ والتَّصنيفِ وغيرِ ذلك من الصِّفاتِ المُقتَضِيَةِ للتَّرجيحِ؛ كشُعْبَةَ ومالكٍ والثَّوريِّ والشَّافعيِّ والبُخاريِّ [ ومُسلمٍ ] ونحوِهم:

 فالأوَّلُ وهُو ما ينتَهي إِلى النَّبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ: العُلُوُّ المُطْلَقُ، فإِن اتَّفَقَ أَنْ يكونَ سندُهُ صحيحاً؛ كانَ الغايةَ القُصوى، وإِلاَّ فَصُورةُ العلوِّ فيهِ موجودةٌ ما لم يكُنْ موضوعاً؛ [ فهُو ] كالعدَمِ.

والثَّانِي: العُلُوُّ النِّسْبِيُّ: وهُو ما يقلُّ العددُ فيهِ إِلى ذلك الإِمامِ، ولو كانَ العددُ من ذلك الإِمامِ إِلى مُنتهاهُ كَثيراً.

وقد عَظُمَتْ رغبةُ المُتأَخِّرينَ فيهِ، حتَّى غَلَبَ ذلك على كثيرٍ منهُم، بحيثُ أَهْمَلوا الاشتِغالَ بما هُو أَهمُّ منهُ.

وإِنَّما كانَ العلوُّ مَرغوباً فيهِ؛ لكونِه أَقربَ إِلى الصحَّةِ، وقلَّةِ الخطأِ؛ لأنَّهُ ما مِن راوٍ مِن رجالِ الإِسنادِ إِلاَّ والخطأُ جائزٌ عليهِ، فكلَّما كَثُرتِ الوسائطُ وطالَ السَّندُ؛ كَثُرَتْ مظانُّ التَّجويزِ، وكلَّما  قلَّتْ؛ قلَّتْ.

فإِنْ كانَ في النُّزولِ مَزِيَّةٌ ليستْ في العلوِّ؛ كأَنْ يكونَ رجالُه أَوثقَ [ منهُ ]، أو أَحفَظَ، أو أَفقهَ، أو الاتِّصالُ فيهِ أَظهرَ؛ فلا تردُّدَ في أَنَّ النُّزولَ حينئذٍ أَولى.  

وأَمَّا مَن رجَّحَ النُّزولَ مُطلقاً، واحْتَجَّ بأَنَّ كَثرةَ البحثِ تقتَضي المشقَّةَ؛ فيعظُمُ الأجْرُ !

فذلك ترجيحٌ بأَمرٍ أَجنبيٍّ عمَّا يتعلَّقُ بالتَّصحيحِ والتَّضعيفِ.

وفيهِ؛ أي: في العلوِّ النسبيِّ المُوافَقَةُ، وهي الوُصولُ إلى شيخِ [ أحدِ ] المُصَنِّفينَ مِن غيرِ طريقهِ؛ أَي: الطَّريقِ التي تصلُ إِلى ذلك المصنِّفِ المُعيَّنِ.

 و مثالُه: روى البُخاريُّ عن قُتيبةَ عن مالكٍ حديثاً...

فلو رَوَيْناهُ مِن طريقِهِ؛ كانَ بينَنا وبينَ قُتَيْبَةَ ثمانيةٌ، ولو رَوْينا ذلك الحَديثَ [ بعينِه ] مِن [ طريقِ ] أَبي العبَّاس السَّرَّاجِ عن قُتيبةَ مثلاً؛ لكانَ بينَنا وبينَ قُتيبةَ مثلاً فيه سبعةٌ.

فقدْ حَصَلَتْ لنا المُوافقةُ معَ البُخاريِّ في شيخِهِ بعينِهِ معَ عُلوِّ الإِسنادِ [ على الإِسنادِ ] إِليهِ.

 وفيهِ؛ أَي: في العلوِّ النسبيِّ البَدَلُ، وهو الوُصولُ إِلى شيخِ شيخِهِ [ كذلكَ ].

كأَنْ يقعَ لنا ذلك الإِسنادُ على الإسناد إليه بعينِهِ مِن طريقٍ أُخرى إِلى القعنَبِيِّ عن مالكٍ، فيكونُ القَعْنَبيُّ بَدلاً فيهِ مِن قُتَيْبَةَ.

وأَكثرُ ما يعتَبِرونَ المُوافَقَةَ والبَدَلَ إِذا قارَنَا العُلُّوَّ، وإِلاَّ؛ فاسمُ المُوافقةِ والبَدلِ [ واقِعٌ ] بدُونِه.

وفيهِ؛ أَي: العُلوِّ النسبيِّ المُساواةُ، وهي: استواءُ عدَدِ الإِسنادِ مِن الرَّاوي إِلى آخِرِهِ؛ أَي: الإِسنادِ مَعَ إِسنادِ أَحدِ المُصَنِّفينَ.

كأَنْ يروِيَ النَّسائيُّ مَثلاً حَديثاً [ يقعُ ] بينَهُ وبينَ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ [ فيهِ ] أَحدَ عشرَ نفساً، فيقعُ لنا ذلك الحديثُ بعينِه بإِسنادٍ آخَرَ إِلى النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ يقعُ بينَنا فيه وبينَ النَّبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ أَحدَ عشرَ نفساً، فنُساوي النَّسائيَّ مِن حيثُ العددُ معَ قطعِ النَّظرِ عن مُلاحظةِ ذلك الإِسنادِ الخاصِّ.

وفيهِ؛ أَي: [ في ] العلوِّ النسبيِّ أَيضاً المُصافَحَةُ، وهي: الاستواءُ مَعَ تِلْميذِ ذلكَ المُصَنِّفِ على الوجْهِ المَشروحِ أَوَّلاً.

وسُمِّيتْ مُصافحةً لأنَّ العادةَ جرتْ في الغالبِ بالمُصافحةِ بينَ مَن تلاقَيا، ونحنُ في هذهِ الصُّورةِ كأَنَّا لَقينا النَّسائيَّ، فكأَنَّا صافَحْناهُ.

 ويُقابِلُ العُلُوُّ بأَقْسَامِهِ المَذكورةِ النُّزولُ فيكونُ كلُّ قسمٍ مِن أَقسامِ العُلوِّ يُقابِلُهُ قسمٌ مِن أَقسامِ النُّزولِ؛ [ خِلافاً ] لمَن زعمَ أَنَّ العُلوَّ قد يقعُ غيرَ تابعٍ للنُّزولِ.