Geri

   

 

 

İleri

 

٤ الأخبار المردودة

ثمَّ المردودُ: وموجِبُ الرَّدِّ [ إِمَّا أَنْ يكونَ لِسَقْطٍ مِن إِسنادٍ ]، أو طَعْنٍ من إسناد في رَاوٍ على اخْتِلافِ وُجوهِ الطَّعْنِ، أَعَمُّ مِن أَنْ يكونَ لأمْرٍ يرجِعُ إِلى دِيانةِ الرَّاوي أو إِلى ضبْطِهِ.

والسَّقْطُ إِمَّا أَنْ يَكونَ مِنْ مَبادئ السَّنَدِ مِن تصرُّفِ مُصَنِّفٍ، أو [ من ] آخِرِهِ؛ أي: الإِسنادِ بعدَ التَّابعيِّ، أو غير ذلك،

فالأوَّلُ: المُعَلَّقُ سواءٌ كانَ [ السَّاقِطُ ] واحداً أو أَكثرَ.

وبينَهُ وبينَ المُعْضَلِ الآتي ذِكْرُهُ عمومٌ وخُصوصٌ مِن وجْهٍ.

فمِنْ حيثُ تعريفُ المُعْضَلِ بأَنَّهُ سقَطَ منهُ اثنانِ فصاعِداً يجتَمِعُ معَ بعضِ صُورِ المُعَلَّقِ.

٤-١ 

ومِن حيثُ تقييدُ المُعَلَّقِ بأَنَّه مِن تصرُّفِ مُصَنِّفٍ مِن مبادئِ السَّنَدِ يفتَرِقُ منهُ، إِذْ هُو أَعَمُّ مِن ذلك.

[ و ] مِن صُوَرِ المُعَلَّقِ: أَنْ يُحْذَفَ جميعُ السَّندِ، ويُقالَ [ مثلاً ]: قالَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ.

ومنها: أَنْ يُحْذَفَ جميع السند [ إِلاَّ ] الصَّحابيَّ أو [ إِلاَّ ] الصَّحابيَّ والتَّابعيَّ [ معاً ].

ومنها: أَنْ يَحْذِفَ مَن حَدَّثَهُ ويُضيفَهُ إِلى مَنْ فوقَهُ، فإِنْ كانَ مَن فوقَه شيخاً لذلك المصنِّفِ؛  فقد اخْتُلِفَ فيه: هل يُسمَّى تعليقاً أو لاَ ؟

والصَّحيحُ في هذا: التَّفصيلُ: فإِنْ عُرِفَ بالنَّصِّ أو الاستِقْراءِ أ َنَّ كان فاعِلَ ذلك مُدَلِّسٌ قضي بهِ، وإِلاَّ فتعليقٌ.

وإِنَّما ذُكِرَ التَّعليقُ في قسمِ المردودِ للجَهْلِ بحالِ المحذوفِ.

وقد يُحْكَمُ بصحَّتِهِ إِنْ عُرِفَ بأَنْ يجيءَ مسمَّىً مِن وجهٍ آخَرَ، فإِنْ قالَ: جميعُ مَن أَحْذِفُهُ ثقاتٌ؛ جاءتْ مسأَلةُ التَّعديلِ على الإِبهامِ.

و [ عندَ ] الجُمهورِ لا يُقْبَلُ حتَّى يُسمَّى.

لكنْ قالَ ابنُ الصَّلاحِ هنا: إِنْ وَقَعَ الحَذْفُ في كتابٍ التُزِمَتْ [ صحَّتُه ]؛ كالبُخاريِّ؛ فما أَتى فيه بالجَزْمِ دلَّ على أَنَّه ثَبَتَ إِسنادُهُ عِندَه، وإِنَّما حُذِفَ لغَرَضٍ مِنَ الأَغْراضِ.

ومَا أَتى فيهِ بغيرِ [ الجَزْمِ ]؛ ففيهِ مقالٌ.

وقد أَوْضَحْتُ أَمثلةَ ذلك في النُّكتِ على ابنِ الصَّلاحِ.

٤-٢

والثَّاني: وهو ما سَقَطَ مِن آخِرِهِ مَن بعدَ التَّابعيِّ هو المُرْسَلُ:

وصورَتُه أَنْ يقولَ التابعيُّ سواءٌ كانَ كبيراً أو صغيراً قالَ رسولُ اللّه صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ كذا، أو: فعَلَ كذا، أو: فُعِلَ بحضرتِه كذا، أو نحوُ ذلك.

 وإِنَّما ذُكِرَ في قسمِ المَردودِ للجَهْلِ بحالِ المحذوفِ؛ لأَنَّه يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ صحابيّاً، ويُحْتَمَلُ [ أَنْ يكونَ ] تابعيّاً، وعلى الثَّاني يُحْتَمَلُ [ أَنْ يكونَ ضَعيفاً، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ ثقةً، وعلى الثَّاني يُحْتَمَلُ ] أَنْ يكونَ حَمَلَ عن صحابيٍّ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ حَمَلَ عن تابعيٍّ آخَرَ، وعلى الثَّاني فيعودُ الاحتمالُ السَّابقُ، ويتعدَّدُ و أَمَّا بالتَّجويزِ العقليِّ، فإِلى ما لا نهايةَ لهُ، وأَمَّا بالاستقراءِ؛ فإِلى ستَّةٍ أو سبعةٍ، وهو أَكثرُ ما وُجِدَ مِن روايةِ بعضِ التَّابعينَ عن بعضٍ.

فإِنْ عُرِفَ مِن عادةِ التَّابعيِّ أَنَّه لا يُرسِلُ إِلاَّ عن ثِقةٍ؛ فذهَبَ جُمهورُ المحُدِّثينَ إِلى التوقُّفِ؛ لبقاءِ الاحتمالِ، وهُو أَحدُ قولَيْ أَحمدَ.

وثانيهِما – وهُو [ قولُ ] المالِكيِّينَ والكوفيِّينَ – يُقْبَلُ مُطْلقاً.

وقالَ الشَّافِعيُّ [ رضيَ اللّهُ عنهُ ]: يُقْبَلُ إِنِ اعْتَضَدَ بمجيئِهِ مِن وجْهٍ آخَرَ يُبايِنُ الطُّرُقَ الأولى مُسْنَداً كانَ أو مُرْسَلاً؛ ليترجَّحَ احتمالُ كونِ المحذوفِ ثقةً في نفسِ الأمرِ.

ونقلَ أَبو بكرٍ الرَّازيُّ مِن الحنفيَّةِ وأبو الوليدِ الباجِيُّ مِن المالِكيَّةِ أَنَّ الرَّاويَ إِذا كانَ يُرْسِلُ عنِ الثِّقاتِ وغيرِهم لا يُقْبَل مُرسَلُه اتِّفاقاً.

٤-٣

وَالقسمُ الثَّالِثُ مِن أَقسامِ السَّقْطِ مِن الإِسنادِ إِنْ كانَ باثنَيْنِ فصاعِداً مَعَ التَّوالي؛ فهو المُعْضَلُ، وإِلاَّ فإِنْ كانَ السَّقْطُ باثنينِ غيرِ متوالِيَيْنِ في مَوضِعَيْنِ مثلاً؛ فـهُو المُنْقَطِعُ، وكذا إِنْ سَقَطَ واحدٌ فقط، أو أَكثرُ مِن اثنينِ، لكنَّه بشرطِ عدمِ التَّوالي  

ثمَّ إِنَّ السَّقطَ مِن الإِسنادِ قدْ يَكونُ واضِحاً يحصُلُ الاشْتِراكُ في معرفَتِه ككَوْنِ الرَّاوي مثلاً لم يُعْاصِرْ مَن روى عنهُ أو يكونُ خَفِيّاً؛ فلا يُدْرِكُهُ إِلاَّ الأئمَّةُ الحُذَّاقُ المُطَّلِعونَ على طُرُقِ الحديثِ وعِلَلِ الأسانيدِ.

فالأَوَّلُ وهُو الواضحُ يُدْرَكُ بعَدمِ التَّلاقي بينَ الرَّاوِي وشيخِهِ بكونِه لمْ يُدْرِكْ عصْرَهُ أو أَدْرَكَهُ لكنَّهما لم يجْتَمِعا، وليستْ لهُ [ منهُ ] إِجازةٌ ولا وِجَادَةٌ.

ومِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلى التَّاريخِ لتضمُّنِهِ تحريرَ مواليدِ الرُّواةِ ووَفياتِهِم وأَوقاتِ طَلَبِهِم وارْتِحالِهم.

وقد افْتُضِحَ أَقوامٌ ادَّعَوا الرِّوايةَ عن شيوخٍ ظهرَ بالتَّاريخِ كَذِبُ دعْواهُم.

٤-٤

وَالقسمُ الثَّانِي: وهو الخَفِيُّ المُدَلَّسُ؛ بفتحِ اللاَّمِ، سُمِّي بذلك لكونِ الرَّاوي لم يُسَمِّ مَن حَدَّثَهُ، وأَوهَمَ سماعَهُ للحَديثِ مِمَّن لم يُحَدِّثْهُ بهِ.

واشْتِقاقُهُ مِن الدَّلَسِ – بالتَّحريكِ – وهو اختلاطُ الظَّلامِ [ بالنُّورِ ]، سُمِّيَ بذلك لاشتراكِهِما [ في ] الخَفاءِ.

ويَرِدُ المُدَلَّسُ بِصيغَةٍ مِن صيغِ الأداءِ تَحْتَمِلُ وقوعَ اللُّقِيَّ بينَ المُدَلِّسِ ومَن أَسنَدَ عنهُ كَعَن وَكذا قَاَلَ.

ومتى وقَعَ بصيغةٍ صريحةٍ لا تَجَوُّزَ فيها؛ كانَ كذِباً.

وحُكْمُ مَن ثبتَ عنهُ التَّدليسُ إِذا كانَ عَدْلاً أَنْ لا يُقْبَلَ منهُ إِلاَّ ما صرَّحَ فيهِ بالتَّحديثِ على الأصحِّ.

وكَذا المُرْسَلُ الخَفِيُّ إِذا صَدَرَ مِنْ مُعاصِرٍ لَمْ يَلْقَ مَن حَدَّثَ عنهُ، بل بينَه وبينَه واسِطةٌ.

والفَرْقُ بينَ المُدَلَّسِ والمُرْسَلِ الخفيِّ دقيقٌ حَصَلَ تحريرُه بما ذُكِرَ هنا:

وهو أَنَّ التَّدليسَ يختصُّ بمَن روى عمَّن عُرِفَ لقاؤهُ إِيَّاهُ، فأَمَّا إِن عاصَرَهُ ولم يُعْرَفْ أَنَّه لقِيَهُ؛ فَهُو المُرْسَلُ الخَفِيُّ.

ومَن أَدْخَلَ في تعريفِ التَّدليسِ المُعاصَرَةَ، ولو بغيرِ لُقي؛ لزِمَهُ دُخولُ المُرْسَلِ الخَفِيِّ في تعريفِهِ.

والصَّوابُ التَّفرقةُ بينَهُما.

ويدلُّ على أَنَّ اعتبارَ اللُّقي في التَّدليسِ دونَ المُعاصرةِ وحْدَها لابُدَّ منهُ إِطْباقُ أَهلِ العلمِ بالحديثِ على أَنَّ روايةَ المُخَضْرَمينَ كأَبي عُثمانَ النَّهْديِّ وقيسِ بنِ أَبي حازِمٍ عن النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ مِن قبيلِ الإِرسالِ لا مِن قَبيلِ التَّدليسِ.

ولو كانَ مجرَّدُ المُعاصرةِ يُكْتَفى [ بهِ ] في التَّدليسِ؛ لكانَ هؤلاءِ مُدلِّسينَ لأنَّهْم عاصَروا النبيَّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ قطعاً، ولكنْ لمْ يُعْرَفْ هل لَقُوهُ أَمْ لا؟

وممَّن [ قالَ ] باشْتِراطِ اللِّقاءِ في التَّدليسِ الإِمامُ الشافعيُّ وأَبو بكرٍ البزَّارُ، وكلامُ الخطيبِ في الكِفايةِ يقتَضيهِ، وهُو المُعْتَمَدُ.

ويُعْرَفُ عدمُ المُلاقاةِ بإِخبارِهِ عنْ نفسِهِ بذلك، أو بجَزْمِ إِمامٍ مُطَّلعٍ.

ولا يَكْفي أَنْ يَقَعَ في بعض الطُّرُقِ زيادةُ راوٍ [ أو أَكثرَ ] بينَهُما؛ لاحتمال أَنْ يكونَ مِن المزيدِ، ولا يُحْكَمُ في هذه الصُّورةِ بحُكْمٍ كُلِّيٍّ؛ لتَعارُضِ احتمالِ الاتِّصالِ والانْقِطاعِ.

 وقد صنَّفَ فيهِ الخَطيبُ كتابَ التَّفصيلِ لمُبْهَمِ المراسيلِ، وكتاب المزيدِ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ.

 و[ قد ] انْتَهَتْ هُنا حكم أَقسامُ حُكمِ السَّاقِطِ مِن الإِسنادِ.

ثمَّ الطَّعْنُ يكونُ بعشرةِ أَشياءَ، بعضُها يكون أَشدُّ في القَدْحِ مِن بعضٍ، خمسةٌ منها تتعلَّقُ بالعدالَةِ، وخمسةٌ تتعلَّقُ بالضَّبْطِ.

ولم يَحْصُلِ الاعتناءُ بتمييزِ أَحدِ القِسمينِ مِن الآخَرِ لمصلحةٍ اقْتَضَتْ ذلك، وهي ترتيبُها على الأشدِّ فالأشدِّ في موجَبِ الرَّدِّ على سَبيلِ التَّدلِّي؛ لأنَّ الطَّعْنَ إِمَّا أَنْ يكونَ:

لِكَذِبِ الرَّاوِي في الحديثِ النبويِّ بأَنْ يرويَ عنهُ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ ما لمْ يَقُلْهُ متَعمِّداً لذلك.

أو تُهْمَتِهِ بذلكَ؛ بأَنْ لا يُرْوى ذلك الحديثُ إِلاَّ مِن جِهتِهِ، ويكونَ مُخالِفاً للقواعِدِ المعلومةِ، وكذا مَنْ عُرِفَ بالكذبِ في كلامِهِ، و [ إِنْ ] لم يَظْهَرْ منهُ وقوعُ ذلك في الحَديثِ النبويِّ، وهذا دُونَ الأوَّلِ.

أو فُحْشِ غَلَطِهِ؛ أي: كَثْرَتِه.

أو غَفْلَتِهِ عن الإِتْقانِ.

أو فِسْقِهِ؛ أي: بالفعلِ والقَوْلِ ممَّا لا يبلُغُ الكُفْرَ.

[ و ] بينَهُ وبينَ الأوَّلِ عُمومٌ وخصوص مطلق، وإِنَّما أُفْرِدَ الأوَّلُ لكونِ القَدْحِ بهِ أَشدَّ في هذا الفنِّ.

وأَمَّا الفِسقُ بالمُعْتَقَدِ؛ فسيأْتي بيانُه.

أو وَهَمِهِ بأَنْ يَرْوِيَ على سبيلِ التوهُّمِ.

أو مُخالَفَتِه؛ أَي: للثِّقاتِ.

أو جَهالَتِهِ؛ أي بأَنْ لا يُعْرَفَ فيهِ تعديلٌ و [ لا ] تَجريحٌ [ مُعيَّنٌ ].

أو بِدْعتِهِ، وهي اعتقادُ ما أُحْدِثَ على خِلافِ المَعروفِ عن النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ، لا بِمعانَدَةٍ، بل بنَوْعِ شبهةٍ.

أو سوءِ حِفْظهِ، وهِيَ عبارةٌ عن أَنْ لا يكونَ غَلَطُهُ أَقلَّ مِن إِصابتِه.

٤-٥

فـالقسمُ الأوَّلُ، وهُو الطَّعْنُ [ بكَذِبِ ] الرَّاوي في الحَديثِ النبويِّ هو المَوضوعُ، والحُكْمُ عليهِ بالوَضْعِ إِنَّما هُو بطريقِ الظَّنِّ الغالِبِ لا بالقَطْعِ، إِذ [ قَدْ ] يَصْدُقُ الكَذوبُ، لكنَّ لأهلِ العلمِ بالحديثِ مَلَكَةً قويَّةً يميِّزون بها بين ذلك، وإِنَّما يقومُ بذلك منهُم مَن يكونُ إِطِّلاعُهُ تامّاً، وذهْنُهُ ثاقِباً، وفهمُهُ قويّاً، ومعرِفتُهُ بالقرائنِ الدَّالَّةِ على ذلك متمَكِّنَةً.

وقد يُعْرَفُ الوضعُ بإِقرارِ [ واضِعِه ]، قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ رحمه اللّه: لكنْ لا يُقْطَعُ بذلك؛ لاحتمالِ أَنْ يكونَ كَذَبَ في ذلك الإِقرارِ أ.هـ.

وفهِمَ منهُ بعضُهم أَنَّهُ لا يُعْمَلُ بذلك الإِقرارِ أَصلاً، وليسَ ذلكَ مرادَهُ، وإِنَّما نفى القَطْعَ بذلك، ولا يلزَمُ مِن نفيِ القَطْعِ نفيُ الحُكْمِ؛ لأنَّ الحُكْمَ يقعُ بالظَّنِّ الغالِبِ، وهُو هُنا كذلك، ولولا ذلك لَما ساغَ قتْلُ المُقرِّ بالقتلِ، ولا رَجْمُ المُعْتَرِفِ بالزِّنى؛ لاحتمالِ أَنْ يكونا كاذِبَيْن فيما اعْتَرَفا به!

ومِن القَرائنِ الَّتي يُدْرَكُ بها الوَضْعُ ما يؤخَذُ مِن حالِ الرَّاوي؛ كما وقَعَ لمأْمونِ بنِ أَحمدَ أَنَّه ذُكِرَ بحضرَتِه الخلافُ في كونِ الحسنِ سَمِعَ مِن أَبي هُريرةَ أو لاَ ؟ فساقَ في الحالِ إِسناداً إِلى النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ أَنَّهُ قالَ: سمِعَ الحسنُ مِن أَبي هُريرة.

وكما وقعَ لِغياثِ بنِ إِبراهيمَ حيثُ دخَلَ على المَهْدي فوجَدَهُ يلعبُ بالحَمَام، فساقَ في الحالِ [ إِسناداً ] إِلى النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ: أَنَّه [ قالَ ]: لا سَبَقَ إِلاَّ في نَصْلٍ أو خُفٍّ أو حافِرٍ أو جَناحٍ، فزادَ في الحديثِ: أو جَناحٍ، فَعَرَفَ المهديُّ أَنَّه كذبَ لأجلِهِ، فأَمرَ بذَبْحِ الحَمَامِ.

ومِنها ما يُؤخَذُ مِن حالِ المَرويِّ كأَنْ يكونَ مُناقِضاً لنَصِّ القُرآنِ أو السُّنَّةِ المُتواتِرَةِ أو الإِجماعِ القطعيِّ أو صَريحِ العَقْلِ، حيثُ لا يَقْبَلُ شيءٌ مِن ذلك التَّأْويلَ.

ثمَّ المَرويُّ تارةً يختَرِعُهُ الواضِعُ، وتارةً يأْخُذُ [ مِن ] كلامِ غيرِهِ كبَعْضِ السَّلفِ الصَّالحِ أو قُدماءِ الحُكماءِ أو الإِسرائيليَّاتِ، أو يأْخُذُ حَديثاً ضَعيفَ الإِسنادِ، فيُرَكِّبُ لَهُ إِسناداً صحيحاً ليَرُوجَ.

والحامِلُ للواضِعِ على الوَضْعِ:

إِمَّا عَدَمُ الدِّينِ؛ كالزَّنادقةِ.

أو غَلَبَةُ الجَهلِ؛ كبعضِ المتعبِّدينَ.

أو فَرْطُ العَصبيَّةِ؛ كبعضِ المُقلِّدينَ.

أو اتِّباعُ هوى بعضِ الرُّؤساءِ.

أو الإِغرابُ لقصدِ الاشتِهارِ !

وكُلُّ ذلك حَرامٌ بإِجماعِ مَن يُعْتَدُّ بهِ، إِلاَّ أَنَّ بعضَ الكَرَّاميَّةِ وبعضَ المُتصوِّفةِ نُقِلَ عنهُم إِباحَةُ الوَضْعِ في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ والترتيب، وهو خطأ مِن فاعلِهِ، نشَأَ عَن جَهْلٍ؛ لأنَّ التَّرغيبَ والتَّرهيبَ مِن جُملةِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ.

 واتَّفقوا على أَنَّ تَعَمُّدَ الكذبِ على النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ مِن الكَبائِرِ.

وبالَغَ فيه أَبو مُحمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ فكَفَّرَ مَن تعمَّدَ الكَذِبَ على النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ.

واتَّفَقوا على تَحْريمِ روايةِ الموضوعِ إِلاَّ مقروناً ببيانِه؛ لقولِه صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ: مَن حَدَّثَ عَنِّي بحديثٍ يُرى أَنَّهُ كذبٌ؛ فهُو أَحدُ الكاذِبَيْنِ، أَخرجَهُ مسلمٌ.

٤-٦

وَالقسمُ الثَّاني مِن أَقسامِ المَردودِ، وهو ما يكونُ بسبَبِ تُهمَةِ الرَّاوي بالكَذِبِ، و هُو المَتْروكُ.

والثَّالِثُ: المُنْكَرُ؛ على رَأْيِ مَن لا يَشْتَرِطُ في المُنْكَرِ قيدَ المُخالفةِ.

وكذا الرَّابِعُ والخَامِسُ، فمَنْ فَحُشَ غَلَطُهُ، أو كَثُرَتْ غَفلَتُه، أو ظهَرَ فِسْقُه؛ فحديثُهُ مُنْكَرٍ.

ثمَّ الوَهمُ، وهُو [ القِسمُ ] السَّادسُ، وإِنَّما أُفْصِحَ بهِ لِطولِ الفَصْلِ، إِنِ اطُّلعَ عَليهِ؛ أي: على الوَهَمِ بِالقَرائِنِ الدَّالَّةِ على وَهَمِ راويهِ مِن وَصْلِ مُرْسَل أو مُنْقَطع، أو إِدخال حَديثٍ في حَديثٍ، أو نحوِ ذلك مِن الأشياءِ القادحةِ.

٤-٧

وتَحْصُلُ معرفةُ ذلك بكثرةِ التَّتبُّعِ، وجَمْعِ الطُّرُقِ؛ فـهذا هو المُعَلَّلُ، وهو مِن أَغمَضِ أَنواعِ عُلومِ الحديثِ وأَدقِّها، ولا يقومُ بهِ إلاَّ مَن رَزَقَهُ اللّهُ [ تعالى ] فهْماً ثاقِباً، وحِفْظاً واسِعاً، ومعرِفةً تامَّةً بمراتِبِ الرُّواةِ، ومَلَكَةً قويَّةً بالأسانيدِ والمُتونِ، ولهذا لم يتكلَّمْ فيهِ إِلاَّ القليلُ مِن أَهلِ هذا الشأْنِ؛ كعليِّ بنِ المَدينيِّ، وأَحمدَ بنِ حنبلٍ، والبُخاريِّ، ويَعقوبَ بنِ أبي شَيْبةَ، وأَبي حاتمٍ، وأَبي زُرعةَ، والدَّارَقُطنيُّ.

وقد تَقْصُرُ عبارةُ المُعَلِّل عَن إِقامةِ الحُجَّة على دَعْواهُ؛ كالصَّيْرَفيِّ في نَقْدِ الدِّينارِ والدِّرهَمِ.

٤-٨

ثمَّ المُخالفَةُ وهو القسمُ السابعُ إِنْ كانتْ واقعةً بـسببِ تَغْييرِ السِّياقِ؛ أي: سياقِ الإسنادِ؛ فـالواقعُ فيهِ ذلك التَّغييرُ هو مُدْرَجُ الإِسْنادِ، وهو أَقسامٌ:

 الأوَّلُ: أَنْ يَرْوِيَ جماعةٌ الحديثَ بأَسانيدَ مُختلفةٍ، فيرويهِ عنهُم راوٍ، فيَجْمَعُ الكُلَّ على إِسنادٍ واحِدٍ مِن تلكَ الأسانيدِ، ولا يُبَيِّنُ الاختلافَ.

[ و ] الثَّاني: أَنْ يكونَ المتنُ عندَ راوٍ إِلاَّ طَرفاً منهُ؛ [ فإِنَّه عندَه بإِسنادٍ آخَرَ، فيرويهِ راوٍ عنهُ تامّاً بالإِسنادِ الأوَّلِ.

ومنهُ أَنْ يسمَعَ الحديثَ مِن شيخِهِ إِلاَّ طرفاً منهُ ] فيسمَعَهُ عَن شيخِهِ بواسطةٍ، فيرويهِ راوٍ عنهُ تامّاً بحَذْفِ الواسِطةِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يكونَ عندَ الرَّاوي متْنانِ مُخْتَلِفان بإِسنادينِ مختلفينِ، فيرويهِما راوٍ عنهُ مُقتَصِراً على أَحدِ الإِسنادينِ، أو يروي أَحَدَ الحَديثينِ بإِسنادِهِ الخاصِّ بهِ، لكنْ يزيدُ فيهِ مِن المَتْنِ الآخَرِ ما ليسَ في [ المَتْنِ ] الأوَّلِ.

الرَّابعُ: أَنْ يسوقَ [ الرَّاوي ] الإِسنادَ، فيَعْرِضُ لهُ عارِضٌ، فيقولُ له كلاماً مِن قِبَلِ نفسِهِ، فيظنُّ بعضُ مَن سَمِعَهُ أَنَّ ذلكَ الكلامَ هُو متنُ [ ذلكَ ] الإسنادِ، فيَرويهِ عنهُ كذلك.

هذهِ أَقسامُ مُدْرَجِ الإِسنادِ.

وأَمَّا مُدْرَجُ المَتْنِ، فهُو أَنْ يَقَعَ في المتنِ كلامٌ ليسَ منهُ، فتارةً يكونُ في أَوَّلِه، وتارةً يكون في أَثنائِه، وتارةً يكون في آخِرِهِ – وهو الأكثرُ – لأنَّهُ يقعُ بعطفِ جُملةٍ على جُملةٍ، أو بِدَمْجِ مَوْقوفٍ مِن كلامِ الصَّحابةِ أو مَنْ بعْدَهُم بِمَرْفوعٍ مِن كلامِ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ مِن غيرِ فصلٍ، فـهذا هُو مُدْرَجُ المَتْنِ.

ويُدْرَكُ الإِدراجُ:

بوُرودِ روايةٍ مُفَصِّلةٍ للقَدْرِ المُدْرَجِ مِمَّا أُدْرِجَ فيهِ.

أو بالتَّنصيصِ على ذلك مِن الرَّاوي، أو مِن بعضِ الأئمَّةِ المُطَّلعينَ.

أو باستحالَةِ كونِ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ يقولُ ذلك.

وقد صنَّفَ الخَطيبُ في المُدْرَجِ كتاباً ولخَّصْتُهُ وزدتُ عليهِ قدْرَ ما ذكَرَ مرَّتينِ أو أَكثرَ، وللّهِ الحمدُ.

٤-٩

أو [ إِنْ ] كانَتِ المُخالفةُ بِتَقْدِيمٍ أو تَأْخيرٍ؛ أي: في الأسماءِ كَمُرَّةَ بنِ كعبٍ، وكَعبِ بنِ مُرَّةَ؛ لأنَّ اسمَ أَحدِهِما اسمُ أَبي الآخَرِ؛ فـهذا هو المَقْلوبُ، وللخطيبِ فيهِ كتابُ يُسمى رافعِ الارْتِيابِ في المقلوب من الأسماء والأنساب.

وقد يَقَعُ القلبُ في المتنِ أَيضاً؛ ويصير كحديثِ أَبي هُريرةَ رضي اللّه تعالى عنه عندَ مُسلمٍ في السَّبعةِ الَّذينَ يُظِلُّهُم اللّهُ تحتَ ظلِّ عَرْشِهِ، ففيهِ: [ و ] رَجلٌ تصدَّقَ بصدَقةٍ أَخْفاها حتَّى لا تَعْلَمَ يمينُهُ ما تُنْفِقُ شِمالُهُ، فهذا ممَّا انْقَلَبَ على أَحدِ الرُّواةِ، وإِنَّما هو: حتَّى لا تعْلَمَ شِمالُه ما تُنْفِقُ يمينُهُ؛ كما في الصَّحيحينِ.

٤-١٠

أو إِنْ كانتِ المُخالفةُ بِزيادةِ راوٍ في أَثناءِ الإِسنادِ، ومَن لم يَزِدْها أَتقَنُ ممَّن زادَها، فـهذا هُو المَزيدُ في مُتَّصِلِ الأَسانِيدِ.

وشرطُهُ أَنْ يقعَ التَّصريحُ بالسَّماعِ في مَوْضِعِ الزِّيادةِ، وإِلاَّ؛ فمتى كانَ مُعَنْعَناً – مثلاً –؛ ترجَّحَتِ الزِّيادةُ.

٤-١١

أو [ إِنْ ] كانتِ المُخالفةُ بِإِبْدَالِهِ؛ أي: الراوي، ولا مُرَجِّحَ لإِحدى الرِّاويتينِ على الأخرى، فـ [ هذا ] هو المُضْطَرِبُ، وهو يقعُ في الإِسنادِ غالباً، وقد يقعُ في المتْن.

لكنْ قلَّ أَنْ يَحْكُمَ المحدِّثُ على الحديثِ بالاضطرابِ بالنِّسبةِ إلى الاختلافِ في المَتْنِ دونَ الإِسنادِ.

وقد يَقَعُ الإِبدالُ عَمْداً لمَن يُرادُ اخْتِبارُ حِفْظِهِ امتحاناً مِن فاعِلِهِ؛ كما وقعَ للبُخاريِّ والعُقَيْليِّ وغيرِهِما، وشَرْطهُ أَنْ لا يُستمرَّ عليهِ، بل ينتهي بانْتهاءِ الحاجةِ.

فلو وَقَعَ الإِبدالُ [ عمداً ] لا لمصلحةٍ، بل للإِغرابِ مثلاً؛ فهو مِن أَقسامِ الموضوعِ، ولو وقعَ غَلَطاً؛ فهُو مِن المقلوبِ أو المُعَلَّلِ.

٤-١٢

أو إِنْ كانتِ المُخالفةُ بتَغْييرِ حرفٍ أو حُروفٍ مَعَ بَقاءِ صورةِ الخَطِّ في السِّياقِ.

فإِنْ كانَ ذلك بالنِّسبةِ إِلى النَّقْطِ؛ فالمُصَحَّفُ.

وَإِنْ كانَ بالنِّسبةِ إلى الشَّكْلِ؛ فـالمُحَرَّفُ، ومعرفةُ هذا النَّوعِ مُهمَّةٌ.

وقد صنَّف فيهِ: العَسْكَريُّ، والدَّارَقُطنِيُّ، وغيرُهما.

وأَكثرُ ما يقعُ في المُتونِ، وقد يقعُ في الأسماءِ الَّتي في الأسانيدِ.

ولا يَجُوزُ تَعَمُّدُ تَغْييرِ صورَةِ المَتْنِ مُطلقاً، ولا الاختصارُ منه بالنَّقْصِ ولا إِبْدالُ اللَّفْظِ المُرادِفِ باللَّفْظِ و المُرادِفِ لهُ؛ إِلاَّ لِعالمِ بمَدْلولاتِ الألْفاظِ، وبِما يُحيلُ المَعاني على الصَّحيحِ في المسأَلَتَيْنِ:

أَمَّا اخْتِصارُ الحَديثِ؛ فالأكْثَرونَ على جَوازِهِ بِشرطِ أَنْ يكونَ الَّذي يختَصِرُهُ عالِماً؛ لأنَّ العالِمَ لا يَنْقُصُ مِن الحديثِ إِلاَّ ما لا تعلُّقَ لهُ بما يُبْقيهِ [ منهُ ]؛ [ بحيثُ ] لا تختِلفُ الدِّلالةُ، ولا يختَلُّ البَيانُ، حتَّى يكونَ المَذكورُ والمَحذوفُ بمنزِلَةِ خَبَرينِ، أو يَدُلُّ ما ذَكَرَهُ على [ ما ] حَذَفَهُ؛ بخِلافِ الجاهِلِ، فإِنَّهُ قد يَنْقُصُ ما لَهُ تعلُّقٌ؛ كتَرْكِ الاستِثناءِ.

وأَمَّا الراوية بالمعنى؛ فالخِلافُ فيها شَهيرٌ، والأكثرُ على الجَوازِ أَيضاً، ومِن أَقوى حُججهِم الإِجماعُ على جوازِ شرحِ الشَّريعةِ للعَجَمِ بلسانِهِم للعارِفِ بهِ، فإِذا جازَ الإِبدالُ بلُغةٍ أُخرى؛ فجوازُهُ باللُّغةِ العربيَّةِ أَولى.

وقيلَ: إِنَّما يَجوزُ في المُفْرَداتِ دونَ المُرَكَّباتِ !

وقيلَ: إِنَّما يَجُوزُ لمَن يستَحْضِرُ اللَّفْظَ ليتَمَكَّنَ مِن التَّصرُّفِ فيه.

وقيلَ: إِنَّما يَجوزُ لمَن كانَ يحفَظُ الحَديثَ فنَسِيَ لفظَهُ، وبقيَ معناهُ مُرْتَسماً في ذِهنِه، فلهُ أَنْ يروِيَهُ بالمعنى لمصلَحَةِ تحصيلِ الحُكْمِ منهُ؛ بخِلافِ مَن كانَ مُسْتَحْضِراً لِلَفْظِهِ.

وجَميعُ ما تقدَّمَ يتعلَّقُ بالجَوازِ وعَدَمِه، ولا شكَّ أَنَّ الأوْلى إِيرادُ الحَديثِ بأَلفاظِهِ دُونَ التَّصرُّفِ فيهِ.

 قالَ القاضي عِياضٌ: يَنْبَغِي سَدُّ بابِ الرِّاويةِ بالمَعْنَى لئلاَّ يتَسَلَّطَ مَن لاَ يُحْسِنُ ممَّن به يظنُّ أَنّهُ يُحْسِنُ؛ كما وقَعَ لِكثيرٍ مِن الرُّواةِ قديماً وحَديثاً، واللّهُ المُوَفِّقُ.

٤-١٣

فإِنْ خَفِيَ المَعْنَى بأَنْ كانَ اللَّفْظُ مستَعْمَلاً بقلَّةٍ احْتيجَ إِلى الكُتُبِ المصنَّفَةِ في شَرْحِ الغَريبِ؛ ككتابِ أَبي عُبَيْدٍ اللّه القاسِمِ بنِ سلامٍ، وهو غيرُ مرتَّبٍ، وقد رتَّبَهُ الشيخُ مُوفَّقُ الدِّينِ ابنُ قُدامَة على الحُروفِ.

وأَجْمَعُ منهُ كتابُ أَبي عُبيدٍ الهَرَوِيِّ، وقد اعتَنَى بهِ الحافظُ أَبو موسى المَدينِيُّ فنَقَّبَ عليهِ واسْتَدْرَكَ.

وللزَّمَخْشَرِيِّ كتابٌ اسمُهُ الفائِقُ حسنُ التَّرتيبِ.

ثمَّ جَمَعَ الجَميعَ ابنُ الأثيرِ في النِّهايةِ، وكتابُهُ أَسهَلُ الكُتُبِ تناوُلاً، مع إِعواز قليلٍ فيهِ.

وإِنْ كانَ اللَّفْظُ مُستَعْملاً بكثرةٍ، لكنَّ في مَدلُولِهِ دِقَّةً؛ احْتِيجَ إلى الكُتُبِ المُصنَّفَةِ في شَرْحِ معاني الأخْبارِ وبيانِ المُشْكِلِ منها.

٤-١٤

وقد أَكثرَ الأئمَّةُ مِن التَّصانيفِ في ذلك؛ كالطَّحاويِّ والخَطَّابيِّ وابنِ عبدِ البَرِّ وغيرِهم.

ثمَّ الجَهالةُ بالرَّاوِي، وهِيَ السَّببُ الثَّامِنُ في الطَّعْنِ، وسَبَبُها أَمْرانِ:

أَحَدُهُما: أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعوتُهُ مِن اسمٍ أو كُنْيَةٍ أو لَقَبٍ أو صِفَةٍ أو حِرْفةٍ أو نَسَبٍ، فيشتَهِرُ بشيءٍ مِنها، فيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ مِن الأغْراضِ، فيُظنُّ أَنَّه آخرُ، فيَحْصُلُ الجهْلُ بحالِهِ.

وصنَّفُوا فِيهِ؛ أي: في هذا النَّوعِ المُوْضِحَ لأوهامِ الجمْعِ والتَّفريقِ؛ أَجادَ فيهِ الخَطيبُ، وسبَقَهُ [ إِليه ] عبدُ الغنيِّ [ بنُ سعيدٍ المِصْريُّ وهو الأَزْدِيُّ أيضاً، ] ثمُّ الصُّورِيُّ.

ومِن أَمثلتِهِ محمَّدُ بنُ السَّائِبِ بنِ بِشْرٍ الكَلْبِيُّ؛ نَسَبَهُ بعضُهم إِلى جَدِّهِ، فقالَ: محمَّدُ بنُ بِشرٍ، وسمّاهُ بعضُهم حمَّادَ بنَ السَّائبِ، وكَناهُ بعضُهُم أَبا النَّصرِ، وبعضُهُم أَبا سعيدٍ، وبعضُهم أَبا هِشامٍ، فصارَ يُظَنُّ أَنَّهُ جماعةٌ، وهو واحِدٌ، ومَن لا يعرِفُ حقيقةَ الأمرِ فيهِ لا يعرِفُ شيئاً مِن ذلك.

وَالأمرُ الثَّاني: أَنَّ الرَّاويَ قد يكونُ مُقِلاً مِن الحديثِ، فلا يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ:

وَقد صَنَّفوا فِيهِ الوُحْدانَ – وهو [ مَن ] لم يَرْوِ عنهُ إِلاَّ واحِدٌ، ولو سُمِّيَ – فمِمَّن جَمَعَهُ مُسلمٌ، والحسنُ بنُ سُفيانَ، وغيرُهما.

أو لاَ يُسمَّى الرَّاوِي اختِصَاراً مِن الرَّاوي عنهُ؛ كقولِه: أَخْبَرَني فلانٌ، أو شيخٌ، أو رجلٌ، أو بعضُهم، أو ابنُ فلانٍ.

ويُستَدَلُّ على معرفَةِ اسمِ المُبْهَمِ بوُرودِه مِن طريقٍ أُخرى [ مسمّىً [ فيها ] ]:

وَصنَّفوا فيهِ المُبْهَمات.

ولا يُقْبَلُ حديثُ المُبْهَمُ ما لم يُسَمَّ؛ لأنَّ شرطَ قَبولِ الخَبَرِ عدالَةُ راويهِ، ومَن أُبْهِمَ اسمُه لا تُعْرَفُ عَيْنُهُ، فكيفَ [ تُعْرَفُ ] عدالَتُهُ ؟!

وكذا لا يُقْبَلُ خَبَرُه، [ و ] لو أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْديلِ؛ كأَنْ يقولَ الرَّاوي عنهُ: أَخْبَرَني الثِّقُة؛ لأنَّهُ قد يكونُ ثقةً عندَه مجروحاً عندَ غيرِه، وهذا عَلى الأصَحِّ في المسأَلةِ.

ولهذه النُّكتةِ لم [ يُقْبَلِ ] المُرسلُ، ولو أَرسَلَهُ العدلُ جازِماً بهِ لهذا الاحتمالِ بعينِه.

وقيلَ: يُقْبَلُ تمسُّكاً بالظَّاهِرِ، إِذ الجَرْحُ على خِلافِ الأصْلِ.

وقيلَ: إِنْ كانَ القائلُ عالِماً أَجْزأَ ذلك في حقِّ مَن يوافِقُهُ في مَذْهَبِهِ.

وهذا ليسَ مِن مباحِثِ عُلومِ الحَديثِ، واللّهُ المُوفِّقُ.

فإن سُمِّيَ الرَّاوي وانْفَرَدَ راوٍ واحِدٌ بالرِّوايةِ عَنْهُ؛ فـهو مَجْهولُ العَيْنِ؛ كالمُبْهَمِ، [ فلا يُقْبَلُ حديثُهُ ] إِلاَّ أَنْ يُوَثِّقَهُ غيرُ مَنْ ينفَرِدُ عنهُ على الأصحِّ، وكذا مَن يَنْفَرِدُ عنهُ على الأصح إِذا كانَ مُتَأَهِّلاً لذلك.

أو إِنْ روى [ عنهُ ] اثنانِ فصاعِداً ولم يُوَثَّقْ؛ فـ [ هو ] مَجْهولُ الحالِ، وهُو المَسْتورُ، وقد قَبلَ روايتَهُ جماعةٌ بغيرِ قيدٍ، وردَّها الجُمهورُ.

والتَّحقيقُ أَنَّ روايةَ المستورِ ونحوِهِ ممَّا فيهِ الاحتِمالُ لا يُطلَقُ [ القولُ ] بردِّها ولا بِقَبولِها، بل يقال هي موقوفةٌ إِلى اسْتِبانَةِ حالِه كما جَزَمَ بهِ إِمامُ الحَرمينِ.

ونحوُهُ قولُ ابنِ الصَّلاحِ فيمَن جُرِحَ بجَرْحٍ غيرِ مُفَسَّرٍ.

٤-١٥

ثمَّ البِدْعَةُ، وهي السَّببُ التَّاسعُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ في الرَّاوي، وهي إِمَّا أَنْ تَكونَ بمُكَفِّرٍ؛ كأَنْ يعتَقِدَ ما يستَلْزِمُ الكُفْرَ، أو بِمُفَسِّقٍ:

فالأوَّلُ: لا يَقْبَلُ صاحِبَها الجُمهورُ، وقيلَ: يُقْبَلُ مُطلقاً، وقيلَ: إِنْ كانَ لا يعتَقِدُ حِلَّ الكَذِبِ لنُصرَةِ مقالَتِه [ قُبِلَ ].

والتحقيق: أنه لا يُرَدُّ كُلُّ مُكفَّرٍ ببدعَتِه؛ لأَنَّ كلَّ طائفةٍ تدَّعي أَنَّ مخالِفيها مبتَدِعةٌ، وقد تُبالِغُ فتُكفِّرُ مخالِفها، فلو أُخِذَ ذلك على الإِطلاقِ؛ لاسْتَلْزَمَ تكفيرَ جميعِ الطَّوائفِ، فالمُعْتَمَدُ أَنَّ الَّذي تُرَدُّ روايتُهُ مَنْ أَنْكَرَ أَمراً مُتواتِراً مِن [ الشَّرعِ ]، معلوماً مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، وكذا مَن اعتقدَ عكسَهُ.

فأَمَّا مَن لم يَكُنْ بهذهِ الصِّفَةِ، وانْضَمَّ إِلى ذلك ضَبْطُهُ لِما يَرويهِ مَعَ وَرَعِهِ وتَقْواهُ؛ فلا مانِعَ مِن قَبولِهِ أصلاً.

 والثاني: وهو مَن لا تَقْتَضي بدعَتُهُ التَّكفيرَ أَصلاً، [ و ] قد اختُلِفَ أَيضاً في قَبولِهِ ورَدِّهِ:

فقيلَ: يُرَدُّ مُطلَقاً – وهُو بَعيدٌ.

وأَكثرُ مَا عُلِّلَ بهِ أَنَّ في الرِّوايةِ عنهُ تَرْويجاً لأمرِهِ وتَنْويهاً بذِكْرِهِ.

وعلى هذا؛ فيَنْبَغي أَنْ لا يُرْوى عنْ مُبْتَدعٍ شيءٌ يُشارِكُه فيهِ غيرُ مُبتدعٍ.

وقيلَ: يُقْبَلُ مُطْلقاً إِلاَّ إِن اعْتَقَدَ حِلَّ الكَذِبِ؛ كما تقدَّمَ.

 وقيلَ: يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ داعِيةً إِلى بِدعَتِهِ؛ لأنَّ تزيينَ بِدعَتِه قد يَحْمِلُهُ على تَحريفِ الرِّواياتِ وتَسويَتِها على ما يقتَضيهِ مذهَبُه، وهذا في الأصَحِّ.

وأَغْرَبَ ابنُ حِبَّانَ، فادَّعى الاتِّفاقَ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ مِن غيرِ تفصيلِ.

نَعَمْ؛ الأكثرُ على قَبولِ غيرِ الدَّاعيةِ؛ إِلاَّ إنْ رَوى ما يُقَوِّي بِدْعَتَهُ، فيُرَدُّ على المذهَبِ المُخْتارِ، وبهِ صرَّحَ الحافِظُ أَبو إِسحاقَ إِبراهيمُ بنُ يعقوبَ الجُوْزَجانِيُّ شيخُ أَبي داودَ، والنَّسائِيِّ في كتابِه معرفة الرِّجال، فقالَ في وَصْفِ الرُّواةِ: ومِنهُم زائغٌ عن الحَقِّ – أَيْ: عنِ السُّنَّةِ – صادقُ اللَّهجَةِ، فليسَ فيهِ حيلةٌ؛ إِلاَّ أَنْ يُؤخَذَ مِن حديثِه غير ما لا يكونُ مُنْكراً إِذا لم يُقَوِّ [ بهِ ] بدْعَتَهُ اهـ.

وما قالَه متَّجِهٌ؛ لأنَّ العلَّةَ التي لها رُدَّ حديثُ الدَّاعيةِ وارِدةٌ فيما إِذا كانَ ظاهِرُ المرويِّ يُوافِقُ مذهَبَ المُبْتَدِع، ولو لم يكنْ داعيةً، واللّهُ أَعلمُ.

٤-١٦

ثمَّ سوءُ الحِفْظِ وهو السَّببُ العاشِرُ مِن أَسبابِ الطَّعنِ، والمُرادُ بهِ: مَن لم يُرَجَّحْ جانِبُ إِصابتِه على جانِبِ خَطَئهِ، وهو على قسمينِ:

إِنْ كانَ لازِماً للرَّاوي في جَميعِ حالاتِه، فـهُو الشاذُّ؛ على رَأْيِ [ بعضِ أَهلِ الحَديثِ.

أو إن كانَ سوءُ الحفظِ ] طارِئاً على الرَّاوي إِمَّا لكِبَرِهِ أو لذَهابِ بصرِه، أو لاحتِراقِ كُتُبِه، أو عدمِها؛ بأَنْ كانَ يعْتَمِدُها، فرَجَعَ إِلى حفظِهِ، فساءَ، فـهذا هو المُخْتَلِطُ.

والحُكْمُ فيهِ أَنَّ ما حَدَّثَ بهِ قبلَ الاختلاطِ إِذا تَميَّزَ قُبِلَ، وإِذا لم يَتَمَيَّزْ تُوُقِّفَ فيهِ، وكذا مَن اشتَبَهَ الأمرُ فيهِ، وإِنَّما يُعْرَفُ ذلك باعْتِبارِ الآخِذينَ عنهُ.

ومَتى تُوبِعَ السَّيِّءُ الحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ؛ أي كأَنْ يكونَ فوقَهُ أو مِثْلَه لا دُونَه، وكَذا المُخْتَلِطُ الَّذي لم يتَمَيَّزْ و كذا المَسْتورُ والإِسنادُ المُرْسَلُ وكذا المُدَلَّسُ إِذا لم يُعْرَفِ المحذوفُ منهُ صارَ حديثُهُم حَسناً؛ لا لذاتِهِ، بل وَصْفُهُ بذلك بـاعتبارِ المَجْموعِ من المتابِعِ والمتَابَعِ؛ لأنَّ [ معَ ] كلِّ واحدٍ منهُم احْتِمالَ كونِ روايتِه معه صواباً أو غيرَ صوابٍ على حدٍّ سواءٍ.

فإِذا جاءَتْ مِنَ المُعْتَبَرينَ روايةٌ مُوافِقةٌ لأحدِهِم؛ رُجِّحَ أَحدُ الجانِبينِ مِن الاحْتِمالينِ المَذكورَيْنِ، ودلَّ ذلك على أَنَّ الحَديثَ مَحْفوظٌ، فارْتَقى مِن درَجَةِ التوقُّفِ إِلى دَرَجَةِ القَبولِ، [ واللّهُ أَعلمُ ].

ومعَ ارْتِقائِهِ إِلى دَرَجَةِ القَبولِ؛ فهُو مُنْحَطٌّ عنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ لذاتِه، ورُبَّما توقَّفَ بعضُهم عنْ إِطلاقِ اسمِ الحَسَنِ عليهِ.

وقد انْقَضى ما يتعلَّقُ بالمَتْنِ [ مِن حيثُ ] القَبولُ والرَّدُّ.