Geri

   

 

 

İleri

 

٣ الأخبار المقبولة

وخبرُ الآحادِ؛ بنقلِ عَدْلٍ تامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلَ السَّنَدِ، غيرَ مُعَلَّلٍ ولا شاذٍّ: هو الصَّحيحُ لذاتِهِ، وهذا أَوَّلُ تقسيمٍ مقبولٍ إِلى أربعةِ أَنواعٍ؛ لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يشتَمِلَ مِن صفاتِ القَبولِ على أَعْلاها أو لاَ:

 ٣-١ 

الأوَّلُ: الصَّحيحُ لذاتِهِ.

والثَّاني: إِنْ وُجِدَ ما يَجْبُرُ ذلكَ القُصورَ؛ ككثْرَةِ الطُّرُق؛ فهُو الصَّحيحُ لذاته أَيضاً، لكنْ لا لذاتِهِ.

وحيثُ لا جُبْرانَ؛ فهُو الحسنُ لذاتِهِ.

وإِنْ قامَتْ قرينةٌ تُرَجِّحُ جانِبَ قَبولِ مَا يُتَوَقَّفُ فيهِ؛ فهُو الحسنُ أيضاً، [ لكنْ ] لا لذاتِهِ.

وقُدِّمَ الكَلامُ على الصَّحيحِ لذاتِهِ لعُلُوِّ رُتْبَتِهِ.

والمُرادُ بالعَدْلِ: مَنْ ما لهُ مَلَكَةٌ تَحْمِلُهُ على مُلازمةِ التَّقوى والمُروءةِ.

والمُرادُ بالتَّقوى: اجْتِنابُ الأعمالِ السَّيِّئةِ مِن شِرْكٍ أو فِسقٍ أو بِدعةٍ.

والضَّبْطُ ضبطان:

ضَبْطُ صَدْرٍ: وهُو [ أَنْ ] يُثْبِتَ ما سَمِعَهُ بحيثُ يتمكَّنُ مِن استحضارِهِ مَتى شاء.

وضَبْطُ كِتابٍ: وهُو صيانَتُهُ لديهِ مُنذُ سمِعَ فيهِ وصحَّحَهُ إِلى أَنْ يُؤدِّيَ منهُ.

وقُيِّدَ بـ التَّامِّ إِشارةً إِلى الرُّتبةِ العُليا في ذلكَ.

والمُتَّصِلُ: ما سَلِمَ إِسنادُه مِن سُقوطٍ فيهِ، بحيثُ يكونُ كُلٌّ مِن رجالِه سَمِعَ ذلكَ المَرْوِيَّ مِنْ شيخِهِ.

والسَّنَدُ: تقدَّمَ تعريفُهُ.

والمُعَلَّلُ لُغةً: ما فِيهِ عِلَّةٌ، واصطِلاحاً: ما فيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ قادِحةٌ.

والشَّاذُّ لُغةً: المُنفَرِدُ، واصطِلاحًا: ما يُخالِفُ فيهِ الرَّاوي مَنْ هُو أَرْجَحُ منهُ. ولهُ تفسيرٌ آخرُ سيأْتي.

تنبيهٌ: قولُهُ: [ و ] خبرُ الآحادِ؛ كالجِنْسِ، وباقي قُيودِهِ كالفَصْلِ.

وقولُهُ: بِنَقْلِ عَدْلٍ؛ احْتِرازٌ عَمَّا يَنْقُلُهُ غيرُ العَدْلِ.

وقوله: هُو يسمَّى فَصْلاً يتَوَسَّطُ بينَ المُبتَدَإِ والخَبَرِ، يُؤذِنُ بأَنَّ ما بَعْدَهُ خَبرٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وليسَ بِنَعْتٍ لهُ.

وقولُهُ: لذاته؛ يُخْرِجُ ما يسمَّى صحيحاً بأَمرٍ خارِجٍ عنهُ؛ كما تقدَّمَ.

وتتفاوَتُ رُتَبُهُ؛ أي: الصَّحيحُ، بـِ [سببِ ] تفاوُتِ هذهِ الأوْصافِ  المُقْتَضِيَةِ للتَّصحيحِ في القُوَّةِ؛ فإِنَّها لمَّا كانَتْ مُفيدةً لغَلَبَةِ الظَّنِّ الَّذي عليهِ مَدارُ الصِّحَّةِ؛ اقْتَضَتْ أَنْ يكونَ [ لها ] دَرجاتٌ بعضُها فَوْقَ بعضٍ بحَسَبِ الأمورِ المُقَوِّيةِ.

وإِذا كانَ كذلك فما يَكونُ رُواتُهُ في الدَّرجةِ العُليا مِن العدالَةِ والضَّبْطِ وسائِرِ الصِّفاتِ التي تُوجِبُ التَّرجيحَ له؛ كانَ أَصحَّ ممَّا دونَهُ.

فَمِنَ المَرْتَبَةِ العُلْيا في ذلك ما أَطْلَقَ [ عليهِ ] بعضُ الأئمَّةِ أَنَّهُ أَصحُّ الأسانيدِ:

كالزُّهْريِّ عن سالِمِ بنِ عبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ عن أَبيهِ.

وكمحمَّدٍ بنِ سيرينَ عن عَبيدةَ بنِ عَمْروٍ [ السَّلْمانِيِّ ] عَن عَليٍّ بن أبي طالب  

وكَإِبراهيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عن ابنِ مَسعودٍ.

ودونَها في الرُّتبةِ: كرِوايةِ بُرَيْدِ بنِ عبدِ اللّهِ بنِ أَبي بُرْدَةَ عن جَدِّهِ عن أَبيهِ أَبي مُوسى الأشعري.

وكَحمَّادِ بنِ سَلَمَةَ عن ثابِتٍ البناني عَنْ أَنسٍ.

ودُونَها في الرُّتْبَةِ:

[ كسُهَيْلِ ] بنِ أَبي صالحٍ عَنْ أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ.

 وكالعَلاءِ بنِ عبدِ الرحمن عن أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ.

فإِنَّ الجَميعَ يشمَلُهُم [ اسمُ ] العَدالَةِ والضَّبْطِ؛ إِلاَّ أَنَّ في للمَرْتَبَةِ الأولى فيهم مِن الصِّفاتِ المُرَجِّحَةِ ما يقتَضي تقديمَ روايتِهِم على الَّتي تَليها، وفي الَّتي تليها مِنْ قوَّةِ الضَّبْطِ ما يقتَضي تقديمَها على الثَّالِثَةِ، وهِي مُقدَّمةٌ على رِوايةِ مَن يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حَسناً؛ كمحمَّد بنِ إِسحاقَ عن عاصمِ بنِ عُمرَ بن قتادة عن جابرٍ، و عن عمروِ بنِ شُعَيْبٍ عنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ.

وقِسْ على هذهِ المراتِبِ ما يُشبِهُها.

 و المرتَبَةُ الأولي هِيَ الَّتي أَطلَقَ عليها بعضُ الأئمَّةِ أَنَّها أَصحُّ الأسانيدِ، والمُعْتَمَدُ عدمُ الإِطلاقِ لترجَمةٍ معيَّنةٍ منها.

نعم؛ يُستَفَادُ مِن مجموعِ ما أَطلقَ الأئمَّةُ عليهِ ذلك أَرجَحِيَّتُهُ على ما لَمْ يُطْلِقوهُ.

ويلْتَحِقُ بهذا التَّفاضُلِ ما اتَّفَقَ الشَّيخانِ على تَخريجِه بالنِّسبةِ إِلى ما انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُما، وما انْفَرَدَ بهِ البُخاريُّ بالنِّسبةِ إلى ما انْفَرَدَ بهِ مُسلمٌ؛ لاتِّفاقِ العُلماءِ بعدِهِما على تلقِّي كِتابَيْهِما بالقَبولِ، واختِلافِ بعضِهِم على أَيِّهِما أَرْجَحُ، فما اتَّفقا عليهِ أَرجَحُ مِن هذهِ الحيثيَّةِ ممَّا لم يتَّفقا عليهِ.

وقد صرَّحَ الجمهورُ بتقديمِ صحيحِ البُخاريِّ في الصِّحَّةِ، ولم يوجَدْ عنْ أحدٍ التَّصريحُ بنقيضِهِ.

وأَمّا ما نُقِلَ عَن أبي عليٍّ النَّيْسابوريِّ أَنَّهُ قالَ: ما تحتَ أَديمِ السَّماءِ أَصحُّ مِن كتابِ مُسلمٍ؛ فلمْ يُصرِّحْ بكونِه أَصحَّ مِن صحيحِ البُخاريِّ؛ لأَنَّهُ إِنَّما نَفَى وُجودَ كتابٍ أَصحَّ مِن كتابِ مسلم؛ إِذ المَنْفِيُّ إِنَّما هُو ما تَقْتَضيهِ صيغَةُ أَفْعَلَ من زيادَةِ صحَّةٍ في كتابٍ شارَكَ كتابَ مُسلمٍ في الصِّحَّةِ، يمتازُ بتلكَ الزِّيادَةِ عليه، ولم يَنْفِ المُساواةَ.

وكذلكَ ما نُقِلَ عنْ بعضِ المَغارِبَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ صحيحَ مُسلمٍ على صحيحِ البُخاريِّ؛ فذلكَ فيما يرجِعُ إِلى حُسْنِ السِّياقِ وجَوْدَةِ الوَضْعِ والتَّرتِيبِ.

ولم يُفْصِحْ أَحدٌ منهُم بأَنَّ ذلكَ راجِعٌ إِلى الأصحِّيَّةِ، ولو أَفْصَحوا به لردَّهُ عليهِمْ شاهِدُ الوُجودِ، فالصِّفاتُ الَّتي تدورُ عليها الصِّحَّةُ في كتابِ البُخاريِّ أَتمُّ منها في كتابِ مسلمٍ وأَشَدُّ، وشرطُهُ فيها أَقوى وأَسَدُّ.

أَمَّا رُجْحانُهُ مِن حيثُ الاتصالُ؛ فلاشْتِراطِهِ أَنْ يكونَ الرَّاوِي قَدْ ثَبَتَ لهُ لِقاءُ مَنْ روى عنهُ ولو مَرَّةً، واكْتَفى مُسْلِمٌ بمُطْلَقِ المُعاصَرَةِ، وأَلْزَمَ البُخاريَّ بأَنَّهُ يحتاجُ [ إِلى ] أَنْ لا يقْبَلَ العَنْعَنَةَ أَصلاً !

وما أَلْزَمَهُ بهِ ليسَ بلازِمٍ؛ لأنَّ الرَّاويَ إِذا ثبتَ [ لهُ ] اللِّقاءُ مرَّةً؛ لا يجْري في رواياتِهِ احْتِمالُ أَنْ لا يكونَ قد سمِعَ [ منهُ ]؛ لأنَّهُ يلزمُ مِن جَريانِهِ أَنْ يكونَ مُدَلِّساً، والمسأَلةُ مَفروضَةٌ في غير المُدَلِّسِ.

 وأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حيثُ العَدالَةُ والضَّبْطُ؛ فلأنَّ الرِّجالَ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِن رجالِ مُسلِمٍ أَكثرُ عَدداً مِن الرِّجالِ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِن رجالِ البُخاريِّ، معَ أَنَّ البُخارِيَّ لم يُكْثِرْ مِن إِخراجِ حَديثِهِمْ، بل غالِبُهُمْ مِن شيوخِهِ الذينَ أَخَذَ عنهُم ومَارَسَ حَديثَهُم، بخِلافِ مُسلمٍ في الأمْرَينِ.

وأَمَّا رُجْحانُهُ مِن حيثُ عدمُ الشُّذوذِ والإِعلالِ؛ فلأنَّ ما انْتُقِدَ [ على البُخاريِّ مِن الأحاديثِ أَقلُّ عدداً مِمَّا انْتُقِدَ ] على مُسْلِمٍ، هذا مع اتِّفاقِ العُلماءِ على أنَّ البُخاريَّ كانَ أَجلَّ مِن مُسْلِمٍ في العُلومِ وأَعْرَفَ بصِناعةِ الحَديثِ مِنهُ، وأَنَّ مُسلماً تِلْميذهُ وخِرِّيجُهُ، ولم يزَلْ يَسْتَفيدُ منهُ ويتَتَبَّعُ آثارَهُ حتَّى لقد قالَ الدَّارَقُطنِيُّ: لولا البُخاريُّ لَما راحَ مُسْلِمٌ ولا جَاءَ.

ومن ثَمَّ؛ أي: و من هذه الحيثيَّةِ – وهي أَرجحيَّةُ شَرْطِ البُخاريِّ على غيرِه – قُدِّمَ صحيحُ البُخاريِّ على غيرِه من الكُتُبِ المُصَنَّفةِ في الحديثِ.

ثمَّ صحيحُ مُسْلِمٍ؛ لمُشارَكَتِه للبُخاريِّ في اتِّفاقِ العُلماءِ على تَلَقِّي كِتابِهِ بالقَبولِ أَيضاً، سوى ما عُلِّلَ.

ثمَّ يُقَدَّمُ في الأرجحيَّةِ من حيثُ الأصحِّيَّةُ ما وافَقَهُ شَرْطُهُما؛ لأنَّ المُرادَ به رواتُهُما معَ باقي شُروطِ الصَّحيحِ، ورواتُهما قد حَصَلَ الاتِّفاقُ على القَوْلِ بتَعديلِهِمْ بطريقِ اللُّزومِ، فهم مُقَدَّمونَ على غيرِهم في رِواياتِهم، وهذا أَصلٌ لا يُخْرَجُ عنهُ إِلاَّ بدليلٍ.

فإِنْ كانَ الخَبَرُ على شَرْطِهما معاً؛ كانَ دونَ ما أَخرَجَهُ مسلمٌ أو مثله.

وإِنْ كانَ على شَرْطِ أَحَدِهما؛ فيُقَدَّمُ شَرْطُ البُخاريِّ وحْدَه على شرطِ مُسلمٍ وحدَه تَبَعاً لأصلِ كُلٍّ منهُما.

فخَرَجَ لنا مِن هذا سِتَّةُ أَقسامٍ تتفاوتُ دَرَجاتُها في الصِّحَّةِ.

وثَمَّةَ قسمٌ سابعٌ، وهو ما ليسَ على شرطِهما اجتِماعاً وانْفراداً.

وهذا التَّفاوتُ إِنَّما هو بالنَّظرِ إِلى الحيثيَّةِ المذكورةِ.

أَمَّا لو [ رُجِّحَ ] قِسْمٌ على ما هو فَوْقَهُ بأُمورٍ أُخرى تقتَضي التَّرْجيحَ؛ فإِنَّهُ يُقَدَّمُ على ما فَوْقَهُ – إذ قَدْ يَعْرِضُ للمَفوقِ مَا يجعَلُهُ فائقاً.

كما لو كان الحديثُ عندَ مُسلم [ مثلاً ]، وهُو مشهورٌ قاصِرٌ عن دَرَجَةِ التَّواتُرِ، لكنْ حَفَّتْهُ قرينةٌ صارَ بها يُفيدُ العِلْمَ؛ فإِنَّه يُقَدَّمُ بها على الحديثِ الذي يُخْرِجُهُ البُخاريُّ إِذا كانَ فَرْداً مُطْلقاً.

وكما لو كانَ الحَديثُ الَّذي لم يُخْرِجَاهُ مِن ترجمةٍ وُصِفَتْ بكونِها أَصَحَّ الأسانيدِ كمالِكٍ عن نافعٍ عن ابنِ عُمرَ؛ فإِنه يُقَدَّمُ على ما انفرَدَ بهِ أَحدُهُما مثلاً، لا سيَّما إِذا كانَ في إِسنادِهِ مَن فيهِ مَقالٌ.

٣-٢ 

فإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ؛ أي: قلَّ – يُقالُ: خَفَّ القومُ خُفوفاً: قَلُّوا – والمُرادُ معَ بقيَّةِ الشُّروطِ [ المُتقدِّمَةِ ] في حَدِّ الصَّحيحِ؛ فـهُو الحَسَنُ لذاتِهِ لاشتهاره [ لا لِشيءٍ خارِجٍ ]، وهُو الَّذي قد يكونُ حُسْنُهُ بسببِ الاعْتِضادِ، نحوُ حديثِ المَسْتُورِ إِذا تعَدَّدَتْ طُرُقُه.

وخَرَجَ باشْتِراطِ باقي الأوْصافِ الضَّعيفُ.

وهذا القِسْمُ مِنَ الحَسَنِ مُشارِكٌ للصَّحيحِ  في الاحتِجاجِ بهِ، وإِنْ كانَ دُونَه، ومشابِهٌ لهُ في انْقِسامِه إِلى مراتِبَ بعضُها فوقَ بعضٍ.

وبِكثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ؛ وإِنَّما يُحْكَمُ لهُ بالصِّحَّةِ عندَ تعدُّدِ الطُّرُقِ؛ لأنَّ للصُّورةِ المجموعةِ قُوَّةً تَجْبُرُ القَدْرَ الَّذي قَصَّرَ الوصفين بهِ [ ضَبْطُ ] راوِي الحَسَنِ عن راوي الصَّحيحِ، ومِن ثَمَّ تُطلَقُ [ الصِّحَّةُ ] على الإِسنادِ الَّذي يكونُ حسناً لذاتِه لو تفرَّدَ إِذا تَعَدَّدَ.

وهذا حيثُ ينفردُ الوصفُ.

فإِنْ جُمِعا؛ أي: الصَّحيحُ والحسنُ في وصفِ [ حديثٍ ] واحدٍ؛ كقولِ التِّرمذيِّ وغيرِه: [ حديثٌ ] حَسَنٌ صحيحٌ؛ فللتَّرَدُّدِ الحاصلِ مِن المُجتهدِ في النَّاقِلِ؛ هل اجتَمَعَتْ فيهِ شُروطُ الصِّحَّةِ أو قَصَّرَ عَنْها ؟!

وهذا حَيْثُ يَحْصُلُ منهُ التَّفرُّدُ بتلكَ الرِّوايةِ.

وعُرِف بهذا جوابُ مَن اسْتَشْكَلَ الجَمْعَ بينَ الوصفينِ، فقالَ: الحسنُ قاصرٌ عنِ الصَّحيحِ، ففي الجمعِ بينَ الوَصفَيْنِ إِثباتٌ لذلك القُصورِ ونَفْيُه !

ومُحَصّلُ الجوابِ أَنَّ تردُّدَ أَئمَّةِ الحديثِ في حالِ ناقلِه اقْتَضى للمُجتهدِ أَنْ لا يصِفَهُ بأَحدِ الوَصفَينِ، معيناً فيُقالُ فيهِ: حسنٌ؛ باعتبارِ وَصْفِه عندَ [ قومٍ ]، صحيحٌ باعتبارِ وصفِهِ عندَ قومٍ آخرين.

وغايةُ ما فيهِ أَنَّه حَذَفَ [ منهُ ] حرفَ التردُّدِ؛ لأنَّ حقَّهُ أَنْ يقولَ: حَسَنٌ أو صحيحُ.

وهذا كما حَذَفَ حَرْفَ العَطفِ مِن الَّذي يقول بَعْدَهُ.

وعلى هذا؛ فما قيلَ فيهِ حَسَنٌ صحيحٌ؛ دونَ ما قيلَ فيهِ: صَحيحٌ؛ لأنَّ الجزمَ أَقوى مِن التَّردُّدِ، [ وهذا حيثُ التفرُّدُ ].

وإِلاَّ؛ [ أَي ]: إِذا لم يَحْصُلِ التَّفرُّدُ؛ فـإِطلاقُ الوَصفَيْنِ معاً على الحديثِ يكونُ باعْتِبارِ إِسنَادَيْنِ، أحدُهُما صحيحٌ، والآخرُ حسنٌ.

وعلى هذا؛ فما قيلَ فيهِ: حسنٌ صحيحٌ؛ فوقَ ما قيلَ فيهِ: صحيحٌ؛ [ فقطْ ] إذا كانَ فَرْداً؛ لأنَّ كثرةَ الطُّرقِ تُقَوِّي.

فإِنْ قيلَ: قدْ صَرَّحَ التِّرمِذيُّ بأَنَّ شَرْطَ الحَسَنِ أَنْ يُرْوى مِن غيرِ وجْهٍ، فكيفَ يقولُ في بعضِ الأحاديثِ: حسنٌ غَريبٌ لا نعرِفُه إِلاَّ مِن هذا الوجهِ ؟!

فالجوابُ: أَنَّ التِّرمذيَّ لم يُعَرِّفِ الحَسَنَ المُطْلَقَ، وإِنَّما عَرَّفَ بنوع خاصٍّ منهُ وقعَ في كتابِه، وهُو ما يقولُ فيهِ: حسن؛ من غيرِ صفةٍ أُخرى، وذلك أَنَّهُ يقولُ في بعضِ الأحاديثِ: حسنٌ، وفي بعضِها: صحيحٌ، وفي بعضِها: غريبٌ، وفي بعضِها: حسنٌ صحيحٌ، وفي بعضِها: حسنٌ غَريبٌ، وفي بعضِها: صحيحٌ غريبٌ، [ وفي بعضِها: [ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ ].

وتعريفُه إِنَّما هو [ وقعَ ] على الأوَّلِ فقطْ، وعبارتُه تُرشِدُ إِلى ذلك، حيثُ قال في آخِرِ كتابِه: وما قُلْنا في كتابِنا: حديثٌ [ حسنٌ ]؛ فإِنَّما أَرَدْنا بهِ حَسَنٌ إِسنادِهِ عندَنا، [ إِذْ ] كُلُّ حديثٍ يُرْوي و لا يكونُ راويهِ مُتَّهَماً بكَذِبٍ، ويُروي مِن غيرِ وجْهٍ نحو ذلك، ولا يكونُ شاذّاً؛ فهو عندَنا حديثٌ حسنٌ.

فعُرِف بهذا أَنَّهُ إِنَّما عَرَّفَ الَّذي يقولُ فيه: حَسنٌ فقطْ، أَمَّا ما يقولُ فيهِ: حسنٌ صحيحٌ، أو: حسنٌ غريبٌ، أو: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ؛ فلم يُعَرِّجْ على تعريفِه؛كما لم يُعَرِّجْ على تعريفِ ما يقولُ فيهِ: صحيحٌ فقط، أو: غريبٌ فقط.

وكأنَّهُ تَرَكَ ذلك اسْتِغناءً بشُهرَتِه عندَ أَهلِ الفنِّ، واقْتصرَ على تعريفِ ما يقولُ فيهِ في كتابهِ: حسنٌ فقط؛ إِمَّا لغُموضِهِ، وإِمَّا لأنَّهُ اصطِلاحٌ جديدٌ، ولذلك قيَّدَهُ بقولِه: عندنا، ولم ينْسِبْهُ إِلى أَهلِ الحديثِ كما فعل الخَطَّابيُّ.

وبهذا التَّقريرِ يندفعُ كثيرٌ مِن الإِيراداتِ التي طالَ البحثُ فيها ولمْ يُسْفِرْ وجْهُ توجيهِها، فللّهِ الحمدُ على ما أَلهَم وعَلَّمَ.

٣-٣ 

وزِيادةُ راويهِما؛ أي: الصَّحيحِ والحَسنِ؛ مقبولةٌ؛ مَا لمْ تَقَعْ مُنافِيَةً لِـروايةِ مَنْ هُو أَوْثَقُ ممَّن لم يَذْكُرْ تلك الزِّيادةِ:

[ لأنَّ الزِّيادةَ ]: إِمَّا [ أَنْ ] تكونَ لا تَنافِيَ بينَها وبينَ روايةِ مَن لم يَذْكُرْها؛ فهذه تُقْبَلُ مُطْلقاً؛ لأنَّها في حُكْمِ الحديثِ المُستقلِّ الذي ينفرِدُ بهِ الثِّقةُ ولا يَرويه عن شيخِهِ غيرُه.

وإِمَّا أَنْ تكونَ مُنافِيةً بحيثُ يلزمُ مِن قبولِها رَدُّ الرِّوايةِ الأخرى، فهذه هي التي يَقَعُ التَّرجيحُ بينها وبينَ معارِضِها، [ فيُقْبَلُ الرَّاجحُ ] ويُرَدُّ المرجوحُ.

واشْتُهِرَ عَنْ جَمْعٍ مِن العُلماءِ القَوْلُ بقَبولِ الزِّيادةِ مُطْلقاً مِن غيرِ تفصيلٍ، ولا يَتَأَتَّى ذلك على طريقِ المُحَدِّثينَ الَّذينَ يشتَرِطونَ في الصَّحيحِ أَنْ لا يكونَ شاذّاً، ثمَّ يفسِّرونَ الشُّذوذَ بمُخالَفةِ الثِّقةِ مَن هو أَوثقُ منهُ.

والعَجَبُ مِمَّنْ أَغفلَ ذلك منهُم معَ اعْتِرافِه باشْتِراطِ انْتفاءِ الشُّذوذِ في [ حدِّ ] [ الحديثِ ] الصَّحيحِ، وكذا الحَسنِ.

والمَنقولُ عن أَئمَّةِ الحَديثِ المُتَقَدِّمينَ – كعبدِ الرحمنِ [ بنِ ] مَهْدي، ويحيى القَطَّانِ، وأَحمدَ بنِ حنبلٍ، ويحيى بنِ مَعينٍ، وعليِّ بنِ المَدينيِّ، والبُخاريِّ، وأَبي زُرْعةَ الرازي، وأَبي حاتمٍ، والنَّسائيِّ، والدَّارقطنيِّ وغيرِهم – اعتبارُ التَّرجيحِ فيما يتعلَّقُ بالزِّيادةِ وغيرها، ولا يُعْرَفُ عن أَحدٍ منهُم إِطلاقُ قَبولِ الزِّيادةِ.

وأَعْجَبُ مِن ذلك إِطلاقُ كثيرٍ مِن الشَّافعيَّةِ القَوْلَ بقَبولِ زِيادةِ الثِّقةِ، معَ أَنَّ نصَّ الشافعيِّ يدلُّ على غيرِ ذلك؛ فإِنَّهُ قالَ في أَثناءِ كلامِه على ما يُعْتَبَرُ [ بهِ ] حالُ الرَّاوي في الضَّبْطِ ما نَصُّهُ: ويكونُ إِذا أشْرَك أَحداً مِن الحُفَّاظِ لم يُخالِفْهُ، فإِنْ خالَفَهُ فوُجِدَ حديثُهُ أَنْقَصَ كانَ في ذلك دليلٌ [ على ] صحَّةِ مَخْرَجِ حديثِهِ، ومتى خالَفَ ما وَصَفْتُ أَضرَّ ذلك بحديثِهِ [ انتهى كلامه ].

ومُقتَضاهُ أَنَّهُ إِذا خَالَفَ فوُجِدَ حديثُهُ [ أَزْيَدَ ] من أَضرَّ ذلك بحديثِه، فدلَّ على أَنَّ زيادةَ العَدْلِ عندَه لا يلزَمُ قَبولُها مُطْلقاً، وإِنَّما تُقْبَلُ مِن الحافِظِ؛ فإِنَّهُ اعْتَبَرَ أَنْ يكونَ حديثُ هذا المُخالِفِ أَنْقَصَ مِن حديثِ مَن خالَفَهُ مِن الحُفَّاظِ، وجَعَلَ نُقصانَ هذا الرَّاوي مِن الحديثِ دليلاً على صحَّتِه؛ لأنَّه لا يَدُلُّ على تَحَرِّيهِ، وجَعَلَ ما عَدا ذلك مُضِرّاً بحديثِه، فدَخَلَتْ فيهِ الزِّيادةُ، فلو كانتْ [ عندَه ] مقبولةً مُطْلقاً؛ لم تكنْ مُضِرَّةً [ بحديثِ ] صاحِبِها، [ واللّهُ أَعلمُ ].

٣-٤ 

فإِنْ خُولِفَ – [ [ أي ] الراوي ] – بأرْجَحَ منهُ؛ لمزيدِ ضَبْطٍ [ أو كثرةِ ] عدَدٍ أو غيرِ ذلك مِن وُجوهِ التَّرجيحاتِ؛ فالرَّاجِحُ يقالُ لهُ: المَحْفوظُ. ومُقابِلُهُ – وهو المرجوحُ – يُقالُ لهُ: الشَّاذُّ.

مثالُ ذلك: ما رواهُ التِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَة مِن طريقِ [ ابنِ ] عُيَيْنَةَ عن عَمْرو [ بنِ ] دينارٍ عن عَوْسَجة، عن ابنِ عباسٍ [ – رضي اللّه عنهما – ]: أَنَّ رجُلاً تُوُفِّي في عهدِ رسولِ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ، ولم يَدَعْ وارِثاً إِلاَّ مولىً هو أَعتقَهُ.... الحديثَ.

وتابَعَ ابنَ عُيَيْنَةَ على وَصْلِهِ ابنُ جُريجٍ وغيرُه.

وخالفَهُم حمَّادُ بنُ زَيْدٍ، فرواهُ عَنْ عَمْرو بنِ دينارٍ عَن عَوْسَجَةَ ولم يَذْكُرِ حديث ابنَ عباسٍ.

قال أبو حاتمٍ: المَحفوظُ حديثُ ابنِ عُيَيْنَةَ. أهـ كلامُه.

فحمَّادُ بنُ زيدٍ مِن أَهلِ العدالةِ والضَّبطِ، ومعَ ذلك رجَّحَ أبو حاتمٍ روايةَ مَن هُم أَكثرُ عدداً منهُ.

وعُرِفَ مِن هذا التَّقريرِ أَنَّ: الشَّاذَّ: ما رواهُ المقْبولُ مُخالِفاً لِمَنْ هُو أَوْلَى مِنهُ.

وهذا هُو المُعْتَمَدُ في تعريفِ الشاذِّ بحَسَبِ الاصْطِلاحِ.

٣-٥ 

وَإِنْ وَقَعَتِ المُخالفةُ [ لهُ ] معَ الضَّعْفِ؛ فالرَّاجِحُ يُقالُ لهُ: [ المَعْروفُ ]، ومُقابِلُهُ يُقالُ [ لهُ ]: المُنْكَرُ.

 مثالُه: ما رواهُ ابنُ أَبي حاتمٍ مِن [ طريقِ ] حُبَيِّبِ بنِ حَبيبٍ – وهو أَخو حَمزَةَ بنِ [ حَبيبٍ ] الزَّيَّاتِ المُقرئِ – عن أَبي إِسحاقَ عن العَيْزارِ بنِ حُريثٍ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي اللّه عنهما عن النبي صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ قالَ: مَن أَقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ وحَجَّ [ البيتَ ] وصامَ وقَرَى الضَّيْفَ؛ دَخَلَ الجنَّةَ.

قالَ أَبو حاتمٍ: و هُو مُنْكَرٌ؛ لأَنَّ غيرَه مِن الثِّقاتِ رواهُ عن أَبي إِسحاقَ مَوقوفاً، وهُو المَعروفُ.

وعُرِفَ بهذا أَنَّ بينَ الشَّاذِّ والمُنْكَرِ [ عُموماً وخُصوصاً مِن وَجْهٍ؛ لأنَّ بينَهُما ] اجْتِماعاً في اشْتِراطِ المُخالفَةِ، وافْتراقاً في أَنَّ الشَّاذَّ راويهِ ثقةٌ أو صدوقٌ، والمُنْكَرَ رَاويهِ ضعيفٌ.

وقد غَفَلَ مَن سَوَّى بينَهُما، واللّهُ أَعلمُ.

٣-٦ 

وَما تقدَّم ذِكرُه مِن الفَرْدِ النِّسْبِيِّ؛ إِنْ وُجِدَ – بعدَ ظَنِّ كونِه فَرْداً – [ قد ] وافَقَهُ غيرُهُ؛ فهُو المُتابِعُ؛ بكسرِ [ الباءِ ] الموحَّدةِ.

والمُتابَعَةُ على مراتِبَ:

[ لأنَّها ] إِنْ حَصَلَتْ للرَّاوي نفسِهِ؛ فهِي التَّامَّةُ.

وإِنْ حَصَلَتْ لشيخِهِ فمَنْ فوقَهُ؛ فهِيَ القاصِرةُ.

ويُستفادُ منها التَّقويةُ.

مِثالُ المُتابعةِ التامة: ما رواهُ الشَّافعيُّ في الأمِّ عن مالِكٍ عن عبدِ اللّهِ بنِ دينارٍ عن ابنِ عُمرَ أَنَّ رسولَ اللّه صلّى اللّه [ تعالى ] عليه [ وآله ] وسلم قالَ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشرون، فلا تَصوموا حتَّى تَروُا الهِلالَ، ولا تُفْطِروا حتَّى تَرَوْهُ، فإِنْ غُمَّ عليكم؛ فأَكْمِلوا العِدَّةَ ثلاثينَ.

 فهذا الحديثُ بهذا اللَّفظِ ظَنَّ قومٌ أَنَّ الشافعيَّ رحمه اللّه تعالى تفرَّدَ بهِ عن مالِكٍ، فعَدُّوهُ في غرائِبِه؛ لأنَّ أَصحابَ مالِكٍ روَوْهُ عنهُ بهذا الإِسنادِ، [ و ] بلفظِ: فإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمُ فاقْدُروا لهُ !

لكِنْ وجَدْنا للشَّافعيَّ مُتابِعاً، وهو عبدُ اللّهِ بنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ، كذلك أَخرجَهُ البُخاريُّ عنهُ عن مالكٍ.

فهَذهِ متابَعةٌ تامَّةٌ.

 ووَجَدْنا لهُ أَيضاً مُتابَعَةٌ قاصرةً في صحيحِ ابنِ خُزَيْمةَ مِن روايةِ عاصمِ بنِ محمَّدٍ عن أبيهِ [ محمَّدِ ] بنِ زيدٍ عن جدِّهِ عبدِ اللّهِ بنِ عُمرَ بلفظِ: فكَمِّلوا ثلاثينَ.

وفي صحيحِ مسلمٍ من روايةِ عُبيدِ اللّهِ بنِ عُمرَ عن نافعٍ عن ابنِ عُمرَ بلفظ: فاقْدُروا ثلاثينَ.

ولا اقْتِصارَ في هذه المُتابعةِ – سواءٌ كانتْ تامَّةً أَم قاصرةً – على اللَّفْظِ، [ بل ] لو جاءَتْ بالمعنى؛ لكَفَتْ، لكنَّها مختَصَّةٌ بكونِها مِن روايةِ ذلك الصَّحابيِّ.

وإِنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُروى مِن حديثِ صحابيٍّ آخَرَ يُشْبِهُهُ في اللَّفظِ والمعنى، أو في المعنى فقطْ؛ فهُو الشَّاهِدُ.

ومثالُه في الحديثِ الَّذي قدَّمناهُ ما رواهُ النَّسائيُّ مِن روايةِ محمَّدِ بنِ حُنَينٍ عن ابن عبَّاسِ رضي اللّه عنهما عن النبي صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ، فذَكَرَ مثلَ حديثِ عبد اللّهِ بنِ دينارٍ عنِ ابنِ عُمرَ سواءً.

فهذا باللَّفظِ.

وأَمَّا بالمَعْنى؛ فهو ما رواهُ البُخاريُّ مِن روايةِ محمَّدِ بنِ زيادٍ عن أَبي هُريرةَ بلفظ: فإِنْ غُمَّ عليكُمْ فأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبانَ ثلاثينَ

وخَصَّ قومٌ المُتابعةَ بما حَصَلَ [ باللَّفظِ، سواءٌ كانَ مِن روايةِ ذلك الصَّحابيِّ أَم لا، والشاهدَ بما حصلَ ] بالمَعنى كذلك.

وقد تُطْلَقُ المُتابعةُ على الشَّاهدِ وبالعكسِ، والأمرُ [ فيهِ ] سَهْلٌ.

وَاعْلمْ أَنَّ تَتَبُّعَ الطُّرُقِ مِن الجوامعِ والمسانيدِ والأجزاءِ لذلك الحديثِ الذي يُظنُّ أَنَّه فردٌ لِيُعْلَمَ هلْ لهُ متابِعٌ أَم لا هُو: الاعتبارُ.

وقولُ ابنِ الصَّلاحِ: معرفةُ الاعتبارِ والمتابعاتِ والشَّواهِدِ قد يوهِمُ أَنَّ الاعتبارَ قَسيمٌ لهُما، وليسَ كذلك، بل هُو هيئةُ التوصُّلِ إِليهِما.

وجَميعُ ما تقدَّمَ مِن أَقسامِ المَقبولِ تَحْصُلُ فائدةُ تقسيمِهِ باعتبارِ مَراتِبِهِ عندَ المُعارضةِ، واللّهُ أَعلمُ.

٣-٧ 

ثمَّ المَقبولُ ينقسِمُ [ أَيضاً ] إلى مَعمولٍ بهِ وغيرِ مَعْمولٍ بهِ؛ لأنَّهُ إِنْ سَلِمَ مِنَ المُعارَضَةِ؛ أَي: لم يَأْتِ خبرٌ يُضادُّهُ، فهُوَ المُحْكَمُ، وأَمثلتُه كثيرةٌ.

وإِنْ عُورِضَ؛ فلا يَخْلو إِمَّا أَنْ يكونَ مُعارِضُةُ مقبولاً مثلَه، أو يكونَ مَردوداً، فالثَّاني لا أَثرَ [ لهُ ]؛ لأنَّ القويَّ لا تُؤثِّرُ فيهِ مُخالفةُ الضَّعيفِ.

وإِنْ كانتِ المُعارضةُ بِمِثْلِهِ فلا يخلو إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ الجَمْعُ [ بين ] مدلولَيْهِما بغيرِ تَعَسُّفٍ أو لاَ:

فإِنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ؛ فـهو النَّوعُ المُسمَّى مُخْتَلِفَ الحَديثِ، [ و ] مثَّلَ لهُ ابنُ الصَّلاحِ بحديثِ: لا عَدْوى ولا طِيَرَةَ، [ ولا هامَّةَ، ولا صَفَر، ولا غُول ] مع حديث: فِرَّ مِنَ المَجذومِ فِرارَكَ مِن الأسَدِ.

وكلاهُما في الصَّحيحِ، وظاهِرُهما التَّعارُضُ ‍!

ووجْهُ الجمعِ بينَهُما أَنَّ هذهِ الأمراضَ لا تُعْدي بطبْعِها، لكنَّ اللّه [ سبحانَه و ] تعالى جَعَلَ مُخالطةَ المريضِ بها للصَّحيحِ سبباً لإعدائِهِ مَرَضَه.

ثمَّ قد يتخلَّفُ ذلك عن سبَبِه كما في غيرِهِ من الأسبابِ، كذا جَمَعَ بينَهما ابنُ الصَّلاحِ تَبعاً لغيرِه !

والأَوْلى في الجَمْعِ بينَهُما أَنْ يُقالَ: إِنَّ نَفْيَهُ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ للعَدوى باقٍ على عُمومِهِ، وقد صحَّ قوله صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ: لا يُعْدِى شيءٌ شيئاً، وقولُه صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ لِمَن عارَضَهُ: بأَنَّ البَعيرَ الأجْرَبَ يكونُ في الإِبلِ الصَّحيحةِ، فيُخالِطُها، فتَجْرَبُ، حيثُ ردَّ عليهِ بقولِه: فمَنْ أَعْدى الأوَّلَ ؟؛ يعني: أَنَّ اللّه [ سبحانَه و ] تعالى ابتَدَأَ ذلك في الثَّاني كما في ابْتَدَأَ في الأوَّلِ.

وأَمَّا الأمرُ بالفِرارِ مِن المَجْذومِ فمِن بابِ سدِّ الذَّرائعِ؛ لئلاَّ يَتَّفِقَ للشَّخْصِ الذي يخُالِطُه شيءٌ مِن ذلك بتقديرِ اللّهِ سبحانه و تعالى ابتداءً لا بالعَدْوى المَنْفِيَّة، فيَظُنَّ أَنَّ ذلك بسببِ مُخالطتِه فيعتقدَ صِحَّةَ العَدْوى، فيقعَ في الحَرَجِ، فأَمَرَ بتجنُّبِه حسْماً للمادَّةِ، [ واللّه أعلم ].

وقد صنَّفَ في هذا النَّوعِ [ الإِمامُ ] الشافعيُّ كتابَ اختِلافِ الحديثِ، لكنَّهُ لم يَقْصِدِ استيعابَه.

و [ قد ] صنَّفَ فيهِ بعدَهُ ابنُ قُتيبةَ والطَّحاويُّ وغيرُهما.

وإِنْ لم يُمْكِنِ الجمعُ؛ فلا يخْلو إِمَّا أَنْ يُعْرَفَ التَّاريخُ أو لاَ:

٣-٨ 

فإِنْ عُرِفَ وَثَبَتَ المُتَأَخِّرُ [ بهِ ]، أو بأَصرحَ منهُ؛ فهو النَّاسِخُ، والآخَرُ المَنْسُوخُ.

والنَّسْخُ: رفْعُ تعلُّقِ حُكمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأَخِّرٍ عنهُ.

والنَّاسخُ: ما يدلُّ [ على ] الرَّفعِ المذكورِ.

وتسميتُهُ ناسِخاً مجازٌ؛ لأنَّ النَّاسخَ في الحقيقةِ هو اللّهُ تعالى.

ويُعْرَفُ النَّسخُ بأُمورٍ:

أَصرحُها: ما ورَدَ في النَّصِّ كحديثِ بُريدَةَ في صحيحِ مسلمٍ: كُنْتُ نَهَيْتُكُم عن زِيارةِ القُبورِ ألا فزُوروها؛ فإِنَّها تُذَكِّرُ الآخِرَةَ

ومِنها ما يجزِمُ الصَّحابيُّ بأَنَّه متأَخِّرٌ كقولِ جابرٍ: كانَ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِن رسولِ اللّه صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ تَرْكُ الوُضوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ أَخرَجَهُ أَصحابُ السُّننِ.

ومِنْها ما يُعْرَفُ بالتَّاريخِ، [ وهُو كَثيرٌ ].

وليسَ مِنْها مَا يَرويهِ الصَّحابيُّ المُتأَخِّرُ الإِسلامِ مُعارِضاً للمُتَقَدِّمِ عليهِ؛ لاحْتمالِ أَنْ يكونَ سَمِعَهُ مِن صَحابيٍّ آخَرَ أَقدمَ مِنَ المُتَقَدِّمِ [ المذكورِ ] أو مثلِهِ فأَرْسَلَهُ.

لكنْ؛ إِنْ وَقَعَ التَّصريحُ بسماعِه [ لهُ مِن النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ فيَتَّجِهُ أَنْ يكونَ ناسِخاً؛ بشَرْطِ أَنْ يكونَ [ المُتَأَخِّرُ ] لمْ يَتحمَّلْ مِنَ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ ] شَيْئاً قبلَ إِسلامِهِ.

وأَمَّا الإِجماعُ؛ فليسَ بناسِخٍ، بل يدُلُّ على ذلكَ.

وإِنْ لمْ يُعْرَفِ التَّاريخُ؛ فلا يخلو إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ ترجيحُ أَحدِهِما على الآخَرِ بوجْهٍ مِن وجوهِ التَّرجيحِ المُتعلِّقَةِ بالمتْنِ أو بالإِسنادِ أو لاَ:

فإِنْ أَمْكَنَ التَّرجيحُ؛ تعيَّنَ المصيرُ إِليهِ، وإِلاَّ؛ فلا.

فصارَ ما ظاهِرُهُ التَّعارُضُ واقِعاً على [ هذا ] التَّرتيبِ:

الجمعُ إِنْ أَمكَنَ.

فاعْتبارُ النَّاسِخِ والمَنْسوخِ.

فالتَّرْجيحُ إِنْ تَعيَّنَ.

ثمَّ التوقُّفُ عنِ العَمَلِ بأَحدِ الحَديثينِ.

والتَّعبيرُ بالتوقُّفِ أَولى مِن التَّعبيرِ بالتَّساقُطِ؛ لأَنَّ خفاءَ ترجيحِ أَحدِهِما على الآخَرِ إِنَّما هُو بالنِّسبةِ للمُعْتَبِرِ في الحالةِ الرَّاهنةِ، معَ [ احتِمالِ ] أَنْ يظهَرَ لغيرِهِ ما خَفِيَ عليهِ، واللّهُ أعلمُ.