٢ الأخبار٢-١الخَبَرُ قسم من أقسام الكلام يأتي في تعريفه ما يعرف به الكلام ثم يخرج من أقسام الكلام لأنه محتمل للصدق والكذب و [ هو ] عندَ عُلَماءِ [ هذا ] الفنِّ مرادفٌ للحَديثِ. وقيلَ: الحَديثُ: ما جاءَ عَنِ النَّبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ [ وعلى آلهِ ] وسلَّمَ، والخَبَرُ ما جاءَ عن غيِره، ومِنْ ثَمَّ قيلَ لمَن يشتغلُ بالتَّواريخِ وما شاكَلَها: الإخبارِيُّ، ولمن يشتغلُ بالسُّنَّةِ النبويَّةِ: المُحَدِّثَ. وقيل: بيْنهما عُمومٌ وخُصوصٌ مُطْلقٌ، فكلُّ حَديثٍ خبرٌ من غيرِ عَكْسٍ. وعبَّرْتُ هنا بالخبَرِ ليكونَ أشملَ، فهو باعتبارِ وصولِهِ إِلينا ٢-٢إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ؛ أي: [ أسانيدُ ] كثيرةٌ؛ لأنَّ طُرُقاً جمعُ طريقٍ، وفعيلٌ في الكثرةِ يُجْمَعُ على فُعُلٍ – بضمَّتينِ –، وفي القلَّةِ على أَفْعِلَةٍ. والمرادُ بالطُّرُقِ الأسانيدُ، والإِسنادُ حكايةُ عن طريقِ المَتْنِ. والمتن هو غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام. ٢-٢-١وتلكَ الكثرَةُ أَحدُ شُروطِ التَّواتُرِ إِذا وَرَدَتْ بِلاَ حَصْرِ عَددٍ مُعَيَّنٍ، [ بل ] [ تكونُ ] العادةُ قد أحالتْ تواطؤهُم أو توافقهم على الكذِبِ، وكذا وقوعُه منهُم اتِّفاقاً مِن غيرِ قصدٍ. فلا مَعْنى لِتعْيينِ العَدَدِ على الصَّحيحِ، ومِنْهُم مَنْ عيَّنَهُ في الأربعةِ، وقيلَ: في الخمْسةِ، وقيل: في السَّبعةِ، وقيل: في العشرةِ، وقيلَ: في الاثنَيْ عَشَر، وقيل: في الأربعينَ، وقيلَ: في السَّبعينَ، وقيلَ غيرُ ذلك. وتَمَسَّكَ كُلُّ قائل بدليل جاءَ فيه ذِكرُ [ ذلكَ ] العَدَدِ، فأفادَ العِلْمَ للحال، وليسَ بلازِمٍ أَنْ يَطَّرِدَ في غَيْرِهِ لاحتمالِ الاخْتِصاصِ. فإذا وَرَدَ الخَبَرُ كذلك وانْضافَ إليهِ أَنْ يستويَ الأمْرُ فيهِ في الكثرةِ المذكورةِ من ابتدائِهِ إلى انتهائهِ – والمرادُ بالاستواءِ أَنْ لا تَنْقُصَ الكَثْرَةُ المَذكورةُ في بعضِ المَواضِعِ لا أَنْ لا تَزيدَ، إذ الزِّيادَةُ [ هُنا ] مطلوبةٌ مِن بابِ أَوْلى –، وأَنْ يكونَ مُسْتَنَدُ انتهائِهِ الأمرَ المُشاهَدَ أو المَسموعَ، لا مَا ثَبَتَ بِقَضِيَّةِ العَقْلِ الصِّرْفِ. فإِذا جَمَعَ هذهِ الشُّروطَ الأربعةَ، وهي: عَدَدٌ كثيرٌ أَحَالَتِ العادةُ تواطُؤهُمْ [ و توافُقَهُم ] على الكَذِبِ. و رَوَوْا ذلك عن مِثْلِهِم من الابتداء إلى الانتهاءِ. وكان مُسْتَنَدُ انْتِهائِهِمُ الحِسَّ. وانْضافَ إلى ذلك أَنْ يَصْحَبَ خَبَرَهُمْ إِفَادَةُ العِلْمِ لِسامِعِهِ. فهذا هو المتواتِرُ. وما تَخَلَّفَتْ إِفَادَةُ العِلْمِ عنهُ كانَ مَشْهوراً فقَط. فكلُّ متواتِرٍ مشهورٌ، من غيرِ عَكْسٍ. وقد يُقالُ: إِنَّ الشُّروطَ الأربعةَ إِذا حَصَلَتْ اسْتَلْزَمَتْ حُصولَ العِلْمِ، وهُو كذلك في الغالِبِ، و لكنْ قد تَتَخَلَّفُ عنِ البَعْضِ لمانعٍ. كأن تحصل الإفادة ولم يحصل العلم كما إذا أخبر من لم يعتقد ذلك الخبر حصلت الإفادة ولم يحصل العلم. وقد وَضَحَ بهذا التقرير تَعْريفُ المُتواتِرِ. وخِلافُهُ قدْ يَرِدُ بلا حَصْرٍ [ أَيضاً ]، لكنْ مع فَقْدِ بعضِ الشُّروطِ، أو مَعَ حَصْرٍ بِما فَوْقَ الاثنيْنِ؛ أي: بثلاثةٍ فصاعِداً ما لمْ يَجْمَعْ شُروطَ المُتواتِرِ، أو بِهما؛ أي: باثْنَيْنِ فقطْ، أو بواحِدٍ [ فقَطْ ]. والمرادُ بقولِنا: أَنْ يَردَ باثْنَيْنِ: أنْ لا يَرِدَ بأَقلَّ مِنْهُما، فإِنْ وَرَدَ بأَكْثَرَ في بعضِ المَواضِعِ مِن السَّنَدِ الواحِدِ لا يَضُرُّ، إذ الأقلُّ في هذا [ العِلْمِ ] يَقْضي على الأكْثَرِ. فالأوَّلُ: و هو المُتواتِرُ، وهو المُفيدُ للعِلْمِ اليَقينِيِّ، فأخرَجَ النَّظريَّ على ما يأْتي تقريرُه، بِشروطِهِ [ أي التي تَقَدَّمَتْ. واليَقينُ: هو الاعتقادُ الجازِمُ المُطابِقُ، وهذا هو المُعْتَمَدُ: أَنْ ] الخَبَرَ المُتواتِرَ يُفيدُ العِلْمَ الضَّروريَّ، وهو الذي لا يَضْطُّر الإِنْسانُ إليهِ بحيثُ لا يُمْكِنُهُ دفْعُهُ. وقيلَ: لا يُفيدُ العلمَ إِلاَّ نَظَرِيّاً ! وليس بشيءٍ؛ لأنَّ العِلْم بالتَّواتُرِ حاصِلٌ لمن ليس لهُ أهليَّةُ النَّظرِ كالعامِّيِّ، إذ النَّظرُ: ترتيبُ [ أُمورٍ معلومةٍ ] أو مَظْنونةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى عُلومٍ أو ظُنونٍ، وليس في العامِّيِّ أهلِيَّةُ ذلك، فلو كان نَظَرِيّاً؛ لما حَصَل لهُم. ولاحَ بهذا التَّقريرِ الفرْقُ بين العِلْمِ الضَّرورِيِّ والعِلْمِ النَّظَرِيِّ، [ إِذ ] الضَّرورِيُّ يُفيدُ العِلْمَ بلا اسْتِدلالٍ، والنَّظريُّ يُفيدُهُ لكنْ مع الاستِدْلالِ على الإِفادةِ، وأنَّ الضَّروريَّ يحْصُلُ لكُلِّ سامعٍ، والنَّظَرِيَّ لا يَحْصُلُ إِلاَّ لِمَنْ فيهِ أهليَّةُ النَّظَرِ. وإِنَّما أَبْهَمْتُ شُروطَ التواترِ في الأَصْلِ؛ لأنَّهُ على هذهِ الكيفيَّةِ ليسَ مِن مباحِثِ عِلْمِ الإِسْنَادِ، وإنما هو من مباحث أصول الفقه إِذ عِلمُ الإِسْناِد يُبْحَثُ فيهِ عن صِحَّةِ الحديثِ أو ضَعْفِهِ؛ لِيُعْمَلَ بِهِ أو يُتْرَكَ مِن حيثُ صفاتُ الرِّجالِ، وصِيَغُ الأداءِ، والمُتواتِرُ لا يُبْحَثُ عَنْ رجالِهِ، بل يجبُ العملُ بهِ مِن غيرِ بَحْثٍ. فائدةٌ: ذَكَرَ ابنُ الصَّلاحِ أَنَّ مِثالَ المُتواتِرِ عَلى التَّفسيرِ المُتَقَدِّمِ يَعِزُّ وُجودُهُ؛ إِلاَّ أَنْ يُدَّعَى ذلك في حَديثِ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ [ مُتَعَمِّداً؛ فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ]. وما ادَّعَاهُ مِن العِزَّةِ مَمْنوعٌ، وكذا مَا ادَّعاهُ غيرُهُ مِن العَدَمِ؛ لأنَّ ذلك نَشَأَ عَنْ قِلَّةِ الاطِّلاعِ على كَثْرَةِ الطُّرُقِ، وأَحْوالِ الرِّجالِ، وصفاتِهِمُ المُقتَضِيَةِ لإِبعادِ العادَةِ أَنْ يَتَواطَؤوا عَلى كَذِبٍ، أو يَحْصُلَ منهُمُ اتِّفاقاً. ومِن أَحْسَنَ مَا يُقَرَّرُ [ بِهِ ] كونُ المُتواتِرِ مَوجوداً وُجودَ كَثْرةٍ في الأَحاديثِ أَنَّ الكُتُبَ المشهورةَ المُتَداوَلَةَ بأَيدي أَهْلِ العِلْمِ شَرْقاً وغَرْباً المَقْطوعَ عِنْدَهُم بِصِحَّةِ نِسْبَتِها إلى مُصَنِّفيها، إذا اجْتَمَعَتْ على إِخراجِ حَديثٍ، وتعدَّدَتْ طُرُقُه تعدُّداً تُحيلُ العادةُ تواطُؤهُمْ على الكَذِبِ إِلى آخِرِ الشُّروطِ؛ أَفادَ العِلْمَ اليَقينيَّ بصحَّتِهِ إِلى قائِلِهِ. ومِثْلُ [ ذلكَ ] في الكُتُبِ المَشْهُورَةِ [ كَثيرٌ ]. ٢-٢-٢والثَّاني – وهُو أَوَّلُ أقسام الآحادِ –: ما لَهُ طُرُقٌ مَحْصورةٌ بأَكثرَ مِن اثْنَيْنِ وهُو المَشْهورُ عندَ المُحَدِّثينَ: سُمِّيَ بذلك لوُضوحِهِ، وهُوَ المُستفيضُ؛ عَلى رأْيِ جماعةٍ مِن أَئمَّةِ الفُقهاءِ، [ سُمِّيَ بذلك لانْتشارِهِ، [ و ] مِنْ فاضَ الماءُ يَفيضُ فيضاً. ومِنْهُم مَن غَايَرَ بينَ المُسْتَفيضِ والمَشْهورِ؛ بأَنَّ المُسْتَفيضَ يكونُ في ابْتِدائِهِ وانْتِهائِهِ سَواءً ]، والمَشْهورَ أَعَمُّ مِنْ ذلكَ. ومنهُمْ مَن غايَرَ على كيفيَّةٍ أُخْرى، وليسَ مِن مَباحِثِ هذا الفَنِّ. ثمَّ المَشْهورُ يُطْلَقُ على مَا حُرِّرَ هُنا وعلى ما اشْتُهِرَ على الألْسِنةِ، فيشْمَلُ ما لَهُ إِسنادٌ واحِدٌ فصاعِداً، بل [ ما ] لا يوجَدُ لهُ إِسنادٌ أَصْلاً. ٢-٢-٣والثَّالِثُ: العَزيزُ وهُو: أَنْ لا يَرْويَهُ أَقَلُّ مِن اثْنَيْنِ عنِ اثْنَيْنِ، وسُمِّيَ بذلك إِمَّا لِقِلَّةِ وُجودِهِ، [ وإِمَّا ] لكونِهِ عَزَّ – أَي: قَوِيَ – بمَجيئِهِ مِن طَريقٍ أُخْرى. ولَيْسَ شَرْطاً للصَّحيحِ؛ خِلافاً لمَنْ زعَمَهُ، وهو أَبو عَليٍّ الجُبَّائيُّ مِن المُعْتزلةِ، وإِليهِ يُومِئُ كلامُ الحاكِمِ أَبي عبد اللّهِ في علومِ الحديثِ [ حيثُ ] قال: الصَّحيحُ أَنْ يَرْوِيَهُ الصَّحابِيُّ الزَّائِلُ عنهُ اسمُ الجَهالةِ؛ بأَنْ يكونَ لهُ راوِيانِ، ثمَّ يتداوَلَهُ أَهلُ الحَديثِ إِلى وَقْتِنِا كالشَّهادَةِ [ عَلى الشَّهادَةِ ]. وصَرَّحَ القاضي أَبو بَكْرٍ بنُ العربيِّ في شَرْحِ البُخاريّ بأَنَّ ذلك شَرْطُ البُخاريِّ، وأَجاب عمَّا أُورِدَ عليهِ مِنْ ذلك بِجوابٍ فيهِ نَظرٌ؛ لأَنَّهُ قال: فإِنْ قيلَ: حديثُ إنما الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ فَرْدٌ؛لم يَرْوِهِ عَنْ عُمرَ إِلاَّ عَلْقَمَةُ ! قالَ: قُلْنا: [ قَدْ ] خَطَبَ بِهِ عُمَرُ [ رضيَ اللّهُ عنهُ ] عَلى المِنْبَرِ بحَضْرةِ الصَّحابَةِ، فلولا أَنَّهُمْ يَعْرِفونَهُ لأنْكروهُ ! كذا قالَ ! وتُعُقِّبَ عليه بأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِم سَكَتُوا عنهُ أَنْ يَكُونوا سَمِعوهُ مِنْ غَيْرِهِ، وبأَنَّ هذا لو سُلِّمَ في عُمَرَ مُنِعَ في تَفَرُّدِ عَلْقَمَةَ [ عنهُ ]، ثمَّ تَفَرُّدِ مُحَمَّدِ بنِ إِبْراهيمَ بِه عَنْ عَلْقَمَةَ، ثُمَّ تَفَرُّدِ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ بهِ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ عَلى ما هُو الصَّحيحُ المُعْروفُ عِنْدَ المُحَدِّثينَ. وقَدْ وَرَدَتْ لُهْم مُتابعاتٌ لا يُعْتَبَرُ بِها [ لِضَعْفِها ]. وكَذا لا نُسَلِّمُ جَوابَهُ في غَيْرِ حَديثِ عُمَرَ [ رضيَ اللّهُ عنهُ ]. قالَ ابنُ رُشَيْدٍ: ولَقَدْ كانَ يَكْفي القاضيَ في بُطْلانِ ما ادَّعَى أَنَّهُ شَرْطُ البُخاريِّ أَوَّلُ حَديثٍ مَذكورٍ فيهِ. وادَّعَى ابنُ حِبَّانَ نقيضَ دَعْواهُ، فقالَ: إِنَّ رِوايَةَ اثنَيْنِ عَنِ اثنَيْنِ إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ لا تُوجَدُ أَصْلاً. قُلْتُ: إِنْ أرادَ [ [ بهِ ] أَنَّ ] رِوايَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ لا تُوجَدُ [ أَصْلاً ]؛ فيُمْكِنُ أَنْ يُسَلَّمَ، وأَمَّا صُورَةُ العَزيزِ الَّتي حَرَّرْناها فمَوْجودَةٌ بأَنْ لا يَرْوِيَهُ أَقَلُّ مِن اثْنَيْنِ عَنْ أَقَلَّ مِنَ اثْنَيْنِ. مثالُهُ: ما رَواهُ الشَّيْخانِ مِن حَديثِ أَنَسٍ، والبُخاريُّ مِن حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضيَ اللّهُ عنهُ: أَنَّ رَسولَ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: لا يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِليهِ مِنْ والدِهِ وولَدِهِ... الحديث. [ و ] رواهُ عَنْ أَنَسٍ: قَتادَةُ وعبدُ العزيزِ بنُ صُهَيْبٍ، ورواهُ عَنْ قتادَةَ: شُعْبَةُ وسعيدٌ، ورواهُ [ عَنْ ] عبدِ العزيزِ: إِسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ وعبدُ الوارِثِ، ورواهُ عن كُلٍّ جَماعةٌ. ٢-٣وكُلُّها أي: الأقسامُ الأرْبَعَةُ [ المَذْكورةُ ] سوى الأوَّلِ، وهو المُتواتِرُ آحادٌ، ويُقالُ لكُلٍّ منها: خَبَرُ واحِدٍ. وخَبَرُ الواحِدِ في اللُّغَةِ: ما يَرويهِ شَخْصٌ واحِدٌ، وفي الاصطِلاحِ: ما لَمْ يَجْمَعْ شُروط المُتواتِرِ. وفيها؛ أي: [ في ] الآحَادِ: المَقْبولُ وهو: ما يَجِبُ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ الجُمْهورِ. وَفيها المَرْدُودُ، وهُو [ الَّذي ] لَمْ يَتَرَجَّحْ صِدْقُ المُخْبِرُ بِهِ؛ لتوقُّفِ الاستدلالِ بها عَلى البَحْثِ عَنْ أحوالِ رواتِها، دُونَ الأوَّلِ، وهو المُتواتِرُ. فكُلُّهُ مَقْبولٌ لإِفادَتِهِ القَطْعَ بِصِدْقِ مُخْبِرِهِ بِخلافِ غَيْرِهِ مِنْ أَخبارِ الآحادِ. لكنْ؛ إِنَّما وَجَبَ العَمَلُ بالمَقْبولِ مِنها، لأَنَّها إِمَّا أَنْ يُوْجَدَ فيها أَصلُ صِفَةِ القَبولِ – وهُو ثُبوتُ صِدْقِ النَّاقِلِ –، أو أَصلُ صِفَةِ الرَّدِّ – وهُو ثُبوتُ كَذِبِ النَّاقِلِ – أو لاَ: فالأوَّلُ: يَغْلِبُ على الظَّنِّ [ ثُبوتُ ] به صِدْقِ الخَبَرِ لِثُبوتِ صِدْقِ ناقِلِهِ فيُؤخَذُ بِهِ. والثَّانِي: يَغْلِبُ على الظَّنِّ به كَذِبُ الخَبَرِ لِثُبوتِ كَذِبِ ناقِلِهِ فيُطْرَحُ. والثَّالِثُ: إِنْ وُجِدَتْ قرينَةٌ تُلْحِقُهُ بأَحَدِ القِسْمَيْنِ الْتَحَقَ، وإِلاَّ فَيُتَوَقَّفُ فيهِ، وإِذا تُوُقِّفَ عَنِ العَمَلِ بهِ صارَ كالمَرْدودِ، لا لِثُبوتِ [ صِفَةِ ] الرَّدِّ، بل لكَوْنِه لمْ تُوجَدْ به فيهِ صفةٌ توجِبُ، القَبولَ، واللّهُ أعلمُ. ٢-٤والرَّابِعُ: الغَريبُ وهو: ما يَتَفَرَّدُ بِروايَتِهِ شَخْصٌ واحِدٌ في أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ التَّفَرُّدُ بِهِ مِنَ السَّنَدِ عَلى مَا سَيُقْسَمُ إِليهِ الغَريبُ المُطْلَقُ والغَريبُ النِّسبيُّ. وقد يَقعُ [ فيها ]؛ أي: في أَخْبارِ الآحادِ المُنْقَسِمَة إِلى مَشْهورٍ وعَزيزٍ وغَريبٍ؛ مَا يُفيدُ العِلْمَ النَّظريَّ بالقَرائِنِ؛ عَلى المُختارِ؛ خِلافاً لِمَنْ أَبى ذلك. والخِلافُ في التَّحْقيقِ لَفْظيٌّ؛ لأنَّ مَنْ جَوَّزَ إِطلاقَ العِلْمِ قَيَّدَهُ بِكونِهِ نَظَريّاً، وهُو الحاصِلُ عن الاسْتِدلالِ، ومَنْ أَبى الإِطلاقَ؛ خَصَّ لَفْظ العِلْمِ بالمُتواتِرِ، وما عَداهُ عِنْدَهُ [ كُلُّهُ ] ظَنِّيٌّ، لكنَّهُ لا يَنْفِي أَنَّ ما احْتفَّ منه بالقرائِنِ أَرْجَحُ ممَّا خَلا عَنها. والخَبَرُ المُحْتَفُّ بالقَرائِن أنواعٌ: مِنْها مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخانِ في صَحيحَيْهِما ممَّا لَمْ يَبْلُغْ [ حَدَّ ] المتواتِرِ، فإِنَّهُ احْتُفَّتْ بِهِ قرائِنُ؛ منها: جَلالتُهُما في هذا الشَّأْنِ. وتَقَدُّمُهُما في تَمْييزِ الصَّحيحِ على غيرِهما. وتَلَقِّي العُلماءِ كِتابَيْهِما بالقَبُولِ، وهذا التَّلقِّي وحدَهُ أَقوى في إِفادةِ العلمِ مِن مُجَرَّدِ كَثْرَةِ الطُّرُقِ القاصرةِ عَنِ التَّواتُرِ. إِلاَّ أَنَّ هذا مُخْتَصٌّ بِمَا لَمْ يَنْقُدْهُ أَحدٌ مِنَ الحُفَّاظِ [ مِمَّا ] في الكِتابينِ، وبِما لَمْ يَقَعِ التَّجاذُبُ بينَ مَدْلولَيْهِ مِمَّا [ وَقَعَ ] في الكِتابينِ، حيثُ لا تَرْجيحَ لاستِحالَةِ أَنْ يُفيدَ المُتناقِضانِ العِلْمَ بصِدْقِهِما من [ غيرِ ] ترجيحٍ لأحدِهِما على الآخرِ. وما عَدا ذلك؛ فالإِجماعُ حاصِلٌ على تَسْليمِ صِحَّتِهِ. فإِنْ قِيلَ: إِنَّما اتَّفَقوا على وُجوبِ العَمَلِ بِهِ لا عَلى صِحَّتِهِ؛ مَنَعْنَاهُ. وسَنَدُ المَنْعِ أَنَّهُمْ مُتَّفِقونَ عَلى وُجوبِ العَمَلِ بِكُلِّ مَا صَحَّ ولوْ لَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخانِ، فلمْ يَبْقَ للصَّحيحينِ في هذا مَزيَّةٌ، والإِجماعُ حاصِلٌ على أَنَّ لهُما مَزِيَّةً فيما يَرْجِعُ إِلى نَفْسِ الصِّحَّةِ. ومِمَّن صَرَّحَ بإِفادَةِ مَا خَرَّجَهُ الشَّيْخانِ العِلْمَ النَّظَرِيَّ: الأسْتاذُ أَبو إِسْحاقَ الإِسْفَرايِينِيُّ، ومِن أَئِمَّةِ الحَديثِ أَبو عبدِ اللّهِ الحُمَيْدِيُّ، وأَبو الفَضْلِ بنُ طاهِرٍ وغيرُهُما. ويُحْتَمَلُ أَنْ يُقالَ: المَزِيَّةُ المَذْكُورَةُ كَوْنُ أَحادِيثِهِما أَصَحَّ الصَّحيحِ. ومنها: المَشْهورُ إِذا كانَتْ لهُ طُرُقٌ مُتبايِنَةٌ سالِمَةٌ مِنْ ضَعْفِ الرُّواةِ، والعِلَلِ. وممَّن صَرَّحَ بإِفادَتِهِ العِلْمَ النَّظَرِيَّ الأسْتاذُ أَبو مَنْصورٍ البَغْدادِيُّ، والأسْتاذُ أَبو بَكْرِ بنُ فُورَكٍ – بضم الفاء - وغيرُهُما. ومنها: المُسَلْسَلُ بالأئمَّةِ الحُفَّاظِ المُتْقِنينَ، حيثُ لا يكونُ غَريباً؛ كالحَديثِ [ الَّذي ] يَرْويهِ أَحمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مَثلاً ويُشارِكُهُ فيهِ غَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، ويُشارِكُهُ [ فيهِ ] غيرُهُ عنْ مالِكِ بنِ أَنسٍ؛ فإِنَّهُ يُفيدُ العِلْمَ عندَ سَامِعِهِ بالاستِدْلالِ مِن [ جِهَةِ ] جَلالَةِ رُواتِهِ، وأَنَّ فيهِمْ مِنَ الصِّفاتِ اللاَّئِقَةِ المُوجِبَةِ للقَبولِ مَا يقومُ مَقامَ العَدَدِ الكَثيرِ مِنْ غَيْرِهِم. ولا يَتَشَكَّكُ مَنْ لَهُ [ أَدْنَى ] مُمارَسَةٍ بالعِلْمِ وأَخْبارِ النَّاسِ أَنَّ مالِكاً مَثلاً لو شافَهَهُ بخَبَرٍ أَنَّهُ صادِقٌ فيهِ، فإِذا انْضافَ إِليهِ أيضاً مَنْ هُو في تِلْكَ الدَّرَجَةِ؛ ازْدَادَ قُوَّةً، وبَعُدَ عَمَّا يُخْشَى عليهِ مِنَ السَّهْوِ. وهذهِ الأنْواعُ الَّتي ذكَرْناها لا يَحْصُلُ العلمُ بصِدْقِ الخَبرِ منها إِلاَّ للعالِمِ بالحَديثِ، المُتَبَحِّرِ فيهِ، العارِفِ بأَحوالِ الرُّواةِ، المُطَّلِعِ عَلى العِلَلِ. وكَوْنُ غيرِهِ لا يَحْصُلُ لهُ [ العِلْمُ ] بصِدْقِ ذلك لِقُصورِهِ عن الأوْصافِ المَذكورَةِ لا يَنْفي حُصولَ العِلْمِ للمُتَبَحِّرِ المَذْكورِ، [ واللّهُ أَعلمُ ]. ومُحَصّلُ الأنْواعِ الثَّلاَثَةِ الَّتي ذَكَرْناها: أنَّ الأوَّلَ: يَخْتَصُّ بالصَّحيحينِ. والثاني: بِما لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ. والثَّالِثُ: بِما رواهُ الأئمَّةُ. ويمكِنُ اجْتماعُ الثَّلاثةِ في حَديثٍ واحِدٍ، فلا يَبْعُدُ حينئذٍ القَطْعُ بصِدْقِهِ، [ واللّهُ أَعْلمُ ]. ٢-٥[ ثمَّ الغَرابَةُ إِمَّا أَنْ تَكونَ في أَصلِ السَّنَدِ؛ أي: [ في ] الموضعِ الَّذي يَدورُ الإِسنادُ عليهِ ويَرْجِعُ، ولو تَعَدَّدَتِ الطُّرقُ إِليهِ، وهو طرَفُهُ الَّذي فيهِ الصحابيُّ أو لاَ] يَكونُ كَذلكَ؛ بأَنْ يَكونَ التَّفَرُّدُ في أَثنائِهِ، كأَنْ يَرْوِيَه عَنِ الصَّحابيِّ أَكثَرُ مِنْ واحِدٍ، ثمَّ يتفرَّدُ بروايَتِه عنْ واحِدٍ منهُم شَخْصٌ واحِدٌ. فالأوَّلُ: الفَرْدُ المُطْلَقُ؛ كَحديثِ النَّهْيِ عَنْ بيعِ الوَلاءِ وعَنْ هِبَتِهِ؛ تفرَّدَ بهِ عبدُ اللّهِ بنُ دينارٍ عنِ ابنِ عُمرَ. وقد يَتَفَرَّدُ بهِ رَاوٍ عَنْ ذلك المُتفرِّدِ؛ كحديثِ شُعَبِ الإِيمانِ؛ وقد تفرَّدَ بهِ أَبو صالحٍ عَنْ أَبي هُريرةَ، وتفرَّدَ بهِ عبدُ اللّهِ بنُ دينارٍ عَنْ أَبي صالحٍ. وقدْ يَسْتَمِرُّ التفرُّدُ في جميعِ رواتِهِ أو أَكْثَرِهمْ، وفي مُسْنَدِ البَزَّارِ و المُعْجَم الأوسط للطَّبرانيِّ أَمثلةٌ كثيرةٌ لذلك. والثَّانِي: الفَرْدُ النِّسْبِيُّ سُمِّيَ نسبيّاً لكونِ التفرُّدِ فيهِ حصلَ بالنسبةِ إِلى شخصٍ معيَّنٍ، وإِنْ كانَ الحَديثُ في نفسِه مشهوراً. ويقلُّ إِطلاقُ الفَرْدِيَّةِ عليهِ؛ لأنَّ الغَريبَ والفَرْدَ مُترادِفانِ لغةً واصْطِلاحاً؛ إِلاَّ أَنَّ أَهْلَ هذا الاصطِلاحِ غايَروا بينَهُما من حيثُ كَثْرَةُ الاستِعمالِ وقِلَّتُهُ. فالفرْدُ أَكْثَرُ ما يُطْلِقونَهُ على الفَرْدِ المُطْلَقِ. والغَريبُ أَكثرُ ما يُطْلِقونَهُ عَلى الفَرْدِ النِّسْبيِّ. وهذا مِن حيثُ إِطلاقُ الاسمِ عليهِما. وأَمَّا مِنْ حيثُ استِعْمالُهم الفِعْلَ المُشْتَقَّ؛ فلا يُفَرِّقونَ، فَيقولونَ في المُطْلَقِ والنِّسْبيِّ: تَفَرَّدَ بِهِ فُلانٌ، أو: أَغْرَبَ بِهِ فُلانٌ. وقَريبٌ مِن هذا اختِلافُهُم في المُنْقَطِعِ والمُرْسَلِ؛ و هلْ هُما مُتغايِرانِ أو لاَ ؟ فأَكْثَرُ المُحَدِّثين على التَّغايُرِ، لكنَّهُ عندَ إطلاقِ الاسمِ، وأمَّا عندَ اسْتِعمَالِ الفِعْل المُشْتَقِّ فيستَعْمِلونَ الإِرسالَ فقَطْ فيَقولونَ: أَرْسَلَهُ فلانٌ، سواءٌ كانَ [ ذلكَ ] مُرْسَلاً أو مُنْقَطِعاً. ومِن ثَمَّ أَطْلَقَ غيرُ واحِدٍ – مِمَّن لم يلاحِظْ مواضِعَ اسْتِعمالِهِ – على كثيرٍ مِن المُحدِّثينَ أَنَّهُم لا يُغايِرونَ بينَ المُرْسَلِ والمُنْقَطِعِ ! وليسَ كذلك؛ لما حَرَّرناهُ، وقلَّ مَن نبَّهَ على النُّكْتَةِ في ذلك، [ واللّهُ أعلمُ ]. |