٣- باب مَا يباح من الغيبة اعْلَمْ أنَّ الغِيبَةَ تُبَاحُ لِغَرَضٍ صَحيحٍ شَرْعِيٍّ لا يُمْكِنُ الوُصُولُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِهَا ، وَهُوَ سِتَّةُ أسْبَابٍ : الأَوَّلُ : التَّظَلُّمُ ، فَيَجُوزُ لِلمَظْلُومِ أنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ والقَاضِي وغَيرِهِما مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةٌ ، أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى إنْصَافِهِ مِنْ ظَالِمِهِ ، فيقول : ظَلَمَنِي فُلاَنٌ بكذا . الثَّاني : الاسْتِعانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ المُنْكَرِ ، وَرَدِّ العَاصِي إِلَى الصَّوابِ ، فيقولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتهُ عَلَى إزالَةِ المُنْكَرِ : فُلانٌ يَعْمَلُ كَذا ، فازْجُرْهُ عَنْهُ ونحو ذَلِكَ ويكونُ مَقْصُودُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى إزالَةِ المُنْكَرِ ، فَإنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَاماً . الثَّالِثُ : الاسْتِفْتَاءُ ، فيقُولُ لِلمُفْتِي : ظَلَمَنِي أَبي أَوْ أخي ، أَوْ زوجي ، أَوْ فُلانٌ بكَذَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَمَا طَريقي في الخلاصِ مِنْهُ ، وتَحْصيلِ حَقِّي ، وَدَفْعِ الظُّلْمِ ؟ وَنَحْو ذَلِكَ ، فهذا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ ، ولكِنَّ الأحْوطَ والأفضَلَ أنْ يقول : مَا تقولُ في رَجُلٍ أَوْ شَخْصٍ ، أَوْ زَوْجٍ ، كَانَ مِنْ أمْرِهِ كذا ؟ فَإنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الغَرَضُ مِنْ غَيرِ تَعْيينٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ ، فالتَّعْيينُ جَائِزٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ في حَدِيثِ هِنْدٍ إنْ شَاءَ اللّه تَعَالَى . الرَّابعُ : تَحْذِيرُ المُسْلِمينَ مِنَ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ ، وذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا جَرْحُ المَجْرُوحينَ مِنَ الرُّواةِ والشُّهُودِ وذلكَ جَائِزٌ بإجْمَاعِ المُسْلِمينَ ، بَلْ وَاجِبٌ للْحَاجَةِ . ومنها : المُشَاوَرَةُ في مُصاهَرَةِ إنْسانٍ أو مُشاركتِهِ ، أَوْ إيداعِهِ ، أَوْ مُعامَلَتِهِ ، أَوْ غيرِ ذَلِكَ ، أَوْ مُجَاوَرَتِهِ ، ويجبُ عَلَى المُشَاوَرِ أنْ لا يُخْفِيَ حَالَهُ ، بَلْ يَذْكُرُ المَسَاوِئَ الَّتي فِيهِ بِنِيَّةِ النَّصيحَةِ . ومنها : إِذَا رأى مُتَفَقِّهاً يَتَرَدَّدُ إِلَى مُبْتَدِعٍ ، أَوْ فَاسِقٍ يَأَخُذُ عَنْهُ العِلْمَ ، وخَافَ أنْ يَتَضَرَّرَ المُتَفَقِّهُ بِذَلِكَ ، فَعَلَيْهِ نَصِيحَتُهُ بِبَيانِ حَالِهِ ، بِشَرْطِ أنْ يَقْصِدَ النَّصِيحَةَ ، وَهَذا مِمَّا يُغلَطُ فِيهِ . وَقَدْ يَحمِلُ المُتَكَلِّمَ بِذلِكَ الحَسَدُ ، وَيُلَبِّسُ الشَّيطانُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، ويُخَيْلُ إِلَيْهِ أنَّهُ نَصِيحَةٌ فَليُتَفَطَّنْ لِذلِكَ. وَمِنها : أنْ يكونَ لَهُ وِلايَةٌ لا يقومُ بِهَا عَلَى وَجْهِها : إمَّا بِأنْ لا يكونَ صَالِحاً لَهَا ، وإما بِأنْ يكونَ فَاسِقاً ، أَوْ مُغَفَّلاً ، وَنَحوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ ولايةٌ عامَّةٌ لِيُزيلَهُ ، وَيُوَلِّيَ مَنْ يُصْلحُ ، أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ لِيُعَامِلَهُ بِمُقْتَضَى حالِهِ ، وَلاَ يَغْتَرَّ بِهِ ، وأنْ يَسْعَى في أنْ يَحُثَّهُ عَلَى الاسْتِقَامَةِ أَوْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ . الخامِسُ : أنْ يَكُونَ مُجَاهِراً بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كالمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الخَمْرِ ، ومُصَادَرَةِ النَّاسِ ، وأَخْذِ المَكْسِ ، وجِبَايَةِ الأمْوَالِ ظُلْماً ، وَتَوَلِّي الأمُورِ الباطِلَةِ ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ العُيُوبِ ، إِلاَّ أنْ يكونَ لِجَوازِهِ سَبَبٌ آخَرُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ . السَّادِسُ : التعرِيفُ ، فإذا كَانَ الإنْسانُ مَعْرُوفاً بِلَقَبٍ ، كالأعْمَشِ ، والأعرَجِ ، والأَصَمِّ ، والأعْمى ، والأحْوَلِ ، وغَيْرِهِمْ جاز تَعْرِيفُهُمْ بذلِكَ ، وَيَحْرُمُ إطْلاقُهُ عَلَى جِهَةِ التَّنْقِيصِ ، ولو أمكَنَ تَعْريفُهُ بِغَيرِ ذَلِكَ كَانَ أوْلَى ، فهذه ستَّةُ أسبابٍ ذَكَرَهَا العُلَمَاءُ وأكثَرُها مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَدَلائِلُهَا مِنَ الأحادِيثِ الصَّحيحَةِ مشهورَةٌ . فمن ذَلِكَ : ١٥٣٢- عن عائشة رَضِيَ اللّه عنها : أنَّ رجلاً اسْتَأذَنَ عَلَى النبيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّم ، فَقَالَ : ( ائْذَنُوا لَهُ ، بِئسَ أخُو العَشِيرَةِ ؟ ) . متفق عَلَيْهِ . احتَجَّ بِهِ البخاري في جوازِ غيبَة أهلِ الفسادِ وأهلِ الرِّيبِ . ١٥٣٣- وعنها ، قالت : قَالَ رسولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّم : ( مَا أظُنُّ فُلاناً وفُلاناً يَعْرِفانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئاً ) . رواه البخاري . قَالَ : قَالَ اللَّيْثُ بن سعدٍ أحَدُ رُواة هَذَا الحديثِ : هذانِ الرجلانِ كانا من المنافِقِينَ . ١٥٣٤- وعن فاطمة بنتِ قيسٍ رَضِيَ اللّه عنها ، قالت : أتيت النبيَّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّم ، فقلتُ : إنَّ أَبَا الجَهْم وَمُعَاوِيَةَ خَطَبَانِي ؟ فَقَالَ رسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّم : ( أمَّا مُعَاوِيَةُ ، فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ ، وأمَّا أَبُو الجَهْمِ ، فَلاَ يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ ) متفق عَلَيْهِ . وفي رواية لمسلم : ( وَأمَّا أَبُو الجَهْمِ فَضَرَّابٌ لِلنِّساءِ ) وَهُوَ تفسير لرواية : ( لا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ ) وقيل : معناه : كثيرُ الأسفارِ . ١٥٣٥- وعن زيد بن أرقم رَضِيَ اللّه عَنْهُ قَالَ : خرجنا مَعَ رسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّم في سَفَرٍ أصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ ، فَقَالَ عبدُ اللّه بن أُبَيّ : لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رسولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّم حَتَّى يَنْفَضُّوا ، وقال : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ، فَأَتَيْتُ رسُولَ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّم ، فَأخْبَرْتُهُ بذلِكَ ، فَأرْسَلَ إِلَى عبدِ اللّه بن أُبَيِّ ، فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ : مَا فَعلَ ، فقالوا : كَذَبَ زيدٌ رَسُولَ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّم ، فَوَقَعَ في نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ حَتَّى أنْزلَ اللّه تَعَالَى تَصْدِيقِي : { إِذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ } ثُمَّ دعاهُمُ النبيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّم لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ . متفق عَلَيْهِ . ١٥٣٦- وعن عائشة رَضِيَ اللّه عنها ، قالت : قالت هِنْدُ امْرَأةُ أَبي سفْيَانَ للنَّبيِّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّم : إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفيني وولَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ، وَهُوَ لا يَعْلَمُ ؟ قَالَ : ( خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلدَكِ بِالمَعْرُوفِ ) . متفق عَلَيْهِ . |