١٥- القول في تأويل أسماء القرآن وسوره وآيهقال أبو جعفر: إن اللّه تعالى ذكره، سمي تنزيله الذي أنزله على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم، أسماء أربعة: منهن القرآن، فقال في تسميته إياه بذلك، في تنزيله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ بِما أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا القُرآنَ وإنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلِينَ} وقال: {إنَّ هَذا القُرآنَ يَقُصُّ على بَنِي إسْرَائِيلَ أكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. ومنهن الفرقان: قال جلّ ثناؤه، في وحيه إلى نبيه صلى اللّه عليه وسلم، يسميه بذلك: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ على عَبْدِهِ لِيَكُونَ للعالَمِينَ نَذِيراً}. ومنهن الكتاب: قال تبارك اسمه، في تسميته إياه به: {الحَمْدُ للّه الَّذِي أنْزَلَ على عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً}. ومنهن الذكر: قال تعالى ذكره، في تسميته إياه به: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. ولكل اسم من أسمائه الأربعة في كلام العرب معنى ووجه، غير معنى الآخر ووجهه. فأما القرآن: فإن المفسرين اختلفوا في تأويله، والواجب أن يكون تأويله، على قول ابن عباس، من التلاوة والقراءة، وأن يكون مصدراً، من قول القائل: قرأت القرآن، كقولك الخسران من خسرت، والغفران من غفر اللّه لك، والكفران من كفرتك. والفرقان: من فرق اللّه بين الحقّ والباطل. وذلك أن يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، حدثني قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: حدثني معاوية ابن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله {فإِذا قَرَأناهُ}، يقول بيناه، فاتبع قرآنه يقول اعمل به؛ ومعنى قول ابن عباس هذا، فإذا بيناه بالقراءة، فاعمل بما بيناه لك بالقراءة. ومما يوضح صحة ما قلنا في تأويل حديث ابن عباس هذا، ما حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن عبد اللّه بن عباس {إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرآنَهُ} قال: أن نقرئك فلا تنسى، {فإذَا قَرَأناهُ} عليك {فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} يقول: إذا تلى عليك، فاتبع ما فيه. قال أبو جعفر: فقد صرّح هذا الخبر عن ابن عباس، أن معنى القرآن عنده القراءة، فإنه مصدر من قول القائل قرأت علي ما قد قلناه، وأما على قول قتادة، فإن الواجب أن يكون مصدراً، من قول القائل قرأت الشيء، إذا جمعتَه وضممتَ بعضه إلى بعض، كقولك: ما قرأت هذه الناقة سلا قط، تريد بذلك أنها لم تضم رحماً على ولد، كما قال عمرو بن كلثوم التغلبي: تُرِيك إذَا دَخَلْت على خَلاءٍ * وقَدْ أمِنَتْ عُيُونَ الكاشِحِينا ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدْماءَ بِكْرٍ * هِجَّانِ اللَّوْن لَمْ تَقْرأْ جَنِينَا يعني بقوله: لم تقرأ جنينا: لم تضمم رحماً على ولد. وذلك أن بشر بن معاذ العقدي حدثنا، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، في قوله تعالى: {إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ} يقول: حفظه وتأليفه، {فإذَا قَرَأناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} يقول: اتبع حلاله، واجتنب حرامه. وحدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، قال: حدثنا معمر، عن قتادة، بمثله. فرأى قتادة، أن تأويل القرآن: التأليف. قال أبو جعفر: ولكلا القولين، أعني قول ابن عباس وقول قتادة، اللذين حكيناهما، وجه صحيح في كلام العرب. غير أن أولى قوليهما، بتأويل قول اللّه تعالى {إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرآنَهُ فإذَا قَرأنْاهُ فاتَّبِعْ قُرآنَهُ} قول ابن عباس، لأن اللّه عز وجلّ ثناؤه، أمر نبيه في غير آية من تنزيله، باتباع ما أوحي إليه، ولم يرخص له في ترك اتباع شيء من أمره، إلى وقت تأليفه القرآن، فكذلك قوله {فإذَا قَرآنَهُ فاتَّبِعْ قُرآنَهُ} نظير سائر ما في آي القرآن، التي أمره اللّه فيها باتباع ما أوحي إليه في تنزيله، ولو وجب أن يكون معنى قوله {فإذا قَرأنْاهُ فاتَّبِعْ قُرآنَهُ} فإذا ألفناه فاتبع لك فيه، لوجب أن لا يكون كان لزمه فرض {اقْرأ باسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ولا فرض {يا أيُّها المُدَّثِّرُ قُمْ فأنْذِرْ} قبل أن يؤلف إلى غير ذلك من القرآن وذلك إن قاله قائل خروج من قول أهل الملة، وإذا صح أن حكم كل آية من آي القرآن، كان لازماً النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، اتباعه والعمل به، مؤلفة كانت إلى غيرها، أو غير مؤلفة، صحّ ما قال ابن عباس في تأويل قوله {فإذا قَرأنْاهُ فاتَّبِعْ قُرآنَهُ} أنه يعني به: فإذا بيناه لك بقراءتنا، فاتبع ما بيناه لك بقراءتنا، دون قول من قال: معناه فإذا ألفناه فاتبع ما ألفناه. وقد قيل، إن قول الشاعر: ضَحَّوْا بأشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ * يَقْطَعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنَا يعني به قائله تسبيحاً وقراءة. فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يسمى قرآناً بمعنى القراءة، وإنما هو مقروء؟ قيل كما جاز أن يسمى المكتوب كتاباً، بمعنى كتاب الكاتب، كما قال الشاعر، في صفة كتاب طلاق، كتبه لامرأته: تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وَفِيها * كِتابٌ مِثْلُ ما لَصِقَ الغِرَاءُ يريد طلاقاً مكتوباً، فجعل المكتوب كتاباً. وأما تأويل اسمه، الذي هو فرقان، فإن تفسير أهل التفسير، جاء في ذلك بألفاظ مختلفة، هي في المعاني مؤتلفة. فقال عكرمة، فيما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن جابر، عن عكرمة أنه كان يقول: هو النجاة. وكذلك كان السدي يتأوله. حدثنا بذلك محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، وهو قول جماعة غيرهما. وكان ابن عباس، يقول: الفرقان: المخرج. حدثني بذلك يحيى بن عثمان (١) بن صالح، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس؛ وكذلك كان مجاهد، يقول في تأويله، حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن جابر، عن مجاهد، وكان مجاهد يقول، في قول اللّه عزّ وجل (يَوْمَ الفُرْقَانِ) يوم فرَق اللّه فيه بين الحقّ والباطل. حدثني بذلك محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثني أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. فكل هذه التأويلات، في معنى الفرقان، على اختلاف ألفاظها، متقاربات المعاني، وذلك أن من جعل له مخرج من أمر كان فيه، فقد جعل اللّه ذلك المخرج منه نجاة، وكذلك إذا نجى منه، فقد نصر على من بغاه فيه سوءا، وفرق بينه وبين باغيه بالسوء. فجميع ما روينا، عمن روينا عنه في معنى الفرقان، قول صحيح المعنى، لاتفاق معاني ألفاظهم في ذلك. وأصل الفرقان عندنا: الفرق بين الشيئين، والفصل بينهما، وقد يكون ذلك بقضاء، واستنقاذ، وإظهار حجة، وتصرّف، وغير ذلك من المعاني المفرّقة بين المحقّ والمبطل. فقد تبين بذلك، أن القرآن سمي فرقاناً، لفصله بحجته وأدلته وحدوده وفرائضه وسائر معاني حكمه، بين المحق والمبطل، وفرقانه بينهما. بنصره المحقّ وتخذيله المبطل، حكماً وقضاء. وأما تأويل اسمه، الذي هو الكتاب، فهو مصدر من قولك كتبت كتاباً، كما تقول قمت قياماً، وحسبت الشيء حساباً، والكتاب هو خط الكاتب حروف المعجم، مجموعة ومفترقة، وسمي كتاباً وإنما هو مكتوب، كما قال الشاعر في البيت الذي استشهدنا به: ....................وفيها * كِتابٌ مِثْلُ ما لَصِقَ الغِرَاءُ يعني به مكتوباً. وأما تأويل اسمه الذي هو الذكر، فإنه محتمل معنيين: أحدهما أنه ذكر من اللّه جل ذكره، ذكر به عباده، فعرّفهم فيه حدوده وفرائضه، وسائر ما أودعه من حكمه، والآخر أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وصدّق بما فيه، كما قال جل ثناؤه: {وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني به أنه شرف له ولقومه. |